الاثنين، 20 مايو 2024

العلم.. بين “الفهلوة” والسلفية المزيفة

 يدَّعي البعض العلم والمعرفة؛ ومن ثم يسعون لتأسيس منطقه ومعلوماته الغريبة أصلاً ومرجعية من كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لعلم هذه النوعية من الأدعياء أن المقابل قليل المعرفة والثقافة، إضافة إلى ذلك استغلال العواطف مثل كراهية الشارع العربي المسلم للولايات المتحدة وأوروبا مثلاً، وذلك بسبب تعاملها مع الشارع المسلم وقضاياه سلباً بشكل العموم، ومن خلال هذا الغبش والعواطف يدخل صادق النية، وأيضاً خبيث المقصد والنية، وعدو الأمة تشكيكاً وشراً، وباستغلال الجهل والعاطفة استغلالاً وفهماً سلبياً، مشككاً بنصوص وصحة السُّنة النبوية. 

من هذه الأمور التي يطرحها البعض من الفهلوية والسلفية المزورة، قولهم: 

1- إن الكرة الأرضية ليست كروية!

وإن قلت لهم: هي كروية، يبادرونك بحجتهم: هل رأيتها أنت كروية أم أمريكا هي التي عرضت لك ذلك وقالت كروية؟!

2- الأرض والنجوم والكواكب ثابتة وغير متحركة!

وإن قلت لهم: إن الأرض والمجموعة الشمسية متحركة؛ يجيبك بتعالم وتذاكي الفهلوي: هل رأيتها متحركة؟ وهل رأيت أنت حركتها؟ إن أمريكا تضحك عليكم وتقول ذلك! وهي العدو الذي يريد المسلم تابعاً له بكل شيء! 

يستشهد هؤلاء بأن القرآن العظيم يرفض هذه الكروية والحركة، وأيضاً عقلاً ومنطقاً حسب عقولهم مرفوضة تلك الكروية والحركة، ويدعي البعض أن السُّنة أيضاً مضطربة، كما سعى ويسعى د. عدنان إبراهيم أن يوهم مريديه من أجل رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري، الذي يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: “أتدري أين نذهب؟”، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، يوشك أن تسجد فلا يقبل منها، فتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم”. 

هذا الحديث أيضاً أنكره إبراهيم بقصد التشكيك في البخاري لا بقصد عين الحديث هذا فقط!

من منطلق الحقائق العلمية كما حاول أن يدعي العلاَّمة المفكر إبراهيم! وادعى أن الشمس تغرب بحركة دائمة وتعود لتكوين الليل والنهار والفصول وما شابه، فلذلك هذه الحقيقة العلمية تتناقض مع ما قاله البخاري! وهي تغرب ولا تذهب، ولنا عليه رد بإذن الله تعالى بقصد أن نؤكد صحة ما رواه البخاري وانسجامه مع القرآن والعلوم الحديثة.

القرآن أكد حركة النجوم والكواكب وكروية الأرض، والسُّنة أيضاً أكدت حركة الشمس والمجموعة الشمسية، بل وحركة المجرة. 

قال الله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: 88).

الغريب فعلاً وهو أقرب للسطحية والسخافة، قول البعض قولاً عكس مقاصد هذه الآية الكريمة ومضامينها العلمية التي تنتظر تطوير العلوم الإنسانية واكتشافات الإنسان لتكون ظاهرة كما ظهرت اليوم، حيث يقول بعضهم: لو كانت الأرض تتحرك لكان من المؤكد أن تكون الصين مثلاً اليوم في المشرق وبعد فترة يجب أن تكون في المغرب وهكذا! وهذا قول لا يقوله عاقل يرى ويتابع العلوم كيف تتطور وبتطورها هذا كيف أظهرت مضامين الآية الكريمة، ومضامينها العلمية التي من الضرورة تكون ضمنية قبل 1400 سنة.

وهذا القول فيه من السطحية والسذاجة لا أقول فيه سطحية علمية، بل هو سطحية بالثقافة الأولوية البديهية، وتصور وفكر فيه وما فيه من القشرية والسطحية المُبالغ فيها. 

يتبع..

 

توقفنا في المقال السابق عند قول البعض في معرفة حركة الأرض وقولهم: لو كانت الأرض بالفعل تدور وتتحرك؛ فهذا يعني أن البلدان أماكنها ستتغير من شرق إلى غرب ومن أعلى إلى أسفل والعكس، وذلك حقيقة قمة الابتعاد عن الحقائق العلمية وقمة ضيق الأفق.

أبدأ بمثل مبسط أضربه لعل هذه النوعية تستوعب حركة المجموعة الشمسية والمجرة، التي أقرها القرآن الكريم والسُّنة النبوية كحركة، التي خاطبت العقول بمفردات حسب كسب العلم والمعرفة في كل عهد وزمان مجاراة لعقلية الإنسان المخلوق الضئيل ورحمة به من الخالق الرحمن الرحيم، عالم العلوم جميعها وخالقها.

مثال: سيارتان تتجهان تجاه المشرق، وكل منهما تسير بسرعة 100 كم في الساعة، ولكن الأولى تتقدم على الثانية بمسافة 10 كم ووزنهما واحد، والثانية خلفها بمسافة 10 كم ووزنها نفس وزن السابقة، وفي الشارع المقابل سيارتان تسير عكسهما، تسير الأولى بسرعة 120 كم في الساعة وهما متجهتان نحو الغرب، والشارعان اللذان تسير فيهما السيارات أيضاً متحركان، ويتحركان بشكل دائري وبكل ما عليهما من أحمال بسرعة 200 كم في الساعة، فماذا نستنتج يا ترى؟

1- السيارتان المتجهتان تجاه المشرق لا يمكن أن تلتقيا أو تتقاربا أو يحدث بينهما تصادم.

2- السيارتان المتجهتان تجاه الغرب لا يمكن أن تلتقيا أو تتقاربا أو يحدث بينهما تصادم.

٣- عدم الشعور بحركة ومسير الشارع ككتلة كبيرة.

٤- تلتقي السيارات المتضادات ذهاباً وإياباً في نقاط تتكرر مثل تكرار الليل والنهار.

٥- سرعة الشارع لو تغيرت اختلت حركة السيارات وتفلتت وانهار النظام.

فحركة الشارع هي حركة المجموعة الشمسية في ذراع أوريون في المجرة، ولا يمكن أن يقبل أن هناك جزءاً يتحرك والبقية ثابتة لا تتحرك، ويبقى النظام كما هو! والله تعالى يقول في كتابة العظيم مؤكداً ذلك: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40).

السؤال: يسبحون هل معناها ثابتون؟! أظن أن هذا جنون إن قلنا المعني بها ثابتون!

نعم الشمس والأرض والقمر والليل والنهار توقيتهما ثابت ودقيق قدره الله تعالى من خلال حركة الكل السابحة المتزنة الثابتة بسرعاتها حول نفسها وحول غيرها، والكل يتحرك ولو توقف أحدها اختل الكل وشاع الدمار! وحركة الأرض أشار إليها الله تعالى بقوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: 88).

هنا نحذر من ينكر حركة الأرض ونقول له: إنك تضع كتاب الله تعالى العظيم في موقع أقل من مقامه العظيم.

لو جاءك إنسان وقال لك: هذا جبل سنام الثابت القوي سأجعل له قواعد وأعمدة وأوتاداً لتثبيته رغم ثباته فماذا تقول عنه؟! في أقل الأحوال تقول: إنه يجهل عمله وما يقول!

تخيل هذا القرآن العظيم كلام الله تعالى العظيم الأعظم يحدثنا أنه يدعم بالأوتاد ليثبت تنظيم حركة ما هو ثابت (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) (النبأ: 7)

ما هكذا تورد الإبل يا أصحاب العقول، لا يميد إلا المتحرك في حال إهمال تنظيم توازنه! وخصوصاً إذا كان أغلب حجمه من الماء، فتكون حركته ليس من السهل السيطرة عليها من غير المثبتات للتوازن والسيطرة على الحركة المطلوبة، وهنا أخاطب عقول البشر وأحول أصحاب هذه العقول وأقول لهم: اسألوا سائقي التناكر الكبيرة التي تحمل الماء كيف هي حركتهم تحتاج إلى دقة وحذر وتثبيت، ولله المثل الأعلى.

الخلاصة: ليس من بلاغة القرآن العظيم وعظمته، وليس من علومه العظيمة التي تعبر عن علم العظيم الأعظم عز وجل، أن يقول: إنه يصنع الرواسي حتى لا يميد فيكم الثابت!

نختم هذه السطور بهذه الآية العظيمة التي تدل على الحركة الكلية المتكاملة بين المجموعة الشمسية سرعة وحركة جملة وتفصيلاً، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54). 

يتبع..

 

تحدثنا فيما سبق حول ما ذكره القرآن الكريم في حركة الأرض وغيرها من المجموعة الشمسية، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء: 33).

نتحدث هنا حول تأكيد كروية الأرض في القرآن.

النصوص القرآنية أو في السُّنة النبوية فيها ما يبهر كل عصر حسب علمه وما توصل له، وهذا دليل عظمة الله تعالى في كتابه، والأدلة على ذلك كثيرة، منها مثلاً لحم الخنزير وتحريمه، حيث اكتشف العلم الحديث بعد أكثر من ألف سنة أن لحم الخنزير خطر، وذلك بسبب حمله الدودة الشريطية، ومن المؤكد أن هناك أسباباً أخرى سيكتشفها العلم مستقبلاً، فلذلك من علم من القرآن الكريم أمراً أو نهياً وجب عليه الالتزام به ولا يسأل عن السبب، الالتزام به إيماناً، أما إن ظهر السبب علمياً فأنعم وأكرم، وإن لم يظهر يجب إيماناً الالتزام بالنص القرآني أو السُّنة، ويجب تقديم العمل به كأولوية إيماناً وإلا كان هذا الإيمان مهلهلاً ومهزوزاً في فهم أمور الغيبيات، وهذا أمر خطير لا يخفى خطره على المؤمن.

نضرب أمثلة في الإعجاز القرآني، يقول الله تعالى في كتابه العظيم: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) (القيامة: 4).

ويقول تعالى أيضاً: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (الواقعة: 75).

وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأنعام: 97).

قبل أن ندخل في تفاصيل كروية الأرض، نتحدث حول كيفية تقديم القرآن المعلومة حسب عقول البشرية وتطور علومها واكتشافاتها، فلذلك لا بد أن يخاطب الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة بحجته البلاغية والتشريعية والبيانية والعلمية والإعجازية.. إلخ، وهذا الكم العلمي العظيم المتنوع والمجموع في كتاب الله لا يمكن أن يُستوعب حتى ولو بعض منه في فترة زمنية محدودة وتنتهي، والعقول لا تستوعب ذلك مجتمعة، فلذلك نجد أن القرآن خاطب العقل البشري بتأنٍّ، وبألفاظ ومفردات تستوعب وتراعي العقول والعلوم حسب كل عصر، وهي معجزة لكل عصر دون الإخلال بإعجازها السابق للعقول والعلوم والحقائق العلمية السابقة التي توصل لها الإنسان، ونبدأ بالمثال الأول من كتاب الله تعالى وقوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) لو تحدثنا حولها قبل 1000 سنة مثلاً أو حتى قبل 150 سنة، لو تحدثنا عن “البصمة” لكان القول عبارة عن طلاسم وأقرب إلى النكران والخيال، ولا يمكن أن تستوعبها العقول، ولكن حينما تطور العلم وتم الفهم فيما سبق حينها.

إن الأصابع خلقها الله تعالى متنوعة الأحجام، وهي قمة في روعة الخَلْق وهو أحسن الخالقين، فهذا التفاوت بين أصابع اليد شكلاً وحجماً خوّل اليد أن تتنوع خدمتها للإنسان؛ أكلاً، وكتابة، ودفاعاً، وإمساكاً، وضرباً، وحياكة.. إلخ، فلو كانت الأصابع بحجم واحد أو بشكل واحد لاختلت خدمة اليد والكف أكثر مما نتصور، وهذا الفهم في العصور السابقة معجزة، وهو كذلك، ولكن مع مرور الزمن وتطور العلوم واكتشاف البصمة وأنها لا تتكرر في الإنسان، فكانت هذه المعلومة الأكثر إعجازاً ودقة دون أن تؤثر على معجزة العلوم السابقة بالنسبة لعلومهم وعقولهم واكتشافاتهم حينها، فالعقل المخلوق أقل من أن يدرك هذا المقياس، ونتوقع مستقبلاً اكتشاف ما هو أعظم من ذلك.

ولنتحدث عن آية أخرى في نفس المفهوم، قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (الواقعة: 75)، حينما أقسم الله بمواقع النجوم بين في تلك العصور علماً إعجازياً لها وهو ظاهر بقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وسبحانه القائل ختاماً: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، كانت المعرفة حينها والمعجزة بفهم مواقع النجوم حيث المسير عليها ليلاً، ولكن لو دققنا بكلمة مواقع كأنها تشير إلى شيء كان موقعه هنا، وهذا بالفعل ما اكتشفه العلم الحديث، أن كثيراً من الأضواء التي تصل إلينا من النجوم هي ضوء انفجار هذا النجم أو ذاك وانعدامه الذي كان في هذا المكان والموقع للتو يصلكم الضوء بعد ملايين السنين بسبب المسافات البعيدة جداً.

