الخميس، 16 يناير 2025

"فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين" للإمام الشهيد حسن البنا - الأصل السابع.

 الأصل السابع

المذهبية ودرجة النظر – أو الاجتهاد والتقليد

"ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين ويحسن به مع الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صلاح من أرشده وكفايته وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر"

هذا  الأصل يعالج:

1-قضية الاجتهاد والتقليد .

2-المذهبية وهل للعامي أن يتبع مذهباً؟

3-عدم التعصب للمذهب.

4-الحث على استكمال النقص العلمي.

إن هذا الأمر شُد بين طرفيه وغالى كل طرف في رأيه ، فمجموعة من الدعاة بل ومن علماء العصر طالبوا الناس بالنظر والاجتهاد في كل ما يعرض عليهم حتى ولو لم يملكوا أدوات الاجتهاد والنظر وحرموا على الناس اتباع المذاهب والأئمة وقالوا لا نأخذ من أحد إلا من كتاب الله وسنة رسوله r  .

وفريق آخر حرموا على غير المجتهد أن يجتهد أو ينظر في الدليل ويقولون لا يجوز التعبد لله إلا من خلال كتب المذاهب وعلى كل مسلم أن يتخذ مذهباً يتبعه ولا يحيد عنه.

والحقيقة أن الفريقين ما أصابوا لأنهم بين إفراط وتفريط في المسألة ولذلك عالج العلماء هذه القضية في كتب كثيرة وحسموها حسماً لا يحتاج إلى نزاع أو إلى جدال حتى لا يكون لسائل مهما كان سؤاله إلا أن يجد الإجابة عليه ونحن نريد في هذه المسألة الاعتدال والتوسط ونلتزم بما التزم به أهل السلف وجماهير الأمة، من العلماء الذين يقولون إن الاجتهاد جائز وهذا قول الإمام ابن تيمية في فتاويه ، يقول : " إن الاجتهاد جائز في الجملة والتقليد جائز في الجملة" وليس للذين يقولون بالاجتهاد أن يحرموا التقليد أو العكس .

ونأخذ نموذجاً من الذين كتبوا في هذا الموضوع حديثاً وأعطوه حقه مثل الدكتور عصام البشير الذي كتب بعض المقالات الطيبة في مجلة المجتمع ومما قال في هذه القضية:" الناس في أمر الاجتهاد والتقليد ثلاث مراتب:

الأولى: عالم يفقه الآيات ودلالتها والأحاديث ومضامينها راسخ في معرفة قواعد الاستنباط ومدارك الأدلة وضوابط الاستدلال وأصول التدقيق في ما ظاهره الاستدلال ملم بلغة العرب وتصاريفها له خبرة بمدلولات الألفاظ عارف بمواقع الاختلاف والإجماع ومسالك المجتهدين .

والثانية:متبع ليست عنده القدرة على الاستقلال في البحث واستخراج الدلالات من النصوص واستنباط الأحكام منها لكنه في الوقت نفسه يفهم الحجة ويعرف الدليل

الثالثة: وهو عامى لا يفقه نصوص من القرآن والسنة ولا يستطيع الاستنباط منها ولا معرفة ما يطلب منه هؤلاء هم الثلاثة أصناف من الناس الذين بين مجتهد وبين ناظر في بعض الأدلة وبين جاهل بهذه الأمور جهلاً تاماً".

وكذلك ما كتبه الأستاذ سعيد حوى –رحمه الله – "جولات في الفقهين الكبير والأكبر" يقول :"الناس في الأحكام العملية التي هي مدار علم الفقه ثلاثة أقسام :إنسان وصل إلى رتبة الاجتهاد وإنسان عالم بمصادر القول وموارده ولم يصل إلى رتبة الاجتهاد وإنسان عامى عادى ، أما الأول فمكلف بالسير على ما وصل إليه اجتهاده يجتهد وينظر لأن معه أدوات الاجتهاد ،الثانى مكلف أن يسير على رأى من اقتنع أن معه الحق من الأئمة الثالث فله أن يتابع أى إمام من الأئمة ممن سأله فأفتاه فله أن يعمل بفتواه إن كان من أهل الفتيا والهدى ومن ثم قال العلماء : العامى لا مذهب له أو يتبع مذهب مفتيه".

يقول الشيخ ابن عبد البر:"العامة لابد لها من تقليد علماءها عند النازلة تنزل بها لأنها لا تتبين موقع  الحجة ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لا سبيل إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وطلب الحجة ولم يختلف العلماء أن العامة عليهم تقليد علماءها وأنهم المرادون بقول الله تعالى : (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وأجمعوا على أن الأعمى لابد له من تقليد غيره ممن يثق بمعرفته بالقبلة".

وابتداءً لا يمكن تصور تساوى الناس علماً وفهماً وتحصيلاً في أي مجتمع من المجتمعات فهذا محال لسبب بسيط وهو أن المولى I أخرجنا جميعاً من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً ومنحنا أدوات المعرفة . وتفاوت الناس إنما يرجع إلى اختلاف قدراتهم في استخدام هذه الأدوات يقول المولى I (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقال (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) ولذلك كان التفضيل بين المؤمنين بالعلم والعمل لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون ...ورفع الدرجات بينهم يرجع للعلم الذي بذل فيه الجهد البشرى والتوفيق الربانى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وهناك جهد بشرى تفاوت الناس فيه فالمولىI رفع بعضهم فوق بعض درجات وكان المقياس كما سمعنا في الآية (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) وتدبر الآيات إنما يكون بهذا العلم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) فكان من الطبيعى أن يكون أحق الناس بخشية الله هم العلماء لأنهم عرفوا الله حق المعرفة (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) فهم ورثة الأنبياء لا شك في ذلك.

فهذه الآيات تؤكد هذا المعنى بأن الناس صنفان صنف عالم وصنف جاهل وإلا كيف يفضل الله I الناس وهم متساوون في القدرة والنظر إذا كان الأمر كذلك فكان من الطبيعي أيضًا ان تختلف درجة العلم من واحد إلى آخر

وكان من الطبيعي أن يتوجه الجاهل إلى العالم بالسؤال ليكشف له ما غُمّ عليه حتى مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والمولى I يبين لنا ذلك فيقول (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) الآية واضحة أن هناك من يستطيع الاستنباط ومن لا يستطيع أن يستنبط حكماً والأمر إذا كان كذلك كان لابد من العلماء في المجتمع، ولكي نصل إلى الصواب عن طريق العلماء في مجتمع المسلمين يُرد إليهم ما استشكل من أمر ولو خلا المجتمع من العلماء لأثم المجتمع كله حتى توجد مجموعة من العلماء الذين يكفون حاجيته في العلوم المختلفة (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .

ومجتمع رسول الله r نفسه وُجد فيه مختلف العلماء في أبواب العلم فإذا وجدنا فيه العامي والأمي والجاهل نجد فيه العالم فنجد فيه الفقيه الورع وترجمان القرآن والمحدث عن رسول الله r وعالم الفرائض وكاتم سر النبي r وهكذا ،  نجد اختلاف الصحابة في درجات العلم وأبوابه.

درجات الصحابة من حيث الرواية :

فالعلماء من الصحابة متنوعون من حيث الرواية فمنهم:

المكثرون وهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، يقول ابن حزم يمكن أن يجمع لكل واحد منهم سفر ضخم ، وقد جمع لابن عباس رضى الله عنهما فتيا في عشرين كتاباً.

المتوسطون: أبو بكر، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدرى، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وغيرهم.

المقلّون: لا يروى الواحد منهم إلا المسألة أو المسألتين كأبى الدرداء وأبى عبيدة والحسن والحسين ، وأبى طلحة، وأبى ذر وغيرهم، يقول ربنا (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ)قالوا هم أصحاب محمد r.

قال أبو البحترى قيل لعلى بن أبى طالب t حدثنا عن أصحاب رسول الله r قال: عن أيهم؟ قالوا عن عبد الله بن مسعود، قال: قرأ القرآن وعلم السنة ثم انتهى ، وكفاه بذلك قالوا فحدثنا عن حذيفة قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين، قالوا فأبى ذر، قال كنيف مُلئ علم عجز فيه، قالوا فعمار قال: مؤمن نَسِى إذا ذكرته ذكر ، خلط الله الإيمان بلحمه ودمه ليس للنار فيه نصيب، قالوا فأبى موسى قال صُبغ في العلم صبغة، قالوا فسلمان قال علم العلم الأول والآخر بحر لا ينزح منا أهل البيت قالوا فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين قال: إياها أردتم، كنت إذا سُئلت أعطيت وإذا سكت ابتديت.

وصدق مسروق إذ يقول : جالست صحابة رسول الله r فكانوا كالإخاذ، الإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى الرجلين والإخاذ يروى العشرة والإخاذ يروى المائة والإخاذ لو اجتمع له أهل الأرض لأصدرهم وبالرغم من هذا إلا أنه غاب عن بعض الصحابة بعض المعاني نذكر منها بعضاً.

غياب بعض المعاني عن الصحابة

ومع هذا الذي قلناه فإننا نجد أن بعض المعاني تغيب عن بعضهم – وهم بين ظهرانى رسول الله r - فهذا ابن عباس رضى الله عنهما –بالرغم من أنه ترجمان القرآن - يقول كنت لا أدرى ما (فاطر السماوات) حتى أتانى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول: أنا ابتدأتها، فتعلم من الأعرابى معنى كلمة (فاطر السماوات).

وهذا عدي بن حاتم حين قرأ (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أتى بعقالين أحدهما أبيض وآخر أسود حتى ضحك رسول الله r من تصرفه وأعلمه أنه بياض النهار وسواد الليل .

وهذه عائشة تسأل رسول الله r عن قول الله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزنى ويسرق ويشرب الخمر وهو يخاف الله U ؟ فقال : لا يا بنت الصديق !! ولكنه الذي يصلى ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله U.

وها هم أصحاب رسول الله r لما نزل قول ربنا (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) أشفقوا منها وقالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ فقال r ليس كما تظنون وإنما هو كما قال لقمان لابنه (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فالظلم هنا بمعنى الشرك، وليس لأحد أن يفسرها بغير هذا بعد تفسير رسول الله r .

وهذا هو سيدنا عمار t عندما لم يجد الماء أراد أن يتيمم فتمرغ في التراب وظن أن التيمم هكذا فلما ذهب لرسول الله r علمه كيف يتيمم، فضلاً عن ذلك فهناك القصة المشهورة التي غضب منها رسول الله r عندما كان الصحابة في ليلة ممطرة شديدة البرودة واحتلم أحد الصحابة فلما قام من نومه سأل ماذا أصنع والجو بارد وسيقتلنى الماء البارد إن استعملته فقالوا له لا نجد لك رخصة طالما أن الماء موجود فاغتسل فمات لأن رأسه كانت قد شجت من حادثة ،فلما ذهبوا إلى رسول الله r غضب وقال :"قتلوه قتلهم الله ، قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال" ، هؤلاء هم صحابة رسول الله r.

فما بالك بالمستعربين والأرقاء وأهل الحيرة والطلقاء بل ماذا نقول في زماننا هذا عن المسلمين الذين لا يعرفون عن العربية شيئاً ولا للقرآن قراءة بل ماذا نقول عن الأوربي والأمريكي والروسي الذي يسلم وجهه لله، أمثل هؤلاء يجتهدون ولا يقلدون رضوان الله عليك يا ابن عباس حيت قلت : نزل القرآن على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من لغتها ووجه لا يعذر مسلم بجهله، ووجه لا يعلمه إلا العلماء، ووجه لا يعلمه إلا الله.

نحن أمام قضية بسيطة نستطيع أن ندركها بعقولنا قبل أن ندركها بما قاله العلماء فما قاله العلماء يؤيد ما استنبطه العقل لأن الناس كما قلنا غير متساوين ويختلفون في العلم تفاوتاً منهم العالم ومنهم الجاهل فكان لابد من التقليد

فالناس إذاً من عهد رسول r إلى يومنا هذا بين : عالم ومتعلم، وتابع ومتبوع، ومقلد ومجتهد.

ونسأل سؤالاً ...هل إذا جاء إنسان شرح الله صدره للإيمان ويريد أن يتعلم الصلاة مثلاً ماذا أنت فاعل؟

هل تقول له يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) ثم تتركه يجتهد في فهمها أم أنك تقول له : تعال وافعل مثل ما أفعل وتتوضأ أمامه كى يتعلم فهل هو في هذه الحال يقلد أم يجتهد؟ وكذلك في باقى الأمور والأحكام الأخرى من صلاة وحج وصيام إلخ.

وهنا لابد لنا من الحديث أولاً عن التقليد ثم عن الاجتهاد؛ حتى يتبين لنا حقيقة المسألة .

 

 

فما هو التقليد:

المعنى اللغوي:

التقليد لغة هو جعل القلادة في العنق ، ومعني ذلك أن التقليد في الدين كأن المقلد فيه جعل الحكم الذي يأخذه من العالم كالقلادة سواء بسواء لا ينظر فيها بل يأخذها كما هي .

المعنى الاصطلاحي:

هو الأخذ بقول الغير ممن ليس قوله حجة شرعية من غير مطالبته بالدليل الذي بنى عليه حكمه، أو نقول إنه العمل بقول غيرك من غير حجة فعندما نطلب الحكم من العالم ليس من حقنا أن نطالبه بدليل ما يقول لأن الدليل عند الجاهل يستوي والواقع إن التقليد لا يكون إلا في الأمور الاجتهادية أما الأمور المنصوص عليها أي ما يتصل بالعقائد والنصوص القطعية فلا مجال للاجتهاد فيها .

يقول الإمام ابن القيم الاجتهاد يكون في أمرين : ما لا نص فيه أصلاً وما فيه نصوص ظاهرها التعارض فيجب الاجتهاد في الجمع بينهما أو الترجيح بين هذه النصوص أو يكون في النصوص الظنية في الأحكام العملية.

ويقول الإمام الشاطبى في كتاب الاعتصام: المكلف بأحكام الشريعة لا يخلو من أحد أمور :

أولها -أن يكون مجتهداً فيها.

