الأحد، 14 يوليو 2019

السلفيون والإخوان وقصة حب مؤثرة..!!

 يطرح البعض أن العلاقة بين هاتين الجماعتين الكبيرتين في العالم الإسلامي، السلفيون والإخوان، علاقة لا يمكن أن تتحسن، على الأقل في المستقبل القريب المنظور، حيث فيما يبدوا ويظهر أنه لا يمكن أن يلتقي الطرفان على شيء، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، وأن هذا الصراع الفكري بينهما، هو صراع عقدي عميق، متعدد الجهات والأسباب، كما أن الدعوة إلى لقاء بين التيارين، مجرد مضيعة للوقت، وإهدار للجهود، لأن ثمة قناعة متداولة على كل الأوساط الإسلامية أن الجماعتين بينهما من أسباب التنافر والخلاف والنزاع والشقاق، ما لا يوصف، وهو ما لا يمكن معه القول بأن ثمة أملا في اللقاء، فضلا عن الوحدة بينهما، كما أن هذه الفرقة والشتات بين الجماعتين لن تنتهي إلا بآية من السماء، كظهور المهدي، أو نزول عيسى بن مريم! . 


هذا الطرح مع كونه تشخيص للمشكلة، قد يقترب من الصواب من وجه أو أوجه، بيد أن قراءة عابرة تاريخية وواقعية لسير هاتين الجماعتين، تجعل المراقب الحصيف يعيد النظر، ويقلّب الفكر والرأي، المرة تلو المرة، ليخرج في نهاية المطاف بأنّ الأمر ليس على هذا النحو ولا على هذه الصورة، وأن هذه النظرة غير دقيقة ومتشائمة أكثر مما يجب، ولنحاول الغوص في تاريخ الجماعتين لنرى أن الصورة لم تكن على ما هي عليه الآن، وأن ثمة عوامل سياسية وتطورات فكرية، تدخلت وعكرت صفو العلاقة بين الجماعتين .

نشأة الاتجاه السلفي:
ينتمي السلفيون إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وُلد الشيخ "محمد بن عبد الوهاب بن داود" سنة (1115هـ = 1703م) في "العيينة" من بلاد "نجد"، ونشأ بها، وحفظ القرآن، وتلقى العلم عن أبيه، الذي تولى القضاء في بلدان العارض من أقاليم نجد، حيث نشأت دعوة محمد بن عبد الوهاب في أوساط القبائل النجدية والحجازية، واتسعت فيما بعد حتى عمت كثيراً من أرجاء الجزيرة العربية والخليج، ثم ما لبثت حتى دخلت كثيراً من أرجاء العالم الإسلامي، عبر وسائل عديدة كالطلاب المبتعثين، أو أعمال الدعوة والإغاثة، أو عبر نشر الكتب، لا سيما في أيام الحج والعمرة ، أو عبر الدعاة والمرشدين.
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرى في أصل دعوته، أنّ سبب تخلف المسلمين وضعفهم يعود إلى ضعف عقيدتهم وتوحيدهم، فقامت دعوته على أساس التوحيد الخالص، ومحاربة البدع والخرافات والقبوريات، والتصوف الآثم، ومحاربة كل سبب يعكر صفو العقيدة الإسلامية الخالصة، واعتمدت "الوهابية" مذهب السلف الصالح، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام بن تيمية، وابن القيم، وغيرهم من سلف الأمة، منهجاً في التغيير والعقيدة والسلوك والدعوة .
وتتلمذ التلاميذ على هذه الدعوة المباركة، المتبعة لمنهج السلف ديدنا ومنهجا للتغيير .
ومما تجدر الإشارة إليه أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت في أصلها دعوة سلفية جهادية رشيدة، شاملة، غير أنه نتيجة ظروف خاصة، لم تعد بهذا القدر من الشمول، وغلب عليها مؤخراً الاقتصار على محاربة البدع والشركيات، لأسباب علّنا نشير إليها في ختام هذا البحث .

نشأة الإخوان المسلمون:
وفي مصر الإخوان المسلمون، أسسها الإمام حسن البنا عام 1928 كدعوة إسلامية وهى كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة، وتنتشر هذه الجماعة الآن في 80 دولة تضم كل الدول العربية و دولا إسلامية وغير إسلامية في القارات الست .
وتقوم دعوة الإخوان على الإسلام بمفهومه الشامل، والذي أشار إليه الإمام البنا في رسائله، وبالأخص في أصوله العشرين، كما يعتقد الإخوان المسلمون أن سبب ضعف المسلمين، هو بسبب غياب الحكم الإسلامي الرشيد، فاختطت الجماعة لنفسها منهجاً للتغيير، يقوم على أساس الجهاد السياسي والكفاح التربوي والتوعوي والتنظيمي، وقد لقيت بسبب هذا التوجه السياسي كثيرا من الإيذاء والتعذيب والاضطهاد، منذ ذلك الحين، وإلى هذه اللحظة .

السلفيون والإخوان وأيام العسل
عاش الإخوان المسلمون والسلفيون، أياماً طوالاً من الحب والوئام والسلام، لا سيما في عهد الملك فيصل يرحمه الله، حيث فتح يرحمه الله بلاد الحرمين، للإخوان المسلمين، مدرسين ومعلمين، ومهندسين، وأطباء، وخبراء.. لمواجهة تيارات التغريب والعلمنة التي كانت تجتاح البلدان الإسلامية، آنذاك، لا سيما في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فازدهرت العلاقة بين الإخوان والسلفيين في هذه الحقبة، إزدهاراً كبيراً ورائعاً، وصل ربما حد التعاون والتنسيق، رغم بعض التباينات الفكرية والخلافات الفروعية، التي لم تكن ترقى إلى حد الخلاف العقدي .
إلى أن اعتلى الشيخ عبد العزيز بن باز- يرحمه الله- (1330 هـ - 1420هـ) في محرم عام 1414 هـ منصب المفتي العام للمملكة العربية السعودية، حيث كان يعتبر بن باز شيخ السلفية في العالم بلا منازع، وحظي الشيخ بن باز بحب الأمة بكل فئاتها وطوائفها، وكان له قبول كبير أيضاً على المستوى الرسمي السعودي، ومع أنه كان إمام السلفية في العالم كما ذكرت، بيد أن كبار طلابه والمقربين إليه كان بعضهم من الإخوان المسلمين، وكانوا يجلونه ويوقرونه، لعلمه، وقدرته على الاستيعاب، ولما كان يتحلى به رحمه الله من وسطية واعتدال، قلّ أن تجدها في غيره .
هؤلاء الطلبة الذين تتلمذوا على يد الشيخ بن باز، بعضهم الآن قيادات العمل الإخواني في فلسطين ومصر واليمن والخليج والشام ..الخ .
كان مجلس الشيخ بن باز مجلساً للجميع، سلفيون وإخوان وجهاد، وتبليغ، ومما عزز من العلاقات الحميمة بين الإخوان والسلفيين في هذه المرحلة، الجهاد الأفغاني، حيث التقى الإخوان والسلفيون في أرض أفغانستان، وقدّم الجميع المهج والأرواح والدماء الزكية الطاهرة على أرض أفغانستان، إلى أن تحررت أفغانستان من الشيوعية الحمراء، ثم التقى الطرفان بعد ذلك على ساحات الجهاد في البوسنة والهرسك، والشيشان، والصومال، ولم يكن أحد من الطرفين يكفر أحداً أو ينال من دينه.
ومما أذكر أن الشيخ محمد يوسف حربة يرحمه الله المعروف بانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين، كان يزور صديقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب الوصابي السلفي في مسجده، ويلقي فيه الدروس والمواعظ والمحاضرات، بلا إشكال، ولم تكن هذه هي الصورة الوحيدة، بل هناك صورا كثيرة جداً، تعكس طبيعة العلاقات الودية آنذاك بين الإخوان والسلفيين .
بالطبع كما ذكرت كان الخلاف موجوداً، وتلك هي سنة الله، إلا أنه لم يكن في هذه المرحلة في الأعم الأغلب يرقى إلى القول بالخلاف العقدي.
المهم كان الشيخان بن باز وبن عثيمين، عمدة الفتيا، ومهبط طلاب العلم، الذين يتوافدون إلى بلاد الحرمين من أنحاء العالم المختلفة، لا يفتون بتكفير أحد من المسلمين، ويلقنون تلاميذهم أن من دخل الإسلام بإجماع المسلمين لا يخرج منه إلا بإجماع المسلمين، أو نحوا من هذا، الأمر الذي قضى على أسباب التكفير والتفجير إلى حد كبير .

بداية التحول 
إلى أن جاءت فتنة حرب الخليج الثانية، ثم وفاة الشيخين بن باز وبن عثيمين يرحمهما الله، فكان هذان الحدثان الكبيران هما المرحلة التالية والهامة في علاقة الإخوان والسلفيين، حيث تحولت بعد ذلك العلاقات تحولا كبيراً جداً، ولم تعد على نحو ما سبق .
تباينت جداً وجهات النظر والاجتهاد بين علماء الأمة، إبان أحداث حرب الخليج الثانية، ووقع هرج ومرج كبير، واختلفت التيارات الإسلامية فيما بينها، حتى ذات التوجه الواحد، في كل أرجاء العالم الإسلامي، وبدأ الخلاف يظهر بين الإخوان والسلفيين بشكل أوضح وأكبر، بيد أنه في تلك المرحلة، كان لوجود المشايخ ابن باز والعثيمين، الأثر في فك التنازع الفكري الذي كان يحصل بين الطرفين، كون هذين الرجلين هما محل تسليم وحب وتقدير كل الأطراف على حد سواء.
بيد أن الخرق اتسع على الراقع بعد وفاة الشيخين، وغابت بغيابهما المرجعية الكبرى في الفتيا والفقه بمفهومه الشامل، وانقطعت بوفاتهما كثير من العلائق السياسية والفكرية، ولم يجد الزمان بمثل الشيخين، اللذين يحظيان بحب واجتماع الجماهير والجماعات الإسلامية، ولهم القبول أو الحظوة في الاتجاه الرسمي، فقد يقع أحد الأمرين دون الآخر، فكبر الخلاف والنزاع، بين الإخوان والسلفيين، وامتد هذا الخلاف إلى كل أرجاء العالم الإسلامي، في مطلع التسعينيات، وأضحى إخوة الأمس أعداء اليوم .
زاد من عمق الخلاف واتساعه التدخل الأمني من بعض وزارات الداخليات بشكل أو بآخر، من بعض الحكومات الإقليمية، التي لم يسرّها الوضع أو الزخم الإسلامي المزدهر، الذي ربما قد يهدد مصالحها، واستراتيجياتها، أو لها مصالح انتخابية أو سياسية من زرع الخلاف بين الطوائف الإسلامية، لغرض تفتيتها، والقضاء عليها، نتج عن هذه الممارسات الحكومية، بعض الاجتهادات الإسلامية الغريبة والشاذة، المخالفة لصريح الكتاب والسنة، في جملة من القضايا السياسية والفكرية، مما عزز من حدة الصراع والخلاف .
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأصول السلفية استقبلت بعض المستجدات بنظرة شرعية واعية، (كالانتخابات مثلاً) وهو ما لم تستطع التيارات السلفية المقلدة أو العتيقة فهمها واستيعابها، الأمر الذي أدى إلى تصدعات وتشققات وتشظيات سلفية كبرى، على مستوى الجزيرة والخليج وغيرها.

كما أن الإخوان من جهتهم وقفوا إزاء المشروع الأميركي بشتى تشكلاته الفكرية والسياسية والثقافية في بعض الجوانب موقف الولهان أو المضطرب، في بعض القضايا المتعلقة بالحريات والديمقراطية وقضايا المرأة، فحيناً يلوذون بمذهب أبي حنيفة، وحينا يلوذون بمذهب مالك والأوزاعي، وحيناً لا يجدون مالكاً ولا الشافعي ولا حتى أبي حنيفة، ولا يجدون إلا مذهب بوش قولا واحدا في المسألة، فيلجئون إلى فقه المصالح والمفاسد، وفق الأصول الشرعية والموازنة بينهما، وحينا يصيبون، وحيناً لا يفوتهم أجر الخطأ بإذن الله . 

إزاء هذه الأحداث والاجتهادات الفكرية بين أحبابنا السلفيين وأحبابنا الإخوان المسلمين الذي ندين الله بحبهم جميعاً، أرى ما يأتي:
1) تعزيز الوعي السياسي لدى الإخوة السلفيين، فلعلهم من هذا الباب أتوا، حيث تتلاعب بهم بعض الأجهزة الأمنية، في تقديري، وليس أدل على هذا من موقفهم من حرب الوحدة اليمنية، فما كان هذا ليحدث لو أن ثمة وعياً سياسياً يتحلى به التيار السلفي في اليمن .
2) على الإخوان المسلمين الوعي التام بأن المسلمين جميعا هم جمهورهم، وفي مقدمتهم الجماعات الإسلامية، فعليهم الحرص التام على وحدة الأمة وانتظامها في صف الدفاع عن الإسلام، وعليهم ألا يقطعوا صلتهم بذوي القربى من إخوانهم من باقي التيارات الإسلامية، قاطبة، فالصلة عبادة يتقرب بها إلى الله، علينا جميعا أن نحييها، وليس شرطا أن تثمر الزيارة شيئا، بل يكفي مجرد الزيارة والتزاور في الله، ولو لم تلق ترحيباً كافياً .
3) على التيارات الوسطية من الإخوان والسلفيين، التعاون فيما يمكن فيه التعاون، لا سيما في القضايا الكبرى ذات الشأن العام، علماً أن البعض يشكوا كثيراً ويقول إننا نجد تفهما من بعض العلمانيين أكثر من إخواننا الدعاة من باقي الجماعات الإسلامية، في بعض القضايا كفلسطين، وهذا من المفارقات العجيبة والمحزنة والمخزية . 
4) علينا ألا نقطع الأمل في الله سبحانه، وفي أمتنا وفي أخوتنا، وأن هذه التصدعات هي مقدمة بإذن الله ليوم الاجتماع والوحدة الشاملة بين الدعاة والمصلحين، والأمة من ورائهم، كما أنّ على العقلاء والحكماء أن يضعوا نصب أعينهم أن وحدة الأمة بكل طوائفها واتجاهاتها فريضة شرعية، لا محيص عنها، ولا يجوز التنازل عنها .

والله تعالى من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل .

كلام الإمام الشهيد حسن البنا في الاسماء والصفات !

كلام الإمام الشهيد حسن البنا التالي....


انتقاد المنار حول فتوى آيات الصفات و أحاديثهاالعدد 6 1939

جاءنا من حضرة الفاضل صاحب التوقيع الخطاب التالي ، ننشره مع رده فيما يلي : 
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد فإن احتجاب المنار بموت صاحبه - عليه رحمة الله تعالى - كان من دواعي أسف المسلمين جميعًا ، بل حزنهم العميق ، ولم يكن ذلك طبعًا لأنها مجلة إسلامية فقط ، بل كان ذلك لما علمه قراء المنار من الميل مع الحق أينما كان ، وعدم المبالاة بكائن من كان في سبيل كلمة الحق وبيانها وإيضاحها ، ولا أظنك تجهل مواقف صاحب المنار - عليه رحمة الله - مع كثير من أخص أصدقائه ؛ فإنه لم يكن يعرف إلا الحق ولو أغضب الحق صديقه أو جميع الناس ، ولم نعهد فيه - رحمة الله عليه - مداهنة ولا محاباة ، وبذلك كان للمنار وصاحبه تلك المنزلة التي تعرفونها في نفوس جميع أهل الملة المحمدية .

فإذا كنتم تريدون السير بالمنار سيرته هذه فلا شك أنها - إن شاء الله تعالى - ستحيي حياتها الأولى ، وإلا فاسم المنار وحده لا يغني شيئًا .

لقد استفتاكم مستفت فيما شجر من الخلاف بين مجلتي الهدي النبوي والإسلام ، فماذا افتيتم ؟ إن رأي المنار في موضوع الخلاف بين المجلتين معروف مسطور في أعداد المنار السابقة ، فهل نفهم من فتواكم هذه أن المنار يتنكر لماضيه ، وينسى برنامجه ؟ لقد قلتم يا سيدي الأستاذ إن كلتا المجلتين على الحق ! ! ! ولا يعقل فيما نعلم أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ثم يقال أنهما جميعًا على الحق ! لا ، ليس هذا شأن المنار الذي عرفناه وبكيناه لما احتجب .

نرجو أن تصارحونا بالحق في أي الجانبين هو كما عودنا صاحب المنار ، إن كنتم تنصرون الحق لله وفي سبيل الله ، والسلام عليكم ورحمة الله .
قارئ

* * *
بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه ومن والاه ، وبعد ، فعلى حضرة القارئ المحترم السلام ورحمة الله عليكم وبركاته ، وكنت أود أن يتكرم بإظهار اسمه حتى نتعارف في سبيل البحث عن الحقيقة ، ولعله - وفقنا الله وإياه - رأى في ستر اسمه معاونة على خدمة الحق للحق ، بدون نظر إلى الصلات الخاصة بين المتباحثين ، فنحن نحسن الظن ، ونشكر للأخ الفاضل خطابه ، مؤكدين دعوتنا الأولى بجميع إخواننا في انتقاد ما يرونه مستحقًّا للانتقاد في المنار ؛ حتى تتعاون الجهود على الوصول للحقيقة ، ويسرنا أن نعلن أننا ننتهز مثل هذه الفرصة لنسلك بالنقد الأدبي مسلكًا نبيلاً لا هجر فيه ، ولا إقذاف ، ولا تجهيل ، ولا تضليل ؛ ولتكمل به أنفسنا ، فإن الكمال لله وحده والعصمة لأنبيائه - صلوات الله وسلامه عليهم - ومن ادعى لنفسه الكمال أو ظن بها ذلك فهذا عين النقص ، ونسأل الله ألا يحرمنا من يبصرنا بعيوبنا ، ويحملنا على الصواب والسداد ، وإلى الكاتب وإلى حضرات القراء الفضلاء رأينا فيما ورد في هذا الخطاب : 

( 1 ) نسب إلينا الأستاذ الكاتب أننا صرحنا بأن كلتا المجلتين على حق ، وبني على هذا أنه من غير المعقول أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ، ثم يقال أنهما جميعًا على الحق ؛ وحضرته لهذا يرجو أن نصارح بالحق في أي الجهتين هو ؟ ولا أدري من أين جاء حضرته بهذا التصريح الذي نسبه إلينا ، إن كان قد جاء به من تصريحنا بأن الفريقين في نظرنا أصدقاء لنا وممن يتصدون للدعوة إلى الخير ، فليس معني هذا تصويب رأي أحد منهما ولا كليهما في موضوع نزاع بعينه ، والذي صرحنا به في موضوع الخلاف أن كلا الفريقين غير محق ، وأن موضوع الخلاف من أساسه لا يصح أن يكون خلافًا ، وليس بلازم أن يكون كل مختلفين أحدهما محق والآخر مبطل ، بل قد يكونان مخطئين جميعًا هو ما صرحنا به بوضوح ، فإن فريقًا تغالى في التأويل ، وفريقًا تغالى في الجمود ، ورأى السلف في ذلك - وهو رأي المنار الذي يشير إليه حضرة الكاتب ، وهو رأينا الذي أوضحناه في مقالنا - أن مذهب السلف ترك الخوض في هذه المعاني ، مع اعتقاد تنزيه الله- تبارك وتعالى - عن أمثالها المنسوبة لخلقه وإمرارها كما جاءت ،وتفويض علم حقائقها إلى الله ، فمن فسر الاستواء بالاستيلاء فقد تورط في التأويل ، وألزم نفسه غير ما ألزمه الله به ، ومن فسره بالاستقرار فقد تورط في التشبيه ، وأوهم سامعه جواز نسبة صفات المخلوفين إلى الخالق .فإن قال ( هو استقرار يليق بجلاله ) فهو إذن لم يأتِ بشيء ، والأولى أن يقف عند النص ، والحق في هذا وأمثاله أن يقال استوى استواء يليق بجلاله ، مع اعتقادهم عدم المشابهة ، وتفويض الحقيقة إلى الله ، إلا أن تقوم قرينة لا تدفع تصرف اللفظ عن ظاهره ، فنقف عند حدود هذا الصرف ولا نتجاوزه كما ذهب إليه السلف في معية الحق - تبارك وتعالى - بعلمه لا بذاته .

تلك أمور فصلناها وقررناها ، ولمنا الفريقين على أنهما طرقا بحوثًا كهذه بمثل الأسلوب الذي خاضوا به ، فبها وبذلك حققنا رجاء الكاتب ، وصارحناه بأن الحق ليس في أحد الجانبين ، فأين القصور إذن ؟ 

( 2 ) هذا من حيث موضوع النزاع ورأي المنار فيه بالذات ، وأظن أن فيما نقلنا في باب التفسير في هذه المعاني كفاية ، ومن أراد الاستزادة زدناه ؛ حتى يعلم أن المنار لا يتنكر لماضيه في الحق ، ولا ينسى برنامجه من الصدع به ، ولا يناقض نفسه في الصواب ، وبقي بعد هذا أن نذكر حضرة الكاتب بعض ما فاته معرفته من برنامج المنار الذي سارت عليه في ماضيها ونريد أن نسير بها عليه في حاضرها : صرح صاحب المنار بقاعدة ، وأسماها قاعدة المنار الذهبية ، فقال : ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه ) ، فمواطن الخلاف يا سيدي يقدم فيها العذر على التجريح وسوء الظن ، وذلك ما سنسير عليه - إن شاء الله - .

وقد قضى صاحب المنار حياته وهو يصدع بالتحرر من الجمود ، وينعى على أهل التقليد الأعمى الذين يقدمون أقوال الناس التي لم يقم عليها دليل على الأدلة الواضحة بغير برهان بين أيديهم ، إلا أن هذا قول فلان وفلان ، فهل يريدنا حضرة الكاتب على هذا التقليد الذي نعاه صاحب المنار على أهله ؟ أم يريدنا متبعين للدليل والحق ، ندور معه كيفما دار وإن خالفنا صاحب المنار ؟ وأظن أن حضرة الكاتب يذكر أن الشافعي كان من خلصاء تلاميذ مالك - رضي الله عنهما - وكلاهما في جلالة قدره ورسوخه في علمه وتقواه لله بالمنزلة التي لا تتسامى إليها القوادح ، ومع هذا فلم يمنع هذا الشافعي أن يخالف مالكًا ، وأن يكون له رأيه ومذهبه .

فنحن مع المنار وصاحبه - عليه رحمة الله ورضوانه - في الأصول الأساسية التي لا خلاف فيها في منهاج الإصلاح العام وخطته ، وفيما وضح الحق فيه واستبان وجه عليه الدليل في الشئون التي فيها مجال للتفكير والنظر ، ولا يمنعنا هذا من أن نخالف صاحب المنار - رحمه الله - في الأمور التي لم يقم عليها الدليل أن ينبهنا لما فاتنا ، والله الموفق للصواب .

هذا مقال تم نشره قبل اكثر من 60 سنة........... لله درّك يا إمامنا الشهيد حسن البنا ...
حسن البنا

التقريب بين السلفيون والإخوان ممكنن!؟

بسم الله الرحمن الرحيم
قد يكون التقريب بين هاتين الجماعتين الكبيرتين في العالم الإسلامي هو الإطار الأنسب مع الأخذ بعين الإعتبار إن تلك العلاقة لم تنحدر إلى هذا المنحدر الخطير لولا فتنة حرب الخليج الثانية !!

كذلك وفاة الشيخين بن باز وبن عثيمين يرحمهما الله، حيث تباينت جداً وجهات النظر والاجتهاد بين علماء الأمة، إبان أحداث حرب الخليج الثانية، ووقع هرج ومرج كبير، واختلفت التيارات الإسلامية فيما بينها، حتى ذات التوجه الواحد، في كل أرجاء العالم الإسلامي، وبدأ الخلاف يظهر بين الإخوان والسلفيين بشكل أوضح وأكبر، بيد أنه في تلك المرحلة، كان لوجود المشايخ ابن باز والعثيمين، الأثر في فك التنازع الفكري الذي كان يحصل بين الطرفين، كون هذين الرجلين هما محل تسليم وحب وتقدير كل الأطراف .

فقد عاش السلفيون والإخوان سنين طوال سادتها الوئام والسلام حتى عندما تولى إبن باز منصب المفتي العام للمملكة العربية السعودية في عهد الملك فيصل ,وليس غريباً أن يكون إبن باز رحمه الله قد إستوعب الجميع ,فقد كان له قبولاً كبيراً لدى مختلف الطوائف حتى الإخوان .
قد أكون وصفت جزءً من تلك العلاقة السابقة ...ولا أنفي الخلاف الفكري العميق والذي لا زال قائماً بينهما على أنه :

هل يجوز وضع السلفين في سلة واحدة !!
وهل يجوز وصف وتتبع أخطاء الإخوان !!
ثم هل محاولات التقريب بينهما من الممكن أن تؤتي ثمارها!!

 والرابع على أن المشاهد 
أنعم الله عليه بنعمة العقل ويستطيع التمييز وتدارك الأمور.... لو حشونا بكل سطر ألف كلمة جميلة ، ووضعنا بعد كل جملة نقطة ، وأستبدلنا التعريض بالتصريح ، وبالنثر السجع .

أنا أعلم علم اليقين أن الخلاف أعظم من أن نتداوله بهذه السهولة !!
ما هي توصياتكم وإقتراحاتكم ...!!

واعلموا إننا نبحث عن ما يجمع وحدتنا ولا يفرقنا ...
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال

........... سؤال وجيه.
التوصيات هي:
1-أن يحترم كل من الفريقين رأي الآخر.... 
2-عدم ادعاء أي من الطرفين أنه يمتلك الحقيقة المطلقة أو الفهم الحصري الصحيح لتعاليم الإسلام العظيم ونصوصه....
3- أن لا ينصّب احد الطرفين من نفسه حاكماً بامر الله تعالى والوصي على احكام الدين الحنيف، وحامي الحمى الوحيد في الساحة.
4-أن لا يقصي اي طرف الطرف الآخر..... نتعاون فيما اتفقنا عليه..ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
5- أن يعترف كل طرف باخطائه -إن وجدت- دون مكابرة أو تعصّب...

أدعياء السلفية المبتدعة !

السلفيون المبتدعة أو السلفيون والبدع والمخالفات

"إنَ لكل شيء دولة، حتى إن للحمق على الحلم دولة". 

(1) لا تخفى غرابة هذا العنوان؟ فكيف يكون "السلفيون"، مبتدعة؟ والكل يعلم موقف "اسلفيين" من البدع، وتشنيعهم على مرتكبيها. 

لكن - وللأسف - هذا الذي حصل. لقد حارب "السلفيون" بدعاً كانت منتشرة في الأمة، وكانوا السبب الرئيس في إزالتها، فجزاهم الله خيراً، لكنَهم وقعوا في بدع أخرى، قد تكون أخطر وأدهى. 


والملاحظ أنهم لم يستتروا ببدعتهم دون الناس، بل جهروا بها، وكثرت دعوتهم ودعاتهم إليها، وهاجموا من لا يلتقي معهم عليها. 

وقد رأيت ضرورة عقد هذا المبحث لبيان البدع والمخالفات التي وقع فيها "السلفيون"، لعل في ذلك تحذيراً لمن كان له قلب من الوقوع فيها. 

وقد قال أبو إدريس الخولاني: "لأن أسمع بنار تحترق في ناحية المسجد أحب إلي من أن أسمع ببدعة ليس لها مغير، وما أحدثت أمة في دينها بدعة الا رفع الله بها عنهم سنة". 

(2) والخطورة في هذه البدع، أنها تصدر عن قوم معروفين بمحاربتهم البدع والنهي عنها، ولذلك لا ينتبه إليها اًحد، بل إنه لا يخطر على بال إنسان أن يربط بين "السلفي" وبين البدع! 

وإلى هذه الدقيقة، أشار ابن تيميه رحمه الله فقال([1]): "فإذا كان... أقوام يبتدعون بدعا تخالف الكتاب، ويَلبِسونها على الناس، ولم تبين للناس، فسد أمر الكتاب، وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم يُنكر على أهله، وإذا كان أقوام ليسوا منافقين، لكنهم سماعون للمنافقين! قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب، وصاروا دعاةً إلى بدع المنافقين،.... فلابد أيضا من بيان حال هؤلاء بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم، وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين، فلابد من التحذير من تلك البدع، وان اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة من منافق، لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير، وأنها دين، ولو لم تكن كذلك لوجب بيان حالها"([2]). 

(3) لقد زادت الشُقةُ بين "السلفيين" وبين أهل السنة، بسبب ما ابتدعوا. 

ولكن من الحق أن نقول: إنَ "السلفيين" ـ على ما فيهم من بدع ومخالفات ـ يتوخون المنهج السليم، في أصل دعوتهم، ويحاولون التقرب إلى منهج أهل السنة، وفقه السلف قدر استطاعتهم. 

فهم - بذلك - فيما وافقوا فيه أهل السنة من أهل السنَة، وفيما ابتدعوا فيه وخالفوا ليسوا من أهل السنَة، ولا على منهج السلف، أي انهم بعبارتهم: ليسوا "سلفيين" بما خالفوا فيه. 

(4) البدع والمخالفات التي وقع فيها "السلفيون": 

1 - اللقاء مع الناس أو مفارقتهم على أساس الفتاوى في الفروع الفقهية التي يسوغ فيها الخلاف، أو على أساس المباحات. 

قال ابن تيميه رحمه الله: (ويستحب للرجل أن يقصد الى تأليف هذه القلوب، بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين، أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم، تغيير بناء البيت، لما رأى في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود رضي الله عنه على عثمان رضي الله تعالى عنه إتمام الصلاة في السفر ثمً صلى خلفه متماً وقال: "الخلاف شر")([3]). فكيف بمن جعل بعض المستحبات، وبعض المسائل الفقهية، الأصلَ الذي لابد من البدء به قبل كل شيء، فكان ذلك سببا في تفريق المسلمين، والإساءة إليهم. 

2- والعجيب أنهم في المقابل تركوا ذكر الأصول الحقيقية، مثل بعض أصول التوحيد ومقتضياته، كتوحيد الإلاهية، وما يتعلق بها من وجوب الحكم بما أنزل الله، فلماذا هذا التناقض؟! 

3- تجزيء مفهوم توحيد الالاهية، بل تجزيء مفهوم التوحيد كله، وعرضهم له بما يُشعر بحصره في الأسماء والصفات، وتناول ما يتعلق منه بشرك القبور، وتحكيم المذاهب الفقهية. وتقزيم مفهوم الولاء والبراء، إلا في حدود البراءة من المتصوفة في "نيجيريا"، أو من شركيات ابن عربي (ت 636)، وجاهليات أبي جهل، أما غير ذلك فليس هنا وقته. 

4 - الترويج للعقيدة الجبرية: 

الجبرية التي يروج لها "السلفيون"، ليست الجبرية التاريخية بمصطلحاتها، وقواعدها، التي تصرح بأن الانسان: ريشة في مهب الريح، وأنه لا حول له ولا قوة لأنَه مسير غير مخير؟. 

ليست هذه هي الجبرية التي ابتدعوها أخيراً، وإنما جبريتُهم من نوع آخر، يمكن أن نطلق عليه: الجبربة الإجتماعية!. 

تلك الجبرية التي تسلب الإنسان دوره في صناعة التاريخ، الجبرية التي سماها مالك (بن نبي) رحمه الله: ذهنية الاستحالة: أي الذي يحكم على الاشياء باستحالة حدوثها، مما يقود الانسان إلى الشلل، الجبرية التي تسلب الأفراد قلق الحاجة إلى التغيير، وتدفعهم إلى انتظار ـ وبسرور ـ تحقق الوعود النبوية التي بَشرت بقيام الخلافة، وانتشار نور الإسام في أرجاء الارض. 

وأخيراً، إنها الجبرية التي تصور التاريخ على أنه أقدار حتمية لا يدَ للانسان فيها. 

وللحقيقة، فإن هذه البدعة أو المخالفة، الخطيرة، داهية جديدة، لم نكن نعرفها عن "السلفيين". فلقد كنا نعتقد أن "السلفيين" ينطلقون في عملهم من منهج آمنوا به، وارتضوه لأنفسهم، اًما أن ينتقلوا إلى مرحلة التسويغ، تسويغ تقصيرهم بأن مشيئة الله لم يحن وقتها، فهذه طامة لم نكن نتوقعها. 

لقد فوجئت وأنا أقرأ كتاب الاستاذ محمد شقرة "هي السلفية" بهذه المعلومات الخطيرة، والتي تطلب من الناس أن ينتظروا تحقق الوعد الالهي الوارد في قوله تعالى: "يريدون أًن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاَ أن يُتم نوره ولو كره الكافرون" (التوبة: 32). 

ولأنني لست معنياً في هذا البحث بمناقشة الأستاذ في كتابه، والرد على إيراداته، فإنني سأكتفي بنقل بعض كلماته. 

قال الأستاذ: "... ولا نعجل على أنفسنا بأمر قضى الله فيه فكان، ولن يكون إلا كما قضى"([4]). وقال: "...إلى أن يأذن الله سبحانه بإرادته أن يكون لهذه الأمة في آخر أمرها، خلافة على منهاج النبوة "([5]). وقال ـ ويا لهول ما قال ـ: "ولقد علمت الجِنة والإنس أجمعون أن لو شاء الله سبحانه أن يكون للمسلمين دولة في هذا القرن لكانت، ولكن أين سيقع خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: الذي أخبر فيه بأن دولة الخلافة هي آخر مراحل العمل السياسي لهذه الامة... اذا فليس يطلب من الأمة الآن الا أن تهيأ نفسها لموعود ربها سبحانه، بتحقيق دولة الخلافة"([6]). 

يتعامل الأستاذ مع الآيات والأحاديث التي تشير بأن المستقبل للإسلام، بفهم خاطيء لقدر الله تعالى. 

فقد سَرَد بعض الأحاديث المبشرات، في سياق التدليل على عدم العجلة على قضاء الله!، والفهم الصحيح لهذه الأحاديث وأمثالها، لا يعني أن يقبع المسلم منتظراً تحققها، بل إنها تدعوه ليحقق الأسباب المؤديه إلى مضامينها. إنَها تصف سنن الله، والمطلوب من المسلم أن يتعامل مع السنن لا أن يعاندها، وهذه الأحاديث تطلب من المسلم أن يتعرض لمضامينها، كأنها تقول له اصنع الأسباب التي تؤدي الى تلك الحتميات([7]). 

بقيت ملحوظتان: 

الأولى: قد يقال إن الأستاذ ليس حجة على "السلفيين". فأقول: نعم، لكننا لم نسمع أنهم خالفوه فيما ذكره. ومادام الأستاذ معروفا لدى الناس بأنه مرجع "للسلفيين" فإن كلامه يمثلهم، حتى يثبت العكس. 

الثانية: أن ما ذكرته عن الجبرية الاجتماعية في كلام الأستاذ، يُستخرج بالتأمل والقراءة المدققة، لأن الأستاذ يستخدم الاستدراكات الموهمة، ويُدخل القارئ في مغالطات ومتناقضات تعسر عليه قطف النتائج الواضحة. 

وهذا الأسلوب حمال وجوه، يلجأ إليه كثير من الكتاب، لِيَسلمُوا من الإحراج عند المراجعة، ولكنَهم ـ في الوقت نفسه ـ يكونون قد أوصلوا للقارئ المفهوم الذي يريدون، دون أن ينتبه القارئ لذلك. 

إن قراءة كلام الأستاذ تدفعك إلى استحضار كثير من الصور التي قرأنا عنها، فتتذكر أولئك الذين كانوا يحتجون بالشر على تسلط الأمراء الظلمة، فإن الأمير ـ كما يدعون ـ تمكًن بقدر الله، ولولا أنَ الله يريده أميراً لما مكن له، فاسمعوا وأطيعوا ـ إذا ـ أيها الناس. 

وتتذكر معاوية عندما سمع أبا بكر، رضي الله عنهما، يحدث بحديث الخلافة والملك، فقال: "رضيت بالملكّ"، وتتذكر بعض المتصوفة الذين عدّوا الاستعمار من قدر الله، فلم يقاوموه.وطلبوا من الشعب أن لا يقاومه، ثم قبعوا في زواياهم ينتظرون المهدي، وتتذكر المحتجين بالشر على ترك العمل، وإهمال الأسباب([8])... رحم الله محمد بن وضاح فقد أصاب عندما قال: "إنما هلكت بنو إسرائيل على أيدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على أيدي قرائها وفقهائها"([9]). 

(5) عند التفاعل مع الواقع، والتقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الشامل، وتجنب العمل السياسي الصحيح المرتبط لأصول أهل السنة، والدعوى إلى كل ذلك، وهذه بدع تركِية، وهي معلومةَ مشهودة ينطق بها حال "السلفيين"، وقد كنت سأكتفي بذكرها، لولا أن ما قرأته في كتاب الأستاذ محمد شقرة "هي السلفية" يُلزِمُني بالإشارة إلى بعض البدع والمخالفات الخطيرة التي وردت في كتابه، والتي نَعُد "السلفيين" ناطقين بها، حتى يثبت العكس. 

1- ينتقد الأستاذ السلوك السياسي المعاصر بنظرياته التي تشرد بعيداً عن الضوابط الشرعية (ص161)، ويلوم المسلمين الذين وقعوا في مصيدته فاقترفوا مخالفات شرعية. ونحن نتفق معه على هذا، ونلوم مثله، من لامهم. لكن أين البديل؟. 

وهل فساد العمل السياسي وخطأ المسلمين الذين سقطوا فيه، يعني أن لا نبحث عن العمل السياسي الصحيح المنضبط بضوابط الشريعة؟ وهل نبقى بعيدين عنه حتى (تكون للإسلام دولة)؟ (ص 173). 

وكيف ستقوم الدولة؟!! 

2- يعتقد الأستاذ أن تنقية العقيدة، وتربية الأمة([10])، ستنتهي بنا إلى الدولة (ص 174). 

هذا هو البديل الذي يطلب الأستاذ من الأمة الانكباب عليه، ولم يضع بديلاً مقابلاً للمنكر الذي رفضه([11])، مثل أن يبينَ العمل السياسي الصحيح، الذي هو التفاعل مع الواقع والاطلاع عليه، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل المجالات، والدعوة الجادة الموجهة من أجل تحقيق الإسلام في الحياة. أليس هذا عملاً سياسيا؟ ألم تكن هذه السياسة هي التي سبر عليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه؟ 

3 - ويخرج الأستاذ بنتيجة خطيرة نظراً للسلوك السياسي الفاسد، ومراعاةً للمسار الذي حدْدته الأخبار النبوية للأمة([12])، فيقول: "أحسبُ أن مقولة: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) كلمة حكيمةً تصلح لزماننا..."([13]). 

لو قلت: إن الأستاذ قال قولا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخرَ الجبال هداً، لما جاوزت الحقيقة. 

إن هذه الكلمة لن تكون كلمة حكيمة في زمن من الأزمان، فما علاقة فساد السلوك السياسي بصحة هذه الكلمة أو فسادها؟. ليكن السلوك السياسي على أي صورة لكنها ستبقى كلمة تنطق بالكفر وتمثله، وتُبشرُ بالعلمانيةِ وتدعو إليها. 

إنَ فساد السلوك السياسي لا يُصححُ باطلا، ولا يُبطِلُ حقا. 

إن هذه الكلمة بمفهومها المستقر والمتداول، المخالِفُ الأول لقوله تعالى: "إن الحكم إلا لله" (يوسف: 4). 

لماذا لم يقل الأستاذ: ليكن السلوك السياسي صحيحاً يعمل لنقض مقولة (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) التي يروج لها القياصرة؟ 

بل كنا نرضى منه أقل من ذلك، كنا نرضى منه أن يقول: لن نخالط السلوك السياسي مادام على ما هو عليه أما أن ينطق بهذه الكلمة المكَفرَة، ويُزكِيَها، فطامَة لم تكن على البال، وعلى الأستاذ أن يتذكر بأننا متعبدون بألفاظنا، فعليه - والحالة هذه — أن يستغفر الله ويتوب إليه، ويصوب الخطأ الذي وقع فيه لا يتبعه على ذلك من يتأثر به. 

قال الرافعي الملهم وهو يتحدث عن الفكرة([14]) وثبوت وصفها على مر الأزْمان "فما توصف من بَعدُ إلا كما وُصفت من قَبل مادام موقعها في النفس لم يتغير، ولا نظنه سيأتي يوم يُذكر فيه إبليس فيقال: رضي الله عنه"([15]) أما نحن، فهكذا كنا نظن لكنه جاء اليوم الذي يُقال فيه عن كلمة الكفر: إنها كلمة حكيمة. 

(6) تلقيب أهل الحق بألقاب غريبة، تنفيراً للنْاس عن اتباعهم، مثل قولهم "جماعات الغلو" يذكرنا بالطوائف المارقة عن الإسلام، فهي التي لاشك مكنت للتفكير السادي المنحرف الخبيث([16])، وهم بهذا يشابهون الجاهلية ـ القديمة والمعاصرة ـ بوصف المسلمين بمثل هذه الألقاب. 

فقد كان أهل الجاهلية يُلقِّبون من خرج عن دينهم بالصابئ، كما كانوا يُسَمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.... تنفيراً للناس عن اتباع غير سبيلهم، وهكذا تجد كثيراً من هذه الأمة يطلِقون على من خالفهم في بِدَعِهم وأهوائهم أسماء مكروهة للناس"([17]). 

(7) رمى المؤمنين بطلب العُلؤ في الأرض. "غير ناظرين أو طامعين في تحقيق أحلام تراود اْخيلة الجهلاء والمفسدين من السيطرة على سُدَةِ الحكم اًو الإطاحة بالحكام"([18]). وفي هذه مشابهة للجاهلية([19]) قال تعالى: "قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين" (يونس). 

تناقض مذهبهم لما تركوا الحق([20]) فهم يدعون إلى التوحيد، ويرفعون لواءه،، ثم يخالفون شموله "فهم في أمرٍ مريج". وهذا يؤدي إلى لبس الحق بالباطل وكتمانه فراراً من التناقض، قال تعالى: "يا أهل الكتاب لِمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون" (آل عمران). وأخيراً... فهذا ما يسر الله به، أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا العمل، ويوحَد بين صفوف المسلمين، ويجمعهم على السنّة. 

سبحان ربكَ رَب العزِةِ عمَا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. 

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) رأيت من الفائدة أن أذكر الفقرة كلها. وأنبه بشدة إلى أن كلمة "المنافقون" حيث وردت، فلا يقصد لها الذين أتكلم عنهم، فمحل الشاهد من الفقرة افتداء الناس لبدع أهل العلم الذين وقعوا في البدع تأسيساً أو اقتداء بالمنافقين من غير المسلمين، وسيأتي بيان بعضها. 

([2]) الفتاوى / 28 / 233. 

([3]) القواعد النورانية/ 43. 

([4]) هي السلفية.. / المقامة الخامسة/ 176. 

([5]) السابق / المقامة الخامسة/ 175. 

([6]) السابق / نفس المقامة/ 185. 

([7]) من أراد التفصيل في هنا الموضوع فليعد إلى كتاب "الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلا للأستاذ جودت سعيد" وليراجع كتبه الأخرى. وليطالع فصل "منهج البشر" من هذا الدين. لسيد قطب رحمه الله رحمة واسعة. ثم اقرأ هذه الجملة لـمالك بن نبي رحمه الله وقارن بما قرأت: "إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سَكَن المجتمع والتاريخ". (تأملات ص 125). 

([8]) ومقتض كلام الأستاذ محمد شقرا، ترك العمل حتى يحين أمر الله الذي بشر به سبحانه في القرآن، وأخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الجبرية بلحمها وشحمها! ومن أراد التثبت مما أقول فليراجع الكتاب المشار إليه، وليقرأ المقامة الخامسة من ص 161 - 189. وأكتفي هنا بنقل كلام نفيس للدكتور عمر الأشقر يرد فيه على المحتجين بالقدر: "فالله قدر النتائج وأسبابها، ولم يقدر المسببات من غير أسباب، فمن زعم أن الله قدر النتائج والمسببات من غير مقدماتها فقد أعظم على الاله الفرية".... إن الأخذ بالأسباب هو من أمر الإله تبارك وتعالى وليس مناقضاً للقدر ولا منافيا له. وقد فقه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بمعنى القدر، وأنه لا يوجب ترك العمل، بل يوجب الجد والاجتهاد فيه لبلوغ ما يطمح الإنسان في نيله وتحقيقه.... وقال بعض الصحابة الذين فقهوا عن الرسول مراده لما سمع أحاديث القدر: (ما كنت بأشد اجتهادا مني الآن) القضاء والقدر/ 82 - 86. وأقول: ثم ما أدرى الأستاذ أنه إذا اجتهد المسلمون في هذه الأزمان فسيتحقق مضمون الأحاديث؟. 

([9]) البدع والنهي عنها/ 59. 

([10]) ليس هناك تنقية ولا تربية!. 

([11]) قال ابن تيمية رحمه الله: "بل الدين: هو الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا يُنهى عن منكر ولا يؤمَر بمعروف يغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله، ويُنهى عن عبادة ما سواه" (اقتضاء الصراط المستقيم ص 297). 

([12]) إنها القدرية أو الجبرية التي أشرنا إليها سابقا. 

([13]) هي السلفية ص 172. 

([14]) ومقولة " دع ما لقيصر لقيصر...." إلخ، فكرة. 

([15]) تحت راية القرآن ص 5. 

([16]) لا دفاعن السلفية... ص13. 

([17]) مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، ص 65 

([18]) لا دفاعاً... ص 14. 

([19]) انظر مسائل الجاهلية... ص 69. 

([20]) المرجع السابق، ص 71. 

أدعياء السلفية - فقه التغيير والسياسة وافتقارهم الى وفقه الواقع !


(1) كيف سيستأنف "السلفيون، الحياة الإسلامية؟ أو قل "كيف" هذه، هناك سؤال ينبغي أن يسبقها وهو: هل يفكر "السلفيون" في هذا الموضوع؟ وما هو حجم الحيز الذي تشغله هذه القضية من اهتماماتهم؟ 

كانت بداية "السلفية" المعاصرة بداية علمية، تدعو إلى مجموعة من الأصول المعلومة، وجهدهم الذي تعلق بالواقع انصب على محاربة المذهبية، والشرك المتعلق بالقبور والرقى والتمائم، والبدع العملية المنتشرة في الأمة، ولم يكن لهم جهد فيما يتعلق بالواقع العام للأمة، ولم يطرقوا من توحيد الألاهية ما يتعلق بالحاكمية والتشريع، بل إنَ رموز "السلفية" يفتخرون بعدم وجود علاقة لهم بالسياسة، ففي نظرهم أن "السلفية": كلمة تلفظ بمعناها الصادر منها، أي معنى يدل على حركةٍ سياسية … ومن يفهم ذلك، فإنه مخالف ولنهج السلف غير سالك([1]). 

إن المتتبع لرسائل "الدعوة السلفية"، يجد أمراً جديراً بالملاحظة، وهو أن استئناف الحياة الإسلامية لم يكن من ضمن أهدافهم التي اعتادوا على ذكرها على الغلاف الأخير لرسائل "الدعوة السلفية"، ثم منذ سنوات درجوا على ذكرها استجابة ـ كما يبدو ـ لضغط التيار الإسلامي الذي يدعو إلى استئناف الحياة الإسلامية، فأضافوها مجاملة ورفعاً للعتب([2]). 

(2) والحقيقة أن الأمر لو وقف عند هذا الحد، لقلنا: لهم اجتهادهم، ولهم اهتماماتهم وأهدافهم التي يسعون إلى تحقيقها في الأمة، وهذا غاية جهدهم، ومنتهى اجتهادهم، فجزاهم الله خيراً. لكن القوم لم يلزموا غرزهم، ولم يقنعوا باجتهادهم وجهدهم، ولم يرضوا بان يكون للخلق اجتهاد وجهد، فصاروا في الآونةِ الأخيرة ينشطون في المجالات ا لتالية: 

1 - تشويه منهج السلف والانحراف به عن الجادة، من خلال وصفه ببعده عن السياسة وافتخاره بذلك. 

2- نبذ المتمسكين بمنهج السلف، الملتزمين بأصول أهل السنة، بألقاب ليست مطابقة للواقع، فهذا إخواني، وذاك تحريري، وثالث سروري، ورابع: خارجي، وخامس: من جماعات الغلو، وسادس: يُذكًر بالطوائف المارقة من الإسلام... الخ من قاموس ألقاب الجرح والتصنيف "السلفي". ولماذا كل هذه الألقاب؟ لأن المتهَمَ في نظر "السلفي طبعا" يعيش ضمن الخارطة وداخل التاريخ، فيرى وجوب الاهتمام بالواقع والسياسة، وينتهج منهجاً في التغيير أداه إليه اجتهاده، وهو إن فعل ذلك أخرجه "السلفيون" من "السلفية" وكأنها حِكر عليهم، وكأنهم قيِّمون عليها، وهم لا يدرون بأنهم ـ بفعلهم هذا ـ مبتدعون، مخالفون لمنهج السلف وخط أهل السنة، وأنهم ـ عرفوا أم لم يعرفوا ـ أدوات في أيدي الجاهلية تضرب بهم الدعاة العاملين. 

وإذ كان ذلك كذلك من الخطورة وتشويه الحقائق والانحراف عن "السلفية" "وبالسلفية" عن مضمونها الحقيقي وهو رفض الشرك في أجلى صوره، أعني تحكيمَ غير الله في الحياة، كان لا بُد من مناقشة هذه المسألة الخطيرة، وذكر القوم بما فيهم، تنبيهاً لهم، وتعليماً لغيرهم أن: ليست هذه في "السلفية" في موقفها من الواقع، ومن شرك الحاكمية، ومن العاملين للإسلام، ومن السياسة. 

ومن يدعي ما يدعيه القوم خارج عن منهج السلف، مبتدع بدعة عظيمة، فوجب ـ والحالة هذه ـ بيان بدعته، لما فيها من تلبيس على الخلق، وإضلال لهم، باسم السلف. قيل للإمام أحمد رحمه الله: " الرجل يصوم ويصلي ويعتكف، أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع، فقال: إذا قام وصلى واعتكف، فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل"([3]). 

(3) "السلفيون" والسياسة: 

سبقت الإشارة إلى افتخار "السلفيين" بانعدام العلاقة بينهم وبين السياسة، وذلك في قول الأستاذ محمد شقرة عن "السلفية" بأنَها: "كلمة تنفي بمعناها المتبادر منها، أي معنى يدل على حركة سياسية"([4]). 

ولما كانت الجملة موهمة، تحتمل وجهين، فإنني سأتعرض لهما: 

الوجه الأول: إن كان الأستاذ يقصد أن "السلفية" ليست حركة سياسية، بمعنى أنها ليست حزبا سياسيا بالمعنى الاصطلاحي لكلمة حزب "فالسلفية" كذلك. 

الوجه الثاني: أن يكون قصد الأستاذ أن "السلفية" لا تهتم ولا تشتغل بالسياسة، فهذه دعوى مرفوضة، "وتهمة" منكرة يُراد للمنهج السلفي تلبسها. 

فما الذي يفهمه "السلفيون" من كلمة سياسة، ولماذا يتوترون عند سماعها، السياسة هي: إدارة الواقع، والتعامل معه، والسياسة: هي الحركة من أجل تجسيد الأفكار في واقع الحياة. 

فهل يفهم "السلفيون" السياسة على غير هذا الوجه، وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا سياسة، فإن كانوا موافقين على هذه المعاني، لكن الكلمة تثيرهم، فلا مشكلة حينئذ؟ ونحن نتنازل عن الكلمة، وعياً منَا لأهمية المضمون والاتفاق عليه، حيث تفقد المصطلحات - عندها- أهميتها فلا مشاحة فيها. 

(4) "السلفيون" وفقه الواقع: 

كنا نعتقد أنَ قضية إدراك الواقع، قضية منتهية، قد حَسَمَها الحسّ الإسلامي منذ نزل القرآن، إذ يدرك العقل المسلم أن فقه الواقع أحدُ شرطي الانتهاء إلى حكم شرعي، فبما أن الأحكام الشرعية تتعلق بالحياة كلها، وبما أن المسلم مخاطب بعمارة الأرض، وبما أن المسلم ملتزم باستبانة سبيل المجرمين، لكل ذلك فإن فقه الواقع قضية محسومة. هكذا كنا نعتقد.. ثم إنَه ألف أحد الأشياخ رسالة في فقه الواقع، يذكر فيها أهميته، وضرورته، وهي رسالة صغيرة متواضعة، كل ما فيها معروف لدى أهل العلم والحكمة، لكنها بالنسبة للبيئة التي نشرت فيها جديدة، فهي لذلك إنجاز مهم وجهد مشكور. 

وعندما قوبلت هذه الرسالة باهتمام، ووجهت الشباب "السلفي" إلى الالتفات إلى قضايا ومشاكل كانت غائبة عنهم، رأينا رد فعل عجيب من "السلفيين"، حيث صدرت لهم في التعليق على تلك الرسالة رسائل تُهوًن من شأن فقه الواقع. 

وصرت تسمع كلمات غريبة مثل: "إنَ فقهَ فقهِ الواقع، أن تدع فقه الواقع، ليستحكم عندك فقه الواقع، فتكون من أعلم الناس، وأفقههم بفقه الواقع"([5]). وهذا منطق عجيب صورة ومعنى، ولا داعي للرد عليه لبيان ضعفه، فمخالفته لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهج سلف الأمة واضحة. 

(5) لا أعرف لماذا عقدَوا هذه المسألة الواضحة؟! ولمصلحة من؟ 

ألأن قطاعاً كبيرا من الشباب "السلفي" بدأ ينتبه إلى واقعه ولزوم تغييره، بعد أن وجد أنه قضى ردحا من عمره مهتما بواقع الأئمة، أحمد، وابن تيمية، وابن عبد الوهاب رحمهم الله، يوالي اتباعهم، ويعادي خصومهم، ويحيا مشاكلهم؟. 

أم لأنهم رأوا أن اهتمامات الشباب "السلفي" كبرت، وآفاقهم اتسعت، فلم تعد محصورة في مسائل معينة، بل صارت تتجه إلى شرك الحاكمية، واستئناف الحياة الإسلامية، على الحقيقة، ونقد الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يخص جاهلية قائمة، وخصوما ملموسين؟. أمن أجل هذا بدأت ألسنة البعض تجلدهم، وأقلامهم تطعنهم؟!. 

وأسأل مرة أخرى: لحساب من؟ لحساب من يراد من "السلفية" أن تقبع في القبور... لحساب من يراد من.. السلفية أن تتحول إلى دار نشر؟ توظف مجموعة من الكتبة الذين يحترفون تحقيق رسائل، جهلها لا يضر وعلمها لا ينفع، رسائل لا يخرج تداولها عند التدقيق عن كونه تجارة ورق. لحساب من يراد "للسلفية" أن تبقى محصورة في تصفية الأحاديث؟ وإلى متى؟. لحساب من توضع الأيدي على آيات توحيد الالاهية، ويهمل شرك الحاكمية، ويسكت عن الطاغوت؟! ويُوالى ويحب ويمدح؟. 

أسئلة مشروعة تحتاج لإجابات واضحة، وتقتضي من الأخوة "السلفيين" لحظة تأمل، لعلنا وإياهم نحيي منهجا للسلف اندرس، ونسير في طريق لأهل السنة انطمس. 

(6) مشكلة "السلفيين" وغيرهم، أنهم يلحقون واقعنا بواقع السلف، فيتعاملون مع حكام هذا الزمان، كما تعامل السلف مع حكامهم، ويسقطون النصوص النبوية التي تتحدث عن الحكام الظالمين، على واقعنا نحن حيث الكفر البواح. 

(7) ونعود الآن إلى السؤالين الذين افتتحنا بهما هذا المبحث، وهما: 

هل يفكر "السلفيون" في موضوع التغيير تفكيراً جديا؟. وإذا كانوا كذلك فكيف سيستأنفون الحياة الإسلامية؟. أما أنهم يفكرون، فلا أعتقد، واعتقادي ليس نابعا من هوى، فكل ما سبق دليل على هذا الاعتقاد. ثم ما ظنك بقوم يرون أن السياسة "تياسه"، وأن الفقه ترك فقه الواقع، هل تظن أن لديهم نية للتغيير أو جديَة وسعيا؟. 

ولكنني ـ وقبل الانتقال إلى السؤال الثاني ـ أذكر (للأمانة) أن لدى "السلفيين" نية للتغيير! أهدافهم منه تتمثل فيما يلي: 

- تغيير منهج السلف! 

- تغيير مذاهب الناس، وإلزامهم بمذاهب جديدة! 

- تغيير بدع العبادات 

- تغيير شرك القبور! 

والعجيب أن "السلفي" يرى في هذه الأهداف غاية طموحه، وهو عندما يلتزم ـ مثلا ـ بزي معين يشعر بأنه قد استوفى المطلوب، وحقق شرط الصلاح، وهو بهذا الشعور يستنفدُ طاقته التي كان ينبغي أن تُوجه إلى قضايا أخرى، ويتجمد عند القمة ـ في نظره ـ راضياً بما حققه. 

إنها حلاوة الشعور بالغربة، التي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم عليها بالدرجات العُلى، هكذا يظنَ ويأمل. 

إن الغربة الحقيقية، حمل منهج السلف حيث الناس هاجرة له، وعدم الاقتصار على بعض هيئاتهم وتصرفاتهم. 

إن منهج السلف هو أسلوبهم في التفكير والفهم، وطريقتهم في التفاعل مع قضايا عصرهم، وسبيلهم في حمل الإسلام والحركة به. 

(1) ونعود إلى السؤال الثاني، وهو: 

كيف سيستأنف السلفيون "الحياة ا لإسلامية"([6]). 

في الحقيقة، لا يوجد منهج واضح، يبينون فيه حتى على طريقتهم، كيف سيستأنفون الحياة الإسلامية. 

والمتوفر بين أيدينا أساسان يذكرهما "السلفيون" كثيراً، هما: 

1- التصفية والتنقية لحقيقهة الإسلام … العودة بالأمة إلى العقيدة الحقة الصافية([7]). 

2- التربية والإعداد والالتزام بأحكام الإسلام المستمدة من هذه العقيدة([8])... 

وكما ترى، فإن هذين الأساسين لا يكفيان في توضيح الكيفية، فإلى متى ستستمر التصفية والتنقية، علماً بأن التصفية غدت مهنة يؤكل من ورائها، ولم تعد هدفاً دعوياً يُتحرك به بين الناس. 


ثم إنَنا لا نشعر من الواقع أن هناك تربية وإعدادا مقصودين، وإنَما نرى افراداً تُؤلف بينهم مجموعة من المسائل. وبعد أن يذكر الأستاذ محمد شقرة هذين الأساسين يقول: "وهي بهذا المفهوم تستبعد من حسابها التطلع النهم الى أنظمة الحكم ورؤوس الحكام، وتضع في حسبانها، - أساساً- إصلاح الأمة إصلاحا ينتهي بها لنفسها إلى أن يكون الإسلام هو المهيمن على الإنسان والحياة، ليعودَ الحكم بالإسلام تاجاً يزين هامات بلاد المسلمين وديارهم"([9]). 

منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى *** وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً. 

والا فقل لي: بالله عليك كيف سينتهي الحال بالأمة من خلال إصلاحها على الطريقة "السلفية" إلى أن يكون الإسلام هو المهيمن على الإنسان والحياة، ليعود الحكم... الخ هذه الأماني، كيف ستنتهي الأمَة إلى ذلك إذا أخذت بعين الاعتبار أن لا وجود لفعل الإصلاح للمصلحين، وإذا نظرت في حال العالم اليوم والقوى المتحكمة فيه، وفعلها النشط في حرب الإسلام والالتفاف عليه؟. 

ولقد صدق من قال: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم 

(11) وأخيراً، فان السلفيين مطالبون بمراجعة أنفسهم في موضوع التغيير، والاشتغال بالواقع؟ والمراجعة إنما تكون بأن يعودوا إلى دراسة فقه السلف في هذه المسألة كي يصلوا ـ إن شاء الله ـ إلى الحق. وإلا فليبقوا على ما هم عليه دون تحميل السلف وأهل السنة وزر مذهبهم، وليسموا الأشياء بأسمائها، وليكُفُوا ألسنتهم عن عباد الله العاملين. 

وإذا أراد "السلفيون" استئناف الحياة الإسلامية ـ حقيقة لا دعوى ـ فإنهم مطالبون بتحديد موقفهم مما يلي: 

- بأي شيء يبدؤون! أو ما هو فقههم للأولويات؟ 

- ما وهو وصفهم للواقع؟ أو ما هي أحكام الديار عندهم. 

- ما هو فهمهم لتوحيد الالاهية؟ وما هو موقفهم من المنحرف فيه؟ 

وليكونوا حريصين عند الإجابة، على بيان موقف السلف الحقيقي منها؟ نسأل الله لنا ولهم الهداية. 

([1]) السابق، ص 14. 


--------------------------------------------------------------------------------


([1]) من كلام الأستاذ محمد شقرة في رسالته لا دفاعاً عن السلفية لا. بل دفاعاً عنها.!. 

([2]) كفى بهذا دليلاً على أن هذا الموضوع لم يكن لهم على ذكر. 

([3]) الفتاوى/ جزء الجهاد/ 231. 

([4]) (لا دفاعاً). 

([5]) هي السلفية نسبة عقيدة ومنهجاً/ 148. 

([6]) السؤال للمجاراة فقط، فقد تبين لنا أن لا كيفية. 

([7]) العقيدة الحقة الصافية تساوي في حسن "السلفي" الأسماء والصفات. وشرك القبور... 

([8]) انظر: لا دفاعاً.... ص 14. 

علم التوحيد

ومن العلوم التي لم يتفتح لها عقلي، ولم يطمئن بها قلبي: ما يسمى (علم التوحيد) وهو ما ”
لم نكن ندرس من علوم الدين في المعهد غير الفقه والتوحيد، والفقه يدرس بعيدا عن الاستدلال بالقرآن والسنة، وعن مقاصد الشريعة، وعن واقع الحياة. كما يدرس التوحيد على طريقة الأشعرية المتأخرين، وفيه نفس فلسفي وجدلي، لا ينشئ عقيدة ولا ينميها ولا يثبتها
” كان يسمى (علم الكلام)، وهو العلم الذي يتولى تقديم العقيدة وشرحها والتدليل عليها، والدفاع عنها. 
وكان علم التوحيد يقدم لنا طوال سنوات القسم الابتدائي في صورة (مذكرات) يكتبها الأساتذة، وهي مذكرات مختصرة، ولكنها معقدة، تعتمد على (علم الكلام الأشعري) ومقدماته العقلية المتأثرة بفلسفة اليونان، وقصور نظرتها إلى الوجود والوحي والآخرة، وغموض عباراتها في تقديم هذه الأمور. 
بخلاف طريقة القرآن التي تقوم على مقدمات فطرية، تقتنع بها العقول، وتطمئن بها القلوب، كما تقدم في أسلوب يجمع بين إقناع العقل، وتحريك العاطفة معا. 
وكنا نذكر آيات القرآن في علم التوحيد على أنها مجرد (أدلة نقلية) ولا ننظر إلى ما تحمله من دلالات عقلية، مثل الدلالة على وجود الله تعالى، في مثل قوله تعالى: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ" (الطور:35-36)
ومثل الدلالة على وحدانية الله، كما قي قوله: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ" (الأنبياء: 22)، "مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ" (المؤمنون: 91) 
ومثل الدلالة على البعث والجزاء بعد الموت، وضرورة الثواب والعقاب لإثبات عدل الله تعالى وحكمته، كما قال تعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" (ص: 27-82) 
لم نكن ندرس من علوم الدين في المعهد غير الفقه والتوحيد، والفقه يدرس على الطريقة المذهبية بعيدا عن الاستدلال بالقرآن والسنة، وعن مقاصد الشريعة، وعن واقع الحياة. كما يدرس التوحيد على طريقة الأشعرية المتأخرين، وفيه نفس فلسفي وجدلي، لا ينشئ عقيدة ولا ينميها ولا يثبتها. ولم نكن ندرس في هذه المرحلة حديثا ولا تفسيرا، ولو بصورة ميسرة تناسب الطالب في هذه المرحلة من طلب العلم.

