الخميس، 18 مايو 2017

هل يجوز إطلاق ( دين المساواة ) على دين الإسلام ... ؟!!

لمن يسأل ماهو الفرق بين العدل والمساواه

إطلاق ( دين المساواة ) على دين الإسلام خطأ
Difference between Justice and Equality
 اعتقد بان الفرق بين الكلمتين واضح جدا من خلال ما توضحه الصورتين فالصورة الاولى تقدم معنى المساواه وما نتج عنها والصورة الثانية تقدم معنى العدل وما نتج عنه ودعونا نتعجب سويا من الاتى ان قرأننا الكريم استخدم دائما كلمتى العدل والقسط بينما لم يستخدم كلمة المساواه وبينما الغرب ومنظمات المجتمع المدنى التى تقدم لنا افكار الغرب لا تستخدم ابدا كلمة العدل بل تستخدم كلمة المساواة دائما أبدا 


 لو تأملت أكثر ما في القرآن تجد نفي المساواة:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}[الحديد:10] ،{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:95] ،{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}[الرعد:16]
وما أشبه ذلك، فأكثر ما في القرآن نفي للمساواة فيما بينهما اختلاف.
في القرآن العدل:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ}[النحل:90]{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة:8] >

 وفرق بين العدل والمساواة، لو أخذنا بظاهر كلمة المساواة لقلنا: الذكر والأنثى سواء كما ينادي به الآن المتفرجون، لكن إذا قلنا العدل أعطينا الذكر ما يستحق والأنثى ما تستحق.

 ولهذا نرجو من إخواننا الكتاب وغير الكتاب أن ينتبهوا إلى هذه النقطة؛ لأن كلمة المساواة أدخلها بعض المعاصرين، والله أعلم كيف أدخلوها، قد يكون عن سوء فهم، وقد يكون لسبب آخر، إنما الدين دين العدل، والعدل إعطاء كل أحد ما يستحق"
 جاء دين الإسلام بكلمة هي خير من كلمة «المساواة»؛ وليس فيها احتمال أبداً، وهي «العدل» ، كما قال الله تعالى:{إن الله يأمر بالعدل}[النحل: 90] ؛ وكلمة «العدل» تعني أن يسوى بين المتماثلين، ويفرق بين المفترقين؛ لأن «العدل» إعطاء كل شيء ما يستحقه.

 والحاصل: أن كلمة «المساواة» أدخلها أعداء الإسلام على المسلمين؛ وأكثر المسلمين - ولا سيما ذوو الثقافة العامة - ليس عندهم تحقيق، ولا تدقيق في الأمور، ولا تمييز بين العبارات؛ ولهذا تجد الواحد يظن هذه الكلمة كلمة نور تحمل على الرؤوس: «الإسلام دين مساواة»! ونقول: لو قلتم: «الإسلام دين العدل» لكان أولى، وأشد مطابقة لواقع الإسلام"

نجد أيضاً في تفسير سورة الحديد :"{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} دين الإسلام دين العدل في العمل والجزاء، وانتبه دين العدل في العمل والجزاء وليس كما يقول المحدَثون: «إنه دين المساواة» ، هذا غلط عظيم، لكن يتوصل به أهل الآراء والأفكار الفاسدة إلى مقاصد ذميمة.

فالمساواه فى أبسط صورها ان أعطى لأبنى طالب الجامعه مصروفا مثلما أعطى لأبنى الذى عمره خمس سنوات فهذا ليس عدلا اطلاقا كما انه من الطبيعى من ناحية المساواة ان أحمل كلاهما نفس المسؤليات وهذا ايضا ليس عدلا
كما أطلب من المرأه ان تبذل مثلما يبذله الرجل بدنيا ونفسيا كما ان المجتمع سيعطى كلا منهما مثلما يعطى الأخر

يا لا العجب ان المساواه فى ان يطلب من المرأه ان تبذل ما يبذله الرجل نفسيا وبدنيا انه اطلاقا ليس عدلا كما ان تساوى عطاء المجتمع لهما أيضا ليس عدلا ولنا هنا مثال صارخ وهو تساوى كلاهما فى فرص العمل لقد أتت علينا بكوارث عظمى لا يمكن حصرها لقد اخذت النساء نصف فرص العمل تقريبا وتعالوا نرى النتائج وهى بطاله كبيرة لدى الشباب وما ينتج عنه من تدمير الروح المعنويه لجزء من الشباب وانحراف جزء اخر سواء كان للمخدرات او للجنس او كلاهما او للجريمه او للنصب لكسب لقمه عيش كما ينتج أيضا تعطل حركة الزواج فى المجتمع الذى يرى الى الان ان الرجل هو المسؤل الاول ماديا عن تأسيس البيت والانفاق عليه وبالتالى ينتج أيضا درجة كبيرة من العنوسه بين الرجال والنساء والتى هى أيضا كارثه نفسيه على البنت حتى وان كانت تعمل وأخذت فرصة العمل من رجل كان سيتزوجها ويستقرا معا فحتى بعد ان أخذت هى الفرصه فانها أيضا غير سعيده ولا مستقرة ولعل من اهم نواتج عدم الزواج ايضا التى يراها الكل علاقات محرمه يحتاج اليها كلا الطرفين وحتى بعد الزواج قد يكون دخل المرأه اكبر من دخل الرجل او قد تكون المرأه تعمل والرجل لا يعمل وهذه كلها نماذج نراها ونرى تأثيرها السلبى على العلاقة بينهما وعلى المجتمع ككل يا لها من كوارث كامله جاءت من مبدأ سامى روجه الغرب لنا وهو المساواة

تعالوا نرى مبدأ العدل انه يقدم لنا نموذج وهو ان فى ظروف كهذه ان العدل يقر بأن الحق فى فرصة العمل فى هذه الظروف الصعبة تكون للرجل فان عمل كل الرجال تزوج واستقر كل الرجال والنساء واستقام المجتمع عن وضعنا الحالى

فها هى المساواه ذلك المبدأ الغربى الذى روج له بيننا بشده حتى تلاشت الكلمه الأشمل والأهم وهى العدل ولا أعتقد اطلاقا ان هذا من سبيل الصدفه بل هى مقصودة ومدروسه من قبل من روج للفكرة فحتى فى الغرب الى فترة قريبه جدا كان أجر المرأه العامله أقل من أجر الرجل اعتبارا لالتزاماته التى لا تخفى على أحد فأنا أقصد ان الغرب المنادى بهذه الافكار نفسه لم يكن يتعامل بها الى فترة وجيزة

ولعل هذا يوضح لنا بعض مما يحيكه الغرب لنا من أفكار مسمومة تبدو فى ظاهرها قيمه وساميه ولكنها تحمل فى طياتها أسواء كوارث يمكن ان يمر بها مجتمع ومن هنا فعلينا ان لا نتبع ما يقولون تتبعا اعمى بل يكون لنا فكرنا ومنظورنا الخاص من خلال اعمال عقولنا نحن او نستمع لمن لهم عقل او حتى نقارن ونحلل بين ما يروجه الغرب من خلال الاعلام او من خلال منظمات المجتمع المدنى التى ينفق عليها ملايين الدولارات سنويا فنقارن بين ما يروجه الغرب وبين مبادئنا التى كانت سبب فى تقدم هذه الأمه لأكثر من الف سنه على العالم كله

جواب لمن يسأل عن فقه الواقع ؟!

تعريف فقه الواقع
هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة، من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل.
 
أساس هذا العلم
يتصور بعض طلاب العلم أن فقه الواقع علم جديد، وثقافة حديثة، وهذا قصور في التصور، ونقص في العلم؛ لأن أساسه في القرآن، والسنة، وكلام سلف الأمة. ففي سورة الأنعام يقول - سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)([1]) [ سورة الأنعام آية: 55 ] ومن فقه الواقع استبانة سبيل المجرمين، ومعرفة أهدافهم ومخططاتهم
لهذا جاءت كثير من الآيات مفصلة ومبينة سبيل أعداء الله، وفاضحة لمآربهم وغاياتهم، ولنأخذ سورة واحدة تؤكد لنا هذه الحقيقة وتجليها: إنها سورة التوبة، ومن أسمائها (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين، وكشفت عن خداعهم وتضليلهم ومؤامراتهم، يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)([2]) [سورة التوبة، آية: 49] (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)([3]) [سورة التوبة آية: 56] (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)([4]) [سورة التوبة آية: 62] (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)([5]) الآية [ سورة التوبة آية: 67 ].
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)([6]) [ سورة التوبة آية: 107 ] وهذه الآية من أعظم الآيات التي فضحت المنافقين، وكشفت دسائسهم، واستغلالهم لهذا الدين بإقامة المساجد تلبيسا وخداعا، وسترا لمؤامراتهم.
ونجد في ختام هذه السورة: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)([7]) [ سورة التوبة آية: 127 ].
ونجد كذلك في سورة البقرة، والأحزاب، والمنافقون ما يكشف عن المنافقين وغاياتهم.
أما اليهود والنصارى والمشركون فالآيات التي عن واقعهم كثيرة جدا، وهي من صميم فقه الواقع الذي يبينه الله -جل وعلا- لنبيه وللمؤمنين، ولنأخذ بعض الآيات في ذلك قال سبحانه: ) وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)([8]) [ سورة البقرة آية: 76 ]. (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)([9]) [سورة البقرة: 120]. (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)([10]) [سورة البقرة آية: 146].
وهذه الآيات تكشف واقع اليهود، وفساد طويتهم، ونجد في النصارى قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)([11]) [سورة المائدة آية: 14].
وعن المشركين يقول سبحانه: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)([12]) [ سورة التوبة آية: 19 ]. وقال قبلها: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ)([13]) [سورة التوبة آية: 17].
ونجد في بيان علاقة المنافقين بأهل الكتاب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ)([14]) الآيات [سورة الحشر آية: 11]. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا، وما ذكرته للإشارة والاستدلال على عناية القرآن بفقه الواقع، لا للحصر.
أما السنة فقد حفلت بكثير من الوقائع والشواهد، التي تدل على عناية المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الجانب.
فها نحن نراه صلى الله عليه وسلم يوجه المستضعفين من صحابته بالهجرة إلى الحبشة، وهذا برهان ساطع على معرفته صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله، وأحوال الأمم المعاصرة له.
فلماذا لم يرسل الصحابة إلى فارس أو الروم أو غيرهم؟ ولماذا اختار الحبشة؟ يبين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد "  ([15]).
وها نحن نرى المرحلية في الدعوة ملائمة للواقع الذي تعيشه، ونجده صلى الله عليه وسلم يختار المدينة مكانا لهجرته، ويتعامل مع جميع الأطراف الموجودة فيها وحولها بأسلوب يناسب أحوالها. وعندما أرسل صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوما أهل كتاب "  ([16]) وهذا من إدراكه صلى الله عليه وسلم واقع كل بلد وما يحتاج إليه؛ ولذلك قال له: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.... "  ([17]) الحديث.
وكذلك نلمس عمق هذا العلم في غزواته، ورسائله إلى الأمم والملوك والقبائل. وكذلك يبرز هذا الجانب في استقباله للوفود، وتعامله معهم، وإنـزاله للناس منازلهم.
إن لم يكن هذا هو من الذروة في فقه الواقع فأين يكون؟ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)([18]) [سورة الأحزاب، آية: 21].
ومن أقوى الأدلة على عناية الكتاب والسنة بفقه الواقع قصة فارس والروم، وفيها يبرز اهتمام الصحابة أيضا بهذا العلم، وإدراكهم لأهميته، والقصة كما وردت في سورة الروم، أنه قامت حرب بين فارس والروم، فانتصر الفرس على الروم، وهنا حزن المسلمون لهذ الأمر، فقام أبو بكر رضي الله عنهوراهن أحد المشركين على انتصار الروم على الفرس، وحدد لذلك أجلا قصيرا.
فأخبر أبو بكر رضي الله عنهالرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فأقره، وأمره بزيادة مدة الأجل إلى عشر سنين، ففعل أبو بكر، وجاءت الآيات في سورة الروم (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)([19]) [سورة الروم الآيات: 1 ـ 5]
ويبرز فقه الواقع في هذه القصة فيما يلي:
1ـ أن القصة بين فريقين كافرين، ومع ذلك خلدها القرآن الكريم؛ لأثرها المباشر على حياة المسلمين.
2ـ اهتمام المسلمين بهذه القضية، وحزنهم عندما انتصرت فارس، وفرحهم عندما انتصر الروم.
3ـ معايشة أبى بكر لهذه الأحداث، والمراهنة على انتصار الروم.
4ـ إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بل طلبه أن يمد في الأجل لأن (البضع) إلى عشر سنوات. والقضية ليست قضية سياسية بحتة كما يتصور كثير من الناس، بل هي قضية مبدأ، فانتصار الملحدين على أهل الكتاب يؤثر على المسلمين، وانتصار أهل الكتاب دليل على انتصار الحق على الباطل، وهو مؤذن بانتصار المسلمين على أهل الكتاب بعد ذلك؛ لأنهم هم الذين على الحق.
وهنا يأتي السؤال الذي أوجهه إلى طلاب العلم فأقول: إنني أرى أن روسيا وأمريكا تمثلان دور فارس والروم في الماضي، فهل كنا ندرك ما كان يجري بين الدولتين أيام الحرب الباردة؟ أو أننا نقول: هذه أمور لا تعنينا. ثم هل أدركنا وحللنا مرحلة الوفاق بعد ذلك، وأثر هذا الأمر على المسلمين؟ أو أننا نقول: الكفر ملة واحدة.
وعندما انهارت المنظومة الشيوعية، هل فرحنا بذلك فرحا عمليا، مبنيا على النتائج الحالية، وتوقع المستقبل المشرق بإذن الله؟ ثم هل نحن ندرس الآن قضية الصراع بين القوى؟ وأنه بعد أن كان بين الشرق والغرب، ثم انتصر الغرب على الشرق، سيكون الصراع بين الغرب النصراني والشرق المسلم.
وهنا سينتصر الإسلام في النهاية -بإذن الله- كما انتصر الروم النصارى على الفرس الوثنيين، ثم انتصر الإسلام على أهل الكتاب، وكذلك فقد انتصر الغرب النصراني على الشرق الملحد، وسينتصر المسلمون -بإذن الله- على أهل الكتاب: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)([20]) [سورة يوسف آية: 21].
وأخيرا: فبعد أن بينت أسس هذا العلم في الكتاب والسنة أشير إلى اهتمام السلف به، فهذا أبو بكر -كما بينت في قصة فارس والروم- يعني بهذه القضية عناية خاصة، وها هم الصحابة يتابعون هذه الأحداث متابعة ذات معنى، ويحزنون ويفرحون، بناء على ما يعلمونه من تأثير للهزيمة والانتصار في حياة المسلمين حاضرا ومستقبلا.
وعمر بن الخطاب يقول: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" لست بالماكر المخادع -وحاشاه عن ذلك- ولكنه لا يمكن أن يخدعه الماكر المراوغ.
فالمسلم كيس فطن، واع مدرك لما حوله.
والعلماء من سلف هذه الأمة كانوا خيرمثال لحسن تعاملهم مع واقعهم، فالإمام أحمد بن حنبل في فتنة القول بخلق القرآن، وشيخ الإسلام بن تيمية في موقفه من التتار، وابن القيم فيما دونه عن فقه الواقع وحاجة المفتي إليه، والعز بن عبد السلام في مواقفه الخالدة من النصارى ومن حالفهم.
كما أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ذكر في تفسيره أن فقه المسلم لواقعه من لوازم معرفة (لا إله إلا الله) على معناها الصحيح، ولم لا ؟ وبفقه الواقع يكتمل مبدأ تحقيق الولاء والبراء، وهذا المبدأ أصل من أصول عقيدة التوحيد التي جاءت بها (لا إله إلا الله).
وبعد:
ومن خلال ما سبق تبين لنا أساس هذا العلم، وأهميته من خلال الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة، فحري بالعلماء خصوصا، وطلاب العلم عموما أن يدركوا هذه الحقيقة، ويتعاملوا معها تحقيقا لمفهوم (لا إله إلا الله)، والتزاما بمنهج الكتاب والسنة، واستبانة لسبيل المجرمين.


مقومات فقه الواقع

لكل علم أصوله وقواعده التي يبنى عليها، وبدون تلك الأصول والقواعد يصبح علما لا هوية له، وفنا يخضع للأهواء والأمزجة، وفقه الواقع له أصوله ومقوماته التي عنها ينبثق ومنها ينطلق، وهذه المقومات تصونه من استباحة المدعين، وتعين الراغبين في التخصص فيه، والتعمق في بحوره. وبمقدار اكتمال هذه المقومات تتكامل شخصية المنتمي إليه، وحسب تخلف أي واحد منها ينثلم العلم ويضعف صاحبه.  ([21]).
وسأذكر كل مقوم مع إلقاء الضوء عليه، بما يزيل الغموض أو اللبس، ومن الله أستمد العون والتوفيق.

أولا: القناعة بأهميته  ([22])
لا يمكن أن يتخصص في هذا العلم من يتصور أن فقه الواقع مجرد مزيد من الثقافة، أو أن الأمة ليست بحاجة إليه. البوابة الرئيسية للولوج فيه: القناعة التامة بأهميته وضرورته، وأن تعلمه فرض كفاية.
على طالب العلم أن يدرك أن من أسباب تخلف الأمة في عصرها الحاضر جهلها بواقعها، وغفلة بعض طلاب العلم عما يكيده الأعداء ويخططون له، فالمنافقون وأسيادهم ينقضون الإسلام عروة عروة -ضمن تخطيط محكم رهيب- ونحن في غفلة من استبانة سبيل المجرمين، حتى استحكمت العلمنة في كثير من بلاد المسلمين.
ترى لو تنبه الدعاة والعلماء لهذا الأمر منذ عهد الاستعمار هل يحقق الأعداء ما حققوه في عالمنا الإسلامي؟ لأن الوعي يقود إلى العمل، والعمل يدرأ المخاطر بإذن الله.
انشغل بعض طلاب العلم والدعاة في قضايا مهمة -ولا شك- ولكنهم غفلوا عن قضايا أكثر أهمية، ومنها فقه الواقع، فخلا الجو لأعدائنا، وأصبحوا كما قال الشاعر:
خلا لك الجو فبيضي وأصفري

ونقري ما شئت أن تنقري
ومن هنا فالمقوم الأول أن نقتنع بأهمية هذا العلم وأثره في حياة المسلمين، وحاجة الأمة إليه حاضرا ومستقبلا.
  ثانيا: التأصيل الشرعي
من الملحوظ في واقعنا أن أكثر المعنيين بفقه الواقع ممن لم يدرسوا العلوم الشرعية ولم يتخصصوا فيها، بل إن عباقرة العلم السياسي المعاصر -حسب ما تنشر وسائل الإعلام- من غير المسلمين، ولذا نلحظ في أحداث الخليج مثلا تسابق وسائل الإعلام إلى استطلاع رأي هؤلاء، وكأنهم الحجة وإليهم المنتهى، وهذا سببه عزوف كثير من طلاب العلم عن التخصص في هذا الجانب، بل إن بعضهم لديه قناعة أن هذا الأمر لا يعنيه، حتى رأينا من طلاب العلم من يفسر الحديث المشهور " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " أي بأن يترك أمور السياسة وفقه الواقع لغيره.
بل إن هناك من إذا أراد أن يثني على أحد طلاب العلم، عدد من محاسنه وصفاته العلمية أنه لا يتدخل فيما لا يعنيه -يقصد الأمور السياسية- وهذا تفسير للحديث على غير ما ورد له، وحمل له على غير محمله، وهناك فرق بين أن يتدخل المسلم في عمل غيره -مما لا يعنيه-، وبين أن يفقه حدود هذا العمل وأصوله وضوابطه، وبعبارة أدق، فرق بين أن تتدخل في تنفيذ هذا العمل الذي لم تكلف به، وبين أن تقول كلمة الحق إذا تجاوز صاحب العمل حدوده التي شرعها الله، ولن تستطيع أن تدرك هذا إلا إذا فهمت واقعك.
ومن هنا رأينا أن أكثر من يتعاطى هذا العلم يعتمد على الأسباب المادية، ويحلل الأحداث ويتوقع النتائج بعيدا عن الأسباب الشرعية، لأن (فاقد الشيء لا يعطيه) وما بني على خطأ فمآله إلى خطأ.
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه

وتغرس إلا في منابتها النخل
ولذا فإن أقوى مقوم من مقومات فقه الواقع هو التأصيل الشرعي، وأحق الناس في هذا الجانب هم العلماء وطلاب العلم.
ولا يستلزم أن يكون المتخصص في فقه الواقع أحد خريجي كلية الشريعة، وإنما لا بد أن يكون لديه من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في تخصصه، مما لا يعذر بجهله من فرض العين أو الكفاية.
ولنأخذ لذلك مثلا:
لو قامت حرب بين فئة مؤمنة وفئة كافرة، فإن المعني بفقه الواقع ممن يفتقد العلم الشرعي سيحلل الأحداث، ويتوقع النتائج معتمدا على الأسباب المادية فقط، فسيبدأ في إحصاء الجيوش، وما لدى كل فريق من عدة وعتاد، والظروف الجغرافية، وهلم جرا، بينما المتخصص في ذلك ممن يملك الدليل الشرعي سيبين أهمية الأسباب المادية، وأن الله قد أمرنا بالأخذ بها (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)([23]) ولكنه يعلم أن الأسباب المادية ليست إلا وسيلة من وسائل النصر المشروعة، وأن هناك من الأسباب الشرعية ما تتضاءل أمامه الأسباب المادية، فيبني تحليله وتوقعه ضمن هذا الإطار (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)([24]) [سورة آل عمران، آية 173]. (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)([25]) [سورة الشعراء، آية (61)]. (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)([26]) [سورة محمد، آية (7)].
وخير مثال حي معاصر الجهاد الأفغاني، كم كان سيصمد المجاهدون الأفغان في توقعات الخبراء الماديين؟ وكيف صمدوا في تحليل الفقهاء الشرعيين؟ ولماذا لم يحققوا الانتصار النهائي بعد سنوات من الجهاد؟ لا يدرك تفسير هذا إلا العلماء الربانيون.
ولنأخذ مثلا آخر: وهو أحداث الخليج، فقد تابعت ما كتبه كثير من الخبراء والمحللين في تقييمهم للأحداث ونتائجها، ولفت نظري التخبط والاضطراب في هذا الأمر؛ ولم أجد له سببا سوى البعد عن التحليل الشرعي، والاعتماد على الأسباب المادية بمعزل عن الرؤية الشرعية.
لهذا كله أقول: إن من أول ما يجب أن يعتني به المتخصص في هذا الفن أن يبني علمه على أسس شرعية، مستمدة من الكتاب والسنة، وأخص علم العقيدة، فبدونه لن نفقه مبدأ الولاء والبراء، وعليه تبنى العلاقات بين الأمم والشعوب، وبعلم العقيدة نفهم حدود الإيمان وضوابطه، والخوف، والرجاء، والتوكل، وحقيقة النصر والهزيمة، ومن كتاب الله ندرك سبل المجرمين وأساليبهم، وما يجب تجاه ذلك، ومن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم نبني أسس التعامل مع الواقع الذي نعيشه، دون إفراط أو تفريط، مما يمكن للدعوة ويجنبها المزالق.
وأشير إلى أن هذا لا يمنع من أن نفيد من المتخصصين في العلوم السياسية وغيرها، ممن لم يبن علمه على أصول إسلامية، ولكن بعد عرضها على الأصول والضوابط والمنطلقات الشرعية  ([27]). وبهذا تتكامل الرؤية ويتحقق الهدف.
  ثالثا: سعة الاطلاع وتجدده
يختلف هذا العلم عن كثير من العلوم، فهناك بعض الفنون يستطيع طالبها أن يتقنها في فترة محددة، ثم ينتقل إلى غيرها، بينما بعض أنواع العلوم يحتاج المتخصص إلى الاستمرار في متابعتها، وملاحقة الجديد فيها. فمثلا: علم الفرائض علم مهم جدا، بل قيل إنه نصف العلم، ومع ذلك فيستطيع طالب العلم أن يتقنه في فترة محددة، ثم يبدأ في الإفادة منه وتطبيقه، وليس فيه مجال للتوسع إلا في مسائل فرعية، وكذلك علم النحو، فلم يترك المتقدم للمتأخر شيئا، فما علينا إلا أن نتقن ما دوّنه أسلافنا، ولذلك باءت محاولات التجديد فيه بالفشل، وحق لها ذاك.


أما علم فقه الواقع فيحتاج إلى شيئين مهمين:
أ- سعة الاطلاع: نظرا لتشعب هذا العلم وشموله، فيحتاج المتخصص فيه إلى كثير من الفنون، سواء العلوم الشرعية كالعقيدة والفقه، أو العلوم الاجتماعية كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة كالسياسية والإعلام، وهلم جرا. وإذا قصر في أي علم من هذه العلوم أو غيرها مما يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلبا على قدرته على فقه الواقع، وتقويم الأحداث، والحكم عليها.
ب- التجدد والاستمرار: فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة، والبحث في كل جديد، فهو يختلف عن كثير من العلوم - كما بينت آنفا -، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث، ودراسة أحوال الأمم والشعوب، فلو انقطع عنه فترة من الزمن أثر على تحصيله، وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها. فهو أشبه بالطبيب الذي يلزمه أن يتابع كل جديد في مهنته، فلو أن طبيبا تخرج في الجامعة منذ عشر سنوات، بقي يعالج الناس من خلال دراسته الماضية، دون النظر لما استجد من مخترعات في وسائل العلاج، وما اكتشف من أدوية، لأصبح طبيبا متخلفا عن الركب، فجديد اليوم يصبح قديما في الغد وهكذا.
ولا أبالغ إذا قلت: إن الذي ينقطع عن متابعة الأحداث بضعة أشهر يحتاج إلى فترة مكثفة ليتمكن من ملاحقة الأحداث من جديد، وبخاصة في عصرنا الحاضر، الذي أصبح فيه العالم كقرية، ما يقع فيه شرقه يؤثر يوميا في غربه، وإذا وقع حادث ذو بال في أمريكا أثر على أسواق اليابان في اليوم نفسه، وارتفاع الأسهم في (وول ستريت) بلندن، يؤثر على قيمة الفول في البرازيل.
ومن هنا أصبح لزاما على طالب هذا العلم أن يعي هاتين الحقيقتين، وهما سعة الاطلاع وتنوعه، والتجديد والاستمرار فيه، وإلا:
إذا لم تستطع شيئا شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع
  رابعا: القدرة على الربط والمقارنة والتحليل
هناك عناصر أساسية للوصول إلى حقائق الواقع وتوقع المستقبل، وهي:
1- جمع الأخبار والمعلومات.
2- المقارنة والربط بين الأحداث.
3- تحليل المعلومات والوصول إلى نتائجها.
أما الأول فمسألة آلية يستطيعها كثير من العامة.
وأما الثاني والثالث فتحتاج إلى عاملين أساسيين:
الأول: الموهبة.
ثانيا: الاكتساب.
فلو ضعف أحد العاملين أمكن تداركه بالثاني.
ومن هنا فإن قضية المقارنة والربط ثم التحليل مسألة مهمة وأساسية، وبدونهما تكون النتائج خاطئة، وهذان العنصران لا بد أن يبنيا على أساس متين من التأصيل العلمي والتجربة العملية، مع قدر من الموهبة والذكاء يساهم في تحقيق المناط وتخريجه وتنقيحه.
وبهذا ندرك سر الاضطراب في نتائج كثير ممن يتولون تقويم الأحداث وتحليلها، حيث إنهم يفتقدون القدرة الجبلّية أو المكتسبة للخوض في غمار هذا العلم والغوص في أعماقه. وكثير من الناس يلتبس لديهم الأمر بين من لديه قدرة على جمع المعلومات ومتابعة الأخبار، وبين من يستطيع المقارنة والربط والتحليل والتمحيص.
فيجب ألا نخلط بين العامل في المختبر الذي يستقبل العينات من المرضى، وبين المتخصص الذي يتولى فحصها وتحليلها، والوصول إلى النتيجة من خلالها.
وموضوع الربط والمقارنة والتحليل عملية معقدة متشابكة، تخضع لعدة اعتبارات ومجموعة عوامل، تختلف من واقع لواقع، ومن حدث لحدث، ومن زمن لزمن.
ولست هنا في سبيل بيان ذلك وشرحه، وإنما أردت أن أؤكد على أهمية هذا المقوم، وعدم الغفلة عنه، ومدى تأثيره سلبا أو إيجابا على فقه الحاضر، ورؤية المستقبل، و " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "  ([28]).
  خامسا: التفاعل الإيجابي مع الواقع
من أجل أن تفقه الواقع لا بد أن تعيش هذا الواقع، أن تكون عنصرا متأثرا ومؤثرا فيه.
والذي يعيش على هامش الحياة لا يستطيع أن يدرك أبعاد هذا العالم وما يجري فيه.
ولهذا فمن لوازم هذا العلم أن تتفاعل مع الأحداث تفاعلا إيجابيا، تفرح لكل خبر مفرح، وتحزن لمآسي المسلمين ومصائبهم، ولا تتوقف عند مجرد التأثر فرحا أو حزنا، وإنما يجب أن تكون مؤثرا في هذا الواقع، أي عنصرا عاملا متحركا، متجاوبا مع الأحداث، حسب الحاجة والطاقة.
ولذا فالطبيب الذي يقبع في بيته بعد تخرجه في كلية الطب، لا يفتح عيادة، ولا يكشف على المرضى، ولا يجري العمليات، ولا يتابع المستجدات في علم الطب، ويعالج الناس بالهاتف أو بالمراسلة لا يمكن أن يكون طبيبا ناجحا، وإن أصاب مرة أخطأ مرات، وقد يكون علاجه مهلكا للمريض.
فكذلك المعتزل لحياة المسلمين، البعيد عن شئونهم وشجونهم، لا يتأثر ولا يؤثر، هذا مهما كتب وحلل وناقش فسيبقى تحليله باردا ساذجا، غير واقعي في كثير من مضامينه:
مـن يهـن يسهـل الهـوان عليـه
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى

مـا لجـرح بميت إيـلام
كيما يصح به وأنت سقيم
  سادسا: حسن اختيار المصادر
مشكلة فقه الواقع تباين مصادره، وتعارضها، فمصادر الفقه كتب الفقه وأصوله، ومصادر اللغة كتب اللغة، أما مصادر فقه الواقع - سيأتي بيانها في آخر هذه الرسالة - فإنها متعددة متنوعة متباينة، فمن مصادر إسلامية، إلى مصادر مادية، ومن مراجع قديمة، إلى مراجع معاصرة، ومن أخبار المسلمين، إلى أخبار الكفار والملحدين، وهكذا دواليك.
وبهذا يعيش المتخصص في هذا العلم في حيرة من أمره، كيف يختار هذه المصادر ويتعامل معها؟
والذي يرعى الغنم يكتسب بعض طباعها، وراعي الإبل تظهر عليه بعض صفاتها، فكيف بمن يتلقى الأفكار ويعايش العقول؟ فقد يكون ضحية لمصادره التي اختارها، وبالتالي سينعكس ذلك على فقهه للواقع، وتقويمه لمجريات الأحداث، ولذا أصبح حسن اختيار المصادر مهمة صعبة وأساسية، بل هو مقوم من مقومات هذا العلم، فتحتاج إلى دقة وعناية، فكم رأينا بعض المتأثرين ببعض وسائل الإعلام الغربية، حتى أصبح بوقا لها، يبث أفكارها ويردد أهدافها، دون وعي منه أو شعور.
ثم إن هناك أمرا آخر وهو: نظرا لكثرة مصادر هذا العلم وتنوعها لا يستطيع المتخصص الإحاطة بها، فيحتاج إلى حسن الاختيار توفيرا للجهد، واكتفاء بالأحسن عن الحسن، والفاضل عن المفضول، والأهم عن المهم.
وبعد:
فهذه هي مقومات فقه الواقع، من أقامها انقاد له هذا العلم وتمكن منه، ومن قصر فيها انعكس ذلك على علمه وإدراكه، وهذه المقومات للمتخصص وغيره. أما المتخصص فمن أجل أن تساعده على إتقان هذا الباب والتضلع فيه. وأما غيره فحتى يعرف من أين يلتقى هذا العلم، ويميز بين الجيد والرديء، والخطأ والصواب، فما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة، وكم مدع لهذا العلم وهو لا يحسنه:
والدعاوى إن لم يقيموا عليها

بينات فأصحابها بها أدعياء



الآثار الإيجابية لفقه الواقع

هناك آثار إيجابية عظيمة لفقه الواقع، فمن الخطأ تصور القضية مجرد مزيد من الثقافة، أو إشباع غريزة حب الاستطلاع، فالموضوع أهم من ذلك وأخطر، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن مستقبل الأمة قد يتوقف على مدى فقه الواقع والتعامل معه، فقد تتخذ مواقف مصيرية - لم تبن على أسس علمية - تؤدي بحياة الأمة إلى مهاوي الردى، وكم من موقف اتخذ في حياة أمتنا المعاصرة، لم يستمد من شريعتنا أذاقنا الذل والهوان.
وهذه الآثار التي سأذكرها تبين لنا أهمية هذا العلم، وضرورة عناية طلاب العلم به والتعمق فيه.
  أولا: إحكام الفتوى وإتقانها
أشار ابن القيم -رحمه الله- إلى أهمية فقه الواقع للمفتي، ([29]) والحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما قرر العلماء.
والمفتي يجب أن يعنى بهذه المسألة عناية خاصة، وبالذات في الفتاوي المتعلقة بالمسائل المستجدة المعاصرة، ولذا نجد عدم ثقة كثير من الناس في بعض الفتاوى الصادرة من بعض طلاب العلم، لأنها لم تبن على فقه دقيق للواقع المعاصر.
بينما نجد أن الفتاوى التي تصدر من علمائنا مبنية على تصور تام للأوضاع الجارية، وفقه عميق للمستجدات، تكتسب أهمية قصوى، ولا تدع مجالا لطاعن أو مخالف.
ولذا فإن الفتوى تحتاج - في كثير المسائل - إلى فقه الأصول، وفقه الفروع، وفقه الواقع، وإذا اختل ركن من هذه الأركان تداعت الفتوى، وانهدّ جانبها.
ولا شك أن الفتوى إذا كانت محكمة ومتقنة لها أثر إيجابي في حياة الأمة حاضرا ومستقبلا، ولن يتم ذلك إلا باستكمال شروط الفتوى التي حددها العلماء، ومنها اكتمال التصور عن المسألة، وهو فقه الواقع في المسائل المعاصرة.
  ثانيا: الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة
من الملفت للنظر في عصرنا الحاضر وقوع بعض الجماعات الإسلامية والدعاة إلى الله في أخطاء أساسية في منهجهم، وأسلوب دعوتهم.
وإذا تأملنا في أسباب ذلك نلمس أن أغلب هؤلاء على صنفين:
إما دعاة لديهم إدراك لواقعهم، ولكنه لم يبن على أصول شرعية متكاملة، نظرا لتقصير هؤلاء الدعاة في بناء دعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة، فوقعوا في أخطاء فادحة، دفع أتباعهم ثمنها غاليا، ولم يحققوا أهدافهم التي أعلنوها، وهي إقامة حكم الله في الأرض، نظرا للخلل في المنهج.
وآخرون لديهم علم شرعي، ومنهجهم سليم في الجملة، ولكنهم لا يفقهون الواقع، ولا يتعاملون مع المرحلة التي يعيشونها، فتخبطوا في أسلوب دعوتهم، وتعجلوا الشيء قبل أوانه، ولا يفرقون بين المنهج والأسلوب، وإن كان الأسلوب فرعا عن المنهج، فكانت النتيجة سلبية، وذات أثر محدود.
ومن أجل التخلص من هذه السلبيات والأخطاء، لا بد أن تكون الدعوة إلى الله مبينة على أسس شرعية، مستمدة من الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة، ومن ذلك فقه الواقع ضمن المقومات التي ذكرتها، وبهذا نجنب الدعوة وأتباعها المزالق والمخاطر والانحراف، ونحقق قول ربنا (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)([30]) [سورة النحل، الآية: (125)].
  ثالثا: الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة
المواقف التي لا تبنى على النتائج السليمة المستمدة من المقومات الصحيحة، آثارها خطيرة على الفرد والمجتمع، والمجتمع الإسلامي يتخبط في مواقفه منذ سنوات طويلة ولا يزال، ومن أسباب هذا التخبط المقدمات التي بنيت عليها هذه المواقف، فأكثرها مواقف انفعالية أو وقتية، تفتقر إلى الدراسة والتحليل، وأحيانا تكون مبنية على دراسة قاصرة، تكون نتائجها غير سليمة، فيتخذ القرار الخاطئ.
وفقه الواقع يحول دون الفوضى والتخبط، ويصبح لدى من يملك القرار تصورا متكاملا عن القضية، مما يمكنه من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، دون قصور أو ارتجال.
  رابعا: التربية الشاملة المتكاملة
مما يلحظ على كثير من الجماعات المعاصرة عدم شموليتها واهتماماتها الجزئية، فهذه جماعة تعني بالتربية الروحية، وأخرى بالتربية الفكرية، وثالثة تربي أفرادها تربية عسكرية، والرابعة تعني بالتربية الإسلامية السياسية، وهلم جرا.
وقد تأملت في أسباب ذلك فاتضح لي أن أهم سبب لهذا الواقع: تصور كل جماعة أن الخلل في الأمة سببه قصورها في هذا الجانب دون غيره، فجعلت هدفها الأساسي: استكمال هذا النقص وسد الخلل، وكما ذكرت في الأثر الثالث: ما بني على مقدمة خاطئة فنتيجته خاطئة.
والمتأمل لواقع الأمة الإسلامية المعاصرة يدرك أن سبب تأخر أمتنا وتخلفها ناتج من عوامل عدة: روحية، وعلمية، وسياسية، وجهادية، وعقدية، واقتصادية، وهذا التصور الشمولي للواقع يجعل الدعاة يرسمون منهج دعوتهم بشمولية متكاملة، بعيدا عن التجزئة والفردية.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي صحابته، ويبني المجتمع المسلم، مجتمعا متكاملا، بعيدا عن روحية الصوفية، وسياسة العلمانيين: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)([31]) [سورة المائدة: آية: (3)].
  خامسا: بعد النظر وحسن التخطيط
إن أمتنا بأمس الحاجة إلى التخطيط الدقيق، الذي يبني مجدها، ويقيها - بإذن الله - مصارع السوء، وكل تخطيط لا يبنى على فهم عميق لمجريات الأحداث، وتصور متكامل للواقع في جميع جوانبه، سيكون تخبطا لا تخطيطا.
والأوضاع التي مرت بها بلاد المسلمين، والمحن التي نعيشها كشفت عن تأخرنا عن أعدائنا في كثير من أمورنا، حتى أصبحنا عالة عليهم في كثير من شئون حياتنا.
وفي الوقت الذي يخطط فيه أعداؤنا لما بعد مائة سنة أو تزيد، نجد الفشل الذريع في تخطيط المسلمين لعشر سنوات أو أقل من ذلك.
وفقه الواقع في جوانبه المتعددة يعطي تكاملا في الرؤية، وبعدا في النظر، وهي من بدهيات التخطيط الدقيق لمستقبل الأمة، وتطلعات الأجيال.
وهذا التخطيط يشمل جميع مناحي الحياة: الدعوية، والعلمية، والاقتصادية، والعسكرية، وغيرها، حتى نكون كما أراد لنا ربنا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)([32]) [سورة آل عمران، الآية: (110)] أمة قوية البنيان مرهوبة الجانب، تخضع لها الأمم والممالك، وتذل لها الجبابرة والملوك (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)([33]) [سورة المنافقون، آية: (8)].
وبهذا نحمي المسلمين، ونوجد المهابة لهم في نفوس أعدائهم، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر "  ([34]) وصدق الله العظيم: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)([35]) [سورة الأنفال، آية: (60)].
  سادسا: إبطال كيد الأعداء، وفضح خططهم
لقد فضح القرآن الكريم خطط المشركين (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)([36]) [سورة الطارق، الآيات: (15 - 17)]. وكشف عن مكائد اليهود والنصارى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)([37]) [سورة البقرة، آية: (120)]. (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ)([38]) [سورة البقرة، آية: (76)].
وأماط اللثام عن دسائس المنافقين: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)([39]) [سورة النساء، الآية: (142)]. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ)([40]) [سورة البقرة، الآية: (11-12)].
ومن ثمرات فقه الواقع كشف سبل المجرمين بشتى أشكالهم وأنواعهم، وكشف خططهم مؤذن بإبطال كيدهم، ورد تدبيرهم إلى نحورهم، والعناية بهذا الجانب حماية للمسلمين، ورد لكيد الظالمين (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)([41]) [سورة الأنعام، آية: (55)].
  سابعا: حماية العلماء
وفقه الواقع حماية للعلماء من وجهين:
1- فالعلمانيون يكيدون لعلماء الأمة، ويسعون لتشويه صورتهم أمام العامة، بما يثيرونه من قضايا، وما يطرحونه من خلافات في مسائل علمية، مما يظهر أمام العامة وكأنه تناقض في الفتوى، وضعف في العلم، وهم يراهنون على إبعاد العامة عن علماء الأمة، لأنهم يدركون أن العلماء هم السد المنيع ضد مؤامراتهم ومخططاتهم، فإذا ظفروا بالعامة كسبوا الرهان، ففقه الواقع كشف لهؤلاء، وفضح لمآربهم، وحماية بالتالي لعلماء الإسلام ودرع الأمة.
2- وفقه الواقع حماية للعلماء من الخاصة، فعندما تكون الفتوى مبنية على تصور للواقع، وعلم بفروع المسألة وأصولها، لا يدع مجالا لطاعن أو مخالف، مما يكسب الفتوى احترامها وقوتها، وتتلقى بالقبول من لدن طلاب العلم والعامة، وهذا ولا شك يقوي صلة طلاب العلم بعلمائهم، ويقطع الطريق على من يستغل الأخطاء والعثرات لإبعاد شباب الأمة عن علمائها، وبهذا نحمي جانب العلماء، ونـزيد من مكانتهم في نفوس العامة والخاصة، لتكون لهم الريادة والقيادة العلمية في توجيه الأمة، وتبصيرها في شئون دينها ودنياها، كما كانوا - وسيظلون بإذن الله - على مر الأجيال وتعاقب العصور.
  ثامنا: الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات
عندما نغفل عن واقعنا، ونكتفي بتلمس ظواهر الأمور دونما إدراك لحقائقها، قد نغفل عما يكاد لهذه الأمة ويحاك لها، وبالتالي سننشغل عن العمل الإيجابي الجاد، وقد ينصرف طالب العلم إلى أمور جانبية ظنا منه أن الأمور تسير على خير، وأن ليس هناك ما يكدر صفوها، أو يهدد كيان الأمة ومستقبلها.
ولكن عندما نفقه الواقع على حقيقته، دون إفراط أو تفريط، سندرك جهود الأعداء في الداخل والخارج لضرب الأمة في أعز ما تملكه، وهو دينها، وهنا نكون على مستوى المسئولية، وتزول الغشاوة التي تضعف رؤيتنا، وتنتهي المعاذير التي يرددها كثير من الناس، بدعوى أن الأمور بخير، وأننا أحسن من غيرنا، ونحن -ولا شك- بحمد الله وفضله أحسن من غيرنا، ولكن استمرار هذا القول، دون عمل أي جهد للمحافظة على هذا "الخير" و"الحسن" قد يؤدي إلى فقدانه وزواله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)([42]) [سورة إبراهيم، آية: (7)]
وفقه الواقع بالتالي عامل مساعد للتغلب على المعوقات التي تواجهنا عندما نقوم بما أوجب الله علينا، فإدراكنا لقوله تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)([43]) [سورة العنكبوت، الآيتان: (1-2)] وفقهنا لقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)([44]) [سورة التوبة، آية: (16)]. ومعرفتنا بما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من عقبات في طريق دعوتهم، كل ذلك سيزيد من إيماننا بأن العاقبة للمتقين، مهما طال الطريق وتعددت المعوقات.
وفي الوقت نفسه ففقهنا لما عليه أعداؤنا، وما يكابدونه من مشاق في تحقيق أهدافهم الباطلة ومآربهم الخبيثة، يزيد من تحملنا في سبيل أهدافنا السامية، وغاياتنا النبيلة (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)([45]) [سورة آل عمران، آية: (140)]. (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)([46]) [سورة النساء، آية: (104)].
وبهذا تتحول المشاق والعقبات إلى لذة تتنعم بها، بدل العنت والشقاء، كما تلذذ أسلافنا بالجهاد في سبيل الله، وبهذا نكون أو لا نكون.
ومن يتهيب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحفر
  تاسعا: رفع مستوى الأمة ثقافيا وسياسيا
أمتنا كانت هي الأمة الرائدة والقائدة، هي أمة الحضارة التي أخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور، كانوا رعاة غنم فأصبحوا قادة الأمم، وهذا منطق القرآن الكريم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)([47]) [سورة آل عمران، آية: (110‏)].
أما اليوم فإننا " غثاء كغثاء السيل " تداعى علينا الأعداء من كل جانب كتداعي الأكلة إلى قصعتها، ونحن في قاموس الأمم: العالم المتخلف، والعالم النامي، والعالم الثالث، إلى غير ذلك من التسميات التي يندى لها الجبين.
وإدراكنا لهذا الأمر، والعمل الإيجابي للخروج منه بداية الطريق للعودة إلى أصالتنا ومكانتنا، وهو الخطوة الأولى للخروج من أزمتنا، ونحن نملك -ولله الحمد- مقومات العز والسؤدد، ومقاليد القيادة، والسيادة، والريادة.
وما زلنا عالة على غيرنا في ثقافتنا، وسياسيتنا، وكثير من شئون حياتنا.  ([48])
ونحن بأمس الحاجة إلى إعادة ثقتنا بأنفسنا، ومن ثم تعود ثقة الناس بنا، في مجالات عدة: ثقافية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وبالتالي ترتفع مكانتنا، ويعلو شأننا، ونصبح كما أراد الله لنا (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)([49]) [سورة آل عمران، آية: (110)].
 


ضوابط ومحاذير

نظرا لتعدد مصادر هذا العلم وتنوع مجالاته، فإن هناك أخطاء قد يقع فيها بعض المنتسبين إليه، مما يدعو إلى وضع بعض الضوابط، والتنبيه إلى بعض المحاذير، صيانة لهذا العلم من الدخلاء عليه، وحماية لطلابه من الانحراف والتشتت.
  أولا: الالتزام بالأصول الشرعية والمنطلقات العقلية في وصف الواقع، وتوقع النتائج ورؤية المستقبل
من أهم ما يجب على المتخصص في هذا العلم أن ينتبه إلى أسلوب تلقي الأخبار وتوقع النتائج، فقد تجتمع لديه معلومات مهمة، لا يخضعها لضابط الشرع أو منطق العقل، فيزل في تحليلاته وتوقعاته.
لذا فإن الاعتماد على الأسباب المادية وحدها قد يؤدي بالمحلل للأحداث إلى أخطاء لا تغتفر.
ومن هنا فعلى الفقيه بالواقع أن يلتزم بهذا الضابط، ويبتعد عن التهويل والمبالغة، وعليه أن يعطي كل ذي حق حقه، ويضع الأمور في نصابها. ويعرض ما لديه من معلومات وحقائق على ميزان الشرع، ومنطلق العقل، والعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح.
وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

  ثانيا: التثبت في نقل الأخبار وتلقيها
لابد من التثبت لسببين:
1- أن التثبت منهج شرعي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)([50]) [سورة الحجرات، آية: (6)].
2- أن بعض مصادر فقه الواقع من قِبَل أناس لا تنطبق عليهم شروط العدالة، سواء كانوا كفارا أم فساقا، وخطورة بناء الحقائق على مصادر مجهولة أو مشكوك في مصداقيتها، أمر يفرض علينا التثبت، وعدم الخفة والاستعجال، حتى لا تكون النتائج عكس ما توقعنا، وخلاف ما ظننا.
وأنبه إلى خطأ الاعتماد على وكالة "يقولون"، فلها سوق رائجة، وتجد قبولا لدى الكثيرين، كما أن أسلوب: "حدثني الثقة عمن يثق به" طريق لا يعتمد عليه في إثبات الحقائق وإيجاد البراهين، ولا يعدو أن يكون خبرا قابلا للصدق والكذب، وأنبه طلاب العلم خاصة إلى ضرورة تحري الصدق في كل ما يسمعون أو يحدثون، حتى لا ينسب إليهم ما هم في غنى عنه.
  ثالثا: الاعتدال والتوازن في التلقي
مصادر فقه الواقع متعددة ومتنوعة - كما أسلفت -، والاعتماد على مصدر دون الآخر خلل في البناء، وخطأ في النتيجة، فمصادر هذا العلم هي الكتاب والسنة، وتراث السلف وتاريخ الأمة، والمصادر المعاصرة - كما سيأتي تفصيلها-، وبعض الراغبين في هذا العلم يعتمدون على المصادر المعاصرة مع تقصير في غيرها من المصادر، بل إن بعضهم يعتمد على بعض المصادر الإعلامية كالصحف مثلا، ويمضي وقته يتابع هذه ويقرأ تلك، مما يشكل خللا في تصوره، وقدرته على فهم مجريات الأحداث، واستخلاص النتائج، والتوازن في التلقي أساس مهم لبناء فقه مؤصل، مبني على الشمول والحقائق.
والاعتدال سمة العلماء الربانيين، و " أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل " والاعتدال في الأشياء معين على الديمومة والبقاء، وسبيل من سبل الإتقان والإحكام و " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه "  ([51]) فلا زيادة ولا نقصان، ولا غلو ولا جفاء (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)([52]) [سورة البقرة، الآية: (143)]. والاعتدال مطلب شرعي، ومنطق عقلي: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.


  رابعا: حسن التعامل وتجنب المخاطر والمزالق
المتابع للواقع قد تدفعه الأحداث إلى مواقف لا يتبين أثرها إلا بعد حين، وقد تمر ظروف يجد المسلم نفسه في وضع لا يحسد عليه، من سوء الأحوال، وتفرق الأمة، ويرى المصائب تتوالى عليه من كل جانب، وهنا يأتي دور التأصيل الشرعي في معالجة الأمور وتحديد المواقف، ويبرز فقه المصالح والمفاسد، ودفع أحد الضررين بأخفهما، والتأمل فيما يترتب على الموقف من نتائج، بعيدا عن الحماس غير المنضبط، والاندفاع غير مدروس النتائج.
وأشير في هذا الموضع إلى مسألة مهمة، وهي أننا بأمس الحاجة إلى الحماس، ولكن هذا الحماس يجب أن يخضع للعقل، والعقل يجب أن يلتزم بقواعد الشرع، فإذا انفلت الحماس من ضوابط العقل أضر بصاحبه ومن حوله، والعقل إن لم يحكم بالشرع أدى إلى انحراف وضلال.
إذن الحماس مهم، ولكن العقل أهم منه، والعقل قوي، ولكن الشرع أقوى منه وأبعد نظرا، فإذا اجتمع الحماس مع العقل في ضوء الشرع كانت النتائج حميدة، والمواقف سليمة، وإذا اختل ركن منها، ضعف الطالب والمطلوب.
والحكمة في التعامل مع الواقع هي ما أعنيه وأقصده، وهي الدرع الواقي من المزالق، فلا إفراط ولا تفريط (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([53]) [سورة النحل، آية: (125)]. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)([54]) [سورة البقرة، آية: (269)].
  خامسا: عدم الجزم والقطع في توقع المستقبل
من الأمور التي يحتاج إليها المتخصص في فقه الواقع النظر في المستقبل وتوقع الأحداث، وذلك من أجل التخطيط للأمة، وتبصيرها بما يحاك لها من قِبَل أعدائها.
وبما أن ما يقع في المستقبل من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، والبشر لا يملكون إلا التوقع والاحتمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره الله -جل وعلا- بأن يقول: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)([55]) [سورة الأعراف، آية: (188)].
فإن مما يجب أن يلحظه المتخصص في هذا العلم عدم الجزم والقطع بما يحدث في المستقبل، وبخاصة أن الأدلة التي يبنى عليها هذا الأمر تدور بين ظنية الثبوت وظنية الدلالة، ويندر وجود دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة في مثل هذه الأحوال، ولو وجد هذا الدليل فإنه يبقى في دائرة الاحتمال من حيث إمكان الوقوع، لأن الوحي قد انقطع، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً)([56]) [سورة لقمان، آية: (34)]. وحتى أدلة السنن الإلهية الثابتة، التي قد نبني عليها توقعاتنا، تطبيقها على محلها يحتاج إلى تثبت، وعدم جزم ويقين.
ومن هنا فعلى طالب العلم أن يعنى بهذه المسألة، ويضع الاحتمالات في ضوء ما لديه من حقائق وأدلة، ثم يتعامل مع كل احتمال بما يناسبه، حتى لا يفاجأ بوقوع خلاف ما توقع وجزم به وقطع، وهنا يكون الأثر سلبيا، والنتيجة خاطئة.
  سادسا: الحذر من الإعجاب بالكفار والمنحرفين
من الأمور التي يجب أن ينتبه لها طلاب العلم، وهم يقرءون مذكرات بعض السياسيين، أو تحليلات بعض المفكرين، أن يأخذهم الإعجاب بهؤلاء المحللين والسياسيين إذا كان من غير المسلمين، أو من الفساق والمنحرفين.
وفرق بين أن نفيد من علمهم وتجاربهم، وبين أن نعجب بشخصياتهم إعجابا قد يؤدي إلى الاقتداء، كما حدث لكثير من أبناء المسلمين الذين تربوا في الغرب، فهذا نجده معجبا بأستاذه هنري كيسنجر، يحذو حذوه في فكره وسياسته، وآخر معجبا بهيجل، وثالثا بأركون وهكذا دواليك.
أما الإفادة مما لديهم مما ينفع المسلمين، فهذا مطلب شرعي، فهذا أبو هريرة أفاد من الشيطان، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدقك وهو كذوب " والحكمة ضالة المؤمن، أني وجدها فهو أحق بها.
ويحسن كذلك عدم الإكثار من ذكرهم والاستشهاد بأقوالهم إلا عند الحاجة إليها. حتى لا يلتبس الأمر على العامة، فيشعرون أن ذلك تزكية لهم أو إعجاب بهم.
هذه أهم الضوابط التي أحببت التنبيه عليها، ليكون طلاب العلم على وعي بها، وإدراك لما قد يجر إليه إغفالها أو نسيانها.
 


مصادر فقه الواقع

ذكرت أن من مقومات هذا العلم: حسن اختيار المصادر، وهذا أمر في غاية الأهمية فما هي مصادره الأساسية:
لن أذكر هنا أسماء الكتب والمراجع كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، وإنما سأبين أصول موارد فقه الواقع، وأنواع هذه الموارد، وطالب العلم هو المعني باختيار آحادها، بما يناسب الأمر الذي يعنى فيه.
  أولا: القرآن الكريم وتفسيره
هذا هو المصدر الأول والأساس، وبدونه يحدث الخلل وقصور النظر.
فكتاب الله هو الهادي إلى كل خير، والمعين على فهم كل قضية، فلو أخذنا مثلا قضية معاصرة، وأردنا تحليلها، والتأمل في حقيقتها ومآلها، فمن خلالها يتضح لنا الأمر:
فقضية الصراع مع اليهود، قضية معاصرة مزمنة، نجد أقوى المصادر لفهم أبعادها ومجرياتها كتاب الله، وذلك من خلال ما يلي:
1- الآيات التي تحدثت عن طبيعة اليهود وحقيقتهم وأخلاقهم، حتى مع خالقهم جل وعلا.
2- الآيات التي خلدت سيرتهم مع موسى -عليه السلام- منذ أن أرسل إليهم، وحتى قصة التيه، وفيها من العبر ما يعدو على الحصر.
3- تاريخ اليهود مع أنبيائهم (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)([57]) [سورة البقرة، آية: (87)].
4- موقف اليهود من العهود والمواثيق التي أخذها الله عليهم، والتي أخذها أنبياؤهم، فتاريخهم حافل بنقص العهود والغدر والخيانة (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)([58]) [سورة البقرة، آية: (100)].
5- وآخر المطاف موقفهم من الإسلام، وصاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)([59]) [سورة البقرة، آية: 75]. إلى آخر الآيات. وقد قام المفسرون بجلاء هذه القضية بما يشفي الغليل، وإن شئت فارجع إلى ما ذكره سيد -رحمه الله - عن اليهود في أول سورة الصف. وعلى الذين يتصدون لمعالجة قضية فلسطين أن يرجعوا للقرآن أولا.
وهكذا نجد أيضا بيان القرآن الكريم لقضية قديمة جديدة، ماضية معاصرة، ألا وهي قضية النفاق والمنافقين، وأساليبهم وخططهم، وما الأسلوب الأمثل لمعالجة أحوالهم ومكرهم (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)([60]) [سورة المنافقون، آية: (4)]، إذن فالقرآن الكريم هو المعين الذي لا ينضب، والمورد العذب الزلال، فيه خبر من قبلنا، ونبأ ما بعدنا، وتفصيل ما بيننا (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)([61]) [سورة الأنعام، الآية (55)].

  ثانيا: السنة النبوية
هذا هو المصدر الثاني، فرسول الله -صلى الله عليه- وسلم لا ينطق عن الهوى " إن هو إلا وحي يوحى "، فلو أمعنا النظر في سيرته صلى الله عليه وسلم في السلم والحرب، ورسائله للملوك والقياصرة، واستقباله للوفود، وعقده للصلح والمعاهدات، لتجلت لنا الحقيقة التي لا مراء فيها، بأنه صلى الله عليه وسلم أوتي الحكمة كاملة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)([62]) [سورة البقرة آية: (269)]. ونحن في عصر أحوج ما نكون فيه إلى الحكمة بمعناها الشرعي وهي "وضع الشيء في موضعه"  ([63]).
ونجد في السنة من القواعد الشرعية ما يعين على فهم الواقع، واتباع الأسلوب الأمثل في معالجة قضاياه ومستجداته.
وخذ مثلا: أحاديث الفتن، وبيان الفتن التي تعصف بنا، ويوجهنا - بأبي وأمي هو - إلى سبل النجاة منها، وتلافي أسبابها.
وخذ مثلا سيرته صلى الله عليه وسلم في المنافقين، والموقف الحازم تجاه مكائدهم ودسائسهم، فنحن بأمس الحاجة إلى تلك السيرة في زمن استشرى فيه النفاق.
  ثالثا: سير السلف
إن دراسة سير السلف الصالح من القادة والعلماء والمصلحين، نبراسا يضيء الطريق، ويعين على فهم الواقع، ومواجهة الأزمات، والخروج من المحن.
إن تجارب هؤلاء القدوة تراث ضخم، يعطي سعة في الأفق، وبعدا في الرؤية، وتصورا متزنا للمستقبل، وقدرة على تخطي الصعاب، بعون الله وتوفيقه.
تأمل موقف أبي بكر رضي الله عنهمن مانعي الزكاة، وأسلوبه مع المرتدين، وانظر إلى سيرة عمر رضي الله عنهوكيف قاد الأمة وساسها، ووقف سدا منيعا تجاه الفتن ومثيريها، وتبصر في قوله: "لست بالخب ولا الخب يخدعني".
وهكذا نجد في سيرة عثمان، وعلي، ومعاوية -رضي الله عنهم -، كما في سيرة عمر بن عبد العزيز، وهارون الرشيد -رحمهما الله تعالى-.
وتمعن في مواقف الأئمة كأحمد بن حنبل، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، والمجدد محمد عبد الوهاب، وغيرهم من العلماء والمصلحين، وانظر في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم، ورسائل الشيخ عبد الله بن حميد، تجد سعة الأفق، وبعد النظر، وفقه الأحداث والنوازل.
  رابعا كتب العقيدة والفقه
وهي المصدر لدراسة علوم الشريعة المستمد من الكتاب والسنة، وهي عماد المقوم الثاني من مقومات فقه الواقع، فمن خلال كتب العقيدة ندرك حدود الولاء والبراء، وأثر الأسباب المادية في الأحداث، ومدى مشروعية الأخذ بالأسباب، مما يعين على تفسير الأحداث، وفي كتب الفقه ندرك حقوق أهل الذمة، ومنطلقات الجهاد، وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك مما يعتبر دعامة أساسية في فهم الواقع، والحكم عليه، وشرعية التعامل معه.
  خامسا: دراسة التاريخ وفقه السنن
من لا يعرف الماضي لن يفقه الحاضر، ومن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل، والله -سبحانه وتعالى- أمرنا بالتأمل في أحوال من قبلنا، والسير في الأرض فقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)([64]) [سورة الروم، آية: (9)]. وقال سبحانه: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)([65]) [سورة آل عمران، آية: (137)].
وقال سبحـانه: (فَسِـيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)([66]) [سورة النحل، آية: (36)]. والآيات في هذا كثيرة معلومة.
وقص علينا القرآن أحداث الأمم ممن سبقنا: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً)([67]) [سورة طه، آية: (99)]. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: " كان فيمن قبلكم " ثم يذكر لهم قصص بعض السابقين.
ودراسة التاريخ تبين سنن الله في الأمم والمجتمعات (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)([68]) [سورة فاطر، آية: (43)]. (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)([69]) [سورة الأحزاب، آية: (62)].
ومن خلال ما سبق تتضح أهمية دراسة التاريخ، ففقه الحاضر مستمد من فقه الماضي، وتوقع المستقبل مبني على السنن الجارية.
والمتخصص في فقه الواقع يجب أن يعنى بدراسة التاريخ، وأخص تاريخ أمتنا الإسلامية، فهو رصيد ضخم زاخر، فيه العبر والعظات، وقل أن يمر حدث معاصر إلا وله شبيه في الماضي، مما يعين على فهمه وتحليله.
ولنأخذ مثلا واحدا، فالأحداث التي تعيشها أمتنا اليوم شبيهة بما كان يجري في الأندلس من وجوه عدة، بل إن مقدمة هذه الأحداث، والأسباب التي سبقتها، كانت تؤذن بحدوث ما حدث، والذين درسوا أحوال المسلمين في الأندلس كانوا يتوقعون حدوث شيء ما منذ فترة - أي قبل وقوع الأحداث- وهكذا كان، وهذا ليس تنجيما، ولا ضربا في الخيال، وإنما هو ثمرة من ثمار دراسة التاريخ، وفقه السنن.
لذا فإن هذا المصدر جدير بالعناية والاهتمام، وأصل من أصول فقه الواقع ومصدر من مصادره:
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر

ضل قوم ليس يدرون الخبر
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى)([70]) [سورة يوسف، آية: (111)].
  سادسا: المصادر السياسية
وأعني بها ما كتبه السياسيون المعاصرون والمتقدمون من كتب تتعلق بالجوانب السياسية، وهي على أنواع:
1- مذكرات السياسيين التي كتبها رجال قضوا سنوات طويلة في غمار السياسة ودهاليزها، فسجلوا تاريخ حياتهم، وخلاصة تجاربهم.
2- الكتب التي تبحث في موضوعات سياسية كالعلاقات الدولية، وعلاقة السياسة بالاقتصاد، ومهمات السفراء، ونحو ذلك.
3- الكتب التي تتحدث عن خفايا السياسة وأساليبها، ودور المنظمات الدولية، ككتاب لعبة الأمم، والميكيافيلية، ومنظمة الأمم المتحدة، وعصبة الأمم، ومجلس الأمن.
  سابعا: المصادر الإعلامية
وهي من أهم المصادر المعاصرة، سواء أكانت مسموعة أو مقروءة أم مرئية، من أبرزها:
1- الصحف والمجلات والدوريات.
2- نشرات وكالات الأنباء العالمية.
3- الإذاعات.
4- التليفزيون.
5- الأشرطة والوثائق،إلى غير ذلك من الوسائل الإعلامية المعاصرة.
وأنبه في ختام هذا الفصل ما يلي:
1- إن معايشة الواقع تأثرا أو تأثيرا من أبرز المصادر العملية، التي تثري حياة الإنسان وتصقل مواهبه، فمدرسة الحياة هي أقوى المدارس وأعمقها.
2- أهمية التوازن في التلقي من هذه المصادر، وترتيب الأولويات، والبداءة بالأهم قبل المهم.
3- أهمية تلقي هذا العلم على يد المتخصصين، وعدم الاعتماد على المصادر وحدها، وبخاصة في بداية الطريق، والدورات المتخصصة وسيلة إيجابية للتخصص في هذا العلم وسلامة السير فيه بعيدا عن المزالق والمخاطر.
4- هناك كتب وبحوث ومجلات تعنى بفقه الواقع، وتحدثت عن الواقع مباشرة، كواقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب، وأيعيد التاريخ نفسه للأستاذ محمد العبده، وجاء دور المجوس لعبد الله الغريب، والدويلات الطائفية وغيرها، مما يساعد على استيعاب الواقع، وجودة التخصص فيه.
 


الخاتمة
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على عباده الذين اجتبى واصطفى، أما بعد:
فها نحن بعد هذه الرحلة المباركة مع فقه الواقع نصل إلى الحقيقة التي لا مراء فيها، وهي أن هذا العلم أصل من أصول دعوتنا، وأساس لكثير من الأحكام والمواقف، فحري بطالب العلم أن يعطيه حقه من الرعاية والعناية، ويعتبره ركنا من أركان العلم، ودعامة من دعائمه.
والحذر الحذر أن يعتبر تعلمه نفلا أو اختيارا، فالأعداء متيقظون، يعملون ليل نهار للإفساد في الأرض، ويزعمون أنهم يصلحون، فإذا غفلنا عنهم، وتركنها لهم الساحة يعبثون فـ:
متى يكمل البنيان يوما تمامه

إذا كنت تبني وغيرك يهدم

وإذا تهاونا في هذا العلم، وتركناه لغيرنا، فسيستخف بنا الأعداء، بالأمة عموما، وبطلاب العلم خصوصا، كما هو حال المنافقين والعلمانيين وديدنهم في كل مجلس ومنتدى، وستظل أمتنا تتخبط في مواقفها، عالة على أعدائها، وذهابا لريحها وقوتها، فلا تخطيط للمستقبل، ولا ثبات في المواقف، ولا منهج في الولاء.
وإغفال هذا العلم يضعف صلة القاعدة من طلاب العلم بالقيادة من العلماء والدعاة والمصلحين، ويتيح الفرصة للمنافقين والعابثين في تدمير الأمة وتغريبها، والسير بها خلف أعدائها في كل حال وحين.
وبهذا يدب اليأس والقنوط في نفوس المؤمنين، وينـزوي الغيورون طلبا للسلامة، وتجنبا للفتنة، وتترك الأمة للمفسدين في الأرض، وهذا غاية منى العلمانيين، ومحط رحالهم، وهنا قل على الأمة العفاء، إلا أن يتداركها الله برحمة منه وفضل، والله ذو فضل عظيم.
وأخيرا أهمس في أذن كل طالب علم، أن يضع يده في أيدي علمائه، وألا يقطع أمرا دونهم، ولا يسمع فيهم كلام الوشاة والحساد والمغرضين، وأن يعلم أن "لحوم العلماء مسمومة، وسنة الله في منتقصهم معلومة"  ([71]) فخذ بهذا والزمه تكن من المفلحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلاة وسلاما على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



[1] - سورة الأنعام آية: 55.
[2] - سورة التوبة آية: 49.
[3] - سورة التوبة آية: 56.
[4] - سورة التوبة آية: 62.
[5] - سورة التوبة آية: 67.
[6] - سورة التوبة آية: 107.
[7] - سورة التوبة آية: 127.
[8] - سورة البقرة آية: 76.
[9] - سورة البقرة آية: 120.
[10] - سورة البقرة آية: 146.
[11] - سورة المائدة آية: 14.
[12] - سورة التوبة آية: 19.
[13] - سورة التوبة آية: 17.
[14] - سورة الحشر آية: 11.
[15] - انظر فقه السيرة للغزالي، فقد صحح الألباني هذا الحديث.
[16] - متفق عليه- البخاري8/267، ومسلم(2583).
[17] - متفق عليه- البخاري8/267، ومسلم(2583).
[18] - سورة الأحزاب آية: 21.
[19] - سورة الروم آية: 1-5.
[20] - سورة يوسف آية: 21.
[21] - هذه المقومات التي سأذكرها ليست على سبيل الحصر، ولكنها خلاصة البحث والاستقراء، وفوق كل ذي علم عليم.
[22] - يرى بعض طلاب العلم أن هذا مدخل للعلم وليس مقوما، ولكن لا مشاحة في الاصطلاح.
[23] - سورة الأنفال آية: 60.
[24] - سورة آل عمران آية: 173.
[25] - سورة الشعراء آية: 61.
[26] - سورة محمد آية: 7.
[27] - وهو من باب "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" صحيح الجامع 1/600 رقم 3131 مع الضوابط التي ذكرها العلماء في هذا الباب.
[28] - متفق عليه، البخاري 1/150، 151 ومسلم (1037).
[29] - انظر كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين.
[30] - سورة النحل آية: 125.
[31] - سورة المائدة آية: 3.
[32] - سورة آل عمران آية: 110.
[33] - سورة المنافقون آية: 8.
[34] - صحيح الجامع 1/240 رقم 1056.
[35] - سورة الأنفال آية: 60.
[36] - سورة الطارق آية: 15-17.
[37] - سورة البقرة آية: 120.
[38] - سورة البقرة آية: 76.
[39] - سورة النساء آية: 142.
[40] - سورة البقرة آية: 11-12.
[41] - سورة الأنعام آية: 55.
[42] - سورة إبراهيم آية: 7.
[43] - سورة العنكبوت آية: 1-2.
[44] - سورة التوبة آية: 16.
[45] - سورة آل عمران آية: 140.
[46] - سورة النساء آية: 104.
[47] - سورة آل عمران آية: 110.
[48] - الذي ينظر إلى عدد المبتعثين من البلاد الإسلامية إلى بلاد الغرب والشرق حيث يعدون بمئات الآلاف أو يزيدون، يدرك ما أعنيه.
[49] - سورة آل عمران آية: 110.
[50] - سورة الحجرات آية: 6.
[51] - صحيح الجامع 1/383 رقم 1880.
[52] - سورة البقرة آية: 143.
[53] - سورة النحل آية: 125.
[54] - سورة البقرة آية: 269.
[55] - سورة الأعراف آية: 188.
[56] - سورة لقمان آية: 34.
[57] - سورة البقرة آية: 87.
[58] - سورة البقرة آية: 100.
[59] - سورة البقرة آية: 75.
[60] - سورة المنافقون آية: 4.
[61] - سورة الأنعام آية: 55.
[62] - سورة البقرة آية: 269.
[63] - انظر رسالة الحكمة في الدعوة إلى الله للدكتور زيد الزيد.
[64] - سورة الروم آية: 9.
[65] - سورة آل عمران آية: 137.
[66] - سورة النحل آية: 36.
[67] - سورة طه آية: 99.
[68] - سورة فاطر آية: 43.
[69] - سورة الأحزاب آية: 62.
[70] - سورة يوسف آية: 111.
[71] - انظر رسالة لحوم العلماء مسمومة، للكاتب.