الجمعة، 30 أغسطس 2019

منهج القرآن في مكافحة الإشاعة

دراسة للدكتور محمد عياش الكبيسي
منهج القرآن في مكافحة الإشاعة, أسباب الشائعات, الإشاعات الكاذبة, الإشاعة في الإسلام, القرآن والإشاعة, تصحيح الإشاعات, طرق مكافحة الشائعات,
انطلق الدكتور محمد عياش الكبيسي في معالجته لمنهج القرآن الكريم في مكافحة الإشاعة من طرف توضيح المقصود بالإشاعة، واختار أن الإشاعة هي نشر الأخبار بدون تثبت وغالبا ما يكون وراءها مقاصد خطيرة إذ تعد الإشاعة سلاحا مهما في الحرب النفسية. ثم بين أنواع الإشاعة التي وقعت في القرآن الكريم خلال الآيات والسور التي تناولت القصص النبوي وتعقيب القرآن على بعض المعارك والفتن، وقسمت الدراسة أنواع الإشاعة التي وردت في القرآن الكريم باعتبار الهدف والغاية منها في أربعة هي: الإشاعة المنفرة – الإشاعة المفرقة – الإشاعة المتبطة – والإشاعة الأخلاقية. كما بين الباحث المنهاج القرآني في معالجة هذه الأنواع ووصف هذا العلاج في طريقين، الأولى أسماها بالطرق الوقائية، والأخرى الطرق العلاجية المباشرة.

أنواع الإشاعات

وسبق البيان المجمل عن أنواع الإشاعات وذلك من حيث الغاية والهدف المراد تحقيقه من الإشاعة، وهنا يمكن بسط تفصيل هذه الأقسام فيما يأتي:

النوع الأول الإشاعة المنفرة: يستعمل هذا النوع من الإشاعة للتضليل وللنيل من أهل الحق، ولكن لا يصوب الهدف مباشرة إلا من الخارج، وذلك للحيلولة بين الصف والناس الآخرين، “وهذا النوع لا يتورع فيه الخصم من الكذب الصارخ طالما أن المقصود التضليل الخارجي، والذين في الخارج تخفى عليهم الحقيقة فيمكن أن تفعل فيهم الإشاعات فعلها”.

اعتمد هذا المنهج مشركو قريش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وصفوه بأنه كاذب أو أنه ساحر مجنون، يقول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)) [الأعراف]، ويقول الله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ(2)) [يونس]، (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)) [يونس].

يقول ابن إسحاق: “فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون”.

يقول الدكتور عياش: وبهذا نفهم كيف يتجرأ اليوم المستشرقون وبعض وسائل الإعلام المعادية للإسلام على تزييف الحقائق ونشر الأكاذيب في العالم كله، إذ إن الفئة المسلمة الواعية لحقيقة الأمر لن تملك تبيين هذه الحقيقة لكل الناس، إذ لا زالت تنقصهاا وسائل الإعلام والاتصال والترجمة، وستؤثر هذه الإشاعات الباطلة في وضع الحواجز بين القلة الواعية الجماهير الغافلة.

النوع الثاني الإشاعة المفرقة: ويوجه هذ النوع من الإشاعة إلى داخل الصف بغية تفكيكه وإثارة القلاقل داخله. وعرف المنافقون في المدينة بهذ الدور الخطير، وجاءت مئات الآيات في القرآن الكريم لتلاحق هذه الفئة في جهرها وسرها، وتبين جسيم خطرها.

يقول االله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)) [الأحزاب].

وهذا التحذير للمرجفين وهم الذين يروجون الأخبار الكاذبة داخل الصف المسلم يعطينا صورة للدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة الذين لا يتركون فرصة لإثارة الفتن والمشكلات بين المؤمنين إلا استغلوها، حتى قال الله تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)) [التوبة]. والقرآن يبين ان هذا الإرجاف وتلك الفتنة ما كان لهما أن يجدا طريقهما إلى أهدافهما لولا أن في داخل الصف من يسمع لهؤلاء! والقرآن هنا يحذر من مكايد المنافقين، ومن ضعف بعض المؤمنين الذين يسمعون لهذه الإشاعات على حد سواء.

النوع الثالث الإشاعة المثبطة: وهو نوع من الإشاعة يوجه إلى داخل الصف المسلم بغية تثبيطه وتوهين عزيمته، ويعرف هذا النوع في أيام الأزمات والحروب، وهو الذي يعد اليوم من أبرز أسلحة الحرب النفسية، ويعد من أخطر أنواع الإشاعات لدقة الظرف الذي تعمل فيه، وعدم إتاحة الفرصة الكافية لمعالجة الآثار السريعة المترتبة عليه. ومن نماذج ذلك:

يقول الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)) [آل عمران]، وهذه الآية نزلت عقب معركة احد وتخص الإشاعة التي أطلقها المشركون أثناء المعركة: أن محمدا قد قتل، وشاعت هذه الفرية فكان لها الدور الكبير في تثبيط بعض المجاهدين.

