الخميس، 16 يناير 2025

"فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين" للإمام الشهيد حسن البنا - الاصل السادس.

 الأصل السادس

الميل القلبي والتعصب للأشخاص

"وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم r وكل ما جاء عن السلف رضوان الله تعالى عليهم موافقاً للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله تعالى وسنة نبيه r أولى بالإتباع ولكننا لا نعرض للأشخاص فيما اختلف فيه بطعن أو تجريح ونكلهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا "

الحديث في الأصول العشرين يزيد الإنسان المنتمي إلى هذه الجماعة بصيرةً وفهماً لأنها تحدد له إطاراً للفهم وتوضيحاً للتصور للتصور وتبصرة بثوابت هذا الدين ومتغيراته وقد وفق الله الإمام البنا رضوان الله عليه في صياغة هذه الأصول كثابت من ثوابت الفهم عند الجماعة نفسها لا يستطيع المنتمى لها أن يخرج عليه فبعد أن قدم الإمام البنا الفهم الشامل للإسلام وحدد مصادر هذا الفهم من الكتاب والسنة وبين لنا المصادر التي ليست من أدلة الأحكام الشرعية والمنكر الذي يجب محاربته بالقواعد الفقهية والأصول الشرعية ثم انتقل بنا إلى احترام رأي الإمام ونائبه والعمل به فيما لا نص فيه وحدد مصالح العباد المعتبرة والمهدرة والمرسلة والأحكام التي يتعدد فيها وجوه الفقه ، ثم قدم لنا معالجة للميل القلبي والتعصب للآراء والأشخاص وأكد على أن الطاعة يجب أن تكون لله وحده لا شريك له وهذا الأصل الذي نحن بصدده يعالج:

1-مصدر التلقي يجب أن يكون من الكتاب والسنة أما غير ذلك فيؤخذ منه ويرد ولا عصمة لأحد إلا لرسول الله r .

2-احترام العلم والعلماء وليس الميل القلبى للأشخاص والتعصب لهم.

3-من هم السلف والسلفية ووجوب إتباعهم .

4-احترام الصحابة وحبهم وعدم الخوض في الخلاف الذي كان بينهم.

والجدير بالذكر أن بعض الشباب حين يستشهد بهذا النص "وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم r" ينتابه شعور بأن من حقه أن يقول برأيه دون أن يكون معه أدوات الاجتهاد وقواعده بل يزيد على ذلك بالتطاول على العلماء ورد ما يقولون بعقله ودونما أدوات تخول له أن يرد عالماً وكأن الساحة مفتوحة لكل من هب ودب وحفظ نصاً أو نصين أو كتاباً أو كتابين وينسى أن حق الرد على العلماء للعلماء أمثالهم فليس للمتفيقهة حق في ذلك ولذلك وجب علينا أن نؤكد على أن للعلم والعلماء فضل نحب أن نعرفه كما أن لهم منزلة يجب احترامها حتى يعرف كل إنسان قدره وحدّه.

فضل العلم :

لا يجهل مسلم أن أول ما نزل على رسول الله r (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فالقراءة البناءة هي وسيلة تحصيل العلم ثم أقسم الله تعالى بمادة العلم (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) وجعل القلم أداة للقسم لعظم هذا الأمر ثم قرن شهادته بشهادة العلماء (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وكلما حصّل الإنسان العلم وشرح الله صدره له زاد قربى من الله وخشية منه (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) ولذلك أمر المولى وأمر رسوله r أن يسأله الزيادة في العلم (وقل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) فردد المؤمنون من بعده r "اللهم إنى أسألك علماً نافعاً"

ولعن المولى I الذين يكتمون العلم النافع الذي يقوى به الدين ويعمر به الكون لأن كتمانه فيه الخطورة بمكان إذ بدونه تُبنى المفاهيم على الباطل وتفسد التصورات من أجل ذلك يقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) فلا يتحقق صلاح الناس في دنياهم إلا بصلاح علمائهم ويفسدون بفسادهم والحكمة تنطق بذلك : اثنان إذا فسدا فسد الناس وإذا صلحوا صلح الناس العلماء والحكام، ومن أجل ذلك أخذ الله الميثاق من الذين أوتوا الكتاب (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) .

ولهذا السبب فليس من المعقول شرعاً ولا عقلاً أن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون والقرآن يبين ذلك فيقول (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ويقول (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ويقول (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) أليس العلماء ورثة الأنبياء؟

يقول ابن مسعود رضى الله عنه قال رسول الله r :"لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس" وإذا كان هذا فضل العلم فلا عجب أن يدعونا رسول الله r أن نحصل علماً يقربنا إلى الله I  ونعمر به كوننا لأن المولى I خلقنا لنعمر الكون بعبادته وأنزل الكتاب الذي بين أيدينا والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لنؤدى رسالتنا في هذا  الوجود ولذلك حث الرسول r أصحابه على المسارعة إلى تحصيل العلم ، فعن معاوية t يقول سمعت رسول الله r يقول :" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ".

وعن أبى هريرة قال قال رسول الله r :"من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة"

وعن أبى أمامة يقول : إن الله وملائكته وأهل الأرض حتى النملة في جحرها حتى الحوت ليصلون على معلمى الناس الخير" ويتفاوت في تحصيل العلم كما تفاوت الصحابة أنفسهم فليسوا جميعاً سواء في ذلك فليسوا على درجة واحدة من العلم، كما أنهم ليسوا جميعًا علماء ولا فقهاء فمنهم العالم في الفقه، ومنهم من لا يضارعه أحد في علم الفرائض (المواريث) ومنهم ترجمان القرآن ومنهم من هو عالم بالسِيَر، وإن كانوا جميعاً قمة في الأخلاق أسوة في القيم والمبادئ لأنهم يقتدون برسول الله r الذي شبههم بالكواكب في السماء يهتدي بهم الحائر في صحراء دنياه ولأنهم كانوا يتنافسون في تحصيل العلم وكان الواحد منهم يحترم صاحب العلم فيهم.

فضل العلماء:

كان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بركاب زيد بن ثابت ويقول هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.

وعن سعيد بن سمرة بن جندب t قال :"كنت على عهد رسول الله r غلاماً فكنت أحفظ عنه فما يمنعنى من القول إلا أن ههنا رجالاً هم أسن منى"

واسمع إلى ما يقوله على t في حق العالم : إن من حق العالم عليك :

-أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية.

-وأن تجلس أمامه.

-ولا تعينه في الجواب.

-ولا تطلبن عثرته.

-وإن زل قبلت عثرته.

-ولا تقولن له سمعت فلاناً يقول كذا ولا فلاناً يقول بخلافك.

-ولا تصفن عنده عالماً فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر حتى يسقط عليك منها شيء.

ويقول بن عمر عن رسول الله r :"أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع" وقال r :"ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط"

وعن عمر بن الخطاب t قال قال رسول الله r : "يظهر الإسلام حتى يختلف التجار في البحار وحتى تخوض الخيل في سبيل الله ثم يظهر قوم يقرءون القرآن يقولون: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ثم قال لأصحابه هل في أولئك من خير قالوا : الله ورسوله أعلم قال :"أولئك منكم من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار".

ويقول ابن عباس عن النبى r إن عيسى عليه السلام قال :إنما الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعه ، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالم".

من أجل ذلك قال أبو ذر t : العالم والمتعلم شريكان في الخير وسائر الناس لا خير فيهم ، كن عالماً ، أو متعلماً، أو مستمعاً ولا تكن الرابعة فتهلك.

فالعلماء هم روح هذه الأمة وعليهم يقوم صلاح المجتمع وبهم تتحقق آيات الله I على الأرض وبهم يعمر الكون .

والعلماء هم المتواضعون أصحاب الأخلاق العالية فهم أحاسن الناس أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون ولذلك:

يقول عمر بن الخطاب t :" تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن يعلمكم وتواضعوا لمن تعلمون ولا تكونوا من جبارى العلماء فلا يقوم عملكم مع جهلكم"

وتقول عائشة رضى الله عنها : تغفلون أعظم عبادة : التواضع.

وقال الشعبى : اتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين فإنه آفة كل مفتون".

وقال الثورى : نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون"

وقال الفضيل بن عياض: إن الله يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبار"

فكلما ازداد العلماء علماً ازدادوا تواضعاً وسكينةً ووقاراً، وصحابة رسول الله r أجمعين كانوا يتحلون بهذا التواضع  ولقد رأينا ترجمان القرآن عبد الله بن عباس -وهو الذي دعا له الرسول r بأن يفقهه الله في الدين- يشد ركاب زيد بن ثابت ويقول هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا .

لهذا كان العلماء يتورعون عن الفتيا وكثرة الكلام وكانوا يتعففون عن إبداء الرأى وإظهار الحكم في مسائل الاجتهاد وكانوا لا يرغبون فيها.