يتبع..

 

 

 

بداية، نتساءل: إذا رأيت جسماً دائرياً من مسافات بعيدة مثل القمر والشمس، فهل يعني هذا أن شكل هذه الأجسام الدائرية مربعة، أو مستطيلة، أو شكلها معين أو مثلث مثلاً؟ أعتقد أنه من الجنون أن نقول ذلك، فهي دائرية شكلاً من المسافات البعيدة إذاً هي كروية بديهة، وخصوصاً إذا تأملنا في الآيات الآتية: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ {3} وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) (الانشقاق)، شكلها للعين دائري، وإذا مدت في نهاية الحياة تلقي ما فيها، وهو دليل أن لها سمكاً كبيراً، والسمك مع الدائري يعني يشكل شكلاً كروياً، والحجم الكروي السميك حينما يُمد طبيعياً يُضغط فيلقي ما في جوفه ويتخلى عنه من أجل الامتداد واتساع الحجم سطحياً.

وهذه آيات تؤكد كروية الأرض، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد: 3)، لو كانت الأرض ممدودة ومسطحة وغير كروية وهي ممدودة كما يتصورها أدعياء المسطحة والله لانتقدت العرب وأهل البلاغة القرآن، ولكنه سبحانه يتضمن معنى ضمنياً علمياً يحتاج إلى الزمن والوقت حتى يدركه الإنسان من خلال تجاربه واكتشافاته، وإن فهمها الإنسان في العصور السابقة فهماً ظاهرياً سطحياً ولكن مضمونها فيه العلم المختزل، فسبحان الله جعل الأرض أينما تكون فيها تراها ممدودة ومبسوطة، وهذه هي البلاغة والعظمة العلمية من الخالق التي يراعي فيها عقل المخلوق الناقص على مر العصور وتطور هذه العقول لتبهرها إلى قيام الساعة!

أما الآية الثانية ومثيلاتها أثبت الله تعالى فيها الحركة والكروية والخصوبة، قال: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق: 7)، اختزل الحركة والكروية إثباتاً بالمحسوس الملموس (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) حجة وإثباتاً للعقلاء، فمن ينفي الكروية والحركة يجب أن ينفي الخصوبة المقرونة بهما.

و”المد” هنا “مددناها” دليل الكروية، حيث المد الذي لا ينتهي كما أسلفنا، وقال: (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ)، فالرواسي لا تكون إلا للجسم المتحرك حتى يتوازن بحركته ولا يتفلت بحركة غير متوازنة، وإن لم تصدقوا ذلك فلا تصدقوا أنها خصبة للزراعة والنبت الذي تحسونه وتلمسونه وتعايشونه، وهذا قمة الصغار عقلاً وعلماً وشعوراً.

البعض يدعي المعرفة القطعية الأكيدة، وأنه الذي اكتشف كذب العدو وضحك الأمريكيين على المسلمين بقولهم: “إن الأرض كروية وتتحرك”، وهي ثابتة! وغيرها من أقوال لا يأخذ بها حتى من كان له ولو شيء يسير من الفطنة والكياسة.

كروية الأرض تحدث عنها علماء المسلمين القدماء، بل حتى الحضارات القديمة ما قبل الميلاد تحدثت بذلك، قالت ذلك الحضارة البابلية في العراق، ومنهم أخذت اليونان هذه المعلومات، بل وأكدت اليونان أن جميع الأجرام كروية.

أيضاً العلماء والباحثون المسلمون من قال ذلك، قالها ابن رشد (ت 595هـ)، وهو من أكبر علماء الأندلس، وابن حزم أيضاً أكد أن هناك إجماعاً من علماء الأمة على كروية الأرض، وقد بين ذلك في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل”، وأن من ينكر ذلك من العلماء هم قلة، وأكد ذلك بالدليل العلمي من القرآن والسُّنة النبوية، وقال رحمه الله تعالى حول قوله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (الزمر: 5)، وأشار إلى أن هذا البيان الواضح في تكوير بعضها على بعض وهو مأخوذ من تكوير العمامة “كور العمامة”.

وكذلك الإمام الذهبي ذكر وأكد ذلك، وقال: إن الأرض كروية، والإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى أكد ذلك وذكره في المنهاج.

يتبع..

لعلك تتساءل: لماذا ركزتُ على الموضوع الذي فيه كثير من التشعبات؟!

نعم، هذا الموضوع من الأمور الصعبة بالنسبة للشباب والمراهقين سناً وثقافة، ولكن من خلاله يدعي بعض الأدعياء بما لا نتوقعه من أجل التشكيك في السُّنة النبوية، ومن ثم في أقل الأحوال نقول: من الممكن التشكيك في معارف وعلوم القرآن الكريم، إذا لم يكن هو أصل المنطلق من أجل الترويج إلى الزندقة الإبراهيمية والعلمانية الكافرة التي تفصل الدين عن الحياة، لا عن الدستور كما يتصور البعض، أو فصل السياسة عن الدين.

من أخطر هؤلاء مَنْ تطرق لهذا الأمر تشكيكاً في صحيح البخاري د. عدنان إبراهيم، وذلك من خلال رواية تحدث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشمس وحركتها التي لا تتوقف، حيث حاول إبراهيم أن يخرّف الرواية مقابل العلوم الحديثة، رغم توافق الرواية توافقاً عجيباً مع الاكتشافات العلمية الحديثة، وهو يعلم ذلك!

فمن يتابع إبراهيم والمجموعة التي تحمل نفس توجهه، وإن تباعدت بينهم المسافات والأماكن، لا يمكن أن نقول: إنها كمجاميع لا تعمل تحت ظل تنظيمات موحدة لهدف واحد، وأنا شخصياً لو قلت ذلك، فأنا ساذج وغبي!

هذه النوعية تأخذ المسألة من زاوية معينة من الموضوع وفي النهاية نجدهم جميعاً أجمعوا على الطعن في القاعدة الذهبية التي ألَّف البخاري عليها كتابه، والقاعدة التي على أساسها يتم الرد والقبول للرواية.

الرواية التي أراد إبراهيم من خلالها نفي صحة البخاري بادعائه: أن اكتشافات العلم الحديث تنافي نص الرواية ومعانيها وتتضارب معها!

نص الرواية: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر (قوله في الشمس): “أتدري أين تذهب؟”، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئتِ فتطلع من مغربها”.

أولاً، معنى السجود لغة هو الخضوع (لسان ابن منظور)، كما جاء في نص الرواية.

فسجود الإنسان خضوعه، كما نعرفه شرعاً، أما غير الإنسان لا نعلم إلا أنه الخضوع لغة، ولا يوجد مخلوق يستطيع أن يكيف هذا الخضوع كما هو للإنسان الذي كيّفه لنا الشارع جل وعلا، وكل الخلائق لله تسجد، كما بين الله تعالى ذلك في كتابه العظيم: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج: 18).

إذاً، لا بد من التسليم والإيمان بالصحيح المنقول من سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان تسليماً للرواية أو السُّنة لا يأتي هكذا، فما جاء هذا الأمر إلا بعد أن وضع العلماء القواعد والكثير من الأسس والأصول العلمية للرد والقبول، ومن أرفعها قواعد جمع القرآن، فهي داخلة في معنى قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وأيضاً قواعد الإمام البخاري في القبول والرد، فالطاعنون في هذه القواعد القصد منه النَّيْل من القرآن الكريم، وذلك بعد قبول الطعن في صحيح البخاري، والقواعد التي على أساسها ألَّف المؤلف، فرد البخاري هو مقدمة لرد ما هو أعظم.

إن الحديث الذي أراد إبراهيم أن يطعن فيه رواه البخاري في صحيحه، فهو صحيح سنداً ومتناً وواقعاً علمياً حديثاً.

في الرواية فائدة، وهذه الفائدة هي نور سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمسك زمام جوامع الكلم والبلاغة، قال كما في الرواية عن الشمس: “فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش”، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: “تغرب تحت العرش”، وإن كان الغروب أحياناً يأتي بمعنى الذهاب في حدود معينة، أو التورية لغة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “تذهب”، وهذا دليل السير والجريان وعدم التوقف بذاتها، فالذهاب يشمل حركتها بذاتها، وحركتها القسرية بذات غيرها من خلال المجرة والذراع الذي هي فيه، لا دلالة على الغروب الذي أراد إبراهيم أن يشكك من خلاله في صحة الرواية ويحصر الذهاب بالغروب فقط، ومن ثم التشكيك في صحة البخاري لعدم توافقه علمياً مع الاكتشافات الحديثة!

 تذهب، كما يزعم إبراهيم، لفظة فيها من العلم الآني، والعلم والاكتشاف المستقبلي حسب الإدراك العلمي والعقلي للبشرية واكتشافاتها والزمن الذي يتحدث فيه، فقال: “تذهب”؛ أي الشمس تذهب، فكان فهمها لعصور كثيرة تغرب، ولكن اللغة تحتمل غير ذلك وهي الأصل، تحتمل أيضاً حركة الشمس بذاتها وهذا هو الأصل، وتحركها أيضاً من خلال ذراع “أيوريون” في المجرة مع ملايين أو مليارات الكواكب والنجوم إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى، لأن الغروب ليس سببه حركة الشمس حسب اكتشافات العلوم الحديثة بقدر ما سببه حركة الأرض حول نفسها مقابل الشمس، كما يعلم د. إبراهيم وأمثاله.

يتبع..

 

شبهات وردود.. المرأة شؤم

  «إنَّما الشُّؤمُ في ثَلاثةٍ: في المرأَةِ والدَّارِ والدَّابَّةِ»(1)، هكذا تكون النتائج عندما تُبْتَر النصوص من سياقها، فلقد استنتج المرجفون من المستشرقين وأذيالهم من العلمانيين من هذا الحديث أن الإسلام ظلم المرأة وجعلها رمزاً للشؤم والتشاؤم!

تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها

بداية، يجب أن نقرر أن أعداء الإسلام ما فتئوا يثيرون الشبهات المغرضة حول الإسلام ونبي الإسلام وأحكام الإسلام، ولهم في ذلك أساليب وحِيل عجيبة، فإنهم تارة يبترون النصوص الشرعية من سياقها.

فمثلاً عندما تعاملوا مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن..»، تجاهلوا باقي الحديث الذي فيه: «قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها»(2)؛ وذلك للوصول إلى شبهة أن الإسلام ينتقص من عقل المرأة ويهضم حقوقها!

وتارة يلوون المعاني ويلبسون على العوام دينهم فيزعمون مثلاً أن القرآن الكريم فيه آية تقول: (وترى الملائكة «حافيين» حول العرش)، والصحيح أن نص الآية هو: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الزمر: 75)، أي محيطين به، وليس «حافيين» أي غير منتعلين!

وقد تناسى هؤلاء المغرضون الحاقدون أن الله تعالى تعهد بحفظ القرآن الكريم فقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).

إن الشبهة التي أثارها هؤلاء حول حديث «إنما الشؤم في ثلاثة: في المرأة والدار والدابة» قد تنطلي على عوام المسلمين، والحديث ورد في صحيح البخاري كتاب «الجهاد والسير»، باب «ما يذكر من شؤم الفرس»، ورواه أيضاً مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في باب «الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم»، كما رواه الإمام الترمذي في سننه عن سالم وحمزة ابني عبدالله بن عمر عن أبيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب «ما جاء في الشؤم».

بتر النصوص من سياقها عمل امتهنه المستشرقون وأذيالهم

وإذا ضممنا هذه الرواية مع روايات أخرى وردت حول نفس المعنى سيتضح لنا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو التالي:

– ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إن كان الشؤم في شيء ففي الدار، والمرأة، والفرس»(3).

– وفي الحديث: «من سعادة ابن آدم ثلاثة ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء»(4).

– وفي رواية للحاكم: «وثلاثة من الشقاء المرأة تراها فتسوؤك وتحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفاً فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحق أصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق»، وللطبراني من حديث أسماء: «أن من شقاء المرء في الدنيا سوء الدار والمرأة والدابة»، وفيه سوء الدار ضيق ساحتها وخبث جيرانها، وسوء الدابة منعها ظهرها وسوء طبعها، وسوء المرأة عُقم رحمها وسوء خُلقها»(5).

والناظر في طرق الحديث كما وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، يتضح له أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد بعض النساء سيئات الخُلق، وهذا ما أكده القرآن الكريم عندما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التغابن: 14)، فإن «مِنْ» في قوله تعالى: (مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) تفيد التبعيض، وكأنه سبحانه وتعالى يربط العداوة والشقاوة والشؤم ببعض النساء وليس بكل النساء.

إلا أن أصحاب الهوى من المرجفين يقولون في دعاواهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المرأة مصدراً للشؤم وسبباً له وقرينة له، متجاهلين الطرق المتعددة التي ورد بها الحديث.

