الأصل الخامس
مصالح العباد والأصل في الأشياء
" ورأى الإمام
ونائبه فيما لا نص فيه،
وفيما يحتمل وجوهاً عدة وفى المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية
وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني وفى العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد"
هذا الأصل يعالج :
1-رأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوهاً عدة.
2-المصالح وأنواعها وحكمها.
3-الأصل في الأشياء الإباحة.
4-الأصل في العادات والعبادات.
هذا
الأصل
يشير ضمناً إلى معنى نردده دائماًُ ألا وهو أن الإسلام دين
الجماعة فهذا الأصل
يثبت ويوضح بل ويؤكد هذا
المعنى لأن الإسلام لو لم يكن دين الجماعة فما كان له إمام ولا كان له نائب وما
كانت له شريعة تنظم
هذا الأمر تنظيماً دقيقاً فكلمة: (ورأى الإمام ونائبه) تدل على أن الإسلام دين لا يتحقق واقعاً على الأرض إلا بالجماعة فلابد
أن يكون له إمام وأن
يكون له أمير يتناول السياسة الشرعية المنوطة بالإمام، والإمام هنا يقصد به
خليفة المسلمين أو رئيس الدولة أو نائبه ورأيه في أمور السياسة والحكم ومدى اعتبار
ذلك ، هذه واحدة.
أما
الثانية فيعالج الأصل المجالات المختلفة التي يُعمل
بها في هذا
الأمر ، وقد حدد الإمام البنا إعماله فيما لا نص فيه وفيما يحتمل
وجوهاً عدة وفى المصالح المرسلة.
ثالثاً
: هل
يقبل هذا الرأى التغير تبعاً للظروف والأوضاع أم هو جامد لا يلين ؟ثابت لا يتحرك ؟ قطعي لا ظنية فيه ولا اجتهاد.
رابعاً
: من
خلال النص يتبين لنا أن
الشورى أمر ضروري للجماعة فما هو موقف الإمام منها؟
وأخيراً : هل يعمل بهذا الرأى
الذي يقوله الإمام في العبادات والمعاملات على حد سواء أم أن هناك فرقٌ في النظر إلى
المقاصد والعلل أو عدم النظر إليها، فابتداءً إذا كنا سنتكلم في هذا الموضوع فإننا سنتناول الأمور التي لا
نص فيها
وما فيه وجوه عدة وكذلك المصالح
المرسلة، فهذه كلها أمور
تتصل بالتشريع والفقه فلابد أن نفهم أن الفقه الإسلامي فقه شمولي بمعنى أنه يشمل جميع
علاقات الإنسان.
يشمل علاقة الإنسان بربه وأيضًا
علاقة الإنسان بحياته خاصة ما يتصل بمأكله ومشربه وملبسه، الإنسان بأسرته من
زواج وطلاق وميراث حدده هذا كله الشرع الحكيم تحديداً واضحًا، فضلاً عن علاقة
الإنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه، فكل هذه الأمور شملها الفقه الإسلامى وتناولها
بتفصيل دقيق واضح لذلك حين يتعامل علماء المسلمين مع هذه القضايا والتي منها الثابت الذي لا
يتغير ولا يجوز فيه الاجتهاد رأي قطعي في حكمه ومنها الظنى الذي يجتهد فيه
ودائرة الاجتهاد فيه واسعة وهو هنا
ما يسمى بالسياسة الشرعية التي يراعي فيها العلماء المصلحة المعتبرة شرعاً، من
فضل الله علينا أن الأمور القطعية قليلة جدًا وتكاد تكون محدودة أما المجتهد فيه فما أكثره ودائرة
المجتهد فيه ليس متروكة كما يظن البعض لكل إنسان يستطيع أن
يعمل عقله،
فقبل
أن يعمل هذا العقل لابد أن يكون مرتباً ترتيباً إسلامياً: ثقافته إسلامية ونظرته إسلامية وعلمه يخدم إسلامه لأن كل إناء بما فيه ينضح
، وقد يظن البعض أن مصطلح الرأي هو القول في مسألة
بالهوى والظن دون قواعد ولا أصول وهذا فهم خاطئ للمصطلح لأن الرأى في الشرع قد
يكون مرادفاً للاجتهاد كما ذكر الإمام الشافعى وهو على كل حال الاعتماد على الفكر
في استنباط الأحكام الشرعية.