يقول عبد الرحمن بن أبى ليلى أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله r ما أحد يسأل عن حديث أو فتوى إلا ودَّ أن أخاه كفاه ذلك ، ثم آل الأمر إلى أقوام يدعون العلم يقدمون على الجواب في مسائل لو عرضت لعمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر واستشارهم بالرغم من أنهم كالإخاذ، الإخاذ يروى الرجل ويروى الرجلين ويروى العشرة والألف والإخاذ لو اجتمع عليه أهل الأرض لكفاهم.

يقول سيدنا عمر بن الخطاب t : العلم ثلاثة كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدرى.

وقال ابن مسعود t إن الذي يفتى الناس في كل ما يستفتونه لمجنون.

وقال الإمام أحمد : ليس كل شيء ينبغى أن يتكلم فيه كان النبى r حين يُسأل يقول : "لا أدرى حتى أسأل جبريل" .

وقال سفيان : من فتنة الرجل إذا كان فقيهاً أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت.

وقال عبد الملك بن عمير : إضاعة الحديث أن يحدث به من ليس بأهل .

وصدق الرسول الكريم r  القائل :"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"

وعن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r "من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل (أى ينتشر) وتشرب الخمر ويظهر الزنا ".

وقد كان أحد إخواننا -وهو على علمٍ غزير- يتورع عن الحديث في بعض القضايا كالطلاق، وعندما يأتى إليه من يسأله في مثل هذه القضايا، كان يقول له :"أفضل أن تذهب إلى العالم فلان"، فسألته عن ذلك فضحك وقال: "إن هذه القضايا تُحل فروجاً وتُحرم فروجاً، وأنا أرسله إلى عالم أثق في علمه أما أنا فإذا أخطأت في حقوق الرب كالصلاة أو الصوم أو الحج فهذه أمور يتجاوز الله عنا فيها، لكن هذه أمور أبتعد عنها لأن الكلمة فيها تحل فروجاً أو تحرمها وأنا لا أقوى على ذلك".

فأين نحن من هذا الفضل العميم الذي يتمتع به علماء الأمة والذين يقولون : كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم r .

وأولوا العلم من لهم حق الرد على العلماء فليس لكل إنسان هذا الحق وإلا لفسدت الأمور واختل النظام وهلك الحرث النسل، حين يتصدى غير المتفقهة وغير العلماء لمثل هذه الأمور العلمية الدقيقة وتوسد الأمر إلى غير أهله.

فعن زيادة بن لبيد t قال: ذكر النبى r شيئاً فقال "وذاك عند أوان ذهاب العلم" قال قلنا : يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرؤه أبنائنا ويقرؤه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة قال : "ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد إن كنت لأراك أفقه رجل بالمدينة أو ليس اليهود والنصارى يقرؤن التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيها بشيء"

وعلى هذا فإن الذي يرد قول العلماء لابد وأن يكون أهلاً لذلك ويجب أن يتحلى ب :

1-تحرى الصدق.

2-تحرى القصد.

3-تحرى الأسلوب الطيب.

4-تحرى الموضوعية .

صحيح أنه لا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أن الله I رفع قدر العلماء ومنزلتهم فقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وهذا العلم الذي يرفعهم به ليس وقفًا على العلوم الشرعية كأصول العقائد والعبادات والأخلاق الحميدة فحسب ،إنما نتكلم عن علم يحقق منهج الله بسننه وآياته ويعيش الناس في كنفه آمنين مطمئنين بيعاً وشراءً زواجاً وطلاقاً علماً يمكن المسلمين من أن يعيشوا باكتفائهم الذاتي آمنين مطمئنين ليسوا عالة على أحد ولذلك فالتقدم العلمي الذي يعود على المسلمين بخير سواء في الهندسة أو الطب أو الزراعة أو أى علم فهو ينطوي تحت لواء هذه الآية شرطهم الوحيد أن يكونوا ممن يخشون الله I ويعبدونه ويقدرونه حق قدره وعندنا بفضل الله من العلماء في غير المجال الشرعى الكثير ممن خلدهم التاريخ في العلوم الطبيعية وغيرها ، فليس الأمر وقفاً على العلوم الشرعية فحسب وربنا I يقول (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) وقد أُمرنا أن نحترم هؤلاء العلماء وهم الذين قال فيهم رسول الله r :"العلماء ورثة الأنبياء" لأنه r كما جاء بالعبادة والعقيدة فقد جاء أيضًا بشريعة ودعا إلى تعلمها، وعلماؤنا في الإسلام هم الذين تواضعوا لله ودعوا الناس للتعرف عليه من خلال علومهم المختلفة ومن فضل الله أن جعل علماء أمة محمد ليسوا كغيرهم من علماء الأمم، يقول ابن تيمية :"كل أمة قبل مبعث نبينا محمد r علماؤها شرارها وأن الله تعالى شرف هذه الأمة بعلمائها بعد رسول الله r كما قال r فهم خيارهم؛ لأن الخشية لباسهم وتقوى الله ديدنهم".

قال ابن عمر بن الخطاب t :"لا يكون الرجل عالماً حتى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه".

لذلك كانوا هم ورثة الأنبياء، ولا يأخذ ميراث الإنسان إلا من هم أقرب الناس إليه، أى أن العلماء أقرب الناس إليهr .

يقول سفيان بن عيينه إن أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الرسل والعلماء ،

ومن هنا وجبت طاعتهم، وطاعة العلماء من طاعة الله طالما أننا تحرينا صدق ما يقولون وتحرينا أخلاقهم ومسلكهم، ودعوة الإسلام نفسها تحذر من التطاول على العلماء لأننا حينما نتطاول على العلماء فإننا نهدم الركن الركين عندنا ونهدم مصدر التلقي لدينا نهدم هذا الصرح الشامخ الذي يمد المجتمع بالعلوم التي تجعله في رخاء وصفاء وأمن وإيمان .

يقول ابن عباس في قول ربنا I (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) فسر ابن عباس أولى الأمر بأهل الفقه والدين، وقال مجاهد وابن عطاء هم العلماء ولذلك كان توقير العلماء أمر واجب نطق به القرآن وأثبتته السنة الشريفة ولهذا التوقير مظاهر.

فما هي مظاهر هذا التوقير؟ فأهمها:

1-كثرة الثناء عليهم .

2-إظهار الاحترام لهم في صورة عملية .

3-عدم التقدم بين أيديهم وإعلاء كلمتهم .

4-صيانة حرماتهم والمحافظة على أوقاتهم .

5-رد الغيب عنهم .

يقول معاوية بن أبى سفيان عن عبد الله بن عمر وهو يقف في الحج مفتياً متحدثاً مع زوجته (هذا هو الشرف بل هذا والله شرف الدنيا والآخرة ) أما الإمام أبو حنيفة فيقول ما صليت صلاة منذ أن مات حماد (هو شيخه الذي تلقى منه) إلا استغفرت له مع والدي وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علماً أو علمته علماً .

ويقول الإمام أحمد بن حنبل:"ما صليت منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي رحمه الله".

فقال له ابنه أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء ؟ فقال الإمام أحمد يا بنى كان الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه كالشمس للدنيا والعافية للناس فانظر هل لهذين الاثنين من خلف .

أما الإمام مسلم عندما لقى الإمام البخاري t قبله بين عينيه وقال :دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وحكى أن الخليفة هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي ليعلمه العلم والأدب فرآه يوماً يتوضأ ويغسل رجله وابن الخليفة يصب الماء على رجله فعاتب الأصمعي في ذلك، وقال له : إنما بعثته إليك لتعلمه وتؤدبه فلماذا لم تأمره أن يصب الماء بإحدى يديه ويغسل بالأخرى رجلك، فهل استفاد الشباب من هذه الدروس العملية الأخلاقية كي يتعلم الأدب ويحدد العلاقة السليمة التي يجب أن تكون بين العالم والمتعلم؟

روى الإمام البخارى في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال :قال رسول الله r قال الله U "من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب " ومن يكون الولى إذا لم يكن علماء الأمة هم أولياء الله ومن أولى منهم بذلك؟ ويقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ،فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) فإيذاء الولى كآكل الربا كلاهما آذنه الله بالحرب.

يقول الإمام الشافعى إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله فليس لله ولى ،ويقول الإمام ابن القيم ورثة الأنبياء سادات أولياء الله U ،ويقول ابن عباس من آذى فقيهاً فقد آذى رسول الله r ومن آذى رسول الله r فقد آذى المولى U

فإذا كان المسلم- بوجه عام - مصان دمه وماله وعرضه "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"فما بالك إذا وجد التخصيص فلا شك أن تكون الحرمة أشد.

يقول ابن رجب الحنبلي من علامات العلم النافع أن صاحبه لا يدعى العلم ولا يفخر به على أحد ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها فإنه يتكلم فيه غضباً لله لا غضباً لنفسه ولا قصداً لرفعتها على أحد أما من علمه غير نافع فليس له شغل إلا التكبر بعلمه على الناس وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل .

الحسد:

وقد يكون هذا الموقف من العلماء والنيل منهم سببه الحسد كما قال ربنا (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) وهذا مرض من أمراض القلوب أن يحسد الإنسان عالماً من العلماء فيهاجمه ويتطاول عليه ، قيل لبعض العلماء عن هذا الحسد فقالوا لا يأتي هذا الحسد إلا من نفس أصابها مرض.

ونخلص من هذا كله بأن احترام العلماء وإجلالهم وإمساك اللسان عن التشهير بهم أمر واجب ولا شك أن احترامهم من الدين ومن أخلاق الإسلام فلا يجوز للمسلم أن يعيب عالماً أو ينال منه ، وقد رأى أحد الحكماء رجلاً يعيب غيره فقال له لقد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيوب الناس؛ لأن طالب العيوب يطلبها بقدر ما فيه منها، ويقول إبراهيم بن أدهم إن أحدكم إلى أدب حسن أحوج منه إلى خمسين حديثاً، وأشرف الإمام الليث على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئًا فقال أنتم إلى يسير الأدب أحوج منكم إلى كثير العلم، يقول ابن تيمية "ما يفسد الدنيا نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب ونصف نحوى، هذا يفسد البلدان ، وهذا يفسد الأديان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان".

هل معنى ذلك أن العلماء ليس لهم أخطاء ؟

إن العصمة لأنبياء الله تعالى فقط والعلماء يخطئون وهذا أمر طبيعى جدًا، لذلك يجب أن يكون للمتلقى منهج للتعلم كما يجب عليه أن يمحص مصدر التلقى ، وذلك بالآتى:

أولاً : وجوب التثبت مما ينسب لأهل العلم من أخطاء.

ثانياً : ضرورة تحديد نوع الخطأ والتعامل معه قدر حجمه دون تجاوز.

يقول الإمام السبكى :الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه - من أهل العلم والصلاح - وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبه أو غيره فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه .

-يقول ابن جرير الطبرى:لو كان كل من ادُعِىَ عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت ما ادعى به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثى الأمصار لأنه ما منهم إلا وقد نسبهم قوم مما يرغب به عنه .

يقول الإمام أبو حامد الغزالى :المجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون بعضهم مصيبون ما عند الله وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين فمناصبهم متقاربة وليس لهم أن يتعاندوا أو يتعصب بعضهم مع بعض ولا سيما المصيب لا يتعيب.

ويقول الإمام ابن تيمية: لا نعتقد في القوم العصمة –يقصد الأئمة – بل تجوز عليهم الظنون ونرجو لهم مع ذلك أعلى  الدرجات لما اختصهم الله من الأعمال الصالحة ،والأحوال السُنية وإنهم لم يكونوا مصرين على ذنب ولا نكون من الذين إذا رأوا حسناً ستروه وإذا رأوا سيئاً أذاعوه ولكن لابد من رد الفضل لأصحابه وننظر إلى أقوالهم بعين الإنصاف .

يقول محمد بن سيرين :ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره ،ويقول سعيد بن المسيب :إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذى فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغى أن تذكر عيوبه وقال من كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله.

يقول ابن القيم : ومن له علم بالشرائع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو معذور بل مأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يُتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين .

وها هو الإمام ابن القيم وهو يستدرك على بعض المعانى التي أتى بها الإمام الهروى في كتابه مدارج السالكين يقول "شيخ الإسلام حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه" وهو يقول هذا الكلام في مجال انتقاد ما يقول ولكنه يثبت له هذه الصفة.

واسمع للإمام الذهبى وهو يتكلم عن إحياء علوم الدين للإمام الغزالي يقول عنه :وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة وفيه خير كثير لولا ما فيه من آراء ورسوم وزهد من طرائق الحكام ومنحرفي الصوفية نسأل الله علماً نافعاً، وقال انظر إلى إمام كبير وليس من شرط العالم أنه لا يخطئ وقال رحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله ولكن لا ندعى عصمته من الخطأ والغلط ألا يكفي هذا لإقناع الذين لا همّ لهم إلا الهجوم على الإمام البنا فكأنه لا حسنة له ويسودون الصفحات كسواد قلبهم ويفترون على الرجل الكذب وهم بعين عوراء لا ترى الوجه بكامله.

يقول الإمام الشافعى : إذا صح الحديث فهو مذهبى ، ويقول غيره من العلماء : إذا خالف قولى حديث رسول الله r فاضربوا به عرض الحائط فأين هذا الكلام من المتعصبة الذي قال أحدهم : كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو منسوخ أو مؤول. فأي غلو وأي تعصب هذا !!وهل هذا ما يفعله تلاميذ الإمام البنا ،كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

أعتقد أن الفرق واضح بين التعصب واحترام العلماء وكيف نختلف معهم ؟ فالإخوان المسلمون يحترمون ويقدرون إمامهم البنا رحمة الله عليه ويسندون ما يقولونه إليه لأنه كما قيل من بركة العلم إسناده لقائله.

وإلا فماذا نقول عن إمام كابن القيم فكثيراً ما يقول قال شيخنا يقصد –ابن تيمية- ويسند ما يقوله إليه بل إن ابن تيمية نفسه كثيراً ما يذكر الإمام أحمد بن حنبل ويسند ما يقوله له وأحمد بن حنبل يذكر الشافعي، والشافعي يذكر الإمام مالك ، وهكذا فهل هؤلاء متعصبون لعلمائهم أم مقدرون لهم؟ يحترمونهم ويردون الفضل لأهله.

إننا نلتزم بالأصول التي قالها الإمام البنا وأصَّل بها دعوته لأنها مستمدة من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فالأهداف التي حددها لا يختلف عليها مسلم وكذلك الغايات أما الوسائل فقد تختلف من زمان إلى زمان ومن بيئة إلى بيئة أخرى فما العيب في ذلك؟

إننا في كل ما يقول الإمام البنا ويعتقده نرده إلى الله ورسوله ذلك لأن الله يقول (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، ويحذر المولى فيقول (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) فالله وحده المشرع ورسوله هو المبين فلا شرع إلا ما شرع الله أو ما شرع رسوله r وبوفاة الرسول r انتهى عهد التشريع أي انتهت العصمة وحمل العلم من بعده علماء غير معصومين ،فما هي العصمة؟

العصمة: معناها حفظ ظواهر الأنبياء وبواطنهم من التلبس بمعصية فالرسول r معصوم من القتل حتى يبلغ رسالة ربه.

معصوم من العيوب التي تنفر الناس منه لأن وجودها يمنع الفائدة من الرسالة وما قيل عن أيوب عليه السلام أنه مرض مرضاً منفراً كذب وافتراء عليه.

لكنهم لهم صفات البشر :

1-يأكلون ويشربون ويتصلون بأزواجهم .

2-يرضون ويفرحون ويحزنون ويغضبون ويخافون.

3- يمرضون بأمراض لا تعجزهم عن أداء رسالتهم ولا تنفر الناس منهم فلا يجوز عليهم الإغماء الطويل ولا الجذام والبرص والجنون والعمى .

4-يجوز عليهم السهو وعدم إصابة الأولى وأما المعاصي والنسيان من جانب الشيطان فمستحيل عليهم.

والذين يعتقدون في عصمة علمائهم وأئمتهم هم الشيعة وغلاة المتصوفة فالكيسانية من الشيعة تقوم على أساس أن  الإمام شخص مقدس يبذلون له الطاعة ويثقون بعلمه ثقة مطلقة ويعتقدون فيه العصمة عن الخطأ لأنه رمز للعلم الإلهى وكذلك الاثنى عشرية الذين يعتبرون الأئمة أوصياء استودعهم النبى أسرار الشريعة ليبينوا ما لم يبينه النبى r وإن ما يقول الأوصياء شرع إسلامي لأنه تتميم للرسالة حتى أنهم يخصصوا النصوص العامة ويقيدوا النصوص المطلقة ولذلك قرروا أن الإمام معصوم عن الخطأ والنسيان والمعاصي يجوز أن تجرى خوارق العادات على يده لتثبت إمامته ويسمونها معجزة.

ونحن لا نصف علماءنا بهذه الصفات ولكننا نعطيهم حقهم من الاحترام والتقدير بل نعطي العلماء جميعاً هذا الحق طالما تحققت فيه صفة العالم من أخلاق ودين وعلم فله منا الاحترام والتقدير وعدم النيل أو الحط من شأنه .

فهل ترون بعد هذا التوضيح والتبيان أن أتباع الإمام البنا يعتبرونه معصوماً ويصفونه كما تصف الشيعة علماءها وينشرونها بين الناس كعقيدة لديهم أجيبونا بصدق وأنصفونا يرحمكم الله ورضوان الله عليه حين قال "وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم r" هذا ما طالبنا به رحمة الله عليه، وهذا ما اتبعه السلف وساروا على منواله سرنا بعدهم نقتفي أثرهم ونقتدي بهم فهل نحن مخطئون في ذلك؟ أليسوا هم سلف هذه الأمة؟

السلف والسلفية : معناها زماناً القرون الثلاثة الأولى والتي تنتهى عند المأمون تقريباً "خير القرون قرنى ثم الذي يليه ثم الذي يليه".

والسلفية ليس المقصود بها الزمان فقد انتهى زمانها وليست المقصود بها مكاناً معيناً ولا علماء معينين فبعض الناس يقصرون السلفية على فقه الإمام  بن حنبل فماذا عن غيره من الأئمة؟ وماذا عن فقهاء السلف الذين خالفوا الإمام أحمد في أصول مذهبه؟

والذين يظنون أن السلفية هي مدرسة النص فماذا عن مدرسة الرأى وهى كمدرسة الأثر سواء بسواء أم نعتبر الإمام أبا حنيفة ليس سلفياً لا هو ولا تلاميذه ولا مدرسته . أجيبونا غفر الله لنا ولكم.

ونحن نرى أن السلفية هي نزعة عقلية وعاطفية ومنهجية ترتبط بخير القرون وتعمق ولاءها لكتاب الله وسنة رسوله r وتبذل الجهد لإعلاء كلمة الله على الأرض ولذلك فهى لها منهجاً للعقيدة يفسر الكون والحياة والإنسان بعيداً عن  علم الكلام ومستمداً من منهج القرآن، ومنهجاً للعبادة يقوم على الشمول والعموم والكمال والسمو والدوام ينبع من صحة الاعتقاد وصدق الإتباع ومنهجاً للحركة تعريفاً وتكويناً وتنفيذاً.

فالسلفية تكون بالاقتداء الكامل بصحابة رسول الله r في مجال العلم والعمل معاً وليس في مجال العقائد فحسب ، لكن حصرها في جزء من العلم النافع لا يجوز أبداً وكلما التزم الإنسان بما جاء به السلف الصالح والصحابة واقتدى بهم هو من السلفيين.

فإذا جاء عالم من العلماء بهذا التصور في أي زمان وفي أي مكان وبأي لغة يعبر بها عن هذا المنهج وبلغة عصره كان سلفياً عقيدة وعبادة وحركة طالما أنه يقدم مفاهيم السلف الصالح ويتمسك بسنة الخلفاء الراشدين المهديين.

فعن العرباض بن سارية t قال : صلى بنا رسول الله r ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدى سيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"

والحقيقة قصور السلفية على هذه النظرة الضيقة بهذه الصورة وقصرها على مفاهيم بعينها تتصل بالاعتقاد وتترك التطبيق والعمل والحركة لإقامة المجتمع بعقيدته وبعبادته وشريعته لها سلبيات كثيرة فأول شيء أننا لو قصرنا السلفية على منهج الاعتقاد وركزنا عليه وتركنا الجوانب الأخرى بل وأهملت وأصبح النظرة إلى السلفية والسلف كأنهم هم أصحاب العقيدة الصحيحة أى الذين يهتمون بالجانب الاعتقادي فحسب ولا يشغلهم الباطل وأهله وكيف يغيروه لإقامة مجتمع العدل ويكتفون بشرح العقيدة لا يبرحونها ويتهمون الآخرين في دينهم وعقيدتهم عليهم أن يراجعوا أنفسهم، صحيح أن الانطلاق الصحيح والاهتمام البالغ لابد أن يبدأ بتصحيح العقيدة هذا أمر لا نختلف فيه لكن لابد أن يكون هناك إطلاق بعد ذلك لاستكمال البناء ولإتمام الدين لأنه وإن كانت العقيدة هي الأساس وهى الجدار فأين البناء ليسكنه الناس ويحتمون به.

ومن السلبية أيضًا أن السلفية بهذا المعنى القاصر على العقيدة ظن بعض المسلمين أن  هذا هو الإسلام وأصبحوا يقدمون الإسلام من جانب العقائد فحسب ويتركون العمل حتى خيل لبعض المسلمين أن الإسلام قاصر على هذا الجانب ويرضون بذلك ويتصورون أنهم قد أدوا الذي عليهم.