ومجمل طرق الحديث تزيل اللبس عن القارئ المنصف اللبيب، والحديث وردت فيه كلمة «الشؤم»، وهي مصدر في اللغة العربية، ونفهم من الحديث أنّه إن كان يمكننا التشاؤم من شيء فمن المرأة أو الدابة أو الدار، ولا مجال لفهم الحديث على أنه اعتبار لحصول التشاؤم مطلقاً من المرأة والدابة والدار، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج النساء وعاش معهن وقال صلى الله عليه وسلم: «واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا»(6)، ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة»(7)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه اتخذ داراً للسكنى وركب في سفره الدواب، وعليه فإنّ الادعاء بأن المراد من الحديث تأكيد حصول التشاؤم مطلقاً من المرأة والدار والدابة، ادعاء مردود لغة وشرعاً وعقلاً تبطله طرق الحديث المتعددة، كرواية أحمد وابن حبان والحاكم عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من سعادة ابن آدم ثلاثة ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح ومن شقاوة ابن آدم المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء»(8).

ولم يفهم أحد من علماء الإسلام الحديث الشريف «الشؤم في ثلاث..» إلا على أنه تخصيص لحصول التشاؤم من المرأة التي تحصل منها العداوة والفتنة، وإلا فالمرأة مُكرمة مصونة في الإسلام أماً وبنتاً وأختاً وزوجة؛ بل إن الإسلام يبشر من يعول جاريتين حتى تبلغا بالأجر العظيم والثواب الجزيل، ولنتمعن فيما أورده الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» في معرض شرحه لحديث «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»، حيث كتب الإمام العسقلاني ما نصه: قال الشيخ تقي الدين السبكي: في إيراد البخاري هذا الحديث عقب حديثي ابن عمر وسهل بعد ذكر الآية في الترجمة إشارة إلى تخصيص الشؤم بمن تحصل منها العداوة والفتنة، لا كما يفهمه بعض الناس من التشاؤم بكعبها أو أن لها تأثيراً في ذلك، وهو شيء لا يقول به أحد من العلماء، ومن قال إنها سبب في ذلك فهو جاهل، وقد أطلق الشارع على من ينسب المطر إلى النوء الكُفر، فكيف بمن ينسب ما يقع من الشر إلى المرأة مما ليس لها فيه مدخل، وإنما يتفق موافقة «قضاء وقدر» فتنفر النفس من ذلك، فمن وقع له ذلك فلا يضره أن يتركها من غير أن يعتقد نسبة الفعل إليها(9).

بعد هذا البيان، هل يرتدع هؤلاء المرجفون ويتوقفون عن إثارة مثل هذه الشبهات؟ نرجو ذلك.










__________________________________

(1) الراوي: عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أخرجه البخاري (2858)، ومسلم (2225).

(2) صحيح البخاري (304).

(3) أخرجه البخاري (5094)، ومسلم (2225) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.

(4) المصدر: الترغيب والترهيب (3/ 91)، إسناده صحيح.

(5) فتح الباري، ابن حجر (9/ 138).

(6) جزء من حديث أخرجه البخاري (5185، 5186)، ومسلم (47، 1468).

(7) الفتح السماوي (275)، خلاصة حكم المحدث: روي مرفوعاً ومرسلاً، والمرسل أشبه بالصواب.

(8) شبهات حول المرأة في الإسلام، د. علي نايف الشحود (1/ 623).

(9) صحيح البخاري، كتاب «النكاح» باب «ما يتقى من شؤم المرأة» (5096).


هل في المرأة شؤم ؟!

 هل في المرأة شؤم ؟!


بسم الله الرحمن الرحيم
هل في المرأة شؤم ؟!
كثيرا ما نسمع التشكيك في حفظ الإسلام حق المرأة والإعلاء من شأنها من خلال الكلام على حديث ( الشؤم في ثلاث ) ، وهذا إما من عدو متربص يلبس في المعنى ويفصل بين روابطه التي يكتمل بها ظهوره ، أو من جاهل يفهم معنى باطلا لم يدل عليه الدليل ثم يبثه أو يبقى في نفسه إشكالا يضيق به ويصد عنه ، أو ربما كان ذلك من شخص خاصم زوجته فوجه لها ذلك الوصف بأنها شؤم بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا جناية على الحديث أيما جناية .
لذا لا بد من بيان المعنى المراد من الحديث ليكون الاستدلال في محله ، ويرد كيد من أراد النيل من الإسلام في هذا الأمر في نحره .
وإن من نافلة القول ابتداء هنا تقرير ما للمرأة في الإسلام من مكانة عالية ومنزلة مصونة وحق محفوظ ، فهذا من الظهور أوضح من الشمس في ضحاها والقمر إذا تلاها ، وليس المقام ذكر الدلائل على ذلك هنا ، فهذا يطول ، لكن المقصود الوقوف على معنى حديث الشؤم المتعلق بالمرأة .
فقد جاء الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ عدة ...
ففي لفظ : ( إنما الشؤم في ثلاثة : في الفرس و المرأة والدار )[1] .
وفي لفظ : ( الشؤم في المرأة والدار والفرس )[2].
وفي لفظ : ( إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس )[3].
وفي لفظ ( إن يكن من الشؤم شيء حق ففي الفرس والمرأة والدار )[4].
وفي لفظ : ( إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس )[5] ، وفي لفظ زيادة ( والسيف )[6].
وللعلماء رحمهم الله تعالى أجوبة عدة على ما قد يحصل من اشتباه في معنى الحديث :
الجواب الأول :
أن أصل الحديث حكاية لقول اليهود أو المشركين وبيان مذهبهم الباطل في ذلك ، ولكن قد روي الحديث بدون ما يدل على الحكاية .
ودليل ذلك ما رواه قتادة عن أبي حسان قال : دخل رجلان من بني عامر على عائشة رضي الله عنها فأخبراها أن أباهريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الطيرة في الدار والمرأة والفرس ) فغضبت ، فطارت شقة منها في السماء ، وشقة في الأرض ، وقالت : والذي نزل الفرقان على محمد ما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ، إنما قال : ( كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك ) .[7]
وفي رواية قالت : ولكن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( كان أهل الجاهلية يقولون : الطيرة في المرأة والدار والدابة ) ، ثم قرأت عائشة رضي الله عنها : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب ) الآية .[8]
ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي عن مكحول أنه قال : قيل لعائشة : إن أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الشؤم في ثلاث : في الدار والمرأة والفرس ) فقالت عائشة رضي الله عنها : لم يحفظ أبو هريرة ؛ لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قاتل الله اليهود ، يقولون : إن الشؤم في الدار والمرأة والفرس ) فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله .[9]
قال الألباني : ( وإسناده حسن لولا الانقطاع بين مكحول وعائشة ، لكن لا بأس به في المتابعات والشواهد إن كان الرجل الساقط من بينهما هو شخص ثالث غير العامريين المتقدمين ) .[10]
ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أبي معشر عن محمد بن قيس قال : سئل أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الطيرة في ثلاث : في المسكن والفرس والمرأة ) ؟ قال : إذاً أقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أصدق الطيرة الفأل ، والعين حق ) .
ولكن هذه الرواية ضعيفة لضغف أبي معشر[11] ، ولما قيل من الانقطاع بين محمد بن قيس وأبي هريرة رضي الله عنه .[12]
ومما يؤيده أيضا ما رواه الطبري في تهذيب الآثار عن ابن أبي مليكة قال : قلت لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كيف ترى في جارية لي ، في نفسي منها شيء ؟ فإني سمعتهم يقولون : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم ( إن كان في شيء ففي الربع والفرس والمرأة ) ، قال : فأنكر أن يكون سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أشد النكرة ، وقال : إذا وقع في نفسك منها شيء ففارقها ، بعها أو أعتقها .[13]
فبناء على قول عائشة رضي الله عنها ، فالحديث ليس فيه تقرير للطيرة ، بل هو متضمن للنهي والتحذير من ذلك ؛ إذ أن نسبة العمل لأهل الكفر والجاهلية دال على النهي .
هذا ، وقد رد بعض أهل العلم هذا الجواب ؛ لثبوت الحديث من طرق عدة ، وعن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم غير أبي هريرة .
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : ( ولكن قول عائشة هذا مرجوح ، ولها ـ رضي الله عنها ـ اجتهاد في رد بعض الأحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرها من الصحابة ، وهي ـ رضي الله عنها ـ لما ظنت أن هذا الحديث يقتضي إثبات الطيرة التي هي من الشرك لم يسعها غير تكذيبه ورده ، ولكن الذين رووه ممن لا يمكن رد روايتهم ، ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده ، ولو انفرد به فهو حافظ الأمة )[14] .
وقال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ : ( ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة مع موافقته من ذكرنا من الصحابة له في ذلك )[15] .
قلت : لم أجد رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه في إثبات الشؤم في هذه الأمور سوى ما تضمنته رواية إنكار عائشة رضي الله عنها ، وفيها إبهام للرجلين اللذين رويا ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وما أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى البزار والطبراني في الأوسط ، وقال : وفيه بلال بن داود الأودي وهو ضعيف . وعليه فثبوت ذلك عنه محل نظر ، والله أعلم .
ثم أيضا ، ثبوت إنكار ذلك عن عائشة رضي الله عنها يجعل هذا الجواب من القوة بمكان ، ثم إنه ليس فيه رد للرواية ، وإنما هو توجيه لها ، وبيان زيادة مهمة فيها تزيل الاشتباه في احتمال التعارض مع الروايات الدالة على نفي تأثير الطيرة في شيء ، والله أعلم .
قال الزركشي : ( قال بعض الأئمة : ورواية عائشة في هذا أشبه بالصواب إن شاء الله تعالى ـ ؛ لموافقتها نهيه عليه الصلاة والسلام عن الطيرة نهيا عاما ، وكراهتها ، وترغيبه في تركها بقوله « يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب » وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتكلون )[16] .
الجواب الثاني :
حمل رواية الجزم ـ وهي ( الشؤم في ثلاث ... ) ورواية ( إنما الشؤم في ثلاث ... ) ـ على رواية التعليق ـ وهي ( إن كان الشؤم في شيء ... ) وما في معناه .
وقد وردت رواية الجزم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وأبي هريرة رضي الله عنه ـ فيما تضمنته رواية إنكار عائشة رضي الله عنها ـ .
أما رواية التعليق فقد وردت من عدة طرق : من طريق ابن عمر نفسه ، قال : ذكروا الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن كان الشؤم في شيء ففي الدر والمرأة والفرس ) .
ولها شاهد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن )[17] .
ومن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا عدوى ولا طيرة ولا هام ، إن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدار )[18] .
ومن حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن كان شيء ففي المرأة والفرس والمسكن )[19] .
ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا طيرة ، والطيرة على من تطير ، وإن تك في شيء ففي الدار والفرس والمرأة )[20] .
ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا عدوى ولا طيرة ، وإن كان في شيء ففي المرأة والفرس والدار )[21] .
وبذلك يعلم أن رواية التعليق هي الأكثر ، وقد وردت عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم ، مما يدل على أنها هي المحفوظة ، فتحمل رواية الجزم عليها .
وبناء على ذلك فليس في الحديث دلالة على إثبات الطيرة في هذه الأمور ، بل هو موافق للنصوص الدالة على نفي الطيرة ؛ إذ أن المعنى : لو كانت الطيرة مؤثرة في شيء لكانت في هذه الثلاثة ، أما وإنها ليست كائنة فيها ـ وهي أكثر ما يلازم المرء ـ فإن الطيرة منفية في غيرها .
قال الإمام ابن جرير الطبري : ( وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس » فإنه لم يثبت بذلك صحة الطيرة ، بل إنما أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك إن كان في شيء ففي هذه الثلاث ، وذلك إلى النفي أقرب منه إلى الإيجاب ؛ لأن قول القائل : إن كان في هذه الدار أحد فزيد . غير إثبات منه أن فيها زيدا ، بل ذلك من النفي أن يكون فيها زيد أقرب منه إلى الإثبات أن فيها زيدا )[22] .
وقال الإمام الطحاوي ـ رحمه الله تعالى ـ عند كلامه على حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المتقدم : ( فلم يخبر أنها فيهن ، وإنما قال : إن تكن في شيء ففيهن ، أي لو كانت تكون في شيء لكانت في هؤلاء ، فإن لم تكن في هؤلاء الثلاثة فليست في شيء )[23] .
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ : ( والحديث يعطي بمفهومه أن لا شؤم في شيء ؛ لأن معناه : لو كان الشؤم ثابتا في شيء ما لكان في هذه الثلاثة ، لكنه ليس ثابتا في شيء أصلا . وعليه فما في بعض الروايات بلفظ » الشؤم في ثلاثة « فهو اختصار وتصرف من بعض الرواة ، والله أعلم )[24] .
ومن تأمل رواية البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ لما ذكر رواية ابن عمر ري الله عنهما ـ وهي بالجزم ـ عقبها برواية سهل بن سعد ـ وهي بالتعليق ـ مما ظاهره ما تقرر في هذا الجواب ، وهو حمل رواية الجزم على رواية التعليق ، والله أعلم .
الجواب الثالث :
تخصيص هذه الثلاثة من عموم ما يتطير به .
ورجحه الشوكاني ، فقال : ( فيكون حديث الشؤم مخصصا لعموم حديث » لا طيرة « فهو في قوة : لا طيرة إلا في هذه الثلاث . وقد تقرر في الأصول أنه يبنى العام على الخاص مع جهل التاريخ ، وادعى بعضهم أنه إجماع ، والتاريخ في حديث الطيرة والشؤم مجهول )[25] .
ونسبه ابن القيم وابن حجر إلى ابن قتيبة .
قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وظاهر الحديث أن الشؤم والطيرة في هذه الثلاث ، قال ابن قتيبة : « ووجهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعلمهم أن لا طيرة ، فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هؤلاء الثلاثة » . قلت : فمشى ابن قتيبة على ظاهره ، ويلزم من قوله أن من تشاءم بشيء منها نزل به ما يكره ) [26].
قلت : وكلام ابن قتيبة في « تأويل مختلف الحديث » يرد ذلك ؛ إذ أن مضمونه رد الطيرة مطلقاً في هذه الثلاث وغيرها ، وحملُ حديث الثلاث على حكاية قول اليهود أو المشركين على ما قالته عائشة رضي الله عنها ، وحملُ حديث « ذروها ذميمة » على الرخصة في ترك ما استثقلوه .([27])
ولذلك فقد وجه القرطبي كلامه السابق الذي نقله ابن حجر ـ وأظنه في مشكل الحديث كما أشار إليه ابن القيم ـ بما معناه هذا المضمون ، فقال : ( ولا يظن بمن قال هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت الجاهلية تعتقده فيها وتفعل عندها ، فإنها كانت لا تقدم على ما تطيرت به ؛ بناء على أن الطيرة تضر مطلقا ، فإن هذا ظن خطأ ، وإنما يعني بذلك أن هذه الثلاثة هي أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها ، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه ويسكن له خاطره ) [28] .
وعموماً فالجواب الذي تتفق فيه الروايات في المعنى أولى من هذا الجواب الذي يتقرر به التعارض ، فيلجأ به إلى التخصيص .
الجواب الرابع :
أن التطير واقع على من تطير ، استدلالا بحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا طيرة ، والطيرة على من تطير .. )[29] .
فقالوا : الشؤم بهذه الأشياء إنما يلحق من تشاءم بها وتطير بها ، فيكون شؤمها عليه ، ومن توكل على الله ولم يتشاءم بها ولم يتطير لم تكن مشؤومة عليه ، فقد يجعل الله تعالى تطير العبد وتشاؤمه سببا لحلول المكروه به ، كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به .[30]
قلت : والاستدلال بحديث أنس على ذلك فيه نظر ؛ إذ أن هذا الاستدلال يفيد إثبات الطيرة على كل من تطير ، مع أن أول الحديث نفي لذلك .
قال الإمام ابن عبدالبر ـ رحمه الله تعالى ـ في بيان ذلك : ( فإن قال قائل : قد روى زهير بن معاوية عن عتبة بن حميد ... ـ وذكر حديث أنس رضي الله عنه ـ .. وقال : هذا يوجب أن تكون الطيرة في الدار والمرأة والفرس لمن تطير . قيل له ـ وبالله التوفيق ـ : لو كان كما ظننت لكان الحديث ينفي بعضه بعضا ؛ لأن قوله » لا طيرة « نفي لها ، وقوله » والطيرة على من تطير « إيجاب لها ، وهذا محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا من النفي والإثبات في شيء واحد ووقت واحد ، ولكن المعنى في ذلك : نفي الطيرة بقوله » لا طيرة « ، وأما قوله » والطيرة على من تطير « فمعناه : إثم الطيرة على من تطير بعد علمه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة ، وقوله فيها « إنها شرك ، وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » ، فمعنى هذا الحديث عندنا ـ والله أعلم ـ أن من تطير فقد أثم ، وإثمه على نفسه في تطيره ؛ لترك التوكل وصريح الإيمان ؛ لأنه يكون ما تطير به على نفسه في الحقيقة ؛ لأنه لا طيرة في الحقيقة )[31] .
الجواب الخامس :
أن المعنى هو إخبار عن الأسباب المثيرة للطيرة الكامنة في الغرائز ، وأنها بهذه الثلاث ، أخبر بها ليحذر منها ، فالحوادث التي تكثر مع هذه الأشياء والمصائب التي تتوالى عندها تدعو الناس إلى التشاؤم بها .[32]
فالمعنى : أن أكثر ما يقع الشؤم عند الناس هو بهذه الأمور الثلاثة ؛ وذلك لطول الملازمة ، ووقوع المصاحبة ، فمن تشاءم بشيء من هذه الأمور فقد شابه أهل الجاهلية .
الجواب السادس :
أن هذه الثلاث تكون في الغالب محال وظروف لحصول المكروه للمرء بحكم طول الملازمة والمصاحبة ، فيكون المحل حين يقع المكروه عنده ملازما لذلك المكروه ، فيقع الشؤم بذلك ، لا أن ذلك المحل هو السبب لوقوع ذلك المكروه .
فالمعنى منصرف إلى كون هذه الثلاث قد يقع الشؤم بها لكونها محالا لوقوع المكروه ، وقد تقرر النهي عن الطيرة والتشاؤم من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وإنما هذه الأشياء محال وظروف جعلت مواقع لأقضيته ، ليس لها بأنفسها وطباعها فعل ولا تأثير في شيء ، إلا أنها لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الناس ، وكان الإنسان في غالب أحواله لا يستغني عن دار يسكنها وزوجة يعاشرها وفرس يرتبطه ، وكان لا يخلو من عارض مكروه في زمانه ودهره ، أضيف اليمن والشؤم إليها إضافة مكان ومحل ، وهما صادران عن مشيئة الله سبحانه )[33] .
الجواب السابع :
أن المراد بذلك ليس ثبوت الشؤم في هذه الأمور مطلقا ، وإنما ما يكون منها من أعيان ممحوقة البركة ، فيكون الشر غالبا فيها ، وهي لطول ملازمة المرء لها يظل أثر ذلك ملازما له ، فيقضي حياته معذبا بذلك .
والإسلام جاء رحمة للعباد ، فرخص لمن هذه حاله مفارقة ما يكون شؤمه غالبا على نفسه ؛ حتى تطيب نفسه ، ويزول عنه ما يكره .
ولذلك فليس المقصود بذلك مطلق المرأة ومطلق الدار ومطلق الفرس ، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الذين تشاءموا من دارهم بالتحول إلى دار غيرها ! وكذلك لا يمكن أن يعيش المرء بلا دار ، ولم يكن هذا في الشرع أبدا !
وكذلك قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ، وقد شرع لأمته أن يتزوجوا ، وحث الشباب على ذلك ، فلو كانت كل امرأة مشؤومة لكان في هذا إبطال لذلك كله .
وكذلك الخيل قد أخبر صلى الله عليه وسلم أنها تكون مباركة لصاحبها حين يراعي حق الله تعالى فيها ، فقال : ( الخيل لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ، ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له ، فهي لذلك أجر ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر )[34] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( البركة في نواصي الخير )[35] .
فالمراد إذً ليس هو مطلق هؤلاء الثلاث ، وإنما ما قد يكون في ذلك من السوء مما يجعله شؤما ملازما لمن صاحبه .
ومما يدل على ذلك ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من سعادة ابن آدم ثلاثة ، ومن شقوة بن آدم ثلاثة ، من سعادة بن آدم : المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح ، والمركب الصالح ، ومن شقوة بن آدم : المرأة السوء ، والمسكن السوء ، والمركب السوء )[36] .
فالحديث دال دلالة صريحة على معنى الشؤم الذي يكون بهؤلاء الثلاث ، وأنه ليس من الرمي بالغيب كما هو حال الطيرة والشؤم المنهي عنه ، ولكنه سبب بيّن معلوم ، كما لو قلت : المعاصي شؤم على مرتكبها ، وسوء الخلق شؤم على صاحبه ، والابن العاق شؤم على والديه ... وهكذا .
فما دام أن الشؤم الذي قد يقع بهؤلاء الثلاث قد جاء مفسرا بما هو سبب ظاهر له فلا يكون من باب الطيرة التي كان عليها أهل الجاهلية ، والتي هي من القذف بالغيب ، وخوض المرء بما ليس له به علم ، ولا له عليه دليل من الوحي المنزل أو الأسباب القدرية التي جعلها الله تعالى سننا للعباد يربطون بها الأسباب بمسبَّباتها .
ولقد جاء عن بعض السلف تفسير ذلك الشؤم المذكور في هذه الثلاث ، فقد روى عبدالرزاق في مصنفه عن معمر : سمعت من يفسر هذا الحديث يقول : شؤم المرأة إذا كانت غير ولود ، وشؤم الفرس إذا لم يغز عليه ، وشؤم الدار جار السوء .[37]
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وبالجملة فإخباره بالشؤم أنه يكون في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها ، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشؤومة على من قاربها وسكنها ، وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر ، وهذا كما يعطى سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه ، ويعطى غيرهما ولدا مشؤما نذلا يريان الشر على وجهه ، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها ، فكذلك الدار والمرأة والفرس ، والله سبحانه خالق الخير والشر ، والسعود والنحوس ، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة ويقضى سعادة من قارنها وحصول اليمن له والبركة ، ويخلق بعض ذلك نحوسا يتنحس بها من قارنها ، وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة ، فكما خلق المسك وغيره من حامل الأرواح الطيبة ولذذ بها من قارنها من الناس ، وخلق ضدها وجعلها سببا لإيذاء من قارنها من الناس ، والفرق بين هذين النوعين يدرك بالحس ، فكذلك في الديار والنساء والخيل ، فهذا لون والطيرة الشركية لون آخر )[38] .
قلت : وأظهر ما تقدم من جواب هو في الأول والثاني والسابع ، والله تعالى أعلم .
وبذا يصان الحديث عن الظنون الكاذبة التي يدعيها الأعداء ويقبلها الجهلاء .
والله ولي التوفيق .
-------------------------------------
[1]) رواه البخاري في الطب ـ باب لا عدوى ـ رقم 5772 ، ومسلم في السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن ابن عمر رضي الله عنهما .
[2]) البخاري في النكاح ـ باب ما يتقى من شؤم المرأة ـ رقم 5093 ، ومسلم في السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن ابن عمر رضي الله عنهما .
[3]) البخاري في النكاح ـ باب ما يتقى من شؤم المرأة ـ رقم 5094 ، ومسلم في السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن ابن عمر رضي الله عنهما . .
[4]) مسلم في السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن ابن عمر رضي الله عنهما .
[5]) مسلم في السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن جابر رضي الله عنه .
[6]) مالك في الموطأ ـ كتاب الاستئذان ـ باب ما يتقى من الشؤم 2/972 ، وعبدالرزاق في المصنف 10/411 .
[7]) رواه أحمد في المسند 6/150 ، 240 ، والطحاوي في مشكل الآثار 1/341 .
[8]) رواه أحمد في المسند 6/246 ، والحاكم في المستدرك 2/521 وصححه ووافقه الذهبي . وصححه الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/594 .
[9]) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص 215 ورقم 1537 ، والطبراني في مسند الشاميين 4/343 .
[10]) السلسلة الصحيحة 2/594
[11]) انظر : تقريب التهذيب لابن حجر ص 559 .
[12]) انظر : تهذيب التهذيب لابن حجر 9/367 .
[13]) تهذيب الآثار 3/27 رقم 70 .
[14]) مفتاح دار السعادة 2/254 .
[15]) فتح الباري 6/61 .
[16]) الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة ص 128 .
[17]) رواه البخاري في الجهاد والسير ـ باب ما يذكر من شؤم الفرس ـ رقم 2859 ، ومسلم في السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2226 .
[18]) رواه أحمد في المسند 1/180 ، وابن حبان في صحيحه 13/497 ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/313 .
[19]) تقدم تخريجه ص
[20]) رواه ابن حبان في صحيحه 13/492 .
[21]) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/314 .
[22]) نهذيب الآثار 3/34 .
[23]) شرح معاني الآثار 4/314 .
[24]) سلسلة الآحاديث الصحيحة 443 .
[25]) نيل الأوطار 7/209 .
[26]) فتح الباري 6/72 ، وانظر مفتاح دار السعادة لابن القيم 2/256 .
[27] انظر : مختلف الحديث لابن قتيبة ص 104 وما بعدها .
[28]) المفهم 5/629 .
[29]) تقدم تخريجه ص
[30]) انظر : مفتاح دار السعادة 2/256 .
[31]) التمهيد 9/284 .
[32]) انظر : مفتاح دار السعادة 2/257 .
[33]) أعلام الحديث للخطابي 2/1379 .
[34]) رواه البخاري في المساقاة ـ باب شرب الناس والدواب من الأنهار ـ رقم 2371 ، ومسلم في الزكاة ـ باب إثم مانع الزكاة ـ رقم 987 عن أبي هريرة رضي الله عنه .
[35]) رواه البخاري في الجهاد والسير ـ باب الجهاد معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ـ رقم 2851 ، ومسلم في الإمارة ـ باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ـ رقم 1874 .
[36]) رواه أحمد في المسند 1/168 وأبو داود الطيالسي في مسنده ص 29 رقم 210 ، والحاكم في المستدرك 2/157 وصححه ووافقه الذهبي .
[37]) مصنف عبدالرزاق 10/411 .
[38]) مفتاح دار السعادة 2/257 . - د. عبدالله بن عبدالرحمن الهذيل