* "اأدعياء السلفية " والجرح والتعديل


"اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"

كان يحيى بن معين يقول في عروة بن عبيد إنه دهري([1])...

(1) ليس الجرحُ والتعديل المذكور في رأس الصفحة هو الجرح والتعديل الخاص بعلم مصطلح الحديث، فذلك علم توقف على رأس المائة الثالثة، كما قال الذهبي رحمه الله. لكنه الجرح والتعديل من حيث هو قياس المسلم على مجموعة القيم والثوابت الإسلامية. هذه القيم والثوابت هي التي ينبغي أن يقوم المسلم على ضوءها، وأن يُوالى أو يُعادَى عليها، وهي من الوضوح والاتفاق عليها بحيث يُسمَى المخل بواحدة منها كافراً أو فاسقا أو عاصيا([2]) أما غيرها من المسائل التي تحتمل الاجتهاد، ويسوغ فيها الخلاف، أو المباحات، أو المسائل التي تقتنع بها مجموعة من الناس، فهذه ليست ميزاناً للقاء والمفارقة، فاللقاء على المنهج وليس على مثل هذه المسائل.

(2) هذه القضية واضحة، أو هكذا يجب أن تكون، لكن المشاهد من حال الجماعات الإسلامية غير ذلك، فكل جماعة تبنت مجموعة من المسائل في الفقه أو في طريقة التغيير... الخ، وجعلتها علامةً على الوعي أو على صدق الانتماء أو على صحة وصفاء العقيدة... الخ، وغيرها من مصطلحات التعديل.

(3) "والسلفيون" من هذه الجماعات التي تبنت مجموعة من الاختيارات، مَن وافقهم عليها فقد نجا، ومن خالفهم فليس سلفيا!

ولقد أصبح قولهم: ليس سلفيا، عبارة من عبارات التجريح التي يرفعونها في وجه من يجرؤ على مخالفتهم، ولأن كلمة "السلفية" كلمة عزيزة على قلوب المسلمين، فقد باتوا يَخْشَوْن أن تُسلب منهم، فصاروا لذلك يشعرون بضعف أمام "السلفيين".

(4) والمختلط.. بـ"السلفيين" يلاحظ ـ من واقع الحال ـ أنهم ينظرون اٍلى "المتبَنْطِل" نظرةَ انتقاص، وينظرون إلى "المسبل" نظرةَ استعلاء، ويتكلمون عن أفراد يوم السبت بالصوم من غير الفريضة كأنهم يتكلمون في التوحيد…الخ ثم إنهم يقيّمون المسلمين بهذه المسائل، هذا مع أنها مسائل فقهية يسوغ فيها الاجتهاد، ويُقبل فيها الخلاف، ولها تخريجات أخرى غير الذي يراه الشيخ ناصر الألباني ـ رحمه الله ـ.

أين هذا السلوك من قول يحيى بن سعيد: "ما برح أولو الفتوى يُفْتُون، فيحل هذا، ويُحرًمَ هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله، ولا المحلُّ أن المحـرمَ هلك لتحريمه".

(5) ضعف أحدهم رجلا، فقيل له: لم ضعفته؟ فرد الناقدُ "الشاطر": ذكِرَ مرة عند حماد فامتخط([3]). فأي سذاجة هذه؟!

ولا تظن ـ أخي القارئ ـ أن الأمَة قد خسرِت هذه الشطارة، فلا زال أمثال هذا الناقد البصير موجودين، يجرحون بما ليس بمجرِّج، فتجدهم يتهمون من يعمل في السياسة! وتراهم يتندرون على من يدرس فقه الواقع([4]) ثم إنَهم ابتكروا مرتبة جديدة من مراتب الجرح والتعديل، واستخدموا لها عبارة دقيقة جداً!. بلغ من دقتها أنك لا تستطيع فهمها إلا وأنت واقف على رأسك!. فلقد سئل الشيخ مرة عن أحد الدعاة الملتزمين بمنهج أهل السنة([5])، ولكنَه يهتم بفقه الواقع ويتابع السياسة([6])، فأجاب الشيخ قائلاًً: هو سلفي العقيدة، إخواني المنهج! فلتقًف النقاد الصغار هذه العبارة ووصفوا بها من كان على شاكلة ذلك الأخ المسؤول عنه!

فإذا سئل أحدهم عن العبد الفقير مثلاً، قال: هو سلفي العقيدة، تحريري المنهج! وأنا أجزم بأنه لو سئل عن معنى هذه العبارة لما وجد جواباً، كيف لا وهو كابنة الجبلِ، مهما يقل يقل.

ومن العبارات التي يقمعون بها إخوانهم قولهم: هذا سُروري! والعجيب أنَ "السلفيين" ما إن يسمعوا هذا الوصف حتى يعادوا الموصوف! ولك أن تتساءل متعجبا: لماذا؟ هل قناعة "السلفي" بأنه لا بد من الحياة ضمن الخارطة، وداخل التاريخ، يجعله: سلفي العقيدة، (إخواني أو تحريري أو سروري) المنهج؟!! وهل فقه الحياة خارج عن منهج السلف؟!.

لقد صدق من قال: عش رجباً ترى عجبا! وما زالت الأعاجيب تترى، كلما انقضى عجبٌ تبعه عجب! وكأن الشاعر قَصَدَ القوم عندما قال:

جعلتم ذنبنا أنا سمعنا وما الآذان إلاّ للسماع.

(6) والأدهى والأمر من كل ما مر، تعديلُ وتفضيل الموافق حتى لو عمل ما عمل!

فالسلفيون يجعلون إثبات الأسماء والصفات عقد الولاء والبراء، فمن أثبت فليفعل ما يشاء، حتى لو انحرف في توحيد الإلاهية، وفي الولاء والبراء، ووقع فـي محظوراتٍ شرعيةٍ بينة، وهذا عكس للقضية، فإن أهل السنة يُفضًلون الأتقى لله، ويعدلون بتوحيد الالاهية الذي من انحرف فيه فقد وقع في الشرك خلافا لمسألة الأسماء والصفات.

قال يعقوب الفسوي: "سمعت إنسانا يقول لأحمد بن يونس: عبد الله العمري ضعيف؟. قال: إنَما يضعفه رافضي مبغض لآبائه، ولو رأيت لحيتَه وخضابَه وهيئتَهُ لعرفت أنه ثقة". أرأيت؟ لقد وثقه لطول لحيته، وشكل لباسه، ولون خضابه! فما أدقهُ من توثيق! وبما أن الرجل محقق لهذه المهمات فهو ثقة، والذي يمسه بكلمة مبغض لآبائه! ويخيل إلي أنَ لسان حال "االسلفيين" يقول: "لا يضر مع إثبات الأسماء والصفات ذنب، كما لا تنفعُ مع فقه الواقع طاعة"([7]).

إن هذه الحالة، حالة نفسية، فالملتزم مع جهة معينة يظن من كثرة ما يسمع من اهتمامات جهته أن ما يسمعه هو الدين، فتراه ـ لذلك ـ ينظر إلى الآخرين نظرة استعلاء، ثم ينظر إلى نفسه وإلى من يحمل آراءه بأنَهم حققوا قمة الالتزام، فلا تثريب عليهم بعدها إن صدر عنهم أي شئ. ومجموعة التبرير جاهزة لتفنيدِ أي([8]) تهمة، فالسرقة اقتباس، وطمس توحيد الإلاهية تكتيك، حتى من كثرة التسويغات وكأنهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"([9]).

* "السلفيون" والفـقــه : "سلفية" أم - ناصرية؟!

ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به "سفيان الثوري

(1) يتعامل "السلفيون" مع مسائل الفقه كما يتعامل المسلمون مع قوله تعالى: (أفي الله شك) (إبراهيم:10)، فالرأي الذي يَرونَه هو الرأي، والقاعدة عندهم معكوسة منكوسة، فرأيهم صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيرهم خطأ لا يحتمل الصواب!.

وهذا المنحى مخالف لمنهج السلف في الاجتهاد([10])، فما زال العلماء يختلفون فلا يُنكر بعضهم على بعض، ومازالوا يُنبهون على أن الخلاف في مسائل الفقه، لا يقتضي موقفا من الآخرين، وهذه بعض عباراتهم:

قال سفيان رحمه الله: "إذا رأيتَ الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلِفَ فيه وأنت ترى غيره فلا تنههُ".

وقال أحمد رحمه الله: "لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناسَ على مذهب ولا يُشدد عليهم"

وقال ابن تيمية رحمه الله: "والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قولَ بعض الفقهاء، ووافق قول بعض آخرين، لم يكن لأحد اًن يُلزمه بقول المخالِف، ويقول: هذا خالف الشرع"

(2) وقد سبق وأشرتُ إلى بعض المسائل في المبحث السابق التي ألحقها "السلفيون" بدائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([11])، مثل مسألة اللباس، والإسبال، وصيام السبت،... وللحقيقة فإن البعض ما عاد يُثير هذه المسائل، لكن الجو العام عند "السلفيين" النظر لمن يخالفهم فـي هذه المسائل نظرة انتقاص، حتى إن بعضهم يتحرج من الصلاة خلف المتَبَنْطِل!.

ولعلهم ـ وهذا ظن مني ـ يَعدون الأخذ باختياراتهم في هذه المسائل من الأولويات، أولويات الدعوة، لأنهم يفهمون (وهذا ظن مني أيضا) أن الالتزام بهذه المسائل داخل في قول الإمام مالك رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"!.

(3) والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن الآفة السابقة مرتبطة ارتباطا عضوياً بالآفة التالية: وهي أن "السلفيين" يتعاملون مع فقه الشيخ ناصر الألباني ـ مثلاً ـ واختياراته، وكأنه فقه السلف، هكذا بالألف واللام الدالتين على العهد والاستغراق "ونتيجة لهذه الآفة تتشكل القضية في عقل "السلفي" على النحو التالي:

إذا كان هذا هو فقه السلف، فالفقه الآخر خارج عن فقه السلف، وهي معادلة تلقي في رُوع "السلفي" تلقائيا أن الفقه الآخر فقه مذموم. وهي نتيجة لها انعكاس على السلوك والمواقف.

(4) علم نفس الدليل!

والسؤال المهم في هذا السياق هو: لماذا يتصرف "السلفيون" هكذا؟! لأن هذه الآفة مبنية على مقدًمات عن الإتباع، والدليل، والسلف، والحديث الصحيح، والتزام السنة، وفتح باب الإجتهاد،....، وكما ترى فإنها مقدمات صحيحة، فلا اعتراض عليها، وإنما البحث في كيفية التعامل معها، وفي المآل الذي آلت إليه طريقة "السلفيين" في استخدامها. والذي يحدث أن المسلم إذا عرف عن عالم بأنه يأخذ بهذه المقدمات ويدعو إليها، ينشأ عنده نوع من التسليم لفتاوى هذا العالم من دون نقاش، وقد كنت ألحظ هذا المزلق من نفسي: فعندما كنت أسمع فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -مثلاً- أجد اطمئنانا وقبولاً لا أجده عندما أسمع فتوى للشافعي رحمه الله، أو لغيره من المجتهدين، وكأنهم يُفتون بلا أدلة! وهذا هو موقف "السلفي" من فتاوى الشيخ ناصر -رحمه الله - حيث يتقبلها باستسلام لوجود نفس المقدمات - المشار إليها - في ذهنه، وهو بعد ذلك يحاول فرض الفتوى على الآخرين من خلال التقديم بهذه المقدمات، فتفعل فعلها في نفوسهم. ولك أن تُسمًيَ هذه الحالة بعقدة الدليل، أو برعب الدليل([12]). هذا هو السبب ـ باختصارـ الذي يؤدي إلى التعامل مع فتوى الشيخ بما يلي:

1- بنظرة أحادية، أي أنها الحق الذي لا مِرية فيه، وغيرها خطأ لا صواب فيه!.

2- بأنها هي "الفتوى السلفية".

(5) لقد أدى هذا الوضع إلى قيام مذهب جديد، بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، أو لنقل بكل الأركان التي لا بد من توفرها لقيام مذهب، فهناك: إمام مجتهد، ومؤلفات، ومنهج أصولي، وفتاوى، ومقلدون متعصبون! فماذا بقي؟! أليس هذا مذهباً؟.

وحتى لا اُفهم بصورة خاطئة فإنني أًبين ما يلي:

لا اعتراض على أن الإمام مجتهد، ولا على أن الفتاوى مهمَّة ونافعة، ولا على أن المنهج الأصولي ـ في أغلبه ـ صحيح، ولا على أن الفتاوى المستمدة من هذا المنهج علميَة([13]) ـ في أغلبها ـ، إنما الاعتراض على المقلدين المتعصبين، وعلى المقلد الذي يرى ويسمع ولا تعليق!.

(6) وعليه فلك أن تعجب، إذا عرفت أن منهج أهل السنة العلمي الذي دعا إليه "السلفيون" منذ زمن - عدمُ وضع أي عالم مهما بلغت درجته العلمية في منزلة من لا يُسأل عما يُفتي، أو عمَا يُصحح ويُضعف من الأحاديث. وإليك بعض الأمثلة الدالة على ما قلت: المثال الأول: يعرف طلاب الحديث أن وصفَ عالم لكتابه بالصحيح لا يعني أنه كذلك، ويعرف طلاب الحديث - لذلك عدم كفاية الإحالة - عند التخريج - على كتاب وُسِم بالصحة، أو على حديث صحًحه أحد النقاد دون مراجعة. وهذه قاعدة أكد عليها "السلفيون" كثيراً، وقد سِرنا على ذلك مع أمثال أبي داود، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبَان... حتى إذا استقرت القاعدة أو كادت، إذا بالكتبة "السلفيين" يُخرجون الأحاديث في الحواشي بطريقة رفضوها في حق الترمذي وأقرانه، وقبلوها في حق الشيخ ناصر فما ينفع القارئ أن يقول له كاتب "سلفي" صحيح الجامع، أو صححه شيخنا؟! هذا مع أنَهم لا يقبلون من مخرج قوله: حسنه الترمذي.

فإن قيل: ثبت أن تحسين الترمذيَ لا َيطرِد قلنا: وثبت أيضا أن تصحيح الشيخ لا يطرد.

المثال الثاني: ما معنىْ أن يؤلف "السلفيون" كتباً عارية من الدليل؟ ولماذا علي أن أقبلها، في الوقت الذي يحرم علي فيه أن أعتمد على كتاب لعالمٍ ليس "سلفياً" خلى من الدليل؟ الجواب واضح إذا استحضرت عقدة الدليل: فالأول يقول لك: لقد اعتمدتُ الدليلَ الصحيح، ولقد تحريتُ اتباع السنة، ولم أتعصب، ولم أقَلد الرجال؟. الخ هذه العناوين التي ما أنْ يقرأها المسلم حتى يَقبل تبنًيات الكاتب "السلفي" باستسلام مُطلق.

وهذا تجده في بعض رسائل الشيخ ناصر، وكتب الشيخْ محمد شقرة، فلماذا هذا التراجع عن المنهج؟!

المثال الثالث: حذر العلماء سابقاً من نمطٍ من الطلاب الذين يعتمدون على الكتب وحَسْب، وسمَوا من هذه حاله بـ"الصُحفي". ومع تقدم وسائل الإتصال! نَبَتَ طلاب من نمط جديد يعتمدون على الهاتف، لا مانع من تسمية من هذه حاله "بالهاتفي"! فمن هذا "الهاتفي"؟ إنه الذي يتصل بالشيخ ناصر الألباني ليستفتيه، فيجيبه الشيخ باختصار يتناسب مع الوقت المخصص للمكالمات، فإذا حاول السائل التحقق والإضافة يضيق الشيخ به، ولا يسمح بالإطالة، وإلى هنا، لا حرج ولا تثريب.

لكن الحرج والتثريب في طيران ذلك.. "الهاتفي" بالفتوى لينشرها على الملأ، وهو لا يدري ـ لأنه "هاتفي" ـ من أين أخذها الشيخ، ولا كيف استنبطها، وهل إذا كانت صالحة لنازلته، تصلح لكل نازلة؟ وكيف يُحقق مناطها؟ وتجده إذا سئل أجاب، وإذا نوقِش ناقش، فإذا سألته من أين لك هذا؟ أجابك ـ وهو مسرور ـ: سألت الشيخ على الهاتف: ثم بعد ذلك يقول لك أنا مجتهد، أنا مُتبع! حبذا الصحف، وحبذا التقليد، في زمن الهواتف والتقييد.

(7) هناك ظاهرة أخرى مهمة، وهي صالحة لتُجعل سبباً من أسباب رفض كثير من الناس اتَباع منهج السلف، وهي صالحة ـ كذلك ـ لتُلحَقَ بكل المباحث، لأنها سبب في مخالفات "السلفيين" لأهل السنة، إنها ظاهرة الضعف في الأصول، والفهم الدقيق الذي يفصل بين الامور. وهي ظاهرة شكى وحذر منها العلماء قديماً أعني علماء الحديث من أهل السنة، وليس غيرهم: فلقد شكى الخطيب البغدادي من صِنف ينتسب إلى الحديث، ولا يتفقه فيصبح بسلوكه ومواقفه مثلبةً للمدرسة التي ينتمي إليها.

قال رحمه الله: "وإنما أسرعت ألسنةُ المخالفين إلى الطعن على المحدثين لجهلهم أصول الفقه وأدلته في ضمن السنن، مع عدم معرفتهم بمواضعها"([14]). وقال: "وليُعلم أنَ الإكثار من كتب الحديث وروايته لا يصير بها الرجل فقيها، إنما يتفقه باستنباط معانيه وإمعان التفكر فيه"([15]). وقال: "ولا بد للمتفقه من أستاذ يدرس عليه، ويرجع في تفسير ما أشكِل إليه، ويتعرف منه طرق الاجتهاد، وما يُفَرق به بين الصحة والفساد"([16]).

وقد لاحظ الذهبي رحمه الله! ما لاحظه الخطيب، فقال عن محدثي زمانه: "فغالبهم لا يفقهون"([17]). ونحن إذ اصطدمنا بما اصطدم به الخطيب والذهبي رحمهما الله، لا نزيد عن التحذير مما حذرا، ونُسجل رفضنا السلوكات وفقهيات صارت عنواناً على مدرسة الحديث ومنهج السلف، فإن أحفاد أولئك([18]) متوافرون يشوهون المدرسة، ويسيئون للمنهج.

(8) ظاهرة أخيرة، وهي تصدر الأصاغر للفتيا، وهجومهم على التصنيف! وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لن يزال الناس بخير ما اخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا اًتاهم عن أصاغرهم فقد هلكوا".

الملاحظ أن الإكثار من جمع كتب الحديث، وحفظ الأحاديث الضعيفة، أصبحا دليلا -شبه وحيد - من أدلة تحقق العلم والانتساب إليه، ولما كانت هذه ميسورة هذه الأيام أصبح الأصاغر مقصودين! وانتشرت.. "جرثومة" اسمها. "جرثومة" التحقيق والفهرسة، فما أن يدور "الفتى" حول نفسه دورة أو دورتين حتى تصبح غاية طموحه، ومنتهى أربه تحقيق كتيب، أو إعداد فهرس، وهو إن فعل ذلك أصبح من المشار إليهم بالعلم!.

لقد تحول الواجب الذي نادى "السلفيون" به وهو (العلم قبل العمل)، إلى نوع من الاحتراف، وأصبح التصنيف ممسوخاً في شكل تحقيقات لكتيبات في مواضيع ممجوجة أنهكِت بحثا، مع أن المكتبة الإسلامية تفتقر لأبحاث جادة تجبر النقص، وتغذًي احتياجات الحياة المعاصرة؟. ولكن لأنها مواضيع يلزمها علماء حقيقيون، يتمّ الهروب إلى الفهرسة واجترار الرسائل التي وَصَفتُ، فهذه يستطيعها الفنيون([19]).

(9) وأخيراً، فقد كان المأمول أن يبقى "السلفيون" متمسكين بالشعارات التي رفعوها عن التعصب المذهبي والغلو في الأئمة، وجمع شمل الأمَّة، والتواضع العلمي، والتضلع بالعلم،... ولكنهم ـ وللأسف ـ تنكًبوا كل ما رفعوه، فخالفوا منهج السلف.

والناظر في أحوالهم يلمس غلواً في مشايخهم، وتعصبا لأقوالهم التي غدت مذهباً يوالون ويعادون عليه، واستعلاءً علميا، بحيث لا عالم عندهم إلا الذي يقرأ بعض الكتب، ويتشدق بمصطلحات خاصة.

إن الأصل الأصيل من أصول أهل السنة جمعُ شمل الأمة، وعدم تمزيقها إلى مذاهب وفرق، ولقد كان الظن "بالسلفيين" تحقيق هذا الأصل، ولكنهم تحولوا إلى مذهب جديد، فرسخوا التشرذم، وعمقوا ـ بممارساتهم المذهبية ـ الفُرقة، فانطبق عليهم ما قاله الشاعر:

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فمالنا من سعد

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) ميزان الاعتدال 3/ 273، وعلق الذهبي فقال: "لعن الله الدهرية فإنهم كفار، وما كان عمرو هكذا".

([2]) لا يكفر إلا من أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو اعتقد عكسه، وكذلك الحال في التفسيق فلا يفسق إلا بما ثبت أنه فسق... انظر الفصَل لابن حزم 3/ 5291 وإلاٍ حكام له 1/ 42 1، والمحرر في الفقه لابن تيميه الجد 2/ 9 5َ 2، ونزهة النظر لابن حجر ص 5.

([3]) قال الخطيب: "امتخاط حماد عند ذكره لا يوجب رد خبره" (الكفاية ص 185).

([4]) وهل في هذا مثلبة؟.

([5]) تعديل.

([6]) جرح..

([7]) تستطيع أن تضع مكان (فقه الواقع) أي عبارة يرفضها "السلفيون".

([8]) مجموعة التبرير هذه موجودة في كل الأحزاب والجماعات، وينطبق على الكل ما ينطبق على "السلفيين".

([9]) جزء من حديث علي رضي الله عنه في قصة حاطب، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال.... " الحديث. البخاري مع الفتح: كتاب المغازى / باب فضل من شهد بدراً / حديث 3983.

([10]) من المعلوم أن اللقاء يكون على المنهج، والمنهج في الفقه هو: اتباع السنة. وتحري الصحيح، وعدم التعصب للمذاهب...

([11]) ذكر غير واحد من العلماء المحققين أن الخلاف الفقهي في مسألة ما يخرجها من دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأشير بأن للقاعدة استثناء لا علاقة له بمحل البحث.

([12]) لا يفوتنك أن لكل جماعة عقدة، فعقدة الاخوان: الكثرة والأولية، وعقدة التحريريين: الوعي السياسي والعمق الفكري، وعقدة التبليغيين: التجرد عن الدنيا، والخروج في سبيل الله، والزهد.... فما المعدوم طبعاً!.

([13]) لا تلازم بين وصف الفتوى بالعِلمِية، وبين الموافقة والمخالفة، فهذا بحث آخر.

([14]) نصيحة أهل الحديث ص 40.

([15]) السابق ص 37.

([16]) السابق، ص 42.

([17]) زغل العلم ص 37. وقد سئل بعضهم: متى يكون الأدب ضاراً؟ فقال: إذا نقصت القريحة، وكثرت الرواية.

([18]) أصحاب الخطيب والذهبي رحمهما الله.

([19]) الفني هو الذي يستطيع التعامل مع معطيات موجودة أمامه فينظمها، ويصلحها. ويختصرها.... لكنه لا يمتلك القدرة على الابتكار أو الربط أو الابداع، فهو دائماً يدور في فلك المبدعين لذلك تجده يبلع ولا يهضم، فيجتره فيلفظ.... ثم يقبض. (يتبع)
********************************************

*أدعياء السلفية " دراويش الجدد " والتوحيد ... !؟


"ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" (النحل: 36) "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" (الأنبياء:25). 

(1) العقيدة أولاً، نعم.. لأن بداية الأنبياء عليهم السلام كانت بها، وبداية محمد صلى الله عليه وسلم كانت بها، ولأن منطق البناء يقتضي أن يكون البدء بالأساس، والعقيدة هي الأساس. ومن المعلوم أن شعار عقيدة الإسلام وأسسها، ومنطلقَها هو التوحيد متمثلا بلا إله إلا الله. فبهذه الكلمة تُصلحُ انحرافاتُ العباد وضلالاتهم، وبها تُؤسس المفهمات السليمة المستقيمة. وهذا ما حصل، فلقد واجه وعالج النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة انحرافاتِ عصره عن العقيدة الحقَة. وذلك لأن لهذه الكلمةِ مراتب، كُل مرتبة تواجه وتعالج انحرافا معينا، أي أنَها تنقضه وتعرضُ بديله، ولقد شرحت آياتُ القرآن الكريم، وأحاديث النبيً صلى الله عليه وسلم مراتبَ هذه ا لكلمة، وهي: 

1 - إثبات وجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته. 

2 - أن هذا الإله سبحانه هو وحده الخالق المتصرف في شؤون البشر. 

3- أن هذا الإله سبحانه هو وحده المستحق للعبادة، والاتباع، والطاعة والخضوع... 

(2) ولقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد بمراتبه كلها، لانه صلى الله عليه وسلم يؤسًس لعقيدة جديدة، ولأن الانحرافات في عصره كانت متعددة الأوجه. لكننا نعلم من آي القران الحكيم، ومن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن التركيز الأكبر كان على المرتبة الأخيرة، وهي استحقاقه وحده سبحانه! للعبادة والخضوع والطاعة والاتباع، وذلك لأنَ الانحراف الأكبر والمهم كان في هذه المرتبة، ولأن المراتب قبلها داخلة فيها، والإيمان بها يستلزمها جميعا. 

(3) ولقد فهم كفار قريش لا إله إلا الله كما ينبغي لها أن تُفهم، فهموا أنَ الله موجود، وهذا أمر كانت تؤمن به أغلبيتُهم، وفهموا أنَ الله خالق متصرف رازق.... الخ، وهذا أمر كانت تؤمن به أغلبيتهم أيضا، وفهموا أن الخضوع والإتباع والطاعة يجب أن تختصً بالله وحده، ولكنه فهم لم يناسبهم فرفضوه، وقاوموا الدعوة لأجله.! وهكذا كان أقوام الأنبياء السابقين، فلقد رفض السابقون ـ ولا زال الناس فيه كذلك ـ اختصاصَ اللهِ بالحكم والتشريع، فقضية الأنبياء مع أقوامهم كانت في توحيد الإلهية، وبعبارة أخرى ـ إن شئت ـ: كان الصراعُ قائما حول النسبةِ المسموح بإعطائها لله سبحانه ليتدخل في الأرض، فأعداء التوحيد يصرون على بقاء الرب في السماء، والأنبياء يصرون على أنه سبحانه: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (الزخرف:84). 

إذن كان الانحراف الرئيس عند مشركي ذاك الزمان في توحيد الإلهية، وهو التوحيد الذي وُسِمُوا بالشرك لعدم تحقيقهم له، فهو لب العقيدة الإسلامية وهدفُها ا لأساس. 

(4) فكيف كان منهجُ السلف في عرض العقيدة؟ 

كان منهجُهم يتمثل عرض لا إله إلا الله بشموليتها وبمراتبها، ولكل مقتضياتها، مع تركيزهم على ما ركز الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه، أعني توحيدَ الإلاهية، لإدراكهم أنه مفتاحُ الدخول في الإسلام، في حين قد يظنُ كثير من الناس أن توحيد الربوبية هو المفتاح مع العلم أن توحيد الربوبية أمره بين، فالذي يُنكر تفرُد الله سبحانه بفعل من أفعاله يكفر عند صبيان المسلمين، أما توحيدُ الإهيةِ فقد ينحرف فيه الإنسانُ وهو يظن أنَه يُحسِن صنعا. هكذا كان منهجهم في الظرف الطبيعي دعوة وتعليما. 

فكيف كان منهجهم عند سماعهم بانحراف ما؟ ذلك يعتمد على إدراكهم لواقع ذلك الانحراف، فإذا أدركوه عالجوه بلا إله إلا الله، ومراتبها ومقتضياتها المتعلقة بذلك الانحراف، بل كنت تجدهم إذا خشوا انتشار بدعةٍ عقدية في المجتمع يجعلونها شغلهم الشاغل، وهمهم الوحيد، ومقياسهم في الانتساب إلى أهل السنة، موالين ومعادين على أساسها([1]). وهذا يفسر لك ـ عزيزي القارئ ـ تركيزَ الأئمة على مسائل بعينها في مراحل التاريخ المختلفة، والامتحان بها. 

فلا تتعجب إذا وجدت كتابا في العقيدة لا يتكلم إلا في مسائل الصفات، أو القدر والإرجاء، أو كتابا لا يتحدث إلاَ في مسائل الكلام ومتعلقاته، فهنا الكتب لا تمثل كل العقيدة، وإنما تمثل القضايا المثارة في تلك الأزمان. وبعد هذا ندرك لماذا ركز السلفُ في مرحلة معينة على مسائل الصفات، وجعلوها المعيار، حتى ليعتقد الدارسُ أنًها مفتاحُ الإسلام، ومقياسُ الولاء والبراء([2]). 

(5) لقد كان من فقه السلف أنهم تجاوبوا مع حاجات واقعهم، وتفاعلوا معه، وكانوا بالفعل أبناء عصرهم. وأنت عندما تسمع الشافعي رحمه الله يقول: "القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها، أهلَ الحديث الذين رأيتهم، وأخذتُ عنهم، مثل سفيان ومالك وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، وأنَه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء([3]). 

أقول: عندما تسمع هنا الكلام فلا تعتقد أن الشافعي يقصد عرض العقيدة؟ الإسلامية بأركانها وشروطها عرضا أكاديميا تفصيليا، ولا تعتقد أنَ الذي ذكره هو جميع السنة([4]). كلا... فالذي يريده الشافعي رحمه الله بيان مسألة شَغَلت الرأي العام في عصره فيقضي فيها ناقلاً موقف السلف منها. 

وعندما تقرأ كلاما لابن تيميه رحمه الله يقول فيه: "وقد يراد به أهلَ الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من أثبت الصفات لله تعالى". ويقول: "إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يُرى في الآخرة* ويُثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة"([5])، تدرك أن ابن تيميه رحمه الله يتكلم عن مسائل أثيرت في عصرٍ من العصور، حتى لقد اصبح مصطلح أهل السنة والحديث لا يُطلق إلا على من يُثبت الأصول المذكورة، وبالطبع ليست هذه المسائل هي وحدها التي يُعرف بها أهلُ الحديث والسنة، وإنما الكلام عن مرحلة معينة، وموضوع محدد. 

إن كل مصطلح تسمى به أهلُ السنة، إنَما كان في مواجهة انحراف معين، فهم أهل السنة في مقابلة أهل البدع والمقالات المحدثة، كالشيعة والخوارج، وهم أهل الحديث في مقابلة التوسع في الأخذ بالرأي، وهم أهل الإثبات في مقابلة أهل التأويل... وإنه ونتيجة لظروف تاريخية خاصة صار يتبادر إلى الذهن عند سماع لفظ السلف مسائل الأسماء والصفات، من كلام، ورؤية... الخ، أي أنَ هذه المسائل غَدَت فاصلاً بين السلف والخلف. وبهذا اختلط التاريخي المؤقت المرتبط بظرف خاص، بالشرعي العام المطرد الشامل. 

(6) فما الذي فعله السلفيون في هذا العصر؟ 

الذي فعلوه أنهم استحضروا مسألة الصفات وجعلوها عديل التوحيد، عليها يوالون، وعليها يعادون. واستحضروا مع هذه المسألة خصوم الإمام أحمد رحمه الله وأخذوا يناقشونهم ويعنفونهم. واستحضروا مسالة شرك القبور والتمائم والرقي... وجعلوها شُغلهم الشاغل. 

واستدراكا، وقبل أي اعتراض، فليس الاعتراض على ضرورة تعليم الناس الحق، ولا على ضرورة توضيح هذه المسائل المهمة، ولكن الاعتراض أن تجعل هذه المسائل موضوعا للنهضة، وأولوية من أولوياتِ العمل الإسلامي في هذا العصر، مع وجود الانحراف الأكبر، والشرك الأعظم، وهو الانحراف عن شرع الله سبحانه، والشركُ في طاعته، وعدم الخضوع لحكمه، الذي ينبغي أن يكون موضوع التغيير، وأول المطلوب، لا أن يوضع على الرف، أو يُذكر على استحياء رفعا للعتب.

(7) إن الانتساب لهذا الدين لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت، وإن رأس الطواغيت من يحكم بغير ما أنزل الله.. وما نراه من "السلفيين" غير هذا، وهم إن ذكروا هذه المسألة، فإنما يذكرونها بين يدي ضرورة نبذِ التعصب للمذاهب، أو في معرض الكلام النظري لتحقيق المسألة. أي أنهم لا يتعاملون معها على أنها هدف من أهدافهم. 

إنَهم لا يتعاملون معها على أساس أنها اعظم شرك في هذا العصر، وأنها بدعة القرن، فأين العقيدة أولاً؟ وأين لا إله إلا الله؟ وأين الدعوة إلى التوحيد؟، والتحذير من الشرك([7])؟ مع انك عرفت - الحق عزيزي القارئ - أن توحيد الإلاهية هو أصل عقيدة الإسلام، وأن الدعوة إليه هو الواجب الأول والأهم، وبه تُعالج انحرافاتُ الخلق. 

وكما عارض به ابنُ تيمية وابن عبد الوهاب شرك القبور، علينا أن نرفض به شرك القصور. لكن "السلفيين" قزموا التوحيد، وحصروه في مسائل معيًنة، فَشَوهوا حقيقة الدعوة إلى منهج السلف، بحيث أصبحت الدعوةُ إلى "السلفية" دعوة إلى شعبة من شعب الإيمان! ومن يقرأ كلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب رحمهما الله، ثم ينظر في أحوال من ينتسب إليهما لا ينتهي عَجَبُه، وتكفيني قراءة النص التالي لابن عبد الوهاب رحمه الله، ليُقارَن بين فقه هذا الإمام وقضيتهِ، وبين "سلفية" هذا العصر! 

قال رحمه الله: 

"فالله الله يا إخواني، تمسكوا بأصل دينكم وأولِه وآخره ورأسه، ورأسه شهادة أن لا إله إلا الله، واعرفوا معناها، وأحبوها وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت وعادوهم، وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يُكَفرهُم أو قال ما علي منهم، أو قال ما كَلفني اللهُ بهم، فقد كَذَب على الله وافترى، فقد كَلفه اللهُ بهم، وافترض عليه الكفرَ بهم، والبراءةَ منهم، ولو كانوا إخوانَهم وأولادَهم"([8]). 

(8) لا أريد ـ في الحقيقة ـ أن أشرح قضية الطاغوت، والحكم بما أنزل الله، فلهاتين المسألتين بحثهما في كتاب آخر، ولكنني أقول وحَسْبِي: إن بدعة هذا العصر الكبرى هي الحكمُ بغير ما أنزل الله. وإن الشرك الأكبرَ في هذا العصر هو شرك الحاكمية. وإن "السلفية" الحقيقية هي التي تحارب البدعةَ القائمة، والشركَ الواقع، وإلا فإن شتم ابنَ عربي، ونقدَ المعتزلة، واتهامَ القبوريين، سهلٌ جداً لأنه نقاش مع الأموات، وصراعَ مع طواحين الهواء! 

نقمت على المبرد ألفَ بيت *** كذاك الحي يَغلبُ ألفَ مَيتِ 

ثم لا بد من تحديد الموقف وبوضوح، هل "االسلفيةُ" مدرسةً متخصصةَ بمسائل معينة، فليس لنا ـ عندئذ ـ أن نلومها؟ أم هي حركة إسلامية شمولية، هدفها تغيير واقع المسلمين. واستئناف الحياة الإسلامية، كما يقولون؟ فلتحدد أولوياتها، ولتبين بماذا ستبدأ، وبأي شيء سَتَمتعن ( ستمتحن )، وعلى أي شيء ستوالي وتعادي. أما أن يبقى مقياس العقيدة الصحيحة و"السلفية" النقية، مسألة الأسماء والصفات، مع عدم الالتفات إلى الأمور الأخرى، فأمر مرفوض، وليست هذه هي "السلفية" حتما. 

(9) أمَا "السلفيون" الحقيقيون، بل: أمَا أهل السنة أما المسلمون، فإنهم يخاطبون الأمة بلا إله إلا الله كما أمر ربهم، ووصى نبيهم صلى الله عليه وسلم، لا إله إلا الله بأركانها وشروطها ومقتضياتها. وهم يركًزون على توحيد الإلوهية التي جعلهُ اللهُ سبحانه وتعالى الدليلَ على إسلام المرء، وإن مقياسَهم في الولاءِ والبراءِ هو موقفُ الناس من الحاكم بغير ما أنزل الله، ومن الراضي عن الطاغوت.

إنَ مقياسَ العقيدة النقية و"السلفيةِ" الصحيحة، توحيدُ الألوهية، وتوحيدُ الإلوهية هو توحيد الطاعةِ والاتباع والخضوع.... بهذا التوحيدِ نَمْتَحن وبه نوالي وبه نعادي. وإن الحكم بشريعة رب الأنام، هو الذي ينبغي أن يكون شعاراً لأهل السنة، وفارقا لهم عن أهلِ البدع الذين يُهونون من شأنِ هذه القضية الخطيرة! هذا هو منهجُ السلف، وهذا هو فقههم، وغير ذلك.... فغاية القُصورِ في التوحيد أن يقبع التوحيد في القُبور. 

-------------------------------------------------------------------------------- 

([1]) من الفقه أن يكبر العالم الانحراف البارز في عصره ويضخمه، ويشتغل به ليلاً ونهاراً ليكون حديث الناس. 

([2]) منعا للتصيدِ، وتوضيحا أقول: لا أقصد التهوين من شأن هذا المسألة. بل أدعو إلى التفريق بين وجوب تعليمها والدعوة إلى القول الحق فيها، وبين جعلها موضوع امتحان، ومعيار ولاء وبراء في كل الأوقات في الوقت الذي تكون فيه، وقد يرد به القضايا مقصراً فيها، إن الكلام في ترتيب الأولويات فقط. 

([3]) مختصر العلو ص 176. 

([4]) السنة في استخدام السلف تعني أصول العقيدة. 

([5]) منهاج السنة النبوية 2/ 1، كلامه رحمه الله عن لفظ (أهل السنة). 

([6]) الكلام في واقع الحال، وليس في الدعاوى. 

([7]) وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى اتهام من يعمل من أجل هذا القضية بأنه من الخوارج، وجماعات الغلو..، كما سترى قريباً.