فاستخدم
الرأى بمعناه الشرعي هو الاجتهاد وإعمال
العقل في استنباط حكم ما واتخاذ القرار
فيه هو، الاجتهاد الذي له
قواعده وأصوله التي تفيد الاجتهاد في
المسألة بهذه القواعد وبذلك يكون الرأى بعيداً
عن الهوى والظن فالاجتهاد هو علم
يجتهد فيه في نصوص ظنية تحتمل وجوهاً عدة
ولذلك فإن المجتهد لابد أن يكون عالماً
بالعلوم الشرعية والدنيوية فضلاً عن القواعد
الفقهية الأصولية، وهناك مدرستان في الفقه: مدرسة الرأي
وعلى رأسها الإمام أبو حنيفة وكانت في
العراق، وأما المدرسة الثانية فهي مدرسة الأثر وكانت في المدينة وعلى رأسها عبد
الله بن عمر والجدير بالذكر ونريد أن نلفت النظر إليه أن الأحاديث
التي تذم الرأى يقصد به الهوى والظن ولا يقصد به الاجتهاد الفقهي.
يقول سيدنا على:
لو كان الدين بالرأى لكان أسفل
الخف أولى من عاليه، ويقول جابر بن زيد: لقينى بن عمر فقال، يا جابر إنك من فقهاء
البصرة وتُستفتى فلا تفتينا إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية.
والذي يدل على أن الرأي هنا ليس هو
الهوى والظن أن بعض الصحابة أنفسهم قضوا بالرأى، أي قضوا بالاجتهاد ولذلك يجب أن نفرق بين الرأى المذموم والرأى المحمود.
يقول ميمون بن مهران:
كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى به قضى به وإن
لم يجد نظر في سنة الرسول فإن وجد فيها ما يقضى به قضى به ، فإن أعياه ذلك سأل
الناس هل تعلمون حكماً فيه في كتاب الله وسنة رسوله وإلا جمع رؤوس الناس واستشارهم
فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به وهم علماء
الأمة وكذلك كان يفعل عمر، فقد كتب
لأبى موسى يقول له اعرف الأشباه والأشياء والأمثال وقس
الأمور.
بل إن رسول
الله r يقول لمعاذ
بن جبل :" يا معاذ بم تقضى ؟ فقال بكتاب الله ،
قال فإن لم تجد ؟ قال فبسنة رسول الله r قال فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيى ولا آلو ، قال : الحمد لله الذي
وفق رسول رسول الله إلى ما يحب الله ويرضاه "
لقد سُئِل على عن مسيره في
صفين هل كان بعهد عهده إليه رسول الله أم رأى رآه ، قال بل رأى رأيته .
يقول
الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إن الله اطلع على قلوب العباد فوجد
قلب محمد r
خير القلوب فاختاره
لرسالته ، ثم اطلع على قلوب العباد بعده فرأى أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم
لصحبته ، فما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو
عند الله قبيح .
يقول الإمام ابن القيم في هذه القضية الرأي ثلاثة : رأى باطل
بلا ريب، ورأى صحيح بلا ريب ، والثالث الرأى موضع الاشتباه ، فهل هو باطل بالكلية
أم صحيح بالكلية هذه أمور أشار إليها السلف الصالح واستعملوا كلمة الرأى في هذه
الوجوه الثلاثة.
والرأى
الباطل أنواع، نوع هو مخالف للدين بمخالفته
النص،
أو الكلام في الدين بالظن والخرص والتخمين، أو الرأى المتضمن
التعطيل مثل المعطلة
الذين يعطلون أسماء الله، أو الرأى الذي أحدث البدع وغَّير من
السنن وهذه كلها آراء اتفق السلف الصالح على ذمها وإخراجها من الدين ، أضاف بعض
العلماء نوع آخر من الرأى المذموم ما سموه في التاريخ (الأرأيتيين) وهم الذين يسأل
عن أشياء لم تقع بعد، ويقولون : أرأيت إن حدث فما هو الحكم؟ وهذا أمر مذموم يقول ربنا (لاَ
تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) فعندما تنزل النازلة يجتهد
فيها العلماء ولكن قبل نزولها أمسك عليك لسانك لأنه أمر لا دخل لك فيها
ومكروه أن تتكلم فيه ولذلك ذم
العلماء هذا النوع من الآراء .
إن
مسروق وهو من
التابعين يقول سألت أبى بن كعب في شيء فقال أكان هذا وحدث ؟ قلت لا ، فقال فأجمنا
حتى يكون -
أي اتركنا- فإذا كان اجتهدت لك
رأينا.
ويقول ابن
عمر: لا تسألوا عما لم يكن فإنى سمعت عمر
يلعن من يسأل عما لم يكن .
وهذه القضايا سميت المعضلات أو
الأغلوطات لأنك تسأل عن أشياء لم تقع بعد تريد أن ترى فيها رأياً، وهذه لون من ألوان
المغالطة ولذلك نهى الرسول
r
عن ذلك.
