الغناء والموسيقى: حلال في مطلق الأوقات، مستحبان في الأفراح والمناسبات
إن الغناء والموسيقى من القضايا التي عني بها الفقهاء قديما وحديثا، وتباينت فيها الأنظار بين مبيح ومحرم وكاره، وألفت حولها المصنفات المطولة، والرسائل المختصرة.
فألف في ذلك، ابن قتيبة الدينوري، وأبو منصور البغدادي، وابن طاهر المقدسي، والغزالي، والأدفوي، وابن دقيق العيد... رحمهم الله، وكلهم من المبيحين.
وصنف في التحريم أو الكراهة: أبو الطيب الطبري، والطرطوشي، وابن الجوزي، والقرطبي المحدث، وابن القيم... رحمهم الله.
وفي العصر الحديث ظهرت مؤلفات كثيرة في الموضوع، فكتب العلامة القرضاوي حفظه الله من المبيحين، والعلامة الألباني رحمه الله من المحرمين.
ورغم كثرة المصنفات في الموضوع، فإنها توقع قارئها في الحيرة والاضطراب، وتترك أسئلة من غير جواب، وقد لاحظت عليها هذه الملاحظات:
أولا: يستند كل فريق إلى أدلة ضعيفة أو بعيدة عن موضوع الغناء، فترى الأولين يستدلون بنصوص قرآنية وحديثية لا علاقة لها بالقضية، وتلحظ الطرف الآخر يحتج بآيات وأحاديث لا مناسبة بينها وبين المسألة، والظاهر أن التطويل والحشو يدفع الفريقين إلى ذلك، أو هو العجز عن إقامة الأدلة، أو شيء آخر.
ثانيا: رأيت أكثر المبيحين يحتجون على الجواز المطلق، بأحاديث مقيدة بالعرس ونحوه، وبالمقابل يستند المانعون إلى نصوص خاصة بالغناء الفاحش أو غناء المشركين، فيعممون الحكم.
ثالثا: يجتهد كل فريق في عرض أدلة مذهبه، ويتعمد الإعراض عن مناقشة حجج مخالفه، وذلك قصور وإن كان له ما يبرره، وفيه إيهام بعدم وجود مستند لدى المخالف.
رابعا: إذا تعرض أحد الفريقين لحجج المعارضين، فإنه يقتصر على ذكر ما هو ضعيف، أو على ما يسهل رده بالتقييد والتخصيص ونحوهما، وذلك تدليس وتغرير!
خلاصات حول موضوع الغناء والموسيقى:
*بعد رحلة بحثية في مسألة الغناء والموسيقى، توصل العبد الفقير إلى جملة من النتائج، قلبت موقفه المتشدد من الغناء والموسيقى، وكانت كالآتي:
أولا: الغناء الطيب المقترن بآلات الموسيقى كالدف والطبل، سنة في الأعراس والأعياد والختان وقدوم الغائب، مباح في سائر الأيام والمناسبات.
ثانيا: الدف والطبل والعود والزمارة أي الناي واليراع والشبابة، آلات ثبت جوازها بأدلة خاصة، وغيرها من الآلات لم يرد بشأنه نص صحيح بالحظر أو الإباحة، فالجواز هو الأرجح، قياسا على الآلات المباحة صراحة، ولأن الأصل في غير الأمور التوقيفية هو الإباحة، وبدليل بعض الأحاديث العامة.
ثالثا: إن احتراف الغناء الهادف الخالي من المنكرات، ثم التكسب به أمر مشروع، فقد اشتهر كثير من النساء والرجال بذلك في عصر السلف الصالح، ولم يصح عن أحد منهم أي إنكار، وبعضهم كان معروفا به في أيام النبوة، كأرنب وسيرين.
رابعا: الغناء مباح للرجال والنساء على السواء، ولا يشترط فيه صغر السن، فإنه لم يثبت دليل واحد يخص قوما بالإباحة دون غيرهم، بل توفرت أحاديث وآثار صحيحة، تصرح بجوازه للجميع.
خامسا: إن أدلة المحرمين لا تنفع شيئا، فهي قسمان: قسم ضعيف أو موضوع، وقسم صحيح لكنه بعيد عن محل النزاع لأنه ينهى عن الغناء الفاحش الماجن أو الغناء الشركي.
والواقع أن أدلة الإباحة غالبها مخرج في الكتب الصحاح، أما أدلة التحريم فسائرها من المصنفات المتساهلة في الأسانيد.
سادسا: إن الغناء في المناسبات وغيرها، كان محل قبول في أيام الصحابة وكبار التابعين، فإنه لم يثبت عن أحد منهم ما يدل على منعه، بل وصلتنا عنهم أخبار صحيحة تقطع بالإباحة.
وإنما ظهر الخلاف حول الغناء في عصر أتباع التابعين، وكان ذلك نتيجة الجهل بأدلة الجواز، أو سدا للذرائع، فإن بعض الأئمة، رأوا شيوع غناء المجان، وتكاثر المخنثين، فأفتوا بحظر الغناء وآلاته حماية للمجتمع من الانحلال، حسب اجتهادهم القاصر.
سابعا: جواز الغناء بالدف في الأفراح، مذهب جماهير الفقهاء من جميع المذاهب، وإنما الخلاف القوي في غير مناسبات السرور، وهذه مسألة لا ينتبه لها الذين يتصدون للتحريم، فتراهم ينسبون إلى الأئمة التحريم المطلق، وهم مدلسون أو كاذبون أو جاهلون مقلدون.
ثامنا: لا يصح عن أحد من الأئمة الأربعة نص بتحريم الغناء الخالي من الكلام الفاحش، ولم يثبت عن أحد منهم تحريم شيء من آلات الموسيقى، إلا الطنبور وهو العود، فمحرم عند الإمام أحمد وحده.
فالأئمة الأربعة بريئون من التحريم الذي ينسبه إليهم بعض المؤلفين والخطباء!
تاسعا: إباحة الغناء الخالي من المجون والشرك، وجواز آلات الموسيقى جميعها، اختيار عشرات الأئمة المجتهدين من كل المذاهب، وهو اختيار تعضده نصوص الشريعة وقواعدها.
عاشرا: جواز الإنشاد من غير استعمال آلات الطرب، محل اتفاق الأئمة، وإنما شذ بعض المتأخرين فقيدوا الإباحة ببعض المناسبات، ونصوص الشريعة ترد عليهم بقوة.
وأخيرا: كل الفنون الغنائية مباحة، ما لم تقترن بمحرم كالمجون والعري، أو تتضمن دعوة للشرك والكفر والفجور، فالتحريم أو الكراهة يكونان لذلك، لا للغناء في حد ذاته.
إن الغناء الديني والعسكري والسياسي والاجتماعي والوطني والعاطفي العفيف...، كل ذلك مباح في الشريعة السمحة.
والأنواع الغنائية كالطرب الأندلسي، والراي، والهيب هوب، والراب، وما لم نذكر، كلها فنون مباحة ما كان كلامها خاليا من الشرك والدعوة للفجور، ولو خلت أغنية "اعطيني صاكي" من بعض الكلمات المستفزة للحياء، وأدتها المغنية باحتشام، لما كان فيها حرج شرعا، والجهل المكعب بروح الشريعة يدفع أصحابه للهيجان، فيعلنون النفير العام لأغنية تافهة شكلا ومضمونا.
والإنسان حر في ذوقه، فمن كانت موسيقى الراب أو الهيب هوب مزعجة بالنسبة إليه، فمن حقه أن يستقبحها من غير القطع بتحريمها أو كراهتها، لأن الشريعة لم توضع على حسب الأمزجة الشخصية.
ومن كان كثيف الطبع، لا يطرب لأي لون موسيقي، فله أن ينفر من الغناء، ولا يفتئت التحريم على رب الأرض والسماء.
حب الغناء فطرة ربانية في عمق النفس الإنسانية:
لقد فطر الله الإنسان على التعبير عن فرحه وسروره، وأباح له ذلك ما لم يلجأ إلى الوسائل المخلة بالدين والخلق.
وغرز الحق سبحانه في فطرة البشر الترويح عن نفوسهم، ولم يأمرهم أن يظلوا في جد وعبادة مستمرين.
ويعتبر الغناء من أقدم وسائل بني آدم للتعبير عن أفراحهم، والتخفيف من أتعابهم.
ولما جاء دين الحق، وكان من فطرة الإنسان ما تقدم، فإنه لم يصادمها، بل أكدها وأقرها، لذلك نراه يبيح للمسلمين أن يطربوا ويغنوا في مناسبات الأفراح، بل إنه يعتبر ذلك في العرس والعيد من المستحبات والقربات!
وعندما نتحدث عن الغناء هنا، فنحن نقصد الغناء البعيد عن التغني بالفحشاء، والتحريض على الفجور والموبقات.
فأغاني الشرك والمجون والفسق، محرمة قولا واحدا.
ومحل الخلاف هو الغناء الملتزم: كالأغاني الدينية، والوطنية، والسياسية، والعسكرية.
هذا النوع من الغناء هو محل مناقشة هذا المقال، وهو الذي نرفض تحريمه دفاعا عن الشريعة الوسطية، ورحمة بعموم الأمة المحمدية.
شهادات سلفية تقطع الطريق على أولي النفوس المرضية:
نحن مسبوقون إلى ما نقرره في الموضوع بأئمة الدين الكبار، فلا نخشى صراخ الأصوات المتعالية بالشتم والإنكار، بل نشفق على أصحابها من سخط العزيز الجبار، فإنه يغضب من تشديد وتشويه دين المصطفى المختار.
ونضع بين يدي المقال أقوال سلفنا تعليما وتحذيرا، واستفزازا لروح البحث والتحقيق، فمصيبتنا أننا لا نقرأ تراثنا، وإذا قرأنا انتقينا، وإذا عرفنا كتمنا، وإذا كتمنا للحق ضيعنا، وإذا ضيعنا الحق ضعنا فتضعضعنا:
ــــ التابعي الجليل أبو يوسف يعقوب بن دينار الماجشون، وهو إمام محدث ثقة من رجال الستة، سمع ابن عمر رضي الله عنهما، وكان من جلساء الخليفة عمر بن عبد العزيز، يقول الحافظ الذهبي في ترجمته من سير النبلاء5/370: قال مصعب بن عبد الله: كان يعلم الغناء، ويتخذ القيان، ظاهر أمره، وكان يجالس عروة ويجالس عمر بن عبد العزيز بالمدينة، ثم وفد عليه فقال: إنا تركناك حين تركنا لبس الخز. ثم قال الذهبي في ترجمة الإمام أبي الزناد5/445: قال أحمد بن أبي خيثمة: عن مصعب بن عبد الله قال: كان أبو الزناد فقيه أهل المدينة... وكان أبو الزناد معاديا لربيعة الرأي، وكانا فقيهي البلد في زمانهما، وكان الماجشون يعقوب ابن أبي سلمة يعين ربيعة على أبي الزناد، وكان الماجشون أول من علم الغناء من أهل المروءة بالمدينة، قال أبو الزناد... مالي وللماجشون! والله ما كسرت له كبرا ولا بربطا. هـ
ـــ وهذا الإمام إبراهيم بن سعد الجوهري الزهري، الحافظ الإمام الثقة الحجة، أخرج له الجماعة، وهو من شيوخ الإمام الشافعي، قال عنه الحافظ الذهبي في ترجمته من السير8/304: كان ثقة صادقا صاحب حديث... وكان ممن يترخص في الغناء على عادة أهل المدينة.
وقال الحافظ الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/563: كان تعاطيه الغناء وسماعه، أمرا مشهورا عنه، لم يختلف النقل فيه، وحكاه عنه الفقهاء في كتبهم، ونصبوا الخلاف معه، وحكاه عنه الشافعي في كتابه، وأجمع أهل الأخبار على نسبة ذلك إليه، وكان لا يسمع الطلبة حتى يسمعهم الغناء نشيدا ونشيطا. اهـ
قلت: قال سعيد بن كثير بن عفير: قدم إبراهيم بن سعد الزهري العراق سنة 184، فأكرمه الرشيد وأظهر بره، وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله، وأتاه بعض أصحاب الحديث ليسمع منه أحاديث الزهري، فسمعه يتغنى، فقال: لقد كنت حريصا على أن أسمع منك، فأما الآن فلا سمعت منك حديثا أبدا! فقال: إذن، فلا أفقد إلا شخصك! علي وعلي إن حدثت ببغداد ما أقمت حديثا حتى أغني قبله! وشاعت هذه عنه ببغداد، فبلغت الرشيد، فدعا به، فسأله عن حديث المخزومية التي قطعها النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة الحلي، فدعا بعود! فقال الرشيد: أعود المجمر؟ قال: لا، ولكن عود الطرب، فتبسم، ففهمها إبراهيم بن سعد فقال: لعله بلغك يا أمير المومنين حديث السفيه الذي آذاني بالأمس، وألجأني إلى أن حلفت! قال: نعم، ودعا الرشيد بعود فغناه:
يا أم طلحة إن البين قد أفدا قل الثواء إن كان الرحيل غدا
فقال الرشيد: من كان من فقهائكم يكره السماع؟ قال: من ربطه الله! قال: هل بلغك عن مالك بن أنس في هذا شيء؟ قال: لا والله! إلا أن أبي أخبرني أنهم اجتمعوا في مدعاة، كانت في بني يربوع وهم يومئذ جلة، ومالك أقلهم من فقهه وقدره، ومعهم دفوف ومعازف وعيدان يغنون ويلعبون، ومع مالك دف مربع وهو يغنيهم:
سليمى أجمعت بينا فأين لقاؤها أينا
وقد قالت لأتـراب لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طـاب لنا العيش تعالينا
فضحك الرشيد! ووصله بمال عظيم.
روى هذه القصة الخطيب في تاريخ بغداد6/84، وابن عساكر في تاريخ دمشق7/9، وسندها حسن، فيه عبيد الله بن سعيد بن عفير، تكلم فيه بعضهم بما لا يوجب الجرح، وهذه قصة وتاريخ وليست حديثا، فلا يجوز التشدد والتعنت في إسنادها.
وقد رواها أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني 2/238 عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي بإسناد صحيح.
وفي الإتحاف للزبيدي7/563 بعدما أورد رواية الخطيب: وقد ساقها ابن قتيبة بأتم من هذا السياق [وذكرها]، وكذلك ساقها الفضل بن سلمة في كتاب "ملاهي العرب". هـ
فالقصة ثابتة صحيحة رغم أنف المتنطعين.
وقال صاحب العقد الفريد 6/11: قال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي أبو يوسف القاضي: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم من شريف ولا دنيء يتحاشى عنها! فغضبت وقلت: قاتلكم الله يا أهل العراق! ما أوضح جهلكم، وأبعد من السداد رأيكم، متى رأيت أحدا سمع الغناء، فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر [يقصد النبيذ المباح عند الأحناف]؟ فيترك أحدهم صلاته... فأين هذا من هذا؟ من اختار شعرا جيدا، ثم اختار له جرما حسنا، فردده عليه، فأطربه وأبهجه، فعفا عن الجرائم، وأعطى الرغائب! فقال أبو يوسف: قطعتني، ولم يحر جوابا!
قلت: إسحاق هو الموصلي المغني الفقيه المحدث، له مؤلفات عدة في الغناء والموسيقى، وابن عبد ربه ينقل منها مباشرة، فالقصة صحيحة، ونستنتج منها وسابقتها ما يلي:
أولا: تؤكدان ما تواتر عن إبراهيم بن سعد من تعاطي الغناء وإباحته.
ثانيا: تثبتان أن إباحة الغناء وآلاته هو مذهب أهل المدينة.
ثالثا: تعضدان إباحة العود والمعازف عند السلف الأول، فإن أبا إبراهيم أدرك جماعة من الصحابة، وهذا يعني أن جماعة من التابعين كانوا حاضرين المدعاة.
رابعا: ترد القصة الأولى على من ينسب إلى الإمام مالك تحريم الغناء مطلقا.
خامسا: تبين القصة الثانية أن كثيرا من الفقهاء الكبار يمنعون أشياء بلا حجة، فأبو يوسف لم يكن لديه دليل على الإنكار، ولذلك تراجع عنه رحمه الله.
ـــ والإمام الكبير أبو محمد علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي، الحافظ المجتهد الأصولي المتفنن في العلوم النقلية والعقلية، وأحد أركان العلم بالأندلس، كان يجيد الغناء والعزف على العود، وقد دافع عن جواز الغناء وآلاته، وضعف كل حديث يحتج به المحرمون بما في ذلك حديث المعازف المعلق في صحيح البخاري، وتجد كلامه الصارم في الجزء التاسع من موسوعته "المحلى"، وفي تأليفه المستقل بعنوان: رسالة في الغناء الملهي، أمباح هو أم محظور؟
وفي ختام هذه الرسالة: قال أبو بكر عبد الباقي بن بريال الحجاري [الحجاري محدث إمام توفي سنة502] رضي الله عنه: ولقد أخبرني بعض كبار أهل زمانه أنه قال: أخذت النسخة التي فيها الأحاديث الواردة في ذم الغناء، والمنع من بيع المغنيات، وما ذكر فيها أبو محمد [ابن حزم] رضي الله عنه، ونهضت بها إلى الإمام الفقيه أبي عمر بن عبد البر، ووقفته عليها أياما، ورغبته في أن يتأملها، فأقامت النسخة عنده اياما، ثم نهضت إليه فقلت: ما صنعت في النسخة؟ فقال: وجدتها فلم أجد ما أزيد فيها وأنقص!
قلت: هذا إقرار من الإمام الحافظ الفقيه المتفنن ابن عبد البر بصواب رأي ابن حزم، وكان متأثرا به في كثير من المسائل، خالف فيها أهل مذهبه، ومنها مسألة الغناء.
ـــ وقال الإمام أبو بكر ابن العربي المعافري المالكي[ت543] في "أحكام القرآن"3/1035: أما الغناء، فإنه من اللهو المهيج للقلوب عند أكثر العلماء، منهم مالك بن أنس، وليس في القرآن ولا في السنة دليل على تحريمه، أما إن في الحديث الصحيح دليلا على إباحته، [ثم ذكر حديث عائشة وقال]، وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يوم عيد يدل على كراهية دوامه ورخصته في الأسباب كالعيد والعرس وقدوم الغائب، ونحو ذلك من المجتمعات التي تؤلف بين المفترقين والمفترقات عادة، وكل حديث يروى في التحريم أو آية تتلى فيه، فإنه باطل سندا، باطل معتقدا، خبرا وتأويلا.
ثم قال في 3/1494: فأما طبل الحرب فلا حرج فيه، لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو، وأما طبل اللهو فهو كالدف، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح، يجوز استعمالها فيه، لما يحسن من الكلام ويسلم من الرفث. وأما سماع القينات، فقد بينا أنه يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته، إذ ليس شيء منها عليه حراما، لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها، ولم يجز الدف في العرس لعينه، وإنما جاز لأنه يشهره، فكل ما أشهره جاز. هـ
ندع أقوال الأئمة، وندخل في صحيح الأدلة عن نبي الأمة، وأصحابه أولي الفهم والحكمة، فتريثوا رزقتم الصبر والرحمة.
تنبيه وإيقاظ:
أيها المتلذذون بمناجاة الله وتلاوة كتابه، استمروا على ذلك، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله على عموم الأمة، فأحكام الشريعة وضعت لهم لا لكم، واشتغلوا بالدعاء لعامة المسلمين بالرحمة والهداية.
وأنتم أيها الشباب، استمتعوا بطيبات ما أباح الله لكم، شنفوا أسماعكم بالهادف والنظيف من الغناء والموسيقى، لكن لا تنسوا كلام ربكم وتهجروه بالكلية، فالموت حق والدنيا فانية.
إن الجنة درجات ومراتب، إذا حاز السابقون المتغنون بالقرآن أعلاها، فاز المسلمون الملوثون بالخطيئات بأدناها، وذي حقيقة قرآنية ينكرها الغلاة، فيشددون الدين، ويضيقون على الفطرة والغرائز المودعة من قبل الحكيم العليم.
::::::::
::::::::
ضوابط إباحة الغناء عند الشيخ القرضاوي والشعراوي والمسير
قال الشيخ القرضاوي -وفقه الله-: اتفقوا على تحريم كل غناء يشتمل على فحش، أو فسق، أو تحريض على معصية، إذ الغناء ليس إلا كلامًا، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وكل قول يشتمل على حرام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن، والنغم، والتأثير؟ واتفقوا على إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات، والإثارة، وذلك في مواطن السرور المشروعة، كالعرس وقدوم الغائب، وأيام الأعياد، ونحوها بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها.
قال الشيخ القرضاوي -وفقه الله-: اتفقوا على تحريم كل غناء يشتمل على فحش، أو فسق، أو تحريض على معصية، إذ الغناء ليس إلا كلامًا، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وكل قول يشتمل على حرام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن، والنغم، والتأثير؟ واتفقوا على إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات، والإثارة، وذلك في مواطن السرور المشروعة، كالعرس وقدوم الغائب، وأيام الأعياد، ونحوها بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها.
ويقول: ليس كل غناء مباحًا، فلا بد أن يكون موضوعه متفقًا مع أدب الإسلام وتعاليمه. اهـ.
وأما الشيخ الشعراوي -رحمه الله- فيقول في تفسيره: ثم يقول تعالى: {فاستمع لِمَا يوحى} [طه: 13]. استمع أنْ تتكلَّف السماع، والمتكلم حُر في أنْ يتكلم أو لا يتكلم. وتسمَّع. أي: تكلّف أشدّ تكلّفاً لكي يسمع. لذلك؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حين يخبر أنه ستُعم بلوى الغِنَاء، وستنتشر الأجهزة التي ستشيع هذه البلوى، وتصبها في كل الآذان رَغْماً عنها يقول: «مَنْ تسمَّع إلى قَيْنة، صب الآنك في أذنيه» . أي: تكلَّف أنْ يسمع، وتعمَّد أن يوجه جهاز الراديو أو التلفزيون إلى هذا الغناء، ولم يقُل: سمع، وإلاّ فالجميع يناله من هذا الشر رَغْماً عنه. اهـ.
وقال في تفسير قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) لقمان: لا تقُل الغناء، لكن قُلْ: النص نفسه إنْ حثَّ على فضيلة فهو حلال، وإنْ أهاج الغرائز فهو حرام وباطل، كالذي يُشبِّب بالمرأة ويذكر مفاتنها، فهذا حرام حتى في غير الغناء، فإذا ما أضفتَ إليه الموسيقى والألحان، والتكسر والميوعة ازدادت حرمته وتضاعف إثمه. أما ما نراه الآن وما نسمعه مما يُسمُّونه غناء، وما يصاحبه من حركات ورقصات، وخلاعات، وموسيقى صاخبة، فلا شكّ في حرمته. فكل ما يُخرج الإنسان عن وقاره ورزانته، وكل ما يجرح المشاعر المهذبة فهو حرام، ثم إن الغناء صوت فإنْ خرج عن الصوت إلى أداء آخر مُهيّج، تستعمل فيه الأيدي، والأرجل، والعينان، والوسط. . الخ فهذا كله باطل ومحرم. ولا ينبغي للمؤمن الذي يملك زمام نفسه أن يقول: إنهم يفرضون ذلك علينا، فالمؤمن له بصيرة يهتدي بها، ويُميز بين الغثِّ والسمين، والحق والباطل، فكُنْ أنت حكماً على ما ترى وما تسمع، بل ما يرى وما يسمع أهلك وأولادك، وبيدك أنت الزمام إنْ شئتَ سمعتَ، وإنْ شئتَ أغلقتَ الجهاز، فلا حجة لك؛ لأن أحداً لا يستطيع أنْ يجبرك على سماع أو رؤية ما تكره.....
وأما الشيخ المسير فقال في مقاله حول الأعياد، بعد ذكر الخلاف في الغناء..،: ولكن تكمن حرمته في فحش القول، أو إثارة الغرائز، أو إظهار المفاتن ..، أو إسراف بحيث يتخذه ديدنه، ويقصر عليه أكثر أوقاته.
ثم قال: وليكن معلوماً أن الغناء المعاصر قائم على الدنس، والابتذال، وهو معول هدم للقيم، وتفتيت لبناء المجتمع ...".انتهى.
وعليه؛ فإن عامة الغناء المعاصر هو مما يأخذ حكم التحريم حتى عند المشايخ المذكورين.
ولا تعني حرمة الغناء الحكم على مستمعه، أو منشده بالنار؛ وإنما هو مستحق للوعيد، وقد تُرفع عنه العقوبة بعدة أسباب
والله أعلم.
والله أعلم.