الرد على شبهة الذود عن الحوض
السؤال: شيخنا بالرغم من تواتر الآيات البيّنات والاحاديث الشريفة في فضل الصحابة الكرام واثبات عدالتهم ، نرى من يثير الشبهات عليهم، ومثال ذلك حديث الطرد الحوض الذي في الصحيح ، وفيه أن من الصحابة من يدفع عن الحوض لانهم بدلوا وغيروا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما جواب العلماء عنه؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فان الحديث المذكور صحيح روي في الصحيحين
وفي غيرهما وبالفاظ مختلفة منها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليرِدنّ عليّ ناسٌ من أصحابي الحوض، حتى عرفْتُهُمُ اخْتُلِجوا دوني فأقول: أُصيحابي، فيقول: لا تَدْري ما أحدثوا بعدك)).
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنّي على الحوض حتى انظر مَنْ يَرِد عليّ منكم، وسيؤخذ ناسٌ دوني، فأقول: يا ربّ! منّي ومن أُمتي؟ فيُقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما بَرِحوا يرجعون على أعقابهم)).وفي رواية أخرى: ((يرد عليّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي، فيُجلون عن الحوض))، وفي رواية : ((فإذا زُمرةٌ حتى إذا عرفتهم)).وغيرها من الألفاظ.
وقبل بيان ردود العلماء على هذه الشبهة لا بد من بيان معنى الصحابي لغة واصطلاحا :
فالصحابي في اللغة : قال الفيروز آبادي: "استصحبه: أي دعاه إلى الصحبة ولازمه.
وقال الجوهري: "والصحابة بالفتح: الأصحاب، وهي في الأصل مصدر، وأصْحَبْتُهُ الشيء: جعلته له صاحباً، واستصحبته الكتاب وغيره، وكل شيء لاءم شيئاً فقد استصحبه".
… يقال: صحبت فلاناً حولاً ودهراً وسنة وشهراً ويوماً وساعة، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيره، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار . [ينظر: القاموس المحيط (1/95)، الصحاح (1/161) باختصار].
واصطلاحا: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني[ 1/7-9ٍ] : (وأصح ما وقفت عليه من ذلك؛ أن الصحابي من لقي النبيَّ عليه الصلاة والسلام مؤمناً به، ومات على الإسلام؛ فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى).
و(مؤمنًا به) تعني من لقي النبيّ عليه الصلاة والسلام مؤمنا بالله وبرسوله ايمانا حقا، و(مات على الإسلام) تعني أن من أسلم ثم ارتد ومات على الكفر فليس من الصحابة كعُبيد الله بن جحش الذي كان زوج أم المؤمنين أم حبيبة؛ فإنه أسلم وهاجرا معًا إلى الحبشة ثم ارتد هو وتنصر ومات على نصرانيته.
وعدالة الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم عند جماهير المسلمين - من مسائل العقيدة القطعية التي لا يصلها أيُّ شك، وهي مما عُلِمَ من الدِين بالضرورة؛ لأنهم نَقَلة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والطعن في عدالتهم يستوجب الطعن بالوحيين، وهو مما اتفق عليه أئمة الإسلام ونقَّاد الحديث، ولا يُعرف من طعن فيهم، وشكك في عدالتهم إلاَّ الشُّذَّاذ من أصحاب الأهواء والفرق الضالة المنحرفة ممن لا يُلتفت إلى أقوالهم، ولا يُعتد بها في خلاف ولا وفاق.
وليس المقصود بعدالة الصحابة رضي الله عنهم أنهم معصومون من الذنوب، فهذا لم يقل به أحد من العلماء من السلف والخَلف، فقد تقع من بعضهم الهفوات والزلات، ولكن المقصود بعدالتهم هو: تمام الثقة بأقوالهم وأخبارهم، فلا يتعمدون الكذب في شهادتهم، ولا في أخبارهم، ولا يتعمدون الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، لانهم هم من روى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي رواه الامام البخاري في صحيحه: ((إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ ليسَ كَكَذِبٍ علَى أَحَدٍ، مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ )).
ونحن مأمورون بالتجاوز عن ما وقع منهم وحدث بينهم ولا نخوض فيه لقوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }، ولقوله عليه الصلاة والسلام في معجم الطبراني وصححه الالباني : ((إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا...)) ، وكذلك مأمورون بسلامة قلوبنا واستغفارنا لهم، كما قال تعالى بعد ذكره للمهاجرين والأنصار: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:10].
واما الجواب عن هذه الروايات الصحيحة في الذود عن الحوض يوم القيامة فللعلماء في تأويلها أقوال كثيرة منها:
1- إن لفظ الصحابي المراد هنا هو معناه اللغوي لا الاصطلاحي الشرعي ، فالنبيّ عليه الصلاة والسلام اطلق لفظ الصحابة عليهم عرفا ولغة فيشمل ذلك المنافق والمرتد ، فيحتمل أن يريد النبيّ عليه الصلاة والسلام المنافقين الذين لم يعرفهم أو لم يظهر له نفاقهم، وقد قال تعالى له: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}[التوبة :101]، وإن كان يعلم غالبهم بالصفات التي وصفهم الله بها؛ والدليل على ذلك: أن رأس المنافقين وهو عبد الله بن أبيِّ بن سلول لما قال: أقد تداعَوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث - يعني: عبدَ الله بن أُبَي بن سلول - فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)) رواه البخاري . فسماه عليه الصلاة والسلام من أصحابه وهو رأس المنافقين، فهو قطعا غير داخل في الاصطلاح الشرعي للصحابة الكرام رضوان الله عنهم والذي يشترط فيه الحياة والموت على الايمان الحقيقي بالله تعالى والايمان به -صلى الله عليه واله وسلم- والذين وعدهم الله تعالى بالحسنى والخلود في الجنات، وبهذا يحصل الجمع بين الروايات.
كما وان اللفظ في الاحاديث السابقة قد ورد بعمومه دون تعيين لأحد من الصحابة الكرام ، ومع ذلك فقد حمّله المشككون والمبتدعة على بعض الصحابة بعينهم دون غيرهم ، بهتانا وزورا بدون دليل وبرهان سوى الأهواء والأحقاد على الصحابة الكرام الجيل المثالي والذي لم ولن تشهده الارض بعد الا ان يشاء الله تعالى ، والذي تولى تربيته واعداده اعظم مربٍ ومعلمٍ في تاريخ البشرية سيدنا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه واله وسلم-.
2- قيل إنهم أناسٌ ممن أسلموا ولم يحسن إسلامهم، كأولئك الذين في أطراف الجزيرة وحصلت الردة منهم بعد ذلك، أو الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام، وقد قاتل الصحابة رضي الله عنهم هؤلاء في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومن المعلوم أنه قَدِمَ على النبيِّ عليه الصلاة والسلام بعد فتح مكة عشراتُ الوفود بالإسلام من قومهم، وأن الذين شهدوا حجة الوداع مع النبيّ عليه الصلاة والسلام يتجاوز عددهم مائة ألف واكثر، فاطلق عليهم لفظ الصحبة لغة لا اصطلاحا لانهم لم يموتوا على الايمان، وهذا القول من أعدل الأقوال وأحسنها.
3- ان المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في لفظ : ((يا ربّ! منّي ، ومن أُمتي ))، ولفظ ((منّي )) قد يُفهم منه انهم من أهل البيت –رضي الله عنه- فهل الحديث يشملهم؟! اطلاقا وبلا ادنى شك لا يشملهم ، وانما يحمل لفظ (مني) أي من امتي، من أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، ويجوز أن يذادوا عقوبة لهم، ثم يرحمهم الله تعالى فيدخلهم الجنّة برحمته سبحانه لانهم تحت المشيئة الالهية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَاءُ }.
4- في بعض الفاظ الحديث قوله : ((فإذا رهط)) ولم يقل: فإذا أكثر أصحابي، والرهط في اللغة من ثلاثة إلى عشرة، فدل على أن الذين يمنعون عن الحوض قليل، ومثله يقال في قوله: ((فإذا زمرة)). وقوله : ((اصيحابي)) للتقليل والتصغير وتدل على جمع القلة
وقد تدل على القلة في الصحبة وليس العدد كما صرح بذلك العلماء.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري [11/385 ] : (ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصديق، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي حَتَّى قُتِلُوا وَمَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَبِيصَةَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَرْتَدَّ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا ارْتَدَّ قوم من جُفَاة الاعراب مِمَّن لا نصرة لَهُ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الصَّحَابَةِ الْمَشْهُورِينَ وَيَدُلُّ قَوْلُهُ : "أُصَيْحَابِي" بِالتَّصْغِيرِ عَلَى قِلَّةِ عَدَدِهِمْ).
وقال الامام النووي في شرح مسلم [3/136 ]: (هذا مما ختلف العلماء في المراد منه على أقوال: أحدها: أن المراد به المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيما التي عليهم فيقال ليس هؤلاء ممن وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.
والثاني: أن المراد من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعده فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم فيقال ارتدوا بعدك.
والثالث: أن المراد أصحاب المعاصي الكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار، بل يجوز أن يذادوا عقوبة لهم ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب.
قال أصحاب هذا القول ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل ويحتمل أن يكون كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده لكن عرفهم بالسيما، وقال الحافظ ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الهوى ، قال: وكذلك الظلمة المترفون في الجور وطمس الحق المعلنون بالكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر والله اعلم).
ولهذا تواترت الايات البيّنات الكثيرات في القران الكريم والاحاديث الشريفة الصحيحة في فضل الصحابة والترضي عنهم وغفران ذنوبهم وتبشرهم بالجنان والرضوان دون استثناء ، فكيف يجوز أن يرضى الله سبحانه وتعالى عن الصحابة ويحمدهم ويوعدهم بالجنة والاجر العظيم ، ويضرب لهم مثلاً في التوراة والإنجيل : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ}[الفتح:29 ]، وهو يعلم أنهم يرتدون على أعقابهم بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟! إلا أن يقول المشككون : إنه لم يعلم وهذا هو الكفر المبين.
الخلاصة:
وبعد هذا العرض لأقوال العلماء – جزاهم الله خيرا- وتوجيههم وشرحهم لهذه الاحاديث، يظهر للعقلاء والمنصفين واصحاب القلوب السليمة ؛ أن حديث الذود عن الحوض لا يشمل الصحابة الكرام او أي واحد منهم ، فهم من أبعد الناس عن ذلك، بل هم أعداء المنافقين والمبتدعين والمرتدين بعد وفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام ،الذين قاتلوهم وحاربوهم في أصعب الظروف وأحرجها في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وقدموا التضحيات من أجل الحفاظ على الدِين والامة من الردة، بل هم أولى الناس بحوض نبيهم عليه الصلاة والسلام لحسن صحبتهم له في حياته، وقيامهم بأمر الدِين ونشره والحفاظ عليه بعد وفاته حتى وصل الينا كاملا تاما من غير نقص ولا تقصير فجزاهم الله عنا خيرا. والله تعالى اعلم
د. ضياء الدين عبدالله الصالح