وأما الرأي المحمود فهو رأى الصحابة رضوان
الله عليهم ومن جاء بعدهم
من فقهاء الأمة والذي يفسر النصوص ويبين
وجه الدلالة فيها ويقرها ويوضح محاسنها ويسهل طريق الاستنباط منها يقول ابن المبارك :
ليكن ما تعتمد عليه الأثر وخذ من الرأى ما يفسر لك الحديث وهذا هو الفهم الذي يختص
به الله من يشاء من عباده فضلاً منه ونعمة (ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
والخلاصة
نجد أن الرأى إما رأى مجرد لا دليل عليه ويخضع للتخمين وحين سُئل أبو بكر عن
الكلالة قال أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إن قلت في كتاب الله برأى.
ومن الآراء المحمودة
الرأى الذي اجتمعت عليه الأمة وتلقاه الخلف من السلف بالقبول ولابد أن يكون اجتهاد
الرأى في ضوء الشرع يقول عمر لأبى موسى الفهم الفهم لما أدلى إليك فيما ورد عليك وليس في
قرآن ولا سنة قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى
الله وأشبهها بالحق وذلك بتشاور
أهل الاختصاص يقول ربنا (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وهذا يعنى أن تكون المشاورة فيما يحكم فيه بطريق
الاجتهاد لا فيما يحكم فيه بطريق الوحى وقد ورد عنه r قوله "أنا أقضى بينكم فيما لم ينزل فيه وحى"
وروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا
لم ينزل فيه قرآن ولم يمض فيه منك سنة، قال "اجمعوا له العالمين أو قال
العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأى واحد".
فالرأى إذاًَ الاجتهاد والاجتهاد له شروطه وقواعده وأصوله -كما قلنا- فليس
كل أحد يقول برأى في الشرع ولذلك قال الإمام البنا ورأى الإمام ونائبه [الأصل الذي
نحن بصدده].
وهنا
ستدور في الخاطر أسئلة، من هم الذين يستشارون؟ وكيف يختارون؟ وفيما يكون مشاورتهم؟
وما الحكم إذا اختلفوا فيما بينهم أو اختلفوا مع ولى الأمر؟ وهل الشورى ملزمة أم معلمة؟ والشورى دائماً فيما لا نص فيه أما ما فيه نص محكم فليس
فيه شورى إذ لا شورى في القطعى وإنما في الأمور الظنية المجتهد فيها فحسب، نكرر
هذا لنؤكد على هذا الفهم
فأما الذين يستشارون فهم أهل
الحل والعقد، وأهل الاختصاص
(فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ) ويبين لنا
القرآن ذلك فيقول (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) ولقد اخترنا
الشورى الملزمة فيما يتعلق بالحركة، أما فيما يتعلق بالعبادة
فله أن يختار
المذهب الفقهي الذي يراه.
والجدير بالذكر أن حكم الشورى مختلف
فيه بين العلماء ، فمنهم
من قال أنها ملزمة،
ومنهم من قال هي معلمة
فهذا أمر خلافي
ولكن عندما تختار الجماعة وجهًا من وجوه الفقه المتعددة ويتصل
بحركتها فلابد
للأفراد أن ينزلوا عليه حسماً للخلاف وإعمالاً للشورى.
فحين يحتمل الأمر وجوهاً عدة، فإن الشريعة تركت للمسلم أن يختار ما شاء من هذه الوجوه فعلى سبيل المثال كفارة
اليمين فيها إما الصيام أو الإطعام وكلا الوجهين صواباً وكذلك معاملة
الأسرى في الحرب فيها المن أو الفداء أو الاسترقاق أو القتل أو الحرية فاختيار أحدهم للمصلحة متروك،
وللإمام اختيار ما هو
في صالح المسلمين فمثلاً يمنّ في حالة قوة
المسلمين كى يظهر
حسن أخلاق المسلمين ورحمتهم بالأسرى، ويقبل منهم الفداء إذا كان المسلمون فقراء ويحتاجون
لمال يتقووا حينئذ يقبل
الفداء، ويقتل
لو كان فيهم عتاة مثلما
حدد الرسول
r
أشخاصًا
بعينهم وقال "اقتلوهم
ولو تعلقوا بأستار الكعبة" وهكذا
نرى في حالة التعدد
في أوجه الاجتهاد للإمام أن يختار ما فيه مصلحة مجتمعه.