يقول المباركفوري: “وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها إرتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون، لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحا يصيح: إن محمدا قد قتل. فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية، أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته مستكينا، وفكر آخرون في الإتصال بعبد الله بن أبيّ- رأس المنافقين- ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان.” [الرحيق المختوم: 241].

ومثال آخر: يقول الله تعالى (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)) [آل عمران]. وهذه الآية من الآيات التي نزلت كذلك عقب غزوة أحد وهي تخص واقعة حمراء الأسد المعروفة.. حيث حدثت قريش في نفسها بالرجوع إلى المدينة والإغارة على الدولة الإسلامية الفتية، وبعث أبو سفيان برسالة إلى المسلمين مع ركب من عبد القيس يخبرهم بما تريده قريش، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سقيان، فكان رده صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل.

ويظهر من هذه الواقعة التي نقلها القرآن الكريم أن قصد أبي سفيان تثبيط المسلمين مرة أخرى وكسر معنوياتهم، إلا أن المسلمين قد وعوا درس أحد فتصدوا لهذه الإشاعة بما يكفي لدحضها[1].


منهج القرآن في الوقاية من الإشاعة

حرص القرآن على تحصين المسلمين من التأثر بإشاعات المغرضين من الاعداء، وعمل على بناء الشخصية القوية والمجتمع المتين الذي يعجز الاعداء خرقه، ومن معالم هذا التحصين والبناء ما يأتي:

أولا – زرع عقيدة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر في نفوس المؤمنين، حيث يتيقن المسلم بهذه المبادئ الإيمانية ان النصر من عند الله وحده، فلا يخشى إلا الله، ولا يستعين إلا به.

ثانيا – التأكيد على مولاة المؤمنين والبراءة من الكافرين والمنافقين، ففي الولاء للمؤمن يقول الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)). وفي الولاء الآثم الخاطئ يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)) [المائدة].

ثالثا – نظام العبادة في الإسلام، فلا تكاد توجد عبادة في الإسلام إلا وفيها تأكيد النقطة الأولى (العقيدة) والنقطة الثانية (الولاء والبراء).

خذ مثلا صلاة الجمعة والجماعة، فالمسلمون يذكرون الله من الأذان إلى الإقامة حتى التسليم أذكارا تجدد معاني الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر، وهذه العبادة يؤديها المسلمون صفوفا متراصة.

وخذ كذلك الزكاة التي هي عبادة لله تزكي النفس وتطهرها، وهي في الوقت نفسه تكافل اجتماعي متينن وعلاج المشكلة الاقتصادية، وتقوية الأواصر بين الطبقات الاقتصادية المختلفة في المجتمع الإسلامي.

وكذلك الحج والصوم والأعياد فكلها عبادات جماعية تهدف إلى تحقيق معاني الإيمان ومعاني الولاء للمؤمنين.

رابعا – نظام الأخلاق الإسلامي، فقد أقام الإسلام نظاما متكاملا لتحصين الفرد والأسرة والمجتمع وتوطيد البناء للأمة المسلمة حتى تكون كالبنيان المرصوص. من ذلك قوله تعالى: (ياأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات]. وغيرها من الآيات المشتملة على نظام الأخلاق الإسلامي، وهي نصوص تهدف إلى بناء الصف الإسلامي بناء أخلاقيا يقف بوجه التحديات.

خامسا – درء المفسدة وعدم إعطاء العدو المادة التي يمكن أن يحولها إلى دعاية لصالحهن وخير مثال على ذلك أن عبد الله ابن أبي سلول شيخ المنافقين قال غير مرة كلمة الكفر وآذى رسول الله في شخصه وأهل بيته، وكلما أشار المسلمون على رسول الله بقتله قال صلى الله عليه وسلم: “لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”.

منهج القرآن في مكافحة الإشاعة وعلاج آثارها

لقد أرسى الإسلام قاعدة جليلة وعظيمة لمكافحة الإشاعة بجميع أنواعها، وإبطال مفعولها بسرعة قبل أن تتمكن في المجتمع، وهذه القاعدة هي: التكذيب الفوري للإشاعة اعتمادا على سوء الظن بمصدرها وحسن الظن بالمؤمنين.