ونحن إن قلنا إننا الإخوان المسلمين لأن الإمام البنا أسمانا جماعة الإخوان المسلمين بهذا الاسم الذي يحمل العقدين معاً، عقد الإيمان وعقد الأخوة الذي بهما يقوم الإسلام وبالرغم من هذا فإننا لا ننكر على الناس سلفيتهم أبداً إن كانوا يتبعون منهج السلف الصالح لأننا ندعو للتقارب والحوار البنَّاء، ووحدة المفاهيم، ونقول : نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، وفى نفس الوقت نبين ونقول توضيحاً أن من السلبيات أن المسلم يركز على جانب واحد من الدين فإلى متى نصحح للناس عقائدهم ولا ننتقل إلى غيرها؟ لقد أقام الرسول r الجماعة المسلمة في المدينة وكان الشرك موجوداً، وقد نزلت آيات التشريع في المدينة وكان الشرك موجوداً في مكة فهل ظل الرسول r يصحح عقائد الناس أم أنه كان يطبق الآيات التي تنزل؟ وفي نفس الوقت يصحح ويبين وإلا فأين شرع الحج وأين شرع الصيام وشرعت الصلاة ، ألم يشرعا في المدينة فهل أوقف الرسول r تنفيذ هذه الشرائع حتى يصحح للناس عقائدهم أولاً؟ أم أنه أقام كل ذلك واقعاً على الأرض؟

والأمر المحزن أن بعض إخواننا جعلوا السلفية وكأنها مدرسة حديث فلا يجوز أن نقول حنفي ولا شافعى ولا مالكى ولا حنبلي، أنا الحديث ديدني وكأن هذه المذاهب لم تأخذ من الحديث، يبغون بذبك إنكار المذهبية.

جاءنى أحد الإخوة من هؤلاء الذين ينكرون المذهبية ويريدون أن يأخذوا من الحديث فحسب، فقلت له :"هذا الكلام الذي تقوله مقنع جدًا ولكنى أسألك سؤالاْ : ما رأيك في صحيح الإمام مسلم؟ قال : هو مصدر من مصادر التعلم الصحيح، قلت له : هل تقرأ النصوص والمتون وتستخرج منها الأحكام أم أنك تقرأ تفسير الحديث عند الإمام مسلم ؟

قال أقرأ التفسير ، قلت له أتدرى من كتب هذا التفسير؟ الإمام النووي وهو شافعي المذهب، فلِمَ تضيق واسعاً؟

وللأسف الشديد إن إخواننا حين يتعصبون لمثل هذه الأمور فإنهم يلقنون الشباب الغض هذه المفاهيم فلا يربى الشباب على الحب، ولكن ينشأ في نفوسهم الكره والبغض والتعصب وكأنهم في معركة بينهم وبين الآخرين ويكون من نتيجة ذلك تقسيم الناس بين مسلم وكافر ونترك الدعوة إلى الله وننشغل بالحكم عليهم.

والحقيقة أن كل مسلم له حظ من السلفية بقدر حظه من الاهتداء بهدى رسول الله r وهذا أمر لا نستطيع أبداً أن ننكره على أى مسلم التزم بمنهاج محمد r وصحبه ومن هنا كانت دعوة الإخوان دعوة سلفية.

فضل الصحابة :

الآيات القرآنية في فضل الصحابة كثيرة منها (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...) وقوله (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ...) وقوله (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ...)

وها هو ذا عمر يقول مرفوعاً : سألت ربى عن اختلاف أصحابى من بعدى فأوحى إلىَّ: يا محمد إن أصحابك عندى بمنزلة النجوم في السماء بعضها أقوى من بعض ولكلٍ نور فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندى على هدى  .

وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: من كان مستناً فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد r كانوا خير أمة أبرها قلوبا وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه r ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد r كانوا على الهدى المستقيم والله ورب الكعبة.

وعن قتادة قال : سئل ابن عمر رضي الله عنهما : هل كان أصحاب النبي r يضحكون ؟ قال نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال .

ولهذه المنزلة العالية فإننا لا نتعرض لخلافهم وأشخاصهم بشيء فيما اختلفوا فيه، ويا لروعة ما قاله بعض العلماء عندما سُئل عما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فقال: تلك دماء قد طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته –حين قال لا تثريب عليكم.

وسئل الحسن البصري عن قتالهم قال: قتال شهده أصحاب محمد r وغبنا وعلموا وجهلنا واجتمعوا فاتبعنا واختلفوا فوقفنا

وقال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا وجه الله U .

فهل نتأدب بهذا  الأدب العالي وننهج هذا المنهج القويم نسألك اللهم علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وعملاً صالحاً متقبلاً وجسداً على البلاء صابراً.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق