نظرات في مقالات "كفاح الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي" للأستاذ "سيد قطب" وتحلية الشيخ البشير الإبراهيمي لها
نظرات في مقالات "كفاح الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي" للأستاذ "سيد قطب"
وتحلية الشيخ البشير الإبراهيمي لها
مدخل تمهيدي:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب |
من قال حاد عن اصله أو قال مات فقد كذب
بهذه الكلمات كان مطلع قصيدة الشيخ المصلِح "عبدالحميد بن باديس" - رحمه الله - رائدِ النهضةِ الجزائرية، ورئيسِ "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، والذي أَنجَبتْه الجزائر المسلمة الأبيَّة.
ومع أن الجزائرَ لم تُنجِب "ابن باديس" وحدَه في مثل فكرِه وعقيدتِه، بل أَنجَبَت الكثيرَ من العلماء والمفكِّرين المُبدِعين الأجلاء، والذين ذاع صيتُهم في المعمورةِ وأصقاعِ العالمِ - شرقًا وغربًا - ومن بين هؤلاء الأعلام: العلامة الأَرِيب، والشيخ الأديب "محمد البشير الإبراهيمي" - رحمه الله تعالى - نائبِ ابن باديس في "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، ورئيسها فيما بعد موته - رحمهما الله.
وفي المقابِل تُعتَبَر مصرُ قِبلةً للمفكِّرين والزعماء من الشمال الإفريقي والمغاربي، وبخاصَّة إبَّـان التوسُّع الاستعماري الفَرَنسي في حدود الأربعينيات والخمسينيات الميلادية، والذي ألجأ الكثيرَ من علماءِ المسلمين الجزائريين، ودفعهم إلى الهجرةِ بدينِهم وأنفسهم لمَن قد يكون سندًا لهم في تلك البلاد، وعونًا على ما يَصبُون إليه من دعوة إلى تحرير الأبدانِ والأوطانِ من رقِّ الاستعمار الكافر.
والذي يهم في هذا المقامِ، هو محاولةُ إبرازِ شيءٍ من المآثر والفوائدِ المستَنبطةِ من كفاحِ الجزائرِ ضدَّ الاستعمار الفَرَنسي، بنقلِ نموذجٍ من أقوالِ أبرزِ دعاة التحرُّر من عبوديَّة الاستعمار المُتَغَطرِس، والذي أكل الأخضر واليابس، ويمثِّله الأستاذ الداعية "سيد قطب" - رحمه الله - في مصر، وتوضيح مقاصدِه من المقالات المؤيِّدة لأهمِّ النشاطات في سبيلِ نصرةِ الكفاح الجزائري، والذي كان يمثِّله ويَرفَع لواءَ شرعيَّةِ جهادِه الشيخ العلامة "محمد البشير الإبراهيمي" - رحمه الله.
العلاقة بين "سيد قطب" والإبراهيمي:
ظهرت "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" على السَّاحة في بدايةِ الثلاثينيات؛ بحكم التأثُّر - المباشر، وغير المباشر - بنهضة الدعوات والحركات التحرُّرية بالمشرق الإسلامي: كدعوة شيخ الإسلام "محمد بن عبدالوهَّاب" - رحمه الله وأجزل له الثوابَ - وهي دعوة سلفيَّة على منهاجِ النبوة، وكذا حركة التحرُّر العقلانية "لجمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده"، ودعوة الشيخ "محمد رشيد رضا" - رحمه الله - السُنيَّة السَّلفيَّة في مُجمَلِها.
وقد امتدَّت هذه النهضةُ نحوَ المغربِ الإسلامي؛ بمقتضى الارتباطِ الثقافي الوطيدِ بينهما منذ العهودِ الإسلاميةِ الأولى، وكذلك التواصل المستمِر الذي كان بين هذه الدعواتِ والحركاتِ، وهذا بعاملِ الهجرةِ الذي ازدادت أسبابُه ودواعيه بين سكَّان الجزائر نحو المشرق بعد الاحتلال الفَرَنسي لها، ومن ذاك:
1- الهروبُ بالنفسِ؛ خوفًا من التقتيل الجُزَافِي، الذي أخذ يُلاحِق المواطنين العُزَّل.
2- النفيُ المعتمَّد من قِبَل السلطات الاستعمارية لكل مَن ثَبَتت عليه محاولةُ المواجَهَةِ.
3- الفرارُ بالدِّين، بعد ظهور بوادرِ التنصير، والاعتداء المبكِّر على مؤسَّسات الإسلام.
4- العجزُ عن مغالبةِ الحياةِ، بسببِ مُصادَرة الأملاك، والاستحواذ عليها بالقهر والعَنْوَة.
5- الرغبةُ في الاستزادةِ من العلم، بعد أن جفَّت ينابيعُه في رُبُوع الجزائر.
6- التضييقُ المستمِرُّ على رجالِ العلم؛ وهذا خوفًا من إثارتِهم الشَّغبَ بين المواطنين[1].
كلُّ هذه العواملِ والأسباب أدَّت بعلماء الجزائر ومفكِّريه للتواصل مع المشرق، ولعلَّ العاملَ الثاني - من العوامل الآنِفة الذكر - هو السبب الرئيسي، والمحرِّك، والباعِث على هجرةِ الشيخ العلامة "محمد البشير الإبراهيمي" - رحمه الله - إلى بلاد المشرقِ، ومصر على وجه الخصوص.[2]
ومن هنا بدأت العَلاقةُ القويَّة بين علماءِ الجزائر بهجرةِ الإبراهيمي إليها، وما تميَّز به من القوَّة العلميَّة والأدبيَّة والسياسيَّة.
وكانت أوَّل علاقةٍ تَربِطه بالأستاذ الداعية "سيد قطب" - رحمه الله - هي المشاركة سويًّا في مؤتَمَر القدس الإسلامي، الذي انعقد في أواخِر 1953، وقد ترأَّس الشيخ "الإبراهيمي" جلساتِ أعماله، فيما عيِّن: "سيد قطب"، و"الفضيل الورتلاني"، والدكتور "سعيد رمضان"، و"محي الدين القليبي"، و"محمد محمود الصوَّاف"، و"محمد خليفة"، و"كمال الشريف" - أعضاءً في اللجنة التنفيذية للمؤتَمَر.
وحَرَص "سيد قطب" على حضور الندوة التي كان ينظِّمها مكتب "جمعية العلماء الجزائريين" بالقاهرة كل أسبوع، والتي كان يُشارِك فيها أيضًا كبارُ الكتَّاب والعلماء[3].
وقد أيَّد "سيد قطب" - رحمه الله - دعوةَ "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" للتحرُّر من الاستعمارِ الفَرَنسي بأوَّل مقالٍ له فيها بعنوان: "كفاح الجزائر"، وكان حظُّها منه تخصيصَ أربعِ مقالاتٍ تدعم نشاطَها، وتثبِّت أركانَها، وقد نَشَرها الشيخ "البشير الإبراهيمي" - رحمه الله - في جريدةِ البصائر - لسانِ حالِ الجمعية - بعد تصديرِه لها، وتحليتها بكلمة يَحسُن نقلُها - بفصِّها ونصِّها - من جريدة البصائر العدد 214، السنة الخامسة،23 جانفي1953، حيث جاء فيها:
"تَمتَزِج فكرةُ الوطنِ الإسلامي الأكبر بنفس الأستاذ "سيد قطب" امتزاجَ الروحِ بالجسد، والعقيدةِ بالعقل؛ فهو - حفظه الله - لم يَفتَأ يدعو المسلمين في الشرق والغرب بكتابتِه الضافِية إلى السيرِ على ضَوءِ هذه الفكرةِ في: حركاتِهم التحرُّرية، وكفاحِهم العامِّ، والاعتصامِ بأُخُوَّتِهم الإسلامية، التي هي المَهْيَع الأمين لتحقيقِ أمانيهم وآمالهم في الحياة كمسلمين، لهم من تعاليمِ دينِهم ومجدِ تاريخِهم كلُّ ما يَهْدِيهم سواءَ السبيل، إذا غَشِيَتهم الظلماتُ، وألَمَّت بساحتِهم خطوبٌ ومُلِمَّات.
