الحوار لتبسيط الدليل
قالت لي صديقتي : قول الشافعية بجواز النمص يخالف مذهب السلف ، فإن عبد الله بن مسعودٍ قد أفتى بحرمته .
قلتُ : هذا كذبٌ ع عبد الله مسعودٍ رضي الله عنها ؛ فإن الرواية ف المحاورة التي دارت بين ابن مسعودٍ داخل الصحيحين وخارجهما لم تبين #مقصود_المرأة ، ففي الرواية أن ابن مسعود حدث بالحديث ، فقالت له المرأة : «فإني أرى شيئًا من ذلك ع امرأتك» .
#السؤال_الآن : أيُّ شيء من الأشياء الثلاثة التي ذكرها ابن مسعودٍ رضي الله عنه ؟!
لم تبين الرواية ذلك ، فحملك لكلمة «ذلك» ع النمص رجم بالغيب ، وشيءٌ من عند نفسِك .
• ولم تأتِ رواية مبينة لمراد المرأة اللهم إلا روايتين :
الأولى : رواية البزار ف «مسنده» (ج4/ص295) قال : حدثنا يوسف بن موسى قال: نا جرير قال : نا منصور بن المعتمر أبو عتاب عن إبراهيم، عن علقمة قال: قال عبد الله: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله» ، فاعترضت المرأة ، ثم قالت [ركزي ف دي الله يسترك] : «إن أوَّلَ شيءٍ من ذلك ع امرأتك» .
جميل ، وما أول شيءٍ من ذلك ؟! إنه الوشم ، فدخلت المرأة ، فلم ترَ شيئًا
انتبهي ! المرأة ف هذه الرواية قصدت الوشم لا النمص.
• ورغم أن هذه الرواية رجالها ثقات رجال البخاري ، إلا أن يوسف بن موسى تفرد بهذا الحرف عن مخرج الحديث (جرير بن عبد الحميد) ، فكلهم رووا اللفظ مجملًا (أي : إني أرى شيئًا من ذلك ع امرأتك) ، ورواه هو ع هذا النحو (أي : قال : إن أول شيءٍ من ذلك ع امرأتك) .
• فقد رواه بالإجمال [أي : بلفظ : (شيئًا من ذلك ع امرأتك)] : إسحاق بن إبراهيم وعثمان بن أبي شيبة (كما عند مسلم 3/1678) ، ومحمد بن عيسى الطباع (كما عند أبي داود 30/151) ، وهم ثلاثة من الثقات الأثبات .
• أما يوسف بن موسى القطان فتفرد عنهم فقال : (إن أول شيء من ذلك ع امرأتك) ، ومثل هذا التفرد عن الثلاثة قد لا يحتمل ف مسالك المحدثين .
الثانية : رواية الشاشي ف «مسنده» (ج2/ص377) ، التي يرويها عبد الملك بن عمير عن العريان بن الهيثم عن قبيصة بن جابر قال : «كنا نشارك المرأة ف السورة من القرآن نتعلمها ، فانطلقت مع عجوز من بني أسد إلى ابن مسعود ف بيته ، فرأى #جبينها_يبرق ، فقال : أتحلقينه ؟ فغضبت ، ثم قالت : التي تحلق جبينها امرأتك» ، قال : فادخلي عليها ، فإن كانت تفعله فهي مني بريئة ، فانطلقت ، ثم جاءت فقالت : لا والله ما رأيتها تفعله» .
وهي رواية #عرجاء_شلاء من طريق العريان بن الهيثم ، ولم يوثقه إلا ابن حبان ، ومن ثم لا تقوى ع مجابهة الرواية السابقة المفسرة لموضع الإنكار بالوشم (مع المقال السابق فيها) ، ولا الرواية المجملة المشهورة (وهي صحيحة).
الحاصل أن لا يصح عن ابن مسعودٍ تفسير للنمص .
والعجيب أن الشيخ الألباني رحمه الله وطيب ثراه ضعَّف أثر عائشة المشهور ف الحفِّ ؛ احتجاجًا بأن امرأة أبي إسحاق السبيعي مجهولة لم يوثقها إلا ابن حبان ، وحسَّن هذه الرواية ، #وهذا_عجيب_جدًّا ؛ إذ يلزم مَنْ ضَعَّفَ أثر عائشة مهدرًا توثيق ابن حبان أن يضعف رواية ابن مسعودٍ ؛ فكلٌّ من العريان بن الهيثم وامرأة أبي إسحاق مجهولا لم يوثقهما إلا ابن حبان ، أما أن يعتبر توثيق ابن حبان ف موضع دون موضع ، فهذا مسلك عجيبٌ .
فقالت صديقتي : سلمنا لكَ أن الرواية لم تحدد موضع الإنكار أهو النمص أو الوصل أو التفلج ، فيشهد لي أن عبد الله بن مسعودٍ حمل هذه الألفاظ الثلاثة ع عمومها ، ولم يخصصها ، ولم يفصل للمرأة ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
قلتُ : وهذا كلام ف الظاهر أصوليٌّ ، ولكن ساقطٌ ، وفيه ثلاثة أغلاط :
#وغلط_ع_ابن_مسعودٍ رضي الله عنه .
أما غلطك ف التكييف الأصولي للنص محل البحث فهو توصيفك للوقت بأنه وقت حاجة ، وليس ذلك وقت حاجةٍ ، وإنما يسمى عند الأصوليين #وقتَ_خطابٍ ، ووقت الحاجة هو الوقت الذي يتوجب عليه المكلف العملُ بأمر الشارع ع الفور ، ويجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب عند أكثر الأصوليين ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة اتفاقًا .
وأما غلطك ف تنزيل القاعدة الأصولية فهو أن هذه القاعدة ليس محلها الصحابة باتفاق ، إنما محلها النبي صلى الله عليه وسلم ، تستصحب فيه ، لا يجوز له صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، أما الصحابة فلا ؛ إذ لا يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يؤخر البلاغ عن وقت الحاجة ، بخلاف غيره .
ومع ذلك فيجوز للعالم أن يترك النصَّ ع عمومه للمستفتي منعًا من استهانته ، كما كان سفيان بن عيينة يكره تفسير «من غشنا فليس منا» .
• والمفتي لا يتعين عليه الجواب أو التفصيل إلا بشرائط سبعة ليست متوافرة ف هذه الحالة .
وأما غلطك ع ابن مسعود رضي الله عنه فإنك قد وكلت نفسك ف تفسير النمص بالنيابة عن ابن مسعودٍ ، وفسرته بأنه نتف الشعر من الحاجب ، ولا ندري من أين لكِ نسبة (ركزي ف كلمة «نسبة» ) ذلك لابن مسعودٍ ؟!
فإن النمص مختلف ف تعريفه لغة ع ثلاثة أقوال :
فيعرفه أهل اللغة بأنه نتف الشعر من الوجه مطلقًا ، ولا يخصصون ذلك بالحاجب إلا إذا دلت قرينة ف الكلام ع إرادته.
قال الجوهريُّ رحمه الله ف «الصحاح» (ج3/ص1060) : «النَمْصُ: نتفُ الشَعْرِ. وقد تَنَمَّصَتِ المرأةُ ، ونَمَّصَتْ أيضاً ... والنامصة: المرأة التى تزين النساء بالنمص. والمنمص والمنماص: المنقاش» .
وقال الأزهريُّ ف «تهذيب اللغة» (ج12/ص148) : «قال الفراء: النامصة: التي تنتف الشعر من الوجه، ومنه قيل للمنقاش : (منماص)، لأنه ينتف به والمتنمصة هي التي يفعل ذلك بها ... وامرأة نمصاء تتنمص، أي: تأمر نامصة فتنمص شعر وجهها نمصًا؛ أي: تأخذه عنها بخيط» .
القول الثاني ف المسألة ، هو قول أبي داود رحمه الله ، حيث فسَّر النمص ف «سننه» فقال : «والنامصة التى تنقش الحاجب #حتى_ترقه والمتنمصة المعمول بها» .
القول الثالث : هو قول الماوردي ف «الحاوي الكبير» (ج2/ص257) : «فأما النامصة والمتنمصة : فهي التي تأخذ الشعر من حول الحاجبين وأعالي الجبهة» .
فهذه ثلاثة أقوال ف بيان معنى النمص ف اللغة (نتف الشعر من الوجه ، نتفه من الحاجب ، نتفه من الحاجب وأعلى الجبهة) ، فيلزمك فيها أمران :
• الأول : أن تثبتي نسبة أحدها لعبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه ، وهذا سبيلٌ دونه خرط القتاد .
• الثاني : أن ترجحي بينها ؛ طالما أنك مجتهدة ترجحي بين المذاهب الأربعة والظاهرية، وتختاري منها قولًا .
• وإن رجحتِ فدللي ع ترجيحك من لغة العرب .
• فهيَّا ي صديقتي رجِّحي لنا بين الفراء والجوهري والأزهري ، ف مقابلة أبي داود ، ف مقابلة الماوردي !
وإذا أحببتي أن أساعدك فاعلمي أن العرب تقول : «رجلٌ أنمص الجبين» ، وقال امرؤ القيس :
• ويَأْكُلْنَ من قَوٍّ لَعاعًا ورِبَّةً * تَجَبَّرَ بعد الأكل وهو نميصُ .
الأمر ليس بهذه البساطة ي صديقتي !
قال الشافعيُّ رضي الله عنه ف «الرسالة» (ص510) : «ولا يكونُ لأحدٍ أن يقيسَ حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب» .
• وهذا ف القياس ، فما بالك #بمنطوق_الشارع !
• طبعًا إذا قلتِ لي : إن النمص من الألفاظ المنقولة من المعنى اللغوي لمعنى شرعي ساعتها ينتهي النقاش ، وتحتاجي إلى مطالعة كتاب مبتدئ ف أصول الفقه ؛ لتعرفي معنى اللفظ المنقول .
فقالت لي : دعكِ من تفسير النمص ، فلتسلمي لي جدلًا أن النمص هنا بمعنى نتف شعر الحاجب لا غيرُ ، فما الحجة ع تخصيص الحديث بالمُغَرِّرَة بالخطاب ، وعدم العمل بعمومه ، أجاء نصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه يفيد هذا التخصيص ؟
قلتُ : هذا هو الإشكال الذي يعشش ف رأسك ، ويحدث دخنًا يحول بينك وبين فهم مدارك الفقهاء ، وهو أنك تتصوري أن النص لا يتخصص عمومُه إلا بنصٍّ آخر ، والفقهاء يخصصون بغير ذلك كما هو معلومٌ عند الأصوليين .
وقد حكى الإسنوي عن الشافعي رضي الله عنه «التمهيد ف تخريج الفروع ع الأصول» (ص375) جوازَ أنْ يستنبطَ المجتهدُ من النصِّ معنى يخصصه .
ووجه التخصيص هنا : أن لا فرقَ معتبرٌ بين أخذ شعر الجبين والشارب واللحية ، وشعر الحاجب : من حيث كون كل منها #زينةً_تعتادها_المرأة .
• فأجزنا أخذ شعر اللحية والشارب وأطراف الوجه بمقتضى التخصيص بالعادة (وهو أنه من المعلوم ضرورة أن نساء المسلمين سلفًا وخلفًا لم يكنَّ يُمْنَعْنَ من هذا الأمر ، ولو منعن لعرف ذلك ، وتوارثه الناس ، مع استقباحه عند جميع العقلاء) .
• وأجزنا أخذ شعر الحاجب بالتخصيص بالمعنى المستنبط ؛ فلا فرقَ مؤثرٌ بين شعر الحاجب وبقية شعور الوجه ، والفروق الموجودة فروقٌ طردية غير مؤثرة
فوجب حمل النصِّ ع المُغَرِّرَة ، فتكون العلة التغرير بالخُطَّابِ ، وليس مجرد الأخذ .
فإن قلتِ ي صديقتي : بل ثم فرقٌ مؤثرٌ ، وهو أن النمص جاء فيه النصٌّ ؟
قلتُ لكِ : هذا استدلالٌ بمحل النزاع ، وهو لا يجوز ، فألزمك أثبات ذلك بالترجيح بين الأقوال اللغوية الثلاثة السابق سردها ، والتدليل ع ترجيحك من لسان العرب .
فقالت صديقتي : ولكن النمصَ تغيير لخلق الله سبحانه ، وكلُّ تغيير لخلق الله سبحانه محرمٌ .
قلتُ : قولك : «كلُّ تغيير لخلق الله محرم» غلطٌ ، ليس كل تغيير لخلق الله محرمًا ، بل تغيير خلق الله سبحانه تعتريه #الأحكام_التكليفية_الخمسة ، فقد يكون محرمًا ، وقد يكون مكروهًا ، وقد يكون مباحًا ، وقد يكون مستحبًّا ، وقد يكون واجبًا .
#فقد_يكون_محرمًا : نحو نص الفقهاء ع تحريم الخصاء وتعليلهم ذلك بأنه تغيير لخلق الله ، كما ذكر الحافظ ف «فتح الباري» (9/119) ، وقال النووي رحمه الله ف «المجموع» (6/177) : «قال البغويُّ والرافعيُّ : لا يجوزُ خصاءُ حيوانٍ لا يؤكل ، لا ف صغره ، ولا ف كبره ، قال : ويجوز خصاء المأكول ف صغره ؛ لأن فيه غرضًا وهو طيب لحمه ، ولا يجوز ف كبره ، ووجه قولهما أنه داخل ف عموم قوله تعالى إخبارًا عن الشيطان : (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) ، فخصص منه الختان والوسم ونحوهما ، وبقي الباقي داخلًا ف عموم الذم والنهي» .
#وقد_يكون_مكروهًا : نحو نص الشافعية ع كراهة أخذ شعر الحاجبين للرجل إذا طالا ، قال النووي رحمه الله ف «المجموع» (ج1/ص290) : «وأمَّا الأخذُ من الحاجبين إذا طالا فلم أرَ فيه شيئًا لأصحابنا ، وينبغى أن يُكرَهَ ؛ لأنه تغييرٌ لخلق الله لم يثبت فيه شيءٌ ، فَكُرِهَ» ، وكذا نحوُ نصِّ أصحابنا ع كراهة تنف اللحية وخضابها للرجل ؛ لأنه تغيير لخلق الله ، كما نص ع ذلك الماوردي ف «الحاوي الكبير» (ج17/ص151) والروياني ف «بحر المذهب» (ج14/ص275) ، حيث قالا : «نتف اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة ، وكذلك خضاب اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة ، لما فيها من تغيير خلق الله تعالى» .
#وقد_يكون_مباحًا : وذلك نحو جواز أخذ الرجل شعر صدره ونحو ذلك .
#وقد_يكون_مستحبًّا : كنص الفقهاء ع أنه إذا نبتت للمرأة لحية أو شارب استحب لها أن تزيلها
قال النووي رحمه الله ف «المجموع» (ج1/ص290) : «أما المرأة إذا نبتت لها لحيةٌ فيستحب حلقها صرَّحَ به القاضي حسين وغيره ، وكذا الشاربُ والعنفقةُ لها ، هذا مذهبنا ، وقال محمد بن جرير : لا يجوز لها حلقً شيءٍ من ذلك ، ولا تغـــــــيير شئ من خلقتها بزيادة ولا نقص» .
• #وقد_يكون_واجبًا : كنص أصحابنا ع وجوب الختان ، قال النووي – ودلالة كلامه إشارية – ف «المجموع» (6/177) : «قوله تعالى - إخبارًا عن الشيطان - (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) فخصص منه الختان» .
وبهذا يتبدى أن تغيير خلق الله ليس كله محرمًا ، بل تعتريه الأحكام الخمسة .
وإذا نظرنا ف فروع الأصحاب نأخذ من كلامهم أن #ضابط_تغيير_خلق_الله المحرم عندهم هو : «تغييرُ أصلِ الخِلقةِ ، #ع_وجه_الدوام ، دون مقتضٍ من علاج أو إزالة عيب أو إذن الشارع صراحة أو سكوتًا»
فقولنا : «تغييرُ أصل الخلقة» يخرُجُ به تغييرُ طارِئها ، كما رُوي أنَّ عرفجة لقد قطعت أنفه يوم الكلاب من فضة ، فأنتن ، فاتخذ أنفًا من ذهب ، والحديث مختلف ف تحسينه وتضعيفه ، وقد نص الأصحاب ع جواز ذلك .
ويخرج بقولنا : «ع وجه الدوام» ما لو كان التغييرُ لا ع وجه الدوام ، فما لا يكون باقيًا لا يكون محرمًا كتكحيل المرأة عينيها وتحمير وجنتيها وشفتيها ونحو ذلك بما يتزين به ، قال ابن الملقن ف «التوضيح» (ج23/ص371) : « قال تعالى مخبرًا عنه: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119] وهذا إنما #فيما_يكون_باقيًا ، فأما ما لا يكون باقيًا كالكحل والتزين ؛ فقد أجازه مالك وغيره، حكاه القرطبي» ، وهو مستقيم ع طريقة الأصحاب .
وقولنا : «دون مقتضٍ من علاج أو إزالة عيب» يخرج ما لو كان التغيير ع وجه العلاج أو إزالة العيب فلا يحرم ، قال ابن الملقن رحمه الله ف «التوضيح» (ج23/ص371) : «إذا احتيج إليه لعلاج أو عيب ف السن وتحدبه فلا بأس به».
وقولنا : «أو إذن الشارع» يخرج به ما لو كان مأذونًا فيه من الشارع.
وقولنا : «صراحة» كأن يرد فيه أمرٌُ محمول ع الوجوب أو الندب .
وقولنا : «سكوتًا» كأن يسكت الشارع عنه .
وحاصل ذلك : أنه ليس كل تغيير يكون محرمًا ، وضابط التغيير المحرم : «تغييرُ أصلِ الخِلقةِ ، ع وجه الدوام ، دون مقتضٍ من علاج أو إزالة عيب أو إذن الشارع صراحة أو سكوتًا » .
• فقالت لي صديقتي : ولكن النمصَ زينة ، ومن تكشف وجهها متنمصة تعدُّ متبرجة بزينة ، فهلا قلتم : من تتنمص إنما عليها أن تغطي وجهها .
• أما كون النمص زينة فنعم ، ولكن السؤال : هل كلُّ زينة يحرم إبدائها عند من لا يوجب تغطية الوجه ؟
• الجواب : ليس كلُّ زينة يحرم إبداؤها ، فأخذ المرأة شعر شاربها ولحيتها وجوانب وجهها وجبتها إنما هي التكييف الفقهي زينة ، ولكن لا يحرم إبداؤها ، فكذلك أخذ المرأة شعر حاجبها ، وكل زينة متصلةٍ لا يحرم إبداؤها عند من جوَّز كشف الوجه ، بخلاف المنفصلة كأحمر الشفاة ومبيض الوجه ونحو ذلك .
• ولذلك نجد من متقدمي الشافعية من ينص ع جواز كشف المرأة لوجهها ، وينص كذلك ع جواز النمص .
• وذلك مثل الإمام الماوردي رحمه الله ف «الحاوي الكبير» حيث قال ف النمص (ج2/ص257) : «فأما النامصة والمتنمصة : فهي التي تأخذ الشعرَ من حول الحاجبين وأعالي الجبهة ، والنهي ف هذا كله ع معنى النهي ف الواصلة والمستوصلة» .
أي : ع التفصيل المذكور ف الواصلة والمستوصلة .
• وقد قال فيه قبله بأسطر : «أن تكون ذات زوج تفعل ذلك للزينة عند زوجها ، أو أمة تفعل ذلك لسيدها ، فهذا غير حرام ؛ لأن المرأة مأمورة بأخذ الزينة لزوجها من الكحل والخضاب .... وحكي عن أحمد بن حنبل : أنه منع من ذلك بكل حال : لأن النهي عام ، وما ذكرناه أصح» .
فالماوردي ينص ع جواز النمص بإذن الزوج .
وهو أيضًا ينص ع جواز إبداء الوجه ، حيث قال ف الحاوي الكبير(ج2/ص170) : «وأما العورة فضربان صغرى وكبرى : فأما الكبرى فجميع البدن إلا الوجه والكفان .وأما الصغرى فما بين السرة والركبة . وما يلزمها ستر هاتين العورتين من أجله ع ثلاثة أضرب : أحدها : أن يلزمها ستر العورة الكبرى ، وذلك ف ثلاثة أحوال : أحدها : ف الصلاة ، وقد مضى حكمها .والثاني : مع الرجال الأجانب ، عورة المرأة ف حضورهم ، ولا فرق بين مسلمهم وكافرهم ، وحرهم وعبدهم ، وعفيفهم وفاسقهم ، وعاقلهم ومجنونهم ف إيجاب ستر العورة الكبرى من جميعهم .... إلى آخر كلامه رحمه الله» .
ققالت صديقيي : وما دليلكم معاشر الشافعية ع أن العلة إذن الزوج ؟
قلتُ : وهذا خطأ ف فهم نصوص مدوناتنا الفقهية ؛ فإن الحكم هو التحريم ، وعلته : التغرير ، إذا وجدت العلة (التغرير) وجد الحكم (التحريم) ، وإذا انتفت العلة (التغرير) انتفى الحكم ، لذلك قلنا يحرم ع الخَلِيَّة (غير المتزوجة) التنمصُ ، أما المزوجة فلا يحرم ؛ لانتفاء التغرير ف حقها ؛ إذ ليست تخطب للأزواج .
• أما اشتراطنا إذن الزوج لا من جهة العليَّة ، وإنما من جهة قاعدة معلومة من الشرع ، وهي أن كل ما تعلق بالاستمتاع بالبضع وتوابعه يجب فيه إذن الزوج ، وزينة المرأة من متعلقات الاستمتاع فوجب فيها استئذان الزوج ؛ إذ قد يكره الزوج النمص من #جهة_الطبع ، فتمنع منه المرأة.
قالت لي : فهل يحرم ع الخَلِيَّة (غير المتزوجة) مطلقًا .
قلتُ : بل يحرم إذا كان تغريرًا بخاطبٍ ، فإذا لم يكن كذلك لم يحرم ، كأن تعلمه ونحو ذلك ؛ تخريجًا ع قول أصحابنا ف التصرية بعلم المشتري وارتفاع الحرمة وعدم ثبوت الخيار .
قالت لي : وما أنتم ي معاشر المتمذهبة إلا قومًا من المُمَيِّعة ، تفتون الناس بحل النمص بإذن الزوج ، واستحباب النقاب ، وكراهة الإسبال لغير خيلاء تنزيهًا ، وجواز الألوان للمرأة .
قلتُ : ع رِسلك ،دعيني أسألك ، والحجة بيني وبينك السلف الذين هم فوقنا ف علم وفضل .
قالت : سلِ .
قلتُ : ألم يُفتِكَ شيخُك بأن الإسبالَ لغير خيلاء محرمٌ ع الراجح ، وليس مكروهًا كراهة تنزيه.
قالت : بلى ، وهذا هو الراجح ، وليس يصح ف الأذهان شيءٌ ... إذا احتاج النهارُ إلى دليل .
قلتُ : لقد ثبت عن ابن عباس وابن مسعودٍ بالأسانيد الصحيحة ما يقتضي قولهما بكراهته كراهة تنزيه [انظري : «الآحاد والمثاني» (ج1/ص314) ، «مصنف ابن أبي شيبة» (ج8/ص202)] .
• فهل كان ابن عباس وابن مسعود والمذاهب المتبوعة ف معتمدها مميعين ، وأنتِ وشيخُك أهل التمسك والدليل ؟!
قلتُ : ألم يُفتِك شيخُك بأن النقابَ فرضٌ قولًا واحدًا .
قالت صديقتي : بلى .
قلتُ : لقد ثبت عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما بالأسانيد الصِّحَاح المِلاح ما يفيد قولهما بعدم وجوبه ، ورواية العين الواحدة عن ابن عباس رواية ضعيفة (مع مخالفة ابن مسعود) . [انظري : «مصنف ابن أبي شيبة (ج4/ص283 – ص284)] .
• فهل كان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما ومن تابعهما من جمهور الفقهاء مميعين ؟!
قلتُ : ألم تفتِك المعلمة الجسورُ بأن الألوان لا تجوزُ ، وأن عليك لبس السواد أو البياض .
قالت : بلى .
قلتُ : لقد صحَّ عن إبراهيم النخعي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود ع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فيراهن ف اللحف الحمر ، وصحَّ عن سعيد بن جبير أنه رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تطوف بالبيت ، وعليها ثياب معصفرة [انظري : «مصنف ابن أبي شيبة» (ج8/ص184)].
قلتُ : ألم يُفتِك شيخُك بأنه لا يجوز لك الأخذ من اللحية .
قالت : بلى .
قلتُ : لقد ثبت بالأسانيد الصِّحَاح عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما كان يأخذان من لِحَاهما ما زاد عن القبضة ، وصحَّ عن إبراهيم النخعي أنه قال واصفًا حال من أدركهم : «كانوا يأخذون من عوارضها» [انظر : «مصنف ابن أبي شيبة» (ج8/ص376)] .
قلتُ : ألم يُفتِك شيخُك بأن الكحل أمام الأجانب حرامٌ قولًا واحدًا .
قالت : بلى .
قلتُ : وكذلك هو معتمد الشافعية ، ولكن الشافعية وأهل المذاهب لا يدلسون ع الناس ، ولا يحكون إجماعًا ف غير محله ، ولا يرمون غيرهم بالتمييع ، فقد ثبت عن عطاء أنه فسر الزينة الظاهرة ف الآية بـ«الخضاب والكحل» ، وصحَّ عن قتادة أنه فسرها بـ«بالكحل والسوارين والخاتم» ، وصحَّ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال : «الكحل والخضاب والخاتم» ، وصحَّ عن الشعبي أنه فسرها بـ«الكحل والثياب» ، وصحَّ عن عكرمة أنها فسرها بـ«الثياب والكحل والخضاب» [انظري : «مصنف ابن أبي شيبة» (ج4/ص273-ص284) ، «تفسير الطبري» (ج19/ص157-ص158) ، «جزء يحيى بن معين» (ص201].
• فهل كان عطاء وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي وعكرمة مميعين يدعون النساء للفتنة ؟!
• والشافعية ف معتمدهم يخالفون هؤلاء جميعًا ، ويأخذون بقول غيرهم من السلف ، ولكنهم لا يتهمون غيرهم بالتمييع .
فقالت لي صديقتي : هكذا أنتم تجرون الناس بعرض هذه الأقوال إلى تتبع الرخص ، ومن #تتبع_الرخص فقد اجتمع فيه الشرُّ كله .
قلتُ : ما ذنبي وما ذنب الناس إذا كنتِ تحفظي ما لا تعرفي ضابطه عند أهل العلم ، فليس معنى تتبع الرخص أخذ المكلف بالقول اليسير ف بضعة مسائل من الفقه
وإنما تتبع الرخص ضابطه أن يختار المكلف الأيسر له من كل المذاهب ف المسائل بحيث #تنحل_ربقة_التكليف_من_عنقه ، كما ذكره الهيتمي وغيره .
ي صديقتي ؛ إن شراح كتب السنة إنما هم علماء المذاهب الأربعة ، فهل تتصوري أن يطبق أكثرهم ع مخالفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويغفلون عن القاعدة الأصولية الرياضية التي تحفظيها : «العام المُحَلَّى بأل الجنس يفيد الإستغراق» ، أم خفي عليه حديثٌ مشهورٌ ف الصحيحين !
ي صديقتي ؛ إن أعلم الناس بوفاق السلف وخلافهم إنما هم علماء المذاهب الأربعة ، فالبيهقيُّ الشافعي استدل ع كل كلمة قالها الشافعي – بل وغيره - بآثار السلف الكرام ف «السنن الكبرى» و«معرفة السنن والآثار» ، والطحاوي الحنفي صنف «شرح معاني الآثار» ، وهي عاجة بآثار السلف ع مسائل أبي حنيفة رضي الله عنه ، وابن قدامة الحنبلي لا ترى له مسألة ف «المغني» إلا ويعقبها لكَ بقوله : «وهذا قول فلان وفلان» ، ويذكر لك القائلين به من الصحابة والتابعين ، وابن عبد البر ف المالكية لا يذكر مسألة إلا وغاص فقه السلف راويًا لكَ من قال به من السلف ، أتراهم يطبقون ع مخالفة السلف !
ي صديقتي ؛ هوني عليك ، ليسَ الفقهُ حفظَ مذاهب الناس ، ولا أنْ يُحسنَ المرءُ سردَ الأقاويلِ وأدلَّتِها ، وإنما الفقهُ : #ملَكَةٌ_ف_النفس ، تحْصُل بإدْمَان النَّظر ف آلافِ الفروع الفقهيّة ، والتأمُّل ف تصرُّف المجتهدِ فيها ، والغوصِ ف غَوْر الدِّلالاتِ ومَسَالكها ، وسبْر قَوَادِحها ونوَاقِضَها ، حتى تصيرَ للناظرِ ملكةٌ يتكلمُ بها ف غير المنصُوص ككلامِه ف المنصُوص
لذَا قالَ الغزاليُّ - رحمه الله - : « إذَا لم يتكلم الفقيهُ ف مسألةٍ لم يَسْمَعْها ككلامِه ف مسألةٍ سَمِعَها فليس بفقيه» .