الأربعاء، 6 مارس 2024

حكم إقامة سلام مع إسرائيل.. مناظرة فقهية بين الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ يوسف القرضاوي

 




حكم إقامة سلام مع إسرائيل.. مناظرة فقهية بين الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ يوسف القرضاوي(*)
العناصر:
السلام مع إسرائيل: رد الشيخ القرضاوي على الشيخ بن باز
صلح الحديبية كان مع قريش وهي مغتصبة لأموال المسلمين - رد الشيخ بن باز على الشيخ القرضاوي
جهاد الدفع فرض عين واليهود معتدون ولم يجنحوا للسلم: رد الشيخ القرضاوي على الشيخ بن باز
التفاصيل:
(1) السلام مع إسرائيل - رد الشيخ القرضاوي على الشيخ بن باز
س: نشرت الصحف فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي المملكة العربية السعودية حول السلام مع إسرائيل، أفادت أن الشيخ الجليل يقر هذا السلام ـ مع ما فيه من ثغرات ـ ما دام ولي الأمر يرى فيه المصلحة، فما تعليق فضيلتكم على ذلك؟
ج: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز واحد من كبار علماء المسلمين المرموقين في هذا العصر. وفتاواه معتبرة في الأوساط العلمية والدينية، وهو رجل يوثق بعلمه ودينه. نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله تعالى.
ولكنه ـ على كل حال ـ ليس بمعصوم، فهو بشر يصيب ويخطئ، وقد تعلمنا من سلفنا الصالح: أن كل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أجل هذا جاء التحذير من (زلات العلماء)، ومن (زيغة الحكيم) كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه، فيما رواه أبو داود.
وقد قال معاذ: " احذروا زيغة الحكيم،ولا يثنينكم ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع".
وفتوى العلامة ابن باز التي نشرت حول السلام مع إسرائيل ـ إن صحت عنه ـ يخالفه فيها الكثير من علماء المسلمين، وأنا منهم، على الرغم من مودتي وتقديري الكبير له. ولكن كما قال الحافظ الذهبي عن شيخه الإمام ابن تيمية: شيخ الإسلام حبيب إلينا، ولكن الحق أحب إلينا منه!
في رأيي أن موضع الخطأ في فتوى الشيخ حفظه الله ليست في الحكم الشرعي والاستدلال له، فالحكم في ذاته صحيح، والاستدلال له لا غبار عليه، ولكن الخطأ هنا في تنـزيل الحكم على الواقع. فهو تنـزيل غير صحيح، وهو ما يسميه الأصوليون "تحقيق المناط". فالمناط الذي بني عليه الحكم لم يتحقق. وأوضح ذلك فيما يلي:
بنى الشيخ ابن باز فتواه على أمرين أو على دليلين:
الأول: قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوكل على الله}.
الثاني: أن الهدنة تجوز شرعًا مؤقته ومطلقة، وكلاهما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين. فقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم مشركي مكة على ترك الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وصالح كثيرًا من قبائل العرب صلحًا مطلقًا. فلما فتحت مكة نبذ إليهم عهودهم، وأجل من لا عهد له أربعة أشهر.
وعلى أساس هذين الدليلين قال الشيخ: يجوز لولي الأمر أن يعقد الهدنة إذا رأى المصلحة في ذلك.
وننظر في الدليل الأول للشيخ العلامة. وهو الآية الكريمة من سورة الأنفال، فنقول: لا مشاحّة في أن العدو إذا جنح للسلم ينبغي نحن أن نجنح لها متوكلين على الله. ولكن تطبيق هذا على واقع اليهود معنا غير صحيح، لأن اليهود الغاصبين لم يجنحوا للسلم يوما.
وكيف يعتبر اليهود جانحين للسلم، بعد أن اغتصبوا الأرض، وسفكوا الدماء، وشردوا الأهل، وأخرجوا الناس من ديارهم بغير حق؟
ما مثل اليهود مع أهل فلسطين إلا كمثل رجل اغتصب دارك، واحتلها بأهله وأولاده وأتباعه بالقوة والسلاح، وأخرجك وأهلك وعيالك منها، وشردك في العراء، وظللت أنت وعيالك تقاومه وتحاربه، وتقاتله ويقاتلك، لكي تسترجع دارك، وتسترد حقك. . وبعد مدة طالت من الزمن قال لك: تعال أصالحك وأسالمك. سأترك لك حجرة من الدار الكبيرة ـ دارك أنت ـ على أن تسالمني ولا تحاربي، وتسلم لي ولا تنازعني، فسأترك لك الأرض مقابل سلامي، مع أن الأرض أو الحجرة التي سيتنازل عنها في زعمه هي أرضك أنت مقابل سلامه هو! فهل يعتبر مثل هذا المغتصب المصر على اغتصابه جانحًا للسلم؟!
إن الآية التي يجب أن نذكرها هنا ليست آية ( سورة الأنفال)، بل آية (سورة محمد) وهي قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم}.
وننظر في الدليل الثاني للشيخ، وهو أن الهدنة تجوز مؤقتة ومطلقة، فنقول: إن الهدنة معناها وقف القتال، ولكن هل الذي وُقِّع مع اليهود مجرد هدنة تترك فيها الحرب، ويوقف فيها القتال، ويكف الناس بعضهم عن بعض؟
الواقع يقول: إن الذي حدث بين اليهود والفلسطينيين ليس مجرد هدنة، بل هو شيء أكبر وأخطر، هو اعتراف لليهود بأن الأرض التي اغتصبوها بالحديد والنار، وشردوا أهلها بالملايين، أصبحت ملكًا لهم، وأصبحت لهم السيادة الشرعية عليها، وغدت حيفا ويافا وعكا واللد والرملة وبير السبع ـ بل القدس نفسها ـ أرضا إسرائيلية. وأن هذه البلاد العربية الإسلامية التي ظلت أكثر من ثلاثة عشر قرنًا مع المسلمين، صارت جزءًا من دولة إسرائيل اليهودية الصهيونية،، ولم يعد لنا حق فيها، ولا حتى مجرد المطالبة بها. ومعنى هذا: أن ما أخذ بالسلاح والقوة اكتسب الشرعية!
ما حدث إذن ليس مجرد هدنة كما تصور شيخنا الكريم، بل هو اعتراف كامل بحق إسرائيل في أرضنا الإسلامية العربية، وفي سيادتهم عليها، وأنها خرجت من أيدينا إلى الأبد! فقد وقعنا على ذلك العقود، وأشهدنا على ذلك الشهود!
إننا هنا نخالف سماحة الشيخ في تطبيق الحكم الشرعي على الواقع الراهن، فهو تطبيق ـ في نظرنا ـ غير سليم.
وقد جرت عادت الشيخ معنا في المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي الذي يرأسه سماحته، ألا نفصل في الأمور التي تحتاج إلى رأي الخبراء المتخصصين إلا بعد أن نسمع شروحهم، وننصت لآرائهم، ثم يحكم الفقهاء بعد ذلك.
هذا ما يحدث في الأمور المالية والاقتصادية حيث يُدْعَى لشرحها خبراء المال والاقتصاد.
وهو ما يحدث في الأمور الطبية، حيث يدعي لشرحها كبار المتخصصين من رجال الطب في الفرع الذي يبحث فيه.
ويحدث هذا في الأمور العلمية والفلكية، حيث يدعى الأساتذة المتخصصون فيها، لسماعهم والحوار معهم، قبل أن يحكم أهل الفقه.
وكان على الشيخ الكبير في هذا الموضوع الخطير الذي يتعلق بعدو ظللنا نحاربه ـ لبغيه وعدوانه ـ ما يقرب من خمسين سنة بعد قيام دولته، وعشرات السنين الأخرى قبل قيام الدولة ـ أن يستمع إلى رأي الخبراء في السياسة والسلم والحرب، الخبراء الثقات المأمونين الذين لا يدورون في فلك الحكام الخونة أو المتخاذلين، ليعلم منهم: هل جنح اليهود للسلم فعلاً؟ هل ما حدث أهو مجرد هدنة أم اعتراف كامل يسقط حقنا بالكلية؟
والأمر واضح كل الوضوح، فالمغتصب لا يعد جانحًا للسلم حتى يرد ما اغتصبه إلى أهله، والاعتراف بسيادة المغتصب على ما انتهبه من أرض ليس هو الهدنة التي أجازها الفقهاء مطلقة أو مؤقتة. ومارسها صلاح الدين الأيوبي في حروبه مع الصليبيين أو مع بعضهم، حتى مكَّنه الله منهم، ونصرهم عليهم في (حطّين) وفي (فتح بيت المقدس)، بعد أن ظل تسعين عامًا في أيديهم.
لا أريد أن أتطرق إلى موضوع هذا السلام الهزيل النحيل، وما فيه من ثغرات هائلة، فقد أخذت فيه إسرائيل ولم تعط، وأعلنت من أول يوم بكل تبجح: أن القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية لشعب إسرائيل، فبقيت مشكلات القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود معلقة، فماذا حل هذا السلام المزعوم من مشكلات إذن؟
ومع هذا أنا لا أتحدث هنا عن السلام من ناحية الموضوع، ولكن من ناحية المبدأ. فالسلام بهذه الصيغة مرفوض شرعًا. ولطالما قلت، ولا زلت أؤكد: إن فلسطين كلها أرض إسلامية، فليست هي ملك الفلسطينيين وحدهم حتى يتصرفوا فيها دون الأمة الإسلامية، فهي ملك الأمة كل الأمة، في سائر أجيالها، ولو فرط جيل وتقاعس لا يجوز أن يفرض تقاعسه وتخاذله على سائر أجيال الأمة المسلمة، لو فرط الفلسطينيون وتقاعسوا لوجب على الأمة أن تدافع عن حقها، وتقاتل عن أرضها وعن مسجدها الأقصى، فإن لم تستطع الدفاع والمقاتلة، فلتخاصم عنها بالبيان والتبليغ. فكيف والفلسطينيون أنفسهم يرفضون هذا الاستسلام ويقاومونه بكل ما يستطيعون؟
والمسلمون في ديار الإسلام يعجبون من العرب كيف تغيروا ما بين عشية وضحاها، وجعلوا العدو صديقًا، ووضعوا أيديهم في يد من قاتلهم وقتلهم وأخرجهم من ديارهم وأبنائهم. والموقف السليم هنا ما حكاه القرآن { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ } البقرة:246.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. آمين.
(2) صلح الحديبية كان مع قريش وهي مغتصبة لأموال المسلمين - رد الشيخ بن باز على الشيخ القرضاوي
إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي المنشور في مجلة المجتمع العدد 1133 الصادرة يوم 9 من شعبان 1415هـ الموافق 10/1/1995م. حول الصلح مع اليهود. وما صدر مني في ذلك من المقال المنشور في صحيفة "المسلمون" الصادرة في يوم 31 من رجب 1415هـ جوابًا لأسئلة موجهة إلى من بعض أبناء فلسطين.
وقد أوضحت أنه لا مانع من الصلح معهم إذا اقتضت المصلحة ذلك ليأمن الفلسطينيون في بلادهم ويتمكنوا من إقامة دينهم.
وقد رأى فضيلة الشيخ يوسف أن ما قلته في ذلك مخالف للصواب. لأن اليهود غاصبون فلا يجوز الصلح معهم. إلى آخر ما ذكره فضيلته.
وإنني أشكر فضيلته على اهتمامه بهذا الموضوع ورغبته في إيضاح الحق الذي يعتقده، ولا شك أن الأمر في هذا الموضوع وأشباهه هو كما قال فضيلته. يرجع فيه للدليل. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الحق في جميع مسائل الخلاف لقوله الله عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. وقال سبحانه {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}. وهذه قاعدة مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة.
ولكن ما ذكرناه في الصلح مع اليهود قد أوضحنا أدلته، وأجبنا عن أسئلة وردت إلينا في ذلك من بعض الطلبة بكلية الشريعة في جامعة الكويت، وقد نشرت هذه الأجوبة في صحيفة المسلمون الصادرة في يوم الجمعة 19/8/1415هـ الموافق 20/1/1995م وفيها إيضاح لبعض ما أشكل على بعض الإخوان في ذلك.
ونقول للشيخ يوسف وفقه الله وغيره من أهل العلم: "إن قريشًا قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم، كما قال الله سبحانه في سورة الحشر: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}. ومع ذلك صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم الحديبية سنة ست من الهجرة، ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم، مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم، ولمن يرغب الدخول في الإسلام.
ونقول أيضًا: جوابا لفضيلة الشيخ يوسف عن المثال الذي مثل به في مقاله وهو: لو أن إنسانًا غصب دار إنسان وأخرجه إلى العراء ثم صالحه على بعضها . . أجاب الشيخ يوسف بأن هذا الصلح لا يصح. وهذا غريب جدًا بل هو خطأ محض، ولا شك أن المظلوم إذا رضي ببعض حقه، واصطلح مع الظالم في ذلك فلا حرج لعجزه عن أخذ حقه كله. وما لا يدرك كله لا يترك كله. . وقد قال الله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم}. وقال سبحانه {والصلح خير}. ولا شك أن رضا المظلوم بحجرة من داره أو حجرتين أو أكثر يسكن فيها هو وأهله، خير من بقائه في العراء.
وأما قوله عز وجل: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون، والله معكم ولن يتركم أعمالكم}. فهذه الآية فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم وأقدر على أخذ حقه، فإنه لا يجوز له الضعف، والدعوة إلى السلم، وهو أعلى من الظالم وأقدر على أخذ حقه. أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية فلا بأس أن يدعو إلى السلم كما صرح بذلك الحافظ بن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلم يوم الحديبية، لما رأى أن ذلك هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم، وأنه أولى من القتال . . وهو عليه الصلاة والسلام، القدوة الحسنة في كل ما يأتي ويذر، لقول الله عز وجل " لقد رضي الله عن المؤمنين . . . " آية 18 الفتح. ولما نقضوا العهد وقدر على مقاتلتهم يوم الفتح غزاهم في عقر دارهم، وفتح الله عليه البلاد، ومكنه من رقاب أهلها حتى عفا عنهم، وتم له الفتح والنصر ولله الحمد والمنة.
فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم، إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية لا على العاطفة والاستحسان. مع الإطلاع على ما كتبته أخيرًا من الأجوبة الصادرة في صحيفة (المسلمون) في 19/8/1415هـ الموافق 20/1/1995م. وقد أوضحت فيها أن الواجب هو جهاد المشركين من اليهود وغيرهم مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية، إن كانوا من أهلها، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعند العجز عن ذلك لا حرج في الصلح على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم، تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، في حربه وصلحه، وتمسكًا بالأدلة الشرعية العامة والخاصة، ووقوفًا عندها، فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة، والله المسؤول أن يوفقنا وجميع المسلمين قادة وشعوبًا لكل ما فيه رضاه، وأن يمنحهم الفقه في دينه، والاستقامة عليه. وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها. . إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
(3) جهاد الدفع فرض عين واليهود معتدون ولم يجنحوا للسلم: رد الشيخ القرضاوي على الشيخ بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. . أما بعد
فقد اطلعت على ما كتبه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ حفظه الله ـ تعقيبًا على ردي على الفتوى التي صدرت من سماحته إجابة عن أسئلة وجهتها إليه مجلة "المسلمون" في 21 من رجب سنة 1415 هـ حول السلام مع دولة الاغتصاب الصهيوني (إسرائيل).
ويؤسفني أن أخالف سماحته في تعقيبه، كما خالفته في أصل الفتوى، وليس في العلم كبير، والحق أحق أن يتبع. وقد أكد الشيخ الأصل الأصيل الذي لا يحيد عالم عنه، وهو: أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد بنيت ردي السابق على حقيقة مهمة ومسلمة لدى أهل العلم، وهي أن الفتوى لا تكون صحيحة واقعة موقعها، إلا إذا امتزج فيها فقه النصوص والأحكام بفقه الواقع، فإذا انفصل أحدهما عن الآخر وقع الخلل، وقد ذكرت أن الخلل الذي وقع في فتوى سماحة الشيخ لم يجئ من عدم معرفة النصوص والأحكام، بل من عدم معرفة الواقع على حقيقته.
ومعرفة الواقع وفقهه قد يصل إليه الفقيه بنفسه، وقد يحتاج إلى خبراء يقرأ لهم أو يستمع إليهم كما في الأمور الطبية والفلكية والاقتصادية وغيرها، والقرآن الكريم يقول {فاسأل به خبيرًا} سورة الفرقان: الآية 59. {ولا ينبئك مثل خبير} سورة فاطر: الآية 14
وكنت أود من فضيلة الشيخ أن يرد على ما أثرته واستشكلته في فتواه حفظه الله، ولكنه رد على أمور جانبية وترك الأساس في القضية.
قلت في كلمتي تلك: إن الشيخ استدل بالآية الكريمة {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} الأنفال: 61 والآية محكمة في نظرنا، والحكم المستنبط منها مسلم في عمومة، ولكن تطبيقه على الواقع غير مسلم، فاليهود لم يجنحوا يومًا للسلم، وإنما هم مغتصبون معتدون، أخذوا الأرض من أهلها بالقوة والسلاح والعنف والإرهاب، وشردوهم منها، وأقاموا دولتهم العنصرية الظالمة عليها. وقد قلت: إن الغاصب لا يعتبر جانحًا للسلم، إلا إذا رد ما اغتصبه إلى أهله، أما أن يغتصب داري ويسمح لي بحجرة منها أسكنها بإذنه وتحت سلطانه، فليس هذا جنوحًا للسلم بحال. هذا ما قلته ولم أقل: إن من استطاع أن يأخذ حجرة من داره المغتصبة، فليس له أن يأخذها، ويجاهد لأخذ الباقي واسترداده، وهو الذي استنبطه الشيخ من قولي، وقال إنه خطأ محض وهو ما لم أقله.
لقد استدل الرئيس المصري الراحل أنور السادات ـ حين عقد اتفاقه مع إسرائيل ـ بالآية الكريمة: {وإن جنحوا للسلم. . } فقاطعه العرب جميعًا وخونوه، وقالوا: إن اليهود لم يجنحوا للسلم، وأعتقد أن الموقف لم يتغير، بل إن اتفاق عرفات أسوأ من اتفاق السادات، باعتراف الجميع، ومن نظر في التاريخ وفي حديث القرآن عنهم وفي واقعهم العملي، يجزم بأنهم لم يجنحوا للسلم أبدًا.
كيف وقد رأينا منهم مذبحة المسجد الإبراهيمي وقتل الركع السجود في بيت الله وفي شهر رمضان؟ كما رأيناهم يغتصبون شطر المسجد ويحرمون على المسلمين دخوله؟!
وكيف يعتبر جانحًا للسلم من يقيم المستوطنات إلى اليوم في أرض العرب والمسلمين، وينتـزع الأرض الزراعية من أيدي أصحابها وملاكها، ويأتي بالآلات (البلدوزرات) لتسويتها وإلحاقها بأملاك اليهود، وأهل الأرض يصرخون ويستغيثون ولا مغيث؟
كيف يعتبر جانحًا للسلم من يقيم الحفريات حول المسجد الأقصى ومن تحته، ويَعُدُّ العُدَّةَ لبناء الهيكل على أنقاض المسجد، وهو أحد أحلامه الكبرى؟
كيف يعتبر جانحًا للسلم من يهدد المنطقة كلها بترسانته النووية وأسلحته الكيماوية والجرثومية ويمتنع عن مجرد التوقيع على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية؟
الحق أن كل البراهين والشواهد تدل بوضوح على أن اليهود في طبيعتهم العدوان، وفي مخططهم العدوان، فهم لا يزالون يحلمون بإسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل فإلى أرض خيبر. ومواقع بني قينقاع وقريظة والنضير!
وإنما سعى اليهود إلى هذا السلام المدعى حين رأوا تنامي الجهاد وحركة المقاومة الإسلامية التي غدت مصدر قلق ورعب لليهود، فأرادوا أن يضربوا الحركة (الأصولية) الفلسطينية بأيدي الفلسطينيين أنفسهم وهو ما نتمنى ألا يكون.
وأما ما ذكره الشيخ ابن باز من مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش في الحديبية، وعقد هدنة معهم لعشر سنين، مع ظلمهم للمسلمين في دورهم وأموالهم، واستدلاله بذلك على جواز ما يصنع اليوم مع إسرائيل، فهو استدلال مردود، للفرق الشاسع بين الموقفين:
فقريش ليست عنصرًا دخيلاً على مكة، بل الدار دارها، والبلد بلدها، والمسلمون هاجروا إلى الله ورسوله مختارين لنصرة دينهم، لا لدنيا يصيبونها، ولم يكن المشركون يحبون هجرتهم ولهذا هاجروا مستخفين، إلا ما كان من عمر رضي الله عنه. وإن عبر القرآن عن ذلك بأنهم {أخرجوا من ديارهم وأموالهم} لما كان عليهم من التضييق والإيذاء.
بخلاف إسرائيل، فهي كيان دخيل على المنطقة، احتل الأرض، وأقام عليها دولته، وشرّد أهلها، وفرض على العرب والمسلمين دولة دخيلة معادية في قلب دار الإسلام ووطن العرب.
ثم إن ما فعله الرسول الكريم معهم ليس أكثر من مهادنة تتوقف فيها الحرب بين الفريقين مدة من الزمن، وهذا ما يمكن قبوله للضرورة أو للمصلحة إذا رأى ذلك أهل الحل والعقد، أما الذي حدث مع اليهود فهو ـ كما ذكرنا من قبل ـ شيء أكبر وأعظم. . إنه اعتراف بحق اليهود فيما اغتصبوه من أرض، وأنه غدا جزءًا من دولتهم، وأن لهم حق السيادة عليه، وأن سلطانهم عليه سلطان شرعي، وأنه لم يعد لنا حق شرعي في المطالبة به، وناهيك بالجهاد لاسترداده، بعد أن وقعنا على ذلك العقود، وأشهدنا الشهود من الدول الكبرى والأمم المتحدة! وهذا ما لم يرد عليه الشيخ الجليل سدده الله.
وأما استشهاد الشيخ بقوله تعالى: {والصلح خير} فليس على إطلاقه، فالصلح الذي يُضَيِع حقوق الأمة، أو يملك أرض الإسلام لغاصبيها ليس خيرًا، وفي الحديث المعروف الذي رواه الترمذي (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالاً، أو حلل حرامًا) فحتى الصلح بين المسلمين ليس خيرًا بإطلاق، بل هو مقيد بقيود لا تخفى على أهل العلم.
وقد عقّب سماحة الشيخ ابن باز على قولي بأن الآية التي ينبغي ذكرها هنا هي قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} إن هذا فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم، وأقدر على أخذ حقه، فإنه لا يجوز له الضعف والدعوة إلى السلم، وهو أعلى من الظالم. أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية، فلا بأس أن يدعوا إلى السلم، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره أ هـ
وأقول للشيخ: إن سياق الآية لا يدل على ما ذهب إليه، بل الآية تنهى عن الدعوة إلى السلم من منطلق الضعف. . لا من منطلق القوة، بدليل عطف الدعوة إلى السلم على الوهن في الآية {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم} ويجوز أن تكون الواو للمعية، والآية تذكرة لهم بأنهم "الأعلون" دائمًا، لأنهم أصحاب الدين الذي يعلو ولا يعلى، فحقهم أعلى من باطل المشركين وتوحيدهم أعلى من شركهم، وحججهم أعلى من شبهاتهم، والعاقبة لهم: {وإن جندنا لهم الغالبون}.
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى في سورة آل عمران، وبعد هزيمة أحد: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
وما فهمه الشيخ من الآية: أن يحارب المسلمون إذا قووا، ويدعوا إلى السلم إذا ضعفوا لا يشرّف المسلمين، بل يجعلهم جماعة من الانتهازيين، الذين لا يحكمون الاعتبارات الأخلاقية بل الاعتبارات النفعية وحدها. وهذه في الواقع سوءة خلقية، وتهمة يبرأ منها الشرفاء.
والمفسرون الكبار يخالفون ابن كثير رحمه الله فيما ذهب إليه، فهذا شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري يقول في تفسير الآية: يقول تعالى ذكره: فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد المشركين، وتجنبوا عن قتالهم.
وقوله: {وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} يقول: ولا تضعفوا عنهم وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة وأنتم القاهرون والعالون عليهم، والله معكم بالنصر لكم عليهم. (تفسير الطبري جـ 11/ 326).
ويقول العلامة الألوسي في تفسير الآية: {فلا تهنوا} أي إذا علمتم أن الله تعالى مبطل أعمالهم ومعاقبهم، فهو خاذلهم في الدنيا والآخرة، فلا تبالوا بهم، ولا تظهروا ضعفًا. . ولا تدعو الكفار إلى الصلح خورًا وإظهارًا للعجز، فإن ذلك إعطاء الدنية "وأنتم الأعلون" الأغلبون، والعلو بمعنى الغلبة مجاز مشهور. والجملة حالية مقررة لمعنى النهي، مؤكدة لوجوب الانتهاء. وكذا قوله تعالى: {والله معكم} أي ناصركم، فإن كونهم الأغلبية، وكونه عز وجل ناصرهم من أقوى موجبات الاجتناب عن الذل والضراعة. (روح المعاني جـ 2/80).
وما أشار إليه سماحة الشيخ في إيضاحه لجريدة (المسلمون). . من وجوب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم ـ مع القدرة ـ حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . . إلخ فهذا في (جهاد الطلب) لا في (جهاد الدفع).
ونحن الآن في جهاد الدفع ـ دفع العدو المعتدي على أرض الإسلام وأهلها ـ وهو غير جهاد الطلب، حين يكون العدو في دياره، لا في ديارنا، ونحن نتعقبه من باب (الحرب الوقائية)، وهذا هو الذي قرر الفقهاء أنه فرض كفاية بخلاف جهاد الدفع، فهو فرض عين على من وقع عليه، ثم على من يليه، حتى يشمل الأمة كافة. وعلى جميع المسلمين مساعدته حتى ينتصر على عدوه، ويخرجه من دياره.
وأما ما ذكره الشيخ أكرمه الله من أن أولي الأمر إذا اجتهدوا فيما رأوا فيه المصلحة فعلينا إطاعتهم، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، فأولوا الأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الفقهاء الكبار: أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو العلم صنفين: العلماء والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس (مجموع الفتاوى 28/170) .
ومما يدل كذلك قوله تعالى في سورة النساء: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، فعطف (أولى الأمر) على (الرسول)، وقد كان هو الإمام الأعظم ورئيس الدولة، فدل على أن أولي الأمر جماعة معه، يرد إليهم الأمر، كما يرد إليه، ووصفهم ـ أو وصف بعضهم ـ بالعلم والاستنباط، وفي هذا دليل على أن (أولي الأمر) في المفهوم القرآني أشمل وأوسع من مجرد أصحاب السلطة والحكم.
وللشيخ رشيد رضا في تفسير الآية في (المنار) شرح مستفيض يجب الرجوع إليه.
وإذا سلمنا بأن أولي الأمر هم الحكام وحدهم، فهذا في حاكم بايعته الأمة على الكتاب والسنة، ووافقه أهل الحل والعقد، وله اليد والقدرة أي السيادة والسلطة على أرضه وشعبه، أما حاكم ليست له سلطة إلا في حدود ما يسمح به أعداؤه له، فليس هذا هو ولي الأمر الشرعي الواجبة طاعته.
على أن الطاعة لولي الأمر الشرعي ليست مطلقة، إنما هي في (المعروف) كما صحت به الأحاديث، وكما أشار إليه القرآن فمن أمر بمعصية فلا سمع له و لا طاعة، ومن القواعد المقررة فقها وشرعًا: أن تصرف ولي الأمر على الرعية منوط بالمصلحة، فإذا تصرف تصرفًا لا مصلحة فيه، فهو رد، أي مردود عليه، ولا مصلحة في التنازل عن أرض الإسلام لليهود الغاصبين، والاستسلام لهم إلا إذا كانت مصلحة بني صهيون، فهم المستفيد الأوحد من هذا السلام المزعوم.
وأحب أن أنبه هنا على أمر ذي بال أشرت إليه من قبل، وهو أن قضية فلسطين ليست قضية عادية، وأرض فلسطين ليست كغيرها، ففيها القدس والمسجد الأقصى منتهى الإسراء. ومبتدأ المعراج، والقبلة الأولى في الإسلام، فليست شأنًا يخص الفلسطينيين وحدهم، وإنما هي قضية الأمة الإسلامية كلها، وقد ربط الله في كتابه بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فلا يجوز التفريط في أحدهما من مسلم.
وقد حرك إشعال حريق المسجد الأقصى العالم الإسلامي كله، وحفز الملك فيصل بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ إلى دعوة قادة العالم الإسلامي في صورة مؤتمر قمة لمواجهة المشكلة، ومن خلال ذلك ولدت منظمة المؤتمر الإسلامي لتتحدث باسم الأمة الإسلامية.
فماذا يكون الحال اليوم والمسجد الأقصى يتعرض لخطر الهدم والضياع بالكلية؟ ورابين يعلن ويكرر بتبجح وصفاقة أن القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية لإسرائيل.
هذا وإن خلافي مع سماحة الشيخ عبد العزيز لا ينفي ما أكنه له من ود واحترام، وظني أنه لم يعرف الواقع السياسي على حقيقته، فجاء حكمه على قدر ما علم. وقد أثبت الواقع أن الفلسطينيين لم يحصلوا أي مصلحة من وراء ذلك السلام المزعوم، وأن المستفيد الأوحد منه هو اليهود.
وإني لأرجو من الشيخ أن يمعن النظر فيما أوردت من أدلة واعتبارات، عسى أن يراجع رأيه، فهو ـ فيما علمت ـ رجّاع إلى الحق. وقد قال عمر رضي الله عنه في رسالته الشهيرة في القضاء: (ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، أن تراجع فيه نفسك اليوم، فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابه والحمد لله أولاً وآخرًا.
----------
(*) المصدر: كتاب: فتاوي معاصرة (3/ 478-491)، للشيخ يوسف القرضاوي.


محمد بن أمان بن علي الجامي . كيف مات هذا الشيخ السلفي !!

 فهذا شيخ من شيوخهم قد لحق بمولاه وأتاه اليقين بعد سنين قضاها في خدمة آل سعود - دولة التوحيد المزعومة -


وبعد سنين قضاها وهو يسب المصلحين والدعاة ، هذا الشيخ هو : محمد بن أمان بن علي الجامي .
فكيف مات هذا الشيخ السلفي !!
مات هذا الرجل يوم الأربعاء - آخر يوم اربعاء قبل رمضان - وقد اصيب بسرطان في لسانه ، ومات ولم يسمع بوفاته أحد ، فما بكاه صالح ولا شقي ، ولا ذكره أحد من أتباعه وتلاميذه .
ولعلنا إن كشفنا بعض آيات الله تعالى فيه يكون فيها العبرى لأولئك القوم الذين ما زالوا يرفعون شعار السلفية وهم عن حقيقتها في غياب .
فقد مات هذا الرجل وهو يلعن الملك المرتد فهد ووزير داخليته نايف، والعجيب أن هذا الرجل كان طيلة عمره خادما لفهد ووزير داخليته نايف ، فما مات حتى راى عذاب الله بسبب ولائه للكفرة فذهب يلعن أولياءه وأسياده ، ولكن هيهات أن تنفع التوبة عند الغرغرة { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } .
لقد مات الرجل ولم يسمع به أحد - هذه واحدة -
لقد مات شيخ السلفية المزعومة - سلفية أهل الولاء - وقد اصيب بالسرطان في لسانه - هذه ثانية -
لقد مات شيخ السلفية المزعومة - سلفية أهل الولاء - وهو يلعن أولياءه واسياده - هذه ثالثة -
فهل يعتبر أولئك الشباب الذين ربطوا عقولهم بهؤلاء القوم ، وذهبوا يشتمون الموحدين ويكشفون عوراتهم للطواغيت - وتحت باب الحفاظ على مصلحة أولياء الأمر المطهرين ! -
فهذه آية من آيات الله لهم لعلهم يعتبرون ، ولو كانت في آحاد الناس لهانت ، أما ن تكون في مثل هذا الرجل - الإمام القدوة - فإنها آية بينة وعظة ما بعدها عظة .
وللذكر فهذا الشيخ هو شيخ السلفي المزعوم ربيع بن هادي المدخلي - شيخ شيوخ سلفية أهل الولاء -
اللهم لا شماتة ، لكنها العبرة والعظة .
{ ومن لم يجعل الله له من نور فما له من نور }
{ ومن يضلل الله فلن تجد له نصيرا }
والحمد لله رب العالمين

اكثر من خمسون عاماً مضت على إعدام المفكر الإسلامي الكبير سيد قطب رحمه الله ؟

 


خمسون عاماً مضت على إعدام المفكر الإسلامي الكبير سيد قطب رحمه الله. لم تنفع اتصالات وتدخلات العديد من الزعماء (بمن فيهم الملك فيصل ملك السعودية، ورئيس العراق عبد السلام عارف) والمفكرين والشخصيات والهيئات العربية والإسلامية في إثناء الرئيس المصري عبد الناصر عن إعدامه، الذي نُفذ في 29 آب/ أغسطس 1966.

ربما مرَّ على شريط ذكريات كل من عبد الناصر وسيد عند تنفيذ الإعدام ذلك اللقاء، الذي تحول حفلاً تكريمياً، والذي أقامه ضباط ثورة 23 تموز/ يوليو 1952 (التي أسقطت الحكم الملكي في مصر) لسيد قطب بحضور عبد الناصر نفسه وجمهور واسع من الضباط والديبلوماسيين والأدباء والمهتمين، في آب/ أغسطس 1952 في نادي الضباط في منطقة الزمالك. قال سيد في هذا اللقاء ”إن الثورة قد بدأت حقاً، وليس لنا أن نثني عليها، لأنها لم تعمل بعد شيئاً يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام…“. ثم تابع سيد ”لقد كنت في عهد الملكية، مهيئاً نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضاً، فأنا في هذا العهد مهيئٌ نفسي للسجن أيضاً، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل“!!
وهنا وقف عبد الناصر وقال بصوته الجهوري ”أخي الكبير سيد، والله لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا، جثثاً هامدة…“.
هذا الموقف كتبه شخص حضر الحفل، هو الأديب السعودي المعروف، مؤسس صحيفة عكاظ بعد ذلك، أحمد عبد الغفور عطار؛ ونشره في مجلة كلمة الحق، العدد الثاني، أيار/ مايو 1967.
بعد 14 عاماً صدقت توقعات سيد، وأُعدم بعد أن أمضى معظم ما تبقى من حياته في سجون ”تلاميذه“ من ضباط ثورة يوليو.
***
خمسون عاماً مضت على استشهاد سيد… ولكن لا يكاد يكون له بواكٍ… ولا كلمات وفاء؛ فقد كثرت عليه السكاكين… وتناوشته سهام المتنطعين وأنصاف المثقفين… وعلماء السلاطين… وأتت على فكره ومواقفه غيوم سوداء… وحملات تحريض وشيطنة… حتى تمّ حصر صورته، بشكل مُزوَّر، في شخصية تكفيرية متطرفة منغلقة. حتى إن عديدين من السائرين على خطه وبعض محبيه… وجدوا أنفسهم يتهربون من ذكره، أو يكتبون بطريقة اعتذارية خجولة عنه… غير أني أعتقد أن الدفاع عنه في هذه الأجواء ”المريضة“ وسام شرف يُفخر به… وليس أمراً يُخجل منه، أو يُعتذر عنه.
إن معظم من كتب عن سيد قطب ناقداً أو متهماً… ركز في كثير من الأحيان على سيد وفكره من خلال مقاطع مجتزئة أو من خلال ما كتبه آخرون… إن هؤلاء الذين ركزوا على بعض الجوانب ”الملتبسة“ في كتابات سيد… وغضوا النظر عن أدبياته الرائعة ونصوصه الإبداعية والتجديدية وروحه الثورية ومواقفه التي دفع حياته ثمناً لها… هؤلاء ظلموا سيد… وشاركوا في وضع حاجز نفسي بين الناس وبين سيّد… ولم يخدموا بذلك سوى أنظمة الفساد والاستبداد وتيارات التغريب وأتباع ”أذناب البقر“.
وحتى من ناحية تاريخية، فإن بعض ما نُسب إلى سيّد قطب يحتاج إلى حذر في التعامل معه، كما في كتاب ”لماذا أعدموني“؛ فهو حسبما ذكر أخوه محمد قطب رحمه الله ليس كتاباً؛ إنما هو محاضر التحقيق التي أجريت معه في السجن الحربي، حيث حذفت منها الأسئلة التي وجهها إليه المحقق، وبقيت الأجوبة، وقد استخرجها محمد حسنين هيكل (وهو من المقربين لعبد الناصر) من ملفات السجن وباعها لجريدة ”الشرق الأوسط“، فنشرتها في جريدة ”المسلمون“ مجزأة ثم نشرتها في كتاب. وحُذف منها ما يتعلق بتعذيب سيّد. والمعروف أن المؤرخين يتعاملون علمياً مع محاضر التحقيق بالكثير من الشك والحذر، فكيف بالمحاضر التي تؤخذ تحت وطأة التعذيب الذي عرفته سجون عبد الناصر؟!
نعم، لسيد أخطاؤه كغيره من البشر، فلتتم معرفتها، وليتم نقد أفكاره وأدائه كغيره من المفكرين والمصلحين والسياسيين… فلا حرج ولا عيب… فكفى المرء نبلاً أن تعدُّ معايبه… أما أن يتم تشويه الشخص وشيطنته وإلغاء دوره… فلا.
***
إن طه حسين الذي كان يوماً مسؤولاً عن سيد قطب في وزارة المعارف قال في اللقاء التكريمي الذي أشرنا إليه أعلاه ”إن في سيد خصلتين هما المثالية والعناد“، وبعد أن تحدث عن أثر سيد في ثورة يوليو 1952 ورجالها ختم كلمته بالقول ”إن سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة؛ وكذلك في خدمة مصر والعروبة والإسلام“. ربما كانت ”المثالية والعناد“ وصفاً دقيقاً لسيد، غير أنه مع التزامه الإسلامي، كان معدنه الأصيل يعكس صفات ”التقوى والصبر والجرأة في الحق“؛ وهي أبرز صفات المصلحين وقادة الدعوات.
***
سيد الذي تعرض للظلم لم يأخذ حقه كأديب وناقد أدبي من الطراز الأول، فُتحت له أهم المجلات الأدبية في عصره، وأبرز جمال اللغة العربية، كما أبرز إعجاز القرآن وعظمة آياته. فكتب في ”النقد الأدبي: أصوله ومناهجه“، وكتب ”التصوير الفني في القرآن“ و”مشاهد القيامة في القرآن“. أما كتابه “في ظلال القرآن” فقد استكمل فيه استعراض آيات القرآن، وإبراز ما فيها من قوة وبيان وجمال وتأثير، بأسلوب قوي معاصر، مستوعب لآيات القرآن وكلماته، وما فيها من معاني ودلالات؛ ومعطياً دفعة قوية لمدرسة التفسير الموضوعي في القرآن.
ولسيّد شعر جميل أخذ طابعاً وطنياً وإسلامياً وإنسانياً ولامس هموم الناس والمجتمع؛ وكتب في الوصف والحنين والتأمل والرثاء والتمرد والثورة وفلسطين…
***
من ناحية ثانية، عبر سيد عن روح ثورية إسلامية ووطنية هائلة كانت حافزاً وملهماً لأبناء جيله ولمن بعده في مواجهة الساسة والمثقفين والعلماء الفاسدين والأنظمة الفاسدة والمستبدة. وأبرز الإسلام بروحه الحركية العملية التي ترفض الظلم وتنتصر للمظلوم وتنزع الشرعية عن الطغاة. ولذلك قدم بمقالاته ”النارية“ ورؤاه الفكرية بنية أساسية دافعة للثورة على الملكية في مصر، وغيرها من الثورات وحركات التغيير. وعدَّه ضباط ثورة يوليو ملهماً لهم. وقبل الثورة بأربعة أيام (19/7/1952) كان عدد من ضباطها، بينهم عبد الناصر، يجتمعون في بيته لوضع ترتيباتها؛ وبعد نجاحها كان سيد هو الشخص المدني الوحيد الذي يحضر أحياناً اجتماعات مجلس قيادة الثورة.
لم تمض ستة أشهر حتى افترق سيد عن الثورة ورجالاتها بعد أن رأى ما لا يعجبه، فتركهم… وانتقدهم. وفي سنة 1954 حكم عليه نظام عبد الناصر بالسجن 15عاماً (ضمن حملته ضدّ الإخوان المسلمين)… فازداد صلابة وإصراراً، بالرغم مما عاناه في السجن من أمراض وآلام… وكتب قصيدته الشهيرة ”أخي أنت حر وراء السدود“ ؛ كما كتب قصيدته ”هبل… هبل“ التي رأى فيها كثيرون وصفاً لعبد الناصر ونظامه، وفيها:
هُبل…هبل رمز السخافة والدجل
من بعد ما اندثرت على أيدي الأباة
عادت إلينا اليوم في ثوب الطغاة…
هتَّافة التهريج ما ملُّوا الثناء
زعموا له ما ليس… عند الأنبياء
هو فاتح… هو عبقري ملهم
هو مُرسلٌ… هو عالمٌ ومعلم
ومن الجهالة ما قتل!!…
لكن الأحرار في هذا الزمان هم القليل
فليدخلوا السجن الرهيب وليصبروا الصبر الجميل
وليشهدوا أقسى رواية… فلكل طاغية نهاية.
واتخذت كتابات سيد في سجنه خطاباً أكثر حدة وعمقاً وتأصيلاً للثورة على الطغاة من خلال التركيز على مبدأ ”الحاكمية“ وردّ التشريع إلى الله والحكم بما أنزل الله. وعندما خرج من السجن في أيار/ مايو 1964 ( بتدخل من الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف) لم يتردد في قبول الإشراف والرعاية على تنظيم إخواني سري، كان يركز في تلك المرحلة على المعاني الإسلامية التربوية والحركية.
قُبض على سيّد في 9 آب/أغسطس 1965 بتهمة قيادة تنظيم عسكري سري إخواني بهدف زعزعة أمن البلاد واغتيال عبد الناصر والانقلاب على النظام، وحكم عليه بالإعدام بهذه التهم الملفقة. غير أن سيد تلقى قرار الإعدام ببسمته الساخرة قائلاً ”الحمد لله، لقد عملت 15 عاماً من أجل الحصول على الشهادة“.
ونقل كاتبو سيرة سيّد عنه عبارات عندما طُلب منه أن يسترحم عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام، فقال: ”إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية، ليرفض أن يخطَّ حرفاً يقر به حكم طاغية“، وقوله ”لماذا أسترحم، إن سُجنت بحق فأنا أرضى حكم الحقّ، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل“!!
كان سيد يرى أن دفع حياته ثمناً لإيمانه ودفاعاً عن كلماته وأفكاره أمر طبيعي، بل هو ما يعطي لهذه الكلمات قيمتها ومعانيها وتأثيرها، فهو يقول ”إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع…، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة“.
***
من ناحية ثالثة، كان سيد من أبرز مفكري القرن العشرين العرب المسلمين الذين كتبوا في التعبير عن عزة الإنسان وكرامته وحريته واستعلاء إيمانه ولو اتسع المقام لأتينا بعشرات الشواهد على ذلك فـ”الظلال“ مليء بهذه المعاني. ولعل مقالته في ”العبيد“ في كتابه دراسات إسلامية من أروع ما كتب في فضح السلوك البشري المنحرف عن معاني الحرية.
***
من ناحية رابعة، كان سيد قطب من أبرز المفكرين الذين قدموا الإسلام بشموله وحيويته، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وقدرته على الحكم وعلاج مشاكل الحضارة، وتحقيق التوازن بين متطلبات الروح والمادة.
وكان في الوقت نفسه من أبرز الكتاب الذين نقدوا الحضارة الغربية، وكشفوا عوراتها، وفضحوا الاستعمار الغربي وأطماعه في المنطقة…. وقدم نقداً لاذعاً للأنظمة الرأسمالية والشيوعية… ولعل مقاله الشهير ”إسلام أمريكاني“ الذي نُشر في مجلة الرسالة سنة 1952 يفضح سياسة أمريكا وعملاءها في المنطقة… وفيه يقول ”الإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط، ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان… إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء… فكلاهما عدو“. وبالنسبة للأمريكان وعملاؤهم فالإسلام ”يجوز أن يستفتى في منع الحمل، ويجوز أن يُستفتى في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يستفتى في نواقض الوضوء، ولكنه لا يستفتى أبداً في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي، ولا يستفتى أبداً في أوضاعنا السياسية والقومية…“!!
وسيد في مقالات أخرى لا يُعبِّر فقط عن احتقاره للسلوك الاستعماري الغربي، ولكنه يحتقر ”أولئك المصريين وأولئك العرب الذين لا يزالون يثقون بالضمير الغربي عامة، والأماني الخادعة من ذلك الضمير الغربي المأخوذ“!! ويهاجم سيد تلك الطبقة الحاكمة… ”تلك الحفنة المسنّة الرخوة الضعيفة المتهالكة، المهدودة الأعصاب، لا تقدر على الكفاح ولا تدع الشعوب تكافح… هذه الحفنة هي التي اخترعت كلمات المفاوضات والمحادثات والمؤامرات…“. (انظر مقال ”الضمير الأمريكاني وقضية فلسطين“ في مجلة الرسالة، 21/10/1946)
***
أما الروح الإنسانية والتعبير العميق عن المعاني الإنسانية فهي من ناحية خامسة، من الجوانب التي أبدع فيها سيّد، ومن الجوانب التي طمسها خصومه (وربما بعض محبيه). ولعل كتيب ”أفراح الروح“ بالرغم من صفحاته المحدودة يرقى إلى مصاف الأدب الإنساني العالمي الذي لم يلق ما يستحق من رعاية واهتمام من الأدباء والباحثين… وبالرغم من أنه عبارة عن خواطر كتبها وهو في السجن، إلا أنك تقرأ لمفكر يُحلق في أوسع آفاق الحرية والكرامة الإنسانية، ومعاني الحب والعطف واستيعاب الآخرين ومخالطتهم والانفتاح عليهم والصبر على أذاهم. والغريب أن سيّد الذي يتهمه خصومه بأفكار العزلة وهجرة الناس (مسيئين فهم أو استخدام فكرة العزلة الشعورية التي تحدث عنها) كتب نصّاً يكتب بـ ”ماء الذهب“ في موضوع الاختلاط بالناس واعتزالهم، جاء فيه:
”حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً … لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة!. إن العظمة الحقيقية: أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع!… إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقاً… إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد: هو العظمة الحقيقية…!“
***
من ناحية سادسة، فقد ظُلم سيّد بسبب قيام محسوبين على بعض الاتجاهات السلفية بتكفيره، بناء على نصوص اجتزأوها من كتاباته. وفي المقابل، عانى سيد أيضاً من اتهامه بأنه يُكفِّر المجتمعات المسلمة… واستخدم متهموه وخصوصاً من باحثين وكتاب علمانيين ويساريين ومن خصوم للتيار الإسلامي… نصوصاً مجتزأة لإثبات ذلك. ولأن هذا المقال لا يتسع لمناقشة كل الاتهامات، فإننا نضع أبرز النقاط التي يجدر بيانها في هذا السياق:
1. يجب ملاحظة التطور التاريخي لالتزام سيد الإسلامي وفكره، الذي أخذ شكله الناضج في السنوات الأخيرة من عمره، ومن الخطأ محاسبة سيد عن مرحلة تاب عنها أو عن أفكار تراجع عنها. وكما قال أخوه محمد قطب في رسالة بعثها إلى عبد الرحمن الهرفي، فإن سيد أوصى بقراءة بعض كتبه فقط قبيل وفاته، ومنها ”في ظلال القرآن“ وخصوصاً الأجزاء الاثنا عشر الأولى التي تمكن من تنقيحها، وكتاب ”معالم في الطريق“، و”هذا الدين“، و”المستقبل لهذا الدين“، و”خصائص التصور الإسلامي“، و”مقومات التصور الإسلامي“، و”الإسلام ومشكلات الحضارة“… . وهو ما ينبغي محاسبته عليه، وليس ما تراجع عنه.
2. إن سيد قطب كان أديباً ناقداً، قبل أن يكون عالماً شرعياً وفقيهاً بالمعنى الاصطلاحي المتداول. وقد أراد أن ينافح عن الإسلام عقيدة وسلوكاً ومنهج حياة. ودفع حياته ثمناً لذلك؛ وقد وفقه الله في آلاف المواضع والشروح والمعاني الرائعة واللفتات القيِّمة… ولربما خانه تعبيره في بعض العبارات والاسترسالات… لكن كثيراً منها يوضحها كلامه في مواضع أخرى.
3. إن العلماء الكبار لم يُكفِّروا سيد، بمن فيهم علماء الاتجاه السلفي…، ووقف بعضهم في وجه من كفَّر سيّد، كما فعل العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، في رده على ربيع المدخلي؛ حيث طلب منه عدم نشر اتهاماته لسيد لكثرة ما فيها من التجنِّي عليه، مؤكداً أن الواجب ”الدعاء له بالمغفرة، والاستفادة من علمه…“.
وفي الدراسة التي نال بها ماجد شبالة درجة الدكتوراه من جامعة صنعاء حول ”منهج سيد قطب في العقيدة“، توصل إلى أن سيد قطب كان موافقاً لما عليه أهل السنة والجماعة في الفهم، وأن سيد اهتم بالعقيدة وخصائصها، ونواقضها، وأنه نقض منهج مخالفي السلف الصالح من المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة… وأن كلامه المتوهم خطؤه … يقابله كلام واضح قاطع يوافق الفهم الصحيح كما في قضايا خلق القرآن ووحدة الوجود… وغيرها.
وتجدر الإشارة إلى أن سيّد قد أقر على إخوانه، في التنظيم السري الذي أشرف عليه، كتابين في العقيدة لابن تيمية هما: رسالة ”العبودية“ وكتاب الإيمان.
وقد حدثني الشيخ عمر الأشقر رحمه الله كيف كان وإخوانه يتابعون كتابات سيد قطب، وكيف تأثروا بشكل بالغ بخبر إعدامه، وكيف جاءه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق باكياً يخبره بإعدامه.
4. إن سيّد قد بيَّن نواقض الإيمان التي يقررها الكتاب والسنة، مع اهتمامه الشديد بـ”شرك الحاكمية“ المرتبط بنبذ شرع الله، وتبني أيديولوجيات وتشريعات مناقضة للدين وتعاليمه، باعتباره أبرز أنواع الكفر في هذا العصر. وبالرغم من قوة عبارات سيد وحدَّتها في بعض المواضع، فإن من درس كتابات سيّد من العلماء المنصفين، ومنهم العلامة الشيخ عمر الأشقر (وهو ما سمعه كاتب هذه السطور منه) يذكرون أن كتابات سيد لم تَحوِ نصّاً واحداً يُصرِّح فيه بتكفير المجتمعات والأفراد… وبعض كتابات سيد كما في تعليقه على آية ”ولتستبين سبيل المجرمين“، قد يستنتج منه البعض معنى التكفير… غير أن قراءتها في ضوء النصوص الأخرى المحكمة التي كتبها… مثل تعليقه على آية ”ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً“… تُبعد سيد عن تهمة تكفير المجتمع. كما أن العدد الأكبر ممن خالط سيد من رفاقه ينفون عن سيد تهمة التكفير.
***
وأخيراً، فقد آن الأوان لإنصاف سيد قطب، وأن تُقرأ كتاباته بشكل موضوعي، وأن تحفظ مكانته باعتباره أحد أبرز رواد الفكر الإسلامي والإصلاح والتجديد في القرن العشرين… رحمه الله.
وللمستزيد عن سيّد أن يطلع على الدراسات المرجعية المتميزة للدكتور صلاح الخالدي (التي استفاد منها هذا المقال) والدكتور عبد الله الخباص والأستاذ عبد الباقي محمد حسين … وغيرهم.
-
بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.English_Version