وقد وجد الأستاذ في صحيفة "البصائر" - التي هي اللسانُ المعبِّر عن كفاح الجزائر، في سبيل المحافظة على: إسلامِها، وعروبتِها، وربطِ نهضتِها بالعالم الإسلامي - صَدَى دعوتِه الصارخة، فأحبَّها وبَادَر بإرسالِ هذه الكلمةِ البليغةِ الجامعةِ إليها، وهي إذْ تُحلِّي صدرَها بها، إنما تَنشُر صفحةً من جهادِ أحدِ العلماءِ العاملين من أعلام هذه النهضة، التي لن تقفَ دون أن تَصِل بالإسلام والمسلمين إلى أهدافِهم السامية في طريق كفاحِهم من أجل: الوَحْدَة، والحرية، والاستقلال"[4].
• تواريخ وعناوين مقالات الأستاذ "سيد قطب" - رحمه الله - حول كفاح الجزائر: "23 يناير 1953، 27 مارس 1953":
• جريدة "البصائر"، العدد: 214، بتاريخ 23 يناير1953، عنوان المقال: "كفاحُ الجزائرِ...".
• جريدة "البصائر"، العدد: 220، في 6 مارس1953، عنوان المقال: "نحن خيرُ أمَّةٍ أخرجَت للناسِ".
• جريدة "البصائر"، العدد: 221 - في 13 مارس1953: عنوان المقال: "طريقُ النصرِ".
• جريدة "البصائر"، العدد: 223، في 27 مارس1953، عنوان المقال: "مؤتَمرُ الدعوةِ الإسلامية".
من خلال استطلاعِ النظرةِ الأولى للعناوين، يَلحَظ القارئ أنَّ المقالاتِ كانت لها أهدافٌ ومقاصدُ عند "سيد قطب"، ويمكن اعتبارُها تمهيديَّةً للعمل على إذكاءِ وإزكاءِ العمل الجهادي ضدَّ الابتلاعِ الصَّلِيبِي الفَرَنسي لبقاء الجزائر مسلِمةً حرَّة أبيَّة، وألا تكونَ أندلسًا جديدة، ويُمكِننا الوقوفُ مع صدى تلك المقالاتِ، وأبرز ما يُستَخلَص منها فيما يلي:
صدى تلك المقالات، وأبرز ما يستفاد منها من مآثر:
المقال الأول - "كفاح الجزائر" - شخَّص فيه "سيد قطب" - رحمه الله - حالةَ الاستعمار الصليبي بالجزائرِ، وما استفاده شخصيًّا مما اطَّلع عليه من حال الدُّوَل، وما آلت إليه من جرَّاء هذه الحملة الاستدمارية الصليبية، ومبينًا الأساليبَ والمسالك المُزرِية لفَرَنسا في استعمارها للجزائر، قائلاً: "...لم يَعرِف بلدٌ آخرُ في الشرق أو في الغرب ما عَرَفتْه الجزائر من أساليبِ الصليبية، حتى الأندلس وحتى فلسطين لم تَعرِفا هذه الأساليب، لقد امتدَّت هذه الأساليبُ إلى تفكيكِ التماسكِ العنصري والعائلي، وامتدَّت إلى تخليطِ الأنسابِ، وتحطيمِ الأخلاق، امتدَّت إلى إزالةِ الصبغة العربية الدينية، وتمَّ هذا في غفلةٍ من العالم الإسلامي والأمةِ العربيةِ في القرن الماضي، وكانت الجزائر وحدَها في المَيْدَان، فلم يَكُن بجوارِها أحدٌ كما هو الآن"...
