ربما
كانت هذه الشبهة أخبث ما يلعب به الشيوعيون لزلزلة عقائد الشباب ! .. لو كان الإسلام
صالحاً لكل عصر – كما يقول دعاته – لما أباح الرق .. وإن إباحته للرق
.. وإن إباحته للرق لدليل قاطع على أن الإسلام قد جاء لفترة محدودة ، وأنه أدى مهمته وأصبح
في ذمة التاريخ !
وإن
الشباب المؤمن ذاته لتساوره بعض الشكوك ! كيف أباح الإسلام
الرق ؟
هذا الدين الذي لا شك في نزوله من عند الله ، ولا شك في صدقه ، وفي أنه جاء لخير
البشرية كلها في جميع أجيالها .. كيف أباح الرق ؟ الدين الذي قام على
المساواة الكاملة .
الذي رد الناس جميعاً إلى أصل واحد ، وعاملهم على أساس هذه المساواة في
الأصل المشترك ..
كيف جعل الرق جزءاً من نظامه وشرع له ؟ أَوَ يريد الله للناس أن
ينقسموا أبداً إلى سادة وعبيد ؟ أَوَ تلك مشيئته في الأرض ؟ أَوَ يرضى الله للمخلوق
الذي أكرمه إذ قال :
" ولقد
كرمنا بني آدم "
أن يصير طائفة منه سلعة تباع وتشترى كما كان الحال مع الرقيق ؟ وإذا كان الله لا
يرضى بذلك ،
فلماذا لم ينص كتابه الكريم صراحة على إلغاء الرق كما نص على تحريم الخمر والميسر
والربا وغيرها مما كرهه الإسلام ؟
وإن
الشباب المؤمن ليعلم أن الإسلام دين الحق ، ولكنه كإبراهيم : " قال: أولم تؤمن ؟ قال بلى ، ولكن ليطمئن قلبي ! " .
أما
الشباب الذي أفسد الاستعمار عقله وعقائده ، فإنه لا يتلبث حتى
يتبين حقيقة الأمر ،
وإنما يميل به الهوى فيقرر دون مناقشة أن الإسلام نظام عتيق قد استنفد أغراضه !
وأما
الشيوعيون خاصة فأصحاب دعاوى " علمية " مزيفة ، يتلقونها من سادتهم
هناك ،
فينتفشون بها عجبا ً،
ويحسبون أنهم وقعوا على الحقيقة الأبدية الخالدة التي لا مراء فيها ولا جدال ، وهي المادية
الجدلية ،
التي تقسم الحياة البشرية إلى مراحل اقتصادية معينة لا معدى عنها ولا محيص . وهي الشيوعية
الأولى ،
والرق ،
والإقطاع ،
والرأسمالية ،
والشيوعية الثانية ( وهي
نهاية العالم ! ) وأن كل ما عرفته
البشرية من عقائد ونظم وأفكار ، إنما كانت انعكاساً للحالة الاقتصادية ، أو للطور الاقتصادي
القائم حينئذ ،
وأنها صالحة له ،
متلائمة مع ظروفه ،
ولكنها لا تصلح للمرحلة التالية التي تقوم
على أساس اقتصادي جديد . وأنه – من ثم – لا يوجد نظام واحد
يمكن أن يصلح لكل الأجيال . وإذا كان الإسلام قد جاء والعالم
نهاية فترة الرق ومبادئ فترة الإقطاع ، فقد جاءت تشريعاته
وعقائده ونظمه ملائمة لهذا القدر من التطور ، فاعترفت بالرق ، وأباحت الإقطاع ([1]) ! ولم يكن في طوق
الإسلام أن يسبق التطور الاقتصادي ، أو يبشر بنظام جديد لم تتهيأ بعد
إمكانياته الاقتصادية !
لأن كارل ماركس قال إن هذا مستحيل !
ونريد
هنا أن نضع المسألة في حقيقتها التاريخية والاجتماعية والنفسية ، بعيداً عن الغبار
الذي يثيره هؤلاء وأولئك ، فإذا حصلنا على حقيقة موضوعية فلا
علينا حينئذ من دعاوي المنحرفين ، و " العلماء " المزيفين !
نحن
ننظر اليوم إلى الرق في ظروف القرن العشرين ، وننظر إله في ضوء
الشناعات التي ارتكبت في عالم النخاسة ، والمعاملة الوحشية
البشعة التي سجلها التاريخ في العالم الروماني خاصة ، فنستفظع الرق ، ولا تطيق مشاعرنا
أن يكون هذا اللون من المعاملة أمراً مشروعاً يقره دين أو نظام . ثم تغلب علينا
انفعالات الاستبشاع والاستنكار فنعجب كيف أباح الإسلام الرق ، وكل توجيهاته
وتشريعاته كانت ترمي إلى تحرير البشر من العبودية في جميع ألوانها وأشكالها ، ونتمنى في حرارة
الانفعال أن لو كان الإسلام قد أراح قلوبنا وعقولنا فنص على تحريمه بالقول الصريح .
وهنا
وقفة عند حقائق التاريخ . ففظائع الرق الروماني في العالم
القديم لم يعرفها قط تاريخ الإسلام ، ومراجعة بسيطة للحالة التي كان يعيش عليها
الأرقاء في الإمبراطورية الرومانية ، كفيلة بأن ترينا النقلة الهائلة التي
نقلها الإسلام للرقيق ،
حتى لو لم يكن عمل على تحريره – وهذا غير صحيح !
كان
الرقيق في عرف الرومان " شيئا " لا بشرا . شيئا لا حقوق له
البتة ،
وإن كان عليه كل ثقيل من الواجبات . ولنعلم أولا من أين كان يأتي هذا
الرقيق .
كان يأتي من طريق الغزو . ولم يكن هذا الغزو لفكرة ولا لمبدأ .
وإنما
كان سببه الوحيد شهوة استعباد الآخرين وتسخيرهم لمصلحة الرومان .
فلكي
يعيش الروماني عيشة البذخ والترف ، يستمتع بالحمامات
الباردة والساخنة ،
والثياب الفاخرة ،
وأطايب الطعام من كل لون ، ويغرف في المتاع الفاجر من خمر ونساء
ورقص وحفلات ومهرجانات ، كان لا بد لكل هذا من استعباد الشعوب
الأخرى وامتصاص دمائها . ومصر مثل لذلك حين كانت في قبضة
الرومان ،
قبل أن يخلصها من نيرهم الإسلام. إذ كانت حقل قمح للإمبراطورية ، وموردا للأموال .
في
سبيل هذه الشهوة الفاجرة كان الاستعمار الروماني ، وكان الرق الذي نشأ
من ذلك الاستعمار .
أما الرقيق فقد كانوا – كما ذكرنا – أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر . كانوا يعملون في
الحقول وهم مصفدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من الفرار . ولم يكونوا
يُطْعَمون إلا إبقاء على وجودهم ليعملوا ، لا لأن من حقهم –
حتى كالبهائم والأشجار – أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء . وكانوا – في أثناء
العمل – يساقون بالسوط ، لغير شيء إلا اللذة الفاجرة التي
يحسها السيد أو وكيله في تعذيب هذه المخلوقات . ثم كانوا ينامون في
" زنزانات " مظلمة كريهة
الرائحة تعيث فيها الحشرات والفئران ، فيلقون فيها عشرات
عشرات قد يبلغون خمسين في الزانزانة الواحدة – بأصفادهم – فلا يتاح لهم حتى
الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة الحيوانات .
ولكن
الشناعة الكبرى كانت شيئاً أفظع من كل ذلك ، وأدل على الطبيعة
الوحشية التي ينطوي عليها ذلك الروماني القديم ، والتي ورثها عنه
الأوربي الحديث في وسائل الاستعمار والاستغلال .
تلك كانت حلقات
المبارزة بالسيف والرمح ، وكانت من أحب المهرجانات إليهم ، فيجتمع إليها السادة وعلى
رأسهم الإمبراطور أحياناً ، ليشاهدوا الرقيق يتبارزون مبارزة
حقيقية ،
توجه فيها طعنات السيوف والرماح إلى أي مكان في الجسم بلا تحرز ولا احتياط من
القتل .
بل كان المرح يصل إلى أقصاه ، وترتفع الحناجر بالهتاف والأكف
بالتصفيق ،
وتنطلق الضحكات السعيدة العميقة الخالصة حين يقضي أحد المتبارزين على زميله قضاء
كاملاً ،
فيلقيه طريحاً على الأرض فاقد الحياة !
ذلك
كان الرقيق في العالم الروماني . ولا نحتاج أن نقول شيئاً عن الوضع
القانوني للرقيق عندئذ ، وعن حق السيد المطلق في قتله وتعذيبه
واستغلاله دون أن يكون له حق الشكوى ، ودون أن تكون هناك
جهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها ، فذلك لغو بعد كل
الذي سردناه .
ولم
تكن معاملة الرقيق في فارس والهند وغيرها ، تختلف كثيراً عما
ذكرنا من حيث إهدار إنسانية الرقيق إهداراً كاملا ً، وتحميله بأثقل
الواجبات دون إعطائه حقاً مقابلها ، وإن كانت تختلف فيما بينها قليلاً أو
كثيراً في مدى قسوتها وبشاعتها .
ثم
جاء الإسلام …
جاء
ليرد لهؤلاء البشر إنسانيتهم.جاء ليقول للسادة عن الرقيق :
" بعضكم من بعض " ([2]) . جاء ليقول : "
من قتل عبده قتلناه ،
ومن جدع عبده جدعناه ،
ومن أخصى عبده أخصيناه " ([3])
. جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير : " أنتم بنو آدم وآدم من
تراب " ([4])
، وأنه لا فضل لسيد على عبد لمجرد أن
هذا سيد وهذا عبد .
وإنما الفضل للتقوى : " ألا لا فضل
لعربي على أعجمي ،
ولا لأعجمي على عربي ،
ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى " ([5])
.
جاء
ليأمر السادة أمراً أن يحسنوا معاملتهم للرقيق : " وبالوالدين
إحساناً ،
وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم
إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً " ([6])
. وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد ، أو التسخير أو التحقير ، وإنما هي علاقة
القربى والأخوة .
فالسادة " أهل " الجارية يُستأذنون في زواجها : " فمن ما ملكت
أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم . بعضكم من بعض ، فانكحوهن بإذن
أهلهن ،
وآتوهن أجورهن بالمعروف " ([7])
، وهم إخوة للسادة : " إخوانكم خولكم .. فمن كان " أخوه " تحت يده
فليطعمه مما يطعم ،
وليلبسه مما يلبس ،
ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم " ([8])
. وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " لايقل أحدكم : هذا عبدي وهذه أمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي " ([9]) . ويستند على ذلك أبو
هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري : " احمله خلفك ، فإنه أخوك ، وروحه مثل روحك " .
ولم
يكن ذلك كل شئ .
ولكن ينبغي قبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية أن نسجل القفزة الهائلة التي قفزها
الإسلام بالرقيق في هذه المرحلة .
لم
يعد الرقيق " شيئاً " . وإنما صار بشراً له
روح كروح السادة .
وقد كانت الأمم الأخرى كلها تعتبرالرقيق جنساً آخر غير جنس السادة ، خلق ليستعبد ويستذل ، ومن هنا لم تكن
ضمائرهم تتأثم من قتله وتعذيبه وكيه بالنار وتسخيره في الأعمال القذرة والأعمال
الشاقة ([10])
. ومن هنالك رفعه الإسلام إلى مستوى الأخوة الكريمة ، لا في عالم المثل
والأحلام ،
بل في عالم الواقع .
ويشهد التاريخ ـ الذي لم ينكره أحد ، حتى المتعصبون من كتاب أوربا ـ بأن معاملة الرقيق
في صدر الإسلام بلغت حداً من الإنسانية الرفيعة لم تبلغه في أي مكان آخر . حداً جعل الرقيق
المحررين يأبون مغادرة سادتهم السابقين ـ مع أنهم يملكون ذلك بعد أن تحرروا
اقتصادياً وتعودوا على تحمل تبعات أنفسهم ـ لأنهم يعتبرونهم أهلاً لهم ، يربطهم بهم ما يشبه
روابط الدم !
وأصبح الرقيق كائناً إنسانياً له كرامة يحميها القانون ، ولا يجوز الاعتداء
عليها بالقول ولا بالفعل . فأما القول فقد نهى صلى الله عليه
وسلم السادة عن تذكير أرقائهم بأنهم أرقاء . وأمرهم أن يخاطبوهم
بما يشعرهم بمودة الأهل وينفي عنهم صفة العبودية ، وقال لهم في معرض
هذا التوجيه :
" إن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم " ([11])
فهي إذن مجرد ملابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقاً ، وكان من الممكن أن
يكونوا سادة لمن هم اليوم سادة ! وبذلك يغض من كبرياء هؤلاء ، ويردهم إلى الآصرة
البشرية التي تربطهم جميعاً ، والمودة التي ينبغي أن تسود علاقات
بعضهم ببعض .
وأما الاعتداء الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة بالمثل : " ومن قتل
عبده قتلناه ..
" وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانية بين الرقيق والسادة ، وصريح في
بيان الضمانات التي يحيط بها حياة هذه الطائفة من البشر ـ التي لا يخرجها وضعها
العارض عن صفتها البشرية الأصيلة ـ وهي ضمانات كاملة ووافية ، تبلغ حداً عجيباً
لم يصل إليه قط تشريع آخرمن تشريعات الرقيق في التاريخ كله ، لا قبل الإسلام ولا
بعده ،
إذ جعل مجرد لطم العبد في غير تأديب ( وللتأديب حدود مرسومة
لا يتعداها ولا يتجاوز على أي حال ما يؤدب به السيد أبناءه ) مبرراً شرعياً
لتحرير الرقيق .
* *
*
ثم
ننتقل إلى المرحلة التالية ، مرحلة التحرير الواقعي .
لقد
كانت الخطوة السابقة في الواقع تحريراً روحياً للرقيق ، برده إلى الإنسانية
ومعاملته على أنه بشر كريم لا يفترق عن السادة من حيث الأصل ، وإنما هي ظروف
عارضة حدت من الحرية الخارجية للرقيق في التعامل المباشر مع المجتمع ، وفيما عدا هذه
النقطة كانت للرقيق كل حقوق الآدميين .
ولكن
الإسلام لم يكتف بهذا ،
لأن قاعدته الأساسية العظمى هي المساواة الكاملة بين البشر ، وهي التحرير الكامل
لكل البشر .
ولذلك عمل فعلاً على تحرير الأرقاء ، بوسيلتين كبيرتين : هما العتق
والمكاتبة .
فأما
العتق فهو التطوع من جانب السادة بتحرير من في يدهم من الأرقاء ، وقد شجع الإسلام
على ذلك تشجيعاً كبيراً ، وكان الرسول الكريم صلى الله عليه
وسلم القدوة الأولى في ذلك إذ أعتق من عنده من الأرقاء ، وتلاه في هذا
أصحابه ،
وكان أبو بكر ينفق أموالاً طائلة في شراء العبيد من سادة قريش الكفار ، ليعتقهم ويمنحهم
الحرية ؛ وكان بيت المال
يشتري العبيد من أصحابهم ويحررهم كلما بقيت لديه فضلة من مال . قال يحيى بن سعيد : " بعثني عمر بن عبد
العزيز على صدقات إفريقية ، فجمعتها ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم
نجد فقيراً ولم نجد من يأخذها منا ، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ، فاشتريت بها عبيداً
فأعتقتهم".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق من الأرقاء
من يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة ، أويؤدي خدمة مماثلة
للمسلمين .
ونص القرآن الكريم على أن كفارة بعض الذنوب هي عتق الرقاب . كما كان النبي صلى
الله عليه وسلم يحث على العتق تكفيراً عن أي ذنب يأتيه الإنسان ، وذلك للعمل على
تحرير أكبر عدد ممكن منهم، فالذنوب لا تنقطع ، وكل ابن آدم خطاء
كما يقول الرسول .
ويحسن هنا أن نشير إشارة خاصة إلى إحدى هذه الكفارات لدلالتها الخاصة في نظرة
الإسلام إلى الرق ،
فقد جعل كفارة القتل الخطأ دية مسلمة إلى أهل القتيل وتحرير رقبة : " ومن قتل
مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله " ([12]) .
والقتيل الذي قتل خطأ هو روح إنسانية قد
فقدها أهلها كما فقدها المجتمع دون وجه حق ، لذلك يقرر الإسلام
التعويض عنها من جانبين : التعويض لأهلها بالدية المسلمة لهم ، والتعويض للمجتمع
بتحرير رقبة مؤمنة !
فكأن تحرير الرقيق هو إحياء لنفس إنسانية تعوض النفس التي ذهبت بالقتل الخطأ . والرق على ذلك هو
موت أو شبيه بالموت في نظر الإسلام ، على الرغم من كل الضمانات التي أحاط
بها الرقيق ،
ولذلك فهو ينتهز كل فرصة " لإحياء " الأرقاء
بتحريرهم من الرق ([13]) !
ويذكر
التاريخ أن عدداً ضخماً من الأرقاء قد حرر بطريق العتق ، وأن هذا العدد
الضخم لا مثيل له في تاريخ الأمم الأخرى ، لا قبل الإسلام ، ولا بعده بقرون عدة
حتى مطلع العصر الحديث . كما أن عوامل عتقهم كانت إنسانية بحتة ، تنبع من ضمائر
الناس ابتغاء مرضاة الله ، ولاشيء غير مرضاة الله .
أما
المكاتبة ،
فهي منح الحرية للرقيق متى طلبها بنفسه ، مقابل مبلغ من
المال يتفق عليه السيد والرقيق . والعتق هنا إجباري لا يملك السيد رفضه
ولا تأجيله بعد أداء المبلغ المتفق عليه . وإلا تدخلت الدولة ( القاضي أو الحاكم ) لتنفيذ العتق
بالقوة ،
ومنح الحرية لطالبها .
وبتقرير
المكاتبة ،
فتح في الواقع باب
التحرير في الإسلام ،
لمن أحس في داخل نفسه برغبة التحرر ، ولم ينتظر أن يتطوع سيده بتحريره في
فرصة قد تسنح أو لا تسنح على مر الأيام .
ومنذ
اللحظة الأولى التي يطلب فيها المكاتبة ـ والسيد لا يملك رفض المكاتبة متى طلبها
الرقيق ،
ولم يكن في تحريره خطر على أمن الدولة الإسلامية ـ يصبح عمله عند سيده بأجر ، أو يتاح له ـ إذا
رغب ـ أن يعمل في الخارج بأجر ، حتى يجمع المبلغ المتفق عليه.
ومثل
ذلك قد حدث في أوربا في القرن الرابع عشر ـ أي بعد تقرير
الإسلام له بسبعة قرون ـ مع فارق كبير لم يوجد في غير الإسلام ، وهو كفالة الدولة
للأرقاء المكاتبين ـ وذلك إلى جانب مجهود الإسلام الضخم في عتق الأرقاء تطوعاً بلا
مقابل ،
تقرباً إلى الله ووفاء بعبادته .
تقول
الآية التي تبين مصارف الزكاة : " إنما الصدقات
للفقراء والمساكين والعاملين عليها ... وفي الرقاب … " ([14])
فتقرر أن الزكاة تصرف من بيت المال ـ وهو الخزانة العامة في العرف الحديث ـ
لمعاونة المكاتبين من الأرقاء لأداء ثمن التحرير ، إذا عجزوا بكسبهم
الخاص عن أدائه .
وبهذا
وذاك يكون الإسلام قد خطا خطوات فعليه واسعة في سبيل تحرير الرقيق ، وسبق بها التطور
التاريخي كله بسبعة قرون على الأقل ، وزاد على هذا التطور عناصر – كرعاية الدولة –
لم يفىء
إليها العالم إلا في مطلع تاريخه الحديث . وعناصر أخرى لم يفىء إليها أبداً ، سواء في حسن معاملة
الرقيق ،
أو في عتقه تطوعاً ،
بغير ضغط من التطورات الاقتصادية أو السياسية التي اضطرت الغرب اضطراراً لتحرير
الرقيق كما سيجيء .
وبهذا وذاك تسقط حذلقة الشيوعيون ودعاواهم
" العلمية " الزائفة ، التي تزعم أن الإسلام حلقة من حلقات
التطور الاقتصادي جاءت في موعدها الطبيعي حسب سنة المادية الجدلية – فها هي ذي قد
سبقت موعدها بسبعة قرون – والتي تزعم أن كل نظام - بما في ذلك الإسلام - إن هو إلا انعكاس للتطور
الاقتصادي القائم وقت ظهوره ، وأن كل عقائده وأفكاره تلائم هذا التطور
وتستجيب له ،
ولكنها لا تسبقه ،
ولا تستطيع أن تسبقه ،
كما قرر العقل الذي لا يخطىء ولا يأتيه الباطل من فوقه ولا من تحته ، عقل كارل مارس
تقدست ذكراه !
فها هو ذا الإسلام لم يعمل بوحي النظم الاقتصادية القائمة حينئذ في جزيرة العرب
وفي العالم كله ،
لا في شأن الرقيق ،
ولا في توزيع الثروة ،
ولا في علاقة الحاكم بالمحكوم ، أو المالك بالأجير ([15])
، وإنما كان ينشئ نظمه الاجتماعية والاقتصادية تطوعاً وإنشاء على نحو غير مسبوق ، ولا يزال في كثير
من أبوابه متفرداً في التاريخ .
وهنا
يخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر : إذا كان الإسلام قد
خطا هذه الخطوات كلها نحو تحرير الرقيق ، وسبق بها العالم
كله متطوعاً غير مضطر ولا مضغوط عليه ، فلماذا لم يخط
الخطوة الحاسمة الباقية ، فيعلن في صراحة كاملة إلغاء الرق من
حيث المبدأ ؟
وللإجابة
على هذا السؤال ينبغي أن ندرك حقائق اجتماعية ونفسية وسياسية أحاطت بموضوع الرق ، وجعلت الإسلام يضع
المبادئ الكفيلة بتحرير الرقيق ، ويدعها تعمل عملها على المدى الطويل .
يجب
أن نذكر أولاً أن الحرية لا تمنح وإنما تؤخذ . وتحرير الرقيق
بإصدار مرسوم كما يتخيل البعض لم يكن ليحرر الرقيق ! والتجربة الأمريكية
في تحرير الرقيق بجرة قلم على يد أبراهام لنكولن خير شاهد لما نقول ، فالعبيد الذين
حررهم لنكولن ـ من الخارج ـ بالتشريع ، لم يطيقوا الحرية ، وعادوا إلى سادتهم
يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا ، لأنهم ـ من الداخل
ـ لم يكونوا قد تحرروا بعد .
والمسألة
على غرابتها ليست غريبة حين ينظر إليها على ضوء الحقائق النفسية . فالحياة عادة . والملابسات التي
يعيش فيها الإنسان هي التي تكيف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية ([16])
. والكيان النفسي للعبد يختلف عن الكيان النفسي للحر ، لا لأنه جنس آخر
كما ظن القدماء ،
ولكن لأن حياته في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات ، فتنمو أجهزة الطاعة
إلى أقصى حد ،
وتضمر أجهزة المسؤولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد ..
فالعبد
يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده ، فلا يكون عليه إلا
الطاعة والتنفيذ .
ولكنه لا يحسن شيئاً تقع مسؤوليته على نفسه ، ولو كان أبسط
الأشياء ،
لا لأن جسمه يعجز عن القيام بها ، ولا لأن
فكره – في جميع الأحوال - يعجز عن فهمها ؛ ولكن لأن نفسه لا تطيق احتمال تبعاتها ، فيتخيل فيها
أخطاراً موهومة ،
ومشكلات لا حل لها ،
فيفر منها إبقاء على نفسه من الأخطار !
ولعل
الذين يمعنون النظر في الحياة المصرية ـ والشرقية ـ في العهود الأخيرة يدركون أثر
هذه العبودية الخفية التي وضعها الاستعمار الخبيث في نفوس الشرقيين ليستعبدهم
للغرب. يدركونها في المشروعات المعطلة التي لا يعطلها ـ في كثير من الأحيان ـ إلا
الجبن عن مواجهة نتائجها ! والمشروعات المدروسة التي لا تنفذها
الحكومات حتى تستقدم خبيراً انجليزياً أو أمريكياً ([17])
.. الخ .
ليحتمل عنها مسؤولية المشروع ويصدر الإذن بالتنفيذ ! والشلل المروع الذي
يخيم على الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر ، لأن أحداً من
الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما يأمره به " السيد " الموظف الكبير ، وهذا بدوره لا يملك
إلا إطاعة " السيد " الوزير ، لا لأن هؤلاء
جميعاً يعجزون عن العمل ، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم
معطل وجهاز الطاعة عندهم متضخم ، فهم أشبه شيء
بالعبيد ،
وإن كانوا رسمياً من الأحرار !
هذا
التكيف النفسي للعبد هو الذي يستعبده . وهو ناشىء في أصله
من الملابسات الخارجية بطبيعة الحال ، ولكنه يستقل عنها ، ويصبح شيئاً قائماً
بذاته كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض ، ثم يمد جذوراً خاصة
به ويستقل عن الأصل .
وهذا التكيف النفسي لا يذهب به إعلان تصدره الدولة بإلغاء الرق . بل ينبغي أن يغير
من الداخل ،
بوضع ملابسات جديدة تكيف المشاعر على نحو آخر ، وتنمي الأجهزة الضامرة في نفس
العبد ،
وتصنع كياناً بشرياً سوياً من كيانه المشوه الممسوخ .
وذلك
ما صنعه الإسلام
فقد
بدأ أولا بالمعاملة الحسنة للرقيق . ولا شيء كحسن المعاملة يعيد توازن
النفس المنحرفة ،
ويرد إليها اعتبارها ،
فتشعر بكيانها الإنساني ، وكرامتها الذاتية ، وحين ذلك تحس طعم
الحرية فتتذوقه ،
ولا تنفر منه كما نفر عبيد أمريكا المحررون .
وقد
وصل الإسلام في حسن المعاملة ورد الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة ضربنا
أمثلة منها من قبل في آيات القرآن وأحاديث الرسول ، ونسرد هنا أمثلة
أخرى في التطبيق الواقعي .
كان
الرسول صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة العرب . فآخى بين بلال بن
رباح وخالد بن رويحة الخثعمي ، وبين مولاه زيد وعمه حمزة ، وبين خارجة بن زيد
وأبي بكر ،
وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقية تعدل رابطة الدم وتصل إلى حد الاشتراك في الميراث !
ولم
يكتف بهذا الحد …
فقد
زوج بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد . والزواج مسألة
حساسة جداً وخاصة من جانب المرأة ، فهي تقبل أن تتزوج من يفضلها مقاماً
ولكنها تأبى أن يكون زوجها دونها في الحسب والنسب والثروة ، وتحس أن هذا يحط من
شأنها ويغض من كبريائها . ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان
يهدف إلى معنى أسمى من كل ذلك وهو رفع الرقيق من الوهدة التي دفعته إليها البشرية
الظالمة إلى مستوى أعظم سادة العرب من قريش .
ولم
يكتف كذلك بهذا الحد .
فقد
أرسل مولاه زيداً على رأس جيش فيه الأنصار والمهاجرون من سادات العرب ، فلما قتل ولى ابنه
أسامة بن زيد قيادة الجيش ، وفيه أبو بكر وعمر وزيرا الرسول
وخليفتاه من بعده ، فلم يعط المولى بذلك مجرد المساواة الإنسانية ، بل أعطاه حق
القيادة والرئاسة على " الأحرار " . ووصل في ذلك إلى أن
يقول : " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ، ما أقام فيكم كتاب
الله تبارك وتعالى ([18])
" .
فأعطى الموالي بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة ، وهو ولاية أمر
المسلمين .
وقد قال عمر وهو يستخلف : " لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً
لوليته "
فيسير على نفس المبدأ الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم . ويضرب عمر مثلاً
آخر من الأمثلة الرائعة على احترام الموالي ؛ إذ يعارضه بلال بن
رباح في مسألة الفيء فيشتد في معارضته ، فلا يجد سبيلاً في
رده إلا أن يقول : " اللهم اكفني
بلالاً وأصحابه "
! ذلك وهو الخليفة الذي كان يملك ـ لو أراد ـ أن يأمر فيطاع!
هذه
النماذج التي وضعها الإسلام كان المقصود بها تحرير الرقيق من الداخل ـ كما قلنا في
مبدأ هذا الفصل ـ لكي يحس بكيانه فيطلب الحرية ، وهذا هو الضمان
الحقيقي للتحرير .
وصحيح
أنه شجع على العتق وحث عليه بكل الوسائل ، ولكن هذا نفسه كان
جزءاً من التربية النفسية للرقيق ، لكي يشعروا أن في إمكانهم أن يحصلوا
على الحرية ويتمتعوا بكل ما يتمتع به السادة من حقوق ، فتزداد رغبتهم في
الحرية ويتقبلوا احتمال التبعات في سبيلها ، وهنا يسارع في
منحها لهم ،
لأنهم حينئذ مستحقون لها ، قادرون على صيانتها .
وفرق
كبير بين النظام الذي يشجع الناس على طلب الحرية ويهيء لها الوسائل ، ثم يعطيها لهم في
اللحظة التي يطلبونها بأنفسهم ، وبين النظم التي تدع الأمور تتعقد
وتتحرج ،
حتى تقوم الثورات الاقتصادية والاجتماعية وتزهق الأرواح بالمئات والألوف ، ثم لا تعطي الحرية لطلابها إلا
مجبرة كارهة .
وقد
كان من فضائل الإسلام الكبرى في مسألة الرقيق ، أنه قد حرص على
التحرير الحقيقي له من الداخل والخارج ، فلم يكتف بالنية
الطيبة كما فعل لنكولن بإصدار تشريع لا رصيد له في داخل
النفوس ؛
مما يثبت عمق إدراك الإسلام للطبيعة البشرية ، وفطنته إلى خير
الوسائل لمعالجتها .
وهذا إلى جانب تطوعه بإعطاء الحقوق لأصحابها ، مع تربيتهم على
التمسك بها واحتمال تبعاتها ـ على أساس الحب والمودة بين جميع طوائف المجتمع ـ قبل
أن يتصارعوا من أجل هذه الحقوق ، كما حدث في أوربا ، ذلك الصراع البغيض
الذي يجفف المشاعر ويورث الأحقاد . فيفسد كل ما يمكن أن تصيبه البشرية من
الخير في أثناء الطريق .
والآن
نتحدث عن العامل الأكبر الذي جعل الإسلام يضع الأساس لتحرير الرقيق ثم يدعه يعمل
عمله من خلال الأجيال .
لقد
جفف الإسلام منابع الرق القديمة كلها ، فيما عدا منبعاً
واحداً لم يكن يمكن أن يجففه ، وهو رق الحرب . ولنأخذ في شيء من
التفصيل .
كان
العرف السائد يومئذ هو استرقاق أسرى الحرب أو قتلهم ([19])
. وكان هذا العرف قديماً جداً ، موغلاً في ظلمات التاريخ ، يكاد يرجع إلى
الإنسان الأول ،
ولكنه ظل ملازماً للإنسانية في شتى أطوارها .
وجاء الإسلام والناس على هذا الحال . ووقعت بينه وبين أعداءه الحروب ، فكان الأسرى المسلمون يسترقون عند أعداء
الإسلام ، فتسلب حرياتهم ، ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم
الذي كان يجري يومئذ على الرقيق ، وتنتهك
أعراض النساء لكل طالب ،
يشترك في المرأة الواحدة الرجل وأولاده وأصدقاؤه من يبغي الاستمتاع منهم ، بلا ضابط ولا نظام ، ولا احترام لإنسانية أولئك النساء أبكاراً
كن أم غير أبكار . أما الأطفال – إن
وقعوا أسرى – فكانوا ينشأون في ذل العبودية البغيض .
عندئذ
لم يكن جديراً بالمسلمين أن يطلقوا سراح من يقع في أيديهم من أسرى الأعداء . فليس من حسن السياسة أن تشجع عدوك
عليك بإطلاق أسراه ، بينما أهلك وعشيرتك
وأتباع دينك يسامون الخسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء .
والمعاملة بالمثل هنا هي أعدل قانون تستطيع
استخدامه ، أو هي القانون الوحيد . ومع ذلك فينبغي
أن نلاحظ فروقاً عميقة بين الإسلام وغيره من النظم في شأن الحرب وأسرى الحرب .
كانت
الحروب – وما تزال – في غير العالم الإسلامي لا يقصد بها إلا الغزو والفتك
والاستعباد . كانت تقوم على رغبة أمة في قهر غيرها
من الأمم ، وتوسيع رقعتها على حسابها ، أو لاستغلال مواردها وحرمان أهلها
منها ؛ أو لشهوة شخصية تقوم في نفس ملك أو
قائد حربي ، ليرضي غروره الشخصي وينتفش كبراً
وخيلاء ، أو لشهوة الانتقام .. أو ما إلى ذلك من الأهداف الأرضية
الهابطة . وكان الأسرى الذين يسترقون ، لا يسترقون لخلاف في عقيدة ، ولا لأنهم في مستواهم الخلقي أو
النفسي أو الفكري أقل من آسريهم ،
ولكن فقط لأنهم غلبوا في الحرب .
وكذلك
لم تكن لهذه الحرب تقاليد تمنع من هتك الأعراض أو تخريب المدن المسالمة , أو قتل النساء والأطفال والشيوخ ، وذلك منطقي مع قيامها لغير عقيدة ولا
مبدأ ولا هدف رفيع.
فلما
جاء الإسلام أبطل ذلك كله ،
وحرم الحروب كلها . إلا أن تكون جهاداً
في سبيل الله .. جهاداً لدفع اعتداء عن المسلمين ، أو لتحطيم القوى الباغية التي تفتن
الناس عن دينهم بالقهر والعنف .
أو لإزالة القوى الضالة التي تقف في سبيل الدعوة وإبلاغها للناس ليروا الحق
ويسمعوه .
(
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ،
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) ([20]) .
( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين
كله لله ) ([21]) .
فهي
دعوة سلمية لا تكره أحداً :
( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من
الغي ) ([22])
وبقاء اليهود والمسيحيين في العالم الإسلامي على دينهم حتى اللحظة برهان قاطع لا
يقبل الجدل ولا المماحكة ،
يثبت أن الإسلام لم يكره غيره على اعتناقه بقوة السيف ([23]) .
فاذا
قبل الناس الإسلام ، واهتدوا إلى دين
الحق ، فلا حرب ولا خصومة ولا خضوع من أمة
لأمة ، ولا تمييز بين مسلم ومسلم على وجه
الأرض ، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى .
فمن
أبى الإسلام وأراد أن يحتفظ بعقيدته في ظل النظام الإسلامي – مع إيمان الإسلام
بأنه خير من هذه العقيدة وأقوم سبيلاً – فله ذلك دون إكراه ولا ضغط ، على أن يدفع الجزية مقابل حماية
الإسلام له ، بحيث تسقط الجزية أو ترد إن عجز
المسلمون عن حمايته ([24])
فإن أبوا الإسلام والجزية فهم إذن معاندون متبجحون ،
لا يريدون للدعوة السلمية أن تأخذ طريقها ،
وإنما يريدون أن يقفوا بالقوة المادية في
طريق النور الجديد يحجبونه عن عيون قوم ربما اهتدوا لو خلي بينهم وبين النور .
عند
ذلك فقط يقوم القتال ، ولكنه لا يقوم بغير
إنذار أو إعلان ، لإعطاء فرصة أخيرة لحقن
الدماء ونشر السلم في ربوع الأرض :
( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على
الله ) ([25]) .
تلك
هي الحرب الإسلامية ، لا تقوم على شهوة
الفتح ولا رغبة الاستغلال ،
ولا دخل فيها لغرور قائد حربي أو ملك مستبد ،
فهي حرب في سبيل الله وفي سبيل هداية
البشرية ،
حين تخفق الوسائل السلمية كلها في هداية الناس .
ولها
مع ذلك تقاليد ؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته: " اغزوا
باسم الله في سبيل الله .
قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغدروا
ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ً " ([26]) .
فلا
قتل لغير المحارب الذي يقف بالسلاح يقاتل المسلمين ،
ولا تخريب ولا تدمير ولا هتك للأعراض ،
ولا إطلاق لشهوة الشر والإفساد :
( إن الله لا يحب المفسدين ) .
وقد
راعى المسلمون تقاليدهم النبيلة هذه في كل حروبهم ،
حتى في الحروب الصليبية الغادرة ،
حين انتصروا على عدوهم الذي كان في جولة سابقة قد انتهك الحرمات واعتدى على المسجد
الأقصى فهاجم المحتمين فيه بحمى الله – رب الجميع – وأسال دماءهم فيه أنهاراً ، فلم ينتقموا لأنفسهم حين جاءهم النصر ، وهم يملكون الإذن من الدين ذاته
بالمعاملة بالمثل : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما
اعتدى عليكم ) ([27]) .
ولكنهم ضربوا المثل الأعلى الذي يعجز عنه غير المسلمين في كل الأرض حتى العصر
الحديث .
ذلك
فارق أساسي في أهداف الحرب وتقاليدها بين المسلمين وغير المسلمين . وقد كان الإسلام يملك لو أراد – والحق
يسنده في ذلك – أن يعتبر من يقع في يديه من الأسرى – ممن يعاندون الهدى ويصرون على
وثنيتهم الهابطة وشركهم المخرف – قوماً ناقصي الآدمية ،
ويسترقهم بهذا المعنى وحده .
فما يصر بشر على هذه الخرافة – بعد إذ يرى النور – إلا أن يكون في نفسه هبوط أو في
عقله انحراف ، فهو ناقص في كيانه البشري ، غير جدير بكرامة الآدميين ، وحرية الأحرار من بني الإنسان .
ومع
ذلك فإن الإسلام لم يسترق الأسرى لمجرد
اعتبار أنهم ناقصون في آدميتهم ،
وإنما لأنهم – وهذه حالهم – قد جاءوا يعتدون على حمى الإسلام ، أو وقفوا بالقوة المسلحة يحولون بين
الهدى الرباني وبين قلوب الناس .
وحتى
مع ذلك فلم يكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى .
فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أسرى بدر من المشركين منًّا بغير فداء ،
وأطلق بعضهم لقاء فدية ،
وأخذ من نصارى نجران جزية ورد إليهم أسراهم ،
ليضرب بذلك المثل لما يريد أن تهتدي إليه البشرية في مستقبلها .
ومما
هو جدير بالإشارة هنا أن الآية الوحيدة التي تعرضت لأسرى الحرب : ( فإما
منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) ([28])
لم تذكر الاسترقاق للأسرى ،
وإنما ذكرت الفداء وإطلاق السراح دون مقابل ،
حتى لا يكون الاسترقاق تشريعاً دائماً للبشرية ولا ضربة لازب ، إنما هو أمر يلجأ إليه الجيش الإسلامي
المحارب إذا اقتضته الظروف والملابسات .
يضاف
إلى ذلك أن الأسرى الذين كانوا يقعون
في يد الإسلام كانوا يعاملون تلك المعاملة الكريمة التي وصفناها من قبل ، ولا يلقون الهوان والتعذيب ، وكان يفتح أمامهم باب التحرر حين تسعى
نفوسهم إليه وتحتمل تبعاته ،
وإن كان معظمهم في الواقع لم يكن حراً قبل أسره ،
إنما كان من الرقيق الذي استرقه الفرس والرومان ودفعوه إلى قتال
المسلمين .
فكأن
الأمر في الحقيقة لم يكن استرقاقاً
من أجل الاسترقاق . ولا كان الرق أصلاً
دائماً يهدف الإسلام إلى المحافظة عليه ،
فاتجاه الإسلام إلى تحرير الرقيق هو الاتجاه البارز الذي تشير كل الدلائل إليه .
وإنما
هو وضع موقوت يؤدي في النهاية إلى التحرير .
تقوم الحرب بين
المسلمين وأعداء الإسلام فيقع بعض الأسرى من الكفار في يد المسلمين، فيصبحون – في
بعض الحالات ، لا في كل الحالات ولا بصورة حتمية –
رقيق حرب ، فيعيشون فترة من الزمن في جو المجتمع
الإسلامي ، يبصرون عن كثب صورة العدل الرباني
مطبقاً في واقع الأرض ، وتشملهم روح
الإسلام الرحيمة بحسن معاملتها واعتباراتها
الإنسانية ، فتتشرب أرواحهم بشاشة الإسلام ، وتتفتح
بصائرهم للنور .. وعندئذ يحررهم الإسلام بالعتق في بعض
الأحيان ، أو بالمكاتبة إن تاقت نفوسهم إلى
الحرية وسعوا إليها .
وبذلك
تصبح الفترة التي يقضونها في الرق في
الحقيقة فترة علاج نفسي وروحي ،
قوامه إحسان المعاملة لهم ، وإشعارهم بآدميتهم المهدرة ، وتوجيه أرواحهم إلى النور الرباني
بغير إكراه .. ثم في النهاية يكون التحرير ..
وذلك
كله في حالة الاسترقاق .
وليست هي السبيل الوحيد الذي يسلكه الإسلام ،
كما يتضح من آية التشريع ،
ومن السلوك العملي للرسول صلى الله عليه وسلم في مختلف الغزوات .
أما
النساء فقد كرمهن - حتى في رقهن - عما كن يلقين في غير بلاد الإسلام . فلم تعد أعراضهن نهباً مباحاً لكل
طالب على طريقة البغاء ( وكان
هذا هو مصير أسيرات الحروب في أغلب الأحيان )
وإنما جعلهن ملكاً لصاحبهن وحده ،
لا يدخل عليهن أحد غيره ،
وجعل من حقهن نيل الحرية بالمكاتبة ،
كما كانت تحرر من ولدت لسيدها ولداً ويحرر معها ولدها ،
وكن يلقين من حسن المعاملة ما أوصى به الإسلام .
* *
*
تلك
قصة الرق في الإسلام : صفحة مشرفة في
تاريخ البشرية . فالإسلام لم يجعل الرق أصلاً من أصوله ، بدليل أنه سعى إلى تحريره بشتى الوسائل ، وجفف منابعه كلها لكي لا يتجدد ، فيما عدا المنبع الواحد الذي ذكرناه
وهو رق الحرب المعلنة للجهاد في سبيل الله .
وقد رأينا أن الرق فيها ليس ضربة لازب ،
وأنه – إن حدث – فلفترة موقوتة تؤدي في النهاية إلى التحرير ..
أما
ما حدث في بعض العهود الإسلامية من الرق في غير أسرى الحروب الدينية ، ومن نخاسة واختطاف
وشراء لمسلمين لا يجوز استرقاقهم أصلاً ،
فإن نسبته إلى الإسلام ليست أصدق ولا أعدل من نسبة حكام المسلمين اليوم إلى
الإسلام بما يرتكبونه من موبقات وآثام !
وينبغي
أن نجعل بالنا إلى عدة أمور في هذا الموضوع .
الأول : هو تعدد منابع الرق عند الدول الأخرى
بغير ضرورة ملجئة سوى شهوة الاستعباد ،
من استرقاق أمة لأمة ، وجنس لجنس ، واسترقاق للفقر . واسترقاق بالوراثة من الميلاد في طبقة
معينة ، واسترقاق بسبب العمل في الأرض إلخ ، وإلغاء هذه المنابع كلها في الإسلام ، فيما عدا المنبع الوحيد الذي شرحنا
ظروفه من قبل .
والثاني : أن أوربا مع تعدد موارد الرق فيها
بغير ضرورة ، لم تلغ الرق حين ألغته متطوعة ، وكتابهم يعترفون بأن الرق ألغي حين
ضعف إنتاج الرقيق – لسوء أحوالهم المعيشية وفقدان الرغبة أو القدرة على العمل –
بحيث أصبحت تكاليف العبد من إعاشة وحراسة أكثر من إنتاجه ! ! فهي إذن حسبة اقتصادية لا غير ، يحسب فيها المكسب والخسارة ، ولا ظل فيها لأي معنى من المعاني
الإنسانية التي تشعر بكرامة الجنس البشري ،
فتمنح الرقيق حريته من أجلها ! هذا بالإضافة إلى الثورات المتتابعة
التي قام بها الرقيق فاستحال معها دوام استرقاقه .
ومع
ذلك فإن أوربا حينئذ لم تمنحه الحرية .
ولكنها حولته من رقيق للسيد إلى رقيق للأرض ،
يباع معها ويشترى ، ويخدم فيها ، ولا يجوز له أن يغادرها ، وإلا اعتبر آبقاً وأعيد إليها بقوة
القانون مكبلاً بالسلاسل مكوياً بالنار .
وهذا اللون من الرق هو الذي بقي حتى حرمته الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر ، أي بعد أن قرر الإسلام مبدأ التحرير
بما يزيد على ألف ومائة عام .
والأمر
الثالث : أنه لا يجوز أن تخدعنا الأسماء . فقد ألغت الثورة الفرنسية الرق في
أوربا ، وألغى
لنكولن الرق في أمريكا ،
ثم اتفق العالم على إبطال الرق ..
كل ذلك من الظاهر . وإلا فأين هو الرق
الذي ألغي ؟ وما اسم ما يحدث اليوم في كل أنحاء
العالم ؟ وما اسم الذي كانت تصنعه فرنسا في
المغرب الإسلامي ؟ وما اسم الذي تصنعه
أمريكا في الزنوج ،
وانجلترا في الملونين في جنوب افريقيا ؟
أليس
الرق في حقيقته هو تبعية قوم لقوم آخرين ،
وحرمان طائفة من البشر من الحقوق المباحة للآخرين ؟
أم هو شيء غير ذلك ؟ وماذا يعني أن يكون
هذا تحت عنوان الرق ، أو تحت عنوان
الحرية والإخاء والمساواة ؟
ماذا تجدي العناوين البراقة إذا كانت الحقائق التي وراءها هي أخبث ما عرفته
البشرية من الحقائق في تاريخها الطويل ؟
لقد
كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس فقال :
هذا رق ، وسببه الوحيد هو كذا ، والطريق إلى التحرر منه مفتوح .
أما
الحضارة الزائفة التي نعيش اليوم في أحضانها ،
فلا تجد في نفسها هذه الصراحة ،
فهي تصرف براعتها في تزييف الحقائق وطلاء
اللافتات البراقة . فقتل مئات الألوف في
تونس والجزائر والمغرب لغير شيء سوى أنهم يطالبون بالحرية والكرامة الإنسانية : حريتهم في أن يعيشوا في بلادهم بلا
دخيل ، وأن يتكلموا لغتهم ، ويعتقدوا عقيدتهم ، ولا يخدموا إلا أنفسهم . وحريتهم في التعامل المباشر مع العالم
في السياسة والاقتصاد ... قتل هؤلاء الأبرياء
وحبسهم في السجون القذرة بلا طعام ولا ماء ،
وانتهاك أعراضهم والسطو على نسائهم ،
وقتلهن بلا مبرر وشق بطونهن للتراهن على
نوع الجنين .. هذا اسمه في القرن العشرين حضارة
ومدنية ونشر لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة .
أما المعاملة المثالية الكريمة التي كان يمنحها الإسلام للرقيق قبل ثلاثة عشر
قرناً ، تطوعاً منه وإكراماً للجنس البشري في
جميع حالاته ، مع إعلانه العملي بأن الرق وضع مؤقت
وليس حالة دائمة ، فهذا اسمه تأخر
وانحطاط وهمجية .
وحين
يضع الأمريكان على فنادقهم ونواديهم لافتات تقول :
" للبيض فقط "
أو تقول في وقاحة كريهة :
" ممنوع دخول السود والكلاب " ،
وحين يفتك جماعة من البيض " المتحضرين " بواحد من الملونين ، فيطرحونه أرضاً ويضربونه بأحذيتهم حتى
يسلم الروح ، ورجل الشرطة واقف لا يتحرك ولا يتدخل ، ولا يهم لنجدة أخيه في الوطن وفي
الدين واللغة
. فضلاً عن الأخوة في
البشرية ، كل ذلك لأنه – وهو ملون – تجرأ فمشى
إلى جانب فتاة أمريكية بيضاء لا عرض لها – وبإذنها لا كرها عنها – يكون هذا هو
أقصى ما وصل إليه القرن العشرون من التحضر والارتفاع .
أما
حين يتهدد العبد المجوسي عمر بالقتل ،
ويفهم عنه عمر ذلك ، ثم لا يحبسه ولا ينفيه
من الأرض ، ولا نقول يقتله ، وهو مخلوق ناقص الآدمية حقا لأنه يعبد
النار ويصر على عبادتها تعصباً منه للباطل بعد أن رأى الحق بعينيه ، فما أشد همجية عمر ، وما أشد ازدراءه لكرامة الجنس البشري
لأنه قال: " تهددني العبد " ! ثم تركه حراً حتى ارتكب جريمته فقتل خليفة المسلمين ، لأنه لم يكن يملك عليه سلطاناً قبل أن
يقترف الجريمة .
وقصة
الملونين في أفريقيا ، وحرمانهم من حقوقهم
البشرية وقتلهم أو " اصطيادهم " حسب تعبير الجرائد الإنجليزية الوقحة ، لأنهم تجرأوا فأحسوا بكرامتهم وطالبوا
بحريتهم ، هذا هو العدل البريطاني في قمته ، والحضارة الإنسانية في أوجها ، والمبادئ السامية التي تجيز لأوربا
الوصاية على العالم . أما الإسلام فهو
همجي جداً لأنه لم يتعلم " اصطياد " البشر ،
والتلهي بقتلهم لأنهم سود البشرة .
بل وصل توغله في التأخر والانحطاط أن يقول : " اسمعوا
وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ..
"
* *
*
أما
المرأة فلها حساب آخر .
كان
الإسلام قد أباح للسيد أن يكون عنده عدد من الجواري من
سبى الحرب ([29])
يستمتع بهن وحده ، ويتزوج منهن
أحياناً إذا شاء . وأوربا تستنكر هذا
اليوم وتتعفف عن هذه الحيوانية البشعة التي تعتبر الجواري متاعاً مباحاً ، وأجساداً لا حرمة لها ولا كرامة ، كل مهمتها في الحياة إشباع لذة بهيمية
بغيضة ، لرجل لا يرتفع عن مستوى الحيوان .
وجريمة
الإسلام الحقيقية في هذا الأمر أنه لا يبيح البغاء !
فقد كانت أسيرات الحرب في البلاد الأخرى يهوين إلى حمأة الرذيلة بحكم أنه لا عائل
لهن ، ولأن سادتهن لا يشعرن نحوهن بحمية
العرض ، فيشغلونهن في هذه المهمة البغيضة ، ويكسبون من هذه التجارة القذرة : تجارة الأعراض . ولكن الإسلام – المتأخر – لم يقبل
البغاء ، وحرص على حفظ المجتمع نظيفاً من
الجريمة ، فقصر هؤلاء الجواري على سيدهن ، عليه إطعامهن وكسوتهن وحفظهن من
الجريمة ، وإرضاء حاجتهن الجنسية – عرضاً – وهو
يقضي حاجته .
أما
ضمير أوربا فلا يطيق هذه الحيوانية ... ولذلك
أباحت البغاء ومنحته رعاية القانون وحمايته !
وراحت تنشره عامدة في كل بلد وطئته أقدامها مستعمرة .
فما الذي تغير من الرق حين تغير عنوانه ؟
وأين كرامة البغي وهي لا تملك رد طالب – وما يطلبها أحد إلا لأقذر معنى يمكن أن
تهبط إليه البشرية : دفعة الجسد الخالصة
التي لا تلطفها عاطفة ، ولا ترتفع بها روح ؟ وأين من هذه القذارة الحسية والمعنوية
ما كان بين السادة والجواري في الإسلام ؟
لقد
كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس ،
فقال : هذا رق .
وهؤلاء جوار . وحدود معملتهن هي كذا وكذا . ولكن الحضارة المزيفة لا تجد في نفسها
هذه الصراحة ، فهي لا تسمي البغاء رقا ، وإنما تقول عنه إنه " ضرورة اجتماعية " !
ولماذا
هو ضرورة ؟
لأن
الرجل الأوربي المتحضر لا يريد أن يعول أحداً :
لا زوجة ولا أولاداً . يريد أن يستمتع دون
أن يحتمل تبعة .
يريد جسد امرأة يفرغ فيه شحنة الجنس .
ولا يعنيه من تكون هذه المرأة ، ولا
تعنيه مشاعرها نحوه ولا مشاعره نحوها .
فهو جسد ينزو كالبهيمة ،
وهي جسد يتلقى هذه النزوة بلا اختيار ،
ويتلقاها لا من واحد بعينه ،
ولكن من أي عابر سبيل .
هذه
هي " الضرورة " الاجتماعية التي تبيح استرقاق النساء
في الغرب في العصر الحديث .
وما هي بضرورة لو ارتفع الرجل الأوربي إلى مستوى " الإنسانية "
ولم يجعل لأنانيته كل هذا السلطان عليه .
والدول
التي ألغت البغاء في الغرب المتحضر لم تلغه لأن
كرامتها أوجعتها ، أو لأن مستواها
الخلقي والنفسي والروحي قد ارتفع عن الجريمة .
كلا ! ولكن لأن الهاويات قد أغنين عن
المحترفات . ولم تعد الدولة في حاجة إلى التدخل !
وبعد
ذلك يجد الغرب من التبجح ما يعيب به نظام الجواري في الإسلام ، ذلك النظام الذي كان قبل ألف وثلثمائة
عام – وعلى أنه نظام غير مطلوب له الدوام – أكرم بكثير وأنظف بكثير من النظام الذي
يقوم اليوم في القرن العشرين ،
وتعتبره المدنية نظاماً طبيعيا ً،
لا يستنكره أحد ، ولا يسعى في تغييره أحد ، ولا يمانع أحد في أن يظل باقياً إلى
نهاية الحياة!
ولا
يقل قائل إن هؤلاء " الهاويات "
يتطوعن دون إكراه من أحد وهن مالكات لحريتهن الكاملة .
فالعبرة بالنظام الذي يدفع الناس بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
والفكرية والروحية إلى قبول الرق أو الوقوع فيه .
ولا شك أن " الحضارة " الأوربية هي التي تدفع إلى البغاء
وتقره ، سواء كان البغاء الرسمي أو بغاء
المتطوعات الهاويات !
تلك
قصة الرق في أوربا حتى القرن العشرين :
رق الرجال والنساء والأمم والأجناس. رق متعدد المنابع متجدد الموارد ، في غير ضرورة ملجئة ، اللهم إلا خسة الغرب وهبوطه عن
المستوى اللائق لبني الإنسان .
ودع
عنك استرقاق الدولة الشيوعية لأفراد شعبها حتى لا يملك أحدهم حرية اختيار العمل
الذي يريده ، ولا المكان الذي يعمل فيه ، واسترقاق أصحاب رؤوس الأموال للعمال
في الغرب الرأسمالي حتى لا يملك أحدهم سوى اختيار السيد الذي يستعبده .
دع
عنك هذا وذاك ، فقد تجد المجادلين عنه والمنافحين . ويكفي ما سردناه من ألوان الرق
الصارخة الصريحة ، التي تتم باسم
المدنية وباسم التقدم الاجتماعي !
ثم انظر هل تقدمت البشرية في أربعة عشر قرناً ،
بعيداً عن وحي الإسلام ،
أم إنها ظلت تنحدر وتتأخر ،
حتى لتحتاج اليوم إلى قبس من هدي الإسلام ،
يخرجها مما هي فيه من الظلام ؟ !
([10])
يعتقد الهنود أن الرقيق (المنبوذين)
خلقوا من قدم الإله ،
ومن ثم فهم بخلقتهم حقراء مهينون ، ولا يمكن أن يرتفعوا عن هذا الوضع
المقسوم لهم إلا بتحمل الهوان والعذاب ، عسى أن تنسخ
أرواحهم بعد الموت في مخلوقات أفضل ! وبذلك تضاف إلى لعنة الوضع السيِّئ الذي يعيشون فيه
لعنة أخرى روحية تقضي عليهم أن يرضوا بالذل ولا يقاوموه .
قال في صفحة 58 :
" وكذلك حدث أن سجل في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة
للحيرة : فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا " وقال : " فلما علم أبو
عبيدة قائد العرب بذلك ( بتجهيز هرقل لمهاجمته ) كتب إلى عمال المدن المفتوحة في
الشام يأمرهم بأن يردوا عليهم ما جبي من الجزية من هذه المدن ، وكتب إلى الناس
يقول : " إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع . وإنكم
قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك . وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم
ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق