الثلاثاء، 26 أكتوبر 2021

الحكم الشرعي في خروج المرأة من بيتها بدون إذن وليها؟

 

الحكم الشرعي

في خروج المرأة من بيتها بدون إذن وليها



 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فلا يخفى على كل مسلم أن شريعة الله عز وجل أتت بأحكام شاملة جامعة، راعت فيها المصالح فحثت عليها، والمفاسد فحذرت منها، وهذه المصالح والمفاسد تُعرَف نصاً من خلال كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتُعرَف كذلك استقراء من خلال تتبع ما ورد في الكتاب والسنة من أحكام ثابتة، ظهرت من خلالها مقاصد شرعية وحِكماً ظاهرة ومصالح راجحة وضرورات يقينية.

 

ومن المسائل التي تكاثرت عليها الأدلة الشرعية، وأكد عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم حتى أصبحت مشهورة معروفة مسألة: لزوم المرأة لبيتها وحرمة خروجها منه بدون إذن وليها، حيث قرر علماء الأمة هذه المسألة في كتبهم تقريراً واضحاً وصريحاً، مما يؤكد أن الحكم فيها ظاهر ولا خلاف فيه، يقول الإمام القرطبي (الشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة[1]، وقال ابن دقيق العيد (إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معتاد)[2]، وقال العراقي (ويمكن أن يقال في هذا إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معلوم)[3].

 

وقبل الكلام عن هذه المسألة، فنقدم ببعض الأمور المهمة تمهيداً:

الأول: أن هذه المسألة مهمة جداً لأمرين:

1- أن أكثر ما نشاهده الآن من تجاوزات ومطالبات ومخالفات شرعية وأخلاقية واجتماعية فيما يخص المرأة، أساسه ومبدؤه: التساهل في خروج المرأة من بيتها بدون إذن وليها، بل تجدهم يتكلمون عن عدم لزوم استئذان المرأة وليها في أمور تحدث خارج المنزل، ولكن يتركون الكلام عن حكم خروجها من بيتها في الأساس، وذاك لا يمكن ولا يتأتى إلا بهذا، فإذا منع هذا منع ذاك.

 

2- ظهور أصوات من بعض الجهلة، وكذلك من بعض المتعالمين أو غير المتخصصين يعلنون بصريح العبارة، ويجاهرون بأعلى صوتهم بعدم وجوب استئذان المرأة وليها عند خروجها من البيت ألبتة.

 

الثاني: لا خلاف بين العلماء أن من استأذنت وليها استئذاناً عاماً أو خاصاً، فقد أدت ما عليها وجاز لها الخروج[4].

الثالث: أن استئذان المرأة وليها عند الخروج لا يبيح لها غشيان المنكرات، أو دخول أماكن مختلطة، أو التبرج في اللباس أو غير ذلك، فإذن وليها لا يبيح لها الحرام، ولا خلاف بين العلماء أنه يحرم على الولي الإذن لموليته بالخروج من البيت، كما يحرم عليها الخروج وهي متبرجة أو متطيبة أو غير ذلك من طرق الفتنة والفساد.

 

وتأسيساً على ما سبق، فقد تكاثرت الأدلة وأقوال العلماء في لزوم المرأة بيتها وعدم الخروج منه إلا بإذن وليها، وهذه الأدلة تنقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: كون الأصل بقاء المرأة في بيتها، وهذا يؤكده ما يلي:

أولاً: قوله تعالى ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾

(وقَرن) قيل: بفتح القاف، أي أقِمنا في بيوتكن، وقيل: بكسرها (وقِرن) وله وجهان:

الأول: من الوقار والسكون.

الثاني: من القرار في المكان.

 

وأياً كان معنى القرار وعلى جميع القراءات فهو بمعنى: اللزوم والوقار والسكون، فكلا المعنيين يؤكدان معنى البقاء في البيت وعدم الخروج منه إلا لضرورة، فقرارهن في بيوتهن عبادة، قال الألوسي (والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله عنهن بملازمة البيوت وهذا أمر مطلوب من سائر النساء)[5] ويؤكد ذلك:

1- أن الله تعالى قال: (في بيوتكن) فالقرار يكون في البيت، والوقار والسكون يكون كذلك في البيت.

2- أن الله سبحانه نهى النساء بعد هذا الأمر عن تبرج الجاهلية الأولى، وهو البروز والظهور، والخروج أمام الرجال، قال مجاهد في تفسير معنى التبرج: كان النساء يتمشين بين الرجال، فذلك التبرج.

 

وما يورده البعض من كون هذا الحكم خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فهو توجيه ليس في محله، فالأصل في نصوص الشرع العموم إلا ما دل الدليل على تخصيصه، وقد أكد ذلك جمع من المفسرين على اختلاف مذاهبهم فقد قال القرطبي: (فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع، فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفاً لهن) [6].

 

ثانياً: قوله عز وجل ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾ وقال سبحانه﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ وقال تعالى﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾

فإضافة البيوت إلى النساء في الثلاث آيات من كتاب الله تعالى، مع أن البيوت للأزواج أو لأوليائهن، وذلك مراعاة لاستمرار لزوم النساء للبيوت، فهي إضافة إسكان ولزوم للمسكن والتصاق به، لا إضافة تمليك.