إلى أن قال في خلاصةِ نظرتِه الشخصية لكفاح الجزائر، دون غيره: "لهذا كلِّه تخلص لي من كفاحِ الجزائرِ دلالةٌ لا تخلصُ لي من كفاحِ أيِّ بلدٍ آخر، دلالةٌ مطمئنةٌ تدعو للثقة، وإلى التفاؤل... إن هذا العالَم الإسلامي لن يَموتَ... إن المِحنَة التي عاناها في الجزائر لن يُعانِي مثلَها اليوم؛ لأن الاستعمار لا يملك مثلها اليوم وبعد اليوم؛ ولأن الأساليبَ التي جرَّبها في الجزائر لا يَعرِف العالَم لها نظيرًا".
ثم بعد أن وَصَف حالةَ الاستعمار وأساليبه في الجزائر، بَعَث في خلاصةِ نظرتِه الثاقبة التفاؤلَ، ثم أَبَدى تعظيمًا لشعبِها المسلم، وتاريخها الكبير، قائلاً - بعد ما سبق -: "إن في الوطنِ الإسلامي حيويةً كامنةً لا يَغلِبها شيءٌ... هذا هو الخاطِر الذي يُخالِج نفسي كلما نَظَرت إلى كفاحِ الجزائرِ، ونَظَرت في تاريخ هذا الكفاح...".
ثم أبدى نصيحةً إلى جمعيةِ العلماءِ، بأن يكتبوا تاريخَ كفاحِ الجزائرِ، ويَعرِضوه على الأمة الإسلامية؛ لأنَّه قلَّ مَن تعرَّض لهذا بأقلامٍ نَزِيهة أمينةٍ عالِمةٍ ببواطنِ الأمور.
وبيَّن أن الشعبَ الجزائِري كانت له عقيدةٌ راسخةٌ في حياةِ الكرامةِ، هي التي أضاءت له المشعلَ في الطريقِ، وعَرَفت "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" كيف توثِّق هذا الحبل، وكيف تَرفَع ذلك المشعلَ، ثم خَتَم المقال بثناءٍ عطرٍ، وتحيةِ إكبار لجمعية العلماء، والشيخ البشير الإبراهيمي - رحمه الله - على وجهِ الخصوص؛ لمجاورته له، فقال: "وإنني لأَكتَفِي اليوم بهذه الكلمات القلائل تحيةً لجمعية علماء الجزائر، وشيخها الجليل الذي يجاورُنا اليوم، فيَبْعَث فينا من روحِه القوي شعاعًا حارًّا، ويُشعِرنا بأن في العالَم الإسلامي رجالاً.. رجالاً من طرازٍ فريدٍ، ولن يموت هذا العالَم وهو يَبعَث من أعماقِه بمثل هؤلاء الرجال".[5]اهـ
وقبل عرضِ أهمِّ مقاصدِ الأستاذ سيد - رحمه الله - في المقالاتِ الأخرى المتتابعة، أسأل الله تعالى أن ييسِّر فيما يستقبَل من الزمن - إن شاء الله - لإخراجِها في رسالة لطيفةٍ، مع تسليطِ الضوء على مضامينِها ومقاصد كاتبِها، مستفيدينَ مما حَوَته من دلالاتٍ ونظرٍ في واقع تلك الحقبة من الحالات، عرضًا ونقدًا واستفادةً، ويمكنني الآن تلخيصُ الفوائدِ المستفادة من المقالات المتبقية في الخلاصة التالية:
المقال الثاني "نحن خير أمة أخرجت للناس":
في هذا المقال بيَّن سيد - عفا الله عنه - حالَ الأمةِ الإسلامية، وتمزُّقها إلى أشلاءٍ؛ بسببِ الاستعمار الغربي، فأحالت المسلمين بعضه بعضًا إلى غرباء، وفرَّقتهم أشلاء، ثم استدل بنصوصٍ من الكتاب - كقوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143] - على أن خيريةَ الأمة الإسلامية لم تكن محاباةً ولا وراثة؛ وإنما لها أسبابٌ وقواعدُ، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
ثم قال: "... خيريَّة هذه الأمة لم تكن محاباةً، ولم تكن وراثةً؛ وإنما بيَّن الله أسبابَها وقواعدَها، وهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أي: التكافل في الإصلاح، وفي دفع المنكر، والكفاح، وهي: الإيمان بالله...".
ثم بيَّن الإيمانَ الذي يقصدُه، وأنه ليس كلمةً تُلاكُ باللسانِ؛ وإنما هو شعورٌ يفيض به القلبُ؛ فيَنبَثِق عملاً واقعيًّا في الحياة، وسلوكًا محققًا في الأرضِ، ثم دعا إلى الأُخُوَّة وتحطيمِ العقبات في سبيل التغلب على الاستعمار.
المقال الثالث "طريق النصر":
بيَّن الأستاذ أن طريقَ النصرِ هو الاستمساكُ بالعقيدةِ الإسلامية، وعدمُ الانحرافِ عنها، وأنها ليست مجرَّدَ انزواءٍ في مسجدٍ، أو انتهاءٍ من عبادات معيَّنة، بل هي: "نظامُ حياةٍ، و[دستورُ] مجتمعٍ، و[قانونُ] دولةٍ، ومن ثَمَّ لا تتحقَّق حتى يؤدِّي الفرد عبادتَه المفروضة، ويَسلُك في المجتمع سلوكًا إسلاميًّا في معاملاته، وحتى يَقُومَ المجتمعُ على أساس الشريعة الإسلامية، وحتى تَنهَضَ الدولة بالتكاليفِ العامَّة التي يُوجِبها الإسلام.
عندئذٍ يَحِقُّ النصر الذي كتبه الله على نفسه للمؤمنين...".
ثم أَفَاض ببيانِ أسباب الهزيمة، وأن أعظمَها الانحرافُ عن العقيدةِ من جهةِ الفردِ، ومن جهة المجتمع.
المقال الرابع "مؤتمر الدعوة الإسلامية":
أما عن مقالِه الأخير، فقد كان يبشِّر بمستقبلٍ جديدٍ للإسلام والمسلمين، ويَبعَث على التفاؤل والاستبشارِ، وعدَّ اقتراحه هذا المؤتمر السنوي خطوةً لإحياءِ الإسلام: عقيدةً، ومنهجًا، وشريعةً، ونظامًا، بعد أن تُدرَس مشكلاته، ويشخَّص الداء، ثم يُوصَف الدواء من طرفِ دعاةِ الإسلام الفاهِمين للدعوة، والمُتَّسِمين بروح الإسلام والواقعية، والمُتشبِّعين بالعقيدةِ الصحيحة...
"هؤلاء الدعاة يَعودُون من مؤتمرِهم السنوي العام، وقد التقى بعضُهم ببعضٍ، وأخذ بعضُهم على بعضٍ، وعَرَفوا كيف يوجهون خططهم، وكيف يجمعون صفوفهم وكيف يُخاَطِبون الناس، وكيف يعرِّفونهم بإخوانِهم المسلمين الغائبين عنهم، وكيف يوجِّهونَهم إلى الإسلام الحي من جديد، وكيف يُخرِجونَهم من جوِّ الطقوس الميِّتة إلى جوِّ العبادات الحيَّة، وكيف يُقِيمُون المجتمع الإسلامي على قوائمه من جديد"[6].
خاتمة:
بعد هذه الجَولَة في رياضِ الكلمات، والمقالات، والتعاون بين هذين العَلَمِين، والداعِيَيْنِ الأَدِيبَينِ - يَنبَغِي الاعتبارُ بواقعِ الحال، وأن الاستعمار الفَرَنسي - وإن أُخرِج من البلاد، وأراح الله منه العباد؛ بفضل الله تعالى، وما يسَّره من سُبُلٍ لدعاة الإصلاح، وتمهيدهم لكفاح الجزائر 1 نوفمبر 1954، إلا أن الاستعمار الفَرَنسي ما زال يَضرِب بعروقِه في فكرِ الكثير من أبناءِ وطني الجزائر، بل وأمتي الإسلامية، وهو يَسعَى جاهدًا، وبكلِّ الوسائل في خضمِّ الأحداثِ العالمية الجارية، والمسماة بـ"ربيع الثورات العربية: 2011م"؛ للتدخُّل في شؤونِ البلاد، ومحاولة استعمارها من جديد باسمِ حمايةِ الحرِّيات الفردية، وباسم حرِّية الشعوب في تقرير مصيرها، فنحذر من جرِّ المعركة للداخل، وليَكُن لنا موقفٌ حازِمٌ في ردِّ أيِّ عدوانٍ، أو تدخُّل أجنبِي، قد يُهلِك الحرثَ والنسل، والجزائري قد عانى الويلاتِ في تلك الحقبة الزمنية الدمويَّة، ومَن لم يَعتَبِر بما سبق، فسيَعتَبِر به مَن لحق.
والأمَّة الجزائرية لها خصائصُ ومميزات: "مسلِمةٌ في عقيدتِها، عربيةٌ في لسانِها، جزائريةٌ في وطنيتها"، وهذا هو الشعار الذي رفعه أئمة الإصلاح والدعوة من رجال "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، وأيَّد دعوتَها وكفاحَها للاستعمار الفَرَنسي الغاشم رجالاتُ الفكرِ الإسلامي كالأستاذ "سيد قطب" - رحمه الله - كما في مقالاته السابقة، وأئمة الدعوة السلفيَة كالشيخ عبدالرحمن بن قاسم - رحمه الله.
ورحم الله الأستاذ الداعية "سيد قطب"؛ إذ قال[7]: إن الاستعمار الذي يَغلِبنا، ليس هو استعمارَ الحديدِ والنار؛ فالاستعمارُ لا يَملِك أن يُقِيم جنديًّا من جنودِه على كل فردٍ من الملايين الكثيرة في ذلك الوطن الإسلامي؛ إنما الاستعمار هو ذلك الذي في صدورِنا وقلوبِنا، هو خلوُّ ضمائرِنا من الإيمان بالله، وامتلاؤها بالإيمانِ بالخوف والطمع: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ﴾ [آل عمران: 155].
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175] انتهى.
وتفويتُ الفرصةِ على الأعداءِ نباهةٌ، والله - جل وعلا - يقول في محكم التنزيل: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60].
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد.
والحمد لله رب العالمين.
[1] علي ديدونة: "المنظومة التربوية في الجزائر بين الأصالة والاستئصال" - بتصرف يسير - ص: 210 - 211، منشورات دار توريد بوزريعة - الجزائر، الطبعة الأولى 1427هـ - 2006م".
[2] ينظر: "آثار الشيخ البشير الإبراهيمي" 1 11.
[3] ينظر: محمد ناصر: "الشيخ إبراهيم أطفيش في جهاده الإسلامي" بواسطة: "أعلام وقضايا في التاريخ الإسلامي المعاصر"؛ للدكتور مولود عويمر - دار الخلدونية بالجزائر، ص: 55، ط أولى: 1428هـ - 2007م.
[4] ينظر "الآثار: 4/ 152".
[5] من "البصائر: عدد 214، السنة الخامسة من السلسلة الثانية".
[6] البصائر: عدد 223، السنة الخامسة من السلسلة الثانية.
[7] كما في "البصائر: العدد 220 - السنة الخامسة من السلسلة الثانية".