شرح بعض أبيات البرده للإمام البوصيري رحمه الله.
التى يزعم الوهابية أنها أبيات شركيه.
#فمن_الأبيات_التي_اتهمت بالغلو، وهي من ذلك براء،
#قول صاحب البردة: محمد سيد الكونين والثقليـ ... ـن والفريقين من عرب ومن عجم والمعنى المقصود من هذا البيت هو بيان مكانة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه سيد أهل الدنيا والآخرة، وسيد الإنس والجن، وسيد العرب والعجم، وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: «أنا سيد الناس يوم القيامة». متفق عليه.
#ومنها قوله: يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم والمقصود بالحادث العمم هنا هو يوم القيامة، حين يتجه الناس إلى الأنبياء لطلب الشفاعة، كما ورد في حديث الشفاعة المتفق على صحته: «فيأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيعتذرون وكلهم يحيل على غيره، حتى يأتوا سيدنا عيسى عليه السلام فيقول: ائتوا محمدا -صلى الله عليه وآله وسلم- عبدا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: فيأتوني، فأستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، قل تسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله ثم أشفع، فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود».متفق عليه.
#ومنها قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم حيث اعترض على هذا البيت بأنه جعل الدنيا والآخرة من جود النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وجعل اللوح والقلم بعض علومه -صلى الله عليه وآله وسلم- فماذا بقي لله عز وجل من الجود والعلم وهذا الاعتراض ناشئ عن الجهل بالله تعالى؛ فإن جود الله تعالى لا ينحصر؛ لأنه لا نهاية لكرمه وجوده سبحانه ولا حد لهما، ولا ينكر كون الدنيا والآخرة من جوده صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنه الدال على الخير فيهما، لا على أنه خالق الجود، فإن هذا لا يقول به مسلم، وإنما على أن الله أجراه على يديه، فهو مقسمه والله معطيه، كما جاء في الصحيحين عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- من حديث معاوية -رضي الله عنه-: «إنما أنا قاسم والله يعطي»، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «ما أعطيكم ولا أمنعكم؛ إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت». فصح على هذا المعنى أنهما من جوده عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الرسالة" ص: 16، 17: "فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظا في دين ودنيا أو دفع بها عنا مكروه فيهما وفي واحد منهما، إلا ومحمد -صلى الله عليه- سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها، الذائد عن الهلكة وموارد السوء في خلاف الرشد، المنبه للأسباب التي تورد الهلكة، القائم بالنصيحة في الإرشاد والإنذار فيها، فصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد". اهـ.
قال شيخ الإسلام إبراهيم الباجوري الشافعي عند هذا البيت من شرحه على البردة ص132: "وفي كلامه تقدير مضاف، أي: خيري الدنيا هدايته -صلى الله عليه وآله وسلم- للناس، ومن خير الآخرة شفاعته -صلى الله عليه وآله وسلم- فيهم". اهـ.
كما أن علم الله تعالى أزلي أبدي، وهو صفة من صفات ذاته، لا حد له ولا نهاية، وتعالى أن يحيط به مخلوق: لوحا كان أو قلما، فمن المحال إحاطة المخلوق بالخالق سبحانه أو بصفة من صفاته.
#كما أن علمه تعالى غير متوقف على وجود اللوح أو القلم، فقد علمهما قبل أن يوجدهما، والذي ورد في الحديث أن الله تعالى أمر القلم أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، أي أن معلوماته مع كثرتها متناهية محصورة، فلو كانت "من" في كلام الناظم رحمه الله تعالى هنا للتبعيض وكان مراده أن اللوح والقلم بعض علومه -صلى الله عليه وآله وسلم- التي علمها إياه الله تعالى، فليس في هذا مساواة للمخلوق بالخالق أو وصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بما يختص به الله تعالى، ويمكن أن يستدل لهذا القول بالأحاديث التي أخبر فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بما هو كائن إلى يوم القيامة: فمنها ما رواه البخاري في صحيحه معلقا بصيغة الجزم عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «قام فينا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه».
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 6/ 291، ط: دار المعرفة: "ودل ذلك على أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتدئت إلى أن تفنى إلى أن تبعث؛ فشمل ذلك الإخبار عن المبدأ والمعاش والمعاد". اهـ.
ومنها ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- «أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا؛ حتى الجنة والنار».
ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: «لقد خطبنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره؛ علمه من علمه وجهله من جهله».
ومنها ما رواه أحمد بسند صحيح من حديث سمرة -رضي الله عنه- قال: «كسفت الشمس فصلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال: إني والله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم».
ومنها حديث رؤية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رب العزة جل وعلا في المنام، والذي جاء فيه قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «فرأيته وضع كفه بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت». رواه الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة والحاكم وصححه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن خزيمة والحاكم من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، ورواه الترمذي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا بلفظ: «فعلمت ما بين المشرق والمغرب»، ولفظ الدارقطني في كتاب "الرؤية" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: «فعلمت ما بين السماء والأرض»، ورواه الدارقطني في "الرؤية" أيضا والطبراني في "الدعاء" من حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي -رضي الله عنه- مرفوعا بلفظ: «فعلمت ما في السماء والأرض».
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" -ص: 40 ط: مكتبة دار الأقصى-: "وفيه دلالة على شرف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وتفضيله بتعليمه ما في السماوات والأرض وتجلي ذلك له مما تختصم فيه الملائكة في السماء وغير ذلك، كما أري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.
وقد ورد في غير حديث مرفوعا وموقوفا أنه أعطي علم كل شيء خلا مفاتيح الغيب الخمس التي اختص الله عز وجل بعلمها". اهـ.
وفي شرح هذه البيت من البردة يقول الإمام العلامة الجلال المحلي في شرحه على البردة مخطوط ق: 23 أ، ب: "ومن علومك علم اللوح والقلم يقال: إن الله تعالى أطلعه على ما كتب القلم في اللوح المحفوظ، وعلى علوم الأولين والآخرين، وهذا من جاهه عند الله تبارك وتعالى". اهـ.
ويقول شيخ الشافعية في زمنه العلامة ابن حجر الهيتمي في "العمدة في شرح البردة" -ص669، ط: دار الفقيه بالإمارات-: "ووجه كون علم اللوح والقلم من بعض علومه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن الله تعالى أطلعه ليلة الإسراء على جميع ما في اللوح المحفوظ وزاده علوما أخر؛ كالأسرار المتعلقة بذاته سبحانه وتعالى وصفاته". اهـ.
ولو نازع منازع في ذلك فغاية ما هنالك نقل هذه المسألة من حيز القطعية إلى الظنية، فلا يكفر المخالف فيها، وليس للمنازع أن ينقل المسألة من حيز الخلاف في ثبوت هذا المعنى في الكتاب والسنة أو عدم ثبوته إلى كونه شركا أو كفرا أو غلوا، على أنه يمكن أن تكون من هنا للجنس؛ أي: وعلم اللوح والقلم من جنس علومك، أي: أنهما علوم لدنية لا كسبية، ومصدرهما واحد وهو الحضرة الربانية، وحينئذ فلا ورود للاعتراض أصلا.
ومنها قوله: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم وهذا المعنى قد ورد فيه جملة أحاديث، منها: ما رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم؛ إنه لأحب الخلق إلي، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك».
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وحسنه الإمام التقي السبكي في "شفاء السقام".
وروى الديلمي في "الفردوس بمأثور الخطاب" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «أتاني جبريل فقال: قال الله: يا محمد، لولاك ما خلقت الجنة، ولولاك ما خلقت النار».
ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- بلفظ: «ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي، ولولاك يا محمد ما خلقت الدنيا».
وروى الحاكم في المستدرك وأبو الشيخ في طبقات الأصفهانيين عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- موقوفا عليه: «أوحى الله إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى، آمن بمحمد، وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به؛ فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسكن». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وهذه الأحاديث والآثار وإن كان فيها أو في بعضها ضعف إلا أن معناها صحيح، فمعنى القول بأنه لولا سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ما خلق الله الخلق هو أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[٥٦]﴾ [الذاريات: 56].
فتحقيق العبادة هي حكمة الخلق، والعبادة لا تتحقق إلا بالعابدين، فالعبادة عرض قائم بالعابد نفسه، وأفضل العابدين هو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو عنوان العبادة، وعنوان التوحيد، كما أن الآية تتكلم عن الجن والإنس ولا تتكلم عن الخلق أجمعين.
أما باقي ما في السماوات والأرض فهو مخلوق لخدمة الإنسان، قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[١٣]﴾ [الجاثية: 13].
وسيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- هو عنوان الإنسانية، بل هو الإنسان الكامل.
وقد نص على صحة هذه المقولة كثير من العلماء؛ كالعلامة ملا علي القاري والعجلوني وغيرهما من الأئمة، وممن ذكر أنها مقبولة إذا فسرت بهذه المعاني الصحيحة في الكتاب والسنة الشيخ ابن تيمية الحنبلي رحمه الله؛ حيث يقول في "مجموع الفتاوى" 11/ 96 98: "وقد ظهر فضل نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة.
ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الخلق وأكرمهم عليه؛ ومن هنا قال من قال: إن الله خلق من أجله العالم، أو: إنه لولا هو لما خلق الله عرشا ولا كرسيا ولا سماء ولا أرضا ولا شمسا ولا قمرا. ويمكن أن يفسر بوجه صحيح.
فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها، وهو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقا، ومحمد إنسان هذا العين، وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما ينكر أن يقال: إنه لأجله خلقت جميعها، وإنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل عليه الكتاب والسنة قبل ذلك". اهـ.