السبت، 29 فبراير 2020

طاولة السفرة .. !

طاولة السفرة
دعا الأخ إخوانه إلى الطعام ، وطار مسرورا وفرحا بتلبية الدعوة ، واجتماع الشمل ، فالحياة متع ، ومن أمتع متعها عند الصالحين اجتماع الأخوة في الله على الطعام ، وكلما زاد السرور والحبور ، وأقبل أهل البيت على إعداد الطعام بشوق ونفس طيبة ، لأنه طعام يقدم للصالحين الأتقياء .
استعدت الأسرة لاستقبال هذه القلوب الخيرة ، لتناول الطعام ، وليسود الوثام ، ويفوز أهل البيت بدعاء الصالحين . فاجتهدت ربة البيت ، وقدمت الطعام البسيط ، في تنسيق بديع ، وطهي متقن . ووضعت ذلك على طاولة نظيفة ، صفت حولها الكراسي بعدد الحضور .
فلما تم الأمر ، واطمأن صاحب الدعوة على التنسيق الطعام ، وحسن توزيعه أمام الضيوف ، وحانت لحظة الانتقال ؛ تقدم فدعا إخوانه إلى الطعام في الحجرة المجاورة .
انتقلوا إلى الحجرة المجاورة ، وما إن تقدم أحدهم ـــ وقد كان شابا متحمسا للإسلام مسموع الكلمة بينهم ـــ حتى رفض الأكل على الطاولة ، معتبرا ذلك مخالفة للسنة ، فإن النبي (ص) (( لم يأكل على خوان قط)).
أحدث الموقف ضجة وربكة ، وأثار امتعاضا وبلبلة ، وتقدمت الأيد فرفعت الطعام عن الطاولة ، فمن حامل للصحون ، إلى حامل للملاعق ، إلى رافع الأكواب ...و...و...
أخرجت الطاولة حتى يتسع المكان ويتمكنوا من فرش الأرض ، وأخرجت الكراسي حيث لا لزوم لها ، وفرشت أوراق الجرائد!!! ووضع الطعام عليها ، وتحلق القوم بين راض وساخط ، مقر ومعترض .
أما صاحب الدعوة فقد آلمه هذا الصنيع ، وأفقده الإحساس بالرضى ، ومما لا شك فيه أن أهله أشد منه امتعاضا ، فما من امرأة في الوجود إلا وتعتبر جودة الطعام ، ودقة إعداده ، وحسن تنسيقه من أهم اختصاصاتها ، يسعدها الثناء عليها في ذلك ، ويسوؤها أن تضيع جهودها عبثا ويؤلمها أن تتفوق امرأة أخرى عليها
أكلوا الطعام بين راض وساخط ، مستريح ومنغص عليه ، وكثرت الاعتراضات والمداخلات والتساؤلات حول الابقاء على منضدة السفرة أم إلغائها واستبدالها بجلسة أرضية
...و...و...
الإسلام دين الذوق الرفيع ، والإحساس المرهف ببدائع صنع الله ، وهو دعوة إلى الترقي في حياة الفرد المسلم ، وفي حياة الجماعة المسملة يوما بعد يوم .
والإسلام مع التطور والتقدم نحو الرقي والكمال بمعناها الحقيقي الذي يجعل الإنسان في سعادة وهناء ، لا التطور الوهمي الواقف عند القشور غير النافذ إلى اللباب . ولقد نعى القرآن الكريم على أولئك الجامدين الواقفين عند القديم ـــ من حيث هو قديم ـــ دون استخدام العقل فيما يفيد الإنسان ، فقال تعالى : ((قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون) [الشعراء:74ـ76]. والإسلام لا يمانع أن نكتسب عادات حسنة من غيرنا ، إن كانت صالحة لنا وللحياة ، وليس لها تأثير سلبي على عقيدتنا ، بل يحصن أتباعه على البحث عن كل نافع في الحياة يعين على أمر الله في يسر وسهولة ، وكلما كان الأمر أيسر على الإنسان ، كان الإسلام إليه أميل ، ما لم يكن إثما أو قطيعة رحم .
ومن المسلمات أن رسول الله (ص) عندها أرسل ، لم يرسل لنسف قواعد المجتمع القائم من أساسها ، ولكنه بعث لتصحيح الانحراف في العقيدة ، وما تبعه من انحراف وخلل في السلوك . أما ما كان حسنا ، موافقا الفطرة والهدى ؛ فقد أقرهم عليه ولم يلغه . وهذا واضح تماما في موضوع الأنكحة في الجاهلية ، حيث أبطل ما لا يتفوق والفطرة ، وأبقى الأسلوب أو النهج الحسن ، الذي يرضى عنه االله تعالى ، وفيه مصلحة الأطراف جميعها . ففي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة (رضي الله عنها) زوج النبي (ص) أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء ، منها نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ، وهذا الذي أقرهم الاسلام عليه وألغى الثلاثة الأخرى وهي :نكاح الاستبضاع ، والعشرة يدخلون على المرأة الواحدة ، والبغاء (1) . وواضح أيضاً في موضوع حلف الفضول الذي قال عنه الرسول (صلى الله عليه وسلم): (( لو دعيت به في الإسلام لأجبت ))(2).
فهو إذن لا يلغي كل شيء من المجتمع ، بل يلغي السيىء ، ويبقى على الحسن .
ومن المعلوم أيضاً أن السنة : قول أو فعل أو تقرير ، وعندما يقر النبي (صلى الله عليه وسلم) إنساناً على شيء فقد وافقه ، ويلمح في الإقرار جانب طبيعة الناس وعاداتهم المتأصلة فيهم ، فهو إن أقر شيئاً ، أقر عادة أو فهماً أو رأياً أو سلوكاً ، وهذه الأمور لا تنبت من فراغ ، بل من خلفية عند الإنسان ، هي المجتمع وما يسود فيه من قيم فكرية أو سلوكية... الخ.
أما السنة الفعلية ، فهي تصنف تحت العزائم ،فما يفعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد لا يستطيع فعله عموم الناس ، فمن يستطيع أن يصوم صومه ؟ أو قيامه؟ أو يذكر الله ذكره ؟... الخ ولذا فهي لأصحاب العزائم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الحديث في فتح الباري ج9 ص 150.
(2) فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 75 ط الرابعة دار الكتب الحديثة .
أما السنة القولية ، فهي تصنف في الرخص ، وهي لعامة الناس وخاصتهم ، ولذا يقول (صلى الله عليه وسلم) : (( ... فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ))(1).
ومن المعلوم أيضاً ، أن سلوك الرسول (صلى الله عليه وسلم) في حياته قسمان : قسم لكونه نبي ، فنحن متأسون به فيه ، ولنا الأجر لقوله تعالى : (بقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [ الأحزاب:21]. وقس خاص به لكونه بشر ، نقلده ونتبعه إن أردنا ، دون إلزام ، أو لا تتبعه فيه دون أن يكون علينا إثم أو مؤاخذة ، من ذلك: عدم أكله الضب ن فلما قال له خالد بن الوليد (رضي الله عنه) : أحرام الضب يا رسول الله ؟ قال: ((لا ، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعاقة )) (2) فهذا جانب شخصي بحت .
هذه مقدمة تيسر لنا الدخول في صلب موضوعنا ، وهو تناول الطعام على طاولة السفرة .
أما الحديث الذي استشهد به المعترض على طاولة السفرة فهو لأنس (رضي الله عنه) وله روايتان في صحيح البخاري :
الأول : عن قتادة عن أنس (رضي الله عنه) قال : لم يأكل النبي (ص) على خوان حتى مات ، وما أكل خبزا مرفقا حتى مات ))(3).
(1) متفق عليه . اللؤلؤ والمرجان ص 309 حديث 846 .
(2) متفق عليه . اللؤلؤ والمرجاني ص 507 حديث 1273
(3) فتح الباري ج 11 ص 234
والثانية : عن قتادة عن أنس (رضي الله عنه) قال : ما علمت النبي (ص) أكل على سكرجة قط ، ولا خبز له مرفق قط ، ولا أكل على خوان قط . قيل لقتادة فعلى ما كانوا يأكلون ؟ قال : على الشفرة)) (1) .
ورد في هاتين : الروايتين ثلاث كلمات ، في حاجة لتوضيح وهي : خوان ، سكرجه ، السفر.
أما الخوان : فهو المائدة ما لم يكن عليها الطعام ، وهي ما يؤكل عليه ، أو يوضع عليه الطعام للأكل ، وهو شيء مرتفع عن الأرض ، ويشبهه في زمننا هذا المنضدة (الطاولة) والطبلية ، وكل ما يرتفع عن الأرض . والكلمة (خوان) معربة .
والسكرجة : قصعة مدهون، وقيل قصعة لها قوائم ، وهي أيضا إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الإدم . وهي (فارسية) . ويشبهها في زماننا الصحون العميقة والسلطانيات ... الخ ..
والسفر : جمع سفرة ، والسفرة طعام المسافر ، وما يحمل فيه هذا الطعام من منديل ونحوه ، وسميث سفرة لأنها تبسط إذا أكل عليها .
ويشبهها في زماننا مفارش النايلون ، والخوص ، والورق ، والمشمع ... الخ ما يوضع على الأرض مباشرة (2) .
والسؤال الآن : لماذا لم يأكل النبي (ص) على هذه الأشياء أو فيها أو يستعملها؟
(1) فتح الباري ج 9 ص 438
(2) انظر في هذا الشرح : فتح الباري ، لسان العرب المحيط ، المعجم الوسيط.
والجواب : إما لأنها كانت غير معروفة لهم ، أو معروفة ولكنها غير منتشرة . وإما زهدا من النبي صلى الله عليه وسلم .
ولنناقش هذين الجوابين حتى نصل إلى الحقيقة ، ولنقف عند الجواب الأول : أنها غير منتشرة عندهم وفي زمانهم .
قال العسقلاني في الفتح ( ج 9 ص 438)
: (( قال شيخنا في شرح الترمذي : تركه الأكل في السكرجة إما لكونها لم تكن تصنع عندهم غذ ذاك ، أو استصغارا لها ، لأن عادتهم الاجتماع على الأكل ،
أو لأنها ... كانت لوضع الأشياء التي تعين على الهضم ، ولم يكونوا غالبا يشبعون ، فلم يكن لهم حاجة بالهضم)).
ويؤكد هذا الرأي أن أنسا ( رضي الله عنه) كان من آخر الصحابة وفاة ، فقد عمر حتى بلغ مئة وثلاث سنين ، ومات سنة ثلاث وتسعين من الهجرة (1) في خلافة الوليد بن عبد الملك (3) وقد استعمله أبو موسى الأشعري (رضي الله عنه) عندما كان واليا على البصرة ، فجعله عاملا له على فارس (3) .
إذن فقد عاش أنس (رضي الله عنه) حتى فتحت البلاد مثل فارس والروم ، واختلطت الشعوب ، ودخلت عادات وكلمات لم يكن للعرب عهد أو علم لها ، أو كان لهم ، ولكنها لم تكن منتشرة في محيطهم مثل خوان وسكرجة . وهذا يؤكد أن كلام أنس (رضي الله عنه)
_______________________
(1) أنس بن مالك لعبد الحميد طهماز ص 174
(2)تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 209
(3) أن بن مالك لعبد الحميد طهماز ص 157
عنه ) حدث بعد انتشار هذه الأشياء في بيوت المسلمين على أثر احتكاكهم بالفرس ، لا سيما وقد عمل أنس (رضي الله عنه) في بلاد فارس ـــكما تقدم ـــ.
ومما يقوى هذا الرأي ، أن المسلمين الأوائل كان فيهم الأغنياء والسادة ، ولم نقرأ أو تسمع أنهم كانوا يملكون شيئا من تلك الأشياء ، مع علمنا أن النبي (ص) كان يأكل في بيوت بعضهم وعلى موائدهم ، ولا يعقل ألا يستخدموها إذا كانت متوفرة في بيئتهم .
أما الجواب الثاني : أنه لم يأكل عليها أو يستخدمها زهدا منه فقد أورد العسقلاني في الفتح (ج11ص234) قول ابن بطال : ((تركه عليه الصلاة والسلام الأكل على الخوان وأكل المرفق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختبارا لطيبات الحياة الدائمة)).
ونحن لا نميل الى هذا الرأي ، لأن النبي (ص) لم يكن في زمانه وفي مجيطه من يأكل على أو في هذه الأشياء ويستخدمها ، رغم أن فيهم الأغنياء والسادة ـــ كما أسلفت ـــ ولم يؤثر عن النبي (ص) أنه امتنع عن الأكل عند بعضهم لأن عنده خوان أو سكرجة أو ما شابه ذلك بدافع الزهد أو الترفع عن نعيم الدنيا. قال ابن القيم تعليقا على موضوع الضب : (( بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله)) (1) فقضية العادة واردة ، وكما هو معروف من حياة النبي (ص) أنه كان لا يجد ما يملأ به بطنه ، فإن وجد أكل وتنعم ، فقد
(1) زاد للعاد ج 4 ص 217
أكل الثريد (1) واحتز من كتف الشاة (2) واختص بطعام أو شراب اتحافا له (3) . وهو أعلم خلق الله بقوله تعالى : (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) [الأعراف:32] وهو الملام في قوله تعالى : ( يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك ولله غفور رحيم) [التحريم:1] أتراه بعد ذلك يقف هذا الموقف ؟!
كما أن الأكل في هذه الأشياء أو عليها لا ينافي الزهد ، لأن الزهد ليس في هذه ليس في هذه الأمور ، بل قد يأكل المرء ويلبس ويتنعم في الحياة وهو من أزهد الناس ، قال سفيان الثوري : الزهد في الدنيا قصر الأمل ، وليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء ، وقال الحسن البصري : ليس الزهد في الدنيا يتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وكان الفضيل بن عياض يقول عمن ترك الطيبات من اللحم والخبيص للزهد : ما للزهد وأكل الخبيص ، ليتك تأكل وتتقى الله ، إن الله لا يكره أن تأكل الحلال إذا اتقيت الحرام (4) ...
يتبين لنا من السود السابق أن النبي (ص) لم يأكل على خوان أو في
(1) رواه البخاري من حديث أنس (رضي الله عنه) . روضة المحبين لابن القيم ص 398
(2) متفق عليه . اللؤلؤ والمرجان ص74 حديث 201
(3) حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري . انظر فتح الباري ج9ص205
(4) من كتاب مخطوط للمؤلف بعنوان ((وفقيد آخر))
سكرجة لأنها كانت غير مألوفة ولا متوفرة في زمانهم ولا محيطهم ، وليس للزهد أو التقشف .
ثم إن حديث أنس (رضي الله عنه) بروايتيه ، ليس الإلزام،ولكنه مجرد إخبار ، والإخبار غير ملزم إذا أخذنا بعين الاعتبار موضوع السنة من قول أو فعل أو تقرير .
ويؤكد عد الإلزام أن أنسا نسفه (رضي الله عنه) كان له خوان يأكل عليه ، ويتمتع بالطيبات . أورد العسقلاني في الفتح (ج9ص437) : ((عن قتادة ؛ كنا تأتي أنسا وخبازه قائم ، زاد ابن وماجه : وخوانه موضوع . فيقول : كلوا ، وفي الطبراني من طريق راشد بن أبي راشد قال : كان لأنس غلام يعمل له النقانق ويطبخ له لونين طعاما ويخبز له الحواري ويعجنه بالسمن )).
ولو كان الأمر ملزما ، لكان أنس (رضي الله عنه9 أول وأسرع من يلتزم ، ثم إن الأحاديث التي تخبز عن حياة النبي(ص) يهذه الصيغ كثيرة (( ما شبع رسول الله (ص) في يوم شبعتين)) (( ما شبع رسول الله (ص) من غذاء وعشاء)) ((ما جمع بين غداء وعشاء ثلاثة أيام ولاء)) (( ما رأى رسول الله (ص) منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه إليه))(1)
والإخبار هنا لا يخرج عن قول من يقول في زماننا هذا : (( ما علمت أن النبي (ص) ركب في غواصة قط )) أو (( ما علمت أن النبي (ص) رأى الأهرامات قط)) أو (( لم يأكل النبي (ص) الموز حتى
(1) انظر في هذه الأحاديث الترغيب والترهيب ج 4 ص 190ـ200 .
مات)) لا فرق بين هذه العبارات وتلك التي في حديث أنس (رضي الله عنه) .
كما ان النفي في الحديث تضمن عدة أشياء منها : ما أكل مرفقا . ونحن الآن نأكل المرقق بلا حرج ، ونأكل لب القمح ، بل لب القمح هو الغالب على دقيق الناس اليوم ، وأكثره وفرة حتى تكاد تعجز أن تجد دقيقا بنخالته في ظل المطاحن الحديثة والدقيق المستورد ، بينها النبي (ص) ـــ بأبي وأمي ــ كان يأكل مطحون الشعير بلا منخل ، لقلة الطعام وعدم توفره هذه الأشياء كما أسفلنا .
وخلاصة القول :
أن الاسلام يحث على طلب كل ما يسر الحياة للناس من غير إثم ، والطاولة من تيسير الحياة ، لاسيما إذا وجدت ، وربات البيوت أعلم الناس بذلك ، كما أن هناك فئة من الناس لا تحسن التربع أو الجلوس أرضا لأسباب خلقية ( جسدية )
وأن الإسلام مع الرقي والتطور الذي لا يمس عقيدة الناس وسلوكهم بسوء ، وهو دين شامل للناس جميعهم ، وللبيئات كافة في كل زمان .
وأن طاولة السفرة لا ارتباط بينها وبين الزهد أو التواضع من قريب أو بعيد ، فقد يكون الكبر مع الأكل على الأرض ، كما يكون مع الأكل على الطاولة ، والعكس أيضا صحيح .
وأن الاهتمام بمثل هذه القضايا وجعلها محور الحياة ، يصرف الناس والشباب عن أشياء أهم وأنفع لهم والسلام وللدعوة .

تغيير المنكر وأحكامه

تغيير المنكر
رجع الشاب من مغتربه بعد غياب سنة كاملة ، كان فيها مكدا مجدا ، رجع بمبلغ من المال يرفع عن أسرته نير الديون ، ويعطيها دفعة إلى الأمام نحو الاستقرار والعيش الكريم ، رجع إذن بغنى مادي نسبي . ولكن الغنى الأكبر في حياته ، كان في لفهم الذي بدأ يتغلغل في عقله عن طبيعة هذا الدين ، وفي الحب الجارف الذي سيطر على كيانه لنصر الإسلام والدعوة إليه ، وحمل القاضي والداني من الأقارب والأحباب والأصحاب على الالتزام به ، والسير على نهجه .
وللغنى غوائله ، ولجريان المال في اليد فعله الساحر الذي يزلزل كيان الإنسان ، ويهز قواعد الثبات عنده ـــ إلا من حرم الله ـــ وصف الله هذه الحالة بقوله : ( كلا إن الإنسان ليطغى ، أن راه استغنى )
[ العلق : 6ـ7 ].
فهو طغيان بأي شكل من الأشكال كان .
والناس مع الغني يتنازلون عن الشيء الكثير ، وأقرب تنازلاتهم التسليم له بما يقول أو يفعل ، وأضعف الإيمان السكوت عن رضى أو مداراة .
وللحماس أيضا غوائله ، من الاعتزاز بالنفس ، والاغترار بالبضاعة القليلة من الفهم أو العلم ، وما يتبع ذلك من استعلاء على الآخرين ، وتطاول على المتقدمين ، وحمل الناس بالحق أو بالباطل على موافقة صاحبه على رأيه أو موقفه ، واتهام المخالفين بالمروق من الدين ، أو الفهم السقيم .
عاد الشاب المغترب بغنى مادي نسبي ضمن له السكوت من الآخرين ، وبحماس ملتهب جعله كالسيل لا يقف ، ولا يلتفت إلى جانبي الوادي ، يجرف في طريقه كل معترض أو مخالف .
الفرحة نعم البيت بالأخ الأكبر والابن البكر الذي عاد بعد غياب سنة كاملة ، لأول مرة في حياته وحياتهم ، وجد أخيه العروس التي لم يمض على زواجها ستة أشهر في البيت تنتظره مع بقية العائلة ، وبعد أن سلم وجلس ، وتبادل الفرحة معهم ، لاحظ التغير على أخيه في ملبسها وزينتها ، فقد أصبحت زوجة ، وهي الآن في شهور العسل ...
امتعض لهذه الملابس القصيرة ، التي تكشف عن الساقين ، والشعر المكشوف ، والزينة الواضحة ، التي لا تختفي عن قريب أو بعيد ، فغضب غضبة مضرية ، وأمر أخته بتبديل هذه الثياب ، وعدم الخروج بها إلى الشارع ، مهما كانت الظروف ، ولو كانت رغبة الزوج نفسه ، لأنها مخالفة لأمر الله ، و((لا طاعة المخلوق في معصية الخالق )) .
فاشتد النقاش ، وعلا الصوت ، فحسم الأب القضية بإرجاء الحوار والحديث في هذا الموضوع إلى ما بعد .
شعر الشاب المتحمس أنها مناورة ، وأنهم لن يستجيبوا لدعوة الله التي يحملها لهم من مغتربه ، وهم المسلمون !! ولكن فتنة المدينة الحديثة ، وحب التقليد ومسايرة العصر طغت عليهم ، وهو يريد إرجاعهم إلى حظيرة الإسلام ، إلى التدين الصحيح .
مضت الأيام وهم لا يستجيبون لدعوته ، يملؤهم الاستخفاف بصغر سنه ، والأخت ما زالت على عنادها ، فقام إلى ملابس العرس جميعها ، فأخذها وكومها كومة في منتصف الحديقة ، وسكب عليها ((الكاز)) وأشعل فيها النار ، بين صباح واعتراض ورجاءات وتوسلات ، ولكن السيل الجارف من الحماس داس على كل هذه المعوقات وتخطاها ، ونقذ الشاب ما يريد ، وهو بذلك مسرور لأنه غير المنكر بيده ، كما قال النبي (ص) اقتنعوا أو لم يقتنعوا ، المهم أنه استراح لمقدرته على تغيير المنكر ، وبأعلى درجات التغيير .
الإسلام دين متكامل ، تتجمع أجزاؤه لتكمل بعضها بعضا ، فهي كالحلقات المتصلة في سلسلة ، فالحلقة الواحدة تتصل مع هذه بطرف ، ومع تلك بطرف ، وإذا قطعت واحدة نقض التسلسل والتماسك .
ورغم قوة التماسك والتكامل هذه ، إلا أن المشرع وضع داخل بناء الإسلام نفسه ، وفي منهجه أسس المناعة الداخلية ضد الانحراف والتميع والتفكك ، حتى يبقى الاسلام قويا .
وطالما أن أفراد المسلمين أخذوا بمبدأ المناعة الداخلية فالإسلام في نفوسهم وحياتهم بخير ، أما إن تركوا قضية المناعة جانبا ، وانشغل كل واحد بنفسه ؛ دارت الدائرة عليهم ، بعد أن تصيب غيرهم ، فهم ليسوا بمنأى عن الشر .
والمناعة التي نقصدها هي الموضوع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي قضية الاسلام الهامة التي تبقيه حيا في نفوس المسلمين ما تمسكوا بها .
والأمر بالمعروف ـــ وهو الشق الأول لهذا المبدأ العظيم ـــ أيسر على النفوس من تغير المنكر ، ولذا يجد الداعي إلى تعيير المنكر الكثير من العنت والعداوات ، حتى ولو كان حصينا ماهرا .
ونحن لسنا في حاجة للتدليل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المسلمين ، فالنصوص كثيرة من الكتاب يعرفها الجميع ، وما أظن أن هناك أحدا من المسلمين البالغين إلا وطرق
سمعه شيء من هذه النصوص ، حتى بات الجهل بها ليس عذرا ، كما هي المقولة العليمة المعروفة : (( لا يعذر في دار الإسلام الجهل بالأحكام )).
ولمن الأمر في قضيتنا هذه ، هو الفهم التطبيقي لبعض جوانب هذا المبدأ الحيوي ، الذي لا بد أن يعم المسلمين ، ويرفرف على حياتهم .
ولعل أقرب هذه النصوص مأخذا ، قول النبي : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطيع فبلسانه ، فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان )) (1) . والنبي (ص) في هذا النص حدد درجات تغيير المنكر ، وأناط المسؤولية بآحاد المسلمين (أفرادا) ـــ وفي نصوص أخرى أناطها بالجماعة ـــ وبذلك لا يعذر أحد بترك الجهاد في تغيير المنكر ، بدعوى أن لا جماعة تساعده ، وجعل هذه الدرجات في مكنة كل فرد على اختلاف مقدراتهم . فسقط الاعتذار ، وردت الحجج على المتخاذلين.
ولكن القضية التي التبست على كثير من الناس ، هي قضية تحديد الدرجة التي يكون عليها الفرد عند تغيير المنكر في حادة معينة ، فوقع الخلط ، وهذا بدوره أدى إلى كثير من المصادمات والمشاكل في حياة الناس ، أفرادا وجماعات .
ولكي نبسط القضية نقول : أن تغيير المنكر بالقلب ـــ وهي أضعف الإيمان ـــ درجة تعم الجميع ، ولم تترك عذرا لأحد . فكل مسلم ـــ مهما كان ضعيفا ـــ يملك تغيير المنكر بالقلب ، وحدوده (( كراهية المنكر ، وعدم مودة فاعلية مهما كانوا )) . يوضح هذا الموقف قول سيدنا أبراهيم (عليه السلام) بعد أن نصح قومه ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، فلم يستجيبوا له : ( وأعتز لكم وما تدعون من دون الله ، وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) [الشعراء:168ـ169] وهذه درجة يملكها كل فرد من المسلمين ، فإن قال قائل : قد يجبر فرد على
(1) رواه المسلم . رياض الصالحين ص 100
المشاركة تحت ضغط الوظيفة أو العائلة أو سلطان جائر !! قلنا : قد !! ولكن القلب وكراهيته لا يملكها أحد من البشر ، ولا سلطان على القلب إلا لله رب العالمين ، فلتكن الكراهية المركوزة في القلب ، والتي لا تترك صاحبها يستمتع بشيء خالطه المنكر ، تماما كما هي درجة المضطر الذي أبيح له أكل الجيفة !! هل يستلذ بها أو يقوم عليها ؟!!
أما الدرجة الثانية ، وهي تغيير المنكر باللسان ، فهي لفئة مخصوصة ، أكثر قدرة من الفئة السابقة ، وهي طبقة الوعاظ ، والعلماء ، والمعلمين ، وكل فرد مسلم يملك هذه المقدرة ، سواء أكانت علما أو جرأة أو فصاحة ، وكلما خص إنسان بنعمة من هذه النعم أكثر من غيره ؛ لزمته الحجة ، وكان أكثر مسؤولية أمام الله عز وجل عن تقصيره ، قال النبي الله موسى (عليه السلام) عندما أمره الله أن يذهب إلى فرعون لينصحه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر : (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ، فأرسله معي ردءا يصدقني ، إني أخاف أن يكذبون)[القصص:34].
وأما الدرجة الثالثة ، وهي تغيير المنكر باليد ، فهي مسؤولية فئة من الناس قد خصهم الله بالسلطان ، فهم مسؤولون عن تغييره بأيديهم داخل سلطانهم ولا يعذرون بتركه .
ومجال السلطان يختلف من واحد إلى آخر ، فالحاكم في دولته أكبر سلطانا من الوزير في وزارته ، والوزير في وزارته أكبر سلطانا من المدير في دائرة داخل الوزارة الواحدة ، ورئيس القسم أقل مسؤولية من المدير ، والأب في أسرته يملك سلطانا على أهله وأولاده ، والمدرس في تلاميذه له هذا السلطان ... الخ . ولكن العكس ليش صحيحا ، ومن هنا جاء الخلط . فالمدرس يملك سلطانا على تلاميذه ، ولكن ليس له سلطان على المدرسة كلها بما فيها المدير مثلا ، في حين أن المدير له سلطان على هذا المدرس وغيره من المدرسين وكذلك على تلاميذ المدرسة جميعا ، والأب له سلطان على أبنائه وزوجته ، ولكن ليس له سلطان على الحكومة أو الدولة بأسرها ... وهكذا.
فصاحب السلطان ـــ المقدر بقدره ، كل حسب ما وهبه الله من سعة السلطة أو ضيقها ـــ مسؤول أمام الله عن تغيير المنكر بيده داخل سلطانه وفي حدوده .
وهنا تنشأ تساؤلات : هل للمسلم أن يترك درجة هو فيها إلى درجة أضعف ؟ كأن يملك التغيير باليد ، فيتركها إلى اللسان ، أو باللسان ، فيتركها إلى القلب بغير عذر ؟ وما هو العذر المسوغ لهذا التحول من درجة إلى أخرى أقل ؟
وقبل أن يجيب عن هذه الأسئلة ، نحب أن نوضح أن كلمة أو درجة ((بيده)) لا تعني حرفية الكلمة ، بل قد تكون اليد القوة والسلطان القاهر ، فأمره هنا ـــ وإن كان باللسان ـــ في قوة التغيير باليد . أرأيت لو أن حاكما مر في شارع فرأى خمارة أقيمت ، فهل عليه أن يأخذ فاسا بيده ويحطمها أو يزيلها ، أم يكفي فيها الأمر بإزالتها ؟ وهذا الأمر من الحاكم له قوة التغيير باليد . أرأيت لو أن أبا رأى قد ترك شعره حتى أصبح خنفوسا ، متشبها بالكفار والفاسقين ، فهل عليه أن يمسك بالمقص ويزيل الشعر ، أم يكفيه الأمر باللسان ، وهو بالنسبة له في قوة التغيير باليد ؟
إذن اليد هنا تعني ـــ في معناها الواسع ـــ السلطان القاهر أو الأمر الذي لا يرد أو يكسر .
وأما بالنسبة للأسئلة السابقة ، وإن كان ظاهر الحديث يوحي بالتدرج من اليد إلى اللسان إلى القلب ، ولكني أعتقد أنه لا يُقصد هذا الترتيب لذاته ، بل الأمر فيه متروك لتقدير الداعية نفسه للموفق الذي أمامه ،ودليل هذا أن الله عز وجل قال:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (النحل:125) ويلمح عكس هذا الترتيب تماماً في تغير المنكر في الحياة الزوجية مثلاً ، فالمرأة التي تنشز عن طاعة زوجها ، أو يتوقع منها هذا ــ وهو منكر بلا شك ــ وضع الله لزوجها أسس تأديبها ، فبدأ بأخف الأمور ، منتهياً بأصعبها فقال تعالى :(واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) (النساء : 34).
والترتيب في تغير المنكر بين الدرجات ليس بلازم ، وإنما يترك الأمر لتقدير الداعية لنفسه ، ولموفقه ، وللمنكر المراد تغييره ، وأصلح الطرق وأقومها في الوصول إلى الغاية المرجوة.
أما الأعذار التي تبيح للمسلم الانتقال من درجة إلى درجة اخرى ، أو الأخذ بدرجة دون غيرها فكثيرة ، أهمها في تقديري : الخوف على النفس أو المال ، دون تحقيق الغاية المرجوة من الانكار. هذه واحدة ، والثانية : أن يؤدي تغير المنكر إلى نتائج عكسية فتحدث فتنة أو منكر أشد.
أما دعوى ترك التغيير كلياً ـــ أي إنكار المنكر ـــ خوف عدم النجاح، فهذه خدعة الشيطان، يخوف بها أولياءه، لأن المسلم عليه أن يدعو بتعقل وروية، بلغ النجاح أولم يبلغ ، فقد وقع أجره على الله .
وهناك نقطة تحتاج إلى توضيح في قضية تغيير المنكر، وهي شروط تغيير المنكر . ورغم ما قال العلماء في بيانها وتعدادها ، إلا أنني أرى أن أهم شرطين هما :
1- أن يكون المنكر منكراً في الشرع ، مجمعاً عليه من العلماء ، أما ما كان في مذهب واحد من مذاهب العلماء ، فلا يجوز الإنكار فيه. قال سفيان الثوري ( رحمة الله): ((إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنه)) (1) لأن هذا الموفق مدعاة للبلبلة والشوشرة بلا مبرر قوي ، ولا فائدة ترجى من ورائه.
2- أن يأمن الداعي من وقوع فتنة لا يدري إلا الله تعالى ما تكون عاقبتها (2) بمعنى أن يتولد عن تغيير المنكر منكر أشد ، ولعل من أبرز الصور في هذا الجانب ، ما حدث مع شيخ الاسلام ابن تيمية ـــ رحمه الله ـــ عند احتلال دمشق ، فعاث الجنود فيها فساداً ، ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سفيان الثوري . الدكتور محمد البيانوني ص98.
(2) مقدمة كتاب المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد ص 26.
قسادهم شرب الخمر ، وما يتبعه من سكر وعربدة ، فلما قيل له في تغيير المنكر عليهم قال : دعوهم . لأنهم لو فاقوا قتلوا المسلمين . فهو قد ترك تغيير هذا المنكر ، خوفاً من منكر أشد و بلاء أعظم .
ومن القضايا التي تلتبس على كثير من الناس ، قضية تغيير المنكر من الأصغر على الأكبر ، بمعنى هل للابن تغيير منكر عليه أبوه ؟ وهل للتلميذ إنكار المنكر على أستاذه؟... وهكذا . والجواب : نعم ، للأصغر تغيير المنكر الذي يقيم عليه الأكبر ، ولسنا بصدد التوسع في هذه النقطة فمجالها بطون الكتب ، أو دراسة أوسع ، ولكننا نبسط القول فيها فنقول : له أن يغير المنكر باللسان (( الموعظة الحسنة)) مع الأدب والأحترام والتوقير، فإن أصر الأكبر على موقفه ، فللأصغر تغييره باليد ، مع الأخذ في الأعتبار عدم فتنة أو مشكلة أكبر من المنكر ذاته (1)
ومن القضايا التي يجب الالتفات إليها في تغيير المنكر ـــ لاسيما باليد ـــ أن اتلاف المنكر لا بد يقتصر على المحرم نفسه ، ولا يتجاوزه إلى الحلال أو المباح ، أو الحلال الذي لابسه حرام ، فلو تبدل الوضع لأصبح حلالا صرفا ، هنا لا يجوز التعدي بالا تلاف . ولكي نوضح هذه النقطة وتبسطها نقول : لو أن زجاجة فيها خمر . الخمر حرام ، لكن الزجاجة لا خمر لها استخدامات مفيدة ، فيقتصر الأمر على إراقة الخمر ولا يتعداها إلى كسر زجاجة ، وفي قصتنا ، إن الملابس في حد ذاتها مباحة ، وحلال لها ، ولكن الذي جعلها محرمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع إحياء علوم الدين ج2ص315 ـ319 فقد بسط الغزالي القول فيها
كونها تخرج بها ليراها غير المحارم ، فأصبحت حراما ، فلو تغير الوضع ، ولم تخرج بها ليراها الأجانب ، واقتصرت في لبسها على البيت وأمام محارمها المنصوص عليهم في سورة النور (الآية :31) لأصبحت الملابس حلالا ولبسها مباحا ولا حرج فيه ، هنا لا يجوز التعدي بإتلاف الملابس كما حدث مع صاحب الحادثة .
وأريد بعد كل هذا أن أهمس في آذان الدعاة ، همسات تنفذ كن الأذن فتصل إلى القلب ، فتخالطه وتلامس شغافه ، وتبلل جفافه .
يا دعاة الإسلام ، يا من اتخذتم طريق الدعوة إلى الله مسلكا صبغ حياتكم ، وقالبا شكل أمانيكم وطموحاتكم ، يا من اخترتم أعلى درجات الحسن في الحياة الدنيا والآخرة بشهادة رب العالمين : (ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وهمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) [ فصلت :33] .
تعالوا نسأل أنفسنا أسئلة ،نتعرف من خلالها على حقيقتنا وحقيقة من يحيط بنا ، حقيقة البيئة التي نتحرك فيها . من نحن ؟ ومن الناس الذين نعيش معهم ونتوجه إليهم بالدعوة ؟ ما البيئة التي نعيش فيها نحن وهم ؟ نحن مسلمون ، والناس الذين نعيش معهم مسلمون ، فهم أهلنا وإخوتنا وأقاربنا ، يشعدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويصلون صلاتنا ، ويأكلون دبيحتنا ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا آمالنا وطموحاتنا وآلامنا واحدة ، لا فرق .. لا فرق ..
الفراق الوحيد بيننا وبينهم ، أن الإسلام في قلوبنا متحرك ، وفي قلوبهم نائم مخدر . الإسلام في قلوبنا متحرك عن الحياة كلها ، ونفذ إلى كل خلية في الكون وفي أجسادنا ، وعندهم اقتصر على صلوات بلا روح ، وعبادات فوعت من هدفها ، وقيم جمدت في خزانة تاريخ الإسلام .
نحن من عهد قريب كنا مثلهم ، فأنعم الله علينا بالفهم والهداية ، ففهمنا واهتدينا ، وصدق الله عظيم : ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا ) [ النساء:94] ، ولو عاد الواحد منا إلى الوراء ، لتذكر أنه كان واحدا من هؤلاء ، فمن الله عليه بانسان داعية ـــ رجل أو امرأة ـــ فتح عينيه على حقيقة الإسلام فكأنه يوم رآها كأنما ولد من جديد ، وهو يحمل لهذا الإنسان كل حب ومودة ومنة في رقبته إلى يوم القيامة ، يشهد له بالأستاذية وبالفضل ، الذي خرج به من الظلام إلى النور ، ومنالضلال إلى الهدى ، ومن الضياع إلى الوضوح والاستقرار الرؤية الصائبة .
ولو عدنا إلى الوراء ، لتذكرنا أن هذا الذي فتح عيوننا على حقيقة الإسلام ، أخذنا إليها برفق ولين ، ولم يأتنا بالضغط والقسوة والشدة ، لأن الذي يوافقك على رأيك مكرها ، وافقك خوفا لا زال عند رأيه الأول )) ، وأن تقدم لإنسان جرعة عسل يستسيغها أحب إليه من برميل علقم .
وندرك أهمية الرفق في الدعوة إلى الله ، من هذا التركيز والاهتمام اللذين أولاهما الاسلام للرفق واللين ، ففي القرآن الكريم والسنة المطهر فيض من النصوص التي تطالب بهذا الرفق ، فالله تعالى يقول : ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم يمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) [ النحل : 125ٍ] وفي الصحيحين من جديث عائشة (رضي الله عنها) قال رسول الله (ص) : (( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله )) (1) وفي صحيح مسلم من حديث عائشة (رضي الله عنها) : (( إ، الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) (2) ذبك أن التوفيق والنجاح مقرون بالرفق ، لأن القضية أساسا تتعامل مع القلوب الآخرين دونه , ولذلك يقول الله عز وجل لنبيه (ص) : ( فما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك ) [ آل عمران : 159] ولهذا كانت توجيهات الرسول (ص) ــ المجرب الأساليب ، وأستاذ الدعوة النجاح والفلاح ، ففي حديث جرير بن عبدلله (رضي الله عنه) قال : سمعت الرسول الله (ص) يقول : (( من يحرم الرفق يحرم الخير كله )) (3) وفي حديث عائشة ( رضي الله عنها) أن النبي (ص) قال (( إن الله رفيق )
متفق عليه. رياض الصالحين ص 275.(1)
(2)المصدر السابق.
(3) رواه مسلم . رياض الصالحين ص 275.
يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ،وما لا يعطي على ما سواه))(1).
ولعلكم سمعتم أو قرأتم القصة الرمزية (الأسطورة) التي تتحدث عن المنافسة بين الشمس والريح في مقدرة كل منهما على إجبار بدوي في الصحراء على خلع ردائه ، فقالت الريح : أنا أقدر منك،