قد يظن البعض أن منهج الإسلام إزاء الإشاعات التي يطلقها العدو هو التثبت والتحقيق والمحاكمة القضائية، ولكن الذي يعرف طبيعة الحرب النفسية وأهدافها يعلم ان هذا المنهج غير سديد لأنه في الكثير من الأحيان تكون الإشاعة قد آتت ثمارها السيئة قبل أن يتمكن إلى الوصول إلى الحقيقة. مثال ذلك ما أشيع يوم أحد من مقتل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث إن تصديق بعض المسلمين أو مجرد التوقف قد أدى إلى كارثة حقيقية، ومثل هذه الإشاعة لا تكافح بالمنهج التحقيقي لأن المسألة مسألة وقت،، لان العدو لا يهمه بعد هذا أن يعرف الناس الحقيقة أو لا يعرفون، طالما أن الغرض من الإشاعة قد تحقق بالفعل.

والخلاصة أن رد هذه الإشاعات بناء على على سوء الظن بمصادرها أو على حسن الظن بالمؤمنين هو المنهج القرآني بل حتى لو كان الخبر بذاته حقيقة فلا نلام نحن على سوء الظن بقائله .

في ذكرى الهجرة النبوية.. فوائد ودروس وعِبر

في ذكرى الهجرة النبوية.. فوائد ودروس وعِبر

إن الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة (الهجرة الثانية بعد هجرة المسلمين للحبشة)، تمثل حدثًا تاريخيًا عظيمًا، إذ منه انطلقت الدولة الإسلامية وانتشر الإسلام بعد أن كان محصورًا بين شعاب مكة المكرمة. ولذلك سنتناول مقالًا عن موضوع الهجرة بشكل مقتضبٍ، محاولين التركيز على استخلاص فقه الهجرة النبوية، وتعلم فوائدها ودروسها والعبر منها. وقد سبقالهجرة إلى المدينة تمهيدٌ وإعدادٌ وتخطيط، وكان ذلك بتقدير الله تعالى، وتدبيره، وكان هذا الإعداد في اتِّجاهين: إعداد في شخصية المهاجرين، وإعداد في المكان المهاجَرِ إليه.

إعداد شخصية المهاجرين:
لم تكن الهجرة نزهةً؛ ولكنَّها مغادرةُ الأرض، والأهل، وأسباب الرِّزق، والتَّخلِّي عن كلِّ ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهدٍ كبيرٍ، حتَّى وصل المهاجرون إلى قناعةٍ كاملةٍ بهذه الهجرة، ومن تلك الوسائل: التَّربية الإيمانيَّة العميقة، والاضطهاد الَّذي أصاب المؤمنين، ـوتناول القرآن المكِّيِّ التَّنويه بالهجرة، ولفت النَّظر إلى أنَّ أرض الله واسعةٌ. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ *} [الزمر: 10].
الإعداد في يثرب:
نلاحظ: أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، لم يسارع بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى؛ وإنَّما أخَّر ذلك لأكثر من عامين؛ حتَّى تأكَّد أنَّ الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله، وذلك بطلبهم هجرة الرَّسول صلى الله عليه وسلم إليهم.

هجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصِّدِّيق رضي الله عنه:
بعد أن مُنيت قريش بالفشل في منع الصَّحابة رضي الله عنهم من الهجرة إلى المدينة فقد أدركت خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصاديَّة؛ لذلك اجتمعت قريش في دار النَّدوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدَّعوة، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ *} [الأنفال: 30] فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة.

التَّرتيب النَّبويُّ للهجرة:
أعلنت قريش في نوادي مكَّة: أنَّه من يأتِ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، حيَّاً، أو ميتاً، فله مائة ناقةٍ، وطمع سراقة بن مالك بن جُعْشُم في نيل الكسب
جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ساعة الظهيرة متقنعا على غير عادته، فقال لأبي بكرٍ رضي الله عنه: «أخْرِجْ من عندك»، فقال أبو بكر: إنَّما هم أهلك. قال: «فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخروج»، فقال أبو بكر: الصُّحبةَ بأبي أنت يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم».

خروج الرَّسول صلى الله عليه وسلم ووصوله إلى الغار:
لم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ حين خرج إلا عليُّ بن أبي طالبٍ، وأبو بكر الصِّدِّيق، وآل أبي بكرٍ. أمَّا عليٌّ رضي الله عنه، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلَّف؛ حتَّى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع؛ الَّتي كانت عنده للنَّاس.

عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم:
بالرَّغم من كلِّ الأسباب الَّتي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه لم يركن إليها مطلقاً؛ وإنَّما كان كاملَ الثِّقة في الله، دائم الدُّعاء، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيرًا} [الإسراء: 80].

خيمة أم معبد في طريق الهجرة:
وفي الطريق إلى المدينة، مرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمِّ مَعْبَد في قُدَيْد حيث مساكن خزاعة، وهي أخت خُنَيْس بن خالدٍ الخزاعيِّ؛ الَّذي روى قصَّتها حيث قال عنها ابن كثير: «وقصَّتها مشهورةٌ مرويَّةٌ من طرقٍ يشدُّ بعضها بعضاً». [حديث أم معبد: رواه الطبراني في الكبير (3605).

سراقة بن مالك يلاحق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أعلنت قريش في نوادي مكَّة: أنَّه من يأتِ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، حيَّاً، أو ميتاً، فله مائة ناقةٍ، وطمع سراقة بن مالك بن جُعْشُم في نيل الكسب، وفي الصحيح أن  فرس سراقة وقعت به أكثر من مرة، حتى أيقن أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه، إذ يقول في ذلك: "فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي؛ حتَّى جئتُهم، ووقع في نفسي حين لَقِيتُ ما لَقِيتُ من الحبس عنهم، أن سَيظهرُ أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إنَّ قومك قد جعلوا فيك الدِّية، وعرضت عليهم الزَّاد والمتاع، فلم يَرْزاني، ولم يسألاني، إلا أن قال: أخْفِ عنا، فسألته أن يكتب لي كتابَ أمنٍ، فأمرَ عامرَ بن فهيرة، فكتب في رقعةٍ من أدَمٍ، ثُمَّ مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. [البخاري (3906) ومسلم (2009/91)].

مَنْ تأمَّل حادثة الهجرة، ورأى دقَّة التَّخطيط فيها، ودقَّة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، يدرك أنَّ التَّخطيط المسدَّد بالوحي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان قائماً
  
فوائد، ودروسٌ، وعبر:
تعطينا الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة مجموعة من الفوائد والدروس والعِبر، ومنها:
1- الصِّراع بين الحقِّ والباطل صراعٌ قديمٌ، وممتدٌّ:
وهـو سنَّـةٌ إلهيَّـةٌ نافـذةٌ، قـال عـزَّ وجـلَّ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [الحج: 40]. ولكنَّ هذا الصِّراع معلومُ العاقبة: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [المجادلة: 21].

2- مكر خصوم الدَّعوة بالدَّاعية أمرٌ مستمرٌ متكرِّرٌ:
سواءٌ عن طريق الحبس، أو القتل، أو النَّفي، وعلى الدَّاعية أن يلجأ إلى ربِّه، وأن يثق به، ويتوكَّل عليه، ويعلم: أنَّ المكر السَّيئ لا يحيق إلا بأهله، كما قال عزَّ وجل:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ *} [الآنفال: 30].

3- دقَّة التَّخطيط والأخذ بالأسباب:
إنَّ مَنْ تأمَّل حادثة الهجرة، ورأى دقَّة التَّخطيط فيها، ودقَّة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، يدرك أنَّ التَّخطيط المسدَّد بالوحي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأنَّ التَّخطيط جزءٌ من السُّنَّة النَّبويَّة، وهو جزءٌ من التَّكليف الإلهيِّ في كل ما طولب به المسلم، وأنَّ الَّذين يميلون إلى العفوية؛ بحجة أنَّ التخطيط، وإحكام الأمور ليسا من السُّنَّة؛ أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين.
4- الأخذ بالأسباب أمرٌ ضروريٌّ:
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدَّ كلَّ الأسباب، واتَّخذ كلَّ الوسائل؛ ولكنَّه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه، ويستنصره أن يكلِّل سعيه بالنَّجاح، وهنا يُستجاب الدُّعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض، ويكلَّل العمل بالنَّجاح.

5- الإيمان بالمعجزات الحسِّـيَّة:
وقعت في الهجرة معجزاتٌ حسِّيَّةٌ، وهي دلائل ملموسةٌ على حفظ الله، ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ـ على ما روي ـ نسيج العنكبوت على فم الغار، وما جرى مع أمِّ معبد، وما جرى مع سراقة، فعلى الدُّعاة ألا يتنصَّلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتةً بالسُّنَّة النَّبويَّة، على أن ينبِّهوا الناس على أن هذه الخوارق، هي من جملة دلائل نبوَّته، ورسالته عليه السَّلام.

6- جواز الاستعانة بالكافر المأمون:
يجوز للدُّعاة أن يستعينوا بمن لا يُؤمنون بدعوتهم ما داموا يثقون بهم، ويأتمنونهم؛ فقد رأينا: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ استأجرا مشركاً ليدلهما على طريق الهجرة، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه عند غار ثور، وهذه أمورٌ خطيرةٌ أطلعاه عليها، ولاشكَّ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وثقا به، وأمَّناه.

7- دور المرأة المسلمة في الهجرة:
رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى، لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام، وتلاوة القرآن عليهم، فلمَّا جاؤوا في العام التالي، بايعهم على العبادات، والأخلاق، والفضائل
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماءٌ كثيرةٌ، كان لها فضلٌ كبيرٌ؛ منها: عائشة بنت أبي بكرٍ الصِّدِّيق؛ الَّتي حفظت لنا القصَّة، ووعتها، وبلَّغتها للأمَّة، وأمُّ سلمة المهاجرة الصَّبور، وأسماء ذات النِّطاقين، الَّتي أسهمت في تموين الرَّسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، بالماء، والغذاء.

8- الدَّاعية يَعفُّ عن أموال النَّاس:
لم يقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يركب الرَّاحلة، حتَّى أخذها بثمنها من أبي بكرٍ رضي الله عنه. لكما أنه مَّا عفا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سراقة؛ عرض عليه سراقة المساعدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لي فيها».

9- الجندية الرَّفيعة والبكاء من الفرح:
تظهر أثر التَّربية النَّبويَّة، في جندية أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ فأبو بكرٍ رضي الله عنه عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل؛ لعلَّ الله يجعل لك صاحباً»؛ بدأ في الإعداد والتَّخطيط للهجرة؛ فابتاع راحلتين منتظرا الإذن بالهجرة. وفي موقف عليِّ بن أبي طالبٍ مثالٌ للجنديِّ الصَّادق المخلص لدعوة الإسلام؛ حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامةٌ للدَّعوة، وفي هلاكه خذلانها، ووهنها.

10- وضوح سنَّة التَّدرُّج:
حيث نلاحظ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى، لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام، وتلاوة القرآن عليهم، فلمَّا جاؤوا في العام التالي، بايعهم على العبادات، والأخلاق، والفضائل، فلمَّا جاؤوا في العام التالي؛ كانت بيعة العقبة الثَّانية على الجهاد، والنَّصر، والإيواء.

11- الهجرة تضحيةٌ عظيمةٌ في سبيل الله:
كانت هجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البلد الأمين تضحيةً عظيمةً، عبَّر عنها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله! إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرِجت منك ما خرجتُ» [أحمد (4/305) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108)].

لقد كانت الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الإنسانية، فقد كانت الهجرة النَّبويَّة أعظم حدثٍ حوَّل مجرى التَّاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها؛ التي كانت تحياها، وتعيش محكومةً بها في صورة قوانين، ونظمٍ، وأعرافٍ، وعاداتٍ، وأخلاقٍ، وسلوكٍ للأفراد والجماعات، وعقائد، وتعبُّداتٍ، وعلمٍ، ومعرفةٍ، وجهالةٍ، وسفه، وضلالٍ، وهدًى، وعدلٍ، وظلمٍ». وهذه بعض الفوائد، والعبر، والدروس، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها، ويستنبط سواها من الدُّروس، والعبر، والفوائد الكثيرة النَّافعة من هذا الحدث العظيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- إبراهيم علي محمد أحمد، في السِّيرة النَّبويَّة جوانب الحذر والحماية، الطَّبعة الأولى رجب 1417هـ، وزارة الأوقاف، الدوحة، ص 141.
2- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان، شرح الحديث رقم 3905.
3- ابن كثير، السِّيرة النَّبويَّة، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، ط2 1398هـ، دار الفكر، بيروت، 2/234.
4- أكرم ضياء العمري، السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، ط1 1992م، مكتبة المعارف والحِكَم، المدينة المنوَّرة، 1/220.
5- سعيد حوى، الأساس في السُّنَّة، وفقهها ـ السِّيرة النَّبويَّة، دار السَّلام بمصر، الطَّبعة الأولى، 1989 م، 1/375.
6- علي محمد الصلابي، السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث (دروس وعبر)، الجزء الأول.
7- محمد أبو شبهة، السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القرآن والسُّنَّة، دار القلم ـ دمشق، ط3 1996م.
8- مصطفى السِّباعي، السِّيرة النَّبويَّة دروسٌ وعبرٌ، المكتب الإسلامي ـ بيروت، لبنان، ط9 1986م، ص 68.