ثانياً- أن يكون مقلداً صرفاً خلياً من العلم الحاكم جملة فلابد من قائد يقوده .

ثالثاً- أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتمدة وله القدرة على تحقيق المناط (يعنى أنه يثبت الحكم الذي وصل إليه بمدركه الشرعى ).

يقول العز بن عبد السلام بعد أن تكلم فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته :"ويستثنى من ذلك العامة فإن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدى إلى الحكم"

ويقول الفقيه الحافظ البغدادي: "أما من يسوغ له التقليد فهو العامى الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية فيجوز له أن يقلد عالماً ويعمل بقوله تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) ولأنه ليس من أهل الاجتهاد فكان فرضه التقليد كتقليد الأعمى في القبلة فإنه لما لم يكن معه آلة الاجتهاد في القبلة (التى هي البصر) كان عليه تقليد البصير فيها وإذا كان العامي لابد له أن يقلد العالم فهل للجاهل أن يسأل عن الدليل ؟ نعم له أن يسأل ولكنه يسأل لكي يتعلم، لكي يزداد بصيرة ولكنه لا يسأل ليرجح بين أحكام أو ليعرف قوة الدليل، لأن قوة الدليل عنده واحدة لأنه ليس لديه الميزان الذي يزن به قوة الدليل.

وإذا كان عنده القدرة وكان من الصنف الثاني الذي يستطيع أن يعرف الدليل في المسألة ونظر إلى من أفتاه ثم انتقل إلى عالمٍ آخر ووجد دليله أقوى بل وجد الأول على خطأ والثاني على صواب أله أن يتمسك بالتقليد مع من أفتاه أولاً ؟ إن كانت عنده القدرة أن ينظر في هذه المسألة الجزئية فإنه إذا تبين له خطأ الأول فعليه أن يتبع الثاني.

وقد اتفق العلماء على تقليد العامي للعالم في الأحكام العملية مع مراعاة ما يأتي:

أولاً-تقليد العامي لعامي مثله هو تقليد محرم اتفاقاً.

ثانياً-تقليد مجتهد اجتهد في مسألة لمجتهد آخر في تلك المسألة هو ممنوع أيضًا اتفاقاً.

وذلك لأن الأول استفرغ الجهد وبذل الوسع فوصل الظن الغالب عنده إلى صحة المسألة فأصبح هذا هو الصواب عنده فلا يأخذ من مجتهد آخر لأن الاثنين في درجة واحدة من الاجتهاد واضحة ؟

ثالثاً-تقليد مجتهد لعامى -وهذه وإن كانت بعيدة الاحتمال إلا أن العقل لا يستبعدها - وهذه ممنوعة أيضًا اتفاقاً  بالقياس على السابقة.

رابعاً-تقليد مجتهد قبل اجتهاده في مسألة لضيق الوقت أو لتكافؤ الأدلة أو عدم ظهور دليل له أو غيره لمجتهد آخر في تلك المسألة، قد وقع فيه خلاف والراجح جواز التقليد في هذه الحالة.

خامساً-تقليد عامى لمجتهد من غير أن يطلب منه دليلاً على ما وصل إليه من الأحكام وهذه الصورة التي حددها العرف لتكون محلاً للخلاف بين العلماء وتقسيماتهم:

يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: يجوز التقليد لمن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد وأن عليه إتباع إمام يسترشد به ويقلده في أحكام الحلال والحرام ولا يجوز لمثل هذا الإنسان أن يفتى الناس ولو توفرت له كتب "الحديث".

فهل هناك فرق بين هذا الكلام وكلام الإمام البنا؟ ارجع إلى ما قاله الإمام البنا تراه متطابقاً تمام التطابق مع ما قاله علماء الأمة.

يقول الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين :

المذموم من التقليد ثلاثة:

1-الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)؛ لأن أصل الإيمان هو اليقين الجازم ونحن لا نصل إلى اليقين الجازم في التقليد، ولهذا تجد كثيراً من الاستدلالات العقلية التي توصل إلى الإيمان بالوحدانية في كتاب الله في مثل قوله (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) وفى قوله (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) وفى قوله (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) وفى قوله (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) وفى مثل قوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) والآيات في هذا المجال كثيرة يقول فيها ابن القيم : الأمور الاعتقادية المتعلقة بأصول الدين لا يجوز التقليد فيها بالإجماع لأن هذه الأمور لا يغنى فيها الظن وإنما سبيلها اليقين والقطع لقوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً

يقول الإمام أحمد :"من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده وقال لرجل :"لا تقلد دينك أحد وعليك بالأثر " ويقول ابن مسعود :"ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا" إن آمن آمن وإن كفر كفر .ويقول :"لا يكون أحدكم إمعة يقول إنما أنا رجل من الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ".

2-تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ منه بقوله.

3-التقليد بعد قيام  الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المُقَلَّد.

بين التقليد والإتباع

إذا تكلمنا في هذه القضية عن التقليد والإتباع فالمقصود بالإتباع هي الأمور التي لا يجتهد فيها (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ)، والاتباع ما جاء به المصطفى r وحكمه ظاهر لا اجتهاد فيه ألبتة ولا يجوز فيه التقليد أيضًا أما المعنى الآخر (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ) فالمقصود به هنا هو التقليد .

ولا يصح الاجتهاد في الأمور الموحى بها في الآيات (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) فالعلم بفريضة الصلاة أمر فيه اتباع وليس فيه اجتهاد سواء كان في فرضية الصلاة والزكاة الصوم وفرضية الوضوء والأمور التي فرضها المولى علينا وإجمالاً دون دخول في مسائلها الفرعية هذه يشترك فيها العوام والمجتهدون على حد سواء وليس لأحد أن يجتهد في هذه المسألة لكنها من المعلوم من الدين بالضرورة وليست الأمور الأخرى التي تتصل بالأحكام العملية فكلها ينطبق عليها ما قلناه إذا كان عنده القدرة على الاجتهاد.

فلا فرق بين التقليد والاتباع لغة، والذين يقولون إننا نتبع ولا نقلد نقول لهم : إن المولى I في كتابه الكريم يقول (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ....) وهذا تعبير عن التقليد في أسوأ أنواعه وهو التقليد الأعمى.

ويقول الإمام الغزالي في المستصفى: دليل إجماع الصحابة إنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد علماً بأن المستفتى لم يلتزم مع ذكر الحكم ببيان دليله .

ويقول الآمدي في الأحكام أما الإجماع فهو أنه لا تزال العامة في زمن الصحابة والتابعين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية والعلماء منهم من يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر دليل فكان إجماعاً على جواز إتباع العامي للمجتهد المطلق.

يقول الإمام الشاطبي في الاعتصام: فتاوى المجتهدين للعوام كالأدلة الشرعية بالنسبة للمجتهدين .