 

ومن اللطائف والأدلة ما ورد في قوله تعالى ﴿ فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ حيث إن الخطاب شامل لآدم وحواء، ثم خصَّ آدم بالشقاء دونها، فدل ذلك على أنه هو المكلف بالكدِّ عليها والخروج، وتحصيل لوازم الحياة الضرورية لها: من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن.

 

ثالثاً: قال سبحانه وتعالى ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ ﴾ فقد ربط الله سبحانه وتعالى خروج المرأة من بيت الزوجية عند الطلاق بالزوج، ونَسَبَ البيوت للزوجة؛ مما يدل على صعوبة أمر الخروج، فهو يحتاج للإذن، ومعناه: قطع الوشائج والعلاقة بين الزوجين بالكامل.

 

رابعاً: في صحيح البخاري عن عائشة، قالت: خرجت سودة بنت زمعة ليلاً، فرآها عمر فعرفها، فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، وهو في حجرتي يتعشى، وإن في يده لعرقا، فأنزل الله عليه، فرفع عنه وهو يقول: "قد أذن الله لكنَّ أن تخرجن لحوائجكنّ" والإذن بالخروج عند الحاجة، يدل على أن ما عداه غير مأذون به.

 

خامساً: حديث ابن عمر في الصحيحين "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها" ورعاية المرأة: تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك، وهذا يدل على أن الأصل في المرأة قرارها في بيتها، فهي المسؤولة عن كل ذلك، وأكد ذلك بقوله:(في بيت زوجها) فالبيت بيته، وهي عنده تستأذنه عند خروجها.

 

سادساً: عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع: "هذه، ثم ظهور الْحُصْرِ"، قال: فكنَّ كلهنَّ يحججن إلا زينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة، وكانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد والبيهقي وصححه الألباني.

 

سابعاً: أخرج الترمذي والبزار وصححه ابن خزيمة والألباني عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها"

 

والحديث صريح في ذم خروج المرأة عموماً، فجعله مُنكّراً لكي يعم كل خروج، فإن الشيطان يطمع بها وفي إغوائها؛ لأنها حبائله، وأعظم فخوخه، حيث أضاف الفعل إلى الشيطان لكونه الباعث على استشرافهم إياها، فكان مجرد خروج المرأة من بيتها بوابة فساد وشر يستغلها شياطين الإنس والجن في الإغواء والانحراف، ومن أجل الحد من ذلك ربط خروجها بإذن وليها واطلاعه.

 

قال الكاساني الحنفي: (أجمعوا على أنه لا يرخص للشواب منهن الخروج في الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة؛ لقوله تعالى {وقرن في بيوتكن} والأمر بالقرار: نهي عن الانتقال، ولأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام)([7]).

 

ثامناً: ومما يستأنس به كذلك قوله تعالى ﴿ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ ﴾، والمقصورات أي: المحجوبات في بيوتهن ولا يخرجن إلا لحاجة، وكانت العرب تمدح النساء بملازمة البيوت، ومنه قول الشاعر أبو قيس بن الأسلت:

وتكسل عن جاراتها فيزرنها 
وتعتل من إتيانهن فتعذر 

فهو يصف أن جارتها يزرنها ولا تزورهن.

 

القسم الثاني: النصوص التي تمنع خروج المرأة إلا بشروط، وهي ما يلي:

تاسعاً: أن جميع من أجاز خروج المرأة لحاجاتها وصلاتها في المسجد، منعه عندما يكون هناك فتنة أو تبرج أو اختلاط، كما في سنن أبي داود وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "وليخرجن تفلات" أي غير متطيبات ولا متزينات، وما ورد في صحيح مسلم أن زينب الثقفية، كانت تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة" وما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة".

 

مما يدل على أن الخروج مشروط وفي حالات استثنائية لا دائمة، بل كانت عائشة تأسى لحال النساء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل" قلت لعمرة: أو منعن؟ قالت: نعم.

 

وعلى كل حال، فما ذكرته عائشة رضي الله حول بعض ما شاهدته في زمانها من تغيّر، فكيف بالأزمنة اللاحقة التي جاهر فيها كثير من النساء بتبرجهن وزينتهن واختلاطهن، وقد نص على المنع من الخروج عندما يصاحبه تبرج أو زينة ظاهرة أو اختلاط بالرجال شرّاح الأحاديث من جميع المذاهب. [8]

 

عاشراً: دلت بعض الروايات على كون خروج المرأة للصلاة في الليل؛ لكونه أستر لهنَّ وأبعد عن الريبة والفتنة كما في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد، فأذنوا لهن"، فهذا تقييد يفيد أن الخروج يراعى فيه البعد عن الفتنة والاختلاط بالرجال.

 

كما أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وهذا التفضيل أساسه: كون الأصل في المرأة هو القرار في البيت، وما يصاحب خروجها في العادة من فتنة وتبرج، هذا مع أن خروجها لأداء عبادة من أعظم العبادات، فكيف إذا كان لغير ذلك، فهو من باب أولى وأحرى؟

 

القسم الثالث: النصوص الدالة على استئذان المرأة وليها عند الخروج للمسجد، وهي كما يلي:

الحادي عشر: في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها" وقد ترجم البخاري لهذا الحديث: باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره

 

الثاني عشر: في الصحيحين من حديث ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم" لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وفي رواية عند مسلم "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها"

 

وهذان النصان يؤكدان ما أسلفناه من خلال أمور:

1- أن فيها دلالة على ملازمة النساء لبيوتهن فيما عدا ما يُضطَر فيه للخروج؛ مثل قضاء الحوائج الضرورية وزيارة الأبوين، أو الحج والعمرة الواجبين.

2- وجوب استئذان المرأة وليها عند الخروج بشكل عام.

3- أنه ما دامت المرأة يلزمها الاستئذان عند الخروج للمساجد وهي عبادة عظيمة، فإنه يجب عليها الاستئذان عند الخروج لغير المساجد من باب أولى.[9]

4- أنه لو لم يكن للرجل منع المرأة من ذلك لخوطب النساء بالخروج ولم يخاطب الرجال بالمنع؛ كما خوطب النساء بالصلاة ولم يخاطب الرجال بأن لا يمنعوهن منها.

5- أن دلالة الاستئذان تدل على أنه يجوز للولي أن يمنع موليته من الخروج للمسجد؛ لأن حق الولي في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه المرأة لفضيلة، قال ابن حجر في فتح الباري: وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب؛ لأنه لو كان واجباً لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيراً في الإجابة أو الرد[10].

 

الثالث عشر: في حادثة الإفك، وما حصل لعائشة رضي الله عنها من ضيق وحرج واتهام، ومع ذلك لم تخرج من بيت النبي صلى الله عليه وسلم لتزور بيت والديها إلا بعد استئذان زوجها وهو النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قالت عائشة" فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي"

 

الرابع عشر: جميع العبادات التي يشرع فيها خروج المرأة من بيتها كالصلاة، والاعتكاف، والجهاد، والحج، والعمرة غير الواجبة، يشترط فيها إذن الولي إجماعاً، كما ذكر ذلك ابن المنذر[11]، وابن رجب[12]، والشوكاني[13] وهي عبادات تخرج فيها المرأة طائعة لله تعالى، وتطلب ما عند الله سبحانه من أجر، فكيف بغيره من الأماكن والأسباب؟!

 

الخامس عشر: القول بعدم الاستئذان فيه إلغاء لحق الوالدين وحق الزوج وإنقاص لقدرهم، فعظيم حقهم يتنافى مع عدم استئذانهم، بل الاستئذان هو أقل حقوقهم، قال تعالى ﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ وفي الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه الحاكم والألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " والنصوص في وجوب طاعة الوالدين والزوج أكثر من أن تحصر.

 

السادس عشر: قال تعالى ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾، والقوّام أبلغ من القيّم، وهو القائم بالمصالح والتدبير، قوّامون على النساء يقومون عليهن آمرين ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا، والقوامة حاصلة بمجموع أمور منها: الأفضلية وكذلك الإنفاق، ثم قال الله في وسط الآية ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَات ﴾ والقنوت هنا هو: الطاعة للزوج كما ذكر ذلك ابن عباس وجمع كبير من المفسرين، ثم أكد الله سبحانه في آخر الآية: المقصد الأسمى والغاية من تأديب الزوجة الناشز هو (حصول الطاعة) ﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ ﴾، فطاعة الزوج فيما لا معصية لله فيه من أوائل حقوق الزوج على زوجته، روى الإمام أحمد والنسائي وصححه الحاكم والعراقي والألباني عن أبي هريرة، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره" وفي مسند أحمد وصححه ابن حبان والألباني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصّنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت"

فعدم استئذان الزوج فيه إسقاط لهذه النصوص الواضحة ومخالفة لما أمر الله به سبحانه صراحة.

 

السابع عشر: في صحيح مسلم في حديث جابر الطويل في خطبة عرفة قال النبي صلى الله عليه وسلم "ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه" والمقصود أن لا تأذن المرأة لأحد يكره الزوج في الدخول للبيت إلا بإذن الزوج وموافقته، وهو نهي عام يتناول كل من لا يرضى بدخوله حتى يوجد الإذن منه في ذلك، فكيف يسمح لها الشارع بعد ذلك بخروجها بدون إذنه؟!

 

القسم الرابع: إجماع الفقهاء على وجوب استئذان المرأة وليها عند الخروج:

ويؤكد ذلك: ما دونه فقهاء سلف الأمة وخلفها، فلم أجد من أجاز خروج المرأة من بيتها بلا إذن وليها، بل هناك إجماع من أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم على وجوب استئذان المرأة لوليها عند الخروج من بيتها إلا في حالات محدودة لا دائمة تعد من قبيل الضرورة الدينية أو الدنيوية فقط لا غير، وهذا يؤكد أن الحكم في هذه المسألة محل اتفاق واشتهار، بل اعتبر الفقهاء المذاهب الأربعة وأتباعهم خروج المرأة من بيت الزوجية بلا إذن من النشوز المحرم الذي يوجب منع النفقة، ومن تلك الأقوال:

1- قال الكاساني الحنفي: (وله أن يمنعها من الخروج من البيت؛ لأن الإسكان حقه)[14]

2- وقال الحدادي العبادي الحنفي (وإن نشزت فلا نفقة لها حتى تعود إلى منزله: النشوز خروجها من بيته بغير إذنه بغير حق)[15]

3- قيل لمالك: أرأيت امرأة رجل أرادت أن تتجر، ألزوجها أن يمنعها من ذلك؟ قال مالك: ليس له أن يمنعها من التجارة، ولكن له أن يمنعها من الخروج.[16]

4- وقال الحطاب المالكي: (النفقة تسقط أيضا بخروج المرأة من بيت زوجها بغير إذنه) [17].

5- وقال ابن جزي الكلبي المالكي (تسقط نفقتها بالنشوز وهو منع الوطء والخروج بغير إذنه) [18].

6- وقال في المجموع:( إذا انتقلت الزوجة من منزل الزوج الذي أسكنها فيه إلى منزل غيره بغير إذنه وخرجت من البلد بغير إذنه، فهي ناشزة، وسقطت بذلك نفقتها) [19].

7- وقال زكريا الأنصاري الشافعي (والنشوز، نحو الخروج من المنزل إلى غيره بغير إذن الزوج) [20].

8- وقال ابن قدامة:(وللزوج منعها من الخروج من منزله إلى ما لها منه بد...ولا يجوز لها الخروج إلا بإذنه) [21].

9- وقال المرداوي: (وله منعها من الخروج عن منزله، بلا نزاع. من حيث الجملة. ويحرم عليها الخروج بلا إذنه)[22].

10- وقال البهوتي الحنبلي: (وحيث خرجت بلا إذنه بلا ضرورة، فلا نفقة لها ما دامت خارجة عن منزله إن لم تكن حاملاً؛ لنشوزها) [23].

11- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:(لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه.... وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة عاصية لله ورسوله) [24].

12- صدرت من اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية عدة فتاوى تؤكد ذلك[25].

 

فمن خلال ما سبق من أدلة ودلالات واعتبارات شرعية ومقاصد كبرى، يتبين أن قرار المرأة في بيتها عزيمة شرعية، وخروجها منه رخصة تُقَدَّر بقدرها، وعند خروجها لأي مقصد شرعي أو دنيوي، فيجب عليها وجوباً استئذان وليها زوجاً كان أو أباً أو أخاً، فإن كان في خروجها فتنة أو صاحبَ ذلك زينة أو فساداً، فيحرم على المرأة الخروج، ويحرم على الولي الإذن لها بذلك.

 

وإذا كان مجرد خروجها من البيت محرم إلا باستئذان الولي، فلا يسوغ بعد ذلك الحديث عن حكم استئذان المرأة وليها في أمور لا يمكن حدوثها إلا بالخروج من البيت، وما بني على باطل فهو باطل.

 

نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.

وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

*******

الحكم الشرعي

في خروج المرأة من بيتها بدون إذن وليها

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فقد تناقل الناس في الأيام الأخيرة كلاماً خطيراً لبعض الجهلة حول عدم وجوب استئذان المرأة من وليها عند خروجها من المنزل، وزعموا أن ذلك هو قول جمهور الفقهاء، وهذا الكلام فيه مخالفة صريحة للكتاب والسنة وإجماع الأمة، وتسويغ للفساد والشر، وهدم للأسر وتفكيك لها، وتشجيع للمراهقين على التمرد، فكتبت هذه الأسطر التي اختصرتها من بحث كتبته سابقاً؛ لكي يسهل تداولها، ومن أراد الاستزادة فليراجع أصل البحث، فأقول مستعيناً بالله: إن خروج المرأة من بيتها بدون إذن الولي محرم، والدليل على ذلك ما يلي:

أولاً: ما ورد من أدلة في القرآن والسنة وما نقل عن سلف الأمة بتأكيد كون الأصل: قرار المرأة في بيتها، وكذلك تلك الآيات التي فيها نسبة البيوت للنساء، وهي نسبة إسكان ولزوم لا نسبة تملك، ومن ذلك قوله تعالى ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾ وقال سبحانه﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾وقال تعالى ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾، قال الإمام القرطبي(الشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة).

 

ثانياً: ما ورد من نصوص كثيرة تؤكد ذم الشارع لخروج المرأة من بيتها بشكل عام وحصره في حالات احتياج لا غنى لها عنها أو ضرورة ماسة؛ كما أخرج الترمذي والبزار وصححه ابن خزيمة والألباني عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها".

 

ثالثاً: التأكيد على وجوب استئذان المرأة وليها عند الخروج، ومن تلك النصوص:

1. في صحيح البخاري من حديث عائشة في قصة عمر بن الخطاب وسودة رضي الله عنهم، قال عليه الصلاة والسلام: "قد أذن الله لكنَّ أن تخرجن لحوائجكنّ" والإذن بالخروج عند الحاجة، يدل على أن ما عداه غير مأذون به.

 

2. في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها" وترجم البخاري لهذا الحديث: باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره، وفي صحيح مسلم "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها" فما دامت المرأة يلزمها الاستئذان عند الخروج للمساجد وهي عبادة عظيمة، فإنه يجب عليها الاستئذان عند الخروج لغير المساجد من باب أولى، قال ابن حجر في فتح الباري: وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب؛ لأنه لو كان واجباً لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيراً في الإجابة أو الرد.

 

3. في حادثة الإفك، لم تخرج عائشة من بيت النبي صلى الله عليه وسلم لتزور بيت والديها إلا بعد استئذان زوجها وهو النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قالت عائشة" فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي" مع ما فيها من ضيق وحرج واتهام، فلم يدفعها ذلك لأن تخرج بدون استئذان، فكيف يدّعي البعض أن خروج المرأة مباح لكل ما فيه مصلحة لها لا يلزم فيه الاستئذان حتى لو مكان نزهة؟!

 

4. القول بعدم الاستئذان فيه إلغاء لحق الوالدين وحق الزوج في الطاعة وإنقاص لقدرهم، فعظيم حقهم يتنافى مع عدم استئذانهم، بل الاستئذان هو أقل حقوقهم، قال تعالى ﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ وفي الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه الحاكم والألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " والنصوص في وجوب طاعة الوالدين والزوج أكثر من أن تحصر.

 

5. أن القوامة الواردة في قوله تعالى﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾، والقوّام أبلغ من القيّم، وهو القائم بالمصالح والتدبير، قوّامون على النساء يقومون عليهن آمرين ناهين، ثم قال الله في وسط الآية{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَات} والقنوت هنا هو: الطاعة للزوج، ثم قال الله سبحانه في آخر الآية بعد ذكر مراحل التعامل مع المرأة الناشز التي عصت زوجها﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ ﴾، فالطاعة للزوج فيما لا معصية لله فيه من أوائل حقوق الزوج على زوجته كما روى الإمام أحمد والنسائي وصححه الحاكم والعراقي والألباني عن أبي هريرة، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره".

 

6. ورد في صحيح مسلم في حديث جابر الطويل في خطبة عرفة قال النبي صلى الله عليه وسلم "ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم تكرهونه" والمقصود أن لا تأذن المرأة لأحد يكره الزوج دخوله للبيت إلا بإذنه وموافقته، وهو نهي عام يتناول كل من يكره دخوله حتى يوجد الإذن منه في ذلك، فكيف يسمح لها الشارع بخروجها بدون إذنه؟!

 

رابعاً: لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم أن جميع العبادات التي يشرع فيها خروج المرأة من بيتها كالصلاة، والاعتكاف، والجهاد، والحج، والعمرة غير الواجبة، يشترط فيها إذن الولي، بل نقل الإجماع: ابن المنذر وابن رجب والشوكاني وغيرهم، بل اعتبروا خروجها بدون إذنه نشوزاً وعصياناً، وهي عبادات تخرج فيها المرأة طائعة لله تعالى، وتطلب ما عند الله سبحانه من أجر، فكيف بغيره من الأماكن والأسباب، فهي من باب أولى وأحرى؟!

 

خامساً: أن هذه المسألة متقررة عند سلف الأمة وفقهائها حتى أصبحت مشهورة، يقول ابن دقيق العيد (إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معتاد)، وقال عبدالرحمن العراقي (ويمكن أن يقال في هذا إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معلوم).

 

سادساً: أن الفقهاء عندما أجاوزا للمرأة خروجها لحاجاتها وصلاتها في المسجد، منعوها من ذلك عندما يكون هناك فتنة أو تبرجاً؛ مما يؤكد كون الخروج مشروط واستثناء كما في الحديث "وليخرجن تفلات" أي غير متطيبات ولا متزينات، وفي صحيح مسلم: "إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة" وذلك يدل على أن الخروج مشروط وفي حالات استثنائية لا دائمة، بل كانت عائشة تأسى لحال النساء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل" قلت لعمرة: أو منعن؟ قالت: نعم، وما ذكرته عائشة رضي الله حول بعض ما شاهدته في زمانها من تغيّر، فكيف بالأزمنة اللاحقة التي جاهر فيها كثير من النساء بتبرجهن وزينتهن، بل نصَّ بعض الفقهاء على منع الشابات من الخروج إجماعاً، قال الكاساني الحنفي:(أجمعوا على أنه لا يرخص للشواب منهن الخروج في الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة؛ لقوله تعالى {وقرن في بيوتكن} والأمر بالقرار: نهي عن الانتقال، ولأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام) والله المستعان.

 

سابعاً: مما يجدر التنبيه عليه:

1. لا خلاف بين العلماء أن من استأذنت وليها استئذاناً عاماً أو خاصاً، فقد أدت ما عليها وجاز لها الخروج.

2. أن استئذان المرأة وليها عند الخروج لا يبيح لها غشيان المنكرات، أو التبرج أو غير ذلك، فإذن وليها لا يبيح لها الحرام.

3. إذا كان مجرد خروج المرأة من البيت محرم إلا باستئذان الولي، فلا يسوغ بعد ذلك الحديث عن حكم استئذان المرأة وليها في أمور لا يمكن القيام بها إلا بخروجها من البيت، فما بني على باطل فهو باطل، سئل الإمام مالك: أرأيت امرأة أرادت أن تتجر، ألزوجها أن يمنعها من ذلك؟ فقال: ليس له أن يمنعها من التجارة، ولكن له أن يمنعها من الخروج.

 

فمن خلال ما سبق من أدلة ودلالات واعتبارات شرعية ومقاصد كبرى، يتبين أن قرار المرأة في بيتها عزيمة شرعية، وخروجها منه رخصة تُقَدَّر بقدرها، وعند خروجها لأي مقصد شرعي أو دنيوي، فيجب عليها وجوباً استئذان وليها زوجاً كان أو أباً أو أخاً، فإن كان في خروجها فتنة أو صاحبَ ذلك تبرجاً أو أمراً منكراً، فيحرم على المرأة الخروج، ويحرم على الولي الإذن لها بذلك.

نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.

وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



[1] تفسير القرطبي (14/ 179).

[2] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 198).

[3] طرح التثريب (2/ 316).

[4] انظر: المدونة (4/ 73)، المغني (7/ 295)، المجموع (18/ 242)، الجوهرة النيرة (2/ 84).

[5]تفسير الألوسي (11/187)

[6] انظر كذلك: أحكام القرآن للجصاص (3/ 470-471)، تفسير القرطبي (14/ 179)، وابن كثير في تفسيره (6/ 363)، والمراغي في تفسيره (22/ 6) وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (10/ 28)، وابن باز في مجموع فتاويه (1/ 420) وغيرهم.

[7] بدائع الصنائع (1/ 275).

[8] انظر: المنتقى (1/ 343)، التمهيد (23/ 395)، فتح الباري لابن حجر (2/ 349)، عمدة القاري (6/ 158)، كشف اللثام (2/ 124).

[9] انظر: فتح الباري لابن حجر (2/ 349)، عمدة القارئ (6/160).

[10] فتح الباري لابن حجر (2/ 348).

[11] انظر: الإجماع ص(51)، الإقناع (1/ 202).

[12] انظر: فتح الباري (8/ 53).

[13] انظر: نيل الأوطار (4/ 345).

[14] بدائع الصنائع (2/ 311).

[15] الجوهرة النيرة (2/ 84).

[16] المدونة (4/ 73).

[17] مواهب الجليل (4/ 188).

[18] القوانين الفقهية ص(147).

[19] المجموع (18/ 242).

[20] أسنى المطالب (3/ 239).

[21] المغني (7/ 295).

[22] الإنصاف (8/ 360).

[23] شرح منتهى الإرادات (3/ 47).

[24] الفتاوى الكبرى (3/ 153).

[25] انظر : الفتوى رقم: 16720 (17/222) ، ورقم:7731 (19/372) ، ورقم :18280 (19/165) .



رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/126809/#ixzz7AQm4qsIa

حكم الانحراف عن اتجاه القبلة في الصلاة ؟

 



فتوى حول حكم الانحراف عن اتجاه القبلة في الصلاة
فقد وصلتني رسالة من أحد الخبراء في المجلس الأعلى للشؤون الدينية في تركيا، ونصها: (في الآونة الأخيرة ، كانت مزاعم بوجود الانحراف في القبلة لبعض المساجد التأريخية القديمة في بلادنا، عندما يتم فحص هذه الادعاءات، من المفهوم أن بعضها صحيح، الآن شعرنا بالحاجة إلى استشارة رأيكم القيم في هذا الشأن.
كما تعلمون ، في مصادرنا الأصلية ، هناك خلاف حول التوجه إلى عين الكعبة المشرفة أو إلى جهتها، ويذكر غالبية العلماء أن الاتجاه الى جهة الكعبة كافٍ لمن هم بعيدون عن الكعبة.
ونحن نحتاج الى رأيكم القيم حول هاتين المسألتين.
أولاً : بعد اكتشاف الانحراف في قبلة مسجد ، هل تصح الصلاة فيه مع معرفة هذا الانحراف؟ إذا كانت صحيحًة ، فكم درجة الانحراف التي يجب إعفاؤها؟
ثانياً: هل يجب على رئاسة الشؤون الدينية وهي المؤسسة المسؤولة عن إدارة المساجد أن تزيل هذا الانحراف مثلا بإعادة تصميم خطوط صحيحة للمصلين أوتوجيه المحراب إلى القبلة الصحيحة ؟ وهل هناك معدل يمكن إعفاؤه هنا؟
خلاصة الأمر هل لنا أن نقول: يكفي أن تكون محاريبنا متوجهة إلى جهة الكعبة وإن كنا نتأكد عن طريق الخرائط بأن هناك إنحرافاً مثلا 30 درجة عن عين القبلة؟
أم علينا أن نقول: إن التوجه إلى جهة القبلة كان رخصة تتعلق بصحة الصلاة التي يؤديها البعيدون عن الكعبة في زمن لا يمكن تحديد القبلة بوضوح.
وأما في يومنا -نظراً إلى أنه من الممكن تحديد عين القبلة عن طريق الخرائط- فيلزم إيلاء أقصى قدر من الاهتمام للتوجه الى عين الكعبة المشرفة, إذًا فتجب المسارعة إلى تصويب الخطأ في المساجد، وتوجيه المحراب إلى القبلة الصحيحة.
نرجو منكم الدعاء وجزاكم الله خير الجزاء)
الجواب:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه إلى يوم الدين
وبعد
أولاً: فقد اتفق الفقهاء على أن من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة ، إلاّ في حالات خاصة مثل صلاة الخوف ، وصلاة النافلة في السفر المباح( ) ؛ وذلك لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)( ) ، والأحاديث في ذلك كثيرة ، وقد نقل الإجماع على ذلك عن الكثيرين، منهم ابن حزم، وابن عبدالبر، وابن رشد، والنووي ، وابن تيمية ( ).
ثانياً: هل الواجب استبقال عين الكعبة أو جهتها ؟
لا خلاف أيضاً بين العلماء في أن المصلي إن كان مُعايناً الكعبة المشرفة ، يجب عليه أن يكون استقباله لعين الكعبة ، ولا يكتفى باستقبال جهتها( ).
وأما مَنْ كان بعيداً عن الكعبة المشرفة فالذي عليه جمهور الفقهاء ( الحنفية ، والمالكية على الأشهر ، والحنابلة ، والشافعية في قول) هو : الاكتفاء باستقبال جهة الكعبة ، ولا يشترط إصابة عينها( ).
ويدل عى ذلك قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)( ) والشطر هو : النحو ، والتلقاء، والجهة كما قال أهل اللغة والتفسير( ).
وقد أوضح حديث ابن عباس مرفوعاً الدرجات الثلاث لاستقبال القبلة ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي) ( ).
ثالثاً: حكم المساجد التي ظهر أن في قبلتها انحرافاً عن الكعبة :
وقبل أن أذكر حكم المصلين في هذه المساجد ، أرى أنه من الضروري الفرق بين مصلٍ يصلي نحو القبلة باجتهاده أو باجتهاد غيره ، ثم يظهر خطؤه، وبين أهل قرية بانَ انحراف قبلة مسجدهم؟
 خطأ المصلي :
فالأول: حكم المصلي المخطئ في استقبال القبلة، ففي هذه المسألة تفصيل واختلاف:
فقد ذهب الحنفية إلى أن المصلي الذي يشك في القبلة ولم يتحرَّ إذا ظهر له خطؤه في القبلة وهو في الصلاة فسدت صلاته، بخلاف مَنْ خُفِيَت عليه القبلة فشك فيها وتحرّى ثم ظهر له خطؤه وهو في الصلاة استدار إلى الجهة التي انتهى إليها تحرّيه ، أما إذا ظهر خطؤه بعد انتهاء الصلاة فإن صلاته صحيحة( ) ، وهذا رأي الشافعية جاء في الوسيط: ( إذا بنى عليه -أي على الاجتهاد- لم يلزمه قضاء الصلاة، إلاّ إذا تعين له الخطأ وبانَ جهة الصواب ففي وجوب القضاء قولان، أحدهما: لا يجب؛ لأنه أدّى ما كلف ، وهذا مذهب الحنفية والمزني) ( ).
وأما إذا كانت علامات القبلة ظاهرة على المجتهد أو المقلد فصلى ثم تبيّن خطؤه فيها فيجب عليه الإعادة مطلقاً عند الحنفية والمالكية ، والشافعية في قول ؛ لأنه لا عذر لأحد مع وجود الأدلة الظاهرة، أما لو كانت الأدلة خفيّة ، أو علمية مثل دقائق علوم الفلك وصور النجوم فهو معذور في الجهل بها فلا إعادة عليه( ).
وذهب الشافعية على الظاهر والحنابلة إلى أنه لو اجتهد وبذل جهده ، أو قلّد شخصاً يوثق به فلا تجب عليه الإعادة في الحالتين السابقتين؛ لأنه أتى بما هو مستطاع عنده، فلا يكلف بما هو أكثر( ).
حكم انحراف المسجد عن القبلة :
والثاني: إذا تبين لأهل قرية ، أو منطقة أن قبلة مسجدهم غير صحيحة ، ففي ذلك التفصيل الاتي:
(1) أن صلواتهم السابقة التي صلوها في ذلك المسجد صحيحة حسب ظاهر الشرع؛ لأنها لا تخرج عن صلاة المجتهد ، أو المقلد عند عدم وجود علامات ظاهرة نحو القبلة ، حيث ذهب جمهور الفقهاء إلى أن صلاتهم صحيحة ؛ لأنه أتوا بما هو المقدور عليه و (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)( ) بل تُعدُّ هذه المسألة أولى لوجود مسجد له قِبلة تواطأ عليها منذ فترة.
والدليل على ذلك أن النصوص الشرعية وسّعت في دائرة الاستقبال ، فقد اكتفى النص القرآني بوجوب الاتجاه نحو شَطْر المسجد الحرام والشطر -كما سبق- هو الجهة ، كما أن السنة المشرفة جعلت القبلة ما بين المشرق والمغرب ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) ( ) فالحديث يدل على التوسع في دائرة استقبال القبلة حتى أن مَنْ كان في المدينة أو في الشام لو اتجه نحو المسجد الحرام من خلال توجهه الواقع بين المشرق والمغرب لصحّ استقباله وصلاته، وهذا يدل أيضاً على أن قبلة أهل المشرق أو المغرب بين الجنوب والشمال ونحو ذلك.
إذن فلا ينبغي تضييق ما وسّع الله علينا .
(2) ما الذي يجب على الأشخاص الذين تبيّن لهم الخطأ بيقين؟
يجب عليهم ما يأتي:
أ- أن يتجهوا نحو القبلة حسب الأدلة الدالة على صحة التوّجه الجديد للقبلة.
ب- أن يصححوا انحْراف قبلة المسجد إذا لم يترتب عليه ضرر بالبنيان ، وإلاّ فيمكنهم الاكتفاء بالتصحيح الداخلي من خلال تغيير السجاجيد ، ووضع العلامات البارزة للتوّجه الجديد للقبلة.
(3) أما إذا كان انحراف قبلة المسجد مجرد الظنّ ، فلا يعدل ، وليس عليهم شيئ؛ لأن من القواعد الفقهية الثابتة أن الاجتهاد لا يُنْقَضُ باجتهاد مثله ، وأن الظنّ لا يُنْقَضُ بظنّ مثله، ولا سيما فإن الظنّ السابق أكده الاستصحاب الذي يستمر العمل به إلى أن يأتي اليقين المعتمد على الأدلة العلمية( ).
(4) وهناك خلاف كبير بين الفقهاء في : هل الواجب لمن هو خارج الحرم المكي الاتجاه إلى عين المسجد الحرام أم جهته؟ (وهذا الخلاف غير وارد في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم) حيث يجب الالتزام بقبلته.
فالذي يظهر رجحانه هو أن شرط الاستقبال يتحقق بالجهة ، للآية الكريمة ، ولحديث ابن عباس السابق، ولكن الأفضل هو السعي للوصول إلى عين المسجد الحرام إن أمكن ذلك.
(5) وأما ضابط الانحراف في القبلة فهو في نظري الخروج عن الشطر والجهة ، أي عن الواجهة التي تقع بين المشرق والمغرب بالنسبة لأهل المدينة والشام ومن وراءهم ، أو بين الشمال والجنوب بالنسبة لغيرهم، أي الضابط أن لا يكون المسجد الحرام خلف المصلي ، أو عن شماله بالكامل، أو عن يمينه بالكامل، وليس في مواجهته مطلقاً.
(6) بعض نصوص الفقهاء في موضوع المحراب :
قال الإمام السبكي : ( قال إمام الحرمين: ولو دخل بلدة مطروقة ، أو قرية مطروقة (غير مكة والمدينة) فيها محراب متفق عليه لم يشتهر فيه مطعن فلا اجتهاد له مع وجدان ذلك ، فإنه في حكم اليقين) ( ).
وقال الإمام النووي : (وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين بالشرط السابق فلا يجوز الاجتهاد في هذه المواضع في الجهة بلا خلاف) ( ).
وقال ابن عابدين : (قوله محاريب الصحابة والتابعين فلا يجوز التحرّي معها ، بل علينا اتباعهم ، ولا يعتمد على قول الفلكي العالم البصير الثقة أن فيها انحرافاً خلافاً للشافعية..) ( )، ثم ذكر بأن محاريب غير الصحابة والتابعين إذا ثبت انحرافها بيقين فإنها تُصحح ، وإن لم يكن بيقين بل بظنّ، فإن الظنّ لا يُنْقَضُ بظنّ) ( ). ولكن الذي يظهر رجحانه هو أن جميع المحاريب (ما عدا محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذا ظهر بالعلم خطؤه على وجه اليقين فإنه يجب تصحيحها ، لأن اجتهاد الصحابة (رضي الله عنهم) قابل للصواب والخطأ -كما ورد في السنة الثابتة-.
وقال ابن قدامة: ( وإصابة الجهة لمن بَعُدَ عنها فإن أمكنه ذلك بخبرِ ثقة عن يقين او استدلال بمحاريب المسلمين لَزِمَهُ العمل به) ( ).
وقال الدردير : (... اجتهد إلاّ محراباً لمصر من الأمصار فإنه يقلده) ( ).
وقال الخطيب الشربيني : (ولا يجوز له الاجتهاد في محاريب المسلمين، ومحاريب معظم طريقهم وقراهم القديمة إن نشأ بها قرون من المسلمين وإن صغُرت ، وخربت ، إن سلمت من الطعن، لأنها لم تُنصب إلاّ بحضرة جَمْعٍ من أهل المعرفة بالأدلة فجرى ذلك مجرى الخبر عن علم إلاّ تيامناً وتياسراً ، فيجوز ، إذْ لا يبعد الخطأ فيها، بخلافه في الجهة) ( ).
وفي عصرنا الحاضر توجد وسائل سهلة ميسورة وبخاصة لأهل العلم بالفلك والجغرافيا ، وكذلك توجد وسائل أخرى مثل البوصلة إذا ثبتت دقتها.
والخلاصة :
1- إذا انكشف الانحراف في قبلة مسجد بدليل علمي يقيني فإنه يجب التوقف عن هذا التوجه فوراً، بل إيقافه، (ولكن الصلوات السابقة صحيحة) ، ويتم الإيقاف الفوري بوضع العلامات البارزة للتوجه الجديد، وتغيير اتجاهات السجاجيد، ثم العمل على تغيير توجه المحراب إن أمكن ، وإن لم يمكن فلا مانع من الاكتفاء بالعلامات الواضحة الدالة على التوجه الصحيح نحو القبلة .
2- إن الانحراف غير المقبول هو الذي يجعل القبلة خلف المصلي أو خارج الجهة، حيث سبق أن المكلف به هو جهة القبلة للأدلة السابقة ، ولكن الأفضل هو السعي للوصول إلى دقة الاستقبال ، فشريعتنا قائمة على التيسير فقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)( ) ولذلك قال جماعة من الفقهاء بأن الخطأ في التيامن ، والتياسر (أي في المحاذاة) لا يؤثر ؛ لأن المطلوب جهة الكعبة فقال تعالى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)( ) وقال أيضاً: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)( ) .
وبناء على ذلك فإن فريضة الاستقبال تتحقق بالاتجاه إلى شطر المسجد الحرام وجهته دون الحاجة إلى استقبال عينه ، ولكن لو أمكن ذلك لكان أفضل .
3- الواجب على أولي الأمر ، ووزارات الأوقاف والشؤون الدينية الإسراع بإصلاح المحاريب البيّن خطؤها ، إما بتوجيهها إلى الاتجاه الصحيح إن أمكن ذلك، وإلاّ فيجب وضع علامات بارزة في المسجد، وإعادة خطوط صحيحة للمصلين نحو الاتجاه الصحيح.
هذا والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د. علي محيي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين