السبت، 27 يونيو 2020

هل كان الحكم العثماني للبلاد العربية احتلالا؟

من القضايا اللصيقة بمُنحنى العلاقات بين الأتراك والعرب، هو ذلك الجدل حول تقييم الوجود العثماني في الدول العربية، هل كان فتحًا أم احتلالًا؟
فكلما كانت العلاقات بينهما طبيعية لا يشوبها خلافات سياسية، كلما كانت أبعد عن وصفها بالاحتلال، ولا يكاد تناوله يتجاوز العمل البحثي، بينما في وقت التأزّمات السياسية بين الطرفين تجد هذا التوصيف حاضرًا بقوة، تتلقفه وسائل الإعلام العربية لتجعل منه قضية رأي عام.
وتشهد هذه الفترة التي أعقبت الربيع العربي، انحدارا في مستوى العلاقات بين تركيا ودول عربية اندلعت فيها الثورات واحترم خلالها الأتراك إرادة هذه الشعوب، ودول عربية أخرى تخشى من المد الديموقراطي الذي يهدد حكم الأسر والعوائل الحاكمة بالوراثة، ومن ثم شرعت هذه الدول في إطلاق الأقلام والمنابر لإعادة فتح القضية وتقرير ما تزعم أنه "حقيقة" الاحتلال العثماني للوطن العربي.
وتبنت الدراما هذا الاتجاه، فكان أحدث إنتاج لها في هذا المضمار مسلسل "ممالك النار"، الذي صور الوجود العثماني على أنه احتلال، ناهيك عن عرض حقائق مغلوطة لتشويه التاريخ العثماني، كما نشطت مواقع التواصل الاجتماعي في هذا الشأن، وصارت هناك برامج على "يوتيوب" مخصصة لذلك.
الحقيقة تقول:
أولا: إن مصطلح الاحتلال العثماني لم يستخدمه أي مؤرخ عربي طيلة حكم العثمانيين للبلاد العربية الذي بلغ حوالي أربعمائة عام، فالكتب التاريخية الشهيرة التي تناولت الدولة العثمانية لم تصفها بالاحتلال، ككتاب ابن أبي السرور "المنح الرحمانية في تأريخ الدولة العثمانية"، وكتاب "واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني" أو ما يسمى "آخرة المماليك" لابن زمبل الرمّال، وكتاب ابن إياس المسمى بـ "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وغيرها من كتب المؤرخين العرب.
ثانيا: بعض المؤرخين القوميين العرب، هُم من استخدموا هذا المُصطلح، تأثرًا بهذه النعرة التي نالت من العرب والأتراك معًا في القرن الماضي، لذا حق لنا نتساءل: هل كانت هذه هي نظرة العرب للحكم العثماني؟ هل كانوا ينظرون إلى العثمانيين على أنهم محتلون؟
ثالثا: "الحامية العثمانية" هي التسمية التي اصطلح عليها العرب في الماضي لوصف القوات العثمانية المرابطة في بلادهم، ولتلك التسمية دلالة قوية على أنهم رأوا في العثمانيين حُماةً لهم، خاصة أن المجتمعات الإسلامية لم تكن تقدم رابطة على رابطة الدين، فارتبطوا بالدولة العثمانية التي تمثل السلطة الإسلامية الأقوى التي يحتمون فيها من العدوان الأوروبي آنذاك، وتتيح لهم بهذه الوشيجة الحفاظ على شعائرهم الدينية وعاداتهم وأعرافهم.
وأما حركات التمرد فلم تكن حركات استقلالية أو انفصالية عن الدولة العثمانية كما يرى المؤرخ المصري عبد العزيز الشناوي، بل كانت حركات تزعمها أصحاب عصبيات أو قادة عسكريون أو زعماء دينيون من أتباع مذاهب دينية استهدفوا الانفراد بشؤون الإدارة والمال، على أن تكون الولاية في الأعم الأغلب في نطاق الدولة العثمانية، على سبيل المثال: حركة علي بك الكبير في مصر، والنزاع بين الزيدية والعثمانيين في اليمن.