فعندما فتح عمر بن الخطاب t العراق وغنم المسلمون أرض
السواد كان الحكم الفقهي فيها أن توزع الغنائم على
المحاربين المجاهدين ولما كانت تلك
الأرض أرضاً زراعية ضخمة اجتهد
سيدنا عمر ورأى أنه إذا
قسمها فإن القوة الاقتصادية التي ستعود على
المسلمين ستضعف
، فأبقاها
واستثمرها لصالح المسلمين.
لقد فعل ذلك عمر رضوان الله عليه مستنداً إلى مصلحة
المسلمين من جانب ويسر الشريعة من جانب آخر لأن
المولى I أقام الشريعة على اليسر أساساً لا
العسر، أقامها على التخفيف وليس التشديد ، على رفع الحرج عن الناس وقال I (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقال (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ
عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) وقال (مَا يُرِيدُ اللّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) وقال (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
فمنح الشريعة دائماً
منح تيسيري
فتجد الرخص
في مقابلة العزائم "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته " حديث رواه الإمام
أحمد ووضع العلماء لرفع
الحرج ومن القواعد
الأصولية
قاعدة الضرورات
تبيح المحظورات واختيار أكبر
المصلحتين وأقل المفسدتين وارتكاب أهون الشرين وأخف الضررين.
تعريف السياسة الشرعية:
السياسة
الشرعية بكلمات قليلة هي تدبير أمور المسلمين في دنياهم حسب
قواعد الشرع فينظر
الفقهاء في تدبير شئون الناس في أمور دنياهم بشرائع الدين، ولهذا
يعرفون الخلافة بأنها نيابة عن رسول الله r في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وقد يقصد بكلمة السياسة كما يقول أستاذنا الدكتور
القرضاوي،
ما يراه الإمام أو ما يصدر عنه من الأحكام قرارات زجراً عن فساد واقع أو وقاية من
فساد متوقع أو علاج لوضع خاص وهو معنى خاص.
والحقيقة
أن هناك فهماً
مغلوطاً عند بعض المسلمين وهو أن السياسة الشرعية يجب أن تكون في أموراً فعلها الرسول
r
أو تكون
في الأمور المنصوص
عليها في كتاب الله ولو كان كذلك
ما كان هناك اجتهاد لأن العلماء يجتهدون فيما لا نص فيه.
لقد حدث حوار بين رجلين أحدهما شافعي المذهب والآخر حنبلي ، يقول الشافعى : لا
سياسة إلا ما وافق الشرع ، فقال الحنبلى السياسة ما يكون معه الناس أقرب للصلاح
وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول أو نزل به وحى فإن أردت بقولك إلا ما وافق
الشرع ، أى لم يخالف ما نطق به الشرع فهذا صحيح وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به
الشرع -
أى ما يقله الشرع لفظاً - فهذا هو الخطأ بعينه.
والأمثلة كثيرة في الأمور التي لم ينطق بها الشرع
ولكنها أصبحت صحيحة
باجتهاد العلماء فيها فهل تجد
فيما فعله عثمان t من تحريق
للمصاحف
نص، أن سبب تحريقه المصاحف هو أن بعض الناس في عهده بدءوا يكتبون المصاحف
ويدخلون فيها بعض المعانى التي يفهمونها فاختلطت بعض المعانى بالقرآن
فرأى أن يجمعهم
على مصحف واحد هو ما تلاه رسول
الله r
على جبريل وأما
باقي المصاحف الأخرى فحرقها، حتى لا يظن الناس
أن المعانى التي أدخلوها على المصاحف من القرآن .
وإليك أمثلة من السياسة الشرعية
- الغل من الغنيمة (وهو الذي يخفي شيئاً من الغنيمة) ويأخذه خلسة فالرسول r أسقط سهمه وحرق متاعة ، وهذا أمر ليس
منصوصًا
عليه لكن الرسول r وجد من المصلحة فعل هذا الأمر.
-القطع في السرقة بشروط
فلابد
أن يكون مال مُحرزاً ومقوماً أي له قيمة وبلغ حد النصاب فإذا لم تصل السرقة لحد
النصاب كان يجلد
فيها الرسول r
ولم يقطع وهذا
غير منصوص عليه .
- أمر الرسول r بقتل شارب الخمر بعد الثالثة أو الرابعة ، في حين أن شارب الخمر
يجلد ولا يقتل ، الرسول
r
قتله
ولم يقم عليه الحد.
