الجمعة، 28 أغسطس 2020

هل التسمية بالسلفية ( بدعة ) ؟!

 إشكالية النسبة وبدعية اللقب:

جاء رجل إلى الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله أسألك عن مسالة أجعلك حجة بيني وبين الله عز وجل، قال مالك: "ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، سل. قال: مَن أهل السنة؟. قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به".
(1) لقد حارب "السلفيون" اللافتات والألقاب التي يرفعها العاملون للإسلام، خاصة تلك التي تقتضي تحزباً وتكتلاً، وذلك لآثارها السلبية والخطيرة والتي أهمَها شق صف الأمَة، والتميز عنها بحيث تصبح اللافتات مقاييس اللقاء والمفارقة، وميزان التقوى وصحة الإسلام، وهذا ـ طبعا ـ بعد التأكيد على بدعتها، فالله سبحانه لم ينزل بها سلطانا. هكذا سمعنا كبار "السلفيين" يرددون ليل نهار، حتى لقد كانت هذه القاعدة من أهم معالم المدرسة السلفية.
(2) وبعد، أن اقتنع كثير من المسلمين بهذه القاعدة، واصبحوا يمقتون الحزبية والتفرق، والتميز عن المسلمين، وشق صفهم بالألقاب واللافتات، بعد كل هذا، إذ بدعاة الأمس، ومحاربي تلك البدعة من أكثر الناس وقوعا فيها، ومن اًكثر الدعاة التزاما بمعايير تفصلهم عن المسلمين.
لقد أصبحت "السلفية" لافتة، إن لم يكن بلسان المقال، فبلسان الحال، وإن لم يكن تصريحا فواقع التصرفات يُصرًح بذلك، وأي شئ تنفع بعد ذلك الدعاوى التي تنص على أن "السلفية" ليست حزبا، وأن "السلفيين" ليسوا متكتلين، إذا كان السلوك سلوكا حزبياً. أليس التقيد بالمصطلحات في مثل هذه الحالات سذاجة وسطحية!
إنَ هذا الوضع يتطلب منا أن نُبين الموقف من هذه الظاهرة التي تشكل خطراً على الدعوة إلى منهج أهل السنة. وكلامنا في هذا المبحث على مستويين، الأول: بدعية اللقب. والثاني: أنه مع افتراض شرعيته، فإن نتائجه تلزمنا بعدم استخدامه.
(3) لسنا "السلفيين" ولكننا المسلمون:
هكذا كانت البداية، وهكذا يجب أن تظل، وإذا كان ابتداء هذا اللقب من الآخرين، فلا ينبغي أن نفقد مناعتنا وننساق وراءه فنسمي أنفسنا به.
إن الاسم الذي ارتضى لنا رب العزةِ الانتساب إليه هو الإسلام، قال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) الآية (الحج: 78) وهذا الاسم هو الذي أراده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع التحذير من غيره، فقال صلى الله عليه وسلم: "من دعا بدعوة الجاهلية، فهو من جُثا جهنم، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها: المسلمين عباد الله"[1].
ولقد سأل معاويةُ ابن عباس رضي الله عنهم فقال: أنت على ملة عثمان أو على ملة علي؟ فقال: لستُ على ملة علي، ولا ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(4) لسنا "السلفيين" ولكننا على منهج السلف:
كما علمتَ فإن الأصل الانتساب إلى الإسلام، والتمسك بالسنة. هذا هو الأصل، ومن كان على الأصل فلا يحتاج لإضافات أخرى. لكن عندما وقعت الفتنة، ورفعت البدعة ُ رأسها وانتَسبت، اضطر أهل السنة إلى الانصياع لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من التزام النهج الصحيح، فأعلنوا تمسكهم بمنهج السلف: أهل القرون الأولى (القرن هنا الجيل وليس مائة عام) في التلقي، فصاروا يعرفون بأهل السنة، وصاروا ينتسبون إلى منهج السلف، ولم يزيدوا على هذا. أما الذي يدعي بأن الانتساب إلى الإسلام، والتسمي بالسنة لا يكفي، لأن الكل ينتمي إلى الإسلام، والكل يقول: أنا على السنة. فنرد عليه:
أولا: نرفض "عند الحاجة" فنقول: نحن أهل السنة المقتفون لمنهج السلف. وثانيا نقول: أرأيت لو قال البعض ـ وقد قيل ـ: ونحن "سلفيون أيضا، وعلى منهج السلف، فهل عليك عندها أن تضيف قيدا آخر. فإن قال: الخضوع في مثل هذه الحالة للدليل، وليس للدعوى. فنقول: وهذا ما نريده، فالرجوع في تحديد موقف الناس من الكتاب والسنة إلى الدليل، وليس ادعاؤك "السلفية" بمُعفيكَ من طلب الدليل، ولا تجرد غيرك من الدعوى بمخصصه بالسؤال عن الدليل.
(5) سلفية: شرعة ومنهاجاً، لا في الفروع والفتاوى:
من أساليبنا نحن العرب في التعبير، التعميمُ والقطع بمناسبة وبدون مناسبة، وهو أسلوب نغطي به عجزنا عن التتبع والفصل بين الأشباه والنظائر، أي أنه أسلوب يُربحنا.
وهو أسلوب ينفعنا حيث نركَنُ إليه لقمع الآخر ولجمهم عن مناقشتنا أو التثبت مما نقول، فتجدنا نُكثر من مثل هذه الألفاظ: هذا هو الحقَ، أو كل ما عدا هذا باطل، أو أتحدى، أو أجمع علماء([2])الأمة... وبالطبع فإنَ الآخر عندما يسمع مثل هذه الألفاظ يصاب بالرعب.. ويلجأ إلى الصمت طلبا للسلامة من مخالفة "الحق" أو الوقوع في "الباطل" أو ثقب "الإجماع".
ومن هذه الألفاظ التي غدت سلاحا نُخرِس به الخصوم: ادعاؤنا بأننا "السلفيون"، وأن كلَ ما نقوله ونفعله: على منهج السلف، وهي عبارات يفهم منها "السلفية" قبل غيره أن أيً اختيار يَتعبد به فهو ـ وحده ـ موافق لمنهج السلف، وما عداه مخالف لمنهجهم.
وهذا فهم خاطئ، فالمسلم مُتبع لمنهج السلف في طرق الفهم، وأصول الأدلة وترتيبها، وليس في الفروع الفقهية.ولذلك فإنه لا يحق لأحد أن يدعيَ أن فتواه هي الفتوى السلفية، وأن ما عداها فَخَلفِيه وليس له أن يوالي أو يعادي على أساس هذه الفتوى، وليس له إقامة ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه الفتوى، وليس له أن يجعل فتواه من أصول فكرته، وأولويات دعوته، التي لن يَصلحَ حالُ المسلمين إلا بالتمسك بها، وليس له ـ أخيرا ـ أن يدعيَ بان هذا ما كان عليه السلف إلا أن يجيءَ بإجماع مُثبت، وهيهات.. هيهات، وأنى له أن يأتي بالإجماع على كل المسائل، عِلما بأنه لا إجماع إلا في عصر الصحابة وفي مسائل محدودة.
(6) بدعية اللقب:
إذن فنحن مسلمون، وإن طلِب منا عرض منهجنا، فإننا نعرضه بالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، مستعينين باجتهادات واختيارات السلف من الأجيال الثلاثة الأولى. والسلف غير "السلفية" والانتساب إليها. والمسلمون ليسوا "السلفيين".
قال ابن تيمية رحمه الله: "والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شُكيلي، ولا قرفندي، بل أنا مسلم مُتبع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".
وقال رحمه الله: "والله تعالى قد سمانا في القرآنِ المسلمين المؤمنين عبادَ الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان".
(7) أما المستوى الثاني:
فلنفترض شرعية التلقب بهذا اللقب، فإن حال من ينتسب إليه يقتضي تركه ونبذه لوقوعه في البدعة. والبدعة في هذا المستوى تظهر فيما يلي:
(أ) أنَ هذا الاسم أصبح لافتة تنضوي تحتها مجموعة معينة، تتخذ من بعض الاختيارات الفقهية ـ وليس المنهج ـ شعارا عليها.
(ب) امتحان المسلمين بهذه الاختيارات، وجعل اللقب معيارا للولاء والبراء، والحب والبغض.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "لا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها([3]) ولا يوالي بهذه الأسماء، ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم"([4]).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبعض. والموالاة والمعاداة واللعن بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك: مثل أسماء القبائل، والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة اٍلى الأئمة والمشايخ، ونحو ذلك مما يُراد به التعريف.... فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صِنف كان" ([5]).
(ج) أصبح هذا اللقب من عوامل تفريق الأمة، داعيا إلى التعصب له، ولاختيارات علمائه، بدلاً من أن يكون ـ كما أريد له ابتداء ـ سببا في تجميع الأمة، ودافعا إلى الإلتزام بالسنًة وطريقة السلف!
إن الله سبحانه هو الذي سمى المهاجرين "مهاجرين" وهو عزَ وجل الذي سمى الأنصارَ "أنصاراً"، يعني أنهما لقبان شرعيان، ومع ذلك فانهما عندما استخدما في معرض العصبية، والتحيز لفريق ضد فريق آخر، صار استخدامهما ممقوتا، فقد أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- أنه: "اقتتل غلامان غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجرين: يا للمهاجرين، ونادى الأنصار: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ أدعوى الجاهلية،... الحديث".
قال ابن تيميه رحمه الله: (فهاهنا الاسمان "المهاجرون" و"الأنصار" اسمان شرعيان، جاء بهما الكتاب والسنة، وسماهما الله بهما، كما سمانا المسلمين من قبل... وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي به التعريف فقط، كالانتساب إلى القبائل والأنصار ولا من المكروه أو المحرم، كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى. ثم مع هذا لما دعا كل واحد منهما طائفته منتصرا بها أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وسماها "دعوى الجاهلية").
أقول: هذا في الاسم الشرعي الحسن المحمود، فماذا تقول في الاسم الذي يفضي الانتساب إليه إلى بدعة أو معصية، كما هو الحال في الانتساب إلى "السلفية".
(8) تنبيه لا بد منه:
سنعمد في المبحث اللاحق إلى اطلاع "السلفيين" على ما يجري حولهم، وكان مناسبا أن نأتي بالملاحظة التالية في ذلك المبحث. لكن لا بأس من ذكرها هنا لعلاقتها بموضوع المبحث، فهي من جهة علاقة "السلفيين" بالحياة تناسب المبحث اللاحق، ومن جهة علاقتها بإشكالية النسبة، تناسب هذا المبحث، فلا مانع من ذكرها في المبحثين.
ليكن معلوما أن مصطلح "السلفية" يستخدم من قِبل جهتين، كل جهة تقصد من إطلاقه قوما معنيين.
إما الجهة الأولى: فهي العاملين للإسلام، فإنهم يطلقون "السلفية" ويريدون بها تحديداً: تلك المدرسة الإسلامية التي تتًبع منهجا معينا تدعو إليه المسلمين، يعني أن مقصود هذه الجهة هم "السلفيون" الذين نتكلم عنهم.
وأما الجهة الثانية: فهم الآخرون، ممن هم خارج الدائرة الإسلامية العاملة للإسلام. من علمانيين، ومثقفين! ومستشرقين، ويسار إسلامي! وغيرهم من القائمة القاتمة.
وهؤلاء يطلقون "السلفية" ويقيسون بها كلً الدعاةِ إلى الإسلام، لأنهم يتمسكون بالماضي ويسعون إلى إحيائه، فمدلولُ المصطلح عندهم غير مدلوله عندنا، وهم يستخدمونه، ويستخدمون معه ـ كمرادف ـ أكثر من لقب مثل: الأصولية، الماضوية، المتطرفين.... إن إدراك هذا الفرق ليس ترفا فكريا، بل إنه على درجة، كبيرة من الأهمية، ليعرف حجم أفكاره ومدى تأثيرها في الواقع، وموقف الجاهلية منها.
فإذا عرفت هذا، فلك أن تعجب من كلام الشيخ محمد شقرة في رسالته "لا دفاعا عن السلفية لا، بل دفاعا عنها" في معرض رده على من يتهم "السلفيين" بأنهم خطر يتهدد أنظمة الحكم ويستهدف رؤوس الحكام، حيث يقول الشيخ: (أما عن التهمة الثانية، فهي التهمة التي يدندن حولها أعداء الإسلام هذه الأيام! وفي مقدمتهم اليهود إذ تناقلت وكالات الأنباء - منذ فترة - قول واحد منهم وهو (بيريز): "إن السلفية ليست خطرا على إسرائيل وحدها بل على كل أنظمة الحكم"، وقد عرفت - عزيزي القارئ - على ضَوءِ التفريق السابق أن (بيريز) يقصد من كلامه المسلمين الداعين إلى إعادة تحكيم الشرع في الأرض.
لقد نبهت إلى هذا الخطأ، حتى لا يظن "السلفيون" بأنهم يُقلقُون (بيريز) أو أنَ أعداء الإسلام المراقبين لحركته، باتوا يخشون من حركة تصحيح الأحاديث!! ومن حركةِ الدعوةِ إلى زي معين!! ومن جهود "تجار الورق" بإحياء كتيًباتٍ من مثل "القذْاذة في تحقيق محل الاستعاذة"، أو من مئات الكتب التي تتكلم عن الجنة والنار! فمثل هذه الكتيبات لا شك أنها أقلقت الدوائر الاستعمارية والصهيونية! كيف لا وهي تهدد وجودها.
وكم ذا بعمان من المضحكات *** ولكـــنه ضـحك كالبكاء.
واُذكًر بقاعدة مهمة، ذات علاقة وشيجة بهذه النقطة، وهي أن رفض الجاهلية لأفكارنا يدل على مدى تأثير أفكارنا عليها.. هذا وإن "السلفية" التي يقصدها (بيربز) هي "السلفية" التي هاجمها الأستاذ محمد شقرة في رسالته المشار إليها آنفا، وسمى حملتها، جماعات الغلو، لأنها تذكَره "بالطوائف المارقة من الإسلام، التي لا زالت دماء فتنتها تفوح حتى يومنا هذا"، هكذا وصف الأستاذ أتباع منهج السلف المدافعين عن شرع الله بما أداهم إليه اجتهادهم.
([1]) رواه الإمام أحمد 4/130/205، والترمذي كتاب الأمثال باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة، وقال :حديث حسن صحيح غريب . والجثاء جمع جثوة بالضم وهو الشيء المجموع.
([2]) وعندما تبحث لا تجد جمهوراً فضلاً عن أن تجد إجماعا
([3]) أي النسبة إلى المذاهب.
([4]) الانتقاء صفحة (35).
([5]) الفتاوى: جزء 28/ ص 227-228.