رابعا: هناك شواهد تاريخية تدل على أن العرب لم يكونوا ينظرون إلى العثمانيين على أنهم محتلون، مثل تلك الاستغاثات والنداءات التي أطلقها علماء وأعيان الشام ومصر لإنقاذهم من الحكم المملوكي، فقد ذكر الدكتور محمد حرب في كتابه "العثمانيون في التاريخ والحضارة" ترجمة لوثيقة تاريخية في متحف طوب كابي في إسطنبول تحمل رقم 11634 (26)، وهي عبارة عن رسالة من علماء ووجهاء وأعيان وأشراف أهل حلب إلى السلطان سليم الأول، يناشدونه تخليصهم من الحكم الشركسي، ويشكون إليه من الظلم وتعطيل الشريعة.
كما ذكر الدكتور حرب في نفس الكتاب أن علماء مصر كانوا يراسلون السلطان لكي يأتي على رأس جيشه ويخلصهم من الحكم المملوكي، وهو ما يتوافق مع مضمون كتاب المؤرخ العثماني عبد الله رضوان في كتابه تاريخ مصر (مخطوط رقم 4971) بمكتبة بايزيد في إسطنبول، حيث ذكر أن علماء مصر كانوا يلتقون سرًا بكل سفير عثماني يأتي إلى مصر ويقصون شكواهم ويستنهضون السلطان لتخليصهم.
خامسا: لنا أن نتساءل كذلك: لماذا لم يُطلق على الحكم الفاطمي والأيوبي والمملوكي في مصر أنه احتلال، مع أنها أنظمة لم تنشأ من الداخل؟ السبب أن المسلمين كانوا يعتبرون هذه الدول امتدادا للحكم الإسلامي وأن تغيرها هو مجرد تغيير في النظام السياسي الذي يحكم، فالموضوعية إذن تحتم أن توصف هذه الأنظمة بالاحتلال أسوة بالحكم العثماني، وإلا فلا.
سادسا: من طبيعة المُحتل أنه لا يهتم إلا باستنزاف ثروات البلاد التي سيطر عليها كما هو معلوم، فلا يهتم بأحوالها إلا فيما يصب في اتجاه مصالحه الاستعمارية، لكن بالنظر إلى آثار الحكم العثماني في الدول العربية، يقف الباحث على ذلك الميراث الضخم الذي خلفه العثمانيون من أوقاف ومساجد ومدارس وخانات وووكالات تجارية وتكايا وأماكن خربة تم إعمارها، أضف إلى ذلك النظم الإدارية الدقيقة التي فرضوها في الولايات التابعة لهم كما جاء في تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد بك، والخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك.
سابعا: مما ينفي أيضا عن الدولة العثمانية صفة الاحتلال، أن طيلة الأربعة قرون التي سبقت عزل السلطان عبد الحميد، لم يُسمع عن علماء الدين المعتبرين من العرب دعوتهم للخروج على الحكم العثماني، وهو أمرٌ جديرٌ بالاهتمام، فعادة العلماء أنهم يعملون على تثوير الشعوب ضد المحتلين انطلاقا من واجبهم الديني تجاه الأمة على اعتبار أنهم قادة للرأي.
ثامنا: طبيعة المحتلين أنهم يفرضون لغتهم على البلاد التي يسيطرون عليها، وأقرب مثال على ذلك تأثر الشعب الجزائري باللغة الفرنسية التي فرضت عليهم فرضا من الاحتلال الفرنسي، أما اللغة العثمانية، فإنها لم تفرض نفسها على الشعوب الناطقة بالعربية التابعة للحكم العثماني، بل كان هناك تفاعلا طبيعيًا وتأثيرًا متبادلًا بين اللغتين، بل يمكن القول أن العثمانيين تأثروا باللغة العربية أكثر من تأثر العرب باللغة العثمانية، نتيجة لأن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم.
أخيرا.. ينبغي الإشارة إلى أن الحكم العثماني للدول العربية لم يكن على مستوى واحد طيلة الحقب التاريخية، فقد مر بفترات من القوة والضعف، وفترات من العدل والجور، شأنه كشأن الأنظمة الحاكمة.
ولئن كان تقييم الحكم العثماني أصبح مسألة نظرية في الوقت الحاضر، إلا أن القضية يتم توظيفها سياسيا ضد التحركات التركية الراهنة في المنطقة والرامية إلى حفظ أمنها القومي، ويستهدف القوى الناعمة التركية التي تنقل الثقافة التركية إلى الشعوب العربية، فمن ثم وجب الرد على تلك القضية الحاضرة بقوة في الخصومة السياسية مع تركيا.

كيف نشأت مقولة المرجئة ؟!

كان من ضمن معاني الإرجاء الواردة في كتب التراث والمذاهب؛ أن يُطلق العلماء وصف المرجئ على من يتبع السلطان في المعصية، اللذين يسوّغون لهم ما حرّم الله، فقد قال المُحدّث يحيى بن معين عن يونس بن بكير: ثقة إلا أنه مرجئ يتبع السلطان!! (سير أعلام النبلاء، الذهبي: 9 / 247). فالاتباع للسلطان بالباطل؛ من أوصاف علماء السوء حتى يلتصق بهم وصف الإرجاء، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير عن النضر بن شميل قال: سألني المأمون: ما الإرجاء؟ فقلت: "دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم" (البداية والنهاية، ابن كثير: 14 /221 ). وكان رقبة بن مصقلة -أحد رواة البخاري- يقول: "وأما المرجئة فعلى دين الملوك!" (الإبانة الصغرى، ابن بطة، ص163).
لقد كان الإرجاء مع الملوك؛ يقتضي تأخير العمل عن الإيمان؛ لأنّ بعض فقهاء البلاط كانوا جلساء لحُكّام بني أميّة فأغروهم ببعض المفاهيم الدينية لتبرئتهم مما هم فيه حيث كانوا غارقين في العصيان! ومن ذلك ما ذكره عبد الرحمن بن يزيد: لما توفي عمر بن عبد العزيز، قال يزيد بن عبد الملك: سيروا بسيرته، فأتي بأربعين شيخًا شهدوا أن الخلفاء ليس عليهم حساب ولا عقاب. (سير أعلام النبلاء، الذهبي: 5 / 602).
ومن هنا تنشأ الأقوال والأفعال الباطلة التي يُكرّسها علماء السوء في سلاطينهم؛ حتّى يظنّ الحاكم أنّ أي عملٍ له؛ فإنّ مبناه على أساس من التفويض الإلهي؛ فتجب طاعته ويُتطلب رضاه؛ مع تسويغ سيئاته وتبرير ظُلمه !ومن خطورة هذا التفكير الإرجائي الوصول لنقطة الفكر الجبري؛ لهذا يكون حال المرجئ الرضا بحال الحاكم والاستسلام للأمر الواقع وعدم موافقة المخالفين لهم في الإنكار عن الظلم؛ مما ينشأ عنه عقيدة الجبر وأنّ هذا أمر يُريده الله، وأنه سيرفع بعد تقدير الله! ولهذا فإنّه يُطيع الأمراء مطلقاً ويرى أنّه ليس بالإمكان أفضل مما كان، يُوضّحُ ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقاً وإن لم يكونوا أبراراً" (مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 28 /508).
حين يقع هؤلاء القوم بذنب الإرجاء، وينحرف مسار تفكيرهم عن المعتقد السُّنّي؛ تراهم يُسمُّون أهل السنّة ممن يُخالفونهم في تفكيرهم ويصفونهم بالخوارج
ولقد أوضح الإمام ابن تيمية مفاهيمهم الباطلة إذ يرون: "أن الإمام تجب طاعته في كل شيء، وأن الله إذا استخلف إماما تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات" ثم قال بعد أسطر قليلة: "ولهذا سأل الوليد بن عبد الملك عن ذلك بعض العلماء، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، أنت أكرم على الله أم داود، وقد قال له: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" ( سورة ص: 26 ).. وغلط من غلط منهم من جهتين: من جهة أنهم كانوا يطيعون الولاة طاعة مطلقة، ويقولون إن الله أمرنا بطاعتهم، الثانية: قول من قال منهم: إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات". (منهاج السنة النبوية، ابن تيمية: 6 / 200).
ويقول ابن تيمية في موطن آخر: "كثير من أتباع بني أمية -أو أكثرهم- كانوا يعتقدون أنّ الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم بذلك. وكلامهم في ذلك معروف كثير. وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز، فجاء إليه جماعة من شيوخهم، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو، أنه إذا ولّى الله على الناس إماما تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات، ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة وليّ الأمر مطلقاً، وأنّ من أطاعه فقد أطاع الله. ولهذا كان يضرب بهم المثل، يقال: "طاعةٌ شاميّة". وحينئذ فهؤلاء يقولون: إنّ إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به" (منهاج السنة النبوية، ابن تيمية : 6/ 430- 431).
لقد ظهرت ثورة ابن الأشعث وغيره من الذين رفضوا حكم ولاة الجور؛ ولكن حين فشلت ثورة ابن الأشعث، ترسّخت عقدٌ نفسيّة أدّت لعقيدة الخنوع للحكّام دينياً؛ لهذا قال قتادة: "إنما أُحدِث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث" (السنة، عبد الله بن الإمام أحمد: 1 / 319). وعن طريق الإرجاء انفتحت المعاصي في الأرجاء!! حتّى قال النخعي: "لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة، تركتْ المرجئةُ الدين أرق من ثوب سابري" (السنة، لعبد الله بن الإمام أحمد: ٣١٣/١). وحين يقع هؤلاء القوم بذنب الإرجاء؛ وينحرف مسار تفكيرهم عن المعتقد السُّنّي؛ تراهم يُسمُّون أهل السنّة ممن يُخالفونهم في تفكيرهم ويصفونهم بالخوارج؛ ولا عجب أن يكونُ المتطرف عن جادّة الصواب ومسلك الوسط إذ يرى غيره في الطرف الآخر؛ وقد ذكر الإمام ابن القيم عن المرجئة مثل ذلك واتهامهم أهل السنة بالخوارج؛ فقال:
ومن العجائب أنهم قالوا لمن *** قد دان بالآثار والقرآن
أنتم بذا مثل الخوارج إنَّهم *** أخذوا الظواهر ما اهتدوا لمعاني
خطر الخوارج وغلاة التكفير على الإسلام والمسلمين من الخارج كبير وِزره؛ فلهم دور في تنفير الناس عن الإسلام، وكراهية كثير من الناس للإسلام لممارساتهم الفاجرة.
ومع أنّ المرجئة يعتقدون خطر تكفير الآخرين؛ إلاّ أنّهم قد يؤول حالهم لقتل الآخرين بغير السيف، واستحلال دمائهم! ومن هنا نفهم ما قيل لعبد الله بن المبارك: ترى رأي الإرجاء؟ فقال ابن المبارك: كيف أكون مرجئاً فأنا لا أرى السَّيفَ؟ "(ابن شاهين في "الكتاب اللطيف": 17). ذلك أنّ حالتهم قد تؤول لإشهار السيف والسلاح في وجه المُخالفين لهم لمجرّد اختلافهم معهم في العقيدة، فهم وإن لم يُكفّروا غيرهم؛ إلاّ أنّهم يُمكن أن يتطرّفوا لاستحلال دماء المسلمين بأدنى شبهة! لهذا كان إِبْرَاهِيم النخعي يقول: " الخوارج أعذر عندي من المرجئة" (السنة، عبد الله بن الإمام أحمد: 1 / 313). سبب ذلك أنّ الخوارج إن خرجوا فإنّهم سيخرجون من منطلق التكفير.
أمّا هؤلاء فقد يخرجون على أهل الإسلام مع كونهم لا يقولون بكفرهم، بسبب سوء نفسياتهم، وأمراض نفوسهم. ولهذا قال أبو قلابة: « ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف» (الاعتصام، الشاطبي 1 /83) فخطورة فكر الإرجاء متمثّلة كذلك في إمكانية الانقلاب على غيرهم بعقليّة استحلال الدماء؛ فعن أبي إسحاق الفزاري قال: سمعت سفيان والأوزاعي يقولان: «إن قول المرجئة يخرج إلى السيف» (السنة، لعبدالله بن الإمام أحمد : 1/ 217 ).
هذه مآلات فكر المرجئة؛ ومن هنا نجد عظيم تأثيرهم على تمييع الأحكام وقضايا الدين أمام السلاطين؛ بل يرون أنّ مجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصح أن يُقال ؛ لأنّ هذا يؤدي إلى فتنة، فقد وصفهم الإمام ابن تيمية فقال: "وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنا أن ذلك من باب ترك الفتنة" ( الآداب الشرعية، ابن مفلح: 1 / 157 ).
لهذا خاف على أمّة الإسلام العلماء الثقات من هذه الفرقة؛ حتّى أنّ الأوزاعي ذكر عن يحيى وقتادة أنّهما يقولان: "ليس من أهل الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء" (الإبانة، ابن بطة : 2 / 885) وعلى كُلّ حال؛ فمن يعرف في نفسه مثل هذه الطبيعة الفكريّة التي شرحناها فإنّه لن يستقيم فكره إلاّ إذا أصلح نفسه وقلبه؛ وبالطبع فإنّ من لديه نبتة إرجائية يشيح بوجهه عن فضح المرجئة أو معرفة تصوراتهم؛ وكذا الحال فيمن لديه غلو في التكفير؛ فإنّ سينأى بنفسه عن سماع صفة الخوارج وفهم تطرفهم الفكري؛ لأنَّ سقيهم الفكري ونقاط التشابه فيما بينهم تجعلهم يأبون معرفة الحقيقة!
إنّ خطر المرجئة على الإسلام والمسلمين من الداخل عظيم ضرره؛ إذ أنهم يُرققون دين الله في قلوب الناس؛ دون أن تكون هنالك عمل لتطبيق دين الله في الواقع. وخطر الخوارج وغلاة التكفير على الإسلام والمسلمين من الخارج كبير وِزره؛ فلهم دور في تنفير الناس عن الإسلام، وكراهية كثير من الناس للإسلام لممارساتهم الفاجرة.
عافانا الله من تطرف الخوارج والمرجئة..

هل كان العثمانيون محتلين لبلادنا العربية؟

هل كان العثمانيون محتلين لبلادنا العربية؟

image_print

محمد عدنان شيط


عندما كنت صغيراً كانت مادة التاريخ التي تُدرس في بلدي سوريا تحدثنا عن الاحتلال التركي الذي دام 400 عام وعن لواء إسكندرون الذي كان يسمى في هذه الكتب “اللواء السليب” والذي أعطته فرنسا لتركيا في صفقة بينهما وحرمت سوريا منه.

كبرت قليلاً بعد ذلك لأتابع عدداً من المسلسلات السورية التي تتحدث عن ما كانت تسميه “الاحتلال العثماني” وتُصور الأتراك كوحوش بشرية تسرق أقوات الناس وتمتص دماءهم وتجرهم إلى الحروب. ومن تلك المسلسلات كان مسلسل اسمه “إخوة التراب”، ومن شاهده ربما لا ينسى مشهد الإعدامات بأبشع الطرق للهاربين من الجيش العثماني والمنضمين لما سمي بعدها بقوات الثورة العربية الكبرى.

ومنذ مدة أثناء خطبة الجمعة كان الخطيب يتحدث عن العثمانيين، وفي سياق حديثه أشار إلى أنهم لم يكونوا محتلين لبلادنا لتقوم مجموعة من الناس حولي بالرد على الخطيب في منتصف الخطبة وتقول: لا بل كانوا محتلين! وتفاجأت حينها من ردة فعل هؤلاء وتعجبت كثيراً إلى أي حد وصل تفكير بعض المسلمين. ولكن هكذا عملت حكومات ما بعد الاحتلال الأجنبي على تشويه صورة العثمانيين من خلال المناهج الدراسية وكتب التاريخ والمسلسلات، فلم تترك نقيصة أو نقطة سوداء في التاريخ العثماني إلا وسلطت عليها الضوء وأغفلت في المقابل عشرات المحاسن والصفحات البيضاء في تاريخ بني عثمان وسكتت عنها بتجاهل تام ومتعمد لهذا الأمر.

أتاتورك في مكتبه

ما الباعث على تشويه التاريخ العثماني؟
بعد سقوط الخلافة العثمانية على يد مصطفى كمال (أتاتورك)عام 1924، عملت القوى الكبرى على تقسيم تركة “الرجل المريض” حينها بما يرضي أطماعها؛ فأنشأت هذه الدول على أنقاض الخلافة العثمانية مجموعة من الدول العربية قسّمتها على مزاجها ليسهل السيطرة عليها، وعلى إثرها تولى أمر هذه الدول حكومات ذات نزعات قومية عملت على قطع صلة المسلمين بتاريخهم من خلال ربطهم بالفكرة القومية وشجعتهم على الانتماء للأرض وللحدود التي قسمتها الدول الأجنبية على حساب فكرة الانتماء للدين وللرابطة الإسلامية التي كانت ممثلة بالخلافة العثمانية.

ولهذا فأفضل طريقة لإنجاح هذا الأمر هو تشويه التاريخ العثماني بمجمله من خلال بث الأخبار الكاذبة وأخذ المرويات التاريخية الضعيفة والملفقة وحشو كتب التاريخ والمناهج الدراسية بها أو في أحسن الأحوال تسليط الضوء على جوانب معينة في التاريخ العثماني مع التغاضي المتعمد عن الجوانب الأخرى، ولهذا هبت بتشجيع من الحكومات جوقة من الكتّاب العلمانيين والقوميين هاجموا الدولة العثمانية وطعنوا فيها بكل السبل وهدفوا من وراء ذلك أن ينشأ جيل يكره العثمانيين ويصف فترة حكمهم في بلادنا بالاحتلال.


هل التاريخ العثماني ناصع البياض؟

بالطبع لا ولا يقول بهذا عاقل، فكل الدول لها ما لها وعليها ما عليها، وتاريخ دولة بني عثمان كتاريخ أي دولة إسلامية حكمت منطقتنا أو أي منطقة أخرى بعد الخلافة الراشدة لا يخلو من تجاوزات وأخطاء ونقط سوداء وهذه حالة مفهومة في السياق الإنساني.

وخاصة أنه مع طول فترة الابتعاد عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة فإن زاوية الانحراف تأخذ بالاتساع أكثر، كما يشير لهذا كثيراً المؤرخ محمود شاكر عند استعراضه للدول الإسلامية.

ولكن لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نطلق على فترة حكم العثمانيين بالاحتلال العثماني، والحقيقة أننا عندما ننتقد بعض الجوانب في الخلافة العثمانية فنحن ننتقدها من جانب شرعي وليس من جانب التعصب للعروبة أو للطعن في الخلافة الإسلامية بشكل عام، فالعثمانيون لديهم سلبياتهم التي لا نستطيع التفصيل فيها في هذا العجالة، ولكن نمر على أهمها بسرعة مثل عدم الاهتمام باللغة العربية وعدم الاتجاه لتعريب الدولة بشكل عام، وإكثار بعض السلاطين من الزواج من الأجنبيات، وقتل بعض السلاطين لإخوانهم، وعدم التركيز على دعوة أهل البلاد المفتوحة دعوة صحيحة للإسلام مثل بلاد اليونان وشرق أوروبا بالمجمل، والاستمرار بالحكم الوراثي بدلاً من إتباع الشورى التي يدعو لها الإسلام بالإضافة إلى تغليب الجانب العسكري على الجوانب الحضارية، وبعض السلبيات الأخرى، ولكن المنطلق لهذا الحديث عن بعض سلبيات العثمانيين هو منطلق ديني بحت وليس حقداً على الخلافة الإسلامية العثمانية أو رغبة في الطعن فيها تعصباً للعروبة كما بينت.

السلطان العثماني وحيد الدين في لحظة الوداع قبل أن يعين عبد المجيد الثاني في منصب خليفة شكليا ليشهد انهيار الخلافة

صفحات مشرقة في تاريخ العثمانيين
1-وقف العثمانيون سداً منيعاً في وجه غزوات الإسبان والبرتغاليين الاستئصالية على البلاد العربية وخاصة في شبه الجزيرة العربية وشمالي إفريقيا، ودافعوا عن هذه المناطق بكل شجاعة وبسالة.

2-أخّر الحكم العثماني للدول العربية سقوط معظم دولها بإيادي المستعمرين من الإنكليز والفرنسيين والهولنديين وغيرهم، والذين سيطروا في أوقات مبكرة على دول أخرى كالهند وإندونيسيا وماليزيا.

3-فتح العثمانيون القسطنطينية عام 1453 على يد محمد الفاتح -رحمه الله- محققين بذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أورده الإمام أحمد في مسنده “لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”، وتوسعوا في الفتوحات في شرق أوروبا وطرقوا أبواب فيينا.

4-وقفت الدولة العثمانية سداً منيعاً أمام الدولة الصفوية في الشرق والتي عملت على نشر التشيع في الدول العربية وعدّت الخلافة العثمانية نفسها حامية أهل السنة، فخاضت الحروب العديدة مع الصفويين ودافعت عن العرب السنة وحمت مذهبهم.

5-رغم ضعف الدولة العثمانية في أيامها الأخيرة إلا أنها لم ترضى أن تفرط بأرض فلسطين، وسجل التاريخ بأسطر من ذهب موقف الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني برفضه بيع أي شبر من أرض فلسطين رغم الضعف الداخلي والمغريات المالية الكبيرة التي عُرضت عليه، بينما رأينا بعدها الحكام الرافعين لشعارات القومية والعروبة وما فعلوه من جنايات بحق فلسطين سبقت نكبة 1948 ولم تنته بعدها.

6-وحّدت الدولة العثمانية شعث الدول العربية بعد الهجمات التترية والحملات الصليبية والتي جعلت الدول العربية مستنزفة إلى أقصى حد ومعرضة لكل الأخطار، وشكلت دولة ممتدة الأطراف يهابها الشرق والغرب على عكس ما حدث بعد الخلافة العثمانية من تفرق وتقسيم لكل الدول العربية.

 في النهاية، يبقى الحكم الأخير على الخلافة العثمانية وفترة حكمها للبلاد العربية مرتبطاً بمرجعية من يقوم بهذه العملية. فأصحاب المرجعية الإسلامية يعدّون الخلافة العثمانية امتدادا للخلافة الإٍسلامية، ويجدون في هذه الفترة الكثير من الصفحات المشرقة، ويرون في هذه الخلافة حتى في آخر فتراتها -رغم الضعف- عاملاً يمكن أن يكون موحداً وجامعاً للمسلمين ورادعاً لأعدائهم. بينما أصحاب الاتجاهات القومية والعلمانية فينظرون إلى تاريخ الخلافة العثمانية وحكمها للبلاد العربية بمناظير سايكس بيكو ونشوء الدولة الحديثة، ولهذا يعدّون هذه الخلافة احتلالاً للبلاد العربية وهذا ما حاولوا أن يروجوه ويزرعوه بين الناس.

لكن المنصف أقل الإنصاف يعلم أنه لا مجال للمقارنة أصلاً بين الاحتلالات الأجنبية للبلاد العربية وما فعلته من إجرام وإبادات وقتل ونهب للثروات بما لا تتسع صفحات مئات الكتب من تدوينه، وبين الخلافة العثمانية وفترة حكمها للبلدان العربية التي تحدثنا بعجالة عن بعض صفحاتها المشرقة وأقلها حماية بلاد العرب.

ومن يدري ربما لولا نشوء الخلافة العثمانية وتوحيدها للبلاد العربية تحت رايتها -كسبب رئيسي- لحدث لبعض سكان هذه البلاد العربية ما حدث للهنود الحمر، وهذا الكلام لا مبالغة فيه لأنه في نفس الوقت الذي كان يباد فيه الهنود الحمر وسكان أمريكا الوسطى والجنوبية كانت الخلافة العثمانية تشكل قوة عظمى في وجه تلك الهجمة الأوربية لاحتلال ما تصل إليه من أراض وتبيد على إثرها سكانها. فهل بعد هذا نتنكر لحقائق التاريخ فنظلم العثمانيين ونسميهم احتلالاً؟


مصادر

أحمد آق كوندز وسعيد أوزتورك، الدولة العثمانية المجهولة 303 سؤال وجواب توضح حقائق غائبة عن الدولة العثمانية.

محمود شاكر، التاريخ الإسلامي، المجلد الثامن، العهد العثماني.

عماد الدين خليل، مدخل إلى التاريخ الإسلامي.