- حرق سيدنا أبو بكر اللوطية
في عهده واعتبر هذا الأمر جرمًا عظيماً ، عندما كتب له سيدنا
خالد بن الوليد وقال إنه
وجد في
بعض نواحي
العرب رجلاً ينكح كما تنكح المرأة فاستشار أبو بكر أصحابه وكان فيهم سيدنا على
فقال ،إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة فصنع الله بهم ما قد
علمتم ،فأرى أن يحرقوا بالنار ، (وهذا أمر غير منصوص عليه ولكنه أمر اجتهادي فيه مصلحة للمسلمين
كما رأى الصحابة ) فأرسل
أبو بكر لسيدنا خالد وقال حرقهم وجاء من بعده عبد الله بن الزبير وهشام بن عبد
الملك وفعلوا
مثله.
-سيدنا عمر وقصة نصر
بن حجاج عندما افتتنت
به النساء نفاه من المدينة ، فهذه أمور كلها غير منصوص عليها ولكنه اجتهاد لمصلحة الأمة .
-بل إن الأمر وصل عند سيدنا عمر t أن اختار
للناس الإفراد بالحج وعدم التمتع ليعتمروا
في غير أشهر الحج فيصير البيت عامراً طوال العام، فظن الناس أنه يمنع
التمتع بينما هو يدعو للأفضل والأولى لعمارة البيت.
يقول
ابن القيم هذه سياسة بحسب المصلحة تختلف باختلاف
الأزمنة، والأمثلة
السابقة على هذه
السياسة تختلف
زماناً
ومكاناً وشخصياً لأنها مسألة اجتهادية والاجتهاد يختلف من
زمان لزمان، ومن مكان لمكان فهذا ليس حكماً شرعياً ثابتاً بل هو أمر اجتهادي والدليل
على ذلك قضية اللبن المغشوش الذي أراقه سيدنا عمر في زمانه وجاء الإمام مالك للبن المغشوش وهي نفس القضية ولم يسكبه حتى لا تضيع منفعته وتصدق به
على الفقير ليستفيد منه طالما أنه خُلط بالماء ولم يخلط بمحرم، والمجال
في هذا الأمر واسع والأمثلة كثيرة.
وبعد فإننا نقول أن الأمر –كما رأيت- خلافي
بين العلماء تبعاً لاجتهادهم في المصلحة التي تعود على
المسلمين بالنفع إذا رأى إمام المسلمين ذلك، فمن
هو الإمام ؟
من هو إمام المسلمين ؟
الإمام في العرف
الإسلامى هو الخليفة الذي يحكم الأمة نيابة عن رسول الله r
في إقامة الدين وسياسة الدنيا به ، وقد ينوب عنه من يدير البلاد من الولاة يقومون
بالسلطة التنفيذية وهؤلاء أيضًا طالما أنهم أُنيبوا عن الإمام فلهم السمع والطاعة
فيما أمروا به شرط أن يكون الأمر في معروف لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما جاء في حديث الرسول r "من
أطاع أميرى فقد أطاعنى ومن عصى أميرى فقد عصانى " ولقد وضع علماء المسلمين شروطاً لمن يحكم المسلمين حتى
يطلق عليه إمام المسلمين أو خليفتهم.
فما هي شروطه؟
1-الإسلام: فهو من المسلمين لقول الله (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) ويقول (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً) .
2-الذكورة أو الرجولة "لن يفلح قوماً ولوا أمرهم امرأة "
ونحن
نتكلم هنا عن الولاية العامة أي الحاكم
أما دون ذلك ففيه خلاف واجتهادات
عند العلماء كمثل أن تكون قاضية أو يكون لها حق الانتخاب وتدلى بصوتها وتشارك في المجالس التشريعية فالذكورة هنا نقصد
بها الولاية العامة أي الخليفة أو الحاكم "فلن
يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
" في الولاية
العامة.
فالولاية العامة لا
تصلح لها المرأة لأن الإمامة والولاية
العامة تحتاج لمن يسهر في حاجات الناس بالليل ويتحسس الناس بالنهار وينظم
الجيوش ويقودها وهذه كلها أمور لا تقوى عليها
المرأة وإن كان لا يمنعها أن تشارك في الجهاد كما فعلت أم سليم حين أشيع أن رسول الله r قتل
في أحد، قالت للرجال "قوموا وموتوا
على ما مات عليه نبيكم " .
3-أن يكون عدلاً في دينه لا يعرف عنه فسق متقياً الله ورعاً عارفاً بأمور السياسة
وشئون الحكم جريئاً على إقامة حدود الله لا تأخذه في الله لومة لائم، شجاعاًَ ذا
دراية بمصالح الأمة وسبل تحقيقها مع الحرص عليها .
4-أن يكون جامعاً للعلم بالأحكام الشرعية لأنه مكلف بتنفيذها إذ لا يمكنه
التنفيذ مع الجهل (فَاعْلَمْ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) .