الاجتهاد المطلق:

المجتهد المطلق هو الذي يستنبط الأحكام من أدلتها الشرعية وهذا قمة الاجتهاد ويسمونه مجتهد مطلق لأنه عنده القدرة على النظر في الأدلة من الكتاب والسنة واستنباط الحكم منها، ودرجة الاجتهاد المطلق تحصل بتمكنهم من تعرف الأحكام الشرعية من أدلتها استدلالاً من غير تقليد.

الاجتهاد المقيد:

والمجتهد في المذهب يجتهد في اجتهاد عالمه وصاحب مذهبه فيما قال وقد يخالفه ويكون الاجتهاد في أدلة المذهب نفسها، وأما الاجتهاد المقيد فهو درجة تحصل بالتبحر في مذهب إمام من الأئمة بحيث يتمكن من إلحاق ما لا ينص عليه ذلك الإمام بما نص عليه معتبراً قواعد مذهبه وأصوله.

ولكل إمام تلاميذ وقد يخالفون إمامهم في بعض المسائل العملية، وأكبر دليل يستشهد به العلماء على ذلك هو محمد بن الحسن وأبو يوسف تليمذى أبا حنيفة ، فهم تلاميذه وفى نفس الوقت خالفوه في المذاهب واجتهدوا ما فيه.

سئل ابن الصلاح هل إمام الحرمين، والإمام الغزالى والإمام أبو إسحاق رضى الله عنهم بلغ أحد من هؤلاء الأئمة المذكورين درجة الاجتهاد في المذهب الشافعى على الإطلاق أم لا؟ وما حقيقة الاجتهاد على المذهب وهل بلغ أحد منهم درجة الاجتهاد المطلق؟

فأجاب ابن الصلاح بقوله : لم يكن لهم الاجتهاد المطلق وبلغوا الاجتهاد المقيد في مذهب الشافعى t ودرجة الاجتهاد المطلق تحصل بتمكنه من تعرف الأحكام الشرعية من أدلتها استدلالاً من غير تقليد وأما الاجتهاد المقيد درجة تحصل بالتبحر في مذهب إمام من الأئمة بحيث يتمكن من إلحاق ما لا ينص عليه ذلك الإمام بما نص عليه معتبراً قواعد مذهبه وأصوله فما هو المذهب ؟

تعريف المذهب: المذهب يقتضى أن يتكون من منهاج علمى لفريق من الدارسين الباحثين، يبنون فيه أصولاً لتفكيرهم متميزة واضحة ثم يكون لكل منهاج طائفة أو مدرسة تعتنق هذه الأصول وتدافع عنها وتقويها بموالاة البحث والدراسة" وللمذاهب أدلة أصلية وأدلة فرعية.

وقد اجتمعت المذاهب على الأدلة الأصلية وهى الثلاثة:كتاب،سنة،إجماع واختلفوا في القياس ثم تأتي بعد ذلك الأدلة الفرعية وهي الاستحسان وقول الصحابة والمصالح المرسلة وغيرها ويُبنى كل مذهب على قواعد ولذلك فإن الإمام المطلق يجب أن يكون لديه قواعد يستنبطها ويبنى عليها مذهبه وعندما يأتي المجتهد في المذهب لا يخرج عن قواعد المذهب ويكون اجتهاده داخل قواعد المذهب نفسه.

والجدير بالذكر أن المذاهب الفقهية غير الفرق الإسلامية: فهذه اختلافاتها في أمور العقيدة أما المذاهب فاختلافاتها في فروع الأحكام وشتان بين الاثنين فالأولى تفرق وتمزق وتخرج عن منهاج أهل السنة والجماعة والثانية تجمع وتعطى سعة وتوسعة واختلاف الرأي فيها لا يذهب للود قضية.

وعلى هذا فإننا نرى أن العلماء اتفقوا على تقليد العامي لمذهب معين فهو سُلّم لابد منه للوصول إلى هدى الرسول r فالمذاهب هي لب الإسلام وجوهره وهي التي بصرت المسلمين في كل زمان بأحكام دينهم ويسرت لهم سبيل التمسك بالكتاب والسنة وفرق كبير بين إتباع مذهب والتعصب له.

فالمسلمون الذين لم يبلغوا درجة النظر – درجة الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة - عليهم أن يتبعوا مذهب إمام من الأئمة وللواحد منهم أن يلازم إماماً من الأئمة إن شاء وله أن يتحول إلى غيره وقد كان في الصحابة من يأخذ برأى ابن عباس في مسألة ويتحول إلى غيره ولم ينكر عليه ذلك.

ولقد عاش أهل العراق أمداً طويلاً من الزمن وهم يلتزمون مذهب عبد الله بن مسعود متمثلاً في شخصه أو في أشخاص تلاميذه من بعده دون أن ينكر عليهم أهل العلم ذلك كما عاش أهل الحجاز أمداً مثله يلتزمون مذهب عبد الله بن عمر وتلاميذه وأصحابه دون أن ينكر عليهم أحد من أهل العلم ذلك.

وقد انفرد عطاء بن رباح ومجاهد بالفتوى في مكة زمناً طويلاً وكان يصبح منادى الخليفة "أن لا يفتى الناس أحد إلا هذان الإمامان " ولم يقم من علماء التابعين من ينكر على الخليفة أو على الناس هذا الالتزام فكيف يمنع البعض ذلك.

نبذة عن تاريخ المذاهب:

بعد الفتوحات الإسلامية بدأ الصحابة في عهد سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه موجة من المد الإسلامى في المشرق والمغرب على حد سواء وكان العرب المسلمين والفاتحين مؤهلين بما حملوا من علم ومعرفة لأنهم عاشوا حياة رسول الله r ومكثوا فترة ليست بالقليلة يأخذون العلم من مصادره وينابيعه الطيبة فلما انتشروا في البلاد وكان الصحابة متفاوتين علماً كما قلنا بدأ الناس الذين يتصلون بهم في البلاد المختلفة يتناولون العلوم من هذه المصادر وهى الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم ،والجدير بالذكر أن الرسول r نفسه في حياته أرسل أناساً إلى اليمن وإلى البحرين ووجدنا سالم بن عبد الله بن عمر يقول كنا مع بن عمر يوم مات زيد بن ثابت فقلت مات عالم الناس اليوم فقال ابن عمر يرحمه الله فقد كان عالم الناس وحبرهم لقد فرقهم سيدنا عمر في البلدان، يقول سيدنا عمر حين خرج معاذ بن جبل إلى الشام لقد أخلَّ خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه فأبى علىَّ وقال : رجل يريد الشهادة فلا أحبسه فقلت والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه . وكتب سيدنا عمر لأهل الكوفة إنى بعثت إليكم بعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً وآثرتكم به على نفسي فخذوا عنه فقدم الكوفة ونزلها وابتنى بها داراً إلى جانب المسجد وكذلك فقد انتشر الصحابة في هذه البلدان كما يحدثنا التاريخ وكان لكل واحد منهم مدرسته.

كيف نشأت هذه المذاهب ؟

قلنا أن الصحابة انتشروا في الأمصار بل إن الرسول r كان يرسل الصحابة لبعض الأمصار لتعليم الناس وبعد وفاة الرسول r مكثت مجموعة من الصحابة في المدينة ولم تغادرها وانتشرت مجموعة أخرى في البلاد والجميع يحملون علماً ففي مكة مثلاً كان سيدنا معاذ بن جبل يعلم أهلها الحلال والحرام وكان يعتبر معلم مكة وعندما حدث الخلاف بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير -فى القصة المعروفة - ذهب ابن عباس إلى مكة أيضًا وعلم بها فكان يجلس في البيت الحرام يعلم الناس التفسير والحديث والفقه بل والأدب وتخرج من تحت يديه تابعين مثل مجاهد بن جبر وعطاء بن أبى رباح وطاووس بن كيسان، وفى المدينة دار الهجرة ومركز الخلافة تفرغ للحياة العلمية كثير من الصحابة كزيد بن ثابت وعبد بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهم وتخرج على يد علماء الصحابة كثير من التابعين مثل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير بن العوام وكان ابن شهاب الزهرى قد أخذ من كبار التابعين وحفظ فقه علماء المدينة، وفي الكوفة كان من أصحاب الرسول r على بن أبى طالب ،عبد الله بن مسعود ،وكان ابن مسعود طبعاً أكثرهم في الأثر والعلم بعثه سيدنا عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يعلمهم وتكونت في الكوفة حركة علمية كبيرة في العراق وتخرج من التلاميذ على يد هؤلاء الصحابة علماء معروفين كعلقمة الأسود ومسروق وشريح والشعبى والنخعى وسعيد بن جبير كل هؤلاء تلامذة لصحابة رسول الله r ، وكان في البصرة أبو موسى الأشعرى وأنس بن مالك رضوان الله عليهم وقد أخذ منهم أبو الحسن البصرى ومحمد بن سيرين ثم في الشام أيضًا رأينا أبو الدرداء رضوان الله عليه وأرضاه كان هناك وأخذ منه من التابعين أبو إدريس الخولاني ومكحول الدمشقي وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وتخرج أيضًا من هذه المدرسة إمام أهل الشام المشهور بالأوزاعى عبد الرحمن الأوزاعى، وفي مصر كان عبد الله بن عمرو بن العاص من أشهر الصحابة الذين نزلوا في مصر وتتلمذ على يديه الليث بن سعد فقيه مصر وكان تلميذ من تلاميذه في اليمن مطرف بن مازن وعبد الرزاق بن همام وكل هؤلاء الصحابة أعطوا للتابعين من العلم الكثير .

وعندما تفرق الصحابة بهذه الصورة أصبح هناك فريقان من الصحابة فريق في داخل الحجاز يأخذ الأثر ويعيش حياة رسول الله r ويتمسك بالنص وفريق ساح في البلاد الأخرى واحتك بالفرس واحتك بالعجم وأصبح هناك مشاكل غير موجودة بالحجاز فبدأ العلماء يفكرون في استنباط الأحكام التي تصلح لهذا الزمان وانقسم الناس فريقان:

فريق أسموه أهل الأثر وهم أهل الحجاز.

وفريق أسموه أهل الرأي وهم أهل العراق والشام، وأصبح هناك بعد ذلك مدرستان مشهورتان في الفقه

وعندما جاء الإمام الشافعى يضع قواعد أصول الفقه قسم الأدلة إلى نوعين فرعى وأساسى فالمجمع عليها والذي لا يختلف فيها إمام هي الكتاب والسنة والإجماع (إجماع الصحابة) فلا يوجد إمام من الأئمة ولا عالم من العلماء يستطيع أن يخرج عن هذه الثلاثة وهى موجودة في كل مذهب من المذاهب، ولكنهم اختلفوا في القياس كدليل فالغالبية يعتبروه من الأساس ثم تأتي الأدلة الفرعية التي يأخذ بها بعض الأئمة والبعض الآخر لا يأخذ بها .

ومن الأدلة التي انفرد بها الإمام مالك عن باقي الأئمة "عمل أهل المدينة" يقول أن أهل المدينة أقرب لرسول الله r ثم انتقل الأمر من فئة إلى فئة وجماعة إلى جماعة واختلفوا فإذا وجدنا أهل المدينة يعملون عملاً فيها صار دليلاً عند الإمام مالك يأخذ به في حين أن الإمام الشافعي لم يأخذ به لأن له أدلته أيضًا فالمسألة ليست مسألة ضعيف وقوى، فالمسألة مسألة الأدلة التي استند إليها العلماء أنفسهم فالخلاف الذي بين الأئمة هو خلاف في الأحكام الفرعية لأنهم جميعاً متفقون في الأحكام القطعية فحسب مختلفون في الظنية، ولما انتشر الصحابة في الأمصار بقيت مدرستان مدرسة سُميت بمدرسة الرأي وأخرى سميت بمدرسة الأثر.

وصار أهل المدينة يعتمدون في أحكامهم وعلمهم على حديث رسول الله r وكان أهل العراق يعتمدون على الرأي، يقول الشعبي: كانت القضية ترفع  إلى عمر t فربما تأمل في ذلك شهراً ويستشير أصحابه فيها وكان لتدوين الحديث أكبر الأثر في اتساع الحركة العلمية والفقه.

أسباب انتشار مدرسة الرأى في العراق:

1-تأثر أهل العراق بوجود صحابي جليل هو عبد الله بن مسعود يتلقى منه التابعون هذه العلوم .

2-قلة وجود الصحابة وحفظة الحديث في العراق جعل إعمال العقل والرأي أكثر من الأثر.

3-احتكاك المسلمين بغيرهم مثل الفرس جعل هناك أموراً تجد ومشاكل في حاجة إلى النظر وإعمال العقل فيها للوصول إلى حكم شرعي.

4-كان العراق موطناً للشيعة والخوارج الذين كانوا متمركزين في هذا المكان وبحدوث الفتن والأمور التي ليس فيها نص كان من الطبيعي أن يجتهد العلماء للوصول إلى حكم فيها.

مميزات مدرسة أهل الرأي :

1- كان لديهم كثرة التفاريع في المسائل ولم يكتفوا بالحكم.

2-قلة روايتهم للحديث واشتراطهم فيه شروطاً شديدة جدًا جعل الذي يصل إليهم من الأحاديث يدققون فيه ويخرجونه بمنتهى الدقة للحرص على صحته.

المدرسة الأخرى وهى مدرسة أهل الحجاز وهى تعتمد على الحديث كما ذكرنا.

وسبب انتشارها وجود الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم في مدينة رسول الله r وما يحملونه من ثروة كبيرة جداً من أحاديث رسول الله r .

مميزات مدرسة أهل الحجاز :

1-وجود ثروة كبيرة جداً من أحاديث رسول الله r.

2-كانت الحياة بسيطة وميسرة فلم توجد لديهم مشاكل مثل التي كانت عند أهل العراق نتيجة احتكاكهم بالفرس.

3-البعد عن أرض الفتنة.

4-كانوا يكرهون كثرة السؤال.

ومن هاتين المدرستين نشأت المذاهب فكان أبو حنيفة هو صاحب مدرسة الرأي لأنه عاش في العراق أما الإمام مالك فقد نشأ في المدينة وهو صاحب مدرسة الأثر ولذلك بدأت المذاهب تظهر في هاتين المدينتين وعندما جاء الإمام الشافعي وكان صاحب مذهب فاجتهد في قواعد كل مذهب من هذه المذاهب ثم كتب كتابه المسمى بـ"الرسالة" والذي وضع فيه قواعد أصول الفقه وكان أول من وضع هذه القواعد.

والجدير بالذكر أننا عندما نتكلم عن المذاهب الأربعة نتكلم عن المذاهب الشهيرة، والحقيقة أنها كانت أكثر من ثلاثة عشر مذهباً لكن اندثر منها ما اندثر لعدم التدوين ودُون منها حوالى تسعة مذاهب، بل إن هناك من المذاهب ما لا نعرفه لأنها اندثرت مثل مذهب الإمام الطبري وللعلم فإن اندثار المذهب لا يندثر معه اجتهاد صاحبه، فالاجتهاد باق بالرغم من اندثار المذهب.

وهذه أمثلة من أصحاب المذاهب:

الإمام أبو سعيد الحسن البصرى والذي توفى سنة 110هـ ، الإمام أبو حنيفة الذي توفى سنة 150هـ والإمام الأوزاعي الذي توفى سنة 157هـ الإمام سفيان ابن سعيد بن مسروق الثورى الذي توفى سنة 160هـ والإمام الليث بن سعد والذي توفي سنة 175هـ والإمام مالك بن أنس الذي توفى سنة179 والإمام سفيان بن عيينة الذي توفى سنة 198 والإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي توفى سنة 204هـ والإمام أحمد بن حنبل الذي توفى سنة 241هـ ، ونضيف إلى هؤلاء الإمام ابن داود الظاهرى ابن حزم الذي توفى سنة 270هـ وهؤلاء هم الذين جُمعت مذاهبهم وسُجلت ولكن هناك كثير من الفقهاء والأئمة اندثر مذهبهم لعدم تسجيله وعلى هذا نقول أن الأئمة الثلاثة : مالك والشافعى وأحمد بن حنبل من مدرسة الأثر والإمام أبو حنيفة من مدرسة الرأي، وأعطيك أمثلة بسيطة جداً تظهر  الخلاف بين المدرستين فمثلاً:

القراءة خلف الإمام ، يقول أهل الأثر نقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة وأغلب أهل الرأى يقول :عدم القراءة خلف الإمام فيما جهر وفيما أسر على السواء، وأيضًا صفة الجلوس يقول أهل الحجاز الجلوس على الورك الأيسر سواء أكانت الصلاة ثنائية أو رباعية ، أما أهل العراق فقالوا يفترش قدمه اليسرى ويوم أن كان هناك فهم سليم للمذاهب فإنهم يختلفون ولكن يبقى الود والحب ويختفي التعصب.

التعصب للمذهب:

وصل التعصب للمذهب والبعد عن الفهم السليم للإسلام إلى أن أتباع الشافعية في فترة من الفترات كانوا يحرمون الصلاة خلف تلاميذ المالكية بل وصل الأمر إلى تحريم تزويج ابنة الشافعى من المالكى. وهذا التعصب للمذهب هو الهوى بعينه والتعصب المذموم والممنوع وهو مكروه غير مرغوب لأن التعصب هو الميل مع الهوى لأجل نصرة مذهب بعينه سواء أكان على صواب أو على خطأ. وبهذا ينشأ لون من ألوان الاحتقار والحط من المذاهب الأخرى وهو مخالف لتوجيه رسول الله r :" كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصانى فقد أبى " وهذا الذي جعل العلماء يحذروا من التعصب للمذهب يقول الإمام أبو حنيفة رضوان الله عليه وأرضاه : لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه وهو بذلك يخاطب من استطاع أن يجتهد سواء اجتهاداً كلياً أو جزئياً، وفى رواية :"حرام على من لم يعرف دليلى أن يفتى بكلامى فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً " ومعنى هذا الكلام إن أصل الاجتهاد والفتيا تختلف زماناً ومكاناً وشخصاً فقد ينظر في المسألة بظروفها ومكانها وشخصها ويفتى بفتوى فإذا اختلفت الظروف في نفس المسألة فسيختلف معها الحكم لأن الحكم يدور مع العلة حيث دارت، يقول الإمام مالك :"إنما أنا بشرٌ أُخطئ وأصيب " فانظروا في رأيى فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ، ويقول الشافعى:"أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة من رسول الله r لم يحل له أن يدعها لقول أحد " ويقول الإمام أحمد :"لا تقلدنى ولا تقلد مالكاً ولا الشافعى ولا الأوزاعى ولا الثورى وخذ من حيث أخذوا "

هذه النصوص قرأها بعض الشباب وضل فهمهم فهؤلاء العلماء لا يقولون هذه النصوص ليجتهد العامي والجاهل إنما قالوا هذه النصوص خشية التعصب فلقد قالوا هذا الكلام لأمرين : الأمر الأول للحث على التعلم ودفع الغير لكي يحصل العلوم النافعة حتى لا تقلد .

والأمر الثاني: حتى لا يتعصب للمذهب ولا يأخذ بغيره وهو ليس أهلاً للاجتهاد وقد قال العلماء أن الصحابة رضي الله عنهم كان الواحد منهم يقتدي بالآخر.

مما سبق نخلص إلى أن تقليد العامي أو من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد يلزم أي مذهب إمام مجتهد سواء التزم واحداً بعينه أو عاش يتحول من واحد لآخر – دون ترقيع أو تتبع للرخص- وهو أمر جائز شرعاً وأكبر دليل على ذلك هو صحة إتباع مذهب ابن عباس وعبد الله بن مسعود وأم المؤمنين عائشة.

وهناك مقولة ظاهرها الرحمة تقول : إن الأخذ بأقوال العلماء وقياساتهم بمنزلة التيمم إنما يصار إليه عند عدم الماء ، فحيث وجد النص من الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة رضى الله عنهم فالأخذ به واجب لا يعدل عنه إلى أقوال العلماء.

وظاهر هذا القول لدى الرجل العامى صحيح ولكن العلماء يعتبرون هذا القول من البلاء العظيم والشر المستطير!!

ولكي يتضح ذلك الشر ، ضع صحيحي البخاري ومسلم أما سواد المسلمين اليوم وقل لهم حاولوا أن تفهموا أحكام دينكم من النصوص التي فيهما ثم أنظر كيف سيكون الجهل والتخبط والعبث بالدين فالحال سيكون مثل مزين الصحة الذي يدعى مهارة في الطب ويودى بمريضه ويهلكه، إن توفر كتب السنن وحدها –كما قال ابن القيم- لا يكفى في صحة الفتوى بل لابد إلى جانبها بلوغ درجة الاستنباط وتوفر أهلية البحث والنظر وإن لم يتوفر لديه ذلك ففرصته متاحة في قول ربنا (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)

أما إذا تمرس المقلد في فهم مسألة من المسائل وتبصر بأدلتها من الكتاب والسنة وأصول الاجتهاد وجب عليه أن يتحرر في الأخذ بها من مذهب إمامه وحرم عليه التقليد طالما أمكنه أن يجتهد فيها معتمداً على طاقته المتوفرة لديه فلا يرجح رأى إمامه على ما هداه إليه اجتهاده في تلك المسألة وهذا ما يسمى أو يطلق عليه "مجتهد في المذهب" وهو غير المجتهد المطلق كما وضحنا من قبل.

ونختم قضية التقليد بضوابط منها:

أولاً-إذا استبان للمُقَلِّد حكم صحيح بخلاف ما انتهى إليه إمام مذهبه وتيقن ذلك بصدق من أرشده وكفايته العلمية ورسوخه الفقهى لزمه أن يتحرر من قول إمامه أو مذهبه.

ثانياً-إذا تبصر إنسان بمعرفة مسألة ما من وجوهها المختلفة وصورها المتعددة وأحاط بأدلتها ونصوصها فعليه أن يتبع في تلك المسألة ما انتهى إليه اجتهاده وهداه إليه علمه.

ثالثاً-العالم بمصادر النصوص وقواعد الفهم إذا عجز عن الاجتهاد في مسألة ما إما لتكافؤ الأدلة أو لضيق وقته أو لعدم ظهور دليل له جاز له التقليد فالاجتهاد ليس أمراً واحداً لكنه قابل للتجزئة والانقسام .

رابعاً -أن المقلد يجوز له التنقل من مذهب إلى آخر بناء على قوة الحجة وظهور الدليل وليس من قبيل التتبع للرخص بغير مستند شرعى نقل الشاطبى عن ابن حزم أنه حكى الإجماع على أن تتبع رخص المذاهب بغير مستند شرعى فسق لا يحل.

ونهى العلماء عما يسمى بالترقيع وهو أن يأخذ من كل مذهب رخصة فلا تجوز عملية الترقيع هذه.

وأيضًا عدم التجاسر على الفتيا لمن ليس من أهلها بل الواجب احترام التخصص والرجوع في كل فن إلى عارفيه فدلائل النصوص مشتملة على العام والخاص والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والجلى والخفى ومعرفة مواطن الإجماع ومواطن الخلاف كي يتصدى لهذا الأمر جاء عن ابن مسعود إن أحدكم ليفتى الفتيا لو سُئل عنها عمر لجمع لها أهل بدر وأجرؤكم على الفتيا أجرأكم على النار أعاذنا الله من هذا .

وأخيراً فإن أحد المجتهدين إذا ترك العمل بحديث من الأحاديث لعذر من الأعذار المعتبرة مثل اعتقاده عدم صحة الحديث أو أن ظاهر القرآن يخالفه أو القياس أو عمل بعض الأمصار ثم تبين لمن يقلده أن ظاهر القرآن لا يخالفه وأنه صحيح مقدم على الظاهر والقياس والعمل لم يكن عذر ذلك الإمام المجتهد عذراً في حقه فإن ظهور المدارك الشرعية وخفاءها أمر لا ينضبط طرفاه فتعين عليه العمل بما أوجبه الحديث الذي اعتقد صحته ودلالته وإن خالف إمامه.

الأئمة على حق :

وينبغى أن نفهم أن جميع الأئمة على حق بمعنى أن اجتهاد كل منهم جعله معذوراً عند الله U  إن هو لم يستيقن حقيقة الحكم الذي أراد الله U لعباده في تلك المسائل الاجتهادية فليس عليه إلا أن يسير فيه حسب ما هداه إليه اجتهاده.

ومن هنا كان إتباع المقلد لمن شاء منهم إتباعاً لحق وتمسكاً بهدى وهو إذ يختار واحداً منهم لا ينبغى أن يتصور أن الآخرين على خطأ ولذلك أجمع العلماء على صحة إقتداء الحنفى بالشافعى أو المالكى والعكس ولك أن تعلم أن العز بن عبد السلام مثلاً شافعى المذهب، وابن القيم حنبلى المذهب والدهلوى حنفى المذهب والجميع من كتاب الله وسنة رسول الله  r ملتمس.

يقول الإمام الشاطبى في الموافقات :

إن المكلف بأحكام الشريعة لا يخلو من أحد ثلاثة أمور :

أولاً- أن يكون مجتهداً فيها فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها.

ثانياً- أن يكون مقلداً صرفاً خلياً من العلم الحاكم جملة، فلابد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه ،  وعالم يقتدى به، ولا يحل اتباعه إذا علم أنه ليس أهلاً لذلك لأنه لا يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا أن يكون فاقد العقل.

ثالثاً- أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة وله القدرة على تحقيق المناط وهو في هذه الحالة إما أن يعتبر نظره أو لا يعتبر.

ولذا وجب علينا أن نتعرف على ما هو الاجتهاد ؟ ومن هو المجتهد حتى نعرف قدرنا؟

الاجتهاد:

الاجتهاد هو بذل غاية الجهد، واستفراغ الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بطريق النظر وإعمال الفكر، يقول والآمدي في استفراغ الوسع هو طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من نفسه العجز عن المزيد، فمثلاً قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ) كيف تطبق في حالة وجود الخمر مع استشراف الإنسان على الموت مع عدم وجود الماء يجوز له شرب القليل منها بعد أن يبحث ويجدّ في البحث عن الماء حتى يشرف حقيقة على الموت، فيبدأ في شرب القليل لينجو.

هذان الأمران اللذين لابد أن يتوفرا عند المجتهد وهما بذل الجهد والوسع وشرب القليل دون عدوان.

والجدير بالذكر إنه لا يوجد في الإسلام طبقة تحتكر الاجتهاد فليس عندنا رجال دين ولكن لدينا علماء دين، عالم متخصص يملك أدوات الاجتهاد وتتحقق فيه شروطه فوجب عليه الاجتهاد.

شروطه:

هذه الشروط منها شروط علمية وثقافية مثل العلم باللغة العربية والكتاب والسنة ومواضع الإجماع المتيقن والعلم بأصول الفقه ، وطرائق القياس والاستنباط والعلم بمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية.

وفضلاً عن ذلك لابد أن يكون لديه ملكة الاستنباط وهى تنمو بممارسة الفقه ومعرفة اختلاف الفقهاء ومدارسهم ولهذا قالوا:"من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه" ويضيف ابن القيم في إعلام الموقعين أن يكون عالماً بالناس لأن الفتيا تتغير زماناً ومكاناً وشخصاً فضلاً عن شرط الإخلاص والعدل وأن يكون مرضى السيرة يخشى الله تعالى .

والمجتهد الحق هو الذي ينظر إلى النصوص والأدلة بعين وينظر إلى الواقع والعصر بعين أخرى حتى يوائم بين الواجب والواقع ويعطى لكل واقعة حكمها المناسب لمكانها وزمانها وحالها : فهل هذا يتوفر لكل الناس؟

قال حذيفة : يفتى الناس : أحد ثلاثة، من يعلم ما نسخ من القرآن أو أمير لا يجد بداً أو أحمق متكلف قال فربما قال بن سيرين فلست بواحد من هذين ولا أحب أن أكون الثالث ، ويقول الإمام مالك ما جلست للفتيا إلا بعد أن شهد لى سبعون من أهل العلم أنى أهل لذلك كما يقول الإمام الشافعى لا يحل لأحد يفتى في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ، مكيه ومدنيه وما أُريد منه وكذلك السنة كما عرف من القرآن ،بصيراً باللغة والشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن وإلا لا يفتى .

ويقول الإمام أحمد : قلت لأبى ما تقول في الرجل يُسئل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه ، قال : ينبغى للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بالسنن عالماً بوجوه القرآن عالماً بالأسانيد الصحيحة .

كما يقول رضوان الله عليه : لا ينبغى للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال :

أولاها :أن تكون له نية فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.

الثانية :أن يكون على علم وحلم ووقار وسكينة

الثالثة :أن يكون قويا ًعلى ما هو فيه وعلى معرفته

الرابعة :الكفاية وإلا مضغه الناس

الخامسة: معرفة الناس.

واسمع إلى حديث دار بين الإمام أحمد ووالده يقول يا أبت الرجل يحفظ مائة ألف حديث أيكون مفتياً ؟ قال : لا

قال الرجل يحفظ مائتى ألف حديث ؟ أيكون مفتياً ؟ قال :لا

قال الرجل يحفظ ثلاثمائة ألف حديث ؟ أيكون مفتياً ؟ قال :لا

قال الرجل يحفظ أربعمائة ألف حديث ؟ أيكون مفتياً ؟ فأشار يده هكذا (أي من الممكن وهذا هو الحد الأدنى)

فهل بعد ذلك كله يقول قائل للعامى لا تقلد ولا تتمذهب وعليك بالكتاب والسنة وربما لا يعرف أن قراءتهما فضلاً عن معرفة الأحكام فيهما !!

فمن هؤلاء الذين تقولون لهم لابد من النظر في الدليل ؟ إن كانوا أولئك الذين أوتوا القدرة على فهم الحكم من الكتاب والسنة بدون استعانة بمفت أو إمام فهذا لا يخالفكم فيه أحد ، فهم أهل لذلك إذا لا يصح لهم تقليدهم لأحد وليس في المسلمين عالماً حديثاً أو قديماً يخالفكم في ذلك!!

وإن كان من عامة الناس ومن لا يملك وسيلة الاجتهاد والاستنباط والتبصر بالأدلة فنقول "هل عندكم من علم فتخرجوه لنا" اللهم إلا علم من أعطى لنفسه حق تشخيص الداء والدواء وهو ليس أهلاً لذلك" فتكون الهلكة.

وانظر إلى القاسم بن محمد بن أبى بكر يُسأل عن شيء فيقول : لا أحسنه فقال السائل: إنى جئت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتى وكثرة الناس حولى والله ما أحسنه ، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه :يا ابن أخى ألزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم :"والله لئن يقطع لسانى أحب إلىَّ من أن أتكلم بما لا علم لى به".

وقال أحد أصحاب مالك :شهدت مالك سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدرى، وقيل ربما كان يُسأل عن خمسين فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول من أجاب في مسألة فينبغى من قبل أن يجيب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب عنها.

سُئل عن مسألة فقال لا أدرى، فقيل له إنها مسألة خفيفة سهلة. فغضب وقال: ليس في العلم خفيف أما سمعت قول الله (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا).

 وسُئل الشعبى عن شيء فقال لا أدرى فقيل له ألا تستحى أن تقول لا أدرى وأنت فقيه العراق؟ فقال لكن الملائكة لم تستح عندما قالت (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) وصدق أبو الذيال حين قال تعلم لا أدرى فإنك إن قلت لا أدرى علموك حتى تدرى وإن قلت أدرى سألوك حتى لا تدرى.

وقال عبد الله كنت أسمع أبى كثيراً يسأل عن المسائل فيقول لا أدرى ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثيراً ما كان يقول سل غيرى فإن قيل له من نسأل ؟ قال سلوا العلماء.

هكذا حال العلماء إمساك اللسان عن الفتيا لا الإسراع فيها سواء كان هؤلاء العلماء من الصحابة أو من التابعين أو تابع التابعين إلى أن جاء القرن الرابع وما بعده بدأ التقليد المذموم والتعصب البغيض والتشنيع على من يخرج عن آراء المذهب ومرت على الفقه الإسلامى فترة جمود قيل فيها قفل باب الاجتهاد ولا ندرى من الذي أغلقه وكيف؟ والناس تجدّ لها مشاكل وأحوال يحتاجون إلى النظر فيها وهي تختلف عن سوابقها فلكل زمان مشاكله وظروفه فكيف يغلق باب الاجتهاد؟  يجب أن نعلم أن الممقوت ليس إتباع مذهب ولكن الممقوت هو التقليد مع القدرة على الاجتهاد بعد أن تتحقق شروطه كما ذكرت، ولذلك سمعنا من الأئمة كلمات تثلج الصدور عند الاجتهاد:

يقول الإمام أبو حنيفة : هذا أحسن ما وصلنا إليه فمن رأى خيراً منه فليتبعه.

وقد سأله بعض الفقهاء : أهذا الذي انتهيت إليه هو الحق الذي لا شك فيه؟ فقال الإمام : لا أدرى لعله الباطل الذي لا شك فيه، ويقول الإمام الشافعى : أى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى إذا جاء حديث رسول الله r وخالفته، إذا صح الحديث فهو مذهبى.

ولذلك رأى الإمام أبو حنيفة تلميذه أبا يوسف يكتب ما يقوله فقال له: ويحك يا يعقوب أتكتب كل ما أقول إنى قد أرى رأياً اليوم وأخالفه غداً وقد أرى الرأي غداً وأخالفه بعد غد"، ذلك لأن الناس لم تفهم أن أقوال الفقهاء ليس دينًا يتبع ، وما دعوا هم الناس إلى إتباعهم بل دعوهم إلى إتباع الدليل الذي يوصل إلى الحق ولو خالف أقوالهم لو كانوا أهلاً لذلك.

وصدق القائل : إن أقوال الفقهاء بالنسبة للشريعة كمثل أغصان الشجرة تتشعب وتتفرع والأصل الذي انبعث عنه واحد يغذى جميع الأغصان المتفرعة.

بقى أن تعلم أن الاجتهاد يعمل في منطقتين:

إحداهما : منطقة ما لا نص فيه مما تركه الشارع لنا قصداً منه ورحمة غير نسيان.

ثانيهما: منطقة النصوص الظنية سواء أكانت ظنية الثبوت ومعظم الأحاديث النبوية كذلك، أو ظنية الدلالة ومعظم نصوص القرآنية كذلك.

وهكذا ترى الإمام البنا يضع الضوابط في كل شيء فعلى من لم يبلغ درجة النظر أن يتبع إماماً من أئمة الدين ويحسن به مع الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته وبذلك يحث القادر على الاجتهاد أن يجتهد ويحث الذي يتبع إماماً أن يجتهد في تحصيل العلم ويستكمل فقهه العلمي حتى يبلغ درجة النظر. وهذا ما يوافق ما قاله العلماء الأثبات في كل زمان ومكان.

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق