الجمعة، 14 يونيو 2019

السلف بين الخروج إلى السلطان وعليه!


لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن أي مسألة دينية لم يتم الاتكاء عليها في تدعيم الاستبداد السياسي، والتحذير من معارضته والوقوف في وجهه، كما تم الاتكاء مسألة "الخروج" على "ولي الأمر" وموقف السلف أهل "السنة والجماعة" من السلطان، التي كثيرا ما تم رفعهما في وجه المعارضة السياسية من أجل تجريم فعلها المعارض وتبرير قمعها ومصادرة حقها في الكلام وفي نقد السلطان، في نوع غريب من المغالطة والخلط. 

لهذا فقد بدا لي أن أدون عن موقف السلف من "الخروج" على "ولي الأمر" وعن علاقة العالم بالسلطة، وذلك على شكل ملاحظات ثلاث:
أولها: أن "الخروج على السلطان غير الشرعي" رأي فقهي معتبر، واعتباره بدعة وضلالة ومخالفة لمنهج "أهل السنة" فيه تجن على العلمية والموضوعية وتغيب لنصف الحقيقة، فمن هم أهل السنة، حتى يكون الخروج على الحاكم الظالم الشرعي مخالفا لمنهجهم؟ أليس الصحابة هم أعرف الناس بالسنة وألزمهم لها؟ وهم الأصل الذي يتفرع عنه "أهل السنة"؟
مصطلح "ولي الأمر" تعرض لمستوى كبير من التشويه حتى أصبح يطلق على كل حاكم ولو كان هذا الحاكم تم تنصيبه من طرف أمريكا وإسرائيل، ولا يحوز أي شرط من شروط المشروعية!
إذا كان الأمر كذلك فإن "الخروج" على فاقدي الشرعية هو منهج سبط رسول الله وريحانته سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي رضي الله عنهما وهو منهج ابن حواري النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن الزبير، بل هو مذهب عامة الصحابة، فلم تكن الفتنة التي وقعت في زمن عثمان والنزاع على السلطة بين فريق معاوية وفريق علي رضي الله عنهم أجمعين إلا تعبيرا عن هذا الموقف، فقد كان كل من الفريقين يرى في الآخر أنه فاقد للشرعية، وبالتالي فالموقف الشرعي يقضي بعدم إقراره في الحكم، هذه هي الخلاصة التي أشار لها ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل تلميحا لا تصريحا.

وما يقال عن إجماع فهو غير دقيق، من ناحيتين:
أولهما: أنه لو صح فهو مقابل لرأي عامة الصحابة، ورأيهم في فهم وتفسير الشريعة معتبر لا يمكن أن يلغيه أي رأي مهما كثر قائلوه، وبالتالي فالإجماع من دونهم لا يعتبر إجماعا متوافر الشروط والأركان وله قيمة الإجماع العلمية، ومن ناحية ثانية هذا الإجماع المُدَّعَى غير صحيح، فلم يخلو أي عصر من فقيه يرى القول بالخروج على الحاكم الظالم، ومن ذلك مواقف التابعين وأبرزها ما سمي في كتب التاريخ بـ"ثورة الفقهاء" وذلك لكثرة من شارك فيها من فقهاء التابعين، ومثلها مواقف أئمة المذاهب الأربعة، فموقف مالك معروف بدعم محمد النفس الزكية في الانقلاب الذي كان يعد له ضد العباسيين وفتواه بأنه "ليس على مستكره طلاق" التي فسرت على أنها تحمل في طياتها تَشْكِيْكٌ في شرعية الحكم، وتم سجنه وتعذيبه بسببها حتى انخلعت كتفه.

وموقف الإمام الشافعي وما أشيع عنه من دعم للثورة التي كان يعد لها موسى الكاظم معلوم مشهور، كما أن موقف أبي حنيفة في معارضة السلطة ورفضه تولي القضاء وما أشيع عنه من دعمه للنفس الزكية في ثورته على المنصور شهير معروف.

والصحيح في محنة خلق القرآن أنها كانت تحمل في خفاياها مواقف سياسية غير معلنة، وكان امتحان الإمام أحمد بتهمة فساد عقيدته مجرد غطاء ديني وتضليل للرأي العام عن السبب الحقيقي للمحنة -كما أو ضح ذلك الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية.. محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد"-، فقد أشيع أن ابن حنبل كان على صلة بالفقيه المحدث أحمد بن نصر الخزاعي الذي كان يحضر لثورة ضد العباسين فانكشفت خيوطها فتم اعتقاله وقتله، وصلبه لا بتهمة الثورة وإنما بتهمة فساد العقيدة والقول بخلق القرآن!! وقال عنه الإمام أحمد "ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه له" (البداية والنهاية، ج10 ص392).

ثانيا: من الخطأ الشائع الذي يروج له علماء السلطان إطلاق مصطلح الخروج على كل فعل معارض "لولي الأمر" حتى ولو كان في أقصى درجات السلمية، والحقيقة أن الخروج في مصطلح الفقهاء يطلق على المعارضة المسلحة، "وأن لا ننازع الأمر أهله" (البخاري ومسلم)، أما المعارضة السلمية فهي تدخل في نطاق الأمر بالمعروف والنصح الذي حَرَّضَتْ عليه النصوص "وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم" (البخاري ومسلم)، ولهذا نص ابن حجر على مشروعية منازعة الحاكم "في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف" إذا قدر على ذلك (فتح الباري، ج13 ص8).

وأما مصطلح "ولي الأمر" فقد تعرض هو الآخر لمستوى كبير من التشويه حتى أصبح يطلق على كل حاكم ولو كان هذا الحاكم تم تنصيبه من طرف أمريكا وإسرائيل، ولا يحوز أي شرط من شروط المشروعية!!
لم يكن أبو حنيفة وهو يرفض تولي القضاء في دولة المنصور إلا مُسْتَحْضِراً أن قبوله بذلك سيضفي مصداقية على شرعية المنصور المنقوصة
ليس كل من وصل إلى الحكم بالغلبة، يصبح "ولي الأمر" بالمفهوم الشرعي، ففي حديث البخاري أن من أشراط الساعة "إذا وسد الأمر إلى غير أهله..."، وهذا يدل على أن هناك سلاطين ليسوا من "أهل الأمر" لفقدهم للشرعية أو للأهلية أو لهما معا، ويؤكد هذا ما رواه الإمام أحمد "سيلي أموركم من بعدي رجال يُعَرِّفُونَكُمْ ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله"، وفي لفظ ابن أبي شيبة "فليس لأولئك عليكم طاعة".

ولهذا عَرَّفَ ابن علي الحصفكي من الحنفية البغاة بأنهم "هم الخارجون عن الإمام الحق بغير حق"، وقال ابن عرفة من المالكية في تعريف البغي بأنه "الامتناع من طاعة من ثبتت إمامته في غير معصية بمغالبة ولو تأولا". فدل ذلك على أنهم يرون أنه يوجد إمام حق وإمام غير الإمام الحق، وإمام ثبتت إمامته وإمام لم تثبت إمامته.

ثالثا: لم يكن من سمت علماء السلف وهديهم الخضوع للسلاطين المنقوصي الشرعية ومداهنتهم، بل كان السمت السائد عندهم هو التحذير من الدخول على السلاطين الظلمة ورفض تولي المسؤوليات لديهم، مثل القضاء والفتيا، ولم يكن ذلك بسبب الخوف من "الحكم بين اثنين" أو رهبة من "التوقيع عن رب العالمين" كما تصور ذلك بعض الوعاظ، وإنما كان لأجل ألا يضفي توليهم لتلك المسؤوليات مستوى من الشرعية على حكم أولئك السلاطين المنقوصي الشرعية.

فلم يكن أبو حنيفة وهو يرفض تولي القضاء في دولة المنصور إلا مُسْتَحْضِراً أن قبوله بذلك سيضفي مصداقية على شرعية المنصور المنقوصة، ولم يكن رفض ابن المسيب -قبل ذلك- أن يزوج ابنته للوليد بن عبد الملك ومبادرته بتزويجها من أحد تلامذته استباقا لأي إكراه قد يلجأ إليه عبد الملك لتزويجها من الوليد، لم يكن ذلك إلا مجانبة للسلاطين وبعدا عن أي شيء قد يضفي نوعا من الشرعية والمصداقية عليهم.

إفــلاس " المــدخــلــيــة "

إفلاس "المدخلية"

في الجزائر وبعد عقدين من سطوة "الإصلاحيين" الذين غلبوا على المساجد والأندية والجامعات، وأوشكوا أخيرا أن ينالوا الوزارات والمكاتب الفخمة التي كان يتمترس خلفها خليط من المحافظين التقليديين الذين تحول أغلبهم إلى آلة بيروقراطية متعفنة، واللائكيين المتعطشين لكل ثورة تبدأ من سيقان النساء، وتنتهي إلى علمنة شاملة.. عندما أوشكت "معركة" الصناديق أن تحسم النتائج أطلت فتنة الدماء بقرنها، وحصدت جميع الحصائل، وأحالت أحلام "الحركيين" إلى سراب. 
أبو محمد حبيب
في تلك الساعة لمع فجأة صوت جديد بدأ الناس يتلمسون مفرداته، ويسمعون حسيسه، وتكشف مع الأيام أنه تيار تغذيه أقبية سرية، وتنفخ فيه أجهزة مديدة اليد، وتدر عليه النفقات آبار لا تغور، وبدأ ذلك الهمس يكبر ويعلو، وانتفش ريشه لسببين: أحدهما تلك الدماء التي سالت غزيرة، وصار قليل من الأمن هو مهوى أفئدة الجميع، والثاني كان لافتة الطاعة العمياء التي غلفت بحزمة دينية كثيفة، وربطت البيعة في عنق كل سفاح، وأفاقت النظم المهترئة التي تتوسل الشرعية على فتح لم يكن في الحسبان، وتحالفت أعتى الشموليات السياسية مع أسوأ "بدعة" دينية ظهرت بعد سقوط الخلافة الإسلامية. 
كان الناس على موعد مع ما سمي بـ"الربيع العربي" وهو الحدث الذي أوشك أن يغير وجه المنطقة العربية بأسرها لولا التحالف المدنس بين المدخلية في "ثوبها الجديد" ودول ما يسمى بـ"الاعتدال" العربي
غيتي إيميجز

بدعة "المدخلية" التي صارت العراب الوحيد لأنظمة حكم بالية، وغارقة إلى القاع في جرائم ضد "الإنسان"، من الملكيات المحنطة ذات الصبغة "اللاهوتية" في الخليج العربي، إلى جمهوريات القمع والفساد في المشرق والمغرب، وتخففت هذه الأنظمة من وطأة التعارك مع التيارات الإصلاحية لأنها صنعت على عينها "وكيلا" دينيا مسرفا في التنكيل بالخصوم، بيده سوط رهيب قوامه التبديع والتفسيق والتكفير، والتصنيف والهجر، مستعينا بكل تراث التقاطع والتدابر والتباغض الذي كتب على هامش المعارك المذهبية والكلامية، ونسجت المدخلية شبكة غريبة تتداخل فيها العقيدة "الحدية" التي تدرس بكل مفردات الضلال والشرك والولاء والبراء في حق الخصوم الألداء من الجماعات الدينية ذات المشرب السياسي خاصة، والسمع والطاعة والتزكية والدعاء بالصلاح وتفخيم البيعة، وتحريم الانكار العلني وعده من الكبائر في حق "الولاة" والحكام وأعوانهم.
وتمددت المدخلية تحت خلطة "دينية-سياسية" عجيبة أعطبت أغلب الأفكار الثورية التي نشأت في أرحام الشعوب، وتحولت في أيدي أنظمة القمع إلى "مبيد" سحري يفتك بجميع المعارضين، فهي تخرج ورقة "التكفير" في وجه اليساريين وأشباههم، وتحد شفرة "التبديع" في وجه ما يسمى بـ"الإسلام السياسي"، وخير شاهد على ذلك حدثان كبيران، أولهما "تكفير" صدام حسين وما أتبعه من صدور فتوى جواز الاستعانة بـ"الكفار" في حرب الخليج الأولى، وتبارى يومئذ طيف المدخلية بواجهتيه "العلمية" و"الأمنية" وهو في أقوى مظاهر تماسكه وانسجامه في حشد الأدلة دعما لعاصفة الصحراء، وانتهت حرب "تحرير" الكويت باحتلال "شبه جزيرة العرب" من قبل أمريكا وعملائها، ووقفت المدخلية خانعة أمام القواعد العسكرية الأمريكية التي أحاطت بـ"مكة" و"المدينة" في مشهد لم يحدث منذ تهاوي الجاهلية الأولى.

تحالف "آل سعود" و"آل الشيخ" وبشروا على غير العادة التاريخية ببناء دولة ذات جناحين "سياسي" و"ديني" في ود وانسجام
رويترز

بعد عشرين سنة كان الناس على موعد مع ما سمي بـ"الربيع العربي" وهو الحدث الثاني الذي أوشك أن يغير وجه المنطقة العربية بأسرها لولا ذلك التحالف المدنس بين المدخلية في "ثوبها الجديد" ودول ما يسمى بـ"الاعتدال" العربي (الإمارات والأردن والسعودية ومصر) وأخرجت المدخلية جميع خبثها وشررها، حتى قال أحد عوراتها وأكبر "سبَّابة" أنجبته مدرسة اللعن والفحش المدخلي: "الإخوان المسلمون أنجس خلق الله"، وفتحت الدول الغنية خزائنها وأرصدتها لمرتزقة "العسكر" ليخوضوا ثورات مضادة، وفتح حليفها "المدخلي" ألسنته وأقنيته وجميع ما بين يديه من عدة وعتاد لتشويه "الحركيين والإصلاحيين" بمختلف ألوانهم وتنظيماتهم، وبارك منتشيا مزهوا "مذبحة رابعة" التي نقلت مشاهدها في بث حي تتساقط فيه جثث الأطفال والنساء. وهو العار الذي سيبقى إلى الأبد على جبين المدخلية.

في نهاية المطاف تحول الأمر إلى خليط يجمع كل أصناف التنافر، وصار الحليف "الديني" الذي قدم خدمات كبيرة لأكثر الأنظمة شمولية وتخلفا ورجعية وقهرا يبدو بمظهر "العائق" أمام رياح "العلمنة" التي يبشر بها الحكام "الغلمان" ومكاتب التجريف الديني التي تعمل تحت إشرافهم، ويتخذون من "السلفية" بمختلف أسمائها عدوا لدودا، وخصما لابد من الحاق الهزيمة به حتى ولو كان في صورة "الخنوع" والذلة التي آل إليها التيار المدخلي، ويستعين في ذلك ببعض الوجوه التي اتخذت الميدان الديني سوقا للبيع والشراء، فهي ألوان تالفة من بقايا الطرقية والأشعرية والحداثية يمثلها بعض طلاب الرزق قريبا من آبار النفط.

وتوشك أن تكون الضربة القاضية التي يتلقاها المداخلة في عقر دارهم حيث نبتوا وزرعوا وقويت شوكتهم، وارتفعت عقائرهم تبديعا وتفسيقا وتخوينا، حيث تحالف "آل سعود" و"آل الشيخ" وبشروا على غير العادة التاريخية ببناء دولة ذات جناحين "سياسي" و"ديني" في ود وانسجام لم تنقل له صورة ناجحة من تاريخ الأمة .. وقد آن الأوان أن يفك هذا التحالف الذي عمر بسبب توالي الهوان والخنوع الذي تبرع به بسخاء أصحاب "الحق الديني" إلا أن "القبيلة" السياسية ذات الطبيعة التسلطية -كما هو شأنها تاريخيا- يبدو أنها ضاقت ذرعا بالطيلسان الديني القاتم والمتشدد، وهي الآن تخطو خطوات تسابق بها الزمن لتتخلص من آصار وأغلال "التراث النجدي" بكل أحماله وأثقاله، ونسخته الرديئة التي تجسدت في التيار المدخلي.


صحيح أن تيار العلمنة الجارف يستهدف ما هو أكبر من "المدخلية"، وهو "الإسلام" بشعبه وقطعياته وثوابته وأركانه، وهو شيء لا يخفى على بقية الأطياف الإسلامية
وكالة الأنباء الأوروبية

بل إنها توشك أن تتنكر للقطعيات والثوابت التي ظلت عنوان التميز في هذه المملكة التي تساكن الربع الخالي جغرافيا وفكريا، وكما حدث في كل ثورات "التمدن" مشرقا ومغربا فإن عمود الإنهاك الذي تهزم به أفكار "الدين" هو دائما موضوع "المرأة" حشمتها وحجابها أو عريها وتبرجها هو أعتى المعارك وأقواها عند شيطان "الحداثة". فقد كان الحديث في أوائل القرن الماضي هو "سفور" المرأة ثم تدرج قليلا قليلا ووصل أخيرا إلى مساواتها بالرجل في كل شيء كالميراث والزواج من غير المسلم. وهلم فسقا وحداثة.

وكذلك تطل هذه الأيام هزيمة المداخلة في جزيرة العرب في "قضيتهم" الأولى التي طالما تفاخروا بها، وهي سلة المحرمات التي جعلوها خاصة بـ"المرأة"، ثم انكسرت حدة التحريم فرضوا بمشاركتها في الانتخابات (التي كانت حراما على الرجال والنساء معا) ثم سكتوا عند اختيار الخمس من النساء في عضوية مجلس الشورى. ودوى أخيرا في سماء المملكة خبر سقط كالصاعقة على رؤوس المدخلية وهو السماح للمرأة بقيادة "السيارة" .. وهو الشيء الذي لا يمكن أن يكون الأخير في سلسلة مداهمات لأوكار المداخلة الذين يغطون في هوان لا يحسدون عليه، صحيح أن تيار العلمنة الجارف يستهدف ما هو أكبر من "المدخلية"، وهو "الإسلام" بشعبه وقطعياته وثوابته وأركانه، وهو شيء لا يخفى على بقية الأطياف الإسلامية، ولكنه يمعن في إهانة وعزل أقرب حلفائه وألصقهم به دينيا وتاريخيا، وهو مُصِر هذه المرة أن يدخله متحف الأدوات القديمة من دون رجعة.

التيار المدخلي الذي بذل الفتاوى بسخاء في كسر عظام خصومه، يبدو أنه وقع بين فكي قوة أخرى لا ترحم الجميع، وكما قتل جميع الحركات بآلته الرهيبة التي تسمى "الجرح والتجريح" فهو الآن تحت آلة أشد رهبة ينتظر الناس إفلاسه وتوزيع تركته على ورثة آخرين ..

ما هو الأصلح والأفضل للفقراء في زكاة الفطر؟

ما هو الأصلح والأفضل للفقراء في زكاة الفطر؟

29/5/2019
زكاة الفطر من الشعائر الإسلامية البارزة التي يعرفها الجميع بدون استثناء وهي إحدى وسائل التكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي من أجل تخفيف أعباء المعيشة على الأفراد والأسر الفقيرة في يوم العيد وهو اليوم الذي يوسع فيه أهل اليسار على أنفسهم وأولادهم بصورة ملفتة للنظر وبما أن الفقراء لا يستطيعون فعل ذلك من أجل فقرهم وعوزهم أوجب الإسلام على أتباعه دفع زكاة الفطر في يوم العيد إليهم ولو كان الشيء المبذول قليلا ما دام يفضل على قوت المعطي في ذلك اليوم، وأمر ذلك من أجل إدخال السرور والفرح على قلوب المعوزين وأهليهم ليكون سببا في إشاعة المحبة والإخاء والتراحم بين الناس، وإزالة وإخراج الشحناء والحسد عن قلوبهم.

والخلاف بين العلماء في ما يجب إخراجه من طعام أو قيمته من النقد خلاف قديم حديث يتجدد تناوله والقول فيه كلما جاء شهر رمضان وينحصر في قولين اثنين أحدهما يوجب إخراج الطعام فقط ولا يرى جواز إخراج القيمة وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، وأما الثاني فيرى جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر مطلقا وهو مذهب الحنفية وهو مروي عن الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وسفيان الثوري وهو الظاهر من مذهب البخاري في صحيحه قال ابن رشيد وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل فتح الباري. وقال أبو إسحاق السبيعي وهو أحد أئمة التابعين أدركتهم وهم يؤدون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام رواه ابن أبي شيبة.
مقياس الفقر والحاجة والعوز أمر نسبي وليس له ميزان موحد أو تعريف متفق عليه بل يعود إلى البيئة والمجتمع التي يعيش فيها المرءُ فمن يعيش في بيئة ثرية ولكن دخله أقل من أقرانه وجيرانه قد ينطبق عليه وصف المحتاج
ولكل فريق حجته في تعليل ما ذهب إليه ولا أريد الخوض في سرد الأدلة ونقل الأجوبة المتبادلة ببن الفريقين ولكني أريد أن أحول البوصلة إلى زاوية مهمة أخرى لم تكن غائبة عن أذهان العلماء والفقهاء في كل زمان ومكان وهي العلة التي أوجدت هذا الحكم الشرعي وإن كان الواجب على المسلم الاستسلام والقبول بكل ما يطلبه الشارع الحكيم سواء عرف وفهم الحكمة الموجبة لذلك أم لا إلا أن عادة العلماء جرت في البحث عن السبب أو العلة الكامنة وراء ذلك، فإن توصلوا إليها فبها ونعمت وإلا فالأمر تعبدي بحت فلا طريق إلا التسليم والانقياد. فالحكمة الموجبة لهذا العمل الفضيل تتجلى في ثنايا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً فرض رسول الله ص زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات رواه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وحسنه الألباني، قوله صلى الله عليه وسلم طعمة للمساكين دليل واضح بأن المراد من إيجاب زكاة الفطر هو مساعدة الفقراء وإعالتهم وإغناؤهم عن ذل السؤال وحجزهم عن التطواف بين الناس من أجل الاستعفاف وطلب العون في هذا اليوم البهيج وفي الأثر أغنوهم يعني المساكين عن الطواف في هذا اليوم أخرجه البيهقي والدارقطني وفي سنده مقال.

إذا، فإذا كان الهدف من إيجاب زكاة الفطر هو مصلحة الفقير والمحتاج في يوم العيد، فهل يتحقق هذا الهدف فقط بدفع الطعام غير المطبوخ كالأرز والشعير والحنطة أو غير ذلك من غالب قوت الصائمين إلى الفقراء وإن لم يسدّ حاجتهم الضرورية أم يجب التحري والبحث عن كل طريق ووسيلة يستفيد منها المحتاج وتحقق له إلى ما يعود عليه بالنفع سواء كان طعاما أو نقدا. فحاجة الناس في كل زمان ومكان مختلفة ولو كانوا فقراء ومحتاجين ولا يمكن حصرها في مسألة واحدة وإن كان الأمر يتعلق في يوم العيد وحده فمنهم من هو بحاجة إلى طعام أو شراب أو ملبس أو علاج ودواء ومنهم من يكون مسافرا يحتاج إلى زاد وراحلة ومنهم من يحتاج إلى زواج أو بناء مسكن لنفسه وأهله أو غير ذلك من حاجة الإنسان التي لا نهاية لها ومنهم من كانت حاجته ضرورية أو حاجية أو تحسينية وكمالية فالشارع الحكيم لم يهمل حاجتهم بل وضع لها حلا شرعيا يجب إنفاذه والتقيد به.

فمقياس الفقر والحاجة والعوز أمر نسبي وليس له ميزان موحد أو تعريف متفق عليه بل يعود إلى البيئة والمجتمع التي يعيش فيها المرءُ فمن يعيش في بيئة ثرية ولكن دخله أقل من أقرانه وجيرانه قد ينطبق عليه وصف المحتاج وهلمّ جرّا وإذا نظرنا إلى أحوال الفقراء اليوم نجد بأن حاجتهم إلى النقد أكثر من حاجتهم إلى طعام غير مطبوخ لأن القوت الضروري متوفر غالبا إلا في حالات نادرة في بعض المناطق النائية أو التي أصيبت بالجفاف وتأخر الأمطار وأما في المدن والحواضر فقلما تجد بيتا لا يوجد فيه طعام فقد تتراكم عندهم في يوم العيد أكياس من المطعومات والمأكولات التي تأتي عن طريق زكاة الفطر ولكن كثير منهم لا يستطيعون توفير المياه الصالحة للشرب أو للطبخ لأسرهم وقد لا يذوقون اللحم إلا نادرا أو لا يجدون ملبسا لأنفسهم ولأولادهم فضلا عن العلاج وشراء الدواء فيضطرون إلى بيع غالب ما تُصدق عليهم في يوم العيد عاجلا بسعر أقل بكثير مما شُري به ويفعلون ذلك من أجل شراء ملابس أو دواء أو مستلزمات ضرورية أو دفع إيجار وكهرباء أو تسديد دين أو رسوم دراسية أو غير ذلك من الأمور فلو دفع لهم بالقيمة كان لهم أريح وأفيد وأقل كلفة من هذر المال بيعا وشراء.

وفي بلاد الغرب في قارة أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا فغالبية المسلمين الذين يملكون أوراق الإقامة ليس لديهم مشكلة ولكن هناك أفراد وأُسرُ تقطعت بهم السبل فحاجة هؤلاء إلى النقد أكثر من حاجتهم إلى الطعام لأنه يصعب عليهم ببيع ما فضل من حاجتهم ولكي تكتمل السعادة والفرح والسرور للمحتاج ينبغي إعادة النظر في هذه المسألة من أجل مصلحة المحتاجين. والدفع بالقيمة إذا كانت في مصلحتهم أجازها بعض العلماء، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك إلى قوله والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل، فلا بأس به ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع فيعطيهم إياها أو يرى الساعي أن أخذها أنفع للفقراء كما نقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول لأهل اليمن ائتوني بخميص أو لبيس أسهل عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار الفتاوى.
عبد الباسط شيخ إبراهيم
هذه المسألة من المسائل المهمة التي تمس في مصالح الأمة وحاجتها وأن الدين جاء لتحقيق المصلحة وتكثيرها وتقليل المفسدة وتقليلها وأينما وجدت المصلحة فثمّ شرع الله تعالى كما يقول الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ص أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل إعلام الموقعين. وأخيرا يجب على العلماء والفقهاء وطلبة العلم إعادة النظر في التحقق من ملائمة الفتاوى المتعلقة في دفع زكاة الفطر للفقراء والمحتاجين بما يحقق لهم المصلحة ويكون سببا في سد حاجتهم وعوزهم.. وفق الله تعالى الجميع بما فيه صلاح ديننا ودنيانا.

اقتلوا المصلحين بدولتكم.. إنَّهم أناسٌ يتطهَّرون

مصعب الاحرار
"فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" ليس بغريب في دنيا البشر أن تكون التهمة هي التطهُر وأن تكون الجريمة هي الشرف وأن تكون الجناية هي السعي لكرامة الأمم ورفعة الشعوب وأن تكون أعظم الجرائم أن تكون في زمرة الطاهرين الصادقين العفيفين، فكيف لا وهم البشر الضالون الحائرون الذين عربد فيهم الظلم والاستبداد.

لقد ظلت سنة التدافع تحكم هذا الوجود البشري منذ القِدم وأعظم نعمة علينا هي كتابُ الله تعالى الذي وضح لنا مسيرة الامم والشعوب وأن الحق دائماً ينتصر ولو بعد حين؛ وأن ما تشهده أمتنا الإسلامية اليوم من ظلم وتنكيل بخيرة رجال امتها من العلماء والمتطهرين ليس أمراً جديداً في سير البشر وخطوهم وفي طريق الدعوة ومسيرتها؛ إنه امتداد لصنعة إبراهيم عليه السلام في الثورة على الوثن أيّاً كان. وقد صدق الله بقوله: "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج 40).

إن الله الذي طهر الكعبة من وثن الأصنام الحجرية في القلوب قادر على تطهير القلوب من وثن الاستبداد السياسي وكهنوت الملك متى ما عربد؛ وقد قضى الله أن يمتد كفاح هذه الأمة بعلمائها ومؤمنيها إلى يوم القيامة لا ريب فيه؛ ومسيرة الفداء ممتدة طوال الزمان ما دام في الأرض ظلم وعدل والخوف أبداً لا يكون على أهل الإيمان فهم على ثقة من طريقهم؛ وكما عبّر عن خلود الكفاح الشاعر والفيلسوف محمد إقبال قائلاً:

ألفُ إبراهيم في النار إغتدى
لسراجٍ يرتجى من أحمدا
الشيخ سلمان العودة والمفكر والداعية علي العمري وأمثالهم كثيرون هم نموذج لامتداد سنة إبراهيم الخليل في مقاومة الأوثان والظالمين في الأرض والجبارين فيها؛ إنه لا خوف عليهم كما لم نخاف على مصير سيدنا الخليل
وكما عبّر عن ثقة المؤمنين شهيد الظلال سيد قطب قائلا في قصيدته الشهيرة:

وإني على ثقة من طريقي
إلى الله ربي الثناء والشروقِ
فإن عافني السّوق او عاقني
فإني أمين لعهدِ الوثيقِ

إن الشيخ سلمان العودة والمفكر والداعية علي العمري وأمثالهم كثيرون هم نموذج لامتداد سنة إبراهيم الخليل في مقاومة الأوثان والظالمين في الأرض والجبارين فيها؛ إنه لا خوف عليهم كما لم نخاف على مصير سيدنا الخليل إبراهيم ولا مصير خاتم الأنبياء والمرسلين ولا مصير المؤمنين الذي قضوا نحبهم في الأرض سعياً ومجاهدة لخير البشرية في الأرض وتخليصها من أوثان الظلم وأوثان الخرافة وأوثان الاستبداد؛ والله يقول: "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب 23)؛ ويقول أيضاً مبيناً أن الخوف لا يكون على المؤمنين فهم أولياء الله والله وليهم "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (يونس 62).

إن قوم لوطٍ لمّا كذبوا رسولهم وارادوا إخراجه والتنكيل به هو وآل لوط قدموا لهم تهمة هي شرف البشرية كلها ؛ لكنها عندهم أعظم تهمة وجريمة لان نفوسهم خبيثة لا تعرف الطُهر ولا تعرف الشرف؛ إنهم قالوا بلا خجل ولا وجل ولا فطرة: "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ"(النمل 56).

أي ندالة وأي خيبة وأي قاع يصل له أمثال هؤلاء؛ كيف مرضت نفوسهم للحد الذي انقلبت فيه عندهم موازين الفطرة؛ وأي مستنقع آسن ودرك هابط وصولوا إليه؛ لكنها عادة الطغاة والمستكبرين ضيقي الأفق وماديي النظر وعمي البصيرة إلى يوم البعث؛ وكم صدق سيد قطب لما قال: "وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبِقةِ ولا يستطيع العيش إلا في المقاذر؛ وكذلك المجرمون".

وهل يُنكل بسلمان العودة والعمري وأمثالهم في سجون القهر لشيء إلا لأنهم أطهارٌ في وسط خبثِ الاستبداد والظلم وكبت الحقوق الفطرية للبشر؛ وهل نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد؛ كلا بل الإيمان بالله عندهم هو أشد الجُرم والكفر بالمشاريع الصهيونية هو أعظم الكبائر؛ وحمل الخير للبشرية والعبادة هو أكبر الجنايات؛ ولا زال نص القرآن يسري في القلوب والآذان يقول "وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا" (الاسراء 17).

إن بلداننا العربية والإسلامية اليوم يُعد فيها الدفاع عن المظالم جريمة ويعد فيها الأمر بالمعروف شراً؛ بينما الشرف هو نشر الفجور والفِسق؛ والشرف هو معاضدة الظلم ودحر المظلومين ومعاونة بني صهيون على حق الإنسانية في الحرية والكرامة والعِز؛ هذا عند المستبدين في حواضر أوطاننا.
ا أرفع العودة لمّا قال مغرداً: "أيها الطاغيةُ أقصِر. فلن تكون أنت في كمال القوة ولن يكون خصمُك في كمال الضعف.. والدهر دول"
الجزيرة
 
إنّ عادة الطغاة هي العمى وفقدان البصيرة والوعي فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويحسبون أن قتل البشر قد ينجيهم ولا يستطيعون النظر أبعد مما يرون من تنكيل وتعذيب لقلة أفقهم ولبعدهم الشاسع عن معنى القرآن الذي يقرر أن الحياة ضئيلة في الأرض واسعة في الآخرة؛ فالظلمة لا يدركون هذا البعد العميق في الحياة البشريّة نسبة للغباء والتيه والغفلة والانغماس السحيق في شهوات الشيطان؛ فهم يرون الجرم في الطهارة ويرون الطاهرين العفيفين الصادقين أعظم المجرمين لأنهم تغطت عليهم معالم الرشد وكل ذلك ليهلكم الله هلاكاً شنيعاً ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، كما قال الله: "قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ" (النحل 26).

ومن هنا فإن صراع الخير والشر سيظل ماضياً حتى يُجمع الأولين والآخرين في يوم الحساب ويوم الدين والإدانة؛ فالطغاة العمي وحدهم من يشعرون أن الأرض هي نهاية المطاف؛ أما المؤمنين فلهم حِسٌ فسيح نابع عن قناعة راسخة أنه لا مكان لدوام الظلم في الكون وأنه لابد لابد من يوم تعتلي فيه هامة الأحرار وتتنكس فيه أعلام الاستبداد؛ وكما قال الشاعر الجميل تميم البرغوثي:

لا بد يا مَن نجوا من ألفِ مذبحةٍ
أن تعتلوا كاهل الدنيا وتنتصروا

وكما قال العملاق والشهيد سيد قطب متحدثاً بلغةٍ رفيعة عن بعد الحياة الممتد أفسحُ من ضيق الأرض قائلا: "والموت ليس نهاية الرحلة، إنما هو مرحلةٌ في الطريق؛ وما يناله الإنسان من شيء في هذه الأرض ليس نصيبه كله، إنما هو قِسط من ذلك النصيب"، نعم نعم فالحياة ممتدة بعد الموت وهي اختبار للبشر وتصنيف لهم فكن في صف الاحرار والمصابرين ولا تكن في صف الطغاة المعاندين؛ وما أصدق وأرفع وأسمى قول الله حين قال: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا" (طه 111)؛ فالخيبة والخسارة لا ريب حالةٌ بالظالمين نكالاً في الدنيا والآخرة والدهر دول.

إن حكمة الله المكنونة لا تبدو لنظرِ البشر القاصرين؛ وإن هلاك الجبارين لهو أقرب مما نتصور لكنها العجلة عند البشر؛ أما المؤمن المطمئن لمصير الطغاة لهو بصير بالمشهد التدافعي مهما ظهرت من شواهد تدلُ على غلبةِ الباطل؛ إلا أنه انتفاش ظاهري مآله إلى الزوال والتقهر؛ وما أرفع العودة لمّا قال مغرداً: "أيها الطاغيةُ أقصِر. فلن تكون أنت في كمال القوة ولن يكون خصمُك في كمال الضعف.. والدهر دول". وما أرفع قولُ الله فوق ذلك كله لمّا قال: "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ" (الأنبياء 18).

"شيوخ السلاطين".. حين يصبح الدين أقوى سلاح بيد الديكتاتورية

 على منوال من أفتى يوما بشرعنة الاستعانة بالتحالف الصليبي لغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين رحمه الله وتدمير بلاد الرافدين.. ها هم أحفاده وتركته في المدرسة – مدرسة الفتوى حسب الطلب- على نفس المنوال أفتوا وشرعنوا مساندة الانقلاب على الشرعية بمصر وسفك دماء الأبرياء.. ثم محاصرة شعب قطر المسلم، وكذلك شرعنوا مهاجمة الأبرياء في اليمن وسوريا وليبيا.. كائنات بغطاء ديني تفتي حسب هواء الحاكم وتقول بغرابة أن القرارات الأخيرة التي اتخذتها السعودية والإمارات والبحرين ومصر ضد قطر، "فيها مصلحة للمسلمين ومنفعة لمستقبل القطريين أنفسهم، وهي مبنية على الحكمة والبصيرة وفيها فائدة للجميع"، فمتى كان تجويع وأذية المسلم والإضرار به فيه مصلحة ومنفعة للمسلمين؟ والحق أن أذية المسلمين من المعاصي والإثم العظيم الذي يقترفه فاعله، وإن الله تعالى قد أمر باحترام المسلم كعضو قوي في أمة هي خير أمة أخرجت للناس، وبين إثم أذية المسلمين فقال جل جلاله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)  (الأحزاب:58).

أولم يعلم هؤلاء إن إيذاء المؤمنين وغيرهم من الناس بغير حق له صور منصوص عليها في القرآن الكريم والسنة المطهرة. ولقد أعلنها نبينا عليه الصلاة والسلام في يوم الوداع العظيم، وهو يلقي آخر نظراته على هذه الأمة ويودعها الوداع الأخير، وهو يقول: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا فليبلغ الشاهد الغائب" (صحيح البخاري، ومسلم).

فقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الإعلان الأخير بعض صور أذية المسلمين وأن من أشدها أذية: قتل النفس التي حرم الله قتلها، وقد بين القرآن جريمة ذلك، فقال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء:93، وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا. وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيا) النساء من الآية:29-30.

لقد ابتليت الكثير من البلدان "الإسلامية" بهذا الصنف الذي طوع الدين حسب أهواء وغايات الأجهزة الأمنية والحكام، ودلسوا على الناس كي يقبلوا ما يعد حرامًا سياسيًّا وطغيانًا سافرًا
وصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً» (صحيح البخاري). وإن من المنذرات بالهلكة في هذا الزمان: تعدي الناس على سفك دماء المسلمين، واستحلال دمائهم؛ لغرض من أغراض الدنيا الفانية، فكم رأينا من دماء تسفك من أجل ذلك، وهذا والله لهو منذر بقرب الساعة. وكما كانت حرمة دم المسلم عظيمة، فإن لعنه وتفسيقه لا تقل حرمة عنه، ففي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها ثم تهبط إلى الأرض فتنغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها" (رواه أبو داوود، قال الألباني: حسن لغيره). وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سِباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (متفق عليه). وفي صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسق والكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» (صحيح البخاري).

لقد أدرك العلماء عبر تاريخ الأمة الممتد من العهد النبوي فالراشدي إلى العهد العثماني أنهم هم من يبصّر الأمة الحق ويبعدها عن الزيغ والزلل، فهم من قرؤا وامتثلوا قول الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام (العلماء ورثة الأنبياء) وهم من قرؤا قول الحق سبحانه: "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ"، وهم من سطّروا لنا مواقف المحاسبة وقول الحق والصدع به مهما كانت الصعاب، فمنهم الأمام أحمد بن حنبل الذي ضرب أروع الأمثلة في محاسبة "المسؤول" و رده عن سوء تقديره و ظلمه حتى قال مقولته المشهورة التي تكتب بمداد من ذهب (إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟!)، ومنهم الإمام أبو حنيفة ومالك منهم العز بن عبد السلام، ومنهم سعيد بن جبير ومنهم أبو حازم التابعي الجليل وابن تيمية... الخ.

أما شيوخ وفقهاء ونخب السوء والسلاطين، عملاء الأجهزة الأمنية قديما وحديثا فكانوا كثيرين بلا حصر لأنهم كانوا أضعف من المواجهة أو إن طبيعتهم تدفعهم إلى النفاق والتزلف وانتظار المنفعة! لقد ابتليت الكثير من البلدان "الإسلامية" بهذا الصنف الذي طوع الدين حسب أهواء وغايات الأجهزة الأمنية والحكام، ودلسوا على الناس كي يقبلوا ما يعد حرامًا سياسيًّا وطغيانًا سافرًا. ولم يكن سلوكهم الشخصي أو تطبيقهم العملي للإسلام فوق مستوى الشبهات، مما مكن الأجهزة الأمنية أن تحتفظ بما يدينهم ويفضحهم أمام الناس عند استخدامه وقت اللزوم.. فأغلقوا أفواههم لا يتكلمون الا بقدر المطلوب منهم وراحوا يتقربون إلى هذا المسؤول أو ذاك ويتوددون إليه ويتطوعون بالثناء عليه وهم يعلمون أنهم لا يحسنون صنعًا.

عندما يحاصر شعب قطر المسلم ظلما وعدونا، وعندما تسيل دماء المصريين أنهارًا بالغدر والخسة والعدوان السافر على يد الانقلابين وبلطجيتهم، ويسقط الغزاويين تحث وطأة الحصار، ويموت العراقيين والسوريين بأسلحة أمريكا وروسيا والغرب الصليبي بصفة عامة، ويموت الأبرياء بليبيا بأسلحة حفتر.. وتتجاوز الأعداد المئات بل الألوف والملايين، ويحكم على الأبرياء في مصر بالإعدامات بالجملة.. ويسجن المئات من الائمة والدعاة والعلماء في أرض الحرمين ظلما وعدوانا.


ويصمت فقهاء "الخسة والسلاطين" ولا ينطقون، وعندما ينطلق الناس في الشوارع للتعبير عن غضبهم سلميًّا من سياسة الحكرة والتهميش ومناصرة المظلومين، نجد هؤلاء "الرويبضة" من فقهاء السوء والسلاطين في مخالفة شرعية صريحة كما ورد في قوله تعالى في الآية 58 من سورة الاحزاب: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً"، يصفون المتظاهرين بمثيري الفتنة وبالإرهابيين.. ويدعون أنهم يثيرون الذعر بين المواطنين ويروعون أمنهم‏ ويمسون بأمن الدولة العام، ولا يكتفون بذلك بل يطالبون الاجهزة الامنية بالتعامل معهم بكل قوة لتحقيق ما يسمى أمن المواطنين جميعًا وسلامتهم.. بدلاً أن يقولوا للمسؤولين اتقوا الله في العباد وكفوا وتوقفوا عن تهميش الناس واحتقارهم وأكل حقوقهم "الثقافية، والاقتصادية، والسياسية بالباطل".. يطلبون من الضحية الصمت والاستسلام.

يقول تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) للدلالة على عظم جريمة قتل النفس بغير حق، والشاهد أن النظام العسكري الانقلابي المصري حليف السعوديين والإماراتيين يقتل في أبناء مصر كل يوم دون أن نسمع من علماء السلاطين عن موقف شرعي وفق المضمون الشرعي الإسلامي.. وهو نفس الموقف الغائب في موضوع محاصرة غزة وما يتسبب فيه ذلك من قتل الأبرياء، وها هي ذات الجهات التي تحاصر غزة وتسببت بشكل مباشر في تدمير العراق ومعاناة شعبه تحاول فعل نفس الشيء مع قطر بمباركة من شيوخ ودعاة السوء والسلاطين.

ترى هل يمكن أن نقارن مواقف فقهاء وشيوخ السوء والسلاطين هؤلاء بموقف بابا الفاتيكان الذي وصف المجازر التي جرت في مصر بأنها جرائم ضد الإنسانية؟ ثم أدان محاصرة قطر.. البابا أكثر منهم شجاعةً وأشد يقظة وأفضل إنسانية. إننا نقول لهم إن التاريخ يسجل بحروفٍ من نور من ينحازون إلى الله والعقيدة والشريعة والمسلمين. وتبت يدا أبي لهب وتب! فمتى تتعطون يا علماء السوء والسلاطين وترجعون إلى الطريق الصحيح؟ متى ستتوقفون عن استخدام فقه الضرورة – حيث لا توجد ضرورة - لتحليل كافة المحرمات؟ هل أنتم على استعداد لتحمل وزر مقتل الآلاف من المسلمين بغير ذنب أو مسوغ شرعي سوى التواجد في مهد آبائهم والوقوف في وجه الطغاة والمخططات الإمبريالية الجديدة؟

التحليل يطول والتساؤلات تتناسل يا علماء السوء وهي ليست قاصرة عليكم فقط بل هي تخص كل من شايع وأيد تجاوزات المسؤولين ضد الشعوب الإسلامية.. واعلموا أنّ المرء يُحشر مع من أحب فاختاروا مع من تحبوا أن تحشرون يا فقهاء وأئمة ونخب السوء والسلاطين مع القتلة أم مع الضحايا المظلومين.. خاصةً وأن معظمكم جرت به السنين وصرتم قاب قوسين أو أدنى من القبر وحينها وأنتم أدرى بسبب علمكم كيف سيكون منقلبكم وكذلك أنتم أدرى بشروط التوبة وأولها الندم ويتبعه الإقلاع عن الذنب ومن ثم بقية الشروط فهل أنتم تائبون غفر الله لي ولكم؟

الجامية المدخلية.. استخبارات سعودية في قالب سلفي

27/10/2018

في ظل الأحداث الراهنة التي تعيش فيها المجتمعات العربية والإسلامية من انتشار المناهج العلمانية واختلاف الايديولوجيات وبُعد الناس عن دينهم وتأثرهم بالثقافة الغربية، تظافرت جهود المصلحين لتثبيت القيم والتعاليم والاحكام الشرعية الإسلامية والنهوض بالأمة إلى بر الأمان والأخذ بيد الشباب خاصة للسير في المنهج الصحيح بما يحقق لهم السعادة في الدنيا والأخيرة، ويكمن ذلك من خلال اتباع المناهج الإصلاحية المندرجة تحت التعاليم الإسلامية.

لكن هذه الجهود الإصلاحية الكبيرة أضحت تهددها العديد من المخاطر وخاصة المتخفية خلف جلباب التدين، بالدفاع عن المنهج الإصلاحي والغيرة عن الكتاب والسنة، إلا أن هذا الخطر صار له أتباع كثر وبات ينتشر بطريقة عجيبة غريبة لم تعرفها الحركات الإصلاحية الأخرى، ويمكن حصر ذلك في الدعوة السلفية المنبثقة من خلالها ما يعرف حاليا "بالجامية المدخلية" التي تستخدما الأنظمة المستبدة كجهاز استخباراتي بصورة دينية والسيطرة على العقول باستغلال الدين لأغراض سياسية لا علاقة لها بالدين، وهنا نجد أسئلة تُطرح: من هؤلاء ومن يقف خلفهم بالدعم وما هي أصولهم الفكرية وما هي طبيعة علاقتهم مع باقي التيارات الإسلامية الأخرى؟ وهل حقيقة أن الجامية المدخلية جهاز مصغر من الأجهزة المخابراتية أم أنها حركة اصلاحية إسلامية سلفية؟
من المؤاخذات التي تؤاخذ عليها الحركة الجامية المدخلية تقربها من السلطات والأنظمة المستبدة وتَعتبر أي تعبير مخالف للسلطة خروجا على الشرع وسببا في إثارة الفتنه وزعزعة أمن واستقرار البلاد
المدخلية الجامية أو التيار الجامي ما هو إلا تيار محلي داخل الحركات الإسلامية في السعودية أطلقت على فرقة من الفرق السلفية، ينتسبون إلى إمامهم وشيخهم "ربيع المدخلي" أو حركة التجريح نسبة إلى كلمة الجرح ومعناها عند علماء أهل الحديث الطعن في الشخص، نشأة المدخلية الجامية إبان حرب الخليج عام 1990م في المدينة المنورة على يد محمد بن أمان الجامي المدرس في الجامعة الإسلامية في قسم العقيدة والمتوفي سنة 1996م، وشاركه بعد ذلك "الشيخ" ربيع المدخلي المولود بالسعودية عام 1932م والمدرس في كلية الحديث وإليه تنتسب فرقة المداخلة.
عُرفت الجامية المدخلية بقربها الشديد من السلطة والأنظمة الحاكمة، ومعاكستها للحركات الإصلاحية الإسلامية السياسة الأخرى، انتشرت هذه الحركة في السعودية بدعم من الأسرة الحاكمة التي رأت فيها تيارا مناسبا يرفض الخوض في السياسة وهو الشيء الذي ترغب فيه السلطات السعودية من أن تظل هذه الحركات بعيدة عن التداول في المساجد والساحات العامة والجامعات وغير ذلك، وعَرفت توسعا كبيرا بعد ذلك فقد استطاعوا في بداية أمريهم جذب كثير من الشباب واشغالهم بسب وباتهام وأكل لحوم العلماء والدعاة، كما أن الوثائق التي قدمتها مراكز الدراسات الغربية بينت التعاون بين الأجهزة الاستخباراتية وحاملي الفكر المدخلي ودعمهم، إضافة إلى وقفوفهم في وجه الحركات الإسلامية بأكملها وعرقلت طريقهم بشتى الوسائل.

أَسست الحركة المدخلية دعوتها على أصلين أولهما "الطاعة الكاملة لولي الأمر" والتوقف على ظواهر النصوص التي تحث على طاعة ولي الأمر وذلك من خلال فهمهم الخاطئ للآية الكريمة في قوله تعالى "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ" ويبين ربيع المدخلي في شرحه لأصول السنة على ان المتغلب يجب طاعته حقنا للدماء فإذا تغلب أخر وجبت طاعة المتغلب الجديد، وهذا الأصل عندهم ينزلونه منزلة التقديس حسب تمويل الحاكم. أما الأصل الثاني فهو الطعن في المخالفين وتبديعهم، فالشيخ ربيع المدخلي يرى أن "الإخوان المسلمين" قد نقضوا أصول الإسلام كلها، كما يرى أن ممارستهم الدعوية والسياسية بدعة منكرة، ويُعتبر هاذين الأصلين هما عمود الحركة وركائزها.

ومن المؤاخذات التي تؤاخذ عليها الحركة الجامية المدخلية تقربها من السلطات والأنظمة المستبدة كما ذكرت سابقا وتَعتبر أي تعبير مخالف للسلطة خروجا على الشرع وسببا في إثارة الفتنه وزعزعة أمن واستقرار البلاد، وقد وجدت السعودية ضالتها في هذه الحركة بحيث أصبح أبرز العلماء المقربين من السلطة السعودية يجيزون لولي الأمر مصادرة الحريات والزج بالسجن كل من خالفهم ولو أنكر منكرا، كما حصل مع الداعية الإسلامي "سلمان العودة" بسبب تغريده له على توتير دعا فيها أن يؤالف الله بين قلوب حكام الخليج لما فيه خير لشعوبهم.

نفس الأمر بالنسبة لدولة مصر وليبيا حيث وقف التيار المدخلي إلى جانب الانقلابين الديكتاتوريين حفتر والسيسي وحصولهم على مناصب عليا داخل الدولة، وكذلك في اليمن الذي تحالف فيها المداخلة مع القوات الإماراتية ضد الرئيس عبد ربه منصور هادي وقاموا بالخروج عن الحاكم على غرار ما يدعون، الشيء الذي اضطرا السلطات الجزائرية الى التحذير من هذه الحركة.

يمكن القول أن الجامية المدخلية ما هي إلا جهاز مصغر من الأجهزة المخابراتية التي تستخدمها الأنظمة لإغلاق أفواه الشعوب والسيطرة عليهم أما الشيخ ربيع المدخلي فأقل ما يقال عنه أنه رجل دين برتبة مخبر، وفي الختام إن التيار الوهابي أو المدخلي ككل لا يصلح أن يكون منهجا يقتدى به في الإصلاح ويجب على الحكومات محاربة أمثال هذه المناهج، كما أن الفرق التي تفرقت عن السلفية كانت سببا في الواقع الذي تعيشه الدول العربية من ظلم واستبداد وفقر، وكل هذا من أجل بعض المشايخ الذين باعوا دينهم للسلطان وأصدروا فتاوى لا تمت للدين بصلة ولا أساس لها من الصحة واستهدفت بذلك المستضعفين من المسلمين وغرس هذه الأفكار في عقولهم.

عن السلفية الجامية والسلطة

عن السلفية الجامية والسلطة

يحصر بعضهم السلفية الجامية/المدخلية في إطار أنها "حركة مخابراتية"، وأعتقد أن هذا التوصيف هو جزء من الصراع الذي يَسم العلاقة بين هذا التيار وخصومه الذين يصفهم بدوره بأنهم "خوارج".  وبمعزل عن هذه السجالات يمكن فهم هذا النزوع السلطوي للتيار الذي يعرف تارة بالجامية وأخرى بالمدخلية في إطار ثلاثة عوامل:

1- السياق الذي ظهر فيه.
2- مضمون خطابه وصلته بإشكالات الحاضر وإحالاته التراثية. 
3- فاعليته والدور الذي يلعبه بوعي أو من دون وعي حين تخدم أفكاره دوائر أخرى خارج وعيه هو وأفقه.

فهذا التيار الذي لا يتمتع بأي قدرة تنظيمية لأنه يعادي الأحزاب والجماعات أصلاً، نشأ في سياق الجامعة والرمزان اللذان يُنسب إليهما هما أستاذان جامعيان، بمعنى أن اختزاله بأنه تيار مخابراتي نوع من الانتقاص وبعيدٌ عن محاولة الفهم والتحليل. ولاسيما أن العلاقة التي تحكم المشايخ والسلطة علاقة مركبة وتتخذ أشكالا متنوعة بحسب شكل السلطة وطبيعة الفاعلين فيها، تتراوح بين الانخداع بها أو الاستلاب لها أو الموالاة والحب إلى درجة الفناء أو التشبه بها نتيجة وحدة الحال التي تجمع بين سلطوية بعض المشايخ وسلطوية السلطة الاستبدادية.

إننا أمام تحولات جذرية في السعودية التي قدمت منذ السبعينيات نموذج التدين الوهابي بوصفه حركة تبشيرية ضمن سياق الوفرة النفطية والرؤية الانفتاحية للملك فيصل
وهذا ينقلنا إلى العامل الثاني، ذلك أن مفردات المسائل التي يتحدث عنها هذا التيار أو تَسِم خطابه هي: طاعة ولي الأمر، نبذ العمل السياسي، ذم الحزبية والجماعات الدينية، ... وهي مسائل تنتمي إلى مواقف (تراثية) بالقدر نفسه الذي تتصل فيه بمسائل حديثة تنتمي إلى (الحقل السياسي) في ظل الدولة الوطنية. فبغض النظر عن تطبيقات هذا التيار لمفهوم الطاعة السياسية مثلاً؛ فإن طاعة الإمام هي مذهب أحمد بن حَنْبَل واشتُهر بها حتى إنه حينما شارف على الموت أمر ابنه عبد الله بشطب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُهلِك أُمتي هذا الحيُّ من قُريش. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم"؛ فقد رجح عليه حديث "اسمعوا وأطيعوا واصبروا". وكان يقول إن حديث الاعتزال "حديثٌ رديء، يَحتج به المعتزلة في ترك الجمعة". فالفرائض الدينية عند أحمد كان لها أولوية على مسائل السياسة والحكم.

ولكن لا شك أن تطبيقات الجامية أو المدخلية لمبدأ الطاعة تختلف عن الوضع التاريخي لأحمد بن حَنْبَل؛ لأنها تأتي في ظل نشوء (حقل سياسي) حديث له تعقيداته، ولا يمكن قياس الوضع الحالي على وضع الدولة العباسية مثلاً؛ فالجامية يقومون باختيارات تأويلية مجتزأة تجعلهم يقومون بدور (وظيفي) بوعي أو من دون وعي، لأنهم واجهوا مشكلتين: الأولى هي مشكلة الطاعة السياسية التي يرونها (مسالة عقدية) وليست مسألة عملية فقهية يمكن أن تختلف فيها التقديرات والتصرفات، رغم أن من الفقهاء الحنابلة وغير الحنابلة مَن رأى الخروج على الحاكم الظالم. والمشكلة الثانية التي واجههوها أنهم يتحركون في سياق حديث لا يمكن إسقاط التاريخ عليه؛ لوجود اختلافات جذرية خصوصًا أن الطاعة والخروج يكتسيان مفاهيم ووسائل جديدة سلمية وهي صلب العمل (السياسي). يضاف إلى ذلك أن تركيبة السلطة والدولة وعلاقاتها بغيرها تختلف جذريًّا عن تركيبة الفقه التاريخي زمن أحمد بن حَنْبَل.

فالعامل الثالث هنا يحيل إلى كونهم جماعة وظيفية، وهذه الوظيفية ليست بالضرورة نتاج تواطؤ واع. ما يعني أن وجودهم واستمرارهم بوصفهم تيارًا مرتبطٌ بمدى الحاجة إليهم والحاجة إليهم تشتد في حالات مواجهة الخطاب المضاد وهو هنا خطاب الثورة والاحتجاج على ولي الأمر الذي يقرّب بينهم وبين السلطة أكثر ويقدم لهم مزيدًا من السلطوية في ظل تغييب وتهميش خصومهم. يبقى أن الإشكال اليوم هو أن ولي أمرهم يضعهم أمام خيارات قاسية تدخل في صلب الشأن الديني الذي ما كان أحمد بن حَنْبَل يسلّم بأنه من اختصاص ولي الأمر وإنما كان يرى أنه من اختصاص العلماء الذين هم أولياء الأمر في الشأن الديني ولهذا واجه المحنة في مسألة خلق القرآن، ولكن من المؤكد أن هذا التيار لن يتخذ أي موقف نقدي من هذه التحولات السياسية التي تتناول الشأن الديني نفسه لأنهم حولوا مفهوم الطاعة السياسية إلى مفهوم عقدي مُصمَت صار "هوية" لهم ومسائل الهوية ترتبط بالكينونة وليست محل نقاش، كما أن التساؤل عن حدود طاعة ولي الأمر وتجلياتها وما إذا كانت تقف عند خطوط حمر غير مطروح عندهم.

الساحة السعودية باتت خالية وتم سحب أهم أسلحة الدعاة الجدد وهو (وسائل التواصل الاجتماعي)، فحتى الذي بقي خارج السجن بات يغرد فقط بتمجيد ولي العهد
الجزيرة
 
إننا أمام تحولات جذرية في السعودية التي قدمت منذ السبعينيات نموذج التدين الوهابي بوصفه حركة تبشيرية ضمن سياق الوفرة النفطية والرؤية الانفتاحية للملك فيصل، أما الروية الجديدة لولي العهد السعودي فتقوم على أن الوهابية عبء يريد التخلص من ثقله وأن الخطاب الديني خطاب "وظيفي"، فالتبشير بالوهابية تم – في تصوره – بناء على حاجة سياسية (وليست دينية) اقتضاها الصراع في الحرب الباردة. بهذا المعنى لا تحمل الرؤية السعودية الحالية أي أيديولوجيا دينية وإنما هي نزوع نحو "تحديث" شكلي، بمعنى أنه تحديث لا يحمل منظورًا فكريًّا وإنما يقوم على أساس اقتصادي بالأساس يتم تحقيق الترتيبات اللازمة لحصوله، وهو ما يفسر لماذا تتم حركة التغيير بشكل فج وسريع على المستوى الاجتماعي والديني (من دون أي تغيير سياسي ذي مضمون)، وهو ما أدى إلى هذه التغيرات التي شهدناها من اعتقال رموز خطاب الصحوة (الذي هو خصم الجامية) وهو ما وضع رموز السلفية العلمية في مأزق لأنها لا تملك حرية الكلام من جهة ووقعت في شر أعمالها من جهة أخرى؛ لأنها لم تحسب حساب أن يكون ولي الأمر الذي تجب طاعته بهذه الفجاجة واللامبالاة بمسلماتها الدينية.

فما يجري اليوم هو مرحلة ضمور للخطاب الديني عامة في سياق سَجن واعتقال وتخويف من جهة، وفي ظل تراجع دعاة الميديا من جهة أخرى. فالساحة باتت خالية وتم سحب أهم أسلحة الدعاة الجدد وهو (وسائل التواصل الاجتماعي)، فحتى الذي بقي خارج السجن بات يغرد فقط بتمجيد ولي العهد، أي أن مفهوم الجامية توسع وبات له حضور خارج التيار الجامي التقليدي فبتنا نرى الممارسة الجامية على ألسنة دعاة ليسوا منهم كعائض القرني وصالح الغامسي وغيرهما، وعلى ألسنة ليبراليين كتركي الحمد وعبد الله الغذامي الذي باتوا يغردون فقط بطاعة الحاكم والدفاع عنه وشتم خصومه.