سمعت أخيراً ([1]) أن طالباً قدم للجامعة بحثاً يثبت فيه أن
الإسلام نظام إقطاعي ، وأنه نال على هذا البحث درجة الماجستير !
وعجبت للطالب والأساتذة في آن واحد . وقد يكون الطالب جاهلاً ، أو قد يكون سيِّء
النية .
أما الأساتذة العظام الأجلاء فما بالهم ؟ وكيف ينحدرون إلى هذا المستوى في فهم النظم الاجتماعية
والاقتصادية ،
وفهم وقائع التاريخ ؟
ولكن
العجب زال حين تذكرت من هم أولئك الأساتذة الأجلاء .
أليس هؤلاء من الجيل الذي صنعه الاحتلال على عينه ،
ليفسدوا مَنْ
بعدهم من الأجيال ؟ أليسوا هم الذين
عنى بهم دنلوب عناية خاصة ،
فحرص على إرسالهم إلى أوربا ليزدادوا " علماً "
أو ليزدادوا في الحقيقة بعداً عن مقوماتهم الحقيقية ،
ونفوراً من دينهم وتقاليدهم ،
واحتقاراً لذواتهم وتاريخهم
وعقائدهم ؟
بلى ، إنهم أولئك .
فلا عجب ولا استغراب !
ما
هو الإقطاع أيها السادة الأجلاء ،
وما هي مقوماته ؟
ننقل هنا وصفاً له ،
كتبه الدكتور راشد البراوي في كتابه " النظام
الاشتراكي "
منقولاً بطبيعة الحال عن المصادر الأوربية :
" ونظام
الإقطاع عبارة عن أسلوب من الإنتاج ، الصفة المميزة له هي التبعية الدائمة serfdom ويعرفونه بأنه نظام في ظله يلتزم المنتج المباشر
نحو سيده أو مولاه بأداء مطالب اقتصادية معينة ، سواء أكانت تلك
المطالب
تؤدي
على هيئة خدمات يقوم بها ،
أم على شكل مدفوعات "
أو استحقاقات " يؤديها نقداً أو عيناً . ولتوضيح ذلك نقول :
إن المجتمع الإقطاعي كان ينقسم إلى طبقتين : الأولى وتشمل ملاك
الأبعاديات الإقطاعية .
والثانية وتتكون من المزارعين على اختلاف مراتبهم ، فمنهم الفلاحون
والعمال الزراعيون والعبيد ،
وإن كان عدد الآخرين ظل يتناقص
باطراد وسرعة .
فهؤلاء الفلاحون ،
أي المنتجون المباشرون ،
لهم الحق في حيازة مساحة من الأرض يعتمدون عليها بوسائلهم في كسب معاشهم
وإنتاج ما يلزمهم
من أسباب العيش ،
كما يمارسون في بيوتهم الصناعات البسيطة التي تتصل بالزراعة .
ولكنهم مقابل ذلك يلزمون بأمور عدة مثل الخدمة الأسبوعية في أرض الشريف مع آلاتهم
وماشيتهم ،
والخدمة الإضافية في المواسم الزراعية ، وتقديم الهدايا في الأعياد والمناسبات
الخاصة ،
وعليهم كذلك أن يطحنوا غلالهم في المطاحن التي يقيمها الشريف وأن يعصروا كرومهم في
معصرته …
"
وكان الشريف يمارس أمور الحكم والقضاء ، أي أنه يشرف على
تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية بالنسبة إلى أهل منطقته .
" … غير أن هذا المنتج
المباشر في ظل النظام الإقطاعي لم يكن حراً بالمعنى الذي نعرفه فيما بعد ، فهو لا يملك الأرض
ملكية كاملة ،
ولا يستطيع التصرف فيها بالبيع
والتوريث أو الهبة ،
وكان يؤدي أعمال السخرة في أرض الشريف الخاصة رغماً عنه وضد مصلحته ، وعليه أن يؤدي
ضريبة- غير محدودة المقدار- اعترافاً بعلاقة التبعية ، وهو ينتقل مع الأرض
إذا ما انتقلت هذه من يد إلى أخرى . وليست له الحرية المطلقة في مغادرة
مكان العمل أو محاولة الالتحاق بخدمة سيد آخر . فهو إذن يمثل حلقة
متوسط بين العبد في العصور القديمة ، والمزارع الحر في العصر الحديث .
"
... فالمالك
هو الذي يحدد مساحة الأرض التي يهبها للفلاح ، وهو الذي يحدد
مقدار الخدمات التي يطلب من الأجير أداءها وهو في قراراته هذه لا يتقيد بتصرفات الملاك
الآخرين ،
ولا يستجيب لمطالب الفلاحين .
ثم
يقول :
" وهنا بدأت في القرن الثالث عشر حركة هجرة غير مشروعة من جانب العمال
الزراعيين ،
وهي الحركة المعروفة باسم " فرار الفلاحين " . وحاول الملاك استرداد الفلاحين الهاربين ، فعقدوا فيما بينهم
اتفاقات تقضي بأن يقبض كل مالك على العمال الذين يصلون إلى إقطاعيته ، غير أن عملية الفرار هذه كانت ظاهرة
عامة ، وشعر كل مالك بحاجته إلى العمال لمزاولة الزراعة ، فبدأ التحرر من هذه
الاتفاقات ، وهكذا أخفقت محاولة التعاون بين الملاك ، وهنا رأى الأخيرون أنه لا بد من
علاج آخر ،
فاتجه التفكير إلى إحلال الأجور النقدية محل السخرة الإجبارية .
"
وتمكن كثيرون من الفلاحين من تكوين فائض . واستغلوا حاجة
الأمراء والملاك الإقطاعيين ، فاشتروا حريتهم الشخصية . وإذا كانت هذه الظواهر لم تصبح تقاليد
شائعة حتى القرن الرابع عشر ، فالمهم أن الأسس التي كان يقوم عليها
المجتمع الإقطاعي قد أخذت تتقوض ، وهي عملية اطرد تقدمها في القرون
التالية ([2]) " .
تلك
مقومات الإقطاع ،
نقلناها
بتفصيلاتها لتتضح صورتها في أذهاننا ولا تختلط علينا بغيرها من المظاهر والأشكال . فمتى وأين يا ترى
حدث في الإسلام مثل هذا الإقطاع ؟
لعل
المظهر الذي يشتبه على بعض الباحثين ، أو الذي يستغله
المغرضون ليقلوا منه الشبهات حول الإسلام ، هو انقسام المجتمع
الإسلامي لفترة من الوقت إلى ملاك للأبعاديات ، وفلاحين يعملون في
هذه الأبعاديات .
ولكن هذا مجرد مظهر ،
وهو خال من الدلالة الزائفة التي يلصقها به هؤلاء وهؤلاء . ولنعد إلى المقومات
الأساسية للإقطاع لنوازن بينها وبين ما حدث في المجتمع الإسلامي . إنها :
أولاً : التبعية الدائمة Serfdom
ثانياً : الالتزامات التي
يلتزم بها الفلاح نحو السيد ، وتشمل :
(أ) الخدمة المجانية الإجبارية في أرض
الشريف يوماً كل أسبوع .
(ب) الخدمة المجانية الإجبارية في المواسم .
(ج)
تقديم الهدايا في الهدايا والمناسبات ( ويلاحظ هنا أن
الفلاح الفقير هو الذي يقدم الهدايا للسيد الغني ! )
(د)
طحن الغلال في مطحنة الشريف ( ونغض النظر عن عصر الكروم فالخمر
محرمة في الإسلام ) .
ثالثاً : تحديد الشريف - حسب هواه - لمقدار الأرض
الممنوحة لرقيق الأرض والخدمات والضرائب المطلوبة منه .
رابعاً : ممارسة الشريف
لأمور الحكم والقضاء حسبما يقضي به مزاجه الخاص لعدم وجود قانون عام .
خامساً : اضطرار الفلاحين
إلى شراء حريتهم بالمال حين آذن هذا النظام بالانهيار ..
وبعد
فهذا
هو التاريخ الإسلامي مفتوحاً للجميع ، فليبحثوا فيه عن مثل هذه
المقومات !
أما
التبعية الدائمة فمسألة لم يعرفها الإسلام قط في خارج دائرة الرق ، وقد شرحنا في الفصل
السابق أصوله وأسبابه ووسائل التحرر منه . وليس في الإسلام رق
للأرض .
وإنما كان الأرقاء الذين جاءوا عن طريق الحرب وهم قلة على أي حال بالنسبة لمجموع
السكان ، يعملون في أرض
السادة إذا كانوا لم يعتقلوا تطوعاً ولم يطلبوا الحرية مكاتبة . ولكن هذا ليس
المقصود بالتبعية الدائمة في الإقطاع الأوروبي . وإنما المقصود - إلى جانب وجود
الأرقاء -
تبعية الفلاحين والعمال الزراعيين جميعاً . وهم ليسوا أرقاء
للسادة ،
ولكنهم أرقاء للأرض ،
لا يملكون تركها ولا التحرر من الالتزامات الملقاة على عاتقهم لأصحابها .
وهذا
اللون من الرق أو التبعية هو الذي لم يوجد أبداً في الإسلام .
ذلك
أن الإسلام -
من حيث المبدأ -
لا يعترف بعبودية ولا تبعية إلا لله خالق الحياة . أما التبعية
لمخلوقات الله فليست أصلاً من أصوله . وإذا كانت قد وجدت
في الرق -
لظروف خاصة وعارضة -
فهي حالة موقوتة يعمل الإسلام على إزالتها بكل الوسائل ، ويشجع الأرقاء
أنفسهم على التخلص منها ، ويمنحهم معاونة الدولة ورعايتها .
ثم
إن الإسلام -
من الوجهة الاقتصادية -
لا يقيم بنيانه الاقتصادي على تبعية إنسان لإنسان ، فيما عدا حالة الرق
التي أشرنا إليها ،
والتي لم يكن لها مخلص اقتصادي في ذلك الحين ، حتى تتحرر نفوس
الأرقاء من الداخل ويحتملوا تبعة أنفسهم فيعملوا أحرارا ً، وعند ذلك يمنحهم
الإسلام حريتهم .
وإنما يقيم الإسلام بنيانه على أساس حرية العمل ، مع التعاون التام
وتبادل الخدمات بين الجميع . والدولة دائماً موجودة تعول من تقصر
به موارده عن الحياة الكريمة ، أو يعجز عن العمل لأي
سبب من الأسباب .
وما دامت كفالة الدولة موجودة ومتاحة للجميع ، فليس هناك ما يدفع
أحداً إلى استرقاق نفسه لأصحاب الأرض ، وهو يملك الحرية
والكرامة ومطالب الحياة الأساسية عن غير هذا الطريق .
فمن
الوجهة الروحية والوجهة الاقتصادية معاً منع الإسلام الإقطاع بصورته المعروفة ، وأدرك الناس قبل أن
يصبحوا رقيقاً للأرض فحررهم من وبال الإقطاع .
وأما
الالتزامات
التي يلتزم بها الفلاح لصاحب الأرض فلم يعرفها كذلك تاريخ الإسلام . لم يحدث قط - والإسلام إسلام - أن كان الفلاح
ملزماً بشيء تجاه صاحب الأرض ، وذلك لانتفاء التبعية ، وقيام علاقة حرة
بين هذا وذاك .
كانت العلاقة الوحيدة
التي عرفها الإسلام بين الفلاح وصاحب الأرض هي الإيجار أو المزارعة . وبمقتضاها يستأجر الفلاح جانباً من الأرض قل أو كثر بحسب ما تستطيع موارده ،
ويكون حراً حرية كاملة في زراعته على نفقته وجني محصوله كله لنفسه ، أو
يشارك صاحب الأرض ، فيدفع
الأخير كل النفقات ويقدم الأول جهده ،
ثم يقتسمان الناتج آخر العام .
وفي
كلتا الحالتين لا توجد التزامات إجبارية نحو " السيد " ولا سخرة ، ولا أية خدمة بلا ثمن . وإنما هو التزام متبادل بين طرفين متكافئين في الحرية
وفي الحقوق والواجبات . فالفلاح حر أولاَ في
اختيار الأرض التي يستأجرها ، أو المالك الذي يزارعه . وحر ثانياً في
التفاوض مع صاحب الأرض على قيمة الإيجار ، فإذا لم يجدها صفقة
كاسبة فله ألا يعمل في الأرض ، وليس للمالك أن يلزمه بشيء . فإذا ارتضى نظام
المزارعة فالتزاماته فيه مكافئة لالتزامات المالك ومتوقفة عليها وربحه كذلك مناصفة
مع صاحب الأرض .
ثم
إننا نجد – على العكس مما حدث في الإقطاع – أن المالك الغني هو الذي يبر فلاحيه
بالهدايا والعطايا المختلفة في الأعياد والمناسبات ، وخاصة في شهر رمضان ، وهو شهر ذو منزلة
خاصة عند المسلمين ، يكثر
فيه التزاور عند المسلمين بين الأحباب والأصدقاء ، وتكثر المآدب التي
تجمع الشمل وتبر المحتاجين . وهذا هو الأمر
المنطقي الذي يتلاءم مع طبائع الأشياء فالغني هو الذي ينفق وهو الذي يتحمل العطايا
والهدايا وليس الفقير هو المكلف بإهداء الغني ، كما اقتضت " إنسانية " أوروبا !
أما
الطواحين فقد جرى العرف في البلاد الإسلامية أن يقوم بها الفقراء ، يكتسبون عن طريقها ، ولم تكن في أيدي
الملاك يفرضون استخدامها على الفلاحين !
ومن
هنا نجد أن الالتزامات التي تأخذ صورة السخرة لم توجد في النظام الإسلامي . وإنما قامت مكانها
علاقة حرة مبنية على الاحترام المتبادل والمساواة الكاملة في الكرامة الإنسانية . أما " الالتزامات " التي كان يقوم
بها الشريف في أوروبا من حماية فلاحيه ورعايتهم ، ويقتضي ثمنها هذه
السخرة الظالمة والاستعباد المذل ، فقد كان الأغنياء في الإسلام يقومون
بها تطوعاً
بدون مقابل ،
لأنهم يأخذون مقابلها التقرب إلى الله ووفاء حقه في العبادة ، وهذا فارق حاسم بين
النظام الذي يقوم على عقيدة والنظام الذي يقوم خواء منها . ففي الأول تصبح
الخدمات الاجتماعية عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله ، وفي الثاني تصبح
عملية تجارية يحاول كل طرف فيها أن يأخذ أكبر كسب ويدفع أقل ما يستطيع ، وتصبح الغلبة في
النهاية للقوي لا لصاحب الحق .
ثم
ننتقل إلى السمة الثالثة من سمات الإقطاع ، وهي تحديد السيد
للقدر " الممنوح " من الأرض ، وتحديده كذلك
للخدمات المطلوبة من الفلاح . وهما أمران يتمشيان مع السيادة
والتبعية هناك ،
ولم يكن لهما وجود في النظام الإسلامي الذي يقوم على أساس آخر ، غير سيادة المالك
وتبعية الفلاح .
فالقدر الذي يستأجره الفلاح تحدده مقدرته المالية ورغبته الحرة ؛
وهنا تكون الخدمة من الفلاح وإليه ، ولا شأن للمالك بها
غير استيفاء قيمة الإيجار . أما في المزارعة
فمقدار الأرض التي يزرعها الفلاح يتوقف على مقدرته البدنية ، وعدد الأيدي
العاملة التي يملكها ( أولاده في الغالب ) ، والخدمة المطلوبة
هي ما تحتاج إليه هذه الأرض التي تعتبر مشتركة بين الفلاح والمالك حتى تؤتي ثمارها ، أما بقية أرض
المالك التي لم تدخل في المزارعة فلا شأن للفلاح بها ، وليس مكلفاً بأي خدمة فيها .
ولكن
أهم ما يفرق بين الإقطاع والنظام الإسلامي في الواقع ، هو ممارسة الشريف
لأمور الحكم والقضاء في نظام الإقطاع ، أي إشرافه على
تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية بالنسبة لأهل منطقته ، وانتفاء ذلك من
أساسه في الإسلام .
لم
يكن لدويلات أوربا قانون عام بالمعنى المفهوم ، وحتى القانون
الروماني الذي أصبح فيما بعد أساس التشريعات القانونية في أوربا كلها ، قد أباح للإقطاعيين
أن يكونوا هم الحكام المطلقين في إقطاعياتهم ، يشرعون لها ، ويحكمون بين أهلها ، وينفذون الأحكام
بمعرفتهم ،
فاجتمعت لهم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في آن واحد ، وكان كل منهم دولة
داخل دولة ،
لا شأن للحكومة به في داخل إقطاعيته طالما أنه يؤدي " التزاماته " المالية والحربية عند الاقتضاء .
ولم
يكن كذلك الحال
في الإسلام .
فقد كانت هناك دولة مركزية ذات قانون عام ، تشرف على تنفيذه في كل الأرض التابعة لها ، وتعين قضاة لكل
منهم سلطته المستقلة المستمدة من تعيين الحاكم له ، ليقوم بتنفيذ
الشريعة في حدود اختصاصه ، وليس لأحد عليه من سلطان إلا حين يخطئ
أو يسيء .
وحتى حين فسدت صورة الحكم فصار ملكاً وراثياً لا بيعةً حرة ، فقد بقيت المقومات
الأخرى لنظام الحكم الإسلامي قائمة راسخة ، فظلت الدولة تهيمن
على كل كبيرة وصغيرة داخل أجزائها ، وظل القانون العام مرعياً في كل مكان يتحاكم
الناس إليه في مشارق الأرض ومغاربها بطريقة واحدة – في حدود اختلاف الفقهاء بطبيعة
الحال ،
وهو أمر يحدث في كل قانون على ظهر الأرض – لذلك لم يكن هوى الشريف ولا مشيئته
الخاصة هي القانون الذي ينفذ على الفلاحين ، بل إرادة الله ، وشرعه الذي وضعه
لجميع الناس يطبق عليهم بالسوية وبصورة واحدة ، لا بين الفلاح
وصاحب الأرض فقط وكلاهما من الأحرار ، بل بين العبد
والسيد ،
حتى في الحالة الاستثنائية التي يكون فيها بشر ملكاً لبشر آخر .
ولا
شك انه حدثت حالات قضى فيها قضاة بما يخالف ضميرهم ، وما يخالف الشرع ، إرضاء لصاحب الأرض أو صاحب السلطان . ولكن هذه الأمثلة
لا يجوز أن تؤخذ على أنها القاعدة السارية . لأن الواقع
التاريخي – الذي اعترف به الأوربيون أنفسهم – يخالف ذلك . كما أنه لا يجوز أن
تؤخذ وحدها وتهمل تلك الأمثلة الرائعة في تاريخ البشرية كلها ، حين كان القاضي
يحكم للرجل الفقير الذي لا حول له ولا قوة ، لا ضد صاحب الأرض ، ولا ضد الوالي ولا
ضد واحد من الوزراء .
بل ضد الخليفة نفسه صاحب الأمر كله والسلطان .. ثم لا يعزل القاضي
، ولا
ينتقم السلطان !
كذلك
لم تحدث حركة فرار بين الفلاحين كما حدث في أوربا ، لأن الفلاحين كانوا
أحرارا في الانتقال لا من مزرعة إلى مزرعة فحسب ، بل من قطر إلى قطر
في داخل العالم الإسلامي الواسع الممتد من المحيط إلى المحيط ، لا يحبسهم عن حرية
التنقل شيء
إلا أن يكون رغبتهم الخاصة في البقاء في بقعة معينة من الأرض ، كما هي طبيعة
الفلاحين المصريين مثلاً . ولكن غيرهم من الفلاحين في العالم
الإسلامي كانوا أقل شعوراً برابطة الأرض وأكثر قدرة على التنقل ، فلم يقف في سبيلهم مانع من الموانع التي وقفت
في سبيل الفلاحين الأوربيين من تبعية والتزامات .
وأما
شراء الفلاحين لحريتهم بالمال فإنه لم يحدث بطبيعة الحال في العالم الإسلامي ، لسبب بسيط هو أنهم
كانوا أحراراً
بالفعل ،
فلا حاجة بهم إلى شراء الحرية .
يضاف
إلى ذلك كله ،
أن العالم الإسلامي كان يشتمل على عدد كبير من الملكيات الصغيرة التي يستقل بها
أصحابها ويكفون بها حاجتهم ، إلى جانب العمل في التجارة البرية
والبحرية ،
وفي أنواع الحرف الصناعية التي كانت معروفة في ذلك الحين ، مما ينفي نفياً باتاً صورة الإقطاع
المظلمة الحالكة التي خيمت على أوربا في العصور الوسطى ، وظلت تنشر معها
الظلام الفكري والجهالة الروحية ، حتى أنقذها منها الاتصال بالعالم
الإسلامي في الحروب الصليبية مرة ، وفي الأندلس مرة أخرى ، فأفاقت من غشيتها
في عصر النهضة ،
وبدأت تخرج من الظلمات إلى النور .
* * *
وهكذا
نجد أن الإقطاع لم يقم قط في العالم الإسلامي ، طالما كان الإسلام
هو الذي يحكم المجتمع ،
لأنه بروحانياته واقتصادياته ، وعقائده وتشريعاته ، لا يسمح بقيام
الإقطاع ،
ولا يسكت عن الوسائل التي تؤدي إليه . وحتى مظاهر الإقطاع
التي كانت تحف بالأسر المالكة من بني أمية وبني العباس ، فقد كانت محدودة
النطاق ولم تكن تبلغ أن تكون سمة عامة للمجتمع ، فضلاً على كونها مخالفة في
جوهرها لحقيقة الإقطاع .
وإنما
وجد الإقطاع حقاً
في البلاد الإسلامية في العصر الحديث في أواخر الحكم العثماني ، حين جفت ينابيع
العقيدة في النفوس ،
وتوالى على الحكم أقوام لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه . من الباشوات
العثمانيين ،
من أمثال محمد علي (
الكبير ! ) وأبناءه في مصر ، والبيوت المالكة في
شتى البلاد الإسلامية ،
وزاد الأمر سوءاً
حين طغت الروح الأوربية المادية الجاحدة على ربوع العالم الإسلامي بتأثير الاحتلال ، فأفسدت روح البر
والتكافل في المجتمع ،
وحولتها إلى استغلال بشع من الأغنياء ، وذل وعبودية
للفقراء ،
في التفاتيش الملكية وتفاتيش الأمراء وغيرهم من كبار الإقطاعيين ، وما يزال هذا
الإقطاع يعيش بكل مقوماته – الأوربية – في كل مكان لم تشمله روح الإصلاح ، وهو ليس من الإسلام
، وليس
الإسلام مسئولاً عنه ، لأنه لا يكون
مسئولاً
إلا حين يحكم .
والذي يحكم اليوم هو الدساتير الأوروبية التي جاء بها قوم من تلاميذ الاستعمار
يتشبثون بها كما يتشبث العبيد بذل الاسترقاق !
* * *
ومن هذا البحث نستطيع أن نستخلص جملة حقائق
تنفعنا ونحن نستعرض صراع المبادئ والمذاهب الذي يشتد أواره اليوم في العالم الحديث .
من
هذه الحقائق :
أولاً : انه ليست الملكية
في ذاتها هي التي تنشئ الإقطاع بطريقة حتمية لا إرادة للإنسان فيها . و إنما هي طريقة التملك
وطبيعة العلاقة بين الملاك وغير الملاك .
ولذلك وجدت الملكية في العالم الإسلامي ولم يوجد الإقطاع ، لان النظام
الإسلامي بنظرياته وتطبيقاته ينشئ بين الناس علاقات لا تسمح بقيام الإقطاع .
ثانياً : أن أوربا حين وقعت
في الإقطاع تقع فيه لأنه طور اقتصادي طبيعي لا بد أن تمر فيه البشرية أرادت أم لم ترد ، وإنما هي انحدرت
إليه بسبب عدم وجود نظام ولا عقيدة تنظم مشاعر الناس وتنظم علاقاتهم . ولو وجد النظام
والعقيدة – كما حدث في الإسلام – لما استعصت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية على
التنظيم ،
ن ولما كان التطور الاقتصادي قوة جبرية على الأفكار والمشاعر تمنع توجيهها إلى حيث
يراد لها من التحرر والارتفاع .
ثالثاً : أن الأطوار
الاقتصادية التي ترسمها نظرية المادية الجدلية على أنها تاريخ عام للبشرية ، وهي : الشيوعية
الأولى ،
والرق ،
والإقطاع ،
والرأسمالية ،
والشيوعية الثانية ،
لا تمثل في الواقع إلا تاريخ أوربا فقط ، ولا تتقيد بها إلا
أوربا ،
أما بقية العالم فليس حتماً أن يسير في هذه الأطوار- وقد رأينا أن
العالم الإسلامي لم يمر بالإقطاع في دورة
التاريخي – وليس حتماً
كذلك أن يصل إلى الشيوعية في نهاية المطاف !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق