السبت، 6 مايو 2017

ما هو العلاقة بين الدِّين والسياسة ؟؟!! هل الدين شيئ و السياسة شيئ اخر؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .... أما بعد

فهذا بحث علمي في *الدين والسياسة* يرد فيه على شبهات العلمانيين ،،  يرد بالتفصيل على ضلالة فصل الدين عن الدولة ،  هو عبارة عن خمسة فصول  نسأل الله العفو والعافية إن شاء الله وأترككم مع لبحث مع خالص التحيات

الباب الثاني

العلاقة بين الدِّين والسياسة

عند الإسلاميين والعلمانيين


إذا عرفنا مفهوم كل من الدِّين والسياسة: أمكننا أن نفهم علاقة كل منهما بالآخر. هل هي علاقة تضاد وتصادم، بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الآخر؟

أو هي علاقة تواصل وتلاحم، بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا ينفصل عن الآخر.

أو هي علاقة تعايش وتفاهم، كما يتفاهم الشخصان المختلفان-دينا أو مذهبا أو عرقا أو وطنا- على عمل مشترك بينهما، أو كما تتفاهم الدول المختلفة أيديولجيا على التعايش السلمي المشترك؟ 

موقف العلمانيين: 

أما الحداثيون والماركسيون والعلمانيون، فلا يرون العلاقة بين الدِّين والسياسة إلا علاقة التضاد والتصادم، وأن الدِّين شيء، والسياسة خصم له، وأنهما لا يلتقيان. فمصدرهما مختلف، وطبيعتهما مختلفة، وغايتهما مختلفة. فالدِّين من الله، والسياسة من الإنسان. والدِّين نقاء واستقامة وطهر، والسياسة خبث والتواء وغدر. والدين غايته الآخرة، والسياسة غايتها الدنيا. فينبغي أن يترك الدِّين لأهله، وتترك السياسة لأهلها. 

وهم ينكرون فكرة الشمول والتكامل في الإسلام، الذي تبناه كل الدعاة والمُصلحين الإسلاميين في عصرنا؛ فهم يريدونه عقيدة بلا شريعة، وعبادة بلا معاملة، ودينا بلا دنيا، ودعوة بلا دولة، وحقا بلا قوة. 

وقد رتبوا على هذا آثارا فكرية وعملية تبنوها، وجعلوها مرتكزات لهم، منها: 

1. إنكار فكرة (شمول الإسلام) التي يتمسك بها الإسلاميون.

2. فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين، وإشاعة مقولة: (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدِّين).

3. التشنيع على دعاة تحكيم الشريعة الإسلامية بتهمة الإسلام السياسي.

4. ادعاء أن الدِّين يقيد السياسة بحرفية النصوص، ولا يعول على المصلحة، وبذلك يفوت على الأمة مصالح كثيرة بسبب هذه النظرة الضيقة
. السياسة بين الجمود والتطور.

وسوف نتحدث عن هذه القضايا في الفصول التالية.

الفصل الأول

إنكار فكرة (شمول الإسلام)

لماذا مزج المُصلحون الإسلاميون السياسة بالدِّين؟:


أما مسألة (شمول الإسلام) التي ينكرها ويرفضها الحداثيون والعلمانيون والماركسيون بصفة عامة، فهي فكرة متفق عليها بين علماء الإسلام ومصلحيه كما يحدثنا بذلك واقع عصرنا.

وقد رأينا المُصلحين الإسلاميين في العصر الحديث، ابتداء بابن عبد الوهاب، والمهدي، وخير الدين التونسي، والسنوسي، والأمير عبد القادر، وجمال الدِّين الأفغاني، ومرورا بالكواكبي، ومحمد عبده، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، وحسن البنا في مصر، وابن باديس وإخوانه في الجزائر، وعلال الفاسي في المغرب، والمودودي في باكستان، وغيرهم، كلهم يتبَنَّوْن شمول الإسلام للعقيدة والشريعة، والدعوة والدولة، والدِّين والسياسة. ولم يكتفوا بتقرير ذلك نظريًا، بل خاضوا غمار السياسة عمليًا، وواجهوا مخاطرها ومتاعبها، وعانوا محنها وشدائدها. وإنما فعلوا ذلك لأسباب ثلاثة: 

1. شمول تعاليم الإسلام: 

الأول: أن الإسلام الذي شرعه الله لم يدع جانبا من جوانب الحياة إلا وتعهده بالتشريع والتوجيه، فهو -بطبيعته- شامل لكل نواحي الحياة، مادية وروحية، فردية واجتماعية. وقد خاطب الله تعالى رسوله بقوله: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].

والقرآن الذي يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ... [البقرة:183]، هو نفسه الذي يقول في نفس السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ... [البقرة:178]، وهو الذي يقول فيها: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ... [البقرة:180]، ويقول في ذات السورة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... [البقرة:216]، عبَّر القرآن عن فرضية هذه الأمور كلها بعبارة واحدة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ.

فهذه الأمور كلها مما كتبه الله على المؤمنين أي فرضه عليهم: الصيام من الأمور التعبدية، والقصاص في القوانين الجنائية، والوصية فيما يسمى (الأحوال الشخصية)، والقتال في العلاقات الدولية. 

وكلها تكاليف شرعية يتعبد بتنفيذها المؤمنون، ويتقربون بها إلى الله، فلا يتصور من مسلم قبول فرضية الصيام، ورفض فرضية القصاص أو الوصية أو القتال. وجميعها تقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ.

إن الشريعة الإسلامية حاكمة على جميع أفعال المكلَّفين، فلا يخلو فعل ولا واقعة من الوقائع إلا ولها فيها حكم من الأحكام الشرعية الخمسة (الوجوب، أو الاستحباب، أو الحرمة، أو الكراهية، أو الإجازة). كما قرَّر ذلك الأصوليون والفقهاء من كل الطوائف والمذاهب المنتسبة إلى المِلَّة. 

وقد دل على هذا الشمول القرآن والسنة، فقد قال تعالى مخاطبا رسوله : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]. ويقول عن القرآن: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].

وقد ثبت أن رسول الله ما ترك أمرا يقربنا من الله إلا وأمرنا به، ولا ترك أمرا يبعدنا عن الله إلا نهانا عنه، حتى تركنا على المحجة البيضاء: "ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك"[1].

فالإسلام هو رسالة الحياة كلها، ورسالة الإنسان كله، كما أنه رسالة العالم كله، ورسالة الزمان كله[2].

ومن قرأ كتب الشريعة الإسلامية، أعني كتب الفقه الإسلامي، في مختلف مذاهبه: وجدها تشتمل على شؤون الحياة كلها، من فقه الطهارة، إلى فقه الأسرة، إلى فقه المجتمع، إلى فقه الدولة، وهذا في غاية الوضوح لكل طالب مبتدئ، ناهيك بالعالم المتمكِّن. 

2. الإسلام يرفض تجزئة أحكامه: 

الثاني: أن الإسلام نفسه يرفض تجزئة أحكامه وتعاليمه، وأخذ بعضها دون بعض. 

وقد اشتد القرآن في إنكار هذا المسلك على بني إسرائيل، فقال تعالى في خطابهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85]. 

ولما أحب بعض اليهود أن يدخلوا في الإسلام بشرط أن يحتفظوا ببعض الشرائع اليهودية، مثل تحريم يوم السبت، أَبَى الرسول عليهم ذلك إلا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة[3]. 

وفي ذلك نزل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208][4].

وخاطب الله سبحانه رسوله فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49].

فهنا يحذر الله رسوله من غير المسلمين: أن يصرفوه عن بعض أحكام الإسلام، وهو خطاب لكل مَن يقوم بأمر الأمة من بعده. 

والحقيقة أن تعاليم الإسلام وأحكامه في العقيدة والشريعة والأخلاق والعبادات والمعاملات: لا تؤتي أكلها إلا إذا أخذت متكاملة، فإن بعضها لازم لبعض، وهي أشبه (بوصفة طبية) كاملة مكوَّنة من غذاء متكامل، ودواء متنوع، وحِمْية وامتناع من بعض الأشياء، وممارسة لبعض التمرينات ... فلكي تحقق هذه الوصفة هدفها، لا بد من تنفيذها جميعا. فإنَّ تَرْك جزء منها قد يؤثر في النتيجة كلها. 

3 . الحياة وحدة لا تتجزأ ولا تنقسم وكذلك الإنسان: 

الثالث: أن الحياة وحدة لا تنقسم، وكل لا يتجزأ. 

ولا يمكن أن تصلح الحياة إذا تولى الإسلام جزءا منها كالمساجد والزوايا يحكمها ويوجهها، وتُركت جوانب الحياة الأخرى لمذاهب وضعية، وأفكار بشرية، وفلسفات أرضية، توجهها وتقودها. 

لا يمكن أن يكون للإسلام المسجد، ويكون للعلمانية المدرسة والجامعة والمحكمة والإذاعة والتلفاز والصحافة والمسرح والسينما والسوق والشارع، وبعبارة أخرى: الحياة كلها!

كما لا يمكن أن يصلح الإنسان إذا كان توجيه الجانب الروحي له من اختصاص جهة كالدِّين، والجانب المادي والعقلي والعاطفي من اختصاص جهة أخرى كالدولة اللادينية. 

فالواقع أن لا مثنوية في الإنسان ولا في الحياة، فليس فيه ولا فيها انقسام ولا انفصال. 

إنه هو الإنسان بروحه ومادته، بعقله وعاطفته، بغريزته وضميره، فلا فصل ولا تفريق، كما يؤيد ذلك العلم الحديث نفسه. وكذلك الحياة. 

إن الإنسان لا ينقسم، والحياة لا تنقسم. 

وكل الفلسفات والمذاهب الثورية أو (الأيديولوجيات) الانقلابية في التاريخ وفي عصرنا ذات طابع كلي شمولي، ولهذا ترفض تجزئة الحياة، وتأبى أن تسيطر على جزء منها دون جزء، بل لا بد أن تقودها كلها، وتوجهها جميعا وفقا لفلسفتها، ونظرتها الكلية للوجود وللمعرفة وللقيم، ولله والكون والإنسان والتاريخ. 

يقول أحد الاشتراكيين العرب المعروفين[5] في تبرير هذا الاتجاه: 

(إن فَهم الاشتراكية على أنها نظام اقتصادي فحسب، هو فَهم خاطئ؛ فالاشتراكية تقدِّم حلولا اقتصادية لمسائل كثيرة، ولكن هذه الحلول جميعا ليست إلا ناحية واحدة من نواحي الاشتراكية، وفَهمها على أساس هذه الناحية الواحدة فَهم خاطئ لا ينفذ إلى الأعماق، ولا يتعرف إلى الأسس التي تقوم عليها الاشتراكية، ولا يتطلع إلى الآمال البعيدة التي تذهب إليها الاشتراكية.

فالاشتراكية مذهب للحياة، لا مذهب للاقتصاد، مذهب يمتد إلى الاقتصاد والسياسة والتربية والتعليم والاجتماع والصحة والأخلاق والأدب والعلم والتاريخ، وإلى كل أوجه الحياة كبيرها وصغيرها. 

وأن تكون اشتراكيا يعني أن يكون لك فَهم اشتراكي لكل هذا الذي ذكرت، وأن يكون لك كفاح اشتراكي يضم كل هذا الذي ذكرت).

ثم يؤكد الكاتب أن هذه النظرة الشاملة ليست مقصورة على الاشتراكية، وإنما هي الأساس في المذاهب الاجتماعية الأخرى.

ولقد برَّر الكاتب شمول المذاهب الاجتماعية، واتساع نطاقها بحيث تتسع إلى كل المجالات، وأن تضع الحلول لكل المشكلات بأن: 

(سبب هذه النظرة الشاملة؛ أن الحياة نفسها شيء واحد ... تيار واحد لا يعرف هذا التقسيم الذي يخترعه عقلنا، لكي يسهِّل على نفسه إدراك حقائق الحياة، ثم ينسى أنه هو نفسه الذي قام بهذا التقسيم، ويظن أن الحياة كانت مقسَّمة هكذا منذ الأزل. 

فالحياة لا تعرف شيئا اسمه الاقتصاد، منفصلا عن شيء اسمه الاجتماع، وشيء آخر اسمه السياسة. 

الحياة شيء متكامل متصل، ولكن عقلنا العاجز المغرم بالتحليل والدرس، لن يتمكن من القيام بهذا التحليل والدرس، إذا واجه الحياة ككل قائم بذاته، فهو مضطر إلى أن يقسم الحياة إلى أوجه، وإلى ألوان، وإلى أنواع من العلاقات، فيُسمِّي بعضها اقتصادا، ويسمي بعضها الآخر سياسة، وبعضها اجتماعا، وأخلاقا، ودينا، وأدبا، وعلما ... إلى آخر هذه السلسلة إن كان لها آخر ...

الحياة ... كالنهر، شيء واحد متصل مستمر ... وكذلك حياة أي مجتمع، كبير أو صغير، أمة أو أسرة، حكومة أو حزب. 

فموقف أي مجتمع إزاء الحريات السياسية يقرِّر موقفه من الاقتصاد، وموقفه من النظم الاقتصادية يقرِّر موقفه من الحريات السياسية، وكذلك من الاستعمار ومن الأخلاق ومن التعليم ومن الأدب ومن التاريخ ... إلى آخر تلك السلسلة التي لا تنتهي). 

ويخلص الكاتب من ذلك إلى تأكيد الصفة الشاملة للاشتراكية فيقول: 

(بهذا المعنى، تصبح كلمة الاشتراكية إذن كلمة لا تقتصر على التعبير عن حالة اقتصادية معينة فحسب، بل هي تعبير عن نوع من الحياة بأكملها، بجميع وجوهها) اهـ.

هذه هي طبيعة الأيديولوجيات الانقلابية كلها، فلماذا يُراد للإسلام وحده -وهو بطبيعته رسالة شاملة: عقيدة وشريعة وأخلاقا وحضارة- أن يقصر رسالته على المساجد والمحاكم الشرعية؟!

ولعله لو رضي بذلك، ما تركوه يستقل بهذه المساجد يوجهها كما يريد، ولا تلك المحاكم يقضي فيها بما يشاء[6].

إن المسيحية التي يقول إنجيلها: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)[7] حين وجدت الفرصة والقوة، لم يسعها أن تدع شيئا لقيصر، ولم تستطع إلا أن تسود، وتوجه الحياة كلها الوجهة التي تؤمن بها، مثل كل الأيديولوجيات الدِّينية والعلمانية قديما وحديثا. 

فإذا كان هذا شأن المسيحية، فكيف بالإسلام الذي يأبى أن يقسم الإنسان بين مادة وروح منفصلتين، أو يقسم الحياة بين الله وقيصر، وإنما يجعل قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد؟!

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114]. 

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50][8].

و يقول أستاذنا الدكتور محمد البهي مُعقبا على قول علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم): 

(ولاية الرسول على قومه: ولاية روحية، منشؤها إيمان القلب، وخضوعه خضوعا صادقا تاما يتبعه خضوع الجسم. 

وولاية الحاكم: ولاية مادية، تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلب اتصال. 

تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض، تلك للدين وهذه للدنيا، تلك لله وهذه للناس، تلك زعامة دينية، وهذه زعامة سياسية ... وما أبعد ما بين السياسة والدِّين)[9]!! 

وهذا المعنى الذي يجيب به الكتاب على سؤاله السابق، يقوم على أساس من (مثنوية) تفكير القرون الوسطى فيما يتصل بالإنسان ... وهو التفكير الذي ساد الغربيين عند فصلهم بين (الكنيسة) و(الدولة).

و(مثنوية) الإنسان معناها: أن هناك (انفصالا) بين جسمه وروحه، وأنه ليس أحدهما تابعا للآخر، فضلا عن أن يكونا (وحدة) واحدة!! وتفكير القرون الوسطى في المشاكل الفلسفية: الإلهية والإنسانية، يستوي في التعبير عنه ما يوجد عند فلاسفة المسلمين أو فلاسفة المسيحيين من الآباء والمدرسين ... لأن قوامه هنا وهناك ما خلفه الإغريق، وورَّثوه للمسلمين والمسيحيين على السواء!

و (مثنوية) الإنسان يعدها العلم الحديث، وهو البحث النفسي التجريبي، تصورا نظريا لا يركن إليه الرأي السليم في قيادة الإنسان وتوجيهه. والإنسان الآن -في نظر البحث العلمي- وحدة واحدة: لا انفصال بين جسمه ونفسه، ولذا يستحيل أن يوزع بين اختصاصين متقابلين وسلطتين مختلفتين ... والأضمن إذن في سلامة توجيهه أن تكون قيادته واحدة. 

وتجربة توزيع السلطة في الغرب بين (الكنيسة) و(الدولة) -وهو ما يعرف بالفصل بين (الدِّين) و(الدولة)- لم تثمر الاحتكاك بين السلطتين فقط، بل كان من ثمراتها إخضاع إحدى السلطتين للأخرى في النهاية، وفي واقع الأمر كان هو إخضاع (الدولة) للكنيسة! فـ (الدولة) الغربية الحديثة في أوربا وأمريكا تعتمد على النظام الديمقراطي، وهو نظام التصويت الشعبي ... وفي معركة التصويت الشعبي يتفوق الحزب السياسي الذي يبذل -لتنفيذ اتجاه الكنيسة- من الوعود والعهود أكثرها، إذا ما وصل إلى كرسي الحكم!!

ومع أن (مثنوية) الإنسان التي قام عليها الفصل بين الدِّين والدولة تعتبر فكرة غير سليمة من الوجهة العلمية، وغير عملية من الوجهة التطبيقية، فإن دعاة -أو أدعياء- (التجديد) في الفكر الإسلامي الحديث: لم يزالوا يرون (الوحدة) في الإنسان وفي القيادة تخلفا، لأنها من أصول الإسلام[10]!! 

4. أهمية الدولة في تحقيق الأهداف: 

الرابع: وهو سبب عملي لا ينبغي أن يُنازَع فيه، وهو: أن الناس من قديم أدركوا أهمية الدولة أو السلطة السياسية في تحقيق الأهداف، وتنفيذ الأحكام، وتعليم الأمة، ووقايتها المنكر والفساد، ولذا قال الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"[11].

ولا سيما أن الدولة في عصرنا أمست تملك أَزِمَّة الحياة كلها في أيديها، من التعليم إلى القضاء، إلى الثقافة، إلى الإعلام، إلى المساجد، إلى الاقتصاد والاجتماع، فلا يمكن لمُصلح أن يتجاوزها، ويدعها للقوى العلمانية، تفعل ما تشاء، وهي قادرة على أن تهدم كل ما يبنيه أهل الإصلاح بسهولة ويسر. ولا سيما أن الهدم عادة أسهل من البناء. فكيف بمن يهدم بالألغام الناسفة، التي تستطيع أن تجعل العمارة الشاهقة كومة من تراب في دقائق معدودات؟!

ولم تكن الدولة قديما تملك كل هذا السلطان والتأثير في يدها. بل هو من خصائص عصرنا، كما قال برتراند راسل في أحد كتبه.

ولقد ذكرت في كتابي (تاريخنا المفترى عليه): أن الدولة ومعها الخليفة الأعظم، خلال تاريخنا الإسلامي الطويل، ما كانت تملك من شؤون الأمة والمجتمع الشيء الكثير. بل كانت الدولة محصورة في إطار معين في العاصمة وربما المدن الكبرى. أما الأمة بشعوبها وجماهيرها المختلفة، فكانت في واد غير وادي السلطة، تمارس حياتها في ظل الإسلام، وبقيادة العلماء في غالب الأحوال.

كان التعليم بيد العلماء، يعلمون الناس الإسلام واللغة والآداب والتاريخ والمعارف المختلفة، كما يشاؤون.

وكان القضاء بيد العلماء، يقضون بأحكام الشريعة على الخاصة والعامة، كما يحبون.

وكانت الفتوى كذلك بأيدي العلماء، يلجأ إليهم الناس مختارين، ليجيبوهم عما يسألون في أمور الدِّين والحياة.

وكانت الأوقاف الخيرية بأيدي العلماء، ينفقون من ريعها على أبواب الخير المتنوعة، ومنها: المساجد والمدارس، أي الدعوة والتعليم كما شرط الواقفون.

فقد ظلت الأمة مستمسكة بدينها، حين انحرف الأمراء والسلاطين، وظلت متماسكة حين انفرط عقد الخلافة والسلطنة، وظلت الأمة قوية حصينة بمؤسساتها المدنية والأهلية والاجتماعية، حين ضعفت وتفككت السلطة التنفيذية، وظل المجتمع (المدني) -كما يقال اليوم- مشدودا إلى أصله الدِّيني، متمسكا بعروته الوثقى، وإن وهت حبال الدولة أو السلطة من حوله.

وفي عصرنا انتقلت القوة من الأمة إلى الدولة، وأضحت هي المتحكمة في معظم الأمور، كما أشرنا إلى ذلك، من تعليم وإعلام وثقافة وصحة وقضاء وشؤون دينية وأمنية وعسكرية واقتصادية.

فكيف يمكن للمصلح أن يباشر الإصلاح إذا كانت الدولة مضادة لاتجاهه، فهو يحيي وهي تميت، وهو يجمع وهي تفرق، وهو يُشرّق وهي تُغرّب؟

سارت مُغرِّبة وسرت مشرِّقا شتان بين مشرِّق ومغرِّب!

أو كما قال الشاعر الآخر:

متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟

فكيف إذا كان الذي يهدم هو الدولة ذاتها، بما تملك من إمكانات فائقة، وآليات كبيرة؟!

وهذا ما جعل المصلحين ومؤسسي الحركات الإسلامية يدخلون معترك السياسة، ويلتمسون الإصلاح عن طريق (إقامة دولة إسلامية) التي تحقق ما قاله الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]

ليس من الضروري أن يكونوا هم حكام هذه الدولة، إذا وجدوا من يقيم هذه الدولة المنشودة بأركانها وشروطها. فلو قام الحكام الحاليون بذلك فما أسعدهم بذلك.

وإن رفضوا ذلك أو عجزوا عنه -كما هو الواقع الماثل- فقد وجب على أهل الدعوة والإصلاح والتغيير: أن يقوموا هم بالمهمة المطلوبة. وعليهم أن يعدوا مقدما: الإطارات البشرية، والآليات المادية، والمعينات الاجتماعية؛ التي تساعد في تحقيق الهدف، فليس يتم مثل هذا الانجاز بالأماني، ولا بالكلام.






الفصل الثاني

فصل الدِّين عن السياسة


أول ما رتبه العلمانيون على نظريتهم في العلاقة بين السياسة والدِّين: أنهم فصلوا السياسة عن الدِّين، والدِّين عن السياسة فصلا تاما، وأشاعوا المقولة الشهيرة: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدِّين! وهي مقولة لا تثبت على محكِّ النقد والمناقشة. 

بل هناك من ينادي بفصل الدين عن الحياة كلها، ولا ينبغي له أن يكون له دور إلا في ضمير الفرد، فإن سمح له بشيء أكثر ففي داخل المعبد (الكنيسة أو المسجد) وهو ما سماه د. عبد الوهاب المسيري العلمانية الشاملة). 

مناقشة مقولة: لا دين في السياسة: 

فما معنى: لا دين في السياسة: أتعني: أن السياسة لا دين لها، فلا تلتزم بالقِيَم والقواعد الدِّينية، وإنما هي (براجماتية) تتبع المنفعة حيث كانت، والمنفعة المادية، والمنفعة الحزبية أو القومية، والمنفعة الآنية، وترى أن المصلحة المادية العاجلة فوق الدِّين ومبادئه، وأن (الله) وأمره ونهيه وحسابه، لا مكان له في دنيا السياسة. 

وهي في الحقيقة تتبع نظرية مكيا فللي[1]، التي تفصل السياسة عن الأخلاق، وترى أن (الغاية تبرِّر الوسيلة)، وهي النظرية التي يبرِّر بها الطغاة والمستبدون مطالبهم وجرائمهم ضد شعوبهم، وخصوصا المعارضين لهم، فلا يبالون بضرب الأعناق، وقطع الأرزاق، وتضييق الخناق، بدعوى الحفاظ على أمن الدولة، واستقرار الأوضاع ... إلى آخر المبرِّرات المعروفة. 

ولكن هل هذه هي السياسة التي يطمح إليها البشر؟ والتي يصلح بها البشر؟ 

إن البشر لا يصلح لهم إلا سياسة تضبطها قِيَم الدِّين وقواعد الأخلاق، وتلتزم بمعايير الخير والشر، وموازين الحق والباطل. 

إن السياسة حين ترتبط بالدِّين، تعني: العدل في الرعية، والقسمة بالسوية، والانتصار للمظلوم على الظالم، وأخذ الضعيف حقه من القوي، وإتاحة فرص متكافئة للناس، ورعاية الفئات المسحوقة من المجتمع: كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ورعاية الحقوق الأساسية للإنسان بصفة عامة.

إن دخول الدِّين في السياسة ليس -كما يصوره الماديون والعلمانيون- شرا على السياسة، وشرا على الدِّين نفسه.

إن الدِّين الحق إذا دخل في السياسة: دخل دخول المُوجِّه للخير، الهادي إلى الرشد، المبين للحق، العاصم من الضلال والغي.

فهو لا يرضى عن ظلم، وهو لا يتغاضى عن زيف، ولا يسكت عن غي، ولا يقر تسلط الأقوياء على الضعفاء، ولا يقبل أن يعاقب السارق الصغير، ويكرم السارق الكبير!!

والدِّين إذا دخل في السياسة: هداها إلى الغايات العليا للحياة وللإنسان: توحيد الله، وتزكية النفس، وسمو الروح، واستقامة الخُلق. وتحقيق مقاصد الله من خلق الإنسان: عبادة الله، وخلافته في الأرض، وعمارتها بالحق والعدل، بالإضافة إلى ترابط الأسرة، وتكافل المجتمع، وتماسك الأمة، وعدالة الدولة، وتعارف البشرية.

ومع الهداية إلى أشرف الغايات، وأسمى الأهداف: يهديها كذلك إلى أقوم المناهج، لتحقيق هذه الغايات، وجعلها واقعا في الأرض يعيشه الناس، وليست مجرد أفكار نظرية، أو مثاليات تجريدية. 

والدِّين يمنح في الوقت نفسه رجال السياسة: الحوافز التي تدفعهم إلى الخير، وتقفهم عند الحق، وتشجعهم على نصرة الفضيلة، وإغاثة الملهوف، وتقوية الضعيف، والأخذ بيد المظلوم، والوقوف في وجه الظالم حتى يرتدع عن ظلمه، كما جاء في الحديث الصحيح: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قالوا: يارسول الله، ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذلك نصر له"[2].

والدِّين يمنح السياسي الضمير الحي أو (النفس اللوامة) التي تزجره أن يأكل الحرام من المال، أو يستحل الحرام من المجد، أو يأكل المال العام بالباطل، أو يأخذ الرشوة باسم الهدية أو العمولة. وهو الذي يجعل الحاكم يُحَرّض الناس على نصحه وتقويمه، (إن أسأت فقوموني)[3]، (من رأى منكم فيَّ اعوجاجا فليقومني)[4].

والدِّين يجرِّئ الجماهير المؤمنة أن تقول كلمة الحق، وتنصح للحاكم وتحاسبه، وتقومه إذا اعوج. لا تخاف في الله لومة لائم، حتى لا يدخلوا فيما حذر منه القرآن: {واتّقُوا فتْنةً لا تُصيبَنَّ الذينَ ظَلمُوا منْكُم خاصَّة واعْلمُوا أنَّ اللهَ شَديدُ العقابِ} [الأنفال: 25]، وفيما حذر منه الرسول الكريم أمته: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم"[5]، أي لا خير فيهم حينئذ ويستوي وجودهم وعدمهم. 

والسياسي حين يعتصم بالدِّين، فإنما يعتصم بالعروة الوثقى، ويحميه الدِّين من مساوئ الأخلاق، ورذائل النفاق، فإذا حدث لم يكذب، وإذا وعد لم يخلف، وإذا اؤتمن لم يخن، وإذا عاهد لم يغدر، وإذا خاصم لم يفجر، إنه مقيد بالمثل العليا ومكارم الأخلاق. 

كما جاء عن محمد صلى الله عليه وسلم الذي رفض معاونة من عرض عليه العون على المشركين، وله معهم عهد، فقال: "نفي لهم ونستعين الله عليهم"[6]، وأنكر قتل امرأة في إحدى الغزوات، قائلا: "ما كانت هذه لتقاتل"[7]. ونهى عن قتل النساء والصبيان[8]. 

أما تسمية الخداع والكذب والغدر والنفاق (سياسة)، فهذا مصطلح لا نوافق عليه، فهذه هي سياسة الأشرار والفجار، التي يجب على كل أهل الخير أن يطاردوها ويرفضوها. 

إن تجريد السياسة من الدِّين يعني تجريدها من بواعث الخير، وروادع الشر. تجريدها من عوامل البر والتقوى، وتركها لدواعي الإثم والعدوان. 

وربط السياسة بالدِّين يعطي الدولة قدرة على تجنيد (الطاقة الإيمانية) أو (الطاقة الروحية) في خدمة المجتمع، وتوجيه سياسته الداخلية إلى الرشد لا الغي، وإلى الاستقامة لا الانحراف، وإلى الطهارة لا التلوث بالحرام.

وكذلك تجنيد هذه الطاقة في السياسة الخارجية للدفاع عن الوطن، ومواجهة أعدائه والمتربصين به، والاستماتة في سبيل تحريره إذا احتلت أرضه، أو اغتصبت حقوقه، أو ديست كرامته. 

ولقد رأينا المسلمين في عصورهم الذهبية حين ارتبطت سياستهم بالدِّين، فتحوا الفتوح، وانتصروا على الإمبراطوريات الكبرى، وأقاموا دولة العدل والإحسان، ثم شادوا حضارة العلم والإيمان، مستظلين براية القرآن.

وها نحن نرى اليوم: الدولة الصهيونية المغتصبة (إسرائيل) كيف وظفت الدِّين اليهودي في إقامة دولتها، وتجميع اليهود في العالم على نصرتها، حتى العلمانيون من ساسة الصهيونية، كانوا يؤمنون بضرورة الاستفادة من الدِّين، وهم لا يؤمنون به مرجعا موجها للحياة. 

ونرى كذلك الرئيس الأمريكي الحالي (بوش) الابن وجماعته من أتباع اليمين المسيحي المتطرف، كيف يستخدمون الدِّين في تأييد سياستهم الطغيانية المستكبرة في الأرض بغير الحق، حتى رأينا (بوش) يتحدث وكأنه نبي يوحى إليه: أمرني ربي أن أحارب في العراق، أمرني ربي أن أحارب في أفغانستان ... إلى آخر ما أعلنه من صدور أوامر إلهية إليه!!

ورأينا أحزابا علمانية الفكر في أوربا تحاول أن تتقوَّى بالدين، فتنسب نفسها إليه، أي إلى المسيحية، فرأينا أحزابا مسيحية: ديمقراطية واشتراكية تقوم في عدد من دول أوربا، وتحصل على أكثرية أصوات الناخبين، وتتولى الحكم عدة مرات. 

فلماذا يُراد للمسلمين وحدهم أن يَفْصلوا السياسة عن الدِّين، أو يزيحوا الدين عن السياسة؟ لتمضي الأمة وحدها معزولة عن سر قوتها، مهيضة الجناح، منزوعة السلاح، لا حول لها ولا طول؟!

وقد أجمع كل الحكماء من المسلمين على أن ارتباط الملك أو الحُكم أو الدولة بالدين لا يثمر إلا الخير والقوة للدولة. 

يقول العلاَّمة البيروني في كتابة الشهير (تحقيق ما للهند من مقولة): (إن المُلك إذا استند إلى جانب من جوانب مِلَّة (أي دين) فقد توافى فيه التوأمان، وكمل فيه الأمر باجتماع الملك والدين).

وابن خلدون في (مقدمته) الشهيرة يفرق بين نوعين من المجتمعات: مجتمع دنيوي محض، ومجتمع دنيوي ديني، وهو أزكى وأفضل من المجتمع الأول، فهو يقر بأثر الدين في الحياة الاجتماعية، الذي لا يقل أهمية عن أثر العصبية، ومن ثَمَّ كانت الصورة المثلى للدولة عنده، هي التي يتآخى فيها الدين والدولة[9]. 

مناقشة مقولة: لا سياسة في الدِّين: 

وما معنى (لا سياسة في الدِّين): إن كان معناها: أن الدِّين لا يعنى بسياسة الناس ألبتَّة، ولا يشغل نفسه بمشكلات حياتهم العامة، وتدبير أمورهم المعيشية، وعلاقة بعضهم ببعض، فهذا ليس بصحيح. فكل الأديان لها توجيهات في هذا الجانب، تَقْصر في دين، وتَطُول في آخر. والإسلام هو أطول الأديان باعا في هذا المجال، وله في ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وله تراث حافل من فقه الشريعة، وشروح مذاهبها، واختلاف مشاربها.

ولقد ذكر الشيخ علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم): أن الدنيا أهون عند الله من أن ينزل في تدبير شؤونها نصوصا من وحيه[10]!! 

ونسي الشيخ أو تناسى أن الله أنزل أطول آية في كتابه (القرآن) في شأن من شؤون الدنيا، وهو كتابة الدَّين وتوثيقه. وذلك في الآية (282) من سورة البقرة، المعروفة بآية المداينة. وأن (آيات الأحكام) التي عني بها المفسرون والفقهاء تعد بالمئات.

وكل أصحاب الأديان كان لهم مشاركات في توجيه الحياة السياسية، حتى الكنيسة المسيحية التي قرأت قول الإنجيل: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، لم تأخذه بحرفيته، وحاولت أن تتدخل في شأن قيصر وأن توجهه، وربما نزعت السلطة منه. 

ضلالة فصل الدِّين عن السياسة: 

وقد اختار شيخنا العلامة محمد الخضر حسين -شيخ الأزهر في زمانه- أن يعبر عن فصل الدِّين عن السياسة -الذي دعا إليه أحد الكُتَّاب- بعبارة (ضلالة) وهو تعبير شرعي صحيح، لأنه أمر مُحْدث ومبتدع في الأمة، وكل بدعة ضلالة، كما في الحديث الصحيح. 

وقد كتب في ذلك مقالة طويلة نشرها في مجلة (نور الإسلام)[11]، ثم وضعها في كتابه (رسائل الإصلاح). 

ومما قاله الشيخ في هذه المقالة العلمية الرصينة:

(نعرف أن الذين يدعون إلى فصل الدِّين عن السياسة فريقان: 

1. فريق يعترفون بأن للدين أحكاما وأصولا تتصل بالقضاء والسياسة، ولكنهم يُنْكرون أن تكون هذه الأحكام والأصول كافلة بالمصالح، آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب. ولم يبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في أحكام الدِّين وأصوله، وقبلوا أن يسميهم المسلمون ملاحدة؛ لأنهم مُقِرُّون بأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بمن نزل عليه القرآن. 

2. ورأى فريق أن الاعتراف بأن في الدِّين أصولا قضائية وأخرى سياسية، ثم الطعن في صلاحها، إيذان بالانفصال عن الدِّين، وإذا دعا المنفصل عن الدِّين إلى فصل الدِّين عن السياسة، كان قصده مفضوحا، وسعيه خائبا، فاخترع هؤلاء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم، وهو أن يَدَّعوا أن الإسلام توحيد وعبادات، ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة، وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشُّبه، لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة فيتم لهم ما بيتوا. 

هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدِّين عن السياسة، وكلاهما يبغي من أصحاب السلطان: أن يضعوا للأمة الإسلامية قوانين تناقض شريعتها، ويسلكوا بها مذاهب لا توافق ما ارتضاه الله في إصلاحها. وكلا المسلكين وليد الافتتان بسياسة الشهوات، وقصور النظر عما لشريعة الإسلام من حِكَم بالغات. 

أما أنَّ الإسلام قد جاء بأحكام وأصول قضائية، ووضع في فم السياسة لجاما من الحكمة، فإنما ينكره من تجاهل القرآن والسنة، ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين، إذ كانوا يزنون الحوادث بقسطاس الشريعة، ويرجعون عند الاختلاف إلى كتاب الله أو سنة رسوله. 

وبين الشيخ أن في القرآن شواهد كثيرة على أن دعوته تدخل في المعاملات المدنية، وتتولى إرشاد السلطة السياسية، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وكل حكم يخالف شرع الله، فهو من فصيلة أحكام الجاهلية، وفي قوله تعالى: { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، إيماء إلى أن غير الموقنين قد ينازعون في حُسْن أحكام رب البرية، وتهوى أنفسهم تبدُّلها بمثل أحكام الجاهلية، ذلك لأنهم في غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم، ولم يستطيعوا أن يميزوا سيئاتهم من حسناتهم، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]، فرض في هذه الآية أن يكون فصل القضايا على مقتضى كتاب الله، ونبه على أن مَن لم يدخل الإيمان في قلوبهم يبتغون من الحاكم أن يخلق أحكامه من طينة ما يوافق أهواءهم، وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه أسرى الشهوات عن بعض ما أنزل الله، وفتنتهم له في أن يسمع لقولهم، ويضع مكان حكم الله حكما يلائم بغيتهم، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي آية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وفي آية ثالثة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. 

وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والإشهاد، وأحكام النكاح والطلاق واللعان والولاء والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث، وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات، وجزاء الساعي في الأرض فسادا). 

وذكر الشيخ آيات تتعلَّق بالحرب والسلم والمعاهدات والعلاقات الدولية. 

ثم قال: (وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من المعاملات والجنايات إلى نحو هذا مما يدلك على أن مَن يدعو إلى فصل الدِّين عن السياسة إنما تصور دينا آخر غير الإسلام. 

وفي سيرة أصحاب رسول الله -وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة- ما يدل دلالة قاطعة على أن للدين سلطانا في السياسة، فإنهم كانوا يأخذون على الخليفة عند مبايعته شرط العمل بكتاب الله وسنة رسول الله.

ولولا علمهم بأن السياسة لا تنفصل عن الدِّين لبايعوه على أن يسوسهم بما يراه أو يراه مجلس شوراه مصلحة، وفي صحيح البخاري: "كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم"[12]. 

ومن شواهد هذا: محاورة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة، فإنها كانت تدور على التفقه في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"[13]. فعمر بن الخطاب يستدل على عدم قتالهم بقوله في الحديث: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم". وأبو بكر يحتج بقوله في الحديث: "إلا بحقها" ويقول: الزكاة من حق الأموال، ولو لم يكونوا على يقين أن السياسة لا يسوغ لها أن تخطو خطوة إلا أن يأذن لها الدِّين بأن تخطوها، ما أورد عمر ابن الخطاب هذا الحديث، أو لوجد أبو بكر عندما احتج عمر بالحديث فسحة في أن يقول له: ذلك حديث رسول الله، وقتال مانعي الزكاة من شؤون السياسة! 

ومن شواهد أن ربط السياسة بالدِّين أمر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم: قصة عمر بن الخطاب، إذ بدا له أن يضع لمهور النساء حدا، فتَلَت عليه امرأة قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء:20]، فما زاد على أن قال: رجل أخطأ، وامرأة أصابت[14]. ونبذ رأيه وراء ظهره، ولم يقل لها: ذلك دين وهذه سياسة!

وكتب السنة والآثار مملوءة بأمثال هذه الشواهد، ولم يوجد -حتى في الأمراء المعروفين بالفجور- من حاول أن يمس اتصال السياسة بالدِّين من الوِجهة العملية، وإن جروا في كثير من تصرفاتهم على غير ما أذن الله به، جهالة منهم أو طغيانا. 

أراد الحجاج أن يأخذ رجلا بجريمة بعض أقاربه، فذكَّره الرجل بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فتركه[15]، ولم يخطر على باله -وهو ذلك الطاغية- أن يقول له: ما تلوته دين، وما سأفعله سياسة!).

ثم قال الشيخ رحمه الله: 

(فصل الدِّين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدِّين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين، وليست هذه الجناية بأقل مما يعتدي به الأجنبي على الدِّين إذا جاس خلال الديار، وقد رأينا الذين فصلوا الدِّين عن السياسة علنا كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن، ورأينا كيف كان بعض المبتلين بالاستعمار الأجنبي أقرب إلى الحرية في الدِّين ممَّن أصيبوا بسلطانهم، ونحن على ثقة من أن الفئة التي ترتاح لمثل مقال الكاتب لو ملكت قوة لألغت محاكم يقضى فيها بأصول الإسلام، وقلبت معاهد تدرس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهد لهو ومجون، بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم عن التصرف في مساجد يذكر فيها اسم الله تصرف من لا يرجو لله وقارا)[16]. 

الدِّين ليس دائما مقصورا على الروحانية:

وإذا نظرنا نظرة أخرى في مقولة: (لا سياسة في الدِّين ولا دين في السياسة) نرى أنها لا تصدق على كل دين. ومن التبسيط المخل -وربما من الكذب المكشوف- اعتبار الأديان كلها بعيدة عن السياسة، والسياسات كلها بعيدة عن الدِّين. 

فليست الأديان كلها مقصورة على الجانب الروحاني أو اللاهوتي، ولا صلة لها بشؤون الحياة، فهذا يصدق في بعض الأديان ولا يصدق في البعض الآخر.

فمن الأديان ما يتصل بالحياة ويشرِّع لها، كما في ديانة موسى عليه السلام (اليهودية)، كما يبدو ذلك من الأحكام التي جاءت في التوراة، التي تسمى (الناموس). وهو ما أعلن المسيح عليه السلام أنه ما جاء لينقض الناموس، فقال: (ما جئت لأنقض الناموس، بل لأتمم)[17].

ففي التوراة تشريعات مختلفة، بعضها يتعلَّق بالأسرة، وبعضها يتعلَّق بالمجتمع، وبعضها يتعلَّق بالعقوبات: (السن بالسن، والعين بالعين، ...)[18]، وبعضها يتعلَّق بالعلاقات الدولية. 

ودين الإسلام جاء بوصايا أخلاقية، وتشريعات قانونية تتعلَّق بأمر الدنيا والحياة، مبثوثة في آيات القرآن، وأحاديث الرسول، وعُني بتفسيرها وشرحها علماء الأمة فيما عرف بـ(آيات الأحكام) و(أحاديث الأحكام). وفصَّلها فقهاء المذاهب في كتبهم، التي شملت أمور الإنسان فردا وأسرة ومجتمعا ودولة، من أدب الاستنجاء، وأدب المائدة، إلى بناء الدولة، وعلاقاتها مع الأمم والدول الأخرى. 

فكيف يقال هنا: لا سياسة في الدِّين!

إن أحد أركان الإسلام هو الزكاة، وهو ركن مالي اجتماعي سياسي، لأن الأصل فيها أنها تنظيم تشرف عليه الدولة، تأخذها من الأغنياء وتردها على الفقراء، فالدولة أو السلطة هي التي تجمعها، وهي التي تصرفها في مصارفها الشرعية بواسطة جهاز إداري ومالي، سماه القرآن (العاملين عليها).

ومن مصارف الزكاة (المؤلفة قلوبهم) وهو مصرف سياسي في أصله، يتصرف فيه الإمام (أي الدولة) ليشتري ولاء بعض القبائل والقوى الاجتماعية أو السياسية، أو يحبب إليهم الإسلام، أو يكف شرهم عن المسلمين، أو ليقطع الطريق على أعداء الإسلام أن يستميلوهم إليهم. كل ذلك عن طريق ما يعطى لهم لاستمالة قلوبهم. وهذا في معظمه غرض سياسي محض. 

ثم إن المسلم يستطيع أن يدخل في السياسة، وهو في قلب صلاته التي يتعبد لربه بها، بأن يقرأ آيات في صميم السياسة من القرآن، أو يدعو على المستعمرين والحكام الطغاة بدعاء القنوت، وهو ما يعرف عند الفقهاء بـ(قنوت النوازل). ويعنون بالنوازل: المحن والشدائد التي تنزل بالأمة، مثل: احتلال الغزاة لأرضها، ووقوع الكوارث والزلازل ونحوها.

وأذكر أن الإمام الشهيد حسن البنا في سنة 1946 أو 1947م، كتب في حديثه الأسبوعي في صحيفة جماعته اليومية (الإخوان المسلمون): حديث الجمعة عن (قنوت النوازل)، وطلب من الأئمة والخطباء، أن يقنتوا بهذا القنوت، ويدعوا على الانجليز المستعمرين، ووضع لهم صيغة لم يلزمهم بالدعاء بها، ولكن قال: بمثل هذه الصيغة فادعوا على أعدائكم.

وأذكر من هذه الصيغة:

اللهم رب العالمين، وأمان الخائفين، ومذل المتكبرين، وقاصم الجبارين، تقبَّل دعاءنا، وأجب نداءنا ...

اللهم إنك تعلم أن هؤلاء الغاصبين من البريطانيين، قد احتلوا أرضنا، وغصبوا حقنا، وطغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد. اللهم فردَّ عنا كيدهم، وفلَّ حدَّهم ... وأدل دولتهم، واذهب عن أرضك سلطانهم، ولا تدع لهم سبيلا على أحد من عباد المؤمنين. آمين[19].

وقد التزم الكثيرون من المتدينين بأن يدعوا على الانجليز المحتلين المستكبرين في صلواتهم، وخصوصا الجهرية منها، بهذا الدعاء وأمثاله. وكان ذلك لونا من التعبئة الفكرية والشعورية والعملية ضد الاحتلال المدل بقوته العسكرية، وقوته الاقتصادية. 

والسياسة ليست دائما علمانية:

وإذا ثبت لنا أن الدِّين ليس دائما روحانيا خالصا، نستطيع هنا أن نقول بكل وضوح: إن السياسة ليست دائما علمانية، أو لا دينية.

فكم رأينا من سياسات تتبنى الدِّين وتدافع عنه، وتتحمل أعباء الدعوة إليه، وتذود عن حماه. ثبت ذلك في التاريخ القديم، وثبت ذلك في العصر الحديث.

عرف التاريخ القديم المَلِك قسطنطين إمبراطور روما المعروف الذي كان وثنيا، ثم اعتنق النصرانية، وانتصر لمذهب المؤلهين للمسيح ضد آريوس ومن وافقه في التمسك بعقيدة التوحيد.

المهم أنه تبنى العقيدة المسيحية على مذهبه، وطارد أعداءها وأعداءه عقودا من السنين. وظلت الكنيسة في الغرب توجه الدِّين لعدة قرون، حتى قامت الثورة الفرنسية ثائرة على الكنيسة ورجالها الذين وقفوا مع الجمود ضد التحرُّر، ومع الخرافات ضد العلم، ومع الملوك ضد الشعوب، ومع الإقطاعيين ضد الفلاحين. لهذا ثارت عليهم الجماهير الغاضبة، منادية: اشنقوا آخر مَلِك بأمعاء آخر قسيس!

وفي التاريخ الإسلامي - وخصوصا عهد الراشدين- كانت السياسة في خدمة الدِّين، وكان الدِّين هو الموجه الأول للفكر، والمحرك الأول للمشاعر، والمؤثر الأول في السلوك.

بل كان هذا هو الاتجاه العام في التاريخ الإسلامي كله، على تفاوت في الدرجة، ولكن لم يغب الدِّين -أو الإسلام- عن الساحة، ولم يدع السياسة وشأنها تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد. بل كان الإسلام هو أساس القضاء في المحاكم، وأساس الفتوى لجماهير الشعب، وأساس التعليم في المدارس والكتاتيب والجامعات. كما دلَّلنا على ذلك في كتابنا (تاريخنا المفترى عليه)[20].

وفي عصرنا لا زالت هناك سياسات تتبنى الدِّين، وتجمع الجماهير عليه، وتعلن انتصارها له، وحماسها في تبليغ رسالته.

وقد ذكرنا من قريب: كيف قامت سياسة دولة بني صهيون على توظيف الدِّين في إقامة الدولة، ثم في حراستها وتثبيتها، واستغلال الجانب الدِّيني عند المسيحين لتأييدها ونصرتها.

كما ذكرنا الرئيس الأمريكي بوش الابن، وتبنيه لليمين المسيحي المتطرف المتصهين في توجيه سياسة أمريكا اليوم.

وقد كان هذا الالتزام! الديني الواضح من بوش من الأسباب الرئيسة لفوزه في انتخابات الرئاسة على خَصمه (كيري) الذي كان يتبنى خطًا مخالفا لتعاليم الدين المسيحي. 

وهذا ينقض المقولات التي تزعم أن كل السياسات علمانية، ولا مدخل للدين في أي منها.

الفصل الثالث

تهمة الإسلام السياسي!


ومن التعبيرات التي يُشنِّع بها العلمانيون والحداثيون: تعبير (الإسلام السياسي)، وهي عبارة دخيلة على مجتمعنا الإسلامي بلا ريب، ويعنون به الإسلام الذي يُعنى بشئون الأمة الإسلامية وعلاقاتها في الداخل والخارج، والعمل على تحريرها من كل سلطان أجنبي يتحكَّم في رقابها، ويُوجِّه أمورها المادية والأدبية كما يريد، ثم العمل كذلك على تحريرها من رواسب الاستعمار الغربي الثقافية والاجتماعية والتشريعية، لتعود من جديد إلى تحكيم شرع الله تعالى في مختلف جوانب حياتها ...

وهم يطلقون هذه الكلمة (الإسلام السياسي) للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين، الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، باعتباره عقيدة وشريعة، وعبادة ومعاملة، ودعوة ودولة.

وقد كنت رددت على هذه الدعوة، وفنَّدت هذه التسمية، في فتوى مطوَّلة، ظهرت في الجزء الثاني من كتابي: (فتاوى معاصرة)، يحسن بي أن أقتبس فقرات منها فيما يلي:

هذه التسمية مردودة وخاطئة: 

وذلك لأنها تطبيق لخُطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلامًا واحدًا كما أنزله الله، وكما ندين به نحن المسلمين.

بل هو (إسلامات) متعدِّدة مختلفة كما يحب هؤلاء.

فهو ينقسم أحيانًا بحسب الأقاليم: فهناك الإسلام الآسيوي، والإسلام الإفريقي.

وأحيانًا بحسب العصور: فهناك الإسلام النبوي، والإسلام الراشدي، والإسلام الأُموي، والإسلام العباسي، والإسلام العثماني، والإسلام الحديث.

وأحيانًا بحسب الأجناس: فهناك الإسلام العربي، والإسلام الهندي، والإسلام التركي، والإسلام الماليزي ... إلخ.

وأحيانًا بحسب المذهب: هناك الإسلام السُّني، والإسلام الشيعي، وقد يقسمون السُّني إلى أقسام، والشيعي إلى أقسام أيضًا.

وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة : فهناك الإسلام الثوري، والإسلام الرجعي أو الراديكالي، والكلاسيكي، والإسلام اليميني، والإسلام اليساري، والإسلام المُتزمِّت، والإسلام المُنفتح.

وأخيرًا الإسلام السياسي، والإسلام الروحي، والإسلام الزمني، والإسلام اللاهوتي! 

ولا ندري ماذا يخترعون لنا من تقسيمات يُخبِّئها ضمير الغد؟!

تقسيمات مرفوضة للإسلام:

والحق أن هذه التقسيمات كلَّها مرفوضة في نظر المسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد لا شريك له، ولا اعتراف بغيره، هو (الإسلام الأول) إسلام القرآن والسنة.

الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة، وخير قرونها، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ممَّن أثنى الله عليهم ورسوله.

فهذا هو الإسلام الصحيح، قبل أن تشُوبه الشوائب، وتلوِّث صفاءه تُرَّهَات المِلَل وتطرفات النِحَل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفِرَق، وأهواء المُجادلين، وانتحالات المُبطلين، وتعقيدات المُتنطِّعين، وتعسُّفات المُتأوِّلين الجاهلين.

ثانيًا: الإسلام لا يكون إلا سياسيًا: 

وهنا يجب أن أُعلنها صريحة: إن الإسلام الحق -كما شرعه الله- لا يمكن أن يكون إلا سياسيًا، وإذا جرَّدت الإسلام من السياسة، فقد جعلته دينًا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية، أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا.

وذلك لسببين رئيسين : 

السبب الأول: الإسلام يوجِّه الحياة كلها:

إن للإسلام موقفًا واضحًا، وحكمًا صريحًا في كثير من الأمور التي تُعتبر من صُلب السياسة.

فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبُّدية فحسب، أعني أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة.

كلا ... إنه عقيدة، وعبادة، وخلق، وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى: هو منهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ، وما أصَّل من قواعد، وما سنَّ من تشريعات، وما بيَّن من توجيهات، تتَّصل بحياة الفرد، وشؤون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأُسس الدولة، وعلاقات العالم.

ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، وجد هذا واضحًا كل الوضوح.

حتى إن قسم العبادات من الفقه ليس بعيدًا عن السياسة، فالمسلمون مُجْمِعُون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة، والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة.

إن فكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله ربًا، ولا يتَّخذ غير الله وليًا، ولا يبتغي غير الله حَكَمًا، كما بيَّنت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعرفة باسم (سورة الأنعام).

وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوَّة للبشر، حتى لا يتخذَّ بعض الناس بعضًا أربابًا من دون الله، وتُبطل عبودية الإنسان للإنسان، ولذا كان الرسول الكريم صلوات الله عليه يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية، من أول يوم، بمجرد رفع راية (لا إله إلا الله) فقد كانوا يُدركون ماذا وراءها، وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب.

السبب الثاني: شخصية المسلم شخصية سياسية:

إن شخصية المسلم -كما كوَّنها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته- لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فَهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له.

فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وقد يُعبِّر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي التي صحَّ في الحديث اعتبارها الدِّين كله[1]، وقد يُعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خُسر الدنيا والآخرة، كما وضَّحت ذلك (سورة العصر).

ويُحرِّض الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم على مقاومة الفساد في الداخل، ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"[2]، وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهِّد السبيل لعدوان الخارج.

ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله: "سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"[3].

ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرُّد على الظالمين حتى إنه ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن مسعود، وهو المعمول به في المذهب الحنفي وغيره: "نشكرك الله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يَفجرُك"[4].

ويُرغِّب في القتال لإنقاذ المُضطهدين، والمُستضعفين في الأرض، بأبلغ عبارات الحثِّ والتحريض، فيقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75].

ويصبُّ جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضَّيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99].

حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم: {عََسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}، فجعل ذلك في مَظِنَة الرجاء من الله تعالى، زجرًا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلاً.

وحديث القرآن المُتكرِّر عن المُتجبرين في الأرض من أمثال فرعون، وهامان، وقارون وأعوانهم وجنودهم، حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار -فكريًا وشعوريًا- لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين.

وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر، والوقوف موقف السلب من مقترفيه -حكامًا أو محكومين- حديث يُزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.

يقول القرآن : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة :78،79].

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[5]. 
ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنى، وشرب الخمر، وما في معناهما.

إن الاستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر أي منكر، لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر، وتملُّق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم منكر أي منكر، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر أي منكر.

وهكذا نجد دائرة المنكرات تتَّسع وتتَّسع لتشمل كثيرًا مما يعدُّه الناس في صُلب السياسة.

فهل يَسَع المسلم الشحيح بدينه، الحريص على مرضاة ربه، أن يقف صامتًا؟ أو ينسحب من الميدان هاربًا، أمام هذه المنكرات وغيرها ... خوفًا أو طمعًا، أو إيثارًا للسلامة؟ 

إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحُكِم عليها بالفناء، لأنها غَدَت أمة أخرى، غير الأمة التي وصفها الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].

ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف إذ يقول: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم فقد تُودِّع منهم"[6]. أي فقدوا أهلية الحياة.

إن المسلم مطالب -بمقتضى إيمانه- ألا يقف موقف المتفرج من المنكر، أيًا كان نوعه : سياسيًا كان أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد، إن استطاع، وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها، وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث : "أضعف الإيمان".

وإنما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم تغييرًا بالقلب، لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته، وهذه التعبئة ليست أمرًا سلبيًا محضًا، كما يتوهم، ولو كانت كذلك ما سماها الحديث (تغييرًا).

وهذا التعبئة المستمرة للأنفس، والمشاعر، والضمائر لا بد لها أن تتنفَّس يومًا ما، في عمل إيجابي، قد يكون ثورة عارمة أو انفجارًا لا يُبقى ولا يُذر، فإن توالى الضغط لا بد أن يُولِّد الانفجار، سنة الله في خلقه.

وإذا كان هذا الحديث سمي هذا الموقف (تغييرًا بالقلب)، فإن حديثًا نبويًا آخر سماه (جهاد القلب)، وهي آخر درجات الجهاد، كما أنها آخر درجات الإيمان وأضعفها، فقد روى مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس ذلك من الإيمان حبة خردل"[7].

وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر، وخصوصًا إذا انتشر شراره واشتد أواره، وقَوِي فاعلوه، أو كان المنكر من قِبَل الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له، لا أصحابه وحرَّاسه، وهنا يكون الأمر كما قال المثل : حاميها حراميها، أو كما قال الشاعر : 

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟!

وهنا يكون التعاون على تغيير المنكر واجبًا لا ريب فيه، لأنه تعاون على البر والتقوى، ويكون العمل الجماعي عن طريق الجمعيات أو الأحزاب، وغيرها من القنوات المتاحة، فريضة يوجبها الدِّين، كما أنه ضرورة يُحتِّمها الواقع.

بين الحق والواجب:

إن ما يُعتبر في الفلسفات والأنظمة المعاصرة (حقًا) للإنسان في التعبير والنقد والمعارضة، يَرقى به الإسلام ليجعله فريضة مقدسة يبوء بالإثم، ويستحق عقاب الله إذا فرَّط فيها.

وفرق كبير بين (الحق) الذي يدخل في دائرة (الإباحة)، أو (التخيير) الذي يكون الإنسان في حِلٍ من تركه إن شاء، وبين (الواجب) أو (الفرض) الذي لا خيار للمكلف في تركه أو إغفاله بغير عذر يقبله الشرع. 

وممَّا يجعل المسلم سياسيًا دائمًا: أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصًا المؤمنين منهم، بحكم أُخوة الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. 

وفي الحديث : "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومَن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم"[8]، "وأيما أهل عَرْصَة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله"[9]. 

والقرآن كما يفرض على المسلم أن يُطعم المسكين، يفرض على أن يحضَّ الآخرين على إطعامه ... ولا يكون كأهل الجاهلية الذين ذمَّهم القرآن بقوله: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:17،18]، ويجعل القرآن التفريط في هذا الأمر من دلائل التكذيب بالدِّين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3].

وهذا في المجتمعات الرأسمالية والإقطاعية المضيعة لحقوق المساكين والضعفاء تحريض على الثورة، وحضٌّ على الوقوف مع الفقراء في مواجهة الأغنياء.

وكما أن المسلم مطالَب بمقاومة الظلم الاجتماعي، فهو مطالَب أيضًا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيًا كان اسمه ونوعه ... والسكوت عن الظلم والتهاون فيه، يوجب العذاب على الأمة كلها: الظالم والساكت عنه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].

وقد ذمَّ القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً} [نوح:21].

بل جعل القرآن مُجرَّد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبًا لعذاب الله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113].

ويُحمِّل الإسلام كل مسلم مسئولية سياسية: أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك، وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث الصحيح : "من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية"[10]. 

الصلاة والسياسة: 

وكما ذكرنا من قب أن المسلم قد يكون في قلب الصلاة، ومع هذا يخوض في بحر السياسة حين يتلو من كتاب الله الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صُلب ما يسميه الناس (سياسة). 

فمن يقرأ في سورة المائدة: الآيات التي تأمر بالحُكم بما أنزل الله، وتدمغ من لم يحكم بما أنزل الله سبحانه بالكفر والظلم والفسوق : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، يكون قد دخل في السياسة، وربما اعتُبر من المعارضة المُتطرفة، لأنه بتلاوة هذه الآيات يُوجه الاتِّهام إلى النظام الحاكم، ويُحرض عليه، لأنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها.

ومثل ذلك من يقرأ الآيات التي تُحذر من موالاة غير المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144].

ومن قَنَتَ (قنوت النوازل) المُقرَّر في الفقه، وهو الدعاء الذي يُدعى به في الصلوات بعد الرفع من الركعة الأخيرة، وخصوصًا في الصلاة الجهرية، وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة، كغزو عدو، أو وقوع زلزال، أو فيضان أو مجاعة عامة، أو نحو ذلك ... كما نفعل كثيرا عندما يقع عدوان صهيوني كبير على فلسطين، أو على لبنان، وكما حدث كثيرا في حرب السوفيت لأفغانستان، وحرب الصرب للبوسنة والهرسك وغيرها.

وهكذا كنا ندخل في مُعترك السياسة، ونخوض غِماره، ونحن في محراب الصلاة متبتلون خاشعون ... فهذه هي طبيعة الإسلام، لا ينعزل فيه دين عن دنيا، ولا تنفصل فيه دنيا عن دين، ولا يعرف قرآنه ولا سنته ولا تاريخه دينًا بلا دولة، ولا دولة بلا دين ... 

الساسة يدخلون الدِّين في السياسة متى أرادوا!

الذين زعموا أن الدِّين لا علاقة له بالسياسة من قبل، والذين اخترعوا أكذوبة (لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدِّين) من بعد، أول من كذَّبوها بأقوالهم وأفعالهم.

فطالما لجأ هؤلاء إلى الدِّين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم، والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدِّين، ليستصدروا منهم فتاوى ضدَّ من يُعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا.

لا زلت أذكر كيف صدرت الفتاوى ونحن في معتقل الطور سنة 1948م، 1949 م بأننا -نحن الدعاة إلى تحكيم القرآن وتطبيق الإسلام- نحارب الله ورسوله ونسعى في الأرض فسادًا فحقنا أن نُقتل أو نُصلب، أو تُقطَّع أيدينا وأرجلنا من خِلاف، أو ننفى من الأرض!

وتكرَّر هذا في أكثر من عهد، تتكرَّر المسرحية وإن تغيرت الوجوه!

ولازلت أذكر -ويذكر الناس- كيف طلب من أهل الفتوى أن يصدروا فتواهم بمشروعية الصلح مع إسرائيل، تأييدًا لسياستهم الانهزامية، بعد أن أصدرت الفتوى من قبل بتحريم الصلح معها، واعتبار ذلك خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين!

ولا زال الحكام يلجأون إلى علماء الدِّين، ليفرضوا عليهم فتاوى تخدم أغراضهم السياسية، وآخرها محاولات تحليل فوائد البنوك وشهادات الاستثمار، فيستجيب لهم كل رخو العود -ممن قلَّ فقههم أو قلَّ دينهم- ويأبى عليهم العلماء الراسخون : {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39].

الفصل الرابع

السياسة بين النص والمصلحة 

ومن النقاط المهمة التي يتحدث عنها كثيرون من الحداثيين والعلمانيين: أن السياسة إذا ارتبطت بالدِّين، فإن الدِّين يقيدها، ويعوقها عن الانطلاق، وخصوصا إذا فُهم الدِّين على أنه التزام بالنصوص الجزئية والتفصيلية من الكتاب والسنة.

فالسياسة تحتاج إلى أن تتحرك في فضاء واسع من النظر في المصالح والمفاسد والموازنة بينهما إذا تعارضتا. وكثيرا ما تحتاج السياسة إلى الكر والفر، وإلى نوع من الدهاء والمكر مع الأعداء. وقد لا يبيح الدِّين لأصحابه كل هذا القدر من التوسع والترخص. وبذلك تكون الغلبة لأعداء الدِّين، حيث يكونون هم في حِل من الالتزام بأية قيود، ونكون -نحن المسلمين- المكبلين بالأوامر والنواهي.

وهذا ما لم نتخذ طريقا آخر في فَهم الدِّين، وهو النظر إلى المقاصد الكلية للدين، لا إلى النصوص الجزئية له. على وفق ما فعل عمر الخليفة الثاني، الذي عطل بعض النصوص لتحقيق مصالح المسلمين، فيما زعموا.

وبدون هذا يظل الدِّين -في إطاره القديم وفَهمه التقليدي- عقبة أو حجر عثرة في طريق السياسة، أو طريق الدولة الحديثة، في عالمنا المتشابك.

وهذا الكلام فيه خلط ولبس كثير، إن أحسنا الظن بقائله، وفيه تلبيس شديد، إن لم نحسن الظن.

الشريعة إذا أحسن فهمها ليست قيدا بل منارة تهدي:

لقد بينا -بمنطق الشرع والعقل- أن الدِّين منارة تهدي، وليس قيدا يعوق. وأن الشريعة -كما قال ابن القيم- عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل[1]!

ومن ثَمَّ تكون الآفة في أفهام المسلمين للإسلام وشريعته، وليست في الإسلام نفسه.

ولهذا كان من الواجب الدعوة إلى حسن فَهم الإسلام وأحكامه، لا إلى تنحيته من الطريق، لتمضي السياسة حرة، لا تتقيد إلا بالمصلحة، كما يراها من يراها من الناس.

إن بعض الناس ينظر إلى الإسلام نظرة مثالية لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فهو يتخيل إسلاما يحلق بأصحابه في أجواء مجنحة، ولا ينزل إلى أرض الواقع.

وهذا غير صحيح، فالإسلام -مع مثاليته الرفيعة- يعالج الواقع كما هو، بخيره وشره، وحلوه ومره، ويجيز استعمال المكر والدهاء مع أهل المكر والدهاء، ويقول: " الحرب خدعة"[2]، ويرى أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه يجوز في وقت الضيق والاضطرار، ما لا يجوز في وقت السَّعَة والاختيار. ومن قواعده: ارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين، واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وقبول الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما. وكلها من النظرة الواقعية التي هي من خصائص الإسلام وشريعته[3].

أما (النظرة المقاصدية) للدين وللشريعة، فنحن في مقدمة الداعين إليها، والأحفياء بها، ولكن الذي نحذر منه أبدا: أن تتخذ النظرة المقاصدية واعتبار المصالح ذريعة لتعطيل النصوص من الكتاب والسنة، وخصوصا إذا كانت النصوص مُحكمة قاطعة؛ فهذه لا يملك المؤمن أمامها إلا أن يقول: (سمعنا وأطعنا). والقرآن صريح كل الصراحة في ذلك، وأن هذا الإذعان هو مقتضى الإيمان، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. 

الموازنة بين النصوص والمقاصد:

والذي ندعو إليه دائما هو: الموازنة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، أو بعبارة أخرى: النظر إلى النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية[4]، ولا يجوز أن نضرب إحداهما بالأخرى، فهي تتكامل ولا تتناقض.

وقد ذكرنا في كتابنا عن مقاصد الشريعة: أن هناك مدارس ثلاثا في هذه القضية: 

الأولى: المدرسة الحرفية: أو من سميتهم (الظاهرية الجدد) الذين يركزون على النص الجزئي، ويفهمونه فَهما حرفيا، ولا يكادون يفهمون أي وزن للمقصد الكلي. وبهذا يصطدمون بالواقع، ويضيقون على الناس فيما وسع الله فيه، ويعسرون ما يسر الله. 

والثانية: المدرسة المقابلة لتلك، وهي التي تُغفل النصوص تماما، ولا تعيرها أي التفات، بدعوى أنها تنظر إلى المقاصد، وتهتم بالفحوى. وهم الذين سميتهم (المدرسة المعطلة). فقد كان هناك قديما من سماهم علماؤنا (المعطلة) ولكن كان تعطيلهم في مجال العقيدة، وهؤلاء الجدد تعطيلهم في مجال الشريعة.

وهؤلاء الذين يريدون أن يلغوا تحريم الربا في مجال الاقتصاد، ويلغوا الحدود في مجال العقوبات، ويلغوا الطلاق وتعدد الزوجات في مجال الأسرة، ويلغوا الاحتشام (الحجاب) في مجال المرأة، ويلغوا الجهاد في مجال الدفاع عن الدعوة والأمة ... إلخ.

والثالثة: هي التي تنظر إلى النص الجزئي والمقصد الكلي نظرة متوازنة، وهي المدرسة الوسطية، التي ينبغي أن نعتمد نظرتها إلى الشريعة وإلى الواقع. وهي التي يمكن أن يرتضيها جمهور المسلمين، والمدرستان الأخريان لا تحظيان عمليا بالقَبول. ناهيك بأنهما -من الناحية العلمية المحض- غير مُسلَّمتين. 

الادعاء على عمر رضي الله عنه أنه عطل النصوص باسم المصالح:

والعلمانيون يتبنون المدرسة الثانية -مدرسة التعطيل للنصوص- ويتكئون على مقولات تزعم أن عمر بن الخطاب عطل النصوص القرآنية باسم المصالح. وإننا نعيذ عمر أن يفعل ذلك. وقد كان وقافا عبد كتاب الله. وقد ردت عليه امرأة في مسألة مهور النساء، فانصاع لقولها، وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر!

وقد كانت رعية عمر من الصحابة الكرام، من المهاجرين والأنصار، الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين لا يقبلون بحال: أن يُعطَّل كتاب الله، وأن يبدَّل شرع الله، وهم ساكنون. لو افترضنا أن عمر فعل ذلك -وما هو بفاعل- ما قَبِل هؤلاء أبدًا، وفيهم عرق ينبِض.

ومما نأسف له: أن مفكرا معتدلا مثل د. عابد الجابري، سار في هذا الدرب، وقال ما قاله دعاة (العلمانية) التي ينكرها ولا يقرها. فقد ذكر في كتابه (الدِّين والدولة وتطبيق الشريعة): أن الصحابة كثيرا ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، صارفين النظر عن النص، ولو كان صريحا قطعيا! إذا كانت الظروف الخاصة تقتضي مثل هذا التأجيل للنص[5].

ولقد ذكر د. الجابري بعد ذلك: أن الممارسة الاجتهادية للصحابة كانت تتخذ المصلحة مبدءا ومنطلقا، فإذا تعارضت المصلحة مع النص في حالة من الحالات، وجدناهم يعتبرون المصلحة، ويحكمون بما تقتضيه، ويؤجلون العمل بمنطوق النص فيها[6].

وهذه دعوى خطيرة على الصحابة الذين كانوا يحتكمون إلى النصوص إذا اختلفوا، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وإذا ووجه أحدهم بالنص، لم يسعه إلا أن ينقاد له بلا تلكُّؤ ولا تردد.

ولقد ذكر الدكتور الجابري من أدلة ذلك: ما جرى من أبي بكر وعمر، حول أداء الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل تؤدى للدولة أو تترك للأفراد يؤديها كل منهم كما يشاء؟

كان رأي سيدنا أبي بكر أن تؤدى الزكاة إليه، وإلى ولاته وعماله، كما كان الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يفعلوا قاتلهم الخليفة من أجل هذا الحق المعلوم، الذي هو الركن الثالث من أركان الإسلام.

وهنا توقف عمر في قتالهم، وقال لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قالوا: لا إله إلا الله؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله) فإذا قالوها فقد عصموا من دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". فقال أبو بكر: إن الزكاة حق المال. والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه[7]!

وهنا نجد المناقشة بين الصحابيين الكبيرين تقوم كلها على الاحتجاج بالنصوص، لا الاستدلال بالمصالح كما يقول الدكتور. رأينا عمر يعتمد على نص الحديث، وينسى القيد الذي فيه (إلا بحقها)، فذكَّره أبو بكر: أن الزكاة حق المال، ثم أكد ذلك بأن الزكاة كالصلاة يقاتل عليها، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [لتوبة:5].

وزاد ذلك تأكيدا بأنه متبع وليس بمبتدع، فما كان في عهد رسول الله، يجب أن يستمر.

وما قاله الجابري من أن عمر كان ينظر إلى المسألة من جهة الدِّين وأن أبا بكر كان ينظر إليها من جهة الدولة[8]: قول لا دليل عليه من حياة الرجلين. والزعم بأن الزكاة رمز للولاء السياسي ليس هو الدافع لأبي بكر إلى قتال مانعي الزكاة، كما قاتل المرتدين. 

بل نظر أبو بكر إلى الزكاة من خلال نصوص القرآن، وسنة الرسول القولية والعملية، فوجد أنها من مسؤولية الدولة أو الخلافة. لهذا قال القرآن: {خُذْ مِن أموَالِهِم صَدقَةً تُطهِّرهُم وتُزَكِّيهِم بهَا} [التوبة:103]، وفي الحديث المتفق عليـه: "تؤخذ من أغنيائهم، لترد على فقرائهم"[9]، وجعل القرآن من مصارف الزكاة: مصرف (العاملين عليها). فهي فريضة دينية اجتماعية تشرف عليها الدولة، وتأخذها من أصحابها طوعا، وإلا أخذتها كرها، فإن تمردوا وكانوا ذوي شوكة، قاتلهم الإمام حتى يؤدوها. وبهذا كانت الدولة الإسلامية أول دولة في التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين. وكل ما كان يؤدى في عهد رسول الله يجب أن يظل يؤدى، ولو كان عقال بعير.

وكل ما ذكره د. الجابري عن عمر، وزعم مع من زعم أنه عطل فيه النص لأجل المصلحة، من مثل: إلغاء سهم (المؤلفة قلوبهم)، وإيقاف تنفيذ (حد السرقة) في عام المجاعة، ومنع -أو كراهية- الزواج من الكتابيات ... إلى آخر الدعاوى المعروفة في هذا الجانب ... كلها لا تثبت على محكِّ النقد العلمي، وهي مبنية على سوء الفَهم لموقف عمر رضي الله عنه. وقد رددنا عليها بالتفصيل، وبالأدلة المحكمة الناصعة في كتابنا (السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها)[10].

أكتفي هنا بإيراد مثل واحد من الأمثلة التي ذكروها عن عمر، وادَّعو فيها أنه عطَّل النص من أجل المصلحة. ولعل أشهر الأمثلة التي يردِّدونها باستمرار، هو ما عبَّروا عنه بقولهم: (إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم) وهو منصوص عليه في القرآن.

ونود أن نذكر هنا: أن المصلحة الحقيقية لا يمكن أن تتعارض مع نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة. وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين كافة في جميع الأعصار. 

دعوى أن الطوفي يعطل النصوص بالمصلحة دعوى كاذبة:

والذين ادَّعوا أن نجم الدِّين الطوفي قدَّم المصلحة على النص القطعي: قوَّلوا الرجل ما لم يقل، بل قال عكسه تماما، فكل كلامه على النصوص الظنية ثبوتا أو دلالة، وإنما قال من قال ذلك، لأنهم لم يستوعبوا كلامه كله، وإنما اختطفوا جزءا منه ولم يستكملوه، وقد وضحنا ذلك ونقلنا من نصوصه ما يدفع هذا الوهم بيقين، في كتابنا (السياسة الشرعية)[11].

ومما قاله في هذا السياق عن النص:

(وأما النص، فهو إما متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين فهو إما صريح في الحكم، أو محتمل، فهي أربعة أقسام، فإن كان متواترا صريحا فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملا من جهة عموم أو إطلاق، وذلك يقدح في كونه قاطعا مطلقا. فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه، وحصلت فيه القطعية من كل جهة بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه. منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة، فيعود إلى الوفاق. وإن كان آحادا محتملا فلا قطع، وكذا إن كان متواترا محتملا، أو آحادا صريحا لا احتمالا في دلالته بوجه، لفوات قطعيته من أحد طرفيه إما متنه أو سنده)[12] اهـ.

فهو هنا يمنع صراحة أن يخالف النص القطعي في سنده وفي دلالته: المصلحة. 

لا تناقض بين مصلحة يقينية ونص قطعي:

ومما لا نزاع فيه بين أهل العلم عامة: أن المصلحة اليقينية (القطعية) لا يمكن أن تناقض النص القطعي أو يناقضها بحال من الأحوال. وهو ما أكده علماء الأمة قديما وحديثا.

وإذا تُوهم هذا التناقض، فلا بد من أحد أمرين: 

إما أن تكون المصلحة مظنونة أو موهومة، مثل مصلحة إباحة الربا لطمأنة الأجانب، أو الخمر لاجتذاب السياحة، أو الزنى للترفيه عن العزاب، أو إيقاف الحدود، مراعاة لأفكار العصر، أو غير ذلك مما يموِّه به مموهون من عبيد الفكر الغربي.

وإما أن يكون النص الذي يتحدثون عنه غير قطعي، وهو ما وقع فيه كثير من الباحثين، ولا سيما من غير المتخصصين والمتضلعين في علوم الشريعة وأسرارها، من أساتذة الحقوق والاقتصاد والآداب، فحسبوا بعض النصوص قطعية، وليست كذلك[13]. 

المصلحة في نظر الشريعة أوسع وأعمق من المصلحة عند الغربيين:

ومن الضروري هنا: أن نبيِّن أن المصلحة التي يتحدث عنها علماء الشريعة الإسلامية، ليست هي المصلحة التي يتحدث عنها الغربيون ... إن المصلحة عند الغربيين تدور حول (اللذة) كما يذهب كثير من الفلاسفة، أو حول (القوة) كما يذهب إلى ذلك منظرو السياسة. وليس هناك ضوابط لتحصيل القوة عند هؤلاء أو اللذة عند أولئك.

والأفراد يتنافسون في ذلك، وكذلك الأقوام والأمم تتنافس في ذلك، بدون ضابط من وازع ديني أو أخلاقي.

المصلحة هنا مصلحة مادية لا روحية، دنيوية لا أخروية، فردية لا اجتماعية، آنية لا مستقبلية، قومية لا إنسانية.

أمَّا المصلحة التي قصدت الشريعة إلى إقامتها وحفظها، فهي أشمل من ذلك وأوسع. فهي ليست المصلحة الدنيوية فحسب، كما يدعو خصوم الدِّين، ولا المصلحة المادية فقط، كما يريد أعداء الروحية، ولا المصلحة الفردية وحدها، كما ينادي عشَّاق الوجودية وأنصار الرأسمالية، ولا مصلحة الجماعة أو البرولتاريا، كما يدعو إلى ذلك أتباع الماركسية والمذاهب الجماعية، ولا الملصلحة الإقليمية العنصرية كما ينادي بذلك دعاة العصبية، ولا المصلحة الآنية للجيل الحاضر وحده، كما تتصور بعض النظرات السطحية. إنما المصلحة التي قامت عليها الشريعة في كلياتها وجزئياتها، وراعتها في عامة أحكامها، هي المصلحة التي تسع الدنيا والآخرة، وتشمل المادة والروح، وتوازن بين الفرد والمجتمع، وبين الطبقة والأمة، وبين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، وبين مصلحة الجيل الحاضر ومصلحة الأجيال المستقبلة، والموازنة بالقسط بين هذه المصالح المتقابلة المتضاربة في كثير من الأحيان لا ينهض بها علم بشر، وحكمة بشر، وقدرة بشر.

فالبشر أعجز من أن يحيط بكُنْه هذه المصالح ويوفِّق بينها، ويعطي كل ذي حق منها حقه بالقسطاس المستقيم. وعجزه يأتي من ناحيتين:

1. ناحية محدودية عقله وعلمه، وذلك تابع لطبيعته البشرية المخلوقة الفانية المتأثرة -حتما- بالزمان والمكان والمحيط والوراثة.

2. وناحية تأثير الميول والأهواء والنزعات عليه، سواء أكانت ميولا شخصية أم أُسْرية أم إقليمية أم طبقية أم حزبية أم قومية. وكل واحدة من هذه لا تخلو من تأثير عليه من حيث يشعر أو لا يشعر. والمعصوم من عصمه الله. 

وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي: 

(أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد: لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيًا فى مصلحة نفسه من وجه لا يوصِّله إليها، أو يوصِّله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصِّله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تُربي -فى الموازنة- على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها.

وكم من مدبر أمرًا لا يتمُّ له على كماله أصلا، ولا يجنى منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع، رجوع إلى وجه حصول المصلحة ... بخلاف الرجوع إلى ما خالفه ...)[14].

ولهذا كانت رعاية المصالح كلها (فردية واجتماعية) للإنسان كله (جسمه وروحه وعقله)، وللطبقات كلها (أغنياء وفقراء، وحكاما ومحكومين، وعمالا وأرباب عمل)، وللإنسانية كلها (بيضا وسودا، ووطنين وأجانب)، وللأجيال كلها (حاضرة ومستقبلة)، لا يقدر عليها إلا رب الناس، ملك الناس، إله الناس.

وهذا المعنى هو ما جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يتوقف في توزيع الأرض المفتوحة على الفاتحين، لأنه رأى إغداقا على الجيل الحاضر في زمنه -جيل الفتح- على حساب الأجيال اللاحقة من أبناء الأمة، ولهذا كان يقول: إنني إن قسمتها بينكم جاء آخر الناس وليس لهم شيء.

وقد وجد عمر بعد طول تأمُّل في كتاب الله ما يؤيد وجهة نظره في سورة الحشر، حيث أشارت الآيات في مصرف الفيء -بعد المهاجرين والأنصار- وهم الجيل الحاضر آنذاك، إلى الذين يجيئون بعدهم من الأجيال، ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10].

وبهذه الآيات وجد عمر الحجة على مخالفيه من الصحابة رضي الله عنهم جميعا. قال عمر: ما أرى هذه الآية إلا عمت الخلق كلهم[15]. وقال للذين عارضوه: تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء؟ فما لمن بعدكم[16]؟ ويقول: لولا آخر الناس ما فتحت قرية[17] ... إلخ، فقد فهم عمر من كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومقاصد شريعته: أن مصالح الأجيال كلها يجب أن تراعى ولا يستأثر جيل واحد أو جيلان بالخير والرفاهية على حساب من بعدهم، ولهذا كان ينظر إلى آخر الناس (الأجيال اللاحقة التي يخبئها الغيب) ويعمل لصالحها كالأجيال الحاضرة.

ولقد كان معاذ -الفقيه الأنصاري الجليل وأعلم الصحابة بالحلال والحرام كما في الحديث[18]- من أنصار عمر في رأيه، وقد قال محذرا من الاستجابة إلى رغبة المطالبين بالقسمة: إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي هؤلاء القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة (أي أنه ينبِّه في هذا الوقت المبكر إلى خطر الملكية العقارية الواسعة) ثم يأتي من بعدهم قوم يسدُّون من الإسلام مسدًا (أي يبلون في الدفاع عنه بلاء حسنا) وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم[19].

والمقصود هنا: أن الشريعة ترعى مصالح المكلفين بهذا الشمول المتوازن، أو بهذا التوازن الشامل، فمن أراد أن يفهم المصلحة في الشريعة فليفهمها في ضوء هذا التصور[20]. 

الفصل الخامس
السياسة بين الجمود والتطور


ومما أثاروه من الشبهات التي رتَّبوها على صلة الدِّين بالسياسة: أن اللجوء إلى الدِّين في شؤون السياسة والحكم وإدارة الدولة، يصيب الحياة بالجمود والعفن، ويجعلها كماء البِرَك الآسن، لا تتطور ولا تتحسن ولا تتجدد، لأن طبيعة الدِّين (الثبات) وطبيعة الحياة (التغير). بل نـرى نصوص الدِّيـن تعتبـر كـل تغيير أو إحداث أو تجديد: بدعة في الدِّين، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولهذا يجب على أهل الدِّين أن يقاوموها، ولا يسكتوا عليها. 

وهذا الكلام يشتمل على كثير من الخلط والتلبيس. ولا يتفق مع حقائق الإسلام الناصعة، وأحكامه القاطعة، وتعاليمه المحكمة. كما لا يتفق مع حقائق الحياة أيضا. 

فرضية الاجتهاد والتجديد للدين:

فالإسلام يدعو إلى الاجتهاد والتجديد في الدِّين، والعلماء يعتبرون الاجتهاد في الدِّين من (فرائض الكفاية) التي تجب على الأمة متضامنة، بحيث إذا توافر لها عدد من المجتهدين يلبون الحاجة، ويسدون الثغرة، ويؤدون الواجب، فيما يعتري الأمة من مشكلات مستجدة، تتطلب الحل، وواقعات لم يسبق لعلمائنا الماضين أن عرفوها، فهنا تكون الأمة قد أدت ما عليها وبرئت من الإثم. وإلا أثمت الأمة عامة، وأولو الأمر والشأن فيها خاصة. 

ويجب على الأمة أن تتخذ من الوسائل والأسباب والآليات العلمية والتربوية والعملية والإدارية: ما يكفل ظهور هؤلاء المجتهدين الذين يعرفون شريعتهم، ويعرفون عصرهم، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 

وقد قرأنا الحديث النبوي الذي يقول: "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام لهذه الأمة: من يجدد لها دينها"[1].

نبي الإسلام هو الذي شرع التجديد للدين ودعا إليه، وبشَّرنا بأن الله يهيئ في كل قرن من يقوم بتجديد هذا الدِّين.

وإذا كان التجديد في أمر الدِّين مطلوبا ومحمودا، فكيف يُرفض التجديد في أمر الدنيا وشؤون الحياة؟

أما ما جاء من ذم (الإحداث) فمقصود به الإحداث في الدِّين، وما يتعلَّق بالعبادات المحضة، وهي التي جاءت فيها النصوص المانعة والذامَّة، مثل قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وقوله : "من أحدث في أمرنا -أي ديننا- ما ليس فيه فهو رد"[2]، و"من عمل عملا ليس عليه أمرنا"[3]، أي مردود عليه، لا يقبل منه.

وقوله : "إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"[4].

والمراد بالمُحْدث أو المُحْدثة هنا: ما أحدث في أمر الدِّين والعبادات المحضة من الزيادة على الدِّين والتغيير فيه، بما لم يجئ به نص من كتاب ولا سنة، ولم يسنه الراشدون المهديون رضي الله عنهم. وهذا أمر مهم، بل ضروري لحفظ الدِّين. بخلاف أمر الدنيا. 

الاتباع في الدين والابتداع في الدنيا:

ومن هنا جعلنا من ركائز (الفقه الحضاري) -في كتابنا (السنة مصدرا للمعرفة والحضارة)- هذا المبدأ أو هذه القاعدة الهامة، التي يجب أن يعيها أبناء أمتنا، وهي: الاتِّباع في الدِّين، والابتداع في الدنيا! وقد قلتُ في شرحها وإيضاحها:

(من مفاهيم هذا الفقه الحضاري: أن الأصل في أمور الدِّين هو الاتِّباع، وفي شؤون الدنيا هو الابتداع. فالدِّين قد أكمله الله تعالى، وأتمم به النعمة، فلا يقبل الزيادة، كما لا يقبل النقصان: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].

والتعبد لله يقوم على أصلين كبيرين: 

الأول: ألا يعبد إلا الله تعالى، وكل ما عبده الناس من نجم في السماء أو صنم في الأرض، أو نبات أو حيوان أو إنسان فهو باطل، وهذا ما جاء به كل رسل الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

والثاني: ألا يعبد الله تعالى إلا بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله، وكل مَن أحدث في دين الله أمرًا لم يجئ به قرآن ولا سنة، فهو مردود على صاحبه، كما في الحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد"[5]، "من عمل عملا ليس عليه أمرنا"[6].

وفي الحديث الآخر: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"[7]. 

وبهذا حمى النبي صلى الله عليه وسلم الدِّين من المحدثات والمبتدعات التي دخلت على الأديان السابقة فحرَّفتها، وأضافت إليها ما ليس منها، وعسَّرت منها ما يسَّره الله، وحرَّمت ما أحلَّه، وأحلَّت ما حرَّمه.

وحسبنا مثلا على ذلك: ما ابتدعه النصارى من الرهبانية العاتية، التي صادروا بها فطرة الله التي فطر الناس عليها، فحرَّموا الزواج، وزينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق. وغلا بعضهم حتى حرم على نفسه من الماء والنظافة، واعتبروا البقاء على القذارة أقرب إلى الله، والنظافة أدنى إلى الشيطان. حتى قال أحد رهبان العصور الوسطى في أوربا متحسرًا: لقد كان من قبلنا يعيش أحدهم طول عمره لا يبل أطرافه بالماء، ولكننا -واأسفاه- أصبحنا في زمن يدخل فيه الناس الحمامات[8]!

ويبدو أن دخول الحمامات تلك عدوى انتقلت إليهم من المسلمين في الأندلس! فقد ذكروا أنه كان يوجد في قرطبة ستمائة حمام[9]!

وهذا التشديد على النفس، هو ما حذَّرت منه السنة. فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]"[10]. 

وفي مقابل هذا التشديد في أمر الدِّين، وإيجاب الاتِّباع فيه، كان التسهيل في أمر الدنيا، وفتح باب الإبداع والابتكار في كل ما يتعلَّق بها. 

ولا غرو أن حثَّ الرسول الكريم على ابتكار مناهج الخير، واختراع ما تجود به القرائح المبدعة من صور العمران، والإصلاح والتجديد، في العلم والعمل والفن. وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "من سنَّ في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء"[11].

وهذا ما مضى عليه الصحابة والمسلمون في القرون الأولى: نجد الصحابة فعلوا أشياء لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم اقتضاها تطور الحياة في زمنهم، ووجدوا فيها الخير والمصلحة للأمة، ولم يتقدم بها أمر ولا نظير، مثل كتابة المصاحف، وجعل الخلافة شورى[12]، وضرب النقود، واتخاذ السجن، وغير ذلك، مما استدل به الأصوليون على حجية المصلحة المرسلة[13].

وعمر له في خلافته القِدْح المُعلَّى في الابتكارات. ولذا قيل: هو أول من دوَّن الدواوين، ومصَّر الأمصار، واتخذ التاريخ ... إلخ ما عرف من أوَّلياته رضي الله عنه. وعلى هذا المنهج: مضى خير قرون الأمة.

قاوموا المُحْدَثات في العقيدة، والمبتدعات في العبادة، وحافظوا على جوهر الدِّين من الشوائب والطفيليات الغريبة. وفي الوقت نفسه ابتكروا علوما جديدة لخدمة الدِّين، مثل: علوم النحو والصرف والبلاغة، ووضعوا معاجم اللغة، وطوروا علوم الفقه والتفسير والحديث ودوَّنوها، وابتكروا علوما خادمة لها، لضبط قواعدها، وردِّ فروعها إلى أصولها. فكان علم أصول الفقه، وأصول الحديث، وأصول التفسير، وعلوم القرآن.

وترجموا علوم الأمم الأخرى، فاقتبسوا منها، وعدَّلوا فيها، وأضافوا إليها، ونبغ منهم أعداد لا تُحصى في علوم الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والبصريات والرياضيات وتقويم البلدان، وغيرها من أنواع المعارف والعلوم. وابتكروا علوما أخرى لم تعرفها الأمم السابقة كاليونان وغيرهم، مثل (علم الجبر) الذي اخترعه العلامة الخُوارزِمي، وهو يؤلف رسالة في علم المواريث والوصايا. 

ولما تخلف المسلمون: انعكست الآية عندهم، فابتدعوا في أمور الدِّين، وجمدوا في أمور الدنيا!!)[14].

إننا ندعو المسلمين، ونلح في الدعوة عليهم، أن يحددوا الأهداف بوضوح، ويضعوا المناهج بدقة ، للتجديد في أمر الدين، والتطوير في أمر الدنيا، بحيث يكون يومهم أفضل من أمسهم، وغدهم أحسن من يومهم، فالمسلم الحق هو الذي ينشد(الأحسن) دائماً، وليس مجرد الحسن، كما قال تعالى في القرآن الكريم:فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (الزمر: 17،18).

ومن المهم جدا في هذا المقام: أن يميز بين ما يجدد وما لا يجدد من الدين[15]، وما معنى التجديد وجوانبه، ومن هو المجدد الحق، وكذلك بين ما يطور وما لا يطور من المجتمع والحياة، بحيث تحترم الثوابت، ويبقى المجال مفتوحا وواسعا في المتغيرات، وما أكثرها[16]. 

دعوى ثبات الدِّين وتغير الحياة:

وقد ناقشنا في كتابنا (الإسلام والعلمانية) دعوى ثبات الدِّين وتغير الحياة، بأنها دعوى غير مسلمة، فليس كل الدِّين ثابتا، ولا كل الحياة متغيرة. 

بل الثابت في الدِّين: العقائد والشعائر العبادية والقيم والفضائل والأحكام القطعية، التي عليها تجتمع الأمة، وتتجسد فيها وحدتها العَقَدِيَّة والفكرية والشعورية والعملية. وهي تمثل (ثوابت الأمة) التي لا يجوز اختراقها ولا تجاوزها. وربما كانت هي قليلة جدا، ولكنها مهمة جدا. 

أما معظم أحكام الشريعة فهي ظنية، وهي قابلة للاجتهاد والتجديد واختلاف الآراء، وفيها يتغير الاجتهاد، وتتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. ففي هذا المجال الرحب يعمل العقل الإسلامي، ويصول ويجول مهتديا بما أنزل الله من الكتاب والميزان.

ولا غرو أن اختلفت المذاهب والمشارب، واختلف أهل المذهب الواحد فيما بينهم في مسائل شتَّى، واختلف قول الإمام الواحد في المسألة الواحدة ما بين فترة وأخرى، وكان ذلك موضع قبول وترحيب من علماء الأمة الذين أعلنوا بكل وضوح: أن اختلاف العلماء رحمة واسعة، كما أن اتفاقهم حجة قاطعة[17]. 

ولهذا دخلت الشريعة بلاد الحضارات المختلفة في فارس والعراق والشام ومصر والهند وغيرها، فما عجزت عن علاج مشكلة، ولا ضاق صدرها بجديد يعرض عليها، بل وجدت في سَعَة نصوصها، وشمول قواعدها، وعموم مقاصدها: ما يفي بكل مطلب، وما يجيب على كل تساؤل. 

لقد علمنا الإسلام - بمُحكمات نصوصه، وكليات قواعده- أن نفرق بين المقاصد والوسائل، وبين الأصول والفروع، وبين الكليات والجزئيات، فنحرص على الثبات في المقاصد والغايات، وعلى المرونة في الوسائل والآليات، على الثبات في الأصول والكليات، وعلى المرونة في الفروع والجزئيات. وبهذا لا نقف في وجه التطور والإبداع، إلا إذا كان مسخا لهوية الأمة وذاتيتها باسم التطور. 

هذه نظرتنا إلى الدِّين، فيه ثبات وفيه تغير، فإذا نظرنا إلى الحياة لم نجد الحياة كلها متغيرة كما زعم الزاعمون. بل جوهر الحياة ثابت، وجوهر الإنسان ثابت، وجوهر الكون ثابت. والأعراض هي التي تتغير. 

إن السماء هي السماء، والأرض هي الأرض، والبحار هي البحار، والشمس والقمر والنجوم لا تزال تسير في أفلاكها مسخرة بأمر ربها، تحكمها سسن ثابتة لا تتغير ولا تتحول: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].

قد تتغير بعض الأشياء تغيرا جزئيا وعَرَضِيا، كأن ينجح الإنسان في تخضير الصحراء، وقد يغلب التصحر الإنسان فيأكل الأرض الخضراء، وقد يطغى البحر على اليابسة فيأخذ منها، وقد يردم الإنسان جزءا من البحر، فيضمه إلى اليابسة، وقد يحول الإنسان ماء البحر الملح الأجاج إلى عذب فرات سائغ شرابه … إلى غير ذلك من التغيرات المحدودة، التي لا تنال من ثبات جوهر الكون والحياة.

والإنسان قد تغيرت قدراته وإمكاناته، وتغيرت معارفه ومعلوماته، فأمسى يحلق في الهواء كالطير، ويغوص في البحار كالحوت، ويختصر المسافات، ويضاعف القدرات، ويهتدي إلى الثورات العلمية الهائلة: الإلكترونية والتكنولوجية والبيولوجية والنووية والفضائية، وثورة الاتصالات، وثورة المعلومات. 

ومع هذا كله، ظل الإنسان هو الإنسان في جوهره وحقيقته، بعقله وعاطفته وضميره، وجسمه وروحه، باستعداده للخير والشر، وللفجور والتقوى. 

بقي الإنسان الخَيِّر الطيب الذي تمثل في ابن آدم الأول الذي سُمي (هابيل)، وبقي كذلك الإنسان الشرير الخبيث الذي تمثل في ابن آدم الثاني الذي سُمي (قابيل). 

نعم، تطورت أدوات القتل وأساليبه عما كانت من قبل، وأصبح في استطاعة الإنسان أن يخفي جثة القتيل بإذابتها بواسطة محاليل كيميائية معينة، ولكن جوهر الخير والشر ظلاَّ كما هما في إنسان عصرنا كما كانا في العصر الأول. 

ومن هنا سقطت دعوى أن الدِّين كله ثابت، وأن الحياة كلها متغيرة. 

وأود أن أنبه هنا إلى: أن الإسلام لا يمنع تطور الحياة، وانتقالها من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن. بل نرى الإسلام أبدا يشوق المسلم إلى (التي هي أحسن) في كثير من الأمور، فهو يحاور بالتي هي أحسن، ويدفع إساءة المسيء بالتي هي أحسن، ويقرب مال اليتيم بالتي هي أحسن. 

و يتطلع دائما إلى (الأحسن) في كل شيء، كيف لا وقد علمه القرآن ذلك حين قال: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55]، وقال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17،18]. 

ولقد رأينا الرسول الكريم يعني بأمر (الإحصاء) قبل أن يهتم به البشر، فطلب من أصحابه أن يحصوا له عدد مَنْ يلفظ بالإسلام فأحصوا له، فكانوا ألفا وخمسمائة رجل[18].

وفي بعض الروايات: "اكتبوا لي … "[19]، فهو إحصاء يُراد تدوينه وكتابته.

وهو عليه الصلاة والسلام، يقدر التجربة في شؤون الدنيا، ويبني عليها نتائجها، فحين رأى في بعض أمور الزراعة أمرا، وأظهرت النتائج خلافه، قال لهم بكل وضوح: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"[20]. فأنتم المرجع المعتبر في الأمور الفنية والدنيوية التي تحسنونها، دون حاجة إلى الرجوع إلى الوحي[21].

وهو لم يكتفِ بدعوتهم إلى العمل لدنياهم: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [المُلك:15]. 

بل حثَّهم على أن يحسنوا العمل، ويَبْلُغُوا به درجة الإتقان والإحكام، وجعل ذلك فريضة دينية مكتوبة عليهم، فقال : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"[22].

والإحسان هو: الاتقان الذي يحبه الله، فهو تعالى يحب المحسنين، ويحب من أحدنا إذا عمل عملا أن يتقنه. 

ومن توجيهات القرآن الاقتصادية الرائعة: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152، الإسراء:34].

على معنى أن يبحث وليّ اليتيم عن أمثل الطُّرُق للمحافظة على مال اليتيم من جهة، وعلى تثميره وتنميته من جهة أخرى، بحيث يبقى أصله سليما، وتتابع ثمراته باستمرار. وفي هذا يتنافس أهل المعرفة بالمال، والخبرة بالاقتصاد، والعارفون بطُرُق التشغيل والاستثمار. فلو وجدت طريقة أو أكثر لتنمية مال اليتيم، طريقة حسنة، وطريقة أحسن منها، فالقرآن ينهى أن يُقْتَرَب من هذا المال إلا بالطريقة الأحسن والأفضل. 

وإنما وصَّى بمال اليتيم خاصة، لأن الناس -بطبيعتهم وفطرتهم- مهتمُّون بتثمير أموالهم الخاصة، وقد يهملون أمر مال اليتيم، فنُبِّهوا عليه، حتى لا يغفلوا عنه.

وتوجيه القرآن العناية إلى حسن استثمار أموال اليتامى، فيه إشارة واضحة إلى العناية بحسن استثمار أموال الأمة كلها، وأن يكون بالطريقة التي هي أحسن وأفضل، في حفظ الأصول، وتنمية الفروع، فالمال هو قوام المعيشة، وعصب الحياة، ونعم المال الصالح للفرد الصالح، وللجماعة الصالحة أيضا.


















هوامش الفصل الأول :

--------------------------------------------------------------------------------

[1]- رواه أحمد في المسند (17142) عن العرباض بن سارية، وقال محققوه: حديث صحيح بطرقه وشواهده وهذا إسناد حسن، وابن ماجه في الإيمان (43)، والحاكم في المستدرك كتاب العلم (1/175)، والطبراني في الكبير (18/247)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4369). 

[2]- انظر في ذلك: خصيصة (الشمول) من كتابنا (الخصائص العامة للإسلام) صـ95، وكذلك: (الفَهم الشمولي للإسلام والتحذير من تجزئة الإسلام) من كتابنا (الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي) صـ68 - 98. 

[3]- تفسير الطبري (2/335). 

[4]- يقول ابن كثير في تفسير الآية: (يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عُرا الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك). تفسير ابن كثير جـ1 صـ247 طبعة دار إحياء التراث العربي. بيروت. 

[5]- هو د. منيف الرزار، الذي انتخب زمنا ما أمينا عاما لحزب البعث الاشتراكي العربي في كتاب (دراسات في الاشتراكية) الذي صدر عام 1960م، ويحمل مقالات لعدد من قادة (البعث). 

[6]- في عدد من بلاد المسلمين اعتدت الحكومات العلمانية على الجزء الباقي لهم من التشريع، وهو المتعلق بالأسرة أو ما سمي (الأحوال الشخصية)، كما أن المسجد لم يعد حرا في أن يقول كلمة الإسلام كما يشاء، بل كما تشاء السلطة. 

[7]- إنجيل متى: (22/21).

[8]- انظر: كتابنا (شمول الإسلام) صـ43 - 50. 

[9]- الإسلام وأصول الحكم صـ141 بتعليق د. ممدوح حقي عليه، طبعة دار مكتبة الحياة. بيروت.

[10]- انظر: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي للدكتور محمد البهي صـ266 - 268. 

[11]- البداية والنهاية لابن كثير (2/10)، وروى الخطيب في تاريخه، عن عمر بن الخطاب قوله: لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن (4/107).



هوامش الفصل التاني :
--------------------------------------------------------------------------------

[1]- نقولو مكيا فللي: كاتب سياسي إيطالي (ت1642م)، اشتهر بكتابه (الأمير) الذي ذاع صيته في عالم السياسة، لما انفرد به من أفكار لا تبالي بالقِيم والأخلاق في بناء الدول وسياستها، فلا مانع عنده من استعمال النذالة والخيانة والغدر والتضليل والخداع والغش في سبيل الوصول إلى الهدف، وهو المحافظة على الدولة وقوتها، وشن الحرب دائما لحمايتها، ومهاجمة خصومها. 

نقله إلى العربية خيري حماد، وقد نشرته دار الأوقاف الجديدة في بيروت (الطبعة الرابعة والعشرون 2002م) مع تعليق مطول للمحامي د. فاروق سعد، حول تراث الفكر السياسي قبل (الأمير) وبعده.

[2]- رواه البخاري في المظالم (2444) عن أنس، وأحمد في المسند (11994).

[3]- جزء من خطبة أبي بكر بعد توليه الخلافة، رواها عبد الرزاق في المصنف كتاب الجامع (11/336)، وابن سعد في الطبقات (3/183)، والطبري في التاريخ (2/238)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (30/301)، وقال ابن كثير في البداية والنهاية: هذا إسناد صحيح (5/248).

[4]- روى ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد عن حذيفة قال: دخلت على عمر وهو قاعد على جذع في داره وهو يحدث نفسه، فدنوت منه فقلت: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟ فقال هكذا بيده وأشار بها، قال: قلت: الذي يهمك والله لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك قال: آلله الذي لا إله إلا هو لو رأيتم مني أمرا تنكرونه لقومتموه؟ فقلت: الله الذي لا إله إلا هو لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك. قال: ففرح بذلك فرحا شديدا وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم -أصحاب محمد- من الذي إذا رأى مني أمرا ينكره قومني. 

[5]- رواه أحمد في المسند (6786) عن عبد الله بن عمرو، وقال محققوه إسناده ضعيف لانقطاعه، والبزار في المسند (6/362)، والحاكم في فضائل القرآن (4/108)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب الغصب (6/95)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار بإسنادين ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح وكذلك رجال أحمد (7/518)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (501).

[6]- رواه مسلم في الجهاد والسير (1787) عن حذيفة بن اليمان، وأول الحديث:حدثنا حذيفة بن اليمان ما معنى أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي (حُسَيلٌ) قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: "انصرفا نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم".

[7]- رواه أحمد في المسند (15992) عن رباح بن الربيع، وقال محققوه: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، وأبو داود في الجهاد (2669)، وابن ماجه في الجهاد (2842)، وعبد الرزاق في المصنف كتاب أهل الكتاب (6/132)، وأبو يعلى في المسند (3/115)، والطبراني في الكبير (5/72)، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/82).

[8]- رواه البخاري في الجهاد والسير (3014- 3015) عن عبد الله بن عمر، ومسلم في الجهاد والسير (1744)، وأبو داود في الجهاد (2668)، والترمذي في السير (1569)، وابن ماجه في الجهاد (2841).

[9]- انظر: (موسوعة العلوم السياسية) الصادرة عن جامعة الكويت: فقرة (103) صـ144، 145.

[10]- انظر: الإسلام وأصول الحكم صـ154.

[11]- التي كان يرأس تحريرها، وكانت هي مجلة علماء الأزهر، وقد بدل اسمها بعد ذلك، وسميت (مجلة الأزهر). 

[12]- هو من كلام البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38]. 

[13]- رواه البخاري في الزكاة (1400) عن أبي هريرة، ومسلم في الإيمان (21)، وأبو داود في الزكاة (1556)، والترمذي في الإيمان (2606)، والنسائي في الزكاة (2443)، وابن ماجه في الفتن (3927).

[14]- رويت القصة مع اختلاف في تعليق عمر على قول المرأة، رواها عبد الرزاق في المصنف كتاب النكاح (6/180) وفيها: فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته، وسعيد بن منصور في السنن (1/166)، والبيهقي في الكبرى كتاب الصداق (7/233) وفيهما: فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر. مرتين أو ثلاثا.

[15]- انظر: تاريخ دمشق (12/145)، والبداية والنهاية (9/124).

[16]- انظر: مقالة (ضلالة فصل الدِّين عن السياسة) من (رسائل الإصلاح) صـ159 – 173 طبعة المطبعة التعاونية بدمشق. 

[17]- إنجيل متى: (5/17).

[18]- سفر اللاويين: (14/14).

[19]- انظر: جريدة (الإخوان المسلمين) اليومية العدد 135 الصفحة الأولى. نقلا عن (أحاديث الجمعة) صـ83 – 85 لعصام تليمة.

[20] نشرته دار الشروق بالقاهرة.


هوامش الفصل الثالث : 
--------------------------------------------------------------------------------

[1]- إشارة إلى حديث: "الدين النصيحة"، وقد رواه مسلم في الإيمان (55)، وأحمد في المسند (19640)، وأبو داود في الأدب (4944)، والبيعة (4197)، عن تميم الداري. 

[2]- رواه أحمد في المسند (11035)، وذكر محققوه لقوله: "ألا ان أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" شاهدين وقالوا: بهذين الشاهدين حسن لغيره، وأبو داود في الملاحم (4344)، والترمذي في الفتن (2174)، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجه في الفتن (4011)، عن أبي سعيد الخدري. 

[3]- رواه الحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة (3/215)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، عن جابر، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3675).

[4]- رواه عبد الرزاق في المصنف كتاب الصلاة (3/110)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الصلاة (2/106)، والبيهقي في الكبرى جماع أبواب صفة الصلاة (2/210)، عن عمر موقوفا. 

[5]- رواه مسلم في الإيمان (49)، وأحمد في المسند (11150)، وأبو داود في الصلاة (1140)، والترمذي في الفتن (2172)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5008)، وابن ماجه الفتن (4012)، عن أبي سعيد. 

[6]- رواه أحمد في المسند (6521)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، رجاله ثقات رجال الصحيح، إلا أن أبا الزبير لم يسمع من عبد الله بن عمرو فيما قال أبو حاتم في المراسيل، ونقله أيضا عن ابن معين، ونقل ابن عدي في الكامل قوله: لم يسمع أبو الزبير من عبد الله بن عمرو ولم يره، والبزار في المسند (6/362)، والحاكم في المستدرك كتاب الأحكام (4/108)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب الغصب (6/95)، عن عبد الله بن عمرو، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار والطبراني وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح وكذلك إسناد أحمد إلا أنه وقع فيه في الأصل غلط (7/531). 

[7]- رواه مسلم في الإيمان (50)، وأحمد في المسند (4379)، عن ابن مسعود. 

[8]- رواه الطبراني في الصغير (2/131)، والأوسط (7/270)، عن حذيفة بن اليمان، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه عبد الله بن أبي جعفر الرازي ضعفه محمد بن حميد ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان (1/264). 

[9]- رواه أحمد في المسند (4880)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لجهالة أبي بشر، وأبو يعلى في المسند (10/115)، والطبراني في الأوسط (8/210)، والحاكم في المستدرك كتاب البيوع (2/14)، وقال الذهبي: عمرو بن الحصين العقيلي تركوه، وأصبغ بن زيد الجهني فيه لين، عن ابن عمر، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وفيه أبو بشر الأملوكي ضعفه ابن معين (4/180). 

هوامش الفصل الرابع :


--------------------------------------------------------------------------------

[1]- إعلام الموقعين: 3/3 ط. دار الجيل – بيروت. 1973م.

[2] - رواه البخاري في الجهاد (3029) ومسلم في الجهاد (1740).

[3]- انظر: خصيصة (الواقعية) من كتابنا (الخصائص العامة للإسلام) صـ144، والواقعية من كتابنا (مدخل لدراسة الشريعة) صـ119.

[4]- انظر: كتابنا (مقاصد الشريعة) طبعة دار الشروق.

[5]- انظر: الدين والدولة صـ12 طبعة مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت. طبعة أولى.

[6]- انظر: الدين والدولة صـ32.

[7]- سبق تخريجه. 

[8]- انظر: الدين والدولة صـ44 وما بعدها.

[9]- رواه البخاري في الزكاة (1395) عن ابن عباس، ومسلم في الإيمان (19)، وأحمد في المسند (2071)، وأبو داود (1584)، والترمذي (625)، والنسائي (2435)، وابن ماجه (1783) أربعتهم في الزكاة.

[10]- انظر: كتابنا (السياسة الشرعية) صـ181 - 222 طبعة مكتبة وهبة.

[11]- انظر: السياسة الشرعية صـ160 – 165.

[12]- انظر: كتاب المعين في شرح الأربعين للطوفي. في شرح حديث: "لا ضرر ولا ضرار".

[13]- انظر: كتابنا (السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها) صـ267، 268.

[14]- الموافقات جـ1 صـ243 طبعة منير الدمشقي. 

[15]- ذكره ابن رشد في بداية المجتهد (1/529).

[16]- رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (2/197) عن عمر.

[17]- رواه البخاري في المغازي (4235) عن عمر، وأحمد في المسند (284)، وأبو داود في الخراج والإمارة والفيء (3020)، ونص الحديث: أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بَبَّانًا ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها.

[18]- رواه أحمد في المسند (13990) عن أنس، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والترمذي في المناقب (3791)، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة (154).

[19]- انظر: الخراج لأبي يوسف صـ24، 27، والخراج ليحيى بن آدم صـ18، 43، والأموال لأبي عبيد صـ56 وما بعدها. 

[20]- انظر: كتابنا (مدخل إلى دراسة الشريعة) صـ61 – 65 طبعة مؤسسة الرسالة ببيروت، ومكتبة وهبة بالقاهرة.


هوامش الفصل الخامس :

--------------------------------------------------------------------------------

[1]- رواه أبو داود في الملاحم (4291) عن أبي هريرة، والحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم (4/567)، والطبراني في الأوسط (6/324)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1874).

[2]- رواه البخاري في الصلح (2697) عن عائشة، ومسلم في الأقضية (1718)، وأحمد في المسند (26033)، وأبو داود في السنة (4606)، وابن ماجه في المقدمة.

[3]- رواه مسلم في الأقضية (1718) عن عائشة، وأحمد في المسند (25171)، والدارقطني في السنن كتاب عمر (4/227). 

[4]- رواه مسلم في الجمعة (867) عن جابر، وأحمد في المسند (14334)، والنسائي في صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه في المقدمة (45). 

[5]- سبق تخريجه. 

[6]- سبق تخريجه.

[7]- رواه أحمد في المسند (17144) عن العرباض بن سارية، وقال محققوه: حديث صحيح ورجاله ثقات، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676) وقال حديث صحيح، وابن ماجه في المقدمة (43).

[8]- انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للعلامة أبي الحسن الندوي صـ185 دار القلم. الكويت. 

[9]- بل عدها بعضهم تسعمائة حمام، ذكر ذلك المقري التلمساني في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/540)، وأكثر من هذا ما ذكره الخطيب في تاريخه: أن حمامات بغداد بلغت ستين ألف حمام (1/117).

[10]- رواه أبو داود في الأدب (4904) عن أنس، وأبو يعلى في المسند (6/365)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة (6/390)، وضعفه الألباني في الجامع الصغير (14381).

[11]- رواه مسلم في الزكاة (1017) عن جرير بن عبد الله، وأحمد في المسند (19200)، والنسائي في الزكاة (2554)، وابن ماجه في المقدمة (203). 

[12]- أي بين ستة كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه. 

[13]- انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي صـ199. 

[14]- انظر: كتابنا (السنة مصدرًا للمعرفة والحضارة) صـ245 – 247 طبعة دار الشروق الثانية. 

[15] - انظر: كتابنا"من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا" فصل( تجديد الدين في ضوء السنة) نشر مكتبة وهبة بالقاهرة، ومؤسسة الرسالة ببيروت.

[16] - انظر: المصدر السابق / فصل (الإسلام والتطور). 

[17]- كما قال ذلك ابن قدامة في مقدمة كتابة المغني (1/4) طبعة هجر. القاهرة. 

[18]- رواه مسلم في الإيمان (149) عن حذيفة، وأحمد في المسند (23259)، والنسائي في الكبرى كتاب السير (5/276).

[19]- رواه البخاري في الجهاد والسير (3060) عن حذيفة، والبيهقي في الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة (6/363). 

[20]- رواه مسلم في الفضائل (2363) عن أنس، وأحمد في المسند (12544)، وابن ماجه في الرهون (2471).

[21] - انظر: كتابنا ( السنة مصدرا للمعرفة والحضارة) فصل:" السنة التشريعية".

[22]- رواه مسلم في الصيد والذبائح (1955) عن شداد بن أوس، وأحمد في المسند (17113)، وأبو داود في الضحايا (2815)، والترمذي في الديات (1409)، والنسائي في الضحايا (4405)، وابن ماجه في الذبائح (3170).