هذا الإمام ونائبه هو الذي له حق الرأي فيما لا نص فيه فإذا اختلف الفقهاء
في مسألة خلافية فيها أكثر من رأى فله هو أو نائبه إلزام الجماعة المسلمة برأي من
هذه الآراء يلزمها ولا تحيد عنه وهذا رأي الإمام البنا في القديم.
ما هو النص؟
إن علماء الأصول بحثوا دلالات الألفاظ والعبارات وما فيها من وضوح أو غموض
لأن بعضها يكون واضحاً وبعضها يكون غامضاً ثم بحثوا اللفظ من حيث اشتراكه في أكثر
من معنى ذلك لأن قواعد التفسير اللغوى تقتضى أن ندرس الدلالات والعبارات والألفاظ
ومفهوماتها، لأن النص الشرعى مكون من ألفاظ لها دلالاتها وعبارات لها مفهومات،
مفهوم العبارة ومفهوم الإشارة ومفهوم الدلالة ومفهوم الاقتضاء ومفهوم المخالفة إلى
آخر ذلك.
وتنقسم الألفاظ والعبارات والنصوص من حيث ظهور معناها إلى :
أ-نوع واضح الدلالة على معناه وليس في دلالته غموض ولا إبهام وهو ليس على
درجة واحدة بل وضوح دلالة بعضه أوضح من بعض وهو مقسم إلى : الظاهر –والنص-والمفسر-والمحكم.
ب-نوع غامض الدلالة وفيه غموض وخفاء وليس أيضًا على درجة واحدة فهناك:
الخفى –والمشكل-والمجمل-والمتشابه
وفى الأمر تفصيل ليس هنا مجاله ولكن المهم هو أن النص ما دلت صيغته دلالة
واضحة على معناه المقصود أصله من السياق كقول الله (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فهذا نص على عدم المماثلة بين
البيع والربا.
فهو إذاً اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره: بعكس المتشابه الذي يحتمل
معنيين احتمالاً متساوياً فرأى الإمام إذاً كما قال البنا فيما لا نص فيه أى
النصوص التي تحتمل تأويلاً والتى لها وجوه عدة معمول به ومعتبر فإذا اصطدم بنص أو
قاعدة شرعية لا يعتد به ولا يعتبر على خلاف وهاك مثالاً على ذلك:
هناك إجماع أن رسول الله كان يصلى العيد أولاً ثم يخطب الناس وهناك أحاديث
صحيحة كثيرة تثبت ذلك منها:
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال :"شهدت مع رسول الله العيد وأبى بكر
وعمر وعثمان فكلهم صلى قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة"
إلا أن طارق بن شهاب عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : أخرج مروان
المنبر في يوم عيد ولم يكن يُخرج به – أى أن رسول الله ما كان يخطب على منبر فأخرج
هو المنبر – وبدأ بالخطبة قبل الصلاة ولم يكن يُبدأ بها وقال فقام رجل فقال لمروان
خالفت السنة وأخرجت المنبر يوم عيد ولم يك يخرج به في يوم عيد وبدأت بالخطبة قبل
الصلاة ولم يك يُبدأ بها قال فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه [يقصد أمر
ونهى عن منكر ] سمعت رسول الله يقول "من رأى منكم منكراً فإن استطاع أن
يغيره بيده فليفعل وقال مره فليغيره بيده فإن لم يستطع بيده فبلسانه فإن لم يستطع
بلسانه فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"
فهذا حاكم المسلمين في زمانه رأى أن من مصلحة العباد تقديم خطبة العيد على
الصلاة فأصبحت هذه المصلحة غير معتبرة لاصطدامها بنص ولذلك تصدى له الرجال ليمنعوه
من فعله، أما ما لا نص فيه فيسميه العلماء منطقة العفو التي دلت على مرونة الشريعة
الإسلامية فهي منطقة الاجتهاد بقواعد الشرع للمصلحة ، فما هي المصلحة؟.
تعريف المصلحة:
المصلحة
هي كل ما فيه صلاح، ونفع
للخلق في دنياهم ودينهم وفي معاشهم ومعادهم سواء
كانت فردية أو جماعية مادية أو معنوية آنية أو مستقبلية .
مصلحة العباد : ومصلحة
العباد ورفع الحرج عنهم أصل الشريعة (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) بنيت شريعة
الله على ذلك فلا يوجد نص في الكتاب والسنة يصطدم بمصلحة العباد (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .
فمصلحة العباد هي ما يدفع عنهم المضرة ويجلب لهم المنفعة (النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ) .
ولذلك قسم الفقهاء المصالح إلى ثلاثة أنواع:
1-مصالح معتبرة : وهى التي
أعطاها الشارع الحكيم درجة الاعتبار ونص على حلها كالزواج ، والبيع والشراء وكل
ما أمر الله به فعلاً للمأمور وتركاً
لمحظور ولا يمكن أن يكون هناك حكم من الله يضاد مصلحة العباد على القطع لأن الشرع
وحى من الله وهو معصوم من ذلك وهو يقدر المصلحة التي تعود على العباد بالفائدة في
حياتى الدنيا والاخرة وحكم الله يتعدى العقل والحكمة .
أولاً-وتنقسم المصالح المعتبرة إلى :
أ-المصالح الضرورية: وهى التي
لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا إذا فقدت لم تحصل المصالح وهى "حفظ
الدين والنفس والعقل والنسل والمال"، وكل
أمر فيه مفسدة لهذه الأمور لابد أن يدفعها الشارع الحكيم أى أنه أمر يفسد الدين أو النسل
أو المال أو العقل أو النفس هي مصلحة غير معتبرة عند الشارع الحكيم
ولذلك فإننا نجد
المولى في هذه الضرورات أوجب القصاص في قتل الكافر
وعقوبة المبتدع وإيجاب القصاص في حد شرب الخمر كي يحفظ العقل والدين .
ب-المصالح الحاجية: وهى المصالح التي توسع على المكلفين وترفع الضيق الذي
يؤدى إلى الحرج كرخصة السفر – والفطر في المرض، وقصر الصلاة، وإباحة الصيد إلخ.
ج-المصالح التحسينية : وهى ما يرجع
إلى التحسين والتزيين كستر العورة والزينة والنوافل وآداب المأكل والمشرب وأى
أمر يتصل بالعادات والمعاملات من نواحيها الخلقية والتعبدية، وهكذا .
ثانياً-مصالح مهدرة : أى الغير
معتبرة وهى المصالح التي أعطاها الشارع الحكيم درجة الإهدار ونص على حرمتها بالرغم
من أن فيها منافع للناس فالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع وغيرها الكثير ومن
المصالح المهدرة:
-الذي يأمر بالإفطار في رمضان لمصلحة الإنتاج.
-والذي يجعل صلاة الجمعة متعددة في أوقات مختلفة بإمام واحد حرصاً على
الدخل القومى.
-أو الذي يصلى الجمعة يوم الأحد في بلاد الغرب لعدم الاستطاعة يوم الجمعة.
-أو يساوى بين الرجل والمرأى في الميراث.
-أو الذي يحرم البنت من الميراث حتى لا تُعطى الأموال للغريب.
-أو يقيد الطلاق ويحدد عدد الزوجات بواحدة.
-أو الاعتراف بالزواج المثلى.
-أو يحدد النسل باثنين فقط.
-أو يجيز الربا لمصلحة البلاد والعباد.
-أو يحل الخمر والنساء للسياحة ولزيادة العملة الصعبة.
-أو الاختلاط بين الجنسين.
كل ذلك مصالح مهدرة غير معتبرة لأنها تصطدم إما بقاعدة شرعية أو نص في كتاب
الله أو سنة رسول r .
ثالثاً-مصالح مرسلة: وهى التي
أرسلها الشرع فلم ينص عليها باعتبار أو إهدار ولا تصطدم بقاعدة شرعية وهذه
أدنى رتب المصالح لأن أعلى رتب المصالح شهد لها الشرع بالاعتبار ومن هنا اختلف
الفقهاء في الأخذ بها كدليل شرعى وأكبر الفقهاء أخذ بها الإمام مالك فهي ضمن الأدلة الشرعية
عند بعض العلماء ، وكان البعض
الآخر لا يعتبرونها ضمن الأدلة ومن أمثلتها :
لا ضرر ولا ضرار، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ما أبيح للضرورة يقدر
بقدرها، الضرر يدفع بقدر الإمكان وغير ذلك.
ومن أمثلة المصالح المرسلة زراعة صنف معين كالذرة والقمح أو القطن لحاجة
البلاد عندما يتدخل
الحاكم لصالح المجتمع فيفرض زراعة معينة للمصلحة فهو أمر مطلوب
ومصلحة
مرسلة وإن كان ليس
فيها نص بالإيجاب ولا بالمنع فلا بأس بها
لأنها لا تصطدم لا بقاعدة شرعية ولا نص وكذلك أنواع الصناعات المختلفة وكل شيء فيه
مصلحة للناس لم ينص عليها الشرع كالترع والمصارف والكبارى والمستشفيات والمدارس..
إلخ، كل ذلك من المصالح المرسلة.
فرأى الإمام يعمل به في هذه المصالح وفقاً للظروف والعادات والأعراف
والقاعدة فيها: يمكن تغيير الحكم فيها طبقاً للمصلحة الإسلامية يقول الإمام
الشافعى : واجتهادات الإمام قد تتغير بحسب الظروف والعرف والعادات .
الأصل في الأشياء الإباحة :
كان هذا هو أول مبدأ قرره الإسلام، الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع هو
الحل والإباحة ولا حرام إلا أن يكون هناك نص بمنعه وحرمته، ونص صريح وصحيح من
الشارع بتحريمه فإذا لم يكن النص صحيحاً كبعض الأحاديث الضعيفة – أو لم يكن صريحاً
في الدلالة على الحرمة بقى الأمر على أصل الإباحة.
ودليل ذلك قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة
29]وقوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُم
مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ...) [الجاثية:13]
وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَوْا
أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20] ومن
هنا يجب أن تتنبه إلى أن دليل الحل ليس هو المطلوب وإنما المطلوب هو دليل التحريم
فإذا عرفته استبان لك الحلال لأن الأصل في الأشياء الإباحة –كما قلت- ولذلك فإن
المولى يقول (وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).
من هنا ضاقت دائرة المحرمات ضيقاً شديداً واتسعت دائرة الحلال اتساعاً
بالغاً فالنصوص التي جاءت بالتحريم قليلة جداً وما لم يجئ نص بحله أو حرمته فهو
باق على أصل الإباحة في دائرة العفو الإلهى.
يقول r:"ما
أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو" لم
يحدد له حكم ثابت لأنه ربما كان قد يسبب حرجًا للمسلمين لأنه من
رحمة الله أن جعل النصوص الظنية فيما يتصل بتنظيم حياة البشر في داخل مجتمعهم لأن
هذا هو المتغير زماناً ومكاناً فيه فهو مرن وفى
رواية "فهو
عافية من الله ، فإن الله لن يكن لينس شيئاً
" ثم قرأ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا) يقول ابن عباس : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء فبعث
الله نبيه وأنزل كتاباً واحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو
حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ثم تلى (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ)
وعن سلمان الفارسى t سئل رسول الله r عن السمن والجبن والفراء فقال : "الحلال ما أحل الله في
كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنكم."
[رواه الترمذى وابن ماجة]
ويقول r :"إن
الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدود فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن
أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " [رواه الدارقطنى وحسنه
النووى]
يقول الدكتور القرضاوى : لا تقتصر
الإباحة على الأشياء والأعيان بل تشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور
العبادة وهى التي نسميها العادات والمعاملات وقوله (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) عام في الأشياء
والأفعال هذا بخلاف العبادة، ويقول ابن تيمية: إن تصرفات العباد من الأقوال
والأفعال نوعان : عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم.
العبادات توقيفية:
فباستقراء أمور الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا
يثبت الأمر بها إلا بشرع فنحن نصلى الصبح ركعتين لا نبحث لماذا ولا نبحث عن
المعانى؛ لأن العلماء يسمون العبادات غير معقولة المعنى ، فالصبح ركعتان وهي
توقيفية نبتعد عن المعانى فيما يتصل بالعبادات فلا نبحث عن المقاصد والمعانى.
وأما العادات فهى ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه
عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله وذلك لأن الأمر والنهى هما شرع الله، أما
في العادات والمعاملات فأبحث فيها عن المعانى والمقاصد، فهذا هو الذي يبحث عن
الحكمة فيها.
يقول الإمام أحمد وفقهاء الحديث : إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع
منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ
اللَّهُ) ويجب أن نعلم أن العادات الأصل فيها العفو فلا يحظر
منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم
مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ
تَفْتَرُونَ) ويقول ابن القيم: الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله
والأصل في الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله وعكس هذا العقود أما
المطاعم الأصل فيها الصحة والحلال إلا ما حرم الله ورسوله وأبطله.
ومن هذا الباب قول جابر بن عبد الله: كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء
ينهى عنه لنهى القرآن فهم في حل لأفعالهم حتى يبين القرآن .
ومن هنا فإن القاعدة أن الأصل في العبادات التوقيف والتعبد بها لله سبحانه
وتعالى والأصل في العادات البحث في الحكم والمقاصد فإن فهمنا حكمة الله في شيء
حمدنا الله على ذلك فإن عجز العقل عن إدراكها اتهمنا العقل بالعجز ولا نتهم الشرع
بالنقص ...فهل في هذا ما يخالف كلام البنا الذي قال: الأصل في العبادات التعبد دون
الالتفات إلى المعاني وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق