مناقشة شرعية لسبب خروج الوهابية على الخلافة العثمانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه."الوهابية"، نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1115هـ/1703م - 1206هـ/1792م)، حركة إصلاحية دينية سياسية ظهرت في القرن 12هـ الموافق للقرن 18م في منطقة نجد وسط شبه الجزيرة العربية. وتعرف اليوم باسم "السلفية". يقول الدكتور عبد الله العثيمين (في بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة العربية السعودية ص11): "كلمة "الوهابية" ذاتها... صفة يطلقها كثير من الدارسين على أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العقيدة، وعلى الذين لبوا دعوته وانضموا إلى الدولة التي قامت على أساسها في وسط الجزيرة العربية، كما تطلق على عقيدة ذلك الشيخ ودعوته أو حركته. ومن الواضح أن النسبة في الكلمة، وإن تكن أقرب إلى اسم والد الشيخ من اسم الشيخ نفسه، نسبة صحيحة من الناحية اللغوية. ذلك أنها لا تختلف مثلا عن نسبة الحنبلية إلى أحمد بن حنبل".
ويرى بعض الناس أنّ مصطلح "الوهابية" غير صحيح ولا يعبّر عن الحركة وإنما يراد به تشويهها، وهو ما عبّر عنه الملك عبد العزيز آل سعود "في خطابه الذي ألقاه في القصر الملكي بمكة، يوم غرة ذو الحجة عام 1347هـ الموافق 11 مايو عام 1929م بعنوان (هذه عقيدتنا) جاء فيه قوله: يسموننا "بالوهابيين" ويسمون مذهبنا "الوهابي" باعتبار أنه مذهب خامس، وهذا خطأ فاحش، نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثّها أهل الأغراض". (نقلا عن: تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية، للدكتور محمد بن سعد الشويعر، ص132). ولكن سبق لمطبعة المنار بمصر أن طبعت بأمر الملك عبد العزيز آل سعود نفسه سنة 1342هـ كتاب "الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية لجميع إخواننا الموحدين من أهل الملة الحنيفية والطريقة المحمدية" لسليمان بن سحمان النجدي (ت1349هـ). فعنوان الكتاب الذي طبع بأمر الملك عبد العزيز يقرّ استعمال مصطلح "الوهابية"، بل أكّده صاحب الكتاب بقوله في مقدّمته (ص3): "... حقيقة ما عليه أهل الإسلام الموحدين من أهل نجد المشهورين بالوهابية..."، وأكّده أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت1367هـ) بقوله في الكتاب نفسه (ص92): "... وصار بعض الناس يسمع بنا معاشر الوهابية ولا يعرف حقيقة ما نحن عليه...".
وللعلم، لم يطلق الوهابيون الأوائل على أنفسهم أو حركتهم اسما بل كانوا يصفون أنفسهم بـ"المسلمين" و"الموحدين" كما جاء في تاريخ ابن غنّام (ت 1225ه) وابن بشر (ت1290هـ)وغيرهما. قال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية، الدولة السعودية الأولى، الجزء الثاني ص279): "استعمل المؤرخان النجديان ابن غنام وابن بشر كلمة "المسلمين" في تسمية أتباع الدولة السعودية الأولى عامة، ومقاتلتها خاصة، وربما أطلقا عليهم اسم "الموحدين" أيضا، وكلا التسميتين تبدو اليوم غريبة.. وكأن فيها لونا من ألوان التحدي للآخرين والشكّ في صحة معتقداتهم.. كانوا يطلقون على أنفسهم اسم "المسلمين" – أو "الموحدين" – يختصون به قومهم دون غيرهم، حتى أزالوا معالم الشرك والشركيات، وقضوا على الجهل والخرافات، وبذلك تحققت مقاصد الدعوة، ولم تبق اليوم حاجة – في اعتقادنا – إلى هذا التخصيص الذي كان يقترن بمرحلة معينة من التاريخ". وقال الدكتور عبد الله العثيمين (في بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة العربية السعودية ص11-12) وهو ممن استعمل مصطلح "الوهابية" في كتابه: "أما أنصار دعوة ابن عبد الوهاب؛ خاصة فيما مضى، فإنهم لا يرضون بالتسمية المشار إليها، وإنما يسمون أنفسهم ودعوة إمامهم تسميات أخرى. فأحيانا يسمون أنفسهم المسلمين، ويسمون الدعوة التي لبّوها دين الإسلام. وأحيانا يستعملون صفات أكثر التصاقا بطبيعة الدعوة، فيطلقون على أنفسهم اسم الموحدين، ويطلقون على دعوتهم دعوة التوحيد، أو الدعوة السلفية، أو الدعوة فقط... ولكن عددا قليلا من التابعين لدعوة ابن عبد الوهاب، أو المتعاطفين معها، بدأوا في السنوات الأخيرة لا يتحاشون استعمال كلمة "الوهابية" في كتاباتهم. ويبدو أن هذا الموقف جاء نتيجة اعتقاد هؤلاء بأن ما كان يدعو إليه ذلك الشيخ قد بات واضحا بدرجة كبيرة...".
وعليه، فإننا نرى أنّ أدقّ مصطلح يمكن استعماله للتعبير عن هذه الحركة وتمييزها عن غيرها هو مصطلح "الوهابية"، وبخاصة إذا كان الحديث عنها يتعلّق بزمن نشأتها وظهورها.
سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابتداء دعوته:
جاء في كتاب الدولة السعودية الأولى: "ينتمي الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى أسرة آل مُشرف، من فروع آل وُهبة، أحد بطون قبيلة تميم. فهو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن أحمد بن راشد بن بُريد بن محمد بن بُريد بن مشرف. كان جده سليمان عالماً من علماء نجد في القرن الحادي عشر الهجري. وتولى القضاء في روضة سدير. كما كان والده عبد الوهاب قاضياً في بلدة العيينة، ثم عُزل عام 1139هـ، وعين قاضياً لبلدة حريملاء.ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم، في بلدة العيينة، سنة 1115هـ /1703م. وتلقى تعليمه الأولي على يد والده، وحفظ القرآن الكريم، في صغره. كما درس الفقه والتفسير والحديث. ثم ذهب للحج. ومن مكة المكرمة، توجه إلى المدينة المنورة، ثم عاد إلى العيينة.وتميز محمد بن عبد الوهاب بقوة الذاكرة، والتعلق بالعلم. فانطلق طالباً المزيد منه. فرحل إلى مكة المكرمة ثانية، ومنها إلى المدينة المنورة، حيث حضر حلقات الدرس في الحرم النبوي للشيخ النجدي عبد الله بن إبراهيم بن سيف الذي شجعه على القراءة في الفقه الحنبلي. وتلقى العلم أيضاً من عالم الحديث الشيخ محمد حياة السندي المدني (توفي عام 1165هـ) الذي تأثر به محمد بن عبد الوهاب في الدعوة إلى التجديد، ومحاربة البدع في الدين، وما يؤدي إلى الشرك من الأعمال.وعاد محمد بن عبد الوهاب إلى بلدته، العيينة ومكث بها عاماً. وتوجه إلى البصرة ليرضي نهمه في العلم. وفيها درس الفقه، وعلوم الحديث، وقواعد اللغة العربية.وفي البصرة التي كانت آنذاك تعج بالمذاهب والفِرق، آنس في نفسه القدرة على معارضة الأمور، التي كانت تجري على خلاف الشرع؛ وأن ينكر ما يرتكب، هناك، من البدع التي تفضي إلى الشرك؛ وأن يشترك في النقاش حول التوحيد والعقيدة، مما أثار عليه بعض الأهلين وآذوه. ولهذا أجبر على مغادرة البصرة، فتوجه إلى الزبير، ومنها إلى الأحساء، حيث مكث بعض الوقت، واستفاد من علمائها، مثل عبد الله بن فيروز، ومحمد بن عفالق، وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي.وخلال طلبه العلم، عكف الشيخ محمد بن عبد الوهاب، على دراسة كتب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية (المتوفى عام 728هـ/1327م ). ودرس آثار تلميذه ابن قيم الجوزية (المتوفى 751هـ/1350م). وتأثر بهما كل التأثر، خاصة رأي ابن تيمية في ضرورة العودة في أمور الدين، إلى الكتاب والسُّنة، وما صح عن الصحابة من آثار؛ وتصحيح العقيدة وتنقيتها من بدع المتصوفة والمتكلمة. وتأثر به في محاربته للبدع والمنكرات، التي تؤدي إلى الشرك مثل الاستغاثة بغير الله، والتوسل بالأولياء والموتى، والاعتقاد أنهم يجلبون النفع، ويدفعون الضر. وكذلك التبرك بالأضرحة والأشجار وغير ذلك. وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب دائم التمثل بآراء ابن تيمية في كتبه ورسائله.ورجع الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى بلدة حريملاء، التي عُيّن أبوه قاضياً لها. وكان وصوله إلى نجد بين عامَي 1144هـ ـ 1149هـ/ 1731 ـ 1736م...". (نقلا عن موسوعة مقاتل من الصحراء www.moqatel.com).
وقال الشيخ حسين بن غنّام - وهو ممن عاصر الشيخ ابن عبد الوهاب - (في تاريخ نجد ص83- 86): "... فأقام الشيخ محمد في حريملاء مع أبيه يقرأ عليه سنين، إلى أن توفي أبوه سنة (1153) ثلاث وخمسين ومائة وألف. فأعلن دعوته واشتدّ في إنكاره مظاهر الشرك والبدع، وجدّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل النصح للخاص والعام، ونشر شرائع الإسلام... فذاع ذكره في جميع بلدان العارض: في حريملا والعيينة والدرعية والرياض ومنفوحة... وانقسم الناس فيه فريقين: فريق تابعه وبايعه وعاهده على ما دعا إليه، وفريق عاداه وحاربه وأنكر عليه وهم الأكثر... فانتقل الشيخ من حريملا إلى العيينة ورئيسها يؤمئذ عثمان بن حمد بن معمر، فأكرمه وتزوج فيها الجوهرة بنت عبد الله بن معمر. ولما عرض على عثمان دعوته اتبعه وناصره، وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره. وكان في العيينة وما حولها كثير من القباب والمساجد والمشاهد المبنية على قبور الصحابة والأولياء، والأشجار التي يعظّمونها ويتبركون بها: كقبّة زيد ابن الخطاب في الجبيلة، وكشجرة قريوة وأبي دجانة والذيب. فخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم إلى تلك الأماكن بالمعاول فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنة... ولم يزل الشيخ رحمه الله مقيما في العيينة: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعلم الناس دينهم، ويزيل ما قدر عليه من البدع، ويقيم الحدود ويأمر الوالي بإقامتها حتى جاءته امرأة من أهل العيينة زنت، فأقرّت على نفسها بالزنا، وتكرر ذلك منها أربعا... فأمر الشيخ رحمه الله الوالي برجمها لأنها محصنة... فخرج الوالي عثمان ابن معمر وجماعة من المسلمين فرجموها حتى ماتت... فلما جرت هذه الحادثة كثرت أقاويل أهل البدع والضلال، وطارت قلوبهم خوفا وفزعا، وانخلعت ألبابهم رهبا وجزعا. وتطاولت ألسنة العلماء عليه ينكرون ما فعل مع أنه لم يعد الحكم المشروع بالسنة والإجماع. فلما أعياهم ردّ ما أفحمهم به الشيخ من حجج، عدلوا إلى ردها بالمكر والحيلة، فشكوه إلى شيخهم سليمان آل محمد رئيس بني خالد والأحساء، فأغروه به، وصاحوا عنده وقالوا: إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم، ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور، ويبطل العشور والمكوس. فلما خوّفوه بذلك كتب إلى عثمان بن معمر يأمره بقتله أو إجلائه عن بلده، وشدّد عليه...فلما ورد على عثمان كتاب سليمان استعظم الأمر فآثر الدنيا على الدين، وأمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالخروج من العيينة".
بيعة الدرعية:
قال الدكتور عبد الله العثيمين (في بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة العربية السعودية، ص23): "وحين تقرر أن يترك محمد بن عبد الوهاب بلدة عيينة كانت الدرعية المكان المناسب لمقره الجديد. ذلك أن العلاقات بين هذه البلدة وبين حكام الأحساء كانت سيئة. وكان من المتوقع أن يرحبوا بمن وقفوا منه موقف عداء، لأنهم كانوا خصوما لهم قبل ذلك. وكان كثير من أعيان البلدة مؤيدين لدعوة الشيخ. ومن بين هؤلاء إخوة أميرها وابنه عبد العزيز. وحين قابل الشيخ محمد بن عبد الوهاب الأمير محمد بن سعود في الدرعية أوضح له ما سبق أن أوضح لعثمان بن معمّر من تلازم الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، كما أوضح له أن نجدا ميدان مفتوح أمامه لكي يمارس فيه نشاطه..."
وأما تفاصيل بيعة الدرعية وما ورد فيها من شروط فننقلها من ثلاثة مصادر:
- المصدر الأول: قال ابن غنّام (في تاريخ نجد، ص86-87): "فخرج الشيخ سنة سبع أو ثمان وخمسين ومائة وألف من العيينة إلى بلدة الدّرعية. فنزل في الليلة الأولى على عبد الله بن سويلم، ثم انتقل في اليوم التالي إلى دار تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم. فلما سمع بذلك الأمير محمد بن سعود، قام من فوره مسرعا إليه ومعه أخواه: ثنيان ومشاري، فأتاه في بيت أحمد بن سويلم فسلّم عليه، وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده. فأخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه، وما كان عليه صحابته رضي الله عنهم من بعده، وما أمروا به وما نهوا عنه، وأن كل بدعة ضلالة، وما أعزّهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به وجعلهم إخوانا. ثم أخبره بما عليه أهل نجد في زمنه من مخالفتهم لشرع الله وسنة رسوله وبالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والظلم. فلما تحقّق الأمير محمد بن سعود معرفة التوحيد، وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، قال له: (يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه، فأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد؛ ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا، والثانية: أنّ لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا). فقال الشيخ: (أما الأولى فابسط يدك: الدم بالدم والهدم بالهدم، وأما الثانية فلعلّ الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منهم). فبسط الأمير محمد يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيله، وإقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقام الشيخ ودخل معه البلد واستقرّ عنده".
- المصدر الثاني: قال ابن بشر (في عنوان المجد في تاريخ نجد، ج1 ص42- 43): "... فسار إليه محمد ابن سعود. ودخل عليه في بيت ابن سويلم فرحب به وقال: (أبشر ببلاد خير من بلادك، وأبشر بالعزة والمنعة). فقال له الشيخ: (وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين. وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم. فمن تمسك بها، وعمل بها، ونصرها؛ ملك بها البلاد والعباد. وأنت ترى نجداً وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم بعض. فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك). وجعل يشرح له الإسلام وشرايعه وما يحل وما يحرم وما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الدعوة إلى التوحيد والقيام في نصره والقتال عليه. فلما شرح الله صدر محمد بن سعود لذلك، وتقرر عنده، طلب من الشيخ المبايعة على ذلك، فبايع الشيخ على ذلك، وأنّ الدم بالدم والهدم بالهدم، وعلى أنّ الشيخ لا يرغب عنه إن أظهره الله. إلا أنّ محمد بن سعود شرط في مبايعته للشيخ أن لا يتعرضه فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذي كان.. يأخذه رؤساء البلدان على رعاياهم، فأجابه الشيخ على ذلك رجاء أن يخلف الله عليه من الغنيمة أكثر من ذلك، فيتركه رغبة فيما عند الله سبحانه، فكان الأمر كذلك ووسع الله عليهم في أسرع ما يكون...".
- المصدر الثالث: قال حسن بن جمال بن أحمد الريكي (في لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب، ص30-31 بتحقيق الدكتور أحمد أبو حاكمة): "... فسمع محمد بن سعود بورود محمد بن عبد الوهاب، وكان قبل هذا قد سمع بصيته وإظهاره مذهبا جديدا فجاء إليه، وصافحه وقال: (هذه القرية قريتك والمكان أنت واليه، فلا تخشى [المحقق: اقرأ فلا تخش] أعداءك؛ والله لو انطبقت علينا جميع نجد ما أخرجناك عنا)، فقال: (أنت كبيرهم وشريفهم، أريد منك عهدا على أنك تجاهد في هذا الدين، والرياسة والإمامة فيك وفي ذريتك بعدك، وأنّ المشيخة والخلافة في الدين فيّ وفي آلي من بعدي أبدا، بحيث لا ينعقد أمرا ولا يقع صلحا ولا حربا [المحقق: اقرأها بالرفع لا بالنصب] إلا ما نراه كذلك، فإن قبلت هذا فأخبرك أن الله يطلعك على أمور لم يدركها أحد من عظماء الملوك والسلاطين، وتكون عاقبة أمرك محمودة عند الله لأنك اتبعت الدين ونصرته. ولم تقصر رتبتك عن رتبة الصحابة والخلفاء الذين نصروا رسول الله (ص) وأي منزلة أعلى من هذه)؟ فقال محمد بن سعود: (قبلت وبايعتك على ذلك). فتبايعا واشترط كل منهما على صاحبه ما اشترط عليه...".
مناقشة بيعة الدرعية:
تضمنت بيعة الدرعية التي تمت بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود جملة من الأمور الخطيرة، نذكر منها ما يلي:
1. ذكر ابن غنّام وابن بشر أنّ محمد بن سعود اشترط على الشيخ ابن عبد الوهاب أن لا يمنعه من أخذ "القانون" الذي كان يأخذه من أهل الدرعية أي أن لا يمنعه من أخذ الضرائب أو الخفارة وهو "ما يدفعه الضعيف للقوي ليحميه ويدافع عنه" – كما في هامش تاريخ نجد ص 87 -، ونفهم من هذا أنّ ابن سعود اشترط على الشيخ ابن عبد الوهاب أن يسمح له بأخذ المال الحرام وأكل مال الناس بالباطل، وهو ما فهمه الشيخ فردّ عليه بقوله – كما في تاريخ نجد لابن غنام -: "وأما الثانية فلعلّ الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منهم". وقد يفهم من هذا الردّ أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب رفض الشرط، ولكن ابن بشر، وهو "عدل ثقة صادق الرواية واسع الإطلاع" – كما قال فيه الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله ابن عبد اللطيف آل الشيخ في مقدمة كتاب عنوان المجد، ج1 ص11) - ذكر عبارة ترفع الاحتمال والإبهام، قال: "فأجابه الشيخ على ذلك رجاء أن يخلف الله عليه من الغنيمة أكثر من ذلك، فيتركه رغبة فيما عند الله سبحانه". ومعنى هذا الكلام أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب قبل الشرط، وسمح لابن سعود بأخذ المال الحرام. فهل يجوز هذا؟
2. ذكر حسن بن جمال بن أحمد الريكي أن البيعة تضمنت شرط التوريث في الإمامة السياسية والدينية، وهو ما يدل عليه قول الشيخ ابن عبد الوهاب: "أريد منك عهدا على أنك تجاهد في هذا الدين، والرياسة والإمامة فيك وفي ذريتك بعدك، وأنّ المشيخة والخلافة في الدين فيّ وفي آلي من بعدي أبدا". وتوريث الحكم يفهم أيضا من رواية ابن بشر التي ورد فيها قول الشيخ: "فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك". وهو ما حصل بالفعل. قال ابن بشر (في عنوان المجد ج1 ص99): "ثم دخلت السنة التاسعة والسبعون بعد المائة والألف، وفيها توفي الإمام الرئيس والمجاهد في الدين بالعرمرم الخميس محمد بن سعود... وكان ولي العهد بعده ابنه عبد العزيز، فكان إماما للمسلمين وحامي ثغور الموحدين". وقال (ج1 ص186): "وأما حسين [ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب] فهو الخليفة بعد أبيه...". فمسألة التوريث في الإمامة السياسية والدينية من الأمور المعلومة التي لا تخفى على أحد؛ إذ إنّ الحكم في "المملكة السعودية" يتوارثه آل سعود، والمشيخة يتوارثها آل الشيخ ابن عبد الوهاب ولم يشذّ عن هذه القاعدة – حسب علمي - إلا الشيخ عبد العزيز بن باز الذي تولى منصب الإفتاء من سنة 1992م إلى سنة 1999م ثم عادت المشيخة إلى آل الشيخ. فهل يجوز هذا؟ قال الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي (ت1422هـ) في كتابه الإمامة العظمى: "... اجتماع أهل الحل والعقد وأهل الفضل والصلاح وتشاورهم في اختيار الإمام من أروع صور الشورى بين المسلمين، وإن لم يكن هذا هو عين الشورى فماذا يكون؟وأضيف إلى هذه الحقيقة أن يكون الاختيار أساسه الشورى كان هو رأي عمر نفسه، فقد روى عنه عبد الرزاق في (المصنف) أنه قال: "الإمارة شورى"، وروى عنه بسند قوله: "من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من غير شورى من المسلمين فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه"، وروى عنه ولده عبد اللَّه بن عمر أنه قال لأهل الشورى قبل وفاته: "من تأمر منكم من غير شورى من المسلمين فاقتلوه".وإذا كانت الشورى هي طريقة اختيار الحاكم فإن ذلك يعني أن الأمة يجب أن يكون لها رأي فيمن يتولى شئون الحكم في الدولة الإسلامية، فمسئولية الاختيار راجـعة إلى الأمة نفسها، وقد كان حكم عمـر بن الخطاب رضي اللَّه عنه في ذلك واضحًا حين قرر أن من حاول أن يفرض نفسه أو غيره دون رضا المسلمين المبني على مشاورتهم وجب أن يعاقب عقاب المفسدين في الأرض "فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه"... فأبو بكر لم يعهد لابنه من بعده بل عهد إلى عمر، رضي اللَّه عنهم أجمعين، وعمر لم يعهد إلى ابنه بل جعلها شورى بين الستة وجعله من أهل الشورى، وشدد على أنه ليس له من الأمر شيء فلا يتولى الخلافة، وكذلك عثمان لم يعهد إلى أحد من أقاربه، وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه حين سأله رجل: ألا تعهد يا أمير المؤمنين؟ قال: لا؛ ولكني أترككم كما ترككم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فوجب علينا الاقتداء بهؤلاء الأعلام والسير على نهجهم، وأخذ سنـتهم رضي اللَّه عنهم، ومن أجاز العهد للأبناء إنما اشترط رجحان وتيقن المصلحة وأمن الفتنة، وإلا فإن الإمامة لا تُورث وليست حكرًا على عائلة بعينها لا تخرج منها. قال ابن خلدون: (وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية، إذ هو أمر من اللَّه يخصُّ به من يشاء من عباده، وينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفًا من العبث بالمناصب الدينية، والملك للَّه يؤتيه من يشاء)، وشدد ابن حزم رحمه اللَّه على هذا الأمر فقال: (لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها)". (نقلا عن الموقع الالكتروني للشيخ: www.al-oglaa.com). وأخرج الحاكم في المستدرك عن محمد بن زياد قال: "لما بايع معاوية لابنه يزيد، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر".
3. ذكر ابن بشر أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب قال لابن سعود: "فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك"، وذكر أيضا: "فلما شرح الله صدر محمد بن سعود لذلك، وتقرر عنده، طلب من الشيخ المبايعة على ذلك، فبايع الشيخ على ذلك، وأنّ الدم بالدم والهدم بالهدم، وعلى أنّ الشيخ لا يرغب عنه إن أظهره الله".فالبيعة كانت بيعة حرب وحكم قامت عليها الدولة الوهابية/السعودية الأولى. ومما يدلّ أيضا على أنّ البيعة كانت بيعة حكم لإقامة إمارة/دولة يحكمها حاكم واجب الطاعة ورود ألفاظ الجهاد والغنيمة في الاتفاق الذي حصل بين الشيخ ابن عبد الوهاب وابن سعود. ومن المعلوم أنّ الحديث عن الجهاد والفتوحات والغنائم يعني الحديث عن كيان سياسي يتولى هذه الأمور، وهو ما كان يفكّر فيه الشيخ من قبل إلا أنه لم يتح له تحقيقه. قال الدكتور عبد الله العثيمين (في بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة العربية السعودية، ص22): "وكان واضحا منذ البداية أن محمد بن عبد الوهاب يرى أن الإصلاح الديني لا ينفصل عن الإصلاح السياسي، وأن الناحية السياسية ستستفيد من الناحية الدينية. ومن هنا كانت عبارته الأولى حين قابل الأمير عثمان [في العيينة]: "إني أرجو إن قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله تعالى وتملك نجدا وأعرابها". وفي هذه العبارة أيضا توضيح لأمر آخر كان يدور في ذهن الشيخ حينذاك، وهو أنه كان يرى منطقة نجد، المفككة سياسيا وغير الخاضعة للدولة العثمانية، مجال حركته المستقبلة". وعليه، فإن بيعة الدرعية كان الإعلان الأول لتأسيس الدولة الوهابية/السعودية الأولى. قال الدكتور عبد الله العثيمين (في بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة العربية السعودية، ص24): "وكان اتفاق محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود سنة 1744م بمثابة إعلان ميلاد دولة جديدة في المنطقة، لها هدف معيّن ومبادئ واضحة". وقال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية: الدولة السعودية الأولى، الجزء الثاني ص18): "قال بعض المؤرخين: إنّ عبد العزيز هو مؤسس الدولة السعودية الأولى، لأن الفتوحات العظيمة تمّت في زمانه، فأصبحت بلاده "دولة" بعد أن كانت "مشيخة" أو إمارة صغيرة مغمورة! ولكننا لا نشارك القائلين بهذا الرأي رأيهم، وإنما نقول بما قالته الكثرة من المؤلفين والمؤرخين وهو: أن محمد بن سعود مضى بشرف تأسيس الدولة السعودية الأولى، وأن ابنه عبد العزيز أكمل عمله وحقق أمله...". وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة بعث بها إلى الإمام عبد الله بن فيصل: "تفهّم أنّ أول ما قام به جدك محمد، وجدك عبد الله بن محمد، وعمك عبد العزيز: أنها خلافة نبوة... وأراد الله إمارة سعود بعد أبيه، يرحم الله الجميع، وأراد الله أن يغير طريقة والده الذي قبله، وبغاها ملكا، وبدأ ينقص أمر الدين والدنيا تطغى". (ينظر: تاريخ البلاد العربية السعودية: الدولة السعودية الأولى، الجزء الثاني ص31-32).
أدوار تاريخ الدولة الوهابية/السعودية:
قال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية: الإمام تركي بن عبد الله، ص14): "اتفق المؤرخون المحدثون على تقسيم التاريخ السعودي إلى ثلاثة أدوار: الدور الأول، وسموه: الدولة السعودية الأولى. الدور الثاني، وسموه: الدولة السعودية الثانية. الدور الثالث، وسموه: المملكة العربية السعودية".
أما الدولة السعودية الأولى: فقد تأسست سنة (1157هـ/1744م) وانهارت سنة (1233هـ/1818م). وقد تولى الحكم فيها:
1. محمد بن سعود: من سنة 1744م إلى سنة 1765م
2. خلفه: عبد العزيز بن محمد بن سعود: من سنة 1765م إلى سنة 1803م
3. خلفه: سعود بن عبد العزيز بن محمد: من سنة 1803م إلى سنة 1813م
4. خلفه: عبد الله بن سعود بن عبد العزيز: من سنة 1813م إلى سنة 1818م
ومن أشهر مشايخ الدولة الأولى: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حسين بن عبد الوهاب، والشيخ عبد الله بن عبد الوهاب، والشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وأما الدولة السعودية الثانية: فقد تأسست سنة (1240هـ/1824م) وانهارت سنة (1309هـ/1891م). ومؤسسها هو تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (ت1249هـ/1834م)، وتولى الحكم من بعده ابنه فيصل بن تركي، ثم تولى الحكم بعده عبد الله بن فيصل، وسعود بن فيصل، وعبد الرحمن بن فيصل.
ومن أشهر مشايخ الدولة الثانية: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وعبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين.
وأما الدولة السعودية الثالثة المسماة بالمملكة العربية السعودية: فقد تأسست سنة (1344هـ/1926م) وهي السنة التي لقّب فيها عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها. وفي سنة (1351هـ/1932م) أصدر الملك عبد العزيز أمرا ملكيا بتوحيد البلاد في دولة واحدة تدعى: المملكة العربية السعودية. وقد تولى الحكم بعد وفاته سنة (1956م) ابنه سعود، ثم ابنه فيصل، ثم ابنه خالد، ثم ابنه فهد، ثم ابنه عبد الله.
ومن أشهر مشايخ الدولة الثالثة: محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، وسليمان بن سحمان، وعبد الله العنقري، وعبد الله بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، وعبد العزيز بن باز، ومحمد بن صالح العثيمين.
نظام الحكم في الدولة الوهابية/السعودية الأولى:
أسّس الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود دولة يمكن أن نصفها بالإمارة إسلامية تقوم على نظام محدد. "ويشتمل هذا النظام على المناصب التالية:
- الإمام (الحاكم): وهو في قمة النظام السياسي وهو الرئيس الأعلى للدولة وصاحب السلطات الفعلية. ولقب الإمام يشتمل على الزعامتين: الدينية والسياسية... فالإمام هو المشرف العام على جميع شؤون الدولة... ويقيم الإمام ويمارس مهام عمله في الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى. وكان له ديوان في قصره يجتمع فيه مع مستشاريه وقضاته وأمرائه ورؤساء الأقاليم وشيوخ القبائل والعلماء.
- ولي العهد: كانت ولاية العهد في الدولة السعودية الأولى تعهد إلى الابن الأكبر من أبناء الإمام الحاكم. فكان الإمام يعهد لأكبر أبنائه بمهمة ولاية العهد ويعهد إليه بقيادة الجيوش الغازية. ويعطينا ابن بشر وصفا لما كان يتم عند إعلان ولاية العهد فيقول: "أمر الشيخ محمد [ابن عبد الوهاب] رحمه الله تعالى أهل بلدان نجد وغيرهم أن يبايعوا سعود بن عبد العزيز – رحمه الله –، وأن يكون ولي العهد بعد أبيه وذلك بأمر بعبد العزيز فبايعه جميعهم". ومن سلطات ولي العهد وواجباته أنه ينوب عن الإمام في القيام بمهام الدولة أثناء غيابه في حالات الغزو والمرض...
- أمراء الأقاليم: كان الإمام يعيّن على أقاليم دولته أمراء يطلق عليهم لقب أمراء الأقاليم أو حكام الأقاليم. وقد وجدت هذه المناصب العليا في المناطق لتسدّ الحاجة الإدارية بعد أن توسعت الدولة فشملت العديد من المناطق...
- الشورى: كان الإمامان محمد بن سعود وابنه عبد العزيز يستشيران الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كل أمور الدولة بخاصة القضايا الدينية منها. إلى جانب هذا فكان الإمامان يستشيران العلماء وأصحاب الرأي في البلاد بخاصة أولئك الذين يقيمون في الدرعية. وقد تطور أمر الشورى في عهد الإمام سعود الكبير...". (نقلا عن: محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، للدكتور عبد الفتاح أبو علية ص109-112 بتصرف).
وهنا يرد سؤال يتعلّق بحاكم الدولة الأولى بعد تأسيسها: هل هو الشيخ ابن عبد الوهاب أم الأمير ابن سعود؟
الناظر في تاريخ نجد لابن غنّام يجد أنّه كثيرا ما يقرن بين الاسمين حين الحديث عن كثير من الأمور المتعلقة بالدولة وإدارتها. ومثال ذلك: يقول (ص95): "أرسل هو [أي الشيخ ابن عبد الوهاب] والأمير محمد بن سعود إلى دهام بن دوّاس... واجتهدا في نصحه ما وسعهما الاجتهاد..."، ويقول (ص99): "فأرسل إلى الشيخ وإلى محمد بن سعود يستشفع إليهما، ويطلب منهما الصفح عن تخلفه، فقبلا عذره رجاء منهما ألا يعود..."، ويقول (ص100): "من غير مشورة الشيخ وابن سعود"، ويقول(ص104): "وفي هذه السنة ارتدّ إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن أمير ضرمى، ونقض عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود". ويقول (ص106): "فأتوا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود..."، ويقول (ص108): "فرفعوا أمرهم إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود". وقد يفهم من هذا أنّ الدولة كانت تدار من الشيخ والأمير معا وفق قاعدة الشورى، وأنّ هذا كان معلوما في داخل الدولة وخارجها.
ولكن قال ابن غنّام (في تاريخ نجد، ص89-90): "وقد بقي الشيخ [أي ابن عبد الوهاب] بيده الحلّ والعقد، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد بن سعود ولا من ابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه. فلما فتح الله الرياض... واتسعت ناحية الإسلام، وأمنت السبل، وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفوّض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ منها، ولزم العبادة وتعليم العلم، ولكنّ عبد العزيز لم يكن يقطع أمرا دونه، ولا ينفذّه إلا بإذنه". ويفهم من هذا النص أن الشيخ ابن عبد الوهاب كان هو الحاكم الفعلي للدولة.
ويبدو أن هذا الأمر كان مشتهرا ومستقرا في أذهان الناس، "حتى قال الرحالة نيبوهر في كتابه (صفة جزيرة العرب): إن رئيس البلاد النجدية هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (عن تاريخ البلاد العربية السعودية: الدولة السعودية الأولى، الجزء الثانيص35)، ولذلك "سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين [ت1282هـ]، إذا قال بعض الجهال: إن من شرط الإمام أن يكون قرشيا، ولم يقل عارضيا، يشير إلى أنه قد ادّعاها من ليس من أهلها، يعني محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ومن قام معه وبعده بما دعا إليه...؟ فأجاب: إذا قال بعض الجهال ذلك، فقل له: ولم يقل: تركيا، فإذا زال هذا الأمر عن قريش، فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أولى به من الترك، لأنهم أفضل من الترك، ولهذا ليس التركي كفوا للعربية، ولو تزوج تركي عربية كان لمن لم يرض من الأولياء فسخ هذا النكاح، وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغيا على قريش، ومحمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما ادّعى إمامة الأمة، وإنما هو عالم ودعا إلى الهدى، وقاتل عليه ولم يلقّب في حياته بالإمام، ولا عبد العزيز بن محمد بن سعود، ما كان أحد في حياته منهم يسمى إماما، وإنما حدث تسمية من تولى إماما بعد موتهما. وأيضا: فالألقاب أمرها سهل، وهذا كل من صار وليا [واليا] في صنعا يسمّى إماما، وصاحب مسكة يلقب كذلك...". (نقلا عن الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ج9 ص8-9).
نقف وقفة قصير مع هذا الجواب لنقول:
1. لا ندري لماذا وصف السائل بلفظ "بعض الجهال" مع أنه سأل سؤالا شرعيا وجيها يتعلق بشرط الإمامة؟
2. لا ندري كيف يكون العربي أفضل من التركي مع أنّ الله عز وجلّ قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}، وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله rفي وسط أيام التشريق فقال: «يا أيها النّاس، ألا إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» (رواه أحمد في المسند).
3. يقول الشيخ: "وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغيا على قريش"، فمن هذا التركي الذي يعظمه الناس؟ إنه الخليفة العثماني، فلماذا لا يذكر الشيخ لقبه؟ وما هاته التي أخذوها بغيا؟ إنّها "الخلافة"، فلماذا لا يذكرها الشيخ؟
4. يقول الشيخ: "وإنما حدث تسمية من تولى إماما بعد موتهما"، ونحن نسأل: تولى ماذا يا شيخ حتى لقّب بالإمام؟ هل تولى شركة أو مشيخة أو إمارة أو خلافة أو سلطنة؟ لا شكّ أنه تولى الحكم فلقّب بالإمام. ثمّ إذا كان اللاحق الذي تولى الحكم قد لقّب بالإمام، فمن البديهي أن يلقّب السابق بالإمام؛ لأنه مصدر الإمامة وأصلها ومؤسسها وإن لم يلقّب في حياته بالإمام كما يقول الشيخ.
5. يقول الشيخ: " فالألقاب أمرها سهل"، وهذا غير صحيح؛ لأنّه لا يتلقب بلقب الإمام (وهو لقب شرعي يدل على الرئاسة الدينية والسياسية) إلا من يزعم أنه مستحقّ للإمامة، وإلاّ لما تلقب بها. ولو كان أمر الألقاب سهلا لجاز أن يتسمى كل إنسان بالإمام، وهو ما لا يقوله أحد من الناس.
6. يقول الشيخ: "ولم يلقّب في حياته بالإمام، ولا عبد العزيز بن محمد بن سعود، ما كان أحد في حياته منهم يسمى إماما"، وهذا غير صحيح كما سنبينه. والظاهر أنّ الشيخ يتهرّب من الحقيقة خشية أن يوصف ابن عبد الوهاب بالخروج عن الخلافة العثمانية.
ونعود إلى أصل المسألة: قال ابن غنّام - مؤرخ الدولة الوهابية/السعودية- (في تاريخ نجد، ص129): "وفي ربيع الأول أيضا من هذه السنة [1179هـ] اختار الله الأمير محمد بن سعود إلى جواره وكان قد ولّى بعده ابنه عبد العزيز إماما للمسلمين، فبايعه الناس على ذلك: خاصهم وعامهم، حضرهم وبدوهم، دانيهم وقاصيهم. وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو رأس ذلك النظام المحكم لعقده. فأسقط الأمير عبد العزيز جميع المظالم والمغارم، وارتفع عمود الحقّ، وأقبلت الدنيا على رعيته، وسارت بفتوحه الركبان، وطارت قلوب أهل الضلال فزعا". وقال (ص170) "وفي هذه السنة [1202هـ] أمر الشيخ العلامة محي السنة الإمام محمد بن عبد الوهاب المسلمين أن يبايعوا سعودا على الإمارة بعد أبيه، فنهض إليه الناس كافة، وبايعه أهل التوحيد والإيمان جميعا، وتعاقدوا على التزام الطاعة...". وهذا يبيّن لنا بوضوح واقع النظام في الدولة الأولى؛ فالحاكم الذي يعرف بإمام المسلمين هو من آل سعود، ويسمى عندهم بالأمير، وعنه يتوارث الحكم بولاية العهد، وأمّا الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الذي سماه ابن غنام بالإمام) فقد كانت له الإمامة الدينية مع تفويض بالحكم من الأمير محمد بن سعود. والظاهر أنّ محمد بن سعود فوّض إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب الحكم في أمور كثيرة نظرا لمكانة الشيخ وامتلاكه لرؤية شرعية تتعلّق بالدولة ونظامها وأجهزتها وإدارتها، ولكن بعد وفاة الشيخ أخذت الأمور مجراها الطبيعي وأصبح الأمر كلّه بيد آل سعود مع حفظ مكانة آل الشيخ وإمامتهم الدينية. قال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية: الدولة السعودية الأولى، الجزء الثانيص13): "كان الشيخ حسين وإخوانه أبناء الشيخ أعظم الوزراء – أو المستشارين – عند عبد العزيز، وكان على رأيهم المعوّل في الأمور الدينية...".
ظهرت الدعوة الوهابية في منطقة نجد وتمكنت من تأسيس إمارة سنة 1157ه/1744م، ومع ذلك لم يبلغ إلى مسامع الخلافة العثمانية خبر هذه الدعوة رسميا إلا سنة 1162هـ/1749م عن طريق واليها في مكة الشريف مسعود. قال الأستاذ إسماعيل حقي جارشلي (في أشراف مكة المكرمة وأمرائها في العهد العثماني، ترجمة خليل علي مراد، ص179): "أرسل الشريف مسعود [أمير مكة] عريضة إلى الحكومة في 1162هـ/1749م أشار فيها إلى وجود شخص من أهالي العيينة، وهي إحدى قرى نجد، يدعى محمد بن عبد الوهاب يصدر اجتهادات. وقد ردت الحكومة على عريضة الشريف بكتاب جوابي في سنة 1163ه طلبت منه إقناع هذا الشخص. وأمرت والي ولاية حبش ومتصرف جدة وشيخ الحرم المكي عثمان باشا بأن يعمل بنشاط مع أمير مكة المكرمة بهذا الخصوص".
وهذا نص الجواب والأمر السلطاني من الخليفة العثماني محمود الأول (تولى من سنة1143ه إلى سنة 1168ه): "أمر إلى أمير مكة المكرمة حاليا الشريف مسعود دام سعده. لقد ظهر شخص سيء المذهب (bed mezheb) في العيينة وهي إحدى قرى نجد في جهة الشرق وقام بإصدار اجتهادات باطلة ومخالفة للمذاهب الأربعة ونشر الضلالة والترغيب بها. وبناء على إعلامكم إيانا واقتراحكم السابق فإن عليكم المبادرة إلى زجر وتهديد المفسد المذكور وأتباعه بمقتضى الشرع المطهر وإمالتهم إلى طريق الصواب، أما إذا أصروا على معلنتهم فإن عليكم إقامة وتنفيذ الحدود الإلهية الواجبة شرعا. وقد أصدرت إليكم يا شريف مكة المشار إليه أمري هذا خطابا. ولما كنتم قد أبلغتم الدولة العلية في كتبكم الواردة إلى دار السعادة (اسطنبول) بحاجتكم إلى الإمدادات والمعونات بسبب تمكن الملحد من كسب سكان تلك المناطق إلى جانبه بكل الحيل بحيث لم يعد ممكنا التقرب من تلك الأطراف فإن التقاعس بخصوص هذا الشخص المذكور (محمد بن عبد الوهاب) سيؤدي إلى ظهور حاجة إلى قوات أكثر عددا لمحاربة الشخص المذكور. لقد صدر أمر السلطاني بخصوص سيركم ضد الشخص المذكور واستئصاله. وأن إيذاءهم بسيف الشريعة وتطهير الأراضي المقدسة (منهم) يعتبر عقوبة (سياست) لهم وواجبا يفرضه الدين. ولأجل تسديد مصاريف رواتب ومؤن العساكر الذين ستقومون بتسجيلهم لهذه المهمة فقد أنعمت عليكم بمبلغ 25 كيس رومي من الأقجات من إرسالية مصر لسنة 1163 هـ... (أرشيف رئاسة الوزراء – وثائق الداخلية تصنيف جودت – الرقم 6716 أواسط شوال 1164ه)". (عن هامش أشراف مكة المكرمة، ص179-180).
طلب الخليفة من أمير مكة أن يعمل على إقناع الشيخ ابن عبد الوهاب وأتباعه، وهذا يعني أنه طلب منه مناقشتهم لبيان خطأ دعوتهم، فإن أصروا على رأيهم وأبوا الرجوع إلى الحقّ فإنّ عليه محاربتهم دون تقاعس؛ لأنّ التقاعس "سيؤدي إلى ظهور حاجة إلى قوات أكثر عددا لمحاربة الشخص المذكور".
توفي الشريف مسعود بن سعيد ربيع الآخر 1165ه/شباط 1752م ولم ينفذ ما طلبه الخليفة منه. وبعد موته اضطرب حال الإمارة في مكة وشهدت البلاد انتفاضات وحروب بين الأشراف من أجل المنصب. وأما الدولة الوهابية /السعودية فقد استغلت الظرف السياسي جيدا وأخذت في التوسع، "وفي سلسلة من الانتصارات العسكرية نشر عبد العزيز الأول ابن محمد بن سعود الدعوة الإصلاحية في كل الجزيرة العربية وخارجها؛ في سوريا والعراق وحتى في آسيا الوسطى خارج العالم العربي. وبفضل القبائل البدوية المحاربة في أواسط الجزيرة تغلغلت الوهابية جنوبا حتى في عمان، وغربا في الحجاز، وشمالا في العراق، وشرقا في الإحساء. وأكمل سعود خلف عبد العزيز انتصارات أبائه وأجداده إذ ضم الأماكن المقدسة، مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى الإمبراطورية السعودية الوهابية. وهكذا لاقت دعوة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية التي حملتها أسلحة آل سعود إتباعا أكثر. وفي فجر القرن التاسع عشر، امتدّت الإمبراطورية السعودية من البحر الأحمر حتى الخليج العربي، ومن عمان حتى بلاد ما بين النهرين". (نقلا عن: جزيرة العرب، لجان جاك بيربي، ص48-49).
وقد حاولت الدولة العثمانية مرات عديدة إيقاف توسع الدولة الوهابية/السعودية، إلا أنها لم تنجح:
1. حاولت عن طريق ولاية العراق: في حملة أولى "قام بها ثويني بن عبد الله رئيس قبائل المنتفق على القصيم عام 1201ه/1786م ومعه جموع غفيرة من المنتفق وأهل المجرة والزبير وبوادي شمّر وغالبية طي"، ولكن فشلت حملته. وحاولت في حملة ثانية قام بها ثويني نفسه بتجهيز من والي بغداد سليمان باشا، ولكنه قتل ففشلت حملته الثانية. "ولما رأى العثمانيون عدم نجاح هذا الأسلوب قرروا اتخاذ إستراتيجية جديدة تعتمد فيها الدولة على الجيش النظامي"، فجهّزوا حملة علي كيخيا التي "ضمت الجند المدرب والعشائر والأكراد وقبائل الخزاعل الشيعية"، ولكنها فشلت فشل الأولى والثانية. "وقد أدى هذا الأمر إلى اقتناع السلطات العثمانية في استنبول بأن العراق العثماني لا يصلح بحال من الأحوال أن يقود الحركة الهجومية العثمانية ضد السلفيين". (ينظر: محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، لعبد الفتاح أبو علية، ص47- 54).
2. حاولت عن طريق أمراء مكة ومنهم الشريف غالب الذي عزلته الحكومة العثمانية فيما بعد لتقاعسه في حرب الخوارج كما يفهم من نص خطاب السلطان محمود الثاني (تولى من سنة 1223ه إلى سنة 1255ه) إلى والي مكة الجديد الشريف يحي بن سرور، وقد جاء فيه قوله: "أصبح معلوما لدى جنابنا السلطاني بأن سلفكم أمير مكة السابق الشريف غالب بن مساعد قد سلك مسلكا يخالف مقتضيات الإمارة إضافة إلى طمعه وتقاعسه وبصورة خاصة عدم وقوفه بحزم ضد الخارجين (الوهابيين)...". (نقلا عن أشراف مكة المكرمة، ص199).
3. حاولت عن طريق مسقط/عمان ولكن الإنجليز أفسدوا مخططها. قال ألويس موسيل (في كتاب: آل سعود: دراسة في تاريخ الدولة السعودية، ترجمة د. سعيد بن فايز السعيد، ص80-81): "رحل في الخريف السيد سلطان [بن أحمد البوسعيدي] إمام مسقط من عمان إلى البصرة كي يبرم حلفا مع الحكومة التركية ضد خصمه سعود بن عبد العزيز. لقد تمت المحادثات بينه وبين مبعوث حاكم بغداد في قرية الجابدة، واعترف بتبعيته للحكومة العثمانية التي وعدته مقابل ذلك بتقديم المساعدات الفعالة في هذا الشأن. وعن طريق هذا الاتفاق اتسع النفوذ التركي ليشمل جميع ممتلكات إمام مسقط الواقعة في شبه الجزيرة العربية وفي بلاد فارس وفي شرق أفريقيا، وهذا التوسع العثماني في المنطقة كان بالتأكيد لا يتفق مع مصالح بريطانيا التي كانت في ذلك الوقت ترعى مصالحها في الخليج العربي بكل همة، لذلك يجب على إمام مسقط أن ينتهي، وهذا ما تم فعلا، فخلال رحلة إيابه إلى مسقط تعرضت السفينة المقلة له لقراصنة البحر فقتلوه [1804م]. وبعد رحيله تمت المصالحة بين خليفته بدر والإمام سعود بن عبد العزيز".
"بعد فشل ولاية العراق في مقاومة السلفيين والقضاء على دولتهم، وبعد أن جربت الدولة موقف أشراف الحجاز وعملهم المضاد ضد الدولة السعودية، حيث لم يعط النتائج المطلوبة، وبعد أن جربت رد الفعل الشامي تجاه السلفيين؛ بعد هذه المحاولات جميعها، قررت الدولة العثمانية أن تكلف واليها في مصر للقيام بمهمة القضاء على الدولة السعودية". (عن محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، لعبد الفتاح أبو علية، ص65). وبعد حملات متعددة استطاع والي مصر محمد علي أن يخرج الوهابية من مكة والمدينة، ثم تمكن ابنه إبراهيم باشا (سنة 1233ه/1818م) من افتكاك الدرعية معقل الوهابية وانتهت الحملة بتسليم عبد الله بن سعود لنفسه. وهكذا انتهت الدولة الوهابية/السعودية الأولى.
والخلاصة:كانت الدولة العثمانية تنظر إلى الوهابية كخوارج، ويظهر هذا بوضوح في رسالة وجهها والي الشام سليمان باشا سنة 1222ه إلى سعود بن عبد العزيز، ومما جاء فيها قوله: "من سليمان والي أقاليم الشام من طرف الدولة العثمانية أيّدها الله إلى يوم القيامة وثبتها على عقيدة أهل السنة والجماعة، إلى سعود بن عبد العزيز... أنتم أعراب سكان البادية، فئة نجدية، فئة مسيلمة الكذاب، اعتقاداتكم محدثة وبدعة، قوم جهلة بقواعد أئمة الدين أهل السنة والجماعة، أنتم طائفة باغية، خوارج عن اعتقاد أهل السنة والجماعة السلطانية، فإن كانت شهوتكم في إعانة الإسلام بالمقاتلة والمعاندة، فقاتلوا أعداء الدين الكفرة الفجرة، لا الملة الإسلامية، ولا افتتانها، قال عليه الصلاة والسلام: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه". وكيف تخاطبون أهل الإسلام مخاطبة الكفار، وتقاتلون قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ قال عليه الصلاة والسلام: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها"، وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (سورة فاطر، الآية: 8)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من قال إن الناس هلكوا فهو أهلكهم" كما في الحديث … فأي حالة أسوأ وأضل وأعظم ظلماً من قتال المسلمين، واستباحة أموالهم وأعراضهم، وعقر قراهم من نواحي الشام، التي هي خيرة الله في أرضه، وتكفير المسلمين، وأهل القبلة والتجري على ذلك، وعلى مخاطبة المسلمين بما خوطب به الكفار؟، فلم يُسمع ذلك من أئمة الدين إلا من الفرق الضالة. وكيف تدَّعون العلم وأنتم جاهلون، بل أنتم خوارج، في قلوبكم زيغ تبغون الفتنة، وتريدون الملك بالحيلة، وقد خلت أمثالكم زائلة، والأمور بأوقاتها مرهونة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، واحتسبنا بالله وتوكلنا على الله، ويكفيكم عبرة قصة الشيخ النجدي، ونسبتكم إليه، ومسكنكم واديه، وتكفينا شامنا، وعزة ربه، فإن كان لكم فهم ورشد وهدى، يكفيكم هذا القدر من الكلام مختصراً، فارجعوا إلى أوطانكم كما كنتم، وكفُّوا شركم من قريب وبعيد، فلا بأس عليكم، وإلا فنغمد سيوفنا فيكم، واحتسبنا بالله عليكم، قال تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (سورة الحجرات، الآية: 9). وجزاء الذين يسعون فيالأرض فساداً أن يقتلوا في شريعة الله، والسلام على من اتبع الهدى وترك الفتنة والأذى". (نقلا عن: موسوعة مقاتل من الصحراء www.moqatel.com).
موقف العلماء من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
قال ابن غنّام (في تاريخ نجد، ص84): "وانقسم الناس فيه [أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب] فريقين: فريق تابعه وبايعه وعاهده على ما دعا إليه، وفريق عاداه وحاربه وأنكر ذلك عليه، وهم الأكثر". ويفهم من هذا أن كثيرا من العلماء رفضوا دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب، "وصنّفوا – كما في تاريخ نجد ص85 – المصنّفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع والسنة، وجهله وغوايته".
"ويذكر الدكتور عبد الله العثيمين عددا - تقريبا - لأولئك الخصوم في نجد آنذاك، وتنوع مواقفهم فيقول: (واضح من رسائل الشيخ (الشخصية) أن دعوته لقيت معارضة شديدة من قبل بعض علماء نجد، فالمتتبع لها يلاحظ أن أكثر من عشرين عالما أو طالب علم وقفوا ضدها في وقت من الأوقات، ويأتي في مقدمة هؤلاء المعارضين عبد الله المويس من حرمة، وسليمان بن سحيم من الرياض، ويستفاد من هذه الرسائل أن معارضي الشيخ من النجديين كانوا مختلفي المواقف، فمنهم من عارضه واستمر في معارضته مثل المويس، ومنهم من كان يعترف في بداية الأمر بأن ما جاء به الشيخ أو بعضه حق، لكنه غيّر موقفه مع مرور الزمن مثل ابن سحيم، ومنهم – أيضاً – من كان متأرجحاً في تأييده ومعارضته مثل عبد الله بن عيسى)...". (نقلا عن دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف، ص32).
ويمكن لنا أن نقسم موقف العلماء من الدعوة الوهابية إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
- قسم أول: وافق الشيخ في دعوته، وبعبارة ابن غنّام "تابعه وبايعه وعاهده على ما دعا إليه"، وهم أقلية.
- قسم ثاني: خالف الشيخ وردّ دعوته وأنكر عليه، وعدّه وجماعته من الخوارج، وهم أغلب العلماء.
ومنهم العلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين الحنفي (1198-1252ه) الذي قال (في حاشيته ردّ المحتار على الدر المختار، ج6 ص413): "مطلب في أتباع عبد الوهّاب الخوارج في زماننا: قوله: (ويكفرون أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم) علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه، وإلا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم، حتى كسر الله تعالى شوكتهم وخرّب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف...".
ومنهم العلامة أحمد بن محمد الصاوي المالكي (1175- 1241ه) الذي قال (في حاشيته على تفسير الجلالين، سورة فاطر ج3 ص255): "... وقيل هذه الآية نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم كما هو مشاهد الآن في نظائرهم وهم فرقة بأرض الحجاز يقال لهم الوهابية {يحسبون أنهم على شيء ألا إنّهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون} نسأل الله الكريم أن يقطع دابرهم...".
قسم ثالث: ويشمل بعض العلماء الذين مدحوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية ورأوا فيها بصيص أمل لمعالجة الركود الفكري المخيم على المسلمين بعامة، إلا أنّهم تراجعوا عن موقفهم ووجهوا انتقادات للدعوة الوهابية، ومنهم الأمير الصنعاني والشوكاني.
أما العلامة محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الشهير بالأمير الصنعاني (ت1182ه) فقد قال: "لما طارت الأخبار بظهور عالم في نجد، يقال له محمد بن عبد الوهاب، ووصل إلينا بعض تلاميذه، وأخبرنا عن حقائق أحواله، وتشميره في التقوى، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اشتاقت النفس إلى مكاتبته بهذه الأبيات سنة 1163ه وأرسلناها من مكة المشرفة وهي:
سلام على نجد ومن حلّ في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي
إلى آخر القصيدة التي مدح فيها الشيخ محمد رحمه الله ودعوته. ثم قال الأمير بعد ذلك: لما بلغت هذه الأبيات نجد، وصل إلينا بعد أعوام من أهل نجد عالم يسمى مربد بن أحمد التميمي، وكان وصوله في شهر صفر سنة 1170هـ ، وأقام لدينا ثمانية أشهر، وحصل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه، وفارقنا في عشرين شوال سنة 1170هـ راجعا إلى وطنه ووصل من طريق الحجاز مع الحجاج.وكان قد تقدمه في الوصول إلينا الشيخ عبد الرحمن النجدي، ووصف لنا من حال محمد بن عبد الوهاب أشياء أنكرناها فبقينا مترددين فيما نقله الشيخ عبد الرحمن النجدي، حتى وصل إلينا الشيخ مربد، وله نباهة وأوصل بعض رسائل ابن عبد الوهاب، وحقق لنا أحواله، وكانت أبياتنا قد طارت كل مطار... ولما أخذ علينا الشيخ مربد تأكدنا من ذلك، ورأينا أنه يتعين علينا نقض ما قدمناه وحل ما أبرمناه، فكتبت أبياتا وشرحها وهي:
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي ... فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
وقد جاءنا من أرضه الشيخ مربد ... فحقق من أحواله كل ما يبدي
إلى آخر القصيدة. اهـ. ملخصا من ديوان الصنعاني المطبوع". (نقلا عن: علماء نجد، لمحمد بن صالح البسام، ج6 ص417-418 ).
وقد ألّف الشيخ سليمان بن سحمان كتابا (عنوانه: تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والبين) يكذّب فيه القصيدة المنسوبة إلى الأمير الصنعاني التي تدلّ على تراجعه. قال (ص3): "فلما تأملتها علمت يقينا أنها موضوعة مكذوبة على الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني... وقد بلغني أن الذي وضع هذا النظم وشرحه رجل من ولد ولده...". ولكن، قال البسام (في علماء نجد، ج6 ص418): "كثير من أصحاب القلوب السليمة ينفون صحة الرجوع عن الشيخ الصنعاني، وينسبون تزوير الرجوع والقصيدة الناقضة إلى ابنه، ولكنني تحققت من عدد من الثقات، ومنهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس القضاء بأن رجوع الأمير الصنعاني حقيقة، وأن القصيدة الناقضة له وليست لابنه. وقد قرأت في هذه السنة 1399ه بعض كتب الصنعاني، ومنها حاشيته على شرح ابن دقيق العيد، فترجح عندي رجوعه عن معتقده في الشيخ محمد رحمه الله، كما أرجح صدور القصيدة الناقضة منه...".
وأما العلامة محمد بن علي الشوكاني (ت1250ه) فقد كتب قصيدة ينتقد فيها أعمال سعود بن عبد العزيز ويردّ فيها على بعض أفكار الوهابية. قال (كما في ديوانه: أسلاك الجوهر، ص161- 164):
إلَى الدِّرْعِيَّةِ الْغَرَّاء تَسْري... فَتُخْبِرُها بِمَا فَعْلَ الْجُنُودُ
وتَصَرُخُ في رُبا نَجْدٍ جِهاراً... فَيَسْمَعُها إذا صَرَخَتْ سُعودُ
وأَبنا مُقْرنٍ وهُمُ لُيوثٌ... إذَا الْحَرْبُ الْعَوانُ لَها وَقُودُ
ويسألُ كلُّ ذي فهم وعلم ... سؤالا عند معضلة تؤودُ
ثمّ قال:
وما قالوا بتكفيرٍ لقومٍ... لهم بدعٌ على الإسلام سودٌ
كما كان الخوارج في ابتداعٍ... يشيبُ لها من الإسلام قودُ
وَمَا قالُوا بأنَّ الرَّفَضَ كُفْرٌ... وبِدْعَتَهُ تُشَقُّ لَها الْجُلودُ
فكَيْفَ يُقالُ قَدْ كَفَرَتْ أُناسٌ... يُرَى لِقُبُورِهِمْ حَجَرٌ وعُودُ
فإنْ قَالُوا أَتَى أَمْرٌ صحيحٌ... بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ فَلاَ جُحُودُ
ولكنْ ذاكَ ذَنْبٌ لَيْسَ كُفراً... ولا فسْقاً فَهَلْ في ذَا رُدودُ
وإلا كان من يَعصي بذنبٍ... كفوراً إنَّ ذا قول شَرودُ
وقدْ ذَهَبَ الخوارِجُ نَحْوَ هَذا... وما مِثلُ الخوارِجِ من يَقُود
وَقَدْ خَرَقُوا بِذَا الإجماعِ حَقّاً... وكُلُّ العالَمينَ بهِ شُهُودُ
فإنْ قُلْتُمْ قَدِ اعْتَقَدوا قُبُوراً... فلَيْسَ لِذا بأرْضِينا وُجودُ
ومَنْ يأتي إلى عَبْد حَقيرٍ... فَيَزعُمُ أَنَّهُ الرَّبُّ الوَدُودُ
فَهَذا الكُفْرُ لَيسَ بِهِ خَفَاءٌ... وَلاَ رَدٌّ لِذاكَ ولا جُحودُ
ولَسْتُ بِمُنْكِرٍ هَدْماً لِقَبْرٍ... إذَا لَعِبَتْ بِجَانِبِه القُرودُ
وقَالُوا إنَّ رَبَّ القَبْرِ يَقْضي... لَنَا حَاجاً فَتأتِيهِ الوُفودُ
كَذَبْتُمْ ذاكَ رَبُّ العَرْشِ حَقّاً... تَعالى أَنْ تَكُونَ لَهُ نُدودُ
وَمَنْ يَقْصِدْ إلى قَبْرٍ لأَمْرٍ... بِغَيْرِ تَوَسُّلٍ فَهُوَ الكَنُودُ
ويَبْقَى الأَمْرُ فيمَنْ قَالَ جَهْلاً... مَقالاً مَالَهُ فيهِ قُصُودُ
ولَوْ قُلْنَا لَهُ هَلْ ذاكَ رَبٌّ... تُنادِيه لَظَلَّ بِذَا يَمودُ
وقَالَ الرَّبُّ رَبُّ العَرْشِ فَرْدٌ... وهَذَا عِنْدَهُ عَبْدٌ وَدُودُ
ولَيْسَ لَهُ مِنَ الأَشْياءِ شَيْءٌ... فَقِيرٌ لا يُنيلُ ولا يَجُودُ
ولكِنْ كانَ ذَا عَمَلٍ وعِلْمٍ... وما عِنْدِي لِذا أَبَداً وُجُودُ
فَرُمْتُ تَوَسُّلاً يَوْماً بعَبْدٍ... إلى رَبٍّ يَحِقُّ لَهُ السُّجُودُ
أفيدونا وإلاّ فاستفيدوا... وعودوا نحونا فيمن يعودُ
وختم قصيدته بقوله:
فَيا أَهْلَ الجَزيرَةِ مِنْ مَعَدٍّ... وقَحْطانٍ إلى الْمَعْهودِ عُودوا
وَقَدْ آنَ الوِفاقُ فَلا تَكُونوا... عَلَى الإسْلامِ فاقِرَةً تَؤودُ
وذُودُوا مَنْ أتَى مِنْكُمْ بِنُكْرٍ... فَخَيْرُ الْمُسْلِمينَ فَتىً يَذُودُ
وذَا نُصْحٌ صَحيحٌ منْ نَصيحٍ... فساعِدْني عَلَيْهِ يا سعودُ
موقف العلماء من الوهابية بين الغلو والإنصاف:
ذكرنا أنّ أغلب العلماء عارضوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والحقيقة أنّ منهم من تعصّب ضده إلى درجة الافتراء عليه فنسب إليه زورا وبهتانا ما لم يقله، ومنهم من عارضه وأنكر عليه وانتقد الدعوة الوهابية ولكن باعتدال وإنصاف. ومن هؤلاء:
العلامة إبراهيم فصيح الحيدري البغدادي (ت1299ه) الذي قال (في عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد، ص209-211): "فخلف محمد بن سعود بن مقرن عبد العزيز، وهو الذي قاد الجيوش لنصرة الطريقة الوهابية، وبلغت سراياه وعماله أقصى بلاد نجد، وزالت به الحروب التي كانت تقع بين قبائل نجد، وحصل الأمن والأمان في البادية والحضر، وكانت الإبل والخيام والأنعام ترعى في الصحارى وتلد وليس عندها سوى رجل واحد، ولا يستطيع أحد من قبائل العرب أن يأخذ منها شيئا. ثم خلف عبد العزيز سعودا وهو أيضا قاد الجيوش على الخيل العتاق والركائب النجب، وأذعنت له صناديد العرب وذلت له رؤساؤهم، إلا أنه أخطأ خطأ عظيما في منع الناس عن الحج وفي الخروج على السلطان، وأنهم غالوا في تكفير من خالفهم ولو كان من أهل السنة والجماعة، وشددوا في بعض الأحكام التي لم يرد الشرع بتشديدها، وحملوا أكثر الأمور على ظاهرها، وكذا غالت الناس في القدح عليهم... وأما ما ينسب إليهم من اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم كالجماد في قبره والعياذ بالله، فحسب ظني بقوة إسلامهم أنه لا أصل له بل مفترى عليهم... ثم خلف سعود بن عبد العزيز عبد الله... وعبد الله المشار إليه وإن كان قد علم كأسلافه القبائل أحكام الدين وأمرهم بقيام الجماعات في الأوقات الخمسة بحيث لا يتخلف أحد منهم في بلاد نجد عنها إلى عصرنا هذا إلا أنه قد أخطأ في تجاسره على بلاد السلطان الذي هو إمام العصر وخادم الحرمين الشريفين، ولو اكتفى بنجد وما يليه من عمان وجزيرة البحرين وغيرهما لاستقام أمره وفاز بتعليمه أحكام الدين للقبائل...". وقال (ص234) عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وبالجملة أنه كان من العلماء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان يعلم الناس أحكام الصلاة وسائر أركان الدين ويأمر الجماعات، وقد سعى غاية السعي في تعليم الناس وحثهم على الطاعة، وأمرهم بتعليم أصول الإسلام وشرائطه... ومعرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته وأول ما دعا إليه من كلمة التوحيد وسائر العبادات التي لا تنبغي إلا لله تعالى كالدعاء والذبح والنذر والخوف والرجاء والخشية والرغبة والتوكل والإنابة وغير ذلك... وانتفع الناس به من هذه الجهة الحميدة. إلا أنه بالغ في بعض الأمور وحمل الناس على اعتقاد عدم الشرك فيما خالفه، وحثهم على قتال المخالفين له وأحل أموالهم، وجعل قتالهم جهادا في سبيل الله تعالى، وصار سببا لإظهار هذه البدع الواهية والفتن العظيمة...".
ومن العلماء الذين تكلموا عن الوهابية بإنصاف العلامة محمد بيرم الخامس التونسي (ت1307ه) الذي قال (في صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار، ج1 ص36-37): "وملخص الكلام أن هاته الفرقة [الوهابية] تجاوزت المقصد الصحيح في الدين الذي ينبغي التيقظ إليه وإن كانت تدّعيه، كما أنّ بعض الرادين عليها تجاوزوا حدّ ما ينبغي وخرجوا أعمالها كلها عن حدود الشرع بل كادوا أن ينسبوها للكفر، وقد ألفت تآليف كثيرة في الردّ على مذهبهم من علماء مصر وتونس وغيرهم لما استفحل أمر هاته القبيلة واستولت على الحرمين الشريفين... والأحقّ أن لا يعتبروا مملكة مستقلة وإنما يعتبرون كأنهم قبائل في أطراف الممالك العثمانية غير خاضعين إليها ولو أنها أحسنت التصرف بالدين والسياسة فإنها بإرادة الله تضمهم إلى ممالكها وتنظم أمرهم على أحسن ترتيب فينصلح حالهم وتقوى بهم الدولة الإسلامية... فكما امتدت الدولة العلية بالولاية على اليمن شيئا فشيئا إلى العهد القريب كذلك إن شاء الله تجمع كلمة الإسلام هناك على خليفة واحد...". قال الشيخ هذا الكلام سنة 1297ه أيام الدولة السعودية الثانية.
علاقة آل سعود ببريطانيا: الدولة الأولى
http://azeytouna.net/index.php/2012-09-24-14-14-53/item/5186-6
قال الدكتور عبد الفتاح أبو علية (في محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ص124-127): "وقد زاد اقتناع بريطانيا بضرورة اتخاذ موقف أكثر ملاينة تجاه الدولة السعودية الأولى عندما شعرت بأن مصالحها الإستراتيجية في الكويت وجنوب العراق أصبحت معرضة للتأثير السعودي وضغطه، وبخاصة بعد وصول الحملات السعودية إلى تلك المناطق، وبعد نقل المراكز التجارية البريطانية التابعة لشركة الهند الشرقية من البصرة إلى الكويت.لقد جامل رجال شركة الهند الشرقية البريطانية المسئولين السعوديين حين قدموا إليهم الهدايا وتقربوا منهم حفاظا على سلامة سير بريد الشركة الصحراوي المار في المناطق الشمالية الشرقية من حدود الدولة السعودية الأولى.وقد زاد من الاهتمام البريطاني في عملية التقرب من الدولة السعودية ما حدث بينهم وبين الدولة العثمانية من خلافات بخاصة مع المسئولين العثمانيين في البصرة. أرسلت بريطانيا رينود (Reinaud)، أحد مساعدي الوكيل البريطاني ماينستيعام 1214هـ/1799م، إلى الدرعية كرئيس للبعثة البريطانية الرسمية إلى العاصمة السعودية لإجراء محادثات مع المسئولين السعوديين حول إيجاد نوع من العلاقات الودية وحسن المعاملة بين الدولتين بعدما انتاب هذه العلاقات جو من الخلافات كان مرده يعود إلى اشتراك عدد من حراس الوكالة البريطانية في الكويت مع القوات الكويتية في رد هجوم سعودي ضد الكويت... رحل رينود منالكويت إلي الدرعية مارا بالقطيف والهفوف. وقد استقبل في الدرعية استقبالا حسنا من قبل السعوديين. وأجرى رينود محادثات مستفيضة مع الإمام عبد العزيز بن محمد وأعضاء حكومته، تركزت في جلها على تأمين سلامة بريد الشركة الذي يمر من البصرة إلى حلب عبر الطريق الصحراوي الذي تقطنه قبائل سعودية... ونلاحظ أن بريطانيا كانت تفضل أن تكون علاقتها بالدولة السعودية في فترة الربيع الأول من القرن الثالث عشر الهجري\السنوات الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي، علاقة ود وسلام، بالرغم من أنها تساعد خفية وأحيانا بشكل علني القوى المحلية الخليجية المعادية للدولة السعودية الأولى...".
وقالت الدكتورة مديحة أحمد درويش (في تاريخ الدولة السعودية، ص63): "... وقد أنهت العلاقات بين فيصل وانجلترا سنة (1865م – 1271هـ) بالتعاون على أن يكبح فيصل جماح القبائل التي تقوم بالسلب في منطقة الخليج، وذلك تنفيذا لما كان قد وعد به أجداده بخصوص سلامة التجار والمسافرين في البحر لمدة مائة عام".
وقال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية: الدولة السعودية الأولى، الجزء الثاني، ص24): "وكان يظن أن سعود الكبير كان أول حاكم سعودي يستقبل أوربيا، ولكن المستشرق سيتزن (Seetzen) نشر عام 1805م بحثا في مجلة (Monatliche correspondentz) – المراسلة الشهرية – التي كان يصدرها البارون فون زاك (Von Sack) باللغة الألمانية، أثبت فيه أن الأمير عبد العزيز بن محمد سبق ابنه سعود إلى الاجتماع بسياسي غربي في الدرعية، وهذا السياسي الغربي هو الضابط البحري "رينو". ويقول "رينتس" في دائرة المعارف الإسلامية: إن رينو هولاندي الأصل يتكلم اللغة العربية، وقد أرسله "صموئيل مانيستي" مندوب الشركة البريطانية للهند الشرقية في البصرة إلى الدرعية لمفاوضة عبد العزيز...".
وقال (في تاريخ البلاد العربية السعودية: الإمام تركي بن عبد الله، الجزء الخامس، ص199-201): "جاء في منتخبات حكومة بونباي أن رسالة وصلت إلى حاكم بونباي بتاريخ منتصف سنة 1831م، من الإمام تركي بواسطة شيخ عجمان، وفيها يعرب تركي عن رغبته في تجديد المعاهدة التي كانت عقدت بين الإمام سعود وبين البريطانيين... وفي دليل الخليج الفارسي أن المقيم البريطاني في الخليج، بناء على أمر حكومة الهند التي درست رسالة الإمام تركي المقدمة إليها بواسطة حاكم عجمان رشيد بن حميد، بعث رسالة جوابية إلى الإمام تركي، جاء فيها: (إن رسالتكم المؤرخة في 25 جمادى الأولى، والتي تبلغنا عن الوقائع التي انتهت إلى توليكم الرئاسة قد وصلت إلينا وأحدثت في نفوسنا الأثر الجميل الذي تحدثه أخبار تصل من الأصدقاء. إن استعدادكم لتفاهم ودي بيننا نقابله بمثل شعور الصداقة التي كانت قائمة بين هذه الحكومة وبين سلفكم الإمام سعود، وستبقى قائمة بكل قوتها ولن تتصدع أبدا أو تضعف...)".
وقال السير هارفرد جونز بريدجز (في موجز لتاريخ الوهابي، ص81-82): "عندما كان السيد لاتوش (Latouche) يشغل منصب المقيم في البصرة [من سنة 1778م إلى 1784م] كان يرسل من وقت لآخر هدايا صغيرة إلى ابن سعود [عبد العزيز]، وكان ابن سعود يعبر عن امتنانه عند استلامه لها، وقد واصلت أنا والسيد مانستي (Manesty) هذه العادةولذلك نادرا ما كانت تعترض إرسالياتنا. وحتى عندما يتم احتجاز حاملي البريد من وقت لآخر فإن الإرساليات كانت تصل إلينا دائما في نهاية الأمر دون أن تفض أختامها. وهكذا تم الحفاظ منذ ذلك الوقت على تفاهم جيد بين طائفة الوهابية والوكالة. وقد علمت فيما بعد ولأسباب جيدة أن ابن سعود كان تواقا إلى استمرار هذا الوضع...".
وقال جون. ب. كيلي (في بريطانيا والخليج، ج1 ص128-129): "... كان نابليون قد توصل إلى اتفاقه المشهور مع القيصر الاسكندر الأول الذي وقع في تلسيت... وكانت معاهدة السلم في تلسيت [1807م] هي أسوأ نكسة سياسية تعرضت لها بريطانيا خلال الحرب... وذلك لأن أي محاولة بريطانية لإبعاد الفرنسيين عن فارس قد أفلتت إلى الأبد بعد تحالف فرنسا مع روسيا. وكان لا بدّ من تحقيق هدف أكثر صعوبة ألا وهو الحيلولة دون قيام حلف ثلاثي بين فرنسا وروسيا وفارس يستهدف الهند، وكان يتعين على جونز أن يثير مع الشاه كل حساسياته ضد روسيا وأن يوضح له بأن الصداقة الفرنسية الروسية الجديدة سوف تعرض فارس لخطر أشد... ولما كانت الحرب في ذلك الوقت قد نشبت بين انجلترا والإمبراطورية العثمانية فقد كان يتعين على جونز أن يجس باشا بغداد حول استعداده لعقد حلف مع بريطانيا مقابل التعهد له بمساعدته ضد أي هجوم ... أما إذا لم يظهر الشاه استعداده لعقد مثل هذا التحالف فلا بد من استخدام الضغط عليه بإثارة القبائل ضده داخل البلاد، كذلك إذا رفض باشا بغداد التعاون فيمكن لجونز الاتصال بأمير الوهابيين سعود بن عبد العزيز الذي كان في ذلك الوقت سيد الموقف في شبه الجزيرة العربية للحصول على تعاون منه ضد أي هجوم تقوم به فرنسا عن طريق البحر الأبيض المتوسط... كذلك تضمنت الخطة إثارة القبائل الجنوبية ضد الشاه كما تضمنت أيضا توجيه تحذير إلى حكومة الشاه بأن العلاقات سوف تتدهور حتى ولو لم يقع الهجوم، وتحذير آخر عن نية بريطانيا في تحريض الوهابيين الذين كانوا على عداء مع الأتراك والفرس على السواء".
وقال (ج1 ص206-207): "... ومن ناحية أخرى فإن قيام حكومة فارس لمد سعيد بقوات عسكرية قد حملت عبد العزيز إلى إيفاد مبعوث خاص إلى شيراز في بداية عام 1811 للاحتجاج على تقديم العون إلى مسقط وكان الأمير سعود في ذلك الوقت قلقا من إشاعات كانت تنطلق من مصر بأن محمد علي باشا يعد العدة لشن حرب عليه في الحجاز، وبالتالي فقد كان يريد أن يتأكد من الأمير الفارسي لن يستغل تلك الفرصة لشن حرب عليه من الجانب الشرقي لشبه الجزيرة العربية... وقد نجحت زيارة المبعوث الوهابي إلى شيراز إذ حصل على التعهدات المطلوبة من الأمير [الشيعي الرافضي]، وفي طريق عودة المبعوث إبراهيم عبد الكريم توقف في بوشهر وذلك للاجتماع بالمقيم البريطاني هناك وللاستفسار عما إذا كان هناك نية في إرسال حملة عسكرية بريطانية في الخليج، وقد أبلغ المبعوث المقيم بأن سعود قد فوضه في إبرام معاهدة تجارية مع البريطانيين، وذلك وفق الصيغة الواردة في كتاب الأمير إلى هنكي سميث في العام السابق، وقد أحيل الطلب إلى الحكومة في الهند فرئي رفضه وتجنب أي علاقة رسمية مع الوهابيين ولكن قبل أن يتم إبلاغه بهذا القرار قد اقتنع بأنه ليس هناك ما يدعوه إلى التخوف من البريطانيين في المستقبل القريب".
وقال (ج1 ص215-218): "... وفي هذه الأثناء [سنة 1814م] تلقت حكومة بومباي طلب الأمير السعودي [سعود بن عبد العزيز] للوصول إلى اتفاق مع الحكومة البريطانية وأحيل الطلب إلى كلكتا حيث قرر الحاكم العام وهو الأول أوف مويرا الذي لم يوافق على إبرام أي اتفاقات رسمية مع الحاكم الوهابي لكنه اقترح على سلطات حكومة بومباي بالاحتفاظ بالعلاقات الودية مع الحاكم الوهابي والسعي بمختلف الوسائل للإعراب عن تقديرها لمواقف الأمير الوهابي الودية تجاه الحكومة البريطانية... في أول مايو 1814 توفي الأمير سعود وخلفه نجله عبد الله... وقد أعلن عبد الله بن سعود بعد توليه السلطة بأنه سوف ينهج منهج والده بالنسبة للخليج، وعلى إثر تسلم حسن بن رحمة تحذير المقيم البريطاني في شهر مايو من سنة 1814 وكان قد خلف حسين بن علي كحاكم لرأس الخيمة بوقف نشاطه على حدود الهند وقد استدعاه الأمير عبد الله إلى الدرعية وحذره من استفزاز البريطانيين، غير أن عبد الله أبلغ المقيم البريطاني في رسالة بعث بها إليه في شهر أكتوبر سنة 1814 بأن هجمات القواسم على السفن غبر البريطانية سوف تستمر وقد ذكر له في تلك الرسالة بأننا نرجو أن تشعروننا من هم رعاياكم وما هي العلامة المميزة لهم لأن سفن المسلمين تجوب البحار باستمرار... والذي يمكن أن تستنتجه من ذلك هو أن حكومة بومباي قد اشترت سلامة مصالحها باعترافها الضمني بحق القواسم في العبث والنهب والسلب بسفن الدول الأخرى. ويؤيد هذا الرأي ما أوضحه الأمير عبد الله في عام 1815 عندما قام رحمة بن جابر... بالاعتداء على إحدى السفن التركية وكانت تحمل تصريحا من المقيم البريطاني في البصرة. وقد كتب عبد الله بعد ذلك إلى بروس في بوشهر يحتج بمنتهى القوة على إصدار تصريح لسفن غير بريطانية، وقال في احتجاجه: (أما هؤلاء الكلاب الأتراك فإنهم خصومي وهم يسعون إلى بذر بذور الشقاق فيما بيننا، أما الذين يمتون إليكم بصلة فإننا لن نسمح لرعايانا بالاعتداء عليهم بأي شكل من الأشكال...)".
وقال لوريمر (في دليل الخليج، ج3 ص1634-1635): "... ففي منتصف سنة 1831 تقريبا تلقى حاكم بومباي رسالة من أمير الوهابيين [تركي] عن طريق شيخ عجمان جاء فيها رغبته في (تجديد المعاهدة التي عقدت بينكم، الحكومة البريطانية، وبين الأمير سعود)...".
وقال (ج3 ص1648): "وجه خالد في أوائل حكمه [1840م] خطابا إلى مساعد المقيم البريطاني في البحرين يشير فيه إلى رغبته القوية في أن تجدد (علاقات الود والصداقة التي كانت قائمة بين أبيه سعود والحكومة البريطانية)...".
وقال (ج3 ص1669-1670): "وفي نوفمبر سنة 1865... وصل إلى السلطات البريطانية في بوشهر خطاب كان ردا مرسلا من الأمير فيصل... وأشار إلى اتفاقية مع الحكومة البريطانية عقدت لأول مرة في عهد المرحوم الأمير سعود، وصدق عليها مرة أخرى في عهد هذا الحاكم...".
وقال أحمد بن حازم المصري (في تجلية الراية، ص18-29): "صارت الدولة السعودية الأولى في آخر أيامها نظاما عشائريا انتهازيا جل همه إطالة أمد الأسرة الحاكمة وارتبطت باتفاقية تعاون غامضة مع الانكليز الذين بدءوا يوجدون نواة قوة عسكرية استعمارية في الخليج في هذا الوقت وكان الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد ثالث حكامها الذي قيل أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب زكى وراثته للحكم قبل موته أرسل يهادن ملك الفرس الروافض في شيراز والبريطانيين في بوشهر ويبدي استعداده لإجابة طلباتهم متزلفا إليهم ليساعدوه عندما شرعت الدولة العثمانية في قتاله... مرت العلاقات بين الإمارة السعودية الأولى وبريطانيا بعدة مراحل؛ أولها مرحلة وصول قوات عبد العزيز بن محمد لسواحل الخليج وقيامه بغارات مسرحية على الكويت مقر الوكالة البريطانية وانسحابه بعد غارات يقتل فيها عشرون رجل وثلاثون رجل وتسرق فيها بعض الأغنام كما حدث في غزوة ابن عفيصان (١٧٩٣) و غزوة مناع أبو رجلين (١٧٩٧) وما تبع ذلك من تصدي حراس الوكالة البريطانية للغزاة الذين انسحبوا بسلاسة. تبع ذلك بسنة تقريبا زيارة الضابط رينود مبعوث صمويل مانيستي مسئول الوكالة البريطانية بالخليج للدرعية سنة ١٢١٤ ه/ ١٧٩٩م... قام رينود بحمل هدايا لعبد العزيز بن محمد الذي استقبله استقبالا حسنا وأبرما اتفاقات شفهية وغيرها لم يعثر لها على أثر إلا أن الحملات السعودية على الكويت توقفت لخمس سنوات بالتمام... ويبدو أن التعايش السلمي بين البحرية البريطانية والإمارة السعودية لفت انتباه العثمانيين فحاول سليمان باشا والي الشام العثماني أن ينصح سعودا ويتحداه وأرسل إليه رسالة صدرها باسمه كوال تابع للدولة العثمانية "أيدها الله إلى يوم القيامة وثبتها على عقيدة أهل السنة والجماعة" قال فيها: "فان كان شهواتكم في إعانة الإسلام بالمقاتلة والمعاندة فقاتلوا أعداء الدين الكفرة الفجرة لا الملة الإسلامية". "إلا أن سعودا رد عليه بقوله إن المسلم الذي يعادي الإسلام و ينابذ أهله لا يصير مسلما ولا من آهل الجماعة"... كانت بريطانيا قد بدأت قبل ذلك اللقاء بأكثر من خمس عشرة سنة في إرسال هدايا لا يعرف كنهها ولو أنها بالتأكيد تضمنت أسلحة أثناء تولي وليم لاتوش مقيمية البصرة قبل سقوط الرياض وسقوط إمارة بني خالد بالأحساء وقبل موت الشيخ محمد عبد الوهاب، الذي لابد أنه علم بها، بعشر سنوات، وهي هدايا وصفها السير هارفورد بريدجز مساعد المقيم التالي بأنها "كانت صغيرة ولكن سعود (يقصد عبد العزيز) كان يعبر عن رضاه لتلقيها"... بين تلك الأحداث تظهر في الوثائق البريطانية إشارات لطيفة لحقيقة العلاقة بين الطرفين، ففي مايو١٨٠٧ كتب مانيستي مدير الوكالة البريطانية بالبصرة لرؤسائه أن "عبد الرحمن وكيل الشيخ الوهابي سعود بن عبد العزيز في القرين (الكويت) سلمني رسالة قال فيها إن سيده يرغب في تمتين أواصر الصداقة معي وأن يتعرف على أسباب خلافي مع الحكومة العثمانية ملمحا على ما يبدو إلى تلهف الأمير سعود للانضمام إلى أي خطة هجومية حربية ضد باشا بغداد". وكان باشا بغداد قد أمر مدير الوكالة في تلك الفترة بالرحيل عن الأراضي العراقية لما كان من خلاف بين الدولة العثمانية وبريطانيا بسبب حملة فريزر على مصر وتعديات بريطانية أخرى على الأراضي العثمانية منها المعاهدات التي أبرمها الضابط ديفيد سيتون المقيم بعمان مع شيوخ عشائر ساحل عمان (الامارات العربية المتحدة حاليا). ويورد جيمس موريير عضو بعثة شركة الهند الشرقية البريطانية لدى شاه إيران نص رسالة مترجمة أرسلها سعود بن عبد العزيز إلى البعثة البريطانية عقب حملتها على رأس الخيمة في ١٨٠٩ وتحطيمها لأسطول القواسم قال فيها ما مفاده إن "سبب العداوة بيننا وبين قومنا أنهم اعرضوا عن كتاب ربهم و سنة نبيهم، ونحن لم نعاد أي ملة أخرى ولا تدخلنا في أعمالها وغزواتها ولم نساعدها ضد أعدائها . مع أننا بحول الله وقوته على أعدائنا ظاهرين ..و لذا فاني أطمئنكم أننا لا نقترب من سواحلكم ومنعت أهل ديننا وسفنهم من التعرض لسفنكم. ومن يريد من تجاركم أن يمر بسواحلنا أو يأتي لموانئنا يكون في أمان ونطلب المثل لمن أتاكم من عندنا. و لا يفرحنكم إحراق بعض السفن فلا قيمة لهم عندي ولا عند أصحابها و لا أهل تلك البلاد، و الحق أن الحرب مرة والأحمق هو من يندفع إليها كما قال الشاعر." وكما كان سعود و أبوه من قبله حريصين على رضا بريطانيا كانت بريطانيا حريصة على رضاهم ولو على حساب حلفائها القدامى ففي مراسلة بتاريخ يوليو ١٨٠٩ تجازف بريطانيا بإغضاب حليفها شاه فارس وبني كعب وروافض العراق وترفض تسليم شحنة أسلحة لروافض النجف ليدافعوا بها عن أنفسهم ضد غارات السعوديين وتبرر المراسلة ذلك الخذلان بعدم استفزاز "الوهابيين الذين كنا نهدف إلى البقاء دوما معهم على أفضل صلة." كما رفضت مساندة حليفها سلطان مسقط بعدما تعرض للهزيمة على يد جيش سعودي. أما المرحلة التالية فتعبر عنها الأحداث والمراسلات التي وقعت في عهد سعود بن عبد العزيز بعد مضي عامين على دخول الجيش المصري إلى الجزيرة واستيلاءه على الحجاز ومداخل نجد و قبل أسبوعين من وصول محمد علي باشا إلى الحجاز ليفتتح المرحلة الثانية من الحرب. فقد أرسل سعود مبعوثا في صيف ١٨١٣ اسمه إبراهيم بن عبد الكريم إلى فارس بغرض إبرام الصلح ومعاهدات الصداقة مع شاه الروافض وإزالة أسباب غضب الشاه بخصوص الغارات السعودية على المراقد الرافضية بالعراق. و فيما ذكر المبعوث النجدي للضابط البريطاني أن الزيارة كانت تهدف لإثناء شاه الروافض عن القيام بالحملة عسكرية التي توعد بالقيام بها ضد الإمارة السعودية انتقاما لتدمير المراقد فان الضابط البريطاني تشكك في صحة ذلك التبرير بالنظر إلى أن الحكومة الفارسية كانت لا تسيطر على سواحل الخليج وليس باستطاعتها القيام بأي حملة ناجحة على ساحل الخليج الغربي فضلا عن التوغل في بيداء نجد. استقبل الشاه مبعوث سعود استقبالا حسنا وحمله بالهدايا لسيده. وفيما كانت البعثة تسعى ظاهرا لشراء حياد فارس وضمان مرور الإمدادات عبر فارس والخليج مقابل التعهد بعدم التعدي على الروافض في الجزيرة والعراق وربما السكوت عن ضم فارس لبعض المناطق التي تطمع فيها في الخليج مثل البحرين إلا أن الهدف الأهم كان لقاء الضابط السياسي البريطاني في بوشهر. ثم قام المبعوث أثناء زيارته لفارس بلقاء الضابط البريطاني بروس مدير الوكالة البريطانية ببوشهر على ساحل الخليج الفارسي ونقل اليه " تمنيات أميره سعود بالدخول في روابط مودة وصداقة متبادلة مع الحكومة البريطانية بما ينفع الطرفين. ويقول المبعوث انه بالنظر ليقين سيده التام بمدى قوة البريطانيين في البحر التي لا تقف أمامها أي قوة أخرى فانه يأمل في معاهدة تفتح بمقتضاها موانئ الدولتين وتقوم تجارة حرة لا يقيدها قيد بين رعايا الدولتين". وافقت بريطانيا مع اشتراطها أن تتضمن المعاهدة ليس فقط مظاهر السلام السلبي من عدم اعتداء وحرية ملاحة فقط بل وتتعداها إلى قيام سعود بحماية السفن البريطانية التجارية المسلحة والحربية التي ترسو لأي سبب طارئ أو للتمون بالماء والوقود والحطب على شواطئ الخليج الغربية وأن يتعهد بمنع رعاياه من التعدي على السفن البريطانية المسلحة المارة في مياه الخليج و بالتالي يفسح لها المجال لتؤدي مهامها التجسسية بدون عوائق. ويبدو أن التنازلات التي كان سعود مستعدا لتقديمها كانت كبيرة لان بروس أرسل يقترح على رئيسه حاكم بومباي البريطاني أن يرسل سفنا وضباطا بريطانيين لمسح السواحل الغربية للخليج الخاضعة للإمارة السعودية لرؤية ما يمكن الاستفادة منها إلا أن حاكم بومباي بعد أن ثمن الفكرة اعتذر بعدم توافر السفن والإمكانات اللازمة في ذلك الوقت للقيام بمهمة المسح. وقد زكى الوكيل البريطاني الفكرة لرؤسائه بالقول إن "التعاون مع القوة الوهابية له فوائد أهمها السيطرة التامة على القرصنة العربية في المستقبل و تحويل هذا الأمة الهمجية المتوحشة (أهل نجد) من سراق وقطاع طرق إلى رعايا صالحين (لبريطانيا) فضلا عن فتح ساحل الخليج الغربي للانشطة التجارية". أما المرحلة الثالثة فيمكن الاستدلال على بعض خفاياها من خلال رسالة عبد الله بن سعود رابع و آخر حكام الإمارة السعودية الأولي لبروس مدير الوكالة البريطانية في بوشهر جنوب الخليج قبل سقوط الدرعية والقبض عليه بثلاث سنوات. ويقول بروس في مقدمة ترجمته للرسالة "مرفق طيه رسالة وصلتني من شيخ الوهابيين عبد الله بن سعود ورسالة منه لحليفه رحمة بن جابر الجلاهمة، وترون من رسالة شيخ الوهابيين أنه محدد للغاية فيما يخص قيامنا بحماية أي من قبائل تلك المنطقة أو إعطائها تصاريح سفر بريطانية واعتبر أن ضم أي قبائل غير المتفق عليها للحماية البريطانية يعتبر مخالفا للاتفاقية التي تربط بيننا"... ورغم أن التاريخ الإسلامي يحفل بالمعاهدات الشرعية بين المسلمين وغيرهم إلا أن معاهدات نهاية الإمارة السعودية الأولى كانت تحمل طابعا آخر وهو طابع إقرار قوة نصرانية مسلحة على ما اغتصبته من أراضي إسلامية والتجول داخل البحار الداخلية لديار الإسلام والسماح لها بالتنقل بين نقاط سيطرتها على سواحل الجزيرة بل وإنشاء نقاط جديدة في المناطق الخارجة عن حدود الإمارة السعودية الصغيرة كل ذلك مع تمتعها بالتمون من شواطئ الإمارة السعودية أثناء تنفيذها لخططها في ظل حماية آل سعود لها من أي هجمات عشائرية. لا تعلم مدة سريان المعاهدة ولكن السجلات السرية لحكومة الهند البريطانية تورد فحوى رسالة كتبها فيصل بن تركي بن عبد الله آل سعود تاسع حكام آل سعود للمقيم البريطاني في الخليج في يناير ١٨٥٤م يذكره فيها بوجود اتفاق بين أسلافه السعوديين (في الإمارة السعودية الأولى) وبين بريطانيا تعهدوا فيه بالمحافظة على السلام في الخليج (أمن سفن بريطانيا ومحمياتها في الخليج) لمدة مائة عام مقابل أن تترك لهم بريطانيا حكم الساحل المحصور بين عمان والكويت مع ما يتضمنه ذلك من عدم إعاقة وصول إمدادات السلاح و الذخيرة البريطانية والأوربية للإمارة السعودية تحت عنوان حرية التجارة. ولا ينقص من قيمة ذلك التعاون قيام القواسم في رأس الخيمة ببعض الغارات على السفن الهندية لأن القواسم كانوا تابعين اسميا فقط للإمارة السعودية التي لم تستطع أن تفرض عليهم حاكما من عندها بل إن حكام القواسم راسلوا بريطانيا سرا في ١٨١٤ قبل سقوط الدرعية بسنوات وعرضوا عليها التوقف عن القرصنة في الخليج لو حمتهم بريطانيا من سطوة آل سعود...".
http://azeytouna.net/index.php/2012-09-24-14-14-53/item/5186-6
قال الدكتور عبد الفتاح أبو علية (في محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ص124-127): "وقد زاد اقتناع بريطانيا بضرورة اتخاذ موقف أكثر ملاينة تجاه الدولة السعودية الأولى عندما شعرت بأن مصالحها الإستراتيجية في الكويت وجنوب العراق أصبحت معرضة للتأثير السعودي وضغطه، وبخاصة بعد وصول الحملات السعودية إلى تلك المناطق، وبعد نقل المراكز التجارية البريطانية التابعة لشركة الهند الشرقية من البصرة إلى الكويت.لقد جامل رجال شركة الهند الشرقية البريطانية المسئولين السعوديين حين قدموا إليهم الهدايا وتقربوا منهم حفاظا على سلامة سير بريد الشركة الصحراوي المار في المناطق الشمالية الشرقية من حدود الدولة السعودية الأولى.وقد زاد من الاهتمام البريطاني في عملية التقرب من الدولة السعودية ما حدث بينهم وبين الدولة العثمانية من خلافات بخاصة مع المسئولين العثمانيين في البصرة. أرسلت بريطانيا رينود (Reinaud)، أحد مساعدي الوكيل البريطاني ماينستيعام 1214هـ/1799م، إلى الدرعية كرئيس للبعثة البريطانية الرسمية إلى العاصمة السعودية لإجراء محادثات مع المسئولين السعوديين حول إيجاد نوع من العلاقات الودية وحسن المعاملة بين الدولتين بعدما انتاب هذه العلاقات جو من الخلافات كان مرده يعود إلى اشتراك عدد من حراس الوكالة البريطانية في الكويت مع القوات الكويتية في رد هجوم سعودي ضد الكويت... رحل رينود منالكويت إلي الدرعية مارا بالقطيف والهفوف. وقد استقبل في الدرعية استقبالا حسنا من قبل السعوديين. وأجرى رينود محادثات مستفيضة مع الإمام عبد العزيز بن محمد وأعضاء حكومته، تركزت في جلها على تأمين سلامة بريد الشركة الذي يمر من البصرة إلى حلب عبر الطريق الصحراوي الذي تقطنه قبائل سعودية... ونلاحظ أن بريطانيا كانت تفضل أن تكون علاقتها بالدولة السعودية في فترة الربيع الأول من القرن الثالث عشر الهجري\السنوات الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي، علاقة ود وسلام، بالرغم من أنها تساعد خفية وأحيانا بشكل علني القوى المحلية الخليجية المعادية للدولة السعودية الأولى...".
وقالت الدكتورة مديحة أحمد درويش (في تاريخ الدولة السعودية، ص63): "... وقد أنهت العلاقات بين فيصل وانجلترا سنة (1865م – 1271هـ) بالتعاون على أن يكبح فيصل جماح القبائل التي تقوم بالسلب في منطقة الخليج، وذلك تنفيذا لما كان قد وعد به أجداده بخصوص سلامة التجار والمسافرين في البحر لمدة مائة عام".
وقال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية: الدولة السعودية الأولى، الجزء الثاني، ص24): "وكان يظن أن سعود الكبير كان أول حاكم سعودي يستقبل أوربيا، ولكن المستشرق سيتزن (Seetzen) نشر عام 1805م بحثا في مجلة (Monatliche correspondentz) – المراسلة الشهرية – التي كان يصدرها البارون فون زاك (Von Sack) باللغة الألمانية، أثبت فيه أن الأمير عبد العزيز بن محمد سبق ابنه سعود إلى الاجتماع بسياسي غربي في الدرعية، وهذا السياسي الغربي هو الضابط البحري "رينو". ويقول "رينتس" في دائرة المعارف الإسلامية: إن رينو هولاندي الأصل يتكلم اللغة العربية، وقد أرسله "صموئيل مانيستي" مندوب الشركة البريطانية للهند الشرقية في البصرة إلى الدرعية لمفاوضة عبد العزيز...".
وقال (في تاريخ البلاد العربية السعودية: الإمام تركي بن عبد الله، الجزء الخامس، ص199-201): "جاء في منتخبات حكومة بونباي أن رسالة وصلت إلى حاكم بونباي بتاريخ منتصف سنة 1831م، من الإمام تركي بواسطة شيخ عجمان، وفيها يعرب تركي عن رغبته في تجديد المعاهدة التي كانت عقدت بين الإمام سعود وبين البريطانيين... وفي دليل الخليج الفارسي أن المقيم البريطاني في الخليج، بناء على أمر حكومة الهند التي درست رسالة الإمام تركي المقدمة إليها بواسطة حاكم عجمان رشيد بن حميد، بعث رسالة جوابية إلى الإمام تركي، جاء فيها: (إن رسالتكم المؤرخة في 25 جمادى الأولى، والتي تبلغنا عن الوقائع التي انتهت إلى توليكم الرئاسة قد وصلت إلينا وأحدثت في نفوسنا الأثر الجميل الذي تحدثه أخبار تصل من الأصدقاء. إن استعدادكم لتفاهم ودي بيننا نقابله بمثل شعور الصداقة التي كانت قائمة بين هذه الحكومة وبين سلفكم الإمام سعود، وستبقى قائمة بكل قوتها ولن تتصدع أبدا أو تضعف...)".
وقال السير هارفرد جونز بريدجز (في موجز لتاريخ الوهابي، ص81-82): "عندما كان السيد لاتوش (Latouche) يشغل منصب المقيم في البصرة [من سنة 1778م إلى 1784م] كان يرسل من وقت لآخر هدايا صغيرة إلى ابن سعود [عبد العزيز]، وكان ابن سعود يعبر عن امتنانه عند استلامه لها، وقد واصلت أنا والسيد مانستي (Manesty) هذه العادةولذلك نادرا ما كانت تعترض إرسالياتنا. وحتى عندما يتم احتجاز حاملي البريد من وقت لآخر فإن الإرساليات كانت تصل إلينا دائما في نهاية الأمر دون أن تفض أختامها. وهكذا تم الحفاظ منذ ذلك الوقت على تفاهم جيد بين طائفة الوهابية والوكالة. وقد علمت فيما بعد ولأسباب جيدة أن ابن سعود كان تواقا إلى استمرار هذا الوضع...".
وقال جون. ب. كيلي (في بريطانيا والخليج، ج1 ص128-129): "... كان نابليون قد توصل إلى اتفاقه المشهور مع القيصر الاسكندر الأول الذي وقع في تلسيت... وكانت معاهدة السلم في تلسيت [1807م] هي أسوأ نكسة سياسية تعرضت لها بريطانيا خلال الحرب... وذلك لأن أي محاولة بريطانية لإبعاد الفرنسيين عن فارس قد أفلتت إلى الأبد بعد تحالف فرنسا مع روسيا. وكان لا بدّ من تحقيق هدف أكثر صعوبة ألا وهو الحيلولة دون قيام حلف ثلاثي بين فرنسا وروسيا وفارس يستهدف الهند، وكان يتعين على جونز أن يثير مع الشاه كل حساسياته ضد روسيا وأن يوضح له بأن الصداقة الفرنسية الروسية الجديدة سوف تعرض فارس لخطر أشد... ولما كانت الحرب في ذلك الوقت قد نشبت بين انجلترا والإمبراطورية العثمانية فقد كان يتعين على جونز أن يجس باشا بغداد حول استعداده لعقد حلف مع بريطانيا مقابل التعهد له بمساعدته ضد أي هجوم ... أما إذا لم يظهر الشاه استعداده لعقد مثل هذا التحالف فلا بد من استخدام الضغط عليه بإثارة القبائل ضده داخل البلاد، كذلك إذا رفض باشا بغداد التعاون فيمكن لجونز الاتصال بأمير الوهابيين سعود بن عبد العزيز الذي كان في ذلك الوقت سيد الموقف في شبه الجزيرة العربية للحصول على تعاون منه ضد أي هجوم تقوم به فرنسا عن طريق البحر الأبيض المتوسط... كذلك تضمنت الخطة إثارة القبائل الجنوبية ضد الشاه كما تضمنت أيضا توجيه تحذير إلى حكومة الشاه بأن العلاقات سوف تتدهور حتى ولو لم يقع الهجوم، وتحذير آخر عن نية بريطانيا في تحريض الوهابيين الذين كانوا على عداء مع الأتراك والفرس على السواء".
وقال (ج1 ص206-207): "... ومن ناحية أخرى فإن قيام حكومة فارس لمد سعيد بقوات عسكرية قد حملت عبد العزيز إلى إيفاد مبعوث خاص إلى شيراز في بداية عام 1811 للاحتجاج على تقديم العون إلى مسقط وكان الأمير سعود في ذلك الوقت قلقا من إشاعات كانت تنطلق من مصر بأن محمد علي باشا يعد العدة لشن حرب عليه في الحجاز، وبالتالي فقد كان يريد أن يتأكد من الأمير الفارسي لن يستغل تلك الفرصة لشن حرب عليه من الجانب الشرقي لشبه الجزيرة العربية... وقد نجحت زيارة المبعوث الوهابي إلى شيراز إذ حصل على التعهدات المطلوبة من الأمير [الشيعي الرافضي]، وفي طريق عودة المبعوث إبراهيم عبد الكريم توقف في بوشهر وذلك للاجتماع بالمقيم البريطاني هناك وللاستفسار عما إذا كان هناك نية في إرسال حملة عسكرية بريطانية في الخليج، وقد أبلغ المبعوث المقيم بأن سعود قد فوضه في إبرام معاهدة تجارية مع البريطانيين، وذلك وفق الصيغة الواردة في كتاب الأمير إلى هنكي سميث في العام السابق، وقد أحيل الطلب إلى الحكومة في الهند فرئي رفضه وتجنب أي علاقة رسمية مع الوهابيين ولكن قبل أن يتم إبلاغه بهذا القرار قد اقتنع بأنه ليس هناك ما يدعوه إلى التخوف من البريطانيين في المستقبل القريب".
وقال (ج1 ص215-218): "... وفي هذه الأثناء [سنة 1814م] تلقت حكومة بومباي طلب الأمير السعودي [سعود بن عبد العزيز] للوصول إلى اتفاق مع الحكومة البريطانية وأحيل الطلب إلى كلكتا حيث قرر الحاكم العام وهو الأول أوف مويرا الذي لم يوافق على إبرام أي اتفاقات رسمية مع الحاكم الوهابي لكنه اقترح على سلطات حكومة بومباي بالاحتفاظ بالعلاقات الودية مع الحاكم الوهابي والسعي بمختلف الوسائل للإعراب عن تقديرها لمواقف الأمير الوهابي الودية تجاه الحكومة البريطانية... في أول مايو 1814 توفي الأمير سعود وخلفه نجله عبد الله... وقد أعلن عبد الله بن سعود بعد توليه السلطة بأنه سوف ينهج منهج والده بالنسبة للخليج، وعلى إثر تسلم حسن بن رحمة تحذير المقيم البريطاني في شهر مايو من سنة 1814 وكان قد خلف حسين بن علي كحاكم لرأس الخيمة بوقف نشاطه على حدود الهند وقد استدعاه الأمير عبد الله إلى الدرعية وحذره من استفزاز البريطانيين، غير أن عبد الله أبلغ المقيم البريطاني في رسالة بعث بها إليه في شهر أكتوبر سنة 1814 بأن هجمات القواسم على السفن غبر البريطانية سوف تستمر وقد ذكر له في تلك الرسالة بأننا نرجو أن تشعروننا من هم رعاياكم وما هي العلامة المميزة لهم لأن سفن المسلمين تجوب البحار باستمرار... والذي يمكن أن تستنتجه من ذلك هو أن حكومة بومباي قد اشترت سلامة مصالحها باعترافها الضمني بحق القواسم في العبث والنهب والسلب بسفن الدول الأخرى. ويؤيد هذا الرأي ما أوضحه الأمير عبد الله في عام 1815 عندما قام رحمة بن جابر... بالاعتداء على إحدى السفن التركية وكانت تحمل تصريحا من المقيم البريطاني في البصرة. وقد كتب عبد الله بعد ذلك إلى بروس في بوشهر يحتج بمنتهى القوة على إصدار تصريح لسفن غير بريطانية، وقال في احتجاجه: (أما هؤلاء الكلاب الأتراك فإنهم خصومي وهم يسعون إلى بذر بذور الشقاق فيما بيننا، أما الذين يمتون إليكم بصلة فإننا لن نسمح لرعايانا بالاعتداء عليهم بأي شكل من الأشكال...)".
وقال لوريمر (في دليل الخليج، ج3 ص1634-1635): "... ففي منتصف سنة 1831 تقريبا تلقى حاكم بومباي رسالة من أمير الوهابيين [تركي] عن طريق شيخ عجمان جاء فيها رغبته في (تجديد المعاهدة التي عقدت بينكم، الحكومة البريطانية، وبين الأمير سعود)...".
وقال (ج3 ص1648): "وجه خالد في أوائل حكمه [1840م] خطابا إلى مساعد المقيم البريطاني في البحرين يشير فيه إلى رغبته القوية في أن تجدد (علاقات الود والصداقة التي كانت قائمة بين أبيه سعود والحكومة البريطانية)...".
وقال (ج3 ص1669-1670): "وفي نوفمبر سنة 1865... وصل إلى السلطات البريطانية في بوشهر خطاب كان ردا مرسلا من الأمير فيصل... وأشار إلى اتفاقية مع الحكومة البريطانية عقدت لأول مرة في عهد المرحوم الأمير سعود، وصدق عليها مرة أخرى في عهد هذا الحاكم...".
وقال أحمد بن حازم المصري (في تجلية الراية، ص18-29): "صارت الدولة السعودية الأولى في آخر أيامها نظاما عشائريا انتهازيا جل همه إطالة أمد الأسرة الحاكمة وارتبطت باتفاقية تعاون غامضة مع الانكليز الذين بدءوا يوجدون نواة قوة عسكرية استعمارية في الخليج في هذا الوقت وكان الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد ثالث حكامها الذي قيل أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب زكى وراثته للحكم قبل موته أرسل يهادن ملك الفرس الروافض في شيراز والبريطانيين في بوشهر ويبدي استعداده لإجابة طلباتهم متزلفا إليهم ليساعدوه عندما شرعت الدولة العثمانية في قتاله... مرت العلاقات بين الإمارة السعودية الأولى وبريطانيا بعدة مراحل؛ أولها مرحلة وصول قوات عبد العزيز بن محمد لسواحل الخليج وقيامه بغارات مسرحية على الكويت مقر الوكالة البريطانية وانسحابه بعد غارات يقتل فيها عشرون رجل وثلاثون رجل وتسرق فيها بعض الأغنام كما حدث في غزوة ابن عفيصان (١٧٩٣) و غزوة مناع أبو رجلين (١٧٩٧) وما تبع ذلك من تصدي حراس الوكالة البريطانية للغزاة الذين انسحبوا بسلاسة. تبع ذلك بسنة تقريبا زيارة الضابط رينود مبعوث صمويل مانيستي مسئول الوكالة البريطانية بالخليج للدرعية سنة ١٢١٤ ه/ ١٧٩٩م... قام رينود بحمل هدايا لعبد العزيز بن محمد الذي استقبله استقبالا حسنا وأبرما اتفاقات شفهية وغيرها لم يعثر لها على أثر إلا أن الحملات السعودية على الكويت توقفت لخمس سنوات بالتمام... ويبدو أن التعايش السلمي بين البحرية البريطانية والإمارة السعودية لفت انتباه العثمانيين فحاول سليمان باشا والي الشام العثماني أن ينصح سعودا ويتحداه وأرسل إليه رسالة صدرها باسمه كوال تابع للدولة العثمانية "أيدها الله إلى يوم القيامة وثبتها على عقيدة أهل السنة والجماعة" قال فيها: "فان كان شهواتكم في إعانة الإسلام بالمقاتلة والمعاندة فقاتلوا أعداء الدين الكفرة الفجرة لا الملة الإسلامية". "إلا أن سعودا رد عليه بقوله إن المسلم الذي يعادي الإسلام و ينابذ أهله لا يصير مسلما ولا من آهل الجماعة"... كانت بريطانيا قد بدأت قبل ذلك اللقاء بأكثر من خمس عشرة سنة في إرسال هدايا لا يعرف كنهها ولو أنها بالتأكيد تضمنت أسلحة أثناء تولي وليم لاتوش مقيمية البصرة قبل سقوط الرياض وسقوط إمارة بني خالد بالأحساء وقبل موت الشيخ محمد عبد الوهاب، الذي لابد أنه علم بها، بعشر سنوات، وهي هدايا وصفها السير هارفورد بريدجز مساعد المقيم التالي بأنها "كانت صغيرة ولكن سعود (يقصد عبد العزيز) كان يعبر عن رضاه لتلقيها"... بين تلك الأحداث تظهر في الوثائق البريطانية إشارات لطيفة لحقيقة العلاقة بين الطرفين، ففي مايو١٨٠٧ كتب مانيستي مدير الوكالة البريطانية بالبصرة لرؤسائه أن "عبد الرحمن وكيل الشيخ الوهابي سعود بن عبد العزيز في القرين (الكويت) سلمني رسالة قال فيها إن سيده يرغب في تمتين أواصر الصداقة معي وأن يتعرف على أسباب خلافي مع الحكومة العثمانية ملمحا على ما يبدو إلى تلهف الأمير سعود للانضمام إلى أي خطة هجومية حربية ضد باشا بغداد". وكان باشا بغداد قد أمر مدير الوكالة في تلك الفترة بالرحيل عن الأراضي العراقية لما كان من خلاف بين الدولة العثمانية وبريطانيا بسبب حملة فريزر على مصر وتعديات بريطانية أخرى على الأراضي العثمانية منها المعاهدات التي أبرمها الضابط ديفيد سيتون المقيم بعمان مع شيوخ عشائر ساحل عمان (الامارات العربية المتحدة حاليا). ويورد جيمس موريير عضو بعثة شركة الهند الشرقية البريطانية لدى شاه إيران نص رسالة مترجمة أرسلها سعود بن عبد العزيز إلى البعثة البريطانية عقب حملتها على رأس الخيمة في ١٨٠٩ وتحطيمها لأسطول القواسم قال فيها ما مفاده إن "سبب العداوة بيننا وبين قومنا أنهم اعرضوا عن كتاب ربهم و سنة نبيهم، ونحن لم نعاد أي ملة أخرى ولا تدخلنا في أعمالها وغزواتها ولم نساعدها ضد أعدائها . مع أننا بحول الله وقوته على أعدائنا ظاهرين ..و لذا فاني أطمئنكم أننا لا نقترب من سواحلكم ومنعت أهل ديننا وسفنهم من التعرض لسفنكم. ومن يريد من تجاركم أن يمر بسواحلنا أو يأتي لموانئنا يكون في أمان ونطلب المثل لمن أتاكم من عندنا. و لا يفرحنكم إحراق بعض السفن فلا قيمة لهم عندي ولا عند أصحابها و لا أهل تلك البلاد، و الحق أن الحرب مرة والأحمق هو من يندفع إليها كما قال الشاعر." وكما كان سعود و أبوه من قبله حريصين على رضا بريطانيا كانت بريطانيا حريصة على رضاهم ولو على حساب حلفائها القدامى ففي مراسلة بتاريخ يوليو ١٨٠٩ تجازف بريطانيا بإغضاب حليفها شاه فارس وبني كعب وروافض العراق وترفض تسليم شحنة أسلحة لروافض النجف ليدافعوا بها عن أنفسهم ضد غارات السعوديين وتبرر المراسلة ذلك الخذلان بعدم استفزاز "الوهابيين الذين كنا نهدف إلى البقاء دوما معهم على أفضل صلة." كما رفضت مساندة حليفها سلطان مسقط بعدما تعرض للهزيمة على يد جيش سعودي. أما المرحلة التالية فتعبر عنها الأحداث والمراسلات التي وقعت في عهد سعود بن عبد العزيز بعد مضي عامين على دخول الجيش المصري إلى الجزيرة واستيلاءه على الحجاز ومداخل نجد و قبل أسبوعين من وصول محمد علي باشا إلى الحجاز ليفتتح المرحلة الثانية من الحرب. فقد أرسل سعود مبعوثا في صيف ١٨١٣ اسمه إبراهيم بن عبد الكريم إلى فارس بغرض إبرام الصلح ومعاهدات الصداقة مع شاه الروافض وإزالة أسباب غضب الشاه بخصوص الغارات السعودية على المراقد الرافضية بالعراق. و فيما ذكر المبعوث النجدي للضابط البريطاني أن الزيارة كانت تهدف لإثناء شاه الروافض عن القيام بالحملة عسكرية التي توعد بالقيام بها ضد الإمارة السعودية انتقاما لتدمير المراقد فان الضابط البريطاني تشكك في صحة ذلك التبرير بالنظر إلى أن الحكومة الفارسية كانت لا تسيطر على سواحل الخليج وليس باستطاعتها القيام بأي حملة ناجحة على ساحل الخليج الغربي فضلا عن التوغل في بيداء نجد. استقبل الشاه مبعوث سعود استقبالا حسنا وحمله بالهدايا لسيده. وفيما كانت البعثة تسعى ظاهرا لشراء حياد فارس وضمان مرور الإمدادات عبر فارس والخليج مقابل التعهد بعدم التعدي على الروافض في الجزيرة والعراق وربما السكوت عن ضم فارس لبعض المناطق التي تطمع فيها في الخليج مثل البحرين إلا أن الهدف الأهم كان لقاء الضابط السياسي البريطاني في بوشهر. ثم قام المبعوث أثناء زيارته لفارس بلقاء الضابط البريطاني بروس مدير الوكالة البريطانية ببوشهر على ساحل الخليج الفارسي ونقل اليه " تمنيات أميره سعود بالدخول في روابط مودة وصداقة متبادلة مع الحكومة البريطانية بما ينفع الطرفين. ويقول المبعوث انه بالنظر ليقين سيده التام بمدى قوة البريطانيين في البحر التي لا تقف أمامها أي قوة أخرى فانه يأمل في معاهدة تفتح بمقتضاها موانئ الدولتين وتقوم تجارة حرة لا يقيدها قيد بين رعايا الدولتين". وافقت بريطانيا مع اشتراطها أن تتضمن المعاهدة ليس فقط مظاهر السلام السلبي من عدم اعتداء وحرية ملاحة فقط بل وتتعداها إلى قيام سعود بحماية السفن البريطانية التجارية المسلحة والحربية التي ترسو لأي سبب طارئ أو للتمون بالماء والوقود والحطب على شواطئ الخليج الغربية وأن يتعهد بمنع رعاياه من التعدي على السفن البريطانية المسلحة المارة في مياه الخليج و بالتالي يفسح لها المجال لتؤدي مهامها التجسسية بدون عوائق. ويبدو أن التنازلات التي كان سعود مستعدا لتقديمها كانت كبيرة لان بروس أرسل يقترح على رئيسه حاكم بومباي البريطاني أن يرسل سفنا وضباطا بريطانيين لمسح السواحل الغربية للخليج الخاضعة للإمارة السعودية لرؤية ما يمكن الاستفادة منها إلا أن حاكم بومباي بعد أن ثمن الفكرة اعتذر بعدم توافر السفن والإمكانات اللازمة في ذلك الوقت للقيام بمهمة المسح. وقد زكى الوكيل البريطاني الفكرة لرؤسائه بالقول إن "التعاون مع القوة الوهابية له فوائد أهمها السيطرة التامة على القرصنة العربية في المستقبل و تحويل هذا الأمة الهمجية المتوحشة (أهل نجد) من سراق وقطاع طرق إلى رعايا صالحين (لبريطانيا) فضلا عن فتح ساحل الخليج الغربي للانشطة التجارية". أما المرحلة الثالثة فيمكن الاستدلال على بعض خفاياها من خلال رسالة عبد الله بن سعود رابع و آخر حكام الإمارة السعودية الأولي لبروس مدير الوكالة البريطانية في بوشهر جنوب الخليج قبل سقوط الدرعية والقبض عليه بثلاث سنوات. ويقول بروس في مقدمة ترجمته للرسالة "مرفق طيه رسالة وصلتني من شيخ الوهابيين عبد الله بن سعود ورسالة منه لحليفه رحمة بن جابر الجلاهمة، وترون من رسالة شيخ الوهابيين أنه محدد للغاية فيما يخص قيامنا بحماية أي من قبائل تلك المنطقة أو إعطائها تصاريح سفر بريطانية واعتبر أن ضم أي قبائل غير المتفق عليها للحماية البريطانية يعتبر مخالفا للاتفاقية التي تربط بيننا"... ورغم أن التاريخ الإسلامي يحفل بالمعاهدات الشرعية بين المسلمين وغيرهم إلا أن معاهدات نهاية الإمارة السعودية الأولى كانت تحمل طابعا آخر وهو طابع إقرار قوة نصرانية مسلحة على ما اغتصبته من أراضي إسلامية والتجول داخل البحار الداخلية لديار الإسلام والسماح لها بالتنقل بين نقاط سيطرتها على سواحل الجزيرة بل وإنشاء نقاط جديدة في المناطق الخارجة عن حدود الإمارة السعودية الصغيرة كل ذلك مع تمتعها بالتمون من شواطئ الإمارة السعودية أثناء تنفيذها لخططها في ظل حماية آل سعود لها من أي هجمات عشائرية. لا تعلم مدة سريان المعاهدة ولكن السجلات السرية لحكومة الهند البريطانية تورد فحوى رسالة كتبها فيصل بن تركي بن عبد الله آل سعود تاسع حكام آل سعود للمقيم البريطاني في الخليج في يناير ١٨٥٤م يذكره فيها بوجود اتفاق بين أسلافه السعوديين (في الإمارة السعودية الأولى) وبين بريطانيا تعهدوا فيه بالمحافظة على السلام في الخليج (أمن سفن بريطانيا ومحمياتها في الخليج) لمدة مائة عام مقابل أن تترك لهم بريطانيا حكم الساحل المحصور بين عمان والكويت مع ما يتضمنه ذلك من عدم إعاقة وصول إمدادات السلاح و الذخيرة البريطانية والأوربية للإمارة السعودية تحت عنوان حرية التجارة. ولا ينقص من قيمة ذلك التعاون قيام القواسم في رأس الخيمة ببعض الغارات على السفن الهندية لأن القواسم كانوا تابعين اسميا فقط للإمارة السعودية التي لم تستطع أن تفرض عليهم حاكما من عندها بل إن حكام القواسم راسلوا بريطانيا سرا في ١٨١٤ قبل سقوط الدرعية بسنوات وعرضوا عليها التوقف عن القرصنة في الخليج لو حمتهم بريطانيا من سطوة آل سعود...".
علاقة آل سعود ببريطانيا: الدولة الثانية
http://azeytouna.net/index.php/2012-09-24-14-14-53/item/5100-5
جاء في مجلة الواحة (العدد 14، مقال: الحملة العسكرية العثمانية لاحتلال الأحساء والقطيف): "منذ وفاة الأمير فيصل بن تركي، بدأ البريطانيون بالضغط العنيف على الساحل الأحسائي، من قاعدتهم بالبحرين "المستعمرة" وفي عام 1870 تطورت الأمور إلى حد أن حاصرت سفن البحرين القطيف بدفع وتشجيع من المعتمد البريطاني هناك، بل إن نشاط شيخ أبو ظبي يومئذٍ وصل القطيف أيضاً.. ويومها هدد عبد اللّه الفيصل باحتلال البحرين، فأمرت السلطات البريطانية الشيخ عيسى آل خليفة برفع الحصار، وهكذا كان.ولما كان الغرض، هو السيطرة على ساحل الأحساء، وإبعاد عبد الله الفيصل الذي بدأ ينسق مواقفه مع الأتراك، فقد وجد الإنجليز طريقاً أفضل.. ففي ذلك الحين كان النزاع محتدماً بين الأخوين، وقد وجد سعود الفيصل في شيخ البحرين والإنجليز أقوى مؤيد لمشروعاته.. حيث تغاضى بيلي - المقيم البريطاني في بوشهر- عن مساعدات شيخ البحرين المقدمة لسعود إذ كان من صميم قلبه يريد أن ينتصر سعود على عبد اللّه.. وكان بيلي يردد دائماً في مكاتباته مع حكومته، بأن سعوداً خير للإنجليز من أخيه. وجرت اتصالات عديدة بين سعود وشيخ البحرين، ترتب على أثرها انتقال الأول من البريمي "وقيل عمان" إلى البحرين ليتخذها قاعدة للانطلاق، وكان ذلك في سنة 1287هـ/ 1870، وهناك أكرم آل خليفة، والمعتمد البريطاني وفادته، ودعموه بشتى الإمكانات". (ينظر: http://www.alwahamag.com/?act=artc&id=1455).
وقال الدكتور محمد عرابي نخلة ( في تاريخ الأحساء السياسي، ص140): "لابد لنا أن نشير بوضوح إلى أن دور بريطانيا كان واضحا في مساعدة سعود ضد أخيه، وكانت بذلك تخالف سياستها المعهودة والتي تقضي بالمحافظة على الأمن في الخليج، وعدم الاعتداء من قبل أي طرف ضد الآخر، ولقد ثبت أن الانجليز كانوا يشجعونه على القيام بهذا العمل أو على الأقل لم يقفوا في طريقه في سبيل تحقيق أهدافه، فلقد أفاد أحد أتباع سعود إلى قنصل دولة الانجليز في بغداد بأن سعود كان يكرر دائما قوله: بأنه لن ينسى العطف الذي لقيه من قبل المسئولين البريطانيين أثناء إقامته في البحرين".
وقال الدكتور إسماعيل أحمد ياغي (في بحث: سياسة مدحت باشا والي العراق العثماني تجاه الخليج العربي، ضمن كتاب: الصلات التاريخية بين الخليج العربي والدولة العثمانية، ص20): "نفذت الدولة العثمانية من خلال واليها على العراق مدحت باشا خطتها لاحتلال الأحساء بمنتهى السرعة للأسباب التالية: 1. الخوف الشديد من التدخل البريطاني في المنطقة، وبخاصة بعد قيام بريطانيا بمد يد العون والمساعدة للأمير سعود عن طريق حاكمي مسقط والبحرين، ورأت الدولة العثمانية أن نجاح بريطانيا في مثل هذه المهمة، يعني تحكمها مستقبلا في مصير العراق العثماني...".
وقال الدكتور حاكم المطيري (في عبيد بلا أغلال، ص130-132): "لقد كان أول اختراق بريطاني للجزيرة العربية هو ذلك الدعم الذي لقيه سعود بن فيصل بن تركي آل سعود من حكومة الهند البريطانية ليستولي على الرياض، وقد واكب افتتاح قناة السويس - الذي زاد من أهمية البحرين وساحل عمان - صراع بين عبد الله بن فيصل بن تركي، وأخيه سعود بن فيصل على الحكم في الرياض، وبلغ الصراع ذروته سنة 1870م وقد (كان أكثر من صراع بين شخصين، كان صراعا بين عقليتين، سكان الحضر وأهل البادية، بين المتطرفين الوهابيين، وبين المعتدلين الذين يرفضون تعاليمها، وكان كل من الأخوين يمثل إحدى الفئتين) على حد قول جون كيلي. وهذا هو رأي كيلي إلا أن الحقيقة هو أن الصراع كان بسبب خروج سعود المدعوم بريطانيا، على أخيه عبد الله الذي كان قائمقاما عثمانيا. وقد كانت بريطانيا وراء هذه الفتنة بين عبد الله وسعود للسيطرة على نجد كما جاء في مذكرات والي بغداد مدحت باشا حيث قال: (كان عبد الله الفيصل معتدلا لم يعاكس الدولة العلية - الخلافة العثمانية - أما سعود فكان يسعى لاستلام الإمارة، ولذا فإنه توجه إلى الهند للاستعانة بالإنجليز، وألب العشائر وحثهم على شق عصا الطاعة في وجه أخيه، وبعد حروب طويلة انتصر عليه، وكان الإنجليز يعاونون الأمير سعود بالمال والعدة، وكانت البلاد القريبة من نجد قد دخلت تحت حمايتهم، وإذا حكم الأمير سعود النجديين أدخل البلاد تحت حماية انجلترا وصارت صاحبة الطول والحول في العراق). ولم يدرك علماء الوهابية في نجد آنذاك طبيعة الصراع الدائر بين الأخوين عبد الله وسعود، ولم يدركوا أبعاد تدخل الإنجليز لصالح سعود، ولهذا صدرت الفتاوى بتجريم عبد الله لأنه استعان بالدولة العثمانية، وحكم بعضهم بردته، وأوجبوا السمع والطاعة لأخيه سعود المدعوم بريطانيا! فقد جاء في فتوى عبد اللطيف آل الشيخ (وقد عرفتم حالنا في أول هذه الفتنة، وفيها الجزم بإمامة عبد الله ولزوم بيعته، والتصريح بأن راية أخيه راية جاهلية عمية، فلما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة - أي العثمانية - إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم الحسا والقطيف والخط، تبرأنا مما تبرأ الله منه ورسوله...وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة .. وقد نزل العدو - أي عبد الله وجيوش الدولة العثمانية التي جاءت لنصرته - بأطرافكم، واستخف الشيطان أكثر الناس وزين لهم الموالاة واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرئاسة لهم، وأنهم ولاة أمر يعزلون ويولون، وينصرون وينصبون...وقد أجمع المسلمون على جهاد عدوهم مع الإمام سعود). وهذا يرجح أن شيوخ الدعوة الوهابية الثانية في نجد لم يكن لديهم علم بأنه منذ قيام الإمارة السعودية الثانية كانت تابعة للخلافة العثمانية، بترتيب مصري مع تركي بن عبد الله، ثم ولده فيصل بن تركي، ثم عبد الله بن فيصل! كما لم يكن لديهم علم بأن سعود بن فيصل كان مدعوما من حكومة الهند البريطانية، ففي الوقت الذي وقفوا ضد عبد الله لأنه جاء بالترك، لم يعلموا بأن أخاه سعودا قد جاء بالإنجليز!".
والحقيقة، أن اختراق الإنجليز للجزيرة العربية كان قبل هذا، ولم يأت "سعود بن فيصل" (المجمع على ارتباطه بالإنجليز) بشيء جديد بل حافظ على تقليد ورثه عن أبائه. وإليك الدليل:
جاء في المعاهدة التي عقدها السير بيرسي كوكس (المقيم البريطاني في الخليج) مع عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود (بتاريخ 26/12/1915م) ما يلي: "يتعهّد ابن سعود، كما فعل آباؤه من قبله، أن يمتنع من أي اعتداء على، أو تدخل في، أراضي الكويت، والبحرين، ومشائخ قطر والساحل العماني، الذين هم تحت حماية الحكومة البريطانية والذين تربطهم معاهدات مع هذه الحكومة...". (ينظر: بعثة إلى نجد، لسانت جون فيلبي، ص257 والسعوديون والحل الإسلامي، لمحمد جلال كشك، ص378).
وجاء في رسالة من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود إلى اللفتنانت كرنل السر ب. كوكس بتاريخ 13 يونيو 1913م ما يلي: "نخاطب سيادتكم بالنظر إلى الصداقة القديمة بيننا وبينكم، وإلى المعاهدة الأسبق من ذلك التي تعود إلى عهد المغفور له جدي فيصل والتي انقضت من مدتها خمس وخمسون سنة ويبقى منها خمس وخمسون سنة. إنني أرغب في إقامة العلاقة ذاتها على النحو ذاته الذي كان عليه بينكم وبين أجدادي... وبالنظر إلى مشاعري الودية، أود أن تكون علاقتي بكم كتلك التي كانت بينكم وبين أجدادي، وأن تبقى هذه العلاقة بيني وبينكم من بعدهم...". (عن الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، لنجدة فتحي صفوة، ج1 ص183-184).
وجاء في تقرير سري أرسله الكابتن شكسبير (الجاسوس البريطاني صديق عبد العزيز) إلى اللفتنانت كرنل كوكس (بتاريخ 08 أبريل 1911م) ما يلي: "أتشرف بأن أعرض فيما يلي، لعلم الحكومة [البريطانية]، فحوى عدد من المحادثات الطويلة والشخصية بين عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، أمير نجد الوهابي، وبيني، خلال جولتي الأخيرة حين قضيت بضعة أيام في مخيمه... تحدث عبد العزيز كثيرا عن التاريخ القديم، وفيما يلي خلاصة للموضوع... بدأ كلامه بغزو إبراهيم باشا وقال إنه بعد طرد المصريين من نجد، أعاد تركي بن عبد الله احتلال المملكة الوهابية الأصلية، وفي ضمنها الأحساء والقطيف ومعظم ساحل عمان من قطر إلى جوا مسقط، فأزال بذلك كل معالم السلطة التركية، ثم عقد معاهدة مع الحكومة البريطانية... ونجحفيصل بعد بضع سنوات في الحصول على العفو فعاد إلى نجد وأعلن إماما على الفور. وقام أيضا بتجديد المعاهدة القديمة مع الحكومة البريطانية ومد حكمه على جميع الإقليم الذي كان تابعا لتركي بن عبد الله. أعاد بناء قلعة البربيمي في عمان، وبموافقة الحكومة البريطانية تسلم إتاوة من سلطان مسقط قدرها 15000 دولار سنويا... وكان في ذلك الوقت أن أبدت الحكومة البريطانية وثوق صلاتها بنجد بإرسال أحد ضباطها الكرنل لويس بيلي (Col. Lewis Pelly) إلى الرياض، فجدد المعاهدات القديمة وعهود الصداقة ولو أن ذلك لم يجر بوثيقة مكتوبة فعلا. وقد توفي فيصل بعد هذه الزيارة بوقت قصير وخلفه ابنه عبد الله. ومع أنه حافظ في بادئ الأمر على الصلات الودية السابقة مع الحكومة البريطانية فقد كان من الحمق بدرجة أنه فاتح الأتراك بعد أن تخاصم مع الإنجليز على البريمي ومسقط... عاد عبد العزيز مرارا إلى ذكر الرسائل التي أرسلها أبوه عبد الرحمن إلى المقيم في بوشهر في وقت تعيين معتمد سياسي في الكويت تقريبا، وأبدى أسفه لأننا لم نقابل مفاتحاته الودية بمودة الأزمنة السالفة. قال إنه شرح لي تأريخهم لتلك السنين ليثبت أن آل سعود كانوا دائما على صلات ودية مع الإنكليز وأنهم كرهوا الأتراك كرها عميقا في كل حين...". (ينظر: الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، ج1 ص155-161).
وقال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية: الإمام تركي بن عبد الله، ج5 ص200) مبينا سياسة الإنجليز في الخليج وموقفها من التوسع الوهابي إبان فترة تركي: "وقد اتخذ مجلس المديرين في الهند في نيسان 1834 قرارات جاء فيها: يظهر أنه من المحتمل أن الحروب التي كانت تحدث كثيرا بين الدول المتصالحة في الخليج قد يمكن تفاديها بعد خضوع هذه الدول إلى زعيم مشترك في شخص أمير الوهابيين الذي استعاد تقريبا كل الممتلكات التي كانت لأسلافه...".
وقال جون ب. كيلي (في بريطانيا والخليج، ج1 ص383): "وكان تركي [مؤسس الدولة الثانية] قد عقد العزم على أن لا يعيد أخطاء أسلافه من الأمراء، وكان كما أشار اللفتنانت هانيل المقيم البريطاني بالنيابة شخصا أكثر ثقافة من الأمراء السابقين، وأنه كان متقيدا في خطواته بمبادئ السياسة على العكس من الزعماء الوهابيين السابقين الذين كان حماسهم لنشر العقيدة الوهابية أكثر من حماسهم للحكم، ولكي يؤكد رفضه القاطع لمقترحات راشد بن حمد كلف شيخ عجمان في منتصف سنة 1831 بإبلاغ حكومة بومباي رسالة منه يعبر فيها عن رغبته في إقامة علاقات ودية مع الحكومة البريطانية، وقد ردت الحكومة البريطانية عليه برسالة تبادله فيها نفس الرغبة وأرسلتها إليه عن طريق المقيم البريطاني في الخليج".
وقال (ج1 ص672-673): "... غير أن حكومة بومباي وبعد إجراء مشاورات مع حكومة الهند قررت في نهاية العام أن تستمر في إظهار مشاعر الصداقة تجاه فيصل [ابن تركي] طالما اقتصرت جهوده على تثبيت حكمه على ممتلكاته السابقة، أما إذا أصبحت علاقته بالبحرين وبمشيخات الساحل تهدد بعودة أعمال القرصنة إلى المنطقة فينبغي مقاومة تلك السياسة، وبعبارة أخرى فلم تكن هناك نية لوضع حدود معينة للمناطق التي يشملها نفوذه، وعليه فعندما اتصل شيوخ النعيم في البريمي بالمقيم البريطاني في شهر نوفمبر 1843 يعربون عن مخاوفهم من هجوم وهابي محتمل على منطقتهم ويطالبون بالمساعدة البريطانية لرده، وقد أخبرهم المقيم بأن سياسة المحافظة على استقلال البريمي في وجه التهديدات القادمة من نجد، إنما كانت تنطبق فقط على الفترة التي كان المصريون يحتلون فيها شبه الجزيرة العربية، وخلال حكومة مرشح الإدارة المصرية خالد، أما وقد انسحب المصريون والأمير خالد من المسرح، فإن الحكومة البريطانية بدورها لا تسعى إلى التدخل في سياسات شبه الجزيرة. وفي شهر ديسمبر تلقت الممثلية رسالة من الأمير فيصل يبلغها فيها استئنافه الحكم في نجد والأحساء، ويعرب عن أمله في استمرار العلاقات الودية التي كانت قائمة بينه وبين الحكومة البريطانية. وقد بعثت حكومة الهند برد ودي إليه، وأشارت في ردها إلى حرص الحكومة البريطانية على الأمن البحري في الخليج".
وقال الدكتور عبد الفتاح حسن أبو علية (في تاريخ الدولة السعودية الثانية، ص144-146): "رأى لويس بلي المقيم السياسي في الخليج أن يقوم بزيارة إلى قلب جزيرة العرب، حيث الرياض عاصمة الدولة السعودية الثانية، من أجل إجراء محادثات سياسية مع الإمام فيصل بن تركي ومع المسئولين الرسميين السعوديين... كانت إنجلترا ترى أن الدولة السعودية الثانية برئاسة إمامها القوي فيصل بن تركي تستطيع القيام بدور فعال في هذا المجال. فيقول الكولونيل بلي: (لقد شعرت جازما إذا ما تمكنت من إقامة علاقات مع حاكم كفيصل، فإننا نتوقع فائدة من نفوذه مع رؤساء الساحل. ولن نخشى أن هذا النفوذ سيبذل في اتجاه لا يتوافق والاتجاه). ويقول كذلك: (إن حكومة بريطانيا تفضل أن ترى القبائل العربية في الجزيرة العربية تعيش بسلام ورخاء في حدود مناطقها وتحت زعامة حكامها المحليين). ونلاحظ من هذا القول أن بريطانيا كانت تغذي مفهوم الوحدات السياسية المستقلة التي استطاعت بريطانيا بطريقة أو بأخرى أن توقع معها معاهدات بواسطتها حصلت بريطانيا على مجموعة من الامتيازات... وهناك سبب وهدف معقول للزيارة وهو أن بريطانيا كانت ترى ضرورة إبعاد الدولة السعودية الثانية عن فرنسا. وكانت إنجلترا تحس بالتحركات السياسية الفرنسية في قلب جزيرة العرب، بخاصة عندما عرفت بالزيارة التي قام بها جيفورد وليم بولجريف (G. W. Palgrave) في جزيرة العرب عام 1863م. يقول هوجارث (Hogarth): (كانت رحلة بلي إلى الرياض ليقدم عروضا أكثر سخاء مما قدمه بولجريف الذي سبقه في زيارته إلى الرياض)...".
وقال الدكتور محمد عرابي نخلة ( في تاريخ الأحساء السياسي، ص70): "وفي السنة التالية 1862 كانت فرنسا قد بعثت (وليم بلجريف) إلى نجد وخشيت السلطات البريطانية بعد أن تعقدت الأمور بينها وبين (فيصل) أن تسفر زيارة (بلجريف) عن ارتباطات بين الوهابيين وفرنسا، وفي ذلك أكبر الخطر على وجودها في الخليج ، لذلك أسرعت بإرسال المقيم البريطاني في الخليج إلى الرياض عن طريق الكويت عام 1864م ، ويقول فلبي بأن زيارة (لويس بلي) هذه أدت إلى اتفاقية عربية انكليزية، لم يعثر على نصوصها في سجلات الرياض".
وقال لوريمر (في دليل الخليج، ج3 ص1663): "وحين كتب الأمير الوهابي [فيصل] خطابا إلى الممثل البريطاني يعبر فيه عن رغبته في (تجديد العلاقات الودية التي كانت قائمة بين أبيه الأمير تركي والحكومة البريطانية) تلقى ردا وديا يؤكد له أن الحكومة البريطانية لا أهداف لها سوى المحافظة على السلام في البحر الذي قال في خطابه إنه هو أيضا مهتم بالمحافظة عليه. وكان يرى أن العلاقات الودية لو أمكن أن تقوم وتستمر بين السلطات البريطانية والأمير فإن أثر ذلك لا شك سيكون طيبا جدا على أهل السواحل".
وقال (ج3 ص1665): "ومما هو جدير بالذكر عن الأمير فيصل تأكيده أنه لم يحاول أبدا على عكس ما أذيع عنه أن يعبّر عن معارضته للحكومة البريطانية بالقيام بأعمال القرصنة، بل إن الأمر كما أشار كان على العكس تماما.. فهناك فترة من التفاهم دامت أكثر من مائة عام مع الحكومة البريطانية من أجل التعاون على تأمين التجار والمسافرين في البحار".
http://azeytouna.net/index.php/2012-09-24-14-14-53/item/5100-5
جاء في مجلة الواحة (العدد 14، مقال: الحملة العسكرية العثمانية لاحتلال الأحساء والقطيف): "منذ وفاة الأمير فيصل بن تركي، بدأ البريطانيون بالضغط العنيف على الساحل الأحسائي، من قاعدتهم بالبحرين "المستعمرة" وفي عام 1870 تطورت الأمور إلى حد أن حاصرت سفن البحرين القطيف بدفع وتشجيع من المعتمد البريطاني هناك، بل إن نشاط شيخ أبو ظبي يومئذٍ وصل القطيف أيضاً.. ويومها هدد عبد اللّه الفيصل باحتلال البحرين، فأمرت السلطات البريطانية الشيخ عيسى آل خليفة برفع الحصار، وهكذا كان.ولما كان الغرض، هو السيطرة على ساحل الأحساء، وإبعاد عبد الله الفيصل الذي بدأ ينسق مواقفه مع الأتراك، فقد وجد الإنجليز طريقاً أفضل.. ففي ذلك الحين كان النزاع محتدماً بين الأخوين، وقد وجد سعود الفيصل في شيخ البحرين والإنجليز أقوى مؤيد لمشروعاته.. حيث تغاضى بيلي - المقيم البريطاني في بوشهر- عن مساعدات شيخ البحرين المقدمة لسعود إذ كان من صميم قلبه يريد أن ينتصر سعود على عبد اللّه.. وكان بيلي يردد دائماً في مكاتباته مع حكومته، بأن سعوداً خير للإنجليز من أخيه. وجرت اتصالات عديدة بين سعود وشيخ البحرين، ترتب على أثرها انتقال الأول من البريمي "وقيل عمان" إلى البحرين ليتخذها قاعدة للانطلاق، وكان ذلك في سنة 1287هـ/ 1870، وهناك أكرم آل خليفة، والمعتمد البريطاني وفادته، ودعموه بشتى الإمكانات". (ينظر: http://www.alwahamag.com/?act=artc&id=1455).
وقال الدكتور محمد عرابي نخلة ( في تاريخ الأحساء السياسي، ص140): "لابد لنا أن نشير بوضوح إلى أن دور بريطانيا كان واضحا في مساعدة سعود ضد أخيه، وكانت بذلك تخالف سياستها المعهودة والتي تقضي بالمحافظة على الأمن في الخليج، وعدم الاعتداء من قبل أي طرف ضد الآخر، ولقد ثبت أن الانجليز كانوا يشجعونه على القيام بهذا العمل أو على الأقل لم يقفوا في طريقه في سبيل تحقيق أهدافه، فلقد أفاد أحد أتباع سعود إلى قنصل دولة الانجليز في بغداد بأن سعود كان يكرر دائما قوله: بأنه لن ينسى العطف الذي لقيه من قبل المسئولين البريطانيين أثناء إقامته في البحرين".
وقال الدكتور إسماعيل أحمد ياغي (في بحث: سياسة مدحت باشا والي العراق العثماني تجاه الخليج العربي، ضمن كتاب: الصلات التاريخية بين الخليج العربي والدولة العثمانية، ص20): "نفذت الدولة العثمانية من خلال واليها على العراق مدحت باشا خطتها لاحتلال الأحساء بمنتهى السرعة للأسباب التالية: 1. الخوف الشديد من التدخل البريطاني في المنطقة، وبخاصة بعد قيام بريطانيا بمد يد العون والمساعدة للأمير سعود عن طريق حاكمي مسقط والبحرين، ورأت الدولة العثمانية أن نجاح بريطانيا في مثل هذه المهمة، يعني تحكمها مستقبلا في مصير العراق العثماني...".
وقال الدكتور حاكم المطيري (في عبيد بلا أغلال، ص130-132): "لقد كان أول اختراق بريطاني للجزيرة العربية هو ذلك الدعم الذي لقيه سعود بن فيصل بن تركي آل سعود من حكومة الهند البريطانية ليستولي على الرياض، وقد واكب افتتاح قناة السويس - الذي زاد من أهمية البحرين وساحل عمان - صراع بين عبد الله بن فيصل بن تركي، وأخيه سعود بن فيصل على الحكم في الرياض، وبلغ الصراع ذروته سنة 1870م وقد (كان أكثر من صراع بين شخصين، كان صراعا بين عقليتين، سكان الحضر وأهل البادية، بين المتطرفين الوهابيين، وبين المعتدلين الذين يرفضون تعاليمها، وكان كل من الأخوين يمثل إحدى الفئتين) على حد قول جون كيلي. وهذا هو رأي كيلي إلا أن الحقيقة هو أن الصراع كان بسبب خروج سعود المدعوم بريطانيا، على أخيه عبد الله الذي كان قائمقاما عثمانيا. وقد كانت بريطانيا وراء هذه الفتنة بين عبد الله وسعود للسيطرة على نجد كما جاء في مذكرات والي بغداد مدحت باشا حيث قال: (كان عبد الله الفيصل معتدلا لم يعاكس الدولة العلية - الخلافة العثمانية - أما سعود فكان يسعى لاستلام الإمارة، ولذا فإنه توجه إلى الهند للاستعانة بالإنجليز، وألب العشائر وحثهم على شق عصا الطاعة في وجه أخيه، وبعد حروب طويلة انتصر عليه، وكان الإنجليز يعاونون الأمير سعود بالمال والعدة، وكانت البلاد القريبة من نجد قد دخلت تحت حمايتهم، وإذا حكم الأمير سعود النجديين أدخل البلاد تحت حماية انجلترا وصارت صاحبة الطول والحول في العراق). ولم يدرك علماء الوهابية في نجد آنذاك طبيعة الصراع الدائر بين الأخوين عبد الله وسعود، ولم يدركوا أبعاد تدخل الإنجليز لصالح سعود، ولهذا صدرت الفتاوى بتجريم عبد الله لأنه استعان بالدولة العثمانية، وحكم بعضهم بردته، وأوجبوا السمع والطاعة لأخيه سعود المدعوم بريطانيا! فقد جاء في فتوى عبد اللطيف آل الشيخ (وقد عرفتم حالنا في أول هذه الفتنة، وفيها الجزم بإمامة عبد الله ولزوم بيعته، والتصريح بأن راية أخيه راية جاهلية عمية، فلما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة - أي العثمانية - إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم الحسا والقطيف والخط، تبرأنا مما تبرأ الله منه ورسوله...وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة .. وقد نزل العدو - أي عبد الله وجيوش الدولة العثمانية التي جاءت لنصرته - بأطرافكم، واستخف الشيطان أكثر الناس وزين لهم الموالاة واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرئاسة لهم، وأنهم ولاة أمر يعزلون ويولون، وينصرون وينصبون...وقد أجمع المسلمون على جهاد عدوهم مع الإمام سعود). وهذا يرجح أن شيوخ الدعوة الوهابية الثانية في نجد لم يكن لديهم علم بأنه منذ قيام الإمارة السعودية الثانية كانت تابعة للخلافة العثمانية، بترتيب مصري مع تركي بن عبد الله، ثم ولده فيصل بن تركي، ثم عبد الله بن فيصل! كما لم يكن لديهم علم بأن سعود بن فيصل كان مدعوما من حكومة الهند البريطانية، ففي الوقت الذي وقفوا ضد عبد الله لأنه جاء بالترك، لم يعلموا بأن أخاه سعودا قد جاء بالإنجليز!".
والحقيقة، أن اختراق الإنجليز للجزيرة العربية كان قبل هذا، ولم يأت "سعود بن فيصل" (المجمع على ارتباطه بالإنجليز) بشيء جديد بل حافظ على تقليد ورثه عن أبائه. وإليك الدليل:
جاء في المعاهدة التي عقدها السير بيرسي كوكس (المقيم البريطاني في الخليج) مع عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود (بتاريخ 26/12/1915م) ما يلي: "يتعهّد ابن سعود، كما فعل آباؤه من قبله، أن يمتنع من أي اعتداء على، أو تدخل في، أراضي الكويت، والبحرين، ومشائخ قطر والساحل العماني، الذين هم تحت حماية الحكومة البريطانية والذين تربطهم معاهدات مع هذه الحكومة...". (ينظر: بعثة إلى نجد، لسانت جون فيلبي، ص257 والسعوديون والحل الإسلامي، لمحمد جلال كشك، ص378).
وجاء في رسالة من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود إلى اللفتنانت كرنل السر ب. كوكس بتاريخ 13 يونيو 1913م ما يلي: "نخاطب سيادتكم بالنظر إلى الصداقة القديمة بيننا وبينكم، وإلى المعاهدة الأسبق من ذلك التي تعود إلى عهد المغفور له جدي فيصل والتي انقضت من مدتها خمس وخمسون سنة ويبقى منها خمس وخمسون سنة. إنني أرغب في إقامة العلاقة ذاتها على النحو ذاته الذي كان عليه بينكم وبين أجدادي... وبالنظر إلى مشاعري الودية، أود أن تكون علاقتي بكم كتلك التي كانت بينكم وبين أجدادي، وأن تبقى هذه العلاقة بيني وبينكم من بعدهم...". (عن الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، لنجدة فتحي صفوة، ج1 ص183-184).
وجاء في تقرير سري أرسله الكابتن شكسبير (الجاسوس البريطاني صديق عبد العزيز) إلى اللفتنانت كرنل كوكس (بتاريخ 08 أبريل 1911م) ما يلي: "أتشرف بأن أعرض فيما يلي، لعلم الحكومة [البريطانية]، فحوى عدد من المحادثات الطويلة والشخصية بين عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، أمير نجد الوهابي، وبيني، خلال جولتي الأخيرة حين قضيت بضعة أيام في مخيمه... تحدث عبد العزيز كثيرا عن التاريخ القديم، وفيما يلي خلاصة للموضوع... بدأ كلامه بغزو إبراهيم باشا وقال إنه بعد طرد المصريين من نجد، أعاد تركي بن عبد الله احتلال المملكة الوهابية الأصلية، وفي ضمنها الأحساء والقطيف ومعظم ساحل عمان من قطر إلى جوا مسقط، فأزال بذلك كل معالم السلطة التركية، ثم عقد معاهدة مع الحكومة البريطانية... ونجحفيصل بعد بضع سنوات في الحصول على العفو فعاد إلى نجد وأعلن إماما على الفور. وقام أيضا بتجديد المعاهدة القديمة مع الحكومة البريطانية ومد حكمه على جميع الإقليم الذي كان تابعا لتركي بن عبد الله. أعاد بناء قلعة البربيمي في عمان، وبموافقة الحكومة البريطانية تسلم إتاوة من سلطان مسقط قدرها 15000 دولار سنويا... وكان في ذلك الوقت أن أبدت الحكومة البريطانية وثوق صلاتها بنجد بإرسال أحد ضباطها الكرنل لويس بيلي (Col. Lewis Pelly) إلى الرياض، فجدد المعاهدات القديمة وعهود الصداقة ولو أن ذلك لم يجر بوثيقة مكتوبة فعلا. وقد توفي فيصل بعد هذه الزيارة بوقت قصير وخلفه ابنه عبد الله. ومع أنه حافظ في بادئ الأمر على الصلات الودية السابقة مع الحكومة البريطانية فقد كان من الحمق بدرجة أنه فاتح الأتراك بعد أن تخاصم مع الإنجليز على البريمي ومسقط... عاد عبد العزيز مرارا إلى ذكر الرسائل التي أرسلها أبوه عبد الرحمن إلى المقيم في بوشهر في وقت تعيين معتمد سياسي في الكويت تقريبا، وأبدى أسفه لأننا لم نقابل مفاتحاته الودية بمودة الأزمنة السالفة. قال إنه شرح لي تأريخهم لتلك السنين ليثبت أن آل سعود كانوا دائما على صلات ودية مع الإنكليز وأنهم كرهوا الأتراك كرها عميقا في كل حين...". (ينظر: الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، ج1 ص155-161).
وقال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية: الإمام تركي بن عبد الله، ج5 ص200) مبينا سياسة الإنجليز في الخليج وموقفها من التوسع الوهابي إبان فترة تركي: "وقد اتخذ مجلس المديرين في الهند في نيسان 1834 قرارات جاء فيها: يظهر أنه من المحتمل أن الحروب التي كانت تحدث كثيرا بين الدول المتصالحة في الخليج قد يمكن تفاديها بعد خضوع هذه الدول إلى زعيم مشترك في شخص أمير الوهابيين الذي استعاد تقريبا كل الممتلكات التي كانت لأسلافه...".
وقال جون ب. كيلي (في بريطانيا والخليج، ج1 ص383): "وكان تركي [مؤسس الدولة الثانية] قد عقد العزم على أن لا يعيد أخطاء أسلافه من الأمراء، وكان كما أشار اللفتنانت هانيل المقيم البريطاني بالنيابة شخصا أكثر ثقافة من الأمراء السابقين، وأنه كان متقيدا في خطواته بمبادئ السياسة على العكس من الزعماء الوهابيين السابقين الذين كان حماسهم لنشر العقيدة الوهابية أكثر من حماسهم للحكم، ولكي يؤكد رفضه القاطع لمقترحات راشد بن حمد كلف شيخ عجمان في منتصف سنة 1831 بإبلاغ حكومة بومباي رسالة منه يعبر فيها عن رغبته في إقامة علاقات ودية مع الحكومة البريطانية، وقد ردت الحكومة البريطانية عليه برسالة تبادله فيها نفس الرغبة وأرسلتها إليه عن طريق المقيم البريطاني في الخليج".
وقال (ج1 ص672-673): "... غير أن حكومة بومباي وبعد إجراء مشاورات مع حكومة الهند قررت في نهاية العام أن تستمر في إظهار مشاعر الصداقة تجاه فيصل [ابن تركي] طالما اقتصرت جهوده على تثبيت حكمه على ممتلكاته السابقة، أما إذا أصبحت علاقته بالبحرين وبمشيخات الساحل تهدد بعودة أعمال القرصنة إلى المنطقة فينبغي مقاومة تلك السياسة، وبعبارة أخرى فلم تكن هناك نية لوضع حدود معينة للمناطق التي يشملها نفوذه، وعليه فعندما اتصل شيوخ النعيم في البريمي بالمقيم البريطاني في شهر نوفمبر 1843 يعربون عن مخاوفهم من هجوم وهابي محتمل على منطقتهم ويطالبون بالمساعدة البريطانية لرده، وقد أخبرهم المقيم بأن سياسة المحافظة على استقلال البريمي في وجه التهديدات القادمة من نجد، إنما كانت تنطبق فقط على الفترة التي كان المصريون يحتلون فيها شبه الجزيرة العربية، وخلال حكومة مرشح الإدارة المصرية خالد، أما وقد انسحب المصريون والأمير خالد من المسرح، فإن الحكومة البريطانية بدورها لا تسعى إلى التدخل في سياسات شبه الجزيرة. وفي شهر ديسمبر تلقت الممثلية رسالة من الأمير فيصل يبلغها فيها استئنافه الحكم في نجد والأحساء، ويعرب عن أمله في استمرار العلاقات الودية التي كانت قائمة بينه وبين الحكومة البريطانية. وقد بعثت حكومة الهند برد ودي إليه، وأشارت في ردها إلى حرص الحكومة البريطانية على الأمن البحري في الخليج".
وقال الدكتور عبد الفتاح حسن أبو علية (في تاريخ الدولة السعودية الثانية، ص144-146): "رأى لويس بلي المقيم السياسي في الخليج أن يقوم بزيارة إلى قلب جزيرة العرب، حيث الرياض عاصمة الدولة السعودية الثانية، من أجل إجراء محادثات سياسية مع الإمام فيصل بن تركي ومع المسئولين الرسميين السعوديين... كانت إنجلترا ترى أن الدولة السعودية الثانية برئاسة إمامها القوي فيصل بن تركي تستطيع القيام بدور فعال في هذا المجال. فيقول الكولونيل بلي: (لقد شعرت جازما إذا ما تمكنت من إقامة علاقات مع حاكم كفيصل، فإننا نتوقع فائدة من نفوذه مع رؤساء الساحل. ولن نخشى أن هذا النفوذ سيبذل في اتجاه لا يتوافق والاتجاه). ويقول كذلك: (إن حكومة بريطانيا تفضل أن ترى القبائل العربية في الجزيرة العربية تعيش بسلام ورخاء في حدود مناطقها وتحت زعامة حكامها المحليين). ونلاحظ من هذا القول أن بريطانيا كانت تغذي مفهوم الوحدات السياسية المستقلة التي استطاعت بريطانيا بطريقة أو بأخرى أن توقع معها معاهدات بواسطتها حصلت بريطانيا على مجموعة من الامتيازات... وهناك سبب وهدف معقول للزيارة وهو أن بريطانيا كانت ترى ضرورة إبعاد الدولة السعودية الثانية عن فرنسا. وكانت إنجلترا تحس بالتحركات السياسية الفرنسية في قلب جزيرة العرب، بخاصة عندما عرفت بالزيارة التي قام بها جيفورد وليم بولجريف (G. W. Palgrave) في جزيرة العرب عام 1863م. يقول هوجارث (Hogarth): (كانت رحلة بلي إلى الرياض ليقدم عروضا أكثر سخاء مما قدمه بولجريف الذي سبقه في زيارته إلى الرياض)...".
وقال الدكتور محمد عرابي نخلة ( في تاريخ الأحساء السياسي، ص70): "وفي السنة التالية 1862 كانت فرنسا قد بعثت (وليم بلجريف) إلى نجد وخشيت السلطات البريطانية بعد أن تعقدت الأمور بينها وبين (فيصل) أن تسفر زيارة (بلجريف) عن ارتباطات بين الوهابيين وفرنسا، وفي ذلك أكبر الخطر على وجودها في الخليج ، لذلك أسرعت بإرسال المقيم البريطاني في الخليج إلى الرياض عن طريق الكويت عام 1864م ، ويقول فلبي بأن زيارة (لويس بلي) هذه أدت إلى اتفاقية عربية انكليزية، لم يعثر على نصوصها في سجلات الرياض".
وقال لوريمر (في دليل الخليج، ج3 ص1663): "وحين كتب الأمير الوهابي [فيصل] خطابا إلى الممثل البريطاني يعبر فيه عن رغبته في (تجديد العلاقات الودية التي كانت قائمة بين أبيه الأمير تركي والحكومة البريطانية) تلقى ردا وديا يؤكد له أن الحكومة البريطانية لا أهداف لها سوى المحافظة على السلام في البحر الذي قال في خطابه إنه هو أيضا مهتم بالمحافظة عليه. وكان يرى أن العلاقات الودية لو أمكن أن تقوم وتستمر بين السلطات البريطانية والأمير فإن أثر ذلك لا شك سيكون طيبا جدا على أهل السواحل".
وقال (ج3 ص1665): "ومما هو جدير بالذكر عن الأمير فيصل تأكيده أنه لم يحاول أبدا على عكس ما أذيع عنه أن يعبّر عن معارضته للحكومة البريطانية بالقيام بأعمال القرصنة، بل إن الأمر كما أشار كان على العكس تماما.. فهناك فترة من التفاهم دامت أكثر من مائة عام مع الحكومة البريطانية من أجل التعاون على تأمين التجار والمسافرين في البحار".
علاقة آل سعود ببريطانيا: الدولة الثالثة
قال جمال زكريا قاسم (في بحث له نشره موقع الدارة السعودي بعنوان: العلاقات السعودية البريطانية في منطقة الخليج العربي في عهد الملك عبد العزيز بن سعود: http://www.darah.info/bohos/Data/11/12-1.htm): "تعددت الدوائر السياسية التي عنيت بالعلاقات بين بريطانيا والملك عبد العزيز بحيث شملت حكومة الهند ووزارة المستعمرات، وأخيراً وزارة الخارجية البريطانية التي انفردت بتلك العلاقات منذ أن عقد الملك عبد العزيز مع الحكومة البريطانية معاهدة جدة في الثاني عشر من ذي القعدة عام 1345هـ/ 20 مايو 1927م.وإذا كانت أصـول العلاقات السعودية البريطانيـــة ترجع إلى عهد الدولتين السعودية الأولى والثانية فقد اتخذت تلك العلاقات وضعاً جديداً على عهد الدولة السعودية الثالثة وذلك منذ أن استرد الملك عبد العزيز الرياض في الخامس من شوال 1319هـ/ 15يناير 1902م حتى وفاته في الثاني من ربيع الأول عام 1373هـ/ نوفمبر 1953م.وقد بدأ الملك عبد العزيز علاقاته الدولية منذ استرداد إمارته بمحاولة إقامة علاقة بينه وبين الإنجليز؛ إذ أدرك أثناء إقامته بالكويت في السنوات الأخيرة من القرن الماضي وأوائل القرن الحالي أهمية الدور الذي تلعبه بريطانيا في منطقة الخليج، وكان من سعة الإدراك بحيث لم يتجاهل ذلك الدور في علاقته بالحكومة البريطانية؛ إذ أتيح له أن يطلع في خلال تلك السنوات على الأوضاع الدولية مما أكسبه معرفة ودراية لم تسبق لأسلافه الذين عاشوا طوال حياتهم في نجد، كما أتيح له في الوقت نفسه أن يلمس عن قرب مدى قوة بريطانيا وتفوقها على كل من الدولة العثمانية والدول الأوربية الأخرى المنافسة لها "روسيا وألمانيا وفرنسا"، ويمكن القول بصفة عامة: إن مدرسة الكويت السياسية على عهد الشيخ مبارك بن الصباح 1314–1334هـ/1896/1915م قد أطلعته على حقائق السياسة الدولية، ودربته على كيفية مواجهة المشكلات الدولية، ولقنته كثيراً من فنون السياسة والحكم. وقد بدأت اتصالات الدولة السعودية الثالثة بالإنجليز بعد أشهر عدة من استرداد الرياض فعلى أثر تأهب الإمام عبد الرحمن الفيصل لمغادرة الكويت في عام 1320هـ/ مايــو 1902م للانضمام إلى ابنه عبد العزيز في الرياض أرسل كتاباً إلى الكولونيل كمبل(Kemball) المقيم البريطاني في بوشهر طالباً إقامة علاقات مع السعوديين بعد أن نجحوا في استرداد إمارتهم، واقترح عقد اتفاقية شبيهة بتلك الاتفاقيات المبرمة مع حكام الخليج، وذكر أن أوسنيكو(Ozinico) القنصل الروسي في بوشهر الذي زاره في الكويت عرض عليه المساعدة إذا ما طلب ذلك كتابة غير أنه رفض العرض الروسي بنصيحة الشيخ مبارك حاكم الكويت. وعلى الرغم من أن كمبل أوضح لحكومته بأن السعوديين قد حققوا انتصارات في نجد إلا أنه توقع أن يشن آل رشيد هجوماً مضاداً، ولذا نصح رؤساءه في حكومة الهند بالتأني في الرد على الرسالة".
وقال علي مفلح محافظة (في بحث له نشره موقع الدارة السعودي بعنوان: العلاقات السعودية البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918م: http://www.darah.info/bohos/Data/11/13-1.htm): "في ظل هذا التنافس الدولي الشديد نجح الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في استعادة ملك أبيه وأجداده في نجد سنة 1319هـ/ 1902م، وسعى منذئذ إلى استعادة بقية المناطق التي كانت تؤلف أجزاءً من الدولة السعودية الثانية. ولعلمه بعلاقة الشيخ مبارك ببريطانيا ومساعدتها له للوقوف في وجه والي البصرة العثماني، سعى الأمير السعودي إلى الاتصال بالبريطانيين لعقد تحالف معهم".
وقالت الدكتورة مديحة أحمد درويش (في تاريخ الدولة السعودية، ص78-79): "كان عبد العزيز يدرك جيدا، منذ إقامته في الكويت، أهمية بريطانيا في المنطقة، ومن ثم سعى جاهدا – بعد أن استرد ملك أجداده – في خطب ود بريطانيا وإقامة جسر من الصداقة بينه وبينها والاستعانة بها للوقوف في وجه ابن الرشيد والأتراك واستعادة الأحساء... وظلت العلاقات متوترة بين الإمام عبد العزيز – الذي أكد رغبته أكثر من مرة وكرر طلبه في أن تساعده بريطانيا وتعقد معه اتفاقية – وبين بريطانيا حتى نشبت الحرب العالمية الأولى...".
وقال لوريمر (في دليل الخليج، ج3 ص1718): "وحين بدأ ابن سعود محاولاته من الكويت في مايو سنة 1902 لإعادة الاستيلاء على عاصمة أسلافه أرسل خطابا إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج التمس فيه النظر إليه (كرجل تربطه بالحكومة البريطانية علاقة وثيقة) وأن (تهتم الحكومة البريطانية المحبة للخير بالنظر إليه)، وذكر أنه قد رفض أثناء وجوده في الكويت عروضا بالمساعدة من جانب مسئول روسي كبير لأنه يعتقد أن مثل هذه العلاقة يجب أن تكون مع الحكومة البريطانية لا غيرها".
وقال (ج3 ص1721-1722): "وطول سنة 1906 ظل الأمير الوهابي يواصل محاولاته للحصول على عون من الحكومة البريطانية، والأقرب إلى الدقة أن نقول أن ابنه عبد العزيز هو الذي ظل يوالي بذل هذه الجهود عن طريق عدة وسطاء... ويبدو أن عبد العزيز الذي كان مصمما على استعادة إقليم الأحساء لأنه أهم أقاليم الوهابيين من الناحية الاقتصادية كان متلهفا على الاطمئنان إلى التمتع بحماية البحرية البريطانية في حالة نجاحه، وأنه أيضا يود أن يرتبط بالحكومة البريطانية باتفاقيات كتلك التي ارتبط بها شيوخ عمان المتصالحة، وهو يوافق على أن يقيم في بلاطه مسئول سياسي بريطاني".
وقال الدكتور رحيم كاظم محمد الهاشمي (في تجارة الأسلحة في الخليج العربي 1881 – 1914م، ص61): "لقد ناصرت بريطانيا ابن سعود في صراعه ضد ابن الرشيد الموالي للعثمانيين، وذلك لإحكام سيطرتها على الخليج العربي، وقد جاءت تعليمات الحكومة البريطانية إلى المقيم السياسي في الخليج العربي بأن لا يتدخل في منع وصول الأسلحة والذخائر إلى الكويت، لأن ابن سعود كان يعتمد عليها في الحصول على ما يحتاجه من الأسلحة وظلت الأسلحة تأتي إلى الجزيرة العربية خلال الأعوام 1900-1904 عن طريق الكويت...". وينظر أيضا: (دليل الخليج، ج. ج. لوريمر، ج6 ص3735).
وجاء في وثائق تاريخ العرب الحديث (ج1 ص60): "كانت السلطات الإنجليزية في الخليج تبذل قصارى جهدها في منع تجارة السلاح على يد تجار من الخليج أو أي تجار، ولكن المصالح البريطانية كانت لها الأولوية. فإن غض الطرف عن تهريب السلاح أو تجارته إلى من هم ضد الدولة العثمانية هو لمصلحة الانجليز. ولهذا كانت الكويت لا تتعرض لتدخلات شديدة من الجانب الانجليزي في موضوع تهريب السلاح إلى عشائر العراق وإلى آل سعود".
وقال حافظ وهبه (ت1967م) سفير المملكة العربية السعودية في بريطانيا (في خمسون عاما في جزيرة العرب، ص83): "وفي 2 يناير 1915 عقد الملك [عبد العزيز] أول معاهدة مع بريطانيا، وهي معاهدة تضعه تحت الحماية البريطانية كسائر أمراء الخليج، فكانت كل اتصالاته برئيس الخليج العربي الذي كان يقيم عادة في (بوشهر) على الساحل الفارسي".
وقال جان جاك بيربي (في جزيرة العرب، ص52-53): "بينما كان لورانس يساند الملك الهاشمي ويعده بتاج إمبراطورية عربية كبرى، نزل عام 1917، في أواسط الجزيرة ضابط سياسي قادم من الكويت يدعى هاري سان جون بريدجر فيلبي، وقد قدر له بعد أن أعلن إسلامه وسمي عبد الله، أن يلعب مدة ثمانية وثلاثين عاما دورا بارزا في الجزيرة العربية. في السادس والعشرين من كانون الأول سنة 1915 كان عبد العزيز قد وقع مع بريطانيا مساعدة مشابهة لتلك التي ربطت بانجلترا كلا من البحرين والكويت. وهذا الأمر يجهله على العموم أو يغفل عن ذكره الكثيرون من المؤرخين، إنه ليس مشرفا لا للعرب ولا للبريطانيين؛ إذ إنه لقاء مساعدة مالية شهرية قدرها خمسة آلاف جنيه إسترليني اعترف سلطان نجد للبريطانيين بحق الإشراف على علاقاته الخارجية. كجميع أمراء الخليج والجنوب العربي تعهد عبد العزيز بن سعود بألا يتنازل عن أي شبر من أراضيه في أي حال من الأحوال، وألا يقيم علاقات مع أية دولة إلا بعد الحصول على موافقة الحكومة البريطانية على ذلك. وتعهدت بريطانيا من جانبها بحماية ابن سعود، مهما كانت الظروف من كل اعتداء خارجي. ويروي الجنرال برموند – كما ذكرت التايمز في ذلك الوقت – أن سلطان نجد تلقى في الحقبة بين 1917 و1924 من التاج البريطاني مبلغ 477310 جنيهات إسترلينية ذهبا. وكثير من المراقبين قد اعتراهم الذهول بسبب الخداع والمكر البريطانيين الذين أمنت بريطانيا عن طريقهما جانب الخصمين العربيين الكبيرين حسين وعبد العزيز، وذلك كي تبقى هي سيدة الموقف أيا كان الغالب، ومع ذلك فقد كان هناك تمييز في المعاملة لأن حسين قدر ثمنه بأربعة أضعاف أكثر من الأمير البدوي. كان يقبض شهريا مبلغ عشرين ألف جنيه إسترليني مقابل خمسة آلاف فقط لعبد العزيز...". وأنظر أيضا "بعثة إلى نجد" لسانت جون فيلبي (ص 258-259): الملحق الثالث: بيان بالسلاح والذخائر المعطاة لابن سعود، والملحق الرابع: بيان عن جميع النقود المعطاة لابن سعود.
وقالت غيرترود بيل الجاسوسة البريطانية الشهيرة باسم الخاتون (في أورواق منسية من تاريخ الجزيرة العربية، ص37-38): "لقد لقيت علاقة ابن سعود ببريطانيا تأييدا شعبيا خلال اجتماع للشيوخ العرب تم عقده في الكويت في 20 نوفمبر [1916] حيث استضافه شيخ الكويت... وقف هؤلاء الشيوخ إلى جوار بعضهم في محبة ووفاق، وأعلنوا التزامهم بالقضية البريطانية، وفي حديث تلقائي غير متوقع أشار ابن سعود إلى أن الحكومة العثمانية قد سعت إلى تفكيك وإضعاف الأمة العربية، بينما السياسة البريطانية قد استهدفت توحيد وتقوية قادة الأمة. وكلما استمع المندوب السياسي السامي إلى هذا الكلام الذي سوف يتردد وتتم مناقشته بين الرجال الذين يتحلقون حول كل نار تشعل في المخيمات، فبالتأكيد سيقطف ثمار سنوات خلت من العمل الصبور في الخليج".
وقال فؤاد حمزة (في قلب جزيرة العرب، ص 303-304): "وحين إعلان الحرب العمومية كان موقف الدولة العثمانية في البلاد العربية موقفا لا يحمد. ولم يشد أزر الدولة في السنوات الأولى من الحرب إلا ابن رشيد الذي ظل على ولائه، وأما الشريف حسين فقد حالف الحلفاء ورفع علم الثورة العربية وحارب إلى جانب الإنكليز والفرنساويين ضد الأتراك والألمان والتف حول الحسين شبان العرب من سائر الأقطار العربية عاقدين عليه الآمال الجسام لتحقيق أمانيهم القومية، وإنشاء دولة عربية جديدة إلا أنه لم يقدر للحسين أن يكون ذلك الباني للمجد العربي. وأما ابن سعود فقد وقف موقف المتفرج في الظاهر وحالف الانكليز ضد ابن الرشيد طيلة مدة الحرب وكذلك فعل الإدريسي".
وقال محمد جلال كشك (في السعوديون والحل الإسلامي، ص246-247): "ويمكن القول أيضا أن ابن رشيد كان مخلصا في تحالفه مع الترك حتى نهاية الحرب، وفي وثائق المكتب الهندي نص رسالتين متبادلتين بين ابن سعود وابن رشيد بتاريخ 22 رجب 1335 – 15 مايو 1917 – 28 رجب 1355 – 20 مايو 1917 (الفارق من اختلاف التقويم الهجري بين حايل والرياض) ورسالة عبد العزيز كانت ردا على طلب الصلح والمسالمة من ابن رشيد، فرد ابن سعود قائلا: (لو كان الأمر بيني وبينك لما كان أحب إلي من حقن دم المسلمين، وجمع شمل العرب. لكن الأمر اليوم، يا أخي، ليس في يدي. فإن شئت الخير لك وللعرب، فإن السلام يمكن أن يتحقق بثلاثة شروط: 1. أن تقطع كل صلة لك بتلك الحكومة الوضيعة التي سببت الخسارة لديننا ودنيانا، وأعني بها الحكومة التركية التي لم تترك إثما لم ترتكبه. 2. أن تصبح صديقا مع الحكومة التي نحن حلفاؤها [أي بريطانيا]، وإخوانك العرب ونحن متعاهدون على توحيد العرب. 3. أن تكون صديقا مع الشريف وتساعده، فأي عربي لا يساعده يجب أن نتجنبه لأن الشريف هو عضو في تحالفنا...)... وقد رد ابن رشيد برسالة مختصرة... فقال: (لقد تلقيت رسالتك 22 رجب 1335 – 14 مايو 1917 وفهمت ما بها. إن الشروط التي ذكرتها غير مقبولة، لا لصالح ديننا ولا دنيانا، ولذا فالأمر على ما هو عليه...)...".
وقال أمين الريحاني (في ملوك العرب، ج2 ص492-494): "... ستة أسابيع انتظر من أصحابي الانكليز إذنا بالسفر إلى – إلى نجد؟ كلا. بل إلى العراق. فإن ابن سعود عند هؤلاء الأماجد شخص مقدس لا يدنو منه غير المقربين من قدس الأقداس على شاطئ التيمس... كان قد مرّ أربعة أشهر ونيف على كتابي إلى السلطان عبد العزيز، فسافرت من عدن إلى بمباي... وقد أخبرني أحدهم... أن عبد الله القصيبي وكيل ابن سعود في البحرين وصل صباح ذاك اليوم إلى بمباي فبادرت في اليوم التالي إليه... وكان موضوع الحديث السلطان عبد العزيز وكتابي إليه. قال الوكيل: نعم وصلنا كتابكم بوقته وأرسلناه إلى حضرة الإمام، فجاء الجواب مرحبا بكم وقد أمرنا بإعداد كل ما يلزم من أسباب السفر والراحة عند وصولكم إلى البحرين. ثم قال: ونحن من زمان ننتظركم، أبطأتم في السفر أو أنكم غيرتم في الخطة التي كتبتم إلى حضرة الإمام عنها. قلت: لا التغيير ولا الإبطاء بيدي. فقال: بل بيد الله. فقلت مستفهما: وأصحابنا الانكليز؟ فضحك الوكيل وسكت...".
وقال (ج2 ص541): "حدثني سموه [أي ابن سعود] قال: يظنّ الناس أننا نقبض من الانكليز مبالغ كبيرة من المال. والحقيقة أنهم لم يدفعوا لنا إلا اليسير مما تستحقه الأعمال التي قمنا بها أثناء الحرب وبعدها...".
وقال (ج2 ص544-545): "فالانكليز يحتكرون الخليج وهم يعززون هذا الاحتكار بنشر سيادتهم على ضفتيه الشرقية والغربية... وهم يأبون أن يكون لسواهم من الأوروبيين أو الأميركيين يد أو رجل أو شراع في تلك البقعة من الأرض. أما في الخليج وفي الجهة العجمية منه فهم آمنون. على أنهم في السواحل العربية لا يطمئنون كل الاطمئنان رغم ما عقدوه من المعاهدات مع أمراء العرب لولا ابن سعود وهو أول المتعاهدين وأكبرهم لما أمنوا التعديات البرية والبحرية. لست مبالغا إذا قلت قد يكون ابن سعود حامي بريطانيا في الخليج...".
وجاء في تقرير للكابتن شكسبير (الجاسوس البريطاني وصديق الملك عبد العزيز) بتاريخ 3 كانون الثاني/ يناير 1915 (قبل مقتله بعشرين يوما): "من المهم أن نلاحظ هنا أن الموقف في جزيرة العرب الوسطىى على قدر استطاعتي أن أحكم عليه من هذا المخيم، هو ودي جدا نحو بريطانية العظمى ومعاد لألمانية ومبغض لتركية... وأقوى عامل، فيما عدى ميول الأمير وأسرته الشخصية، في خلق هذه النتيجة الطيبة في بلاد العرب الوهابية كان البيان البريطاني حول الأماكن المقدسة. فقد قال لي بعض الحاضرين هناك إن عبد العزيز بن سعود أمر بقراءة البيان في أحد مجالسه في "بريدة" حين كان عدد كبير من وجهائه حاضرين، وعلق عليه بأنه دليل على إخلاص بريطانية... ويمكنني القول أن أقول بكل تأكيد إن الحرب الدينية التي كانت الحكومة العثمانية تأملها ليس لها مؤيد في بلاد العرب الوسطى، وابن سعود نفسه قد سجن فعلا ضابطا تركيا في الأحساء أوفد إليه للمساعدة في تدريب قواته على الحرب، وهو يحتفظ بأربعة علماء في "بريدة" في ما يمكن أن يوصف باعتقال شريف. وهؤلاء العلماء الأربعة من المذهب الوهابي ومن سكنة بغداد أو كربلاء، وقد أرسلتهم السلطات التركية للدعوة إلى الجهاد. ويظهر جليا مما تقدم أن الحالة السياسية العامة في أنحاء أقاليم ابن سعود هي أشد ما تكون موافقة لبريطانية". (عن الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، لنجدة فتحي صفوة، ج1 ص386-387).
وجاء (في الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، لنجدة فتحي صفوة، ج1 ص383-385):
"كتاب من الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل السعود إلى المقيم السياسي في الخليج العربي والقنصل العام لجلالته في بوشهر 9 محرم 1333... تسلمنا رسالتكم الفخيمة المؤرخة في 14 ذي الحجة 1333 (3 تشرين الثاني/نوفمبر 1914) التي تفضلتم فيها بأنه سبق لسعادتكم أن ذكرتم في رسالة سابقة أن الحومة البريطانية البهية قد أعلنت الحرب على الحكومة العثمانية وأن تلقيتم من الحكومة البهية تعليمات لدعوتنا إلى التعاون مع صديقينا الكريمين وحليفينا المخلصين – شيخ المحمرة وحاكم الكويت، على مهاجمة البصرة وتحريرها من الحكومة العثمانية، أو المجيء إلى البصرة ومنع وصول أية تعزيزات إليها أو إلى القرنة، إلى أن تصل القوات البريطانية للاستيلاء على المنطقة وتذكرون أيضا تحرير البصرة وعزلها عن السيادة العثمانية، مما هو من أهدافنا الرئيسية في هذا الشأن، وتطلبون إلينا منع نهب البضائع التي تعود للتجارة البريطانيين في مدينة البصرة وما جاورها، وحمايتهم من الأذى وصد القوات التركية عن الأحساء والقطيف، وإجلائها عن مدينتنا. إن التعاون مع الصديقين مع الصديقين المذكورين أعلاه هو واجب علينا. وكذلك علينا أن نبذل مساعينا الحميدة لدى أصدقائنا، لأجل الحكومة البهية، في جميع الأعمال المفيدة التي تتطلبها. وإنني باذل جهودي ومحاولاتي لخدمة المصالح المشتركة لجميع الأصدقاء. ولكم أن تكونوا متأكدين تماما وواثقين من هذه القضية. إنني واحد من أكبر أعوان حكومة بريطانيا العظمى وإنها ستحصل بعون الله على نتائج مرضية، كما ذكرنا لصديق الطرفين الكابتن شكسبير. أما بخصوص الجنود العثمانيين، فإننا لم نسمح لجندي واحد منهم بالبقاء (في هذه الأقسام) بعد احتلالنا وأزحناهم جميعا خارجا. أما فيما يتعلق بالأمور الثلاثة التالية من قبلكم، أي وعد الحكومة البهية بحمايتنا ضد الحكومة العثمانية بمنحنا معونتها وحمايتها لنا في المستقبل ضد أي هجوم أو عدوان قد يأتي من البحر، واعترافها باستقلال مشيختي في جميع أنحاء نجد والأحساء والقطيف، وأن عقد المعاهدات بيننا سيعتمد على وصولنا إلى الكويت. إنني مغادر مقري في هذا التاريخ ومتوجه إلى الكويت وإننا سنجري المفاوضات الشفوية اللازمة، لكي نحصل على موافقة صديقتنا حكومة بريطانيا العظمى. آمل أن تواصلوا دعم الصداقة المخلصة بيننا بإسعاد ذهني بأخبار راحتكم وخيركم وأحوال الحكومة البريطانية. هذا ما لزم بيانه ودمتم موفقين".
"... رسالة من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل بن سعود إلى اللفتنانت كرنل السر برسي كوكس، المقيم السياسي في الخليج العربي مؤرخة في 15 صفر 1333... أما فيما يتعلق بي فقد بعثتم في نفسي الأمل أنه نتيجة ما تم من أمر احتلالكم هذه البلاد فسيكون لدينا سبب أعظم من السابق للرضا، وأن بلادنا ستكون بمأمن من استبداد الحكومة التركية التي عانينا منها في الماضي. إني شاكر لهذا وليس هنالك شك بأنكم أعدل الناس وأكثرهم تقديرا لحقوقنا وحقوق الناس المحترمين. وإنني كنت معتزا دائما بمشاعر الصداقة والاحترام ونحوكم ولا أفكر بأي أمر يكون معارضا لرغباتكم. إنني مقتنع بأنكم أناس صادقون وعادلون... وإننا مقتنعون بأن مصلحتنا وشرفنا يتوقفان على إطاعة أوامركم...".
وجاء (في الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، لنجدة فتحي صفوة، ج2 ص725-727) رسالة من عبد العزيز بن سعود إلى اللورد هاردنغ أوف بنشورست نائب الملك وحاكم الهند العام بتاريخ 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1915م: "تلقيت رسالتكم الكريمة... أخذتها بيد الاحترام وتشرّفت بقراءتها، وفهمت بوضوح ما أخبرتموني به، خصوصا فيما يتعلق بالإعراب عن سروركم لتحقيق الصداقة والنوايا المخلصة التي أحملها من صميم قلبي المخلص نحو جلالة الملك الإمبراطور، زيد مجده، ونحو الحومة البريطانية وحكومة الهند. وسروركم ليس إلا علامة عن سمو مشاعركم ورفعة قدركم. وإنني لذلك أعرب عن شكري وحمدي للاعتبار السامي الذي عبّرتم عنه نحو شخصي... إن سعادتكم تعرفون أن مصالحي مرتبطة مع مصالح صديقتي الحكومة البريطانية ضد جميع الدول المحاربة عموما وضد تركية وحلفائها خصوصا لأنهم أعداؤنا. إن العرب غيري قد تكون لهم بعض الحجج (لاتخاذ موقف مختلف)، ولكنني لا أمل لي إلا في الله وفيكم، لأنكم مخلصون وصادقون، فلا آراء لي سوى آراء أصدقائي...".
وجاء في برقية من السر برسي كوكس إلى دائرة الشؤون الخارجية في حكومة الهند بتاريخ 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1916 (كما في الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، ج2 ص787): "ابن سعود قدم مؤخرا دليلا ملموسا على عدائه للأتراك باعتقاله مندوبهم وتسليمه إلى وكيلنا 700 جمل اشتراها المندوب... وإنني أقترح تخويلي أن أعلن خلال المناسبة نفسها أن جلالته قد منح ابن سعود وسام فارس الإمبراطورية الهندية... ".
وقد تشرّف ابن سعود بقبول الوسام البريطاني وأصبح من "فرسان بريطانيا"، وقال في رسالة إلى السر برسي كوكس (كما في الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، ج2 ص789-790): "... لقد تسلمت بسرور كتابكم المكرم... وقرأته بسرور وأمل طيب حيث أخبرني بوصول البرقية من سعادة وزير الدولة لصاحب الجلالة البريطانية وكذلك حكومة الهند العالية، تشرح عطفهم الجميل نحو صديقكم الحقيقي والمخلص بتقليده الوسام السامي للفارس القائد لإمبراطورية الهند عربونا عن ثقتهم بولائي وموقفي المساعد لقضية سيادة الشريف واتفاقي الثابت مع حكومتكم العظمى. لقد سررت جدا بتنازلهم اللطيف وحسن نظر صاحب الجلالة. ولا شك أن ذلك يعود إلى لطفكم البالغ وتقديركم للمخلص... أنا أنتظر اليوم حضوركم في المجلس الذي يعقده أخي العزيز الشيخ جابر، وسيحصل لي الشرف بتقليدكم إياي الوسام الرفيع".
هل خرج الوهابية على الخلافة العثمانية؟
http://azeytouna.net/index.php/2012-09-24-14-14-53/item/5392-7
يقول الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف (في دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص233-240): "ادعى بعض خصوم الدعوة السلفية أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب قد خرج على دولة الخلافة العثمانية، ففارق بذلك الجماعة، وشق عصا السمع والطاعة… وقبل أن نورد الجواب على شبهة خروج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة، فإنه من المناسب أن نذكر ما كان عليه الشيخ الإمام من اعتقاد وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، لأن الطاعة إنما تكون في المعروف. يقول الشيخ الإمام في رسالته لأهل القصيم: (وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه). ويقول أيضاً: (الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمّر علينا، ولو كان عبداً حبشياً فبين الله له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً. ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند كثير من يدعي العلم، فكيف العمل به). وصرح الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله باعتقادهم في هذه المسألة فقال: (ونرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية). وبعد هذا التقرير الموجز الذي أبان ما كان عليه الشيخ من وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله فإننا نشير إلى مسألة مهمة جواباً عن تلك الشبهة، فهناك سؤال مهم هو: هل كانت نجد موطن هذه الدعوة ومحل نشأتها تحت سيطرة دولة الخلافة العثمانية؟ يجيب الدكتور صالح العبود على هذا السؤال فيقول: (لم تشهد نجد على العموم نفوذاً للدولة العثمانية، فما امتد إليها سلطانها، ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارها حامية تركية في الزمان، الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية، فمن خلال رسالة تركية عنوانها (قوانين آل عثمان مضامين دفتر الديوان) يعني قوانين آل عثمان في ما يتضمنه دفتر (الديوان) ألفها – يمين علي أفندي – الذي كان أميناً للدفاتر الخاقاني سنة 1018هـ الموافقة 1609م من خلال هذه الرسالة يتبين أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري، كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى اثنتين وثلاثون إيالة، منها أربع عشرة إيالة عربية، وبلاد نجد ليست معها ما عدا الإحساء إن اعتبرناه من نجد..). ويقول الدكتور عبد الله العثيمين: (ومهما يكن فإن نجداً لم تشهد نفوذاً مباشراً للعثمانيين عليها قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما أنها لم تشهد نفوذاً قوياً بفرض وجوده على سير الحوادث داخلها لأية جهة كانت، فلا نفوذ بني جبر، أو بني خالد في بعض جهاتها، ولا نفوذ الأشراف في بعض جهاتها الأخرى أحدث نوعاً من الاستقرار السياسي، فالحروب بين البلدان النجدية ظلت قائمة، والصراع بين قبائلها المختلفة استمر حاداً عنيفاً)... فإذا كانت نجد - محل ظهور وانطلاق هذه الدعوة - ليست تحت سيطرة العثمانيين، فكيف ترد هذه الشبهة ويظن أن الشيخ قد خرج على دولة الخلافة ؟. واستكمالاً لهذا المبحث نذكر بعض جواب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على ذلك الاعتراض، يقول الشيخ عبد العزيز: (لم يخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة العثمانية - فيما أعلم وأعتقد -، فلم يكن في نجد رئاسة ولا إمارة للأتراك بل كانت نجد إمارات صغيرة وقرى متناثرة، وعلى كل بلدة أو قرية - مهما صغرت - أمير مستقل … وهي إمارات بينها قتال وحروب ومشاجرات، والشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخرج على دولة الخلافة، وإنما خرج على أوضاع فاسدة في بلده، فجاهد في الله حق جهاده وصابر وثابر حتى امتد نور هذه الدعوة إلى البلاد الأخرى …). ويجيب الشيخ محمد نسيب الرفاعي على من ادعى أن هذه الدعوة حركة انقلابية المراد منها خلع الخليفة العثماني، وإعادة الخلافة إلى العرب، فكان مما قاله: (لم يكن ليخطر على بال الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن ينقلب على خليفة المسلمين ولا مرّ بخاطره ذلك.. ولكن الملتفين حول الخليفة إذ ذاك من الطرقيين المتصوفة قلبوا له الأخبار، وشوهوها، ليوغروا صدر الخليفة عليهم، وحرضوه عليهم بحجة أنهم أهل حركة انقلابية على الخليفة نفسه، تقصد إرجاع الخلافة إلى العرب.. مع أن من صميم عقيدة الشيخ رحمه الله التي هي العقيدة الإسلامية الحقة أنه لا تنقض الأيدي من طاعة الخليفة القائم إلا أن يروا فيه كفراً بواحاً صراحاً، ولم ير الشيخ شيئاً من هذا حتى يدعو الناس إلى خلع الخليفة، حتى ولو كان الخليفة فاسقاً في ذاته، إن لم يصل فسقه إلى درجة الكفر البواح الصراح، فلا يجوز الانقلاب عليه، ولا الانتقاض على حكمه، وأن الشرع يخالف القيام على السلطان إلا في حالات الكفر البواح الصراح، حتى وإن الحركة – من أولها إلى آخرها – لم يكن للخليفة والخلافة أي علاقة في الدعوة ألبتة، حتى ولما استتب لهم الأمر في نجد والحجاز، أنهم انتقضوا على الخليفة، ولم يكن للخليفة ذكر قط في مراحل الدعوة..). يتبين – من خلال النصّيْن السابقين – جانب من موقف الشيخ من دولة الخلافة فليس هناك عداء أو خصومة لدولة الخلافة. ولذا يقول الدكتور عجيل النشمي: (نستطيع القول باطمئنان أن كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس فيها تصريح بموقف عدائي ضد دولة الخلافة. - ويقول أيضا: ولم نعثر على أي فتوى له تكفر الدولة العثمانية بل حصر افتاءاته في البوادي القريبة منه التي كان على علم بأنها على شرك..). بل – كما يقول النشمي – أن موقفه من دولة الخلافة هو موقف الناصح الآمر بالمعروف، المنكر لما يخالف الشرع دون أن يتعداه إلى الصدام المسلح، بل كان يتجنبه ويتحاشاه، كما هو واضح في موقفه من الأشراف الذين يحكمون الحجاز باسم دولة الخلافة. ويذكر النشمي بعض الأحداث التاريخية – في زمن الشيخ – التي تثبت ما كان عليه الشيخ الإمام من نبل الموقف، وتقدير الدولة العثمانية وإجلالها... وبهذه النقول المتنوعة ينكشف زيف هذه الشبهة، وتهافتها أمام البراهين العلمية الواضحة من رسائل الشيخ الإمام ومؤلفاته، كما يظهر زيف الشبهة أمام الحقائق التاريخية التي كتبها المنصفون".
أقول: هذا الكلام الذي سماه صاحبه بالبراهين العلمية الواضحة والحقائق التاريخية ليس إلا مجموعة مغالطات لا تمتّ إلى البحث العلمي النزيه بصلة. وإليك الدليل:
1.الوهابية حركة دينية سياسية أسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب واستمرت بعده إلى يومنا هذا، فليست محصورة في شخص المؤسس حتى يستدلّ على موقفها من دولة الخلافة العثمانية من كتابات المؤسس فقط بل يجب أن ينظر إلى الثقافة الوهابية ككلّ وتاريخها من خلال مواقف رجالها كلّهم الذين ورثوا دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب وساروا على نهجه. فالكاتب يدافع عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويؤكّد لنا أنّه لم يكفّر الخلافة العثمانية ولم يكن عدوا لها، ولكنه نسي الحروب التي شنّها أمراء الوهابية على الخلافة ومنهم سعود الذي تحدّى "الدولة العثمانية تحديا صارخا وحاربها، وانتصر عليها خلال فترة من الزمن" (تاريخ البلاد العربية السعودية، للدكتور منير العجلاني، ج2 ص10)، ونسي علماء الوهابية الذين كفروا الخلافة العثمانية ومنهم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف القائل (في الدرر السنية، ج9 ص429): "من لم يعرف كفر الدولة [أي الخلافة العثمانية]، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله، فإن اعتقد مع ذلك: أن الدولة مسلمون، فهو أشد وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله، وأشرك به، ومن جرهم وأعانهم على المسلمين بأي إعانة فهي ردة صريحة". فهل خالف هؤلاء الوهابية منهج شيخهم أم ساروا على نهجه؟
لقد حاول بعض العلماء من قبل الدفاع عن شخص الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونصرة الحركة الوهابية، إلا أنّهم اصطدموا بحقائق لا يستطيع باحث نزيه تجاهلها وإنكارها. ومن هؤلاء العلماء، الشيخ السيد محمود شكري الألوسي (ت1342هـ\1924م) الذي كان مناصرا لدعوة الشيخ ابن عبد الوهاب فأثنى عليه وعلى حركته في كتاب سماه "تاريخ نجد"، إلا أنه لم يستطع تجاهل بعض الحقائق فسلّم بها قائلا (ص94): "ثم خلف عبد العزيز (سعودا) وهو أيضا قد قاد الجيوش على الخيل العتاق والركائب النجب، وأذعنت له صناديد العرب، وذلت له رؤساؤهم، بيد أنه منع الناس عن الحج، وخرج على السلطان، وغالى في تكفير من خالفهم...". فإن سلمنا جدلا أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب لم يخرج على الخلافة، فهل يعني هذا أنّ غيره من أمراء آل سعود لم يخرجوا على الخلافة؟ والجواب: قطعا لا، لأنّ التاريخ يثبت لنا بيقين أنّ أمراء الدولة الأولى (عبد العزيز وسعود وعبد الله) حاربوا الدولة العثمانية وغزوا مناطق تابعة لها. فهل خالف هؤلاء منهج الشيخ ابن عبد الوهاب أم ساروا على نهجه؟ قال ابن غنّام (في تاريخ نجد، ص89-90): "وقد بقي الشيخ [أي ابن عبد الوهاب] بيده الحلّ والعقد، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد بن سعود ولا من ابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه. فلما فتح الله الرياض... واتسعت ناحية الإسلام، وأمنت السبل، وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفوّض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ منها، ولزم العبادة وتعليم العلم، ولكنّ عبد العزيز لم يكن يقطع أمرا دونه، ولا ينفذّه إلا بإذنه". فقد كان الشيخ ابن عبد الوهاب على علم بسياسة الدولة وهو الذي حدّد أهدافها ومنهجها ونظامها.
2.يصوّر لنا الكاتب حركة الشيخ ابن عبد الوهاب كحركة علمية تثقيفية دعوية تعنى بنشر التوحيد والعلم الشرعي في مناطق سادها الجهل والشرك؛ ولهذا فإنّ الحركة الوهابية لم تهدد نفوذ دولة الخلافة ولم تساهم في هدمها. وهذا الكلام يخالف الحقيقية.
· قال لويس دو كورانسي (في: الوهابيون: تاريخ ما أهمله التاريخ، ص96): "... مات عبد العزيز [سنة1803م] في الوقت الذي دخل فيه مكة منتصرا فأصبح سيد الجزيرة العربية، وأصاب السلطنة العثمانية بأخطر الضربات. والوهابيون مدينون لهذا القائد بانتصاراتهم الأولى. فهو أول من زعزع بصورة علنية حكم السلطان [أي الخليفة] في آسيا، بعد أن انهار في أوروبا، حيث ما زالت بعض المصالح السياسية تسنده".
· وقال السفير السعودي محمد الفهد العيسى (في الدرعية قاعدة الدولة السعودية الأولى، ص81-82): "... توحدت دولة عربية مسلمة بزعامة سعود بن عبد العزيز، مملكة موحدة من نجد والحجاز واليمن وعمان، دولة شاسعة الأطراف، شعارها التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... اضطربت الدولة العثمانية اضطرابا شديدا لتوحيد جزيرة العرب تحت لواء الدرعية، والدعوة الحازمة، وشعرت بالخوف لا على مقامها في جزيرة العرب فحسب، بل خشيت تقلص سيادتها في مصر وسورية والعراق".
· وقالت الدكتورة مديحة أحمد درويش (في تاريخ الدولة السعودية، ص49): "... قامت الدولة السعودية بطرد القاضيين التركيين من مكة والمدينة وبذلك قضت على أي نفوذ روحي للخليفة العثماني على الحرمين، كما أمر الأمير سعود بإخراج من كان في مكة من الجنود والترك، وقد أثر كل هذا بدوره على مركز السلطان العثماني الديني وأحرج موقفه أمام العالم الإسلامي".
· وقال اليكسي فاسيلييف (في تاريخ العربية السعودية، ص110): "إن تمرد الوهابيين على الإسلام العثماني، كما بينت الأحداث، قد تجاوز كثيرا الإطار الديني واتسم بطابع سياسي عسكري. لقد كان ذلك صداما بين نظام الدولة العربي في الجزيرة وبين الإمبراطورية العثمانية. وصارت راية للحركة الوطنية العربية ضد النفوذ العثماني في الجزيرة".
· وقال الدكتور عبد الفتاح حسن أبو علية (في محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ص43): "وتكون الدولة السعودية الأولى بعد دخولها الأحساء قد شكلت خطرا كبيرا يهدد النفوذ العثماني في المنطقة. وكان هذا مؤشرا لقيام صراع طويل ومرير بين الدولة السعودية والدولة العثمانية متمثلا لك في ولاية العراق ثم في الولايات العثمانية العربية الأخرى كولاية الشام وولاية مصر".
· وقال الدكتور فائق حمدي طهبوب (في بحث: الحملة العثمانية على شرقي الجزيرة العربية عام 1871م، ضمن كتاب: الصلات التاريخية بين الخليج العربي والدولة العثمانية، ص251): "وعندما ظهرت الحركة الوهابية في نجد أتت بمفاهيم جديدة تشكل خطرا على فكرة الخلافة العثمانية، ومما زاد الأمر إثارة أن السعوديين استطاعوا إدخال منطقة الأحساء التي تطل على الخليج العربي ضمن أقاليم دولتهم عام 1795 مما أثار حفيظة الدولة العثمانية، فحاولت استرجاعها من السعوديين أكثر من مرة ولكنها فشلت في ذلك".
· وقال آلويس موسيل (في آل سعود: دراسة في تاريخ الدولة السعودية، ص84): "أصبحت في عام 1810م (1225هـ) مناطق عسير والجزء الشمالي من اليمن، ونصف الجزء الغربي من عمان تابعة للدولة السعودية، كما تمكن في هذه الأثناء من إجبار شريف مكة والذي كان آنذاك يقيم في جدة على التبعية له. ونظرا لأن مكة والمدينة كانتا منذ عام 1806م (1220هـ) تابعتين لسعود بن عبد العزيز، فقد أصبح يلقب "خادم الحرمين الشريفين" وبذلك فهو إمام جميع المسلمين؛ إذ إن من تتبع له مكة والمدينة يكون قد حقق أول شروط استحقاق لقب الخليفة. وصل في هذه الأثناء سلطان سعود بن عبد العزيز إلى ذروته، لقد أصبحت جزيرة العرب كلها ليس اسميا فقط وإنما فعليا تحت حكمه....".
فالشيخ ابن عبد الوهاب لم يكن مجرّد عالم يدعو إلى العلم الشرعي بل أسّس دولة (ينظر المقال الأول والثاني) أصابت – وفق تعبير لويس دو كورانسي – " السلطنة العثمانية بأخطر الضربات".
3.ينقل الكاتب عن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز قوله: "والشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخرج على دولة الخلافة، وإنما خرج على أوضاع فاسدة في بلده، فجاهد في الله حق جهاده وصابر وثابر حتى امتد نور هذه الدعوة إلى البلاد الأخرى...". ومراد الكاتب أن يبيّن لنا أنّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان معترفا بالخلافة العثمانية ولم يخطر بباله "أن ينقلب على خليفة المسلمين ولا مرّ بخاطره ذلك"، ولم يفعل الشيخ سوى رفع لواء الجهاد لتطهير نجد وما حولها من الشرك والمشركين. ولكن، هل يجوز في فقه الشيخ ابن عبد الوهاب الجهاد دون إذن الإمام؟
· قال الشيخ الدكتور صالح الفوزان (في شرح عقيد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ص121): " الشرط الثاني: أن يكون الجهاد تحت راية يعقدها ولي أمر المسلمين، وليس كلّ يجاهد، وكلّ يقاتل، وكلّ يكوّن له جماعة، هذا لا يجوز في الإسلام... ولهذا قال الشيخ: (وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام)، أي: إمام للمسلمين يقودهم وينظمهم، ويشرف عليهم، ويعدّ العدّة ويسلّحهم، لا بدّ أن يكون الجهاد تحت راية الإمام وبأمره حتى ينجح الجهاد، أما إذا كان بدون إمام وبدون راية فإنه يؤول إلى الفشل في النهاية، فقوله (مع كل إمام)، دل على أنه يشترط وجود الإمام الذي يقاتل تحت رايته".
· وقال عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن عبد اللطيف (في الدرر السنية، ج9 ص95-96): "ورأينا أمرا يوجب الخلل على أهل الإسلام، ودخول التفرق في دولتهم، وهو الاستبداد من دون إمامهم، بزعمهم أنه بنية الجهاد، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو، وبذل الذمة للعامة، وإقامة الحدود، أنها مختصة بالإمام، ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك، إلا بولايته؛ وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فأخبر بشروطه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فهو المجاهد في سبيل الله" والذي يعقد له راية، ويمضي في أمر من دون إذن الإمام ونيابته، فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله".
· وقال الدكتور حمد بن إبراهيم العثمان (في الجهاد أنواعه وأحكامه والحدّ الفاصل بينه وبين الفوضى، ص151-153): "وحاصل الأمر كما قال موفق الدين أبو محمد المقدسي رحمه الله: (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده)... قال شيخنا العلامة محمد العثيمين رحمه الله... (إنّ الله يخاطب الإمام، إمام الأمة، لا أنه يخاطب كل واحد، ولهذا قال: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، وهذا الرجل إذا خرج بدون إذن الإمام خارج عن الجماعة، ومخطئ على نفسه... ولهذا قال العلماء: يحرم الغزو بدون إذن الإمام)... وكذلك استدلّ بعضهم بقول العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله بأن الجهاد لا يشترط له إذن الإمام، وأذّكر أولا بأن أئمة الدعوة يستدل لهم لا يستدل بهم، ثم لا بدّ من معرفة المحامل التي خرج عليها كلام ذلك الإمام، ولا بدّ من تلمح أن الدولة السعودية اختطف إمامها إبراهيم باشا نائب الدولة العثمانية، وذهب به إلى مصر، فحينئذ لا يقال لرجال الدولة السعودية لا جهاد، لأن إمامكم غير موجود. كما أن سائر أئمة الدعوة جميعا يقولون باشتراط إذن الإمام للجهاد، وأئمة الدعوة يتوافقون لأن مصادر تلقيهم واحدة الكتاب والسنة بفهم السلف، فلماذا يعرض هذا البعض عن إجماع أئمة الدعوة، ويتعسّف لكلام إمام منهم مقطوعا عن المحامل التي خرج عليها؟!... وقد تلمح شيخنا العلامة محمد العثيمين رحمه الله مقاصد الداعين للقتال بدون إذن الإمام، فقال: (لو جاز للناس أن يغزو بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى، كل من شاء ركب فرسه وغزا، ولأنه لو مُكّن الناس من ذلك لحصلت مفسدة عظيمة، فقد تتجهز طائفة من الناس على أنهم يريدون العدو، وهم يريدون الخروج على الإمام، أو يريدون البغي على طائفة من الناس، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، فلهذه الأمور الثلاثة ولغيرها أيضا لا يجوز الغزو إلا بإذن الإمام)".
إذن فنحن أمام "إجماع لأئمة الدعوة" (الوهابية\السلفية) بأنه لا يجوز الجهاد إلا بإذن الإمام. وبناء عليه نسأل "أئمة الدعوة": قلتم إنّ من عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب "وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم"، وإنّه لم يخرج على الخلافة، فهل أخذ الشيخ إذن الإمام أو نائبه للجهاد؟
والجواب – كما يعلمه "أئمة الدعوة" - : لم يأخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذن الإمام بل كوّن دولة وعقد له راية ومضى في أمر القتال وفتوح البلدان وجمع الأنفال والفيء والزكاة وتوزيعها من دون إذن الإمام أي الخليفة. قال ابن بشر (في عنوان المجد في تاريخ نجد، ج1 ص45-46): "ثم أمر الشيخ [أي محمد بن عبد الوهاب] بالجهاد لمن عادى أهل التوحيد وسبه وسب أهله، وحضهم عليه فامتثلوا... فأغاروا أظنه على بعض الأعراب فغنموا ورجعوا... فكانت الأخماس والزكاة وما يجبى إلى الدرعية من دقيق الأشياء وجليلها، كلّها تدفع له يضعها حيث يشاء". فهل يصدق عليه قول الشيخ العثيمين: "وهذا الرجل إذا خرج بدون إذن الإمام خارج عن الجماعة"؟
4.هناك حقيقة تاريخية ثابتة بيقين لا ينكرها أحد، وهي وجود دولة في نجد وما حولها يسميها السعوديون بالدولة الأولى (ينظر المقال الأول والثاني) أسسها محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود سنة (1157هـ/1744م)، وهناك حقيقة تاريخية أخرى ثابتة أيضا بيقين لا ينكرها أحد، وهي وجود دولة عثمانية في ذلك الزمن تعرف لدى المسلمين بأنها خلافة إسلامية. فكيف نفسّر قيام دولة وهابية\سعودية بجانب دولة الخلافة؟
يجيبنا بعض علماء الوهابية بقولهم: لم تكن نجد تحت سيطرة الدولة العثمانية. هذا جوابهم، وهو جواب من يتهرّب من الحقيقة التاريخية والشرعية.
فالحقيقة التاريخية، أنّ الدولة الوهابية\السعودية لم تقتصر على نجد بل افتكّت مناطق تابعة للدولة العثمانية وخاضعة لسيطرتها في الحجاز والشام والعراق. قال محمد بن عمر الفاخري (في تاريخه، ص167-171): "وفي سنة 1222هـ... وفيها حج سعود بالناس وقدم المدينة وأخذ شيئا مما في الحجرة [النبوية]. وفيها حججت حجة الإسلام وحج أخي إبراهيم، ولم يحجّ أحد من أهل الأقطار الشاسعة. وفي سنة 1223ه غزا سعود مغزى كربلاء الثاني... ثم وصلوا أشثاثا [بالعراق] وأخذوها ثم رجعوا. وفيه حج سعود بالناس ولم يحج أحد من أهل الأقطار سوى شرذمة قليلة من أهل المغرب وشرذمة قليلة من العجم... وفي سنة 1225هـ... وفيها غزوة الشام، وصل سعود – رحمه الله – إلى قصر المزيريب ونزل في عين البجّة، ثم نزل عند بصرى وغنم ما شاء الله ثم رجع... وفيها حج سعود بالناس حجته السابعة وأوعب معه رعيته للحج، ولم يحج غيرهم أحد...". فالدولة الوهابية\السعودية لم تقتصر على نجد بل بسطت سيطرتها على مناطق تابعة للخلافة كمكة والمدينة، وتحدت سلطة الخلافة فمنعت الناس من الحج فلم يحج أحد سوى سعود ورعيته، ولم تكتف بذلك بل "غزت" العراق والشام. فهذه الأحداث التاريخية ليست من نسج الخيال ولم يختلقها أعداء الدعوة الوهابية بل هي حقيقة تاريخية ذكرها مؤرخو الدعوة الوهابية وأتباعها كالفاخري.
وأما الحقيقة الشرعية فتتمثّل في جواب سؤال: ما هو حكم الشرع في قيام دولة إسلامية بجانب دولة إسلامية أخرى؟
والجواب نأخذه من فقه الدعوة الوهابية: قال الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف في رسالة إلى جمع من المشايخ (في الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ج9 ص78-80): "... ومن شعارهم: أنّ مخالفة ولي الأمر، وعدم الانقياد له فضيلة، وبعضهم يجعله دينا، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأمر بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة، والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك، وأبدى وأعاد. وهذه: هي التي ورد فيها، ما في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم "إنّ الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم، إلا من الإخلال بهذه الوصية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بسمع وطاعة". فليتأمل: من أراد نجاة نفسه هذا الشرط، الذي لا يوجد الإسلام إلا به، ومع ذلك استحسن الواقع من استحسنه، وأجاز نصب إمامين، وأثبت البيعة لاثنين، كأنه لم يسمع في ذلك نص: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما؛ أوفوا ببيعة الأول فالأول؛ وما قاله الفاروق رضي الله عنه، في بيعة أبي بكر رضي الله عنه عنهما، لما قال الأنصار – أهل السقيفة – منا أمير ومنكم أمير؛ وما ذهب إليه الحكمان، في شأن علي ومعاوية رضي الله عنهما. فلو كان جائزا في دينهم نصب إمامين، لأقرا عليا على الحجاز والعراق، وأقرا معاوية على مصر والشام، ولكن لم يجدا مخرجا إلا بخلع أحدهما، مع أن عليا رضي الله عنه، لم يقاتل معاوية وأهل الشام، إلا لأجل الجماعة، والدخول في الطاعة، وكان محقا في ذلك رضي الله عنه. وما ذهب إليه الحسن، في خلع نفسه، فلو رأى ذلك جائزا له، لاقتصر على الحجاز والعراق، وترك معاوية وما بيده، لكن لما علم أن ذلك لا يستقيم إلا بخلع أحدهما، آثر الباقي وغض الطرف عن الفاني، وخلع نفسه. وكذلك ما قاله إمام هذه الدعوة النجدية، الشيخ محمد رحمه الله تعالى، لما أراد عبد العزيز: أن يجعل أخاه عبد الله، أميرا في الرياض بعد فتحها، أنكر ذلك وأعظمه، وقال هذا قدح وغيبة لإمام المسلمين، وعضده ونصيره؛ لأنه رأى ذلك وسيلة إلى الفرقة، مع أن عبد الله ما يظن به إلا خيرا، وحسبك به رحمه الله".
ويفسّر لنا الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية، ج2 ص13) سبب عدم موافقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على تسمية عبد العزيز لأخيه عبد الله أميرا على الرياض "مع محبته هو أيضا لعبد الله"، فيقول: "وذلك حرصا على وحدة الدولة الناشئة وقوتها، فلو أن البلدان النجدية توزعت بين عدد من أمراء آل مقرن واستقلّ كل واحد منهم بمملكته الصغيرة لما قامت الدولة السعودية الكبرى". وهذا معنى عبارة الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف: "لأنه رأى ذلك وسيلة إلى الفرقة".
ونقول كما قال الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف: "وحسبك به رحمه الله"؛ فقد كان الشيخ المؤسس للدولة الوهابية حريصا على الجماعة عدوا للتفرقة والتجزئة. ولكن، لماذا استقلّ بدولة في الدرعية، ولم يقل "هذا قدح وغيبة لإمام المسلمين"؟
قال جمال زكريا قاسم (في بحث له نشره موقع الدارة السعودي بعنوان: العلاقات السعودية البريطانية في منطقة الخليج العربي في عهد الملك عبد العزيز بن سعود: http://www.darah.info/bohos/Data/11/12-1.htm): "تعددت الدوائر السياسية التي عنيت بالعلاقات بين بريطانيا والملك عبد العزيز بحيث شملت حكومة الهند ووزارة المستعمرات، وأخيراً وزارة الخارجية البريطانية التي انفردت بتلك العلاقات منذ أن عقد الملك عبد العزيز مع الحكومة البريطانية معاهدة جدة في الثاني عشر من ذي القعدة عام 1345هـ/ 20 مايو 1927م.وإذا كانت أصـول العلاقات السعودية البريطانيـــة ترجع إلى عهد الدولتين السعودية الأولى والثانية فقد اتخذت تلك العلاقات وضعاً جديداً على عهد الدولة السعودية الثالثة وذلك منذ أن استرد الملك عبد العزيز الرياض في الخامس من شوال 1319هـ/ 15يناير 1902م حتى وفاته في الثاني من ربيع الأول عام 1373هـ/ نوفمبر 1953م.وقد بدأ الملك عبد العزيز علاقاته الدولية منذ استرداد إمارته بمحاولة إقامة علاقة بينه وبين الإنجليز؛ إذ أدرك أثناء إقامته بالكويت في السنوات الأخيرة من القرن الماضي وأوائل القرن الحالي أهمية الدور الذي تلعبه بريطانيا في منطقة الخليج، وكان من سعة الإدراك بحيث لم يتجاهل ذلك الدور في علاقته بالحكومة البريطانية؛ إذ أتيح له أن يطلع في خلال تلك السنوات على الأوضاع الدولية مما أكسبه معرفة ودراية لم تسبق لأسلافه الذين عاشوا طوال حياتهم في نجد، كما أتيح له في الوقت نفسه أن يلمس عن قرب مدى قوة بريطانيا وتفوقها على كل من الدولة العثمانية والدول الأوربية الأخرى المنافسة لها "روسيا وألمانيا وفرنسا"، ويمكن القول بصفة عامة: إن مدرسة الكويت السياسية على عهد الشيخ مبارك بن الصباح 1314–1334هـ/1896/1915م قد أطلعته على حقائق السياسة الدولية، ودربته على كيفية مواجهة المشكلات الدولية، ولقنته كثيراً من فنون السياسة والحكم. وقد بدأت اتصالات الدولة السعودية الثالثة بالإنجليز بعد أشهر عدة من استرداد الرياض فعلى أثر تأهب الإمام عبد الرحمن الفيصل لمغادرة الكويت في عام 1320هـ/ مايــو 1902م للانضمام إلى ابنه عبد العزيز في الرياض أرسل كتاباً إلى الكولونيل كمبل(Kemball) المقيم البريطاني في بوشهر طالباً إقامة علاقات مع السعوديين بعد أن نجحوا في استرداد إمارتهم، واقترح عقد اتفاقية شبيهة بتلك الاتفاقيات المبرمة مع حكام الخليج، وذكر أن أوسنيكو(Ozinico) القنصل الروسي في بوشهر الذي زاره في الكويت عرض عليه المساعدة إذا ما طلب ذلك كتابة غير أنه رفض العرض الروسي بنصيحة الشيخ مبارك حاكم الكويت. وعلى الرغم من أن كمبل أوضح لحكومته بأن السعوديين قد حققوا انتصارات في نجد إلا أنه توقع أن يشن آل رشيد هجوماً مضاداً، ولذا نصح رؤساءه في حكومة الهند بالتأني في الرد على الرسالة".
وقال علي مفلح محافظة (في بحث له نشره موقع الدارة السعودي بعنوان: العلاقات السعودية البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918م: http://www.darah.info/bohos/Data/11/13-1.htm): "في ظل هذا التنافس الدولي الشديد نجح الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في استعادة ملك أبيه وأجداده في نجد سنة 1319هـ/ 1902م، وسعى منذئذ إلى استعادة بقية المناطق التي كانت تؤلف أجزاءً من الدولة السعودية الثانية. ولعلمه بعلاقة الشيخ مبارك ببريطانيا ومساعدتها له للوقوف في وجه والي البصرة العثماني، سعى الأمير السعودي إلى الاتصال بالبريطانيين لعقد تحالف معهم".
وقالت الدكتورة مديحة أحمد درويش (في تاريخ الدولة السعودية، ص78-79): "كان عبد العزيز يدرك جيدا، منذ إقامته في الكويت، أهمية بريطانيا في المنطقة، ومن ثم سعى جاهدا – بعد أن استرد ملك أجداده – في خطب ود بريطانيا وإقامة جسر من الصداقة بينه وبينها والاستعانة بها للوقوف في وجه ابن الرشيد والأتراك واستعادة الأحساء... وظلت العلاقات متوترة بين الإمام عبد العزيز – الذي أكد رغبته أكثر من مرة وكرر طلبه في أن تساعده بريطانيا وتعقد معه اتفاقية – وبين بريطانيا حتى نشبت الحرب العالمية الأولى...".
وقال لوريمر (في دليل الخليج، ج3 ص1718): "وحين بدأ ابن سعود محاولاته من الكويت في مايو سنة 1902 لإعادة الاستيلاء على عاصمة أسلافه أرسل خطابا إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج التمس فيه النظر إليه (كرجل تربطه بالحكومة البريطانية علاقة وثيقة) وأن (تهتم الحكومة البريطانية المحبة للخير بالنظر إليه)، وذكر أنه قد رفض أثناء وجوده في الكويت عروضا بالمساعدة من جانب مسئول روسي كبير لأنه يعتقد أن مثل هذه العلاقة يجب أن تكون مع الحكومة البريطانية لا غيرها".
وقال (ج3 ص1721-1722): "وطول سنة 1906 ظل الأمير الوهابي يواصل محاولاته للحصول على عون من الحكومة البريطانية، والأقرب إلى الدقة أن نقول أن ابنه عبد العزيز هو الذي ظل يوالي بذل هذه الجهود عن طريق عدة وسطاء... ويبدو أن عبد العزيز الذي كان مصمما على استعادة إقليم الأحساء لأنه أهم أقاليم الوهابيين من الناحية الاقتصادية كان متلهفا على الاطمئنان إلى التمتع بحماية البحرية البريطانية في حالة نجاحه، وأنه أيضا يود أن يرتبط بالحكومة البريطانية باتفاقيات كتلك التي ارتبط بها شيوخ عمان المتصالحة، وهو يوافق على أن يقيم في بلاطه مسئول سياسي بريطاني".
وقال الدكتور رحيم كاظم محمد الهاشمي (في تجارة الأسلحة في الخليج العربي 1881 – 1914م، ص61): "لقد ناصرت بريطانيا ابن سعود في صراعه ضد ابن الرشيد الموالي للعثمانيين، وذلك لإحكام سيطرتها على الخليج العربي، وقد جاءت تعليمات الحكومة البريطانية إلى المقيم السياسي في الخليج العربي بأن لا يتدخل في منع وصول الأسلحة والذخائر إلى الكويت، لأن ابن سعود كان يعتمد عليها في الحصول على ما يحتاجه من الأسلحة وظلت الأسلحة تأتي إلى الجزيرة العربية خلال الأعوام 1900-1904 عن طريق الكويت...". وينظر أيضا: (دليل الخليج، ج. ج. لوريمر، ج6 ص3735).
وجاء في وثائق تاريخ العرب الحديث (ج1 ص60): "كانت السلطات الإنجليزية في الخليج تبذل قصارى جهدها في منع تجارة السلاح على يد تجار من الخليج أو أي تجار، ولكن المصالح البريطانية كانت لها الأولوية. فإن غض الطرف عن تهريب السلاح أو تجارته إلى من هم ضد الدولة العثمانية هو لمصلحة الانجليز. ولهذا كانت الكويت لا تتعرض لتدخلات شديدة من الجانب الانجليزي في موضوع تهريب السلاح إلى عشائر العراق وإلى آل سعود".
وقال حافظ وهبه (ت1967م) سفير المملكة العربية السعودية في بريطانيا (في خمسون عاما في جزيرة العرب، ص83): "وفي 2 يناير 1915 عقد الملك [عبد العزيز] أول معاهدة مع بريطانيا، وهي معاهدة تضعه تحت الحماية البريطانية كسائر أمراء الخليج، فكانت كل اتصالاته برئيس الخليج العربي الذي كان يقيم عادة في (بوشهر) على الساحل الفارسي".
وقال جان جاك بيربي (في جزيرة العرب، ص52-53): "بينما كان لورانس يساند الملك الهاشمي ويعده بتاج إمبراطورية عربية كبرى، نزل عام 1917، في أواسط الجزيرة ضابط سياسي قادم من الكويت يدعى هاري سان جون بريدجر فيلبي، وقد قدر له بعد أن أعلن إسلامه وسمي عبد الله، أن يلعب مدة ثمانية وثلاثين عاما دورا بارزا في الجزيرة العربية. في السادس والعشرين من كانون الأول سنة 1915 كان عبد العزيز قد وقع مع بريطانيا مساعدة مشابهة لتلك التي ربطت بانجلترا كلا من البحرين والكويت. وهذا الأمر يجهله على العموم أو يغفل عن ذكره الكثيرون من المؤرخين، إنه ليس مشرفا لا للعرب ولا للبريطانيين؛ إذ إنه لقاء مساعدة مالية شهرية قدرها خمسة آلاف جنيه إسترليني اعترف سلطان نجد للبريطانيين بحق الإشراف على علاقاته الخارجية. كجميع أمراء الخليج والجنوب العربي تعهد عبد العزيز بن سعود بألا يتنازل عن أي شبر من أراضيه في أي حال من الأحوال، وألا يقيم علاقات مع أية دولة إلا بعد الحصول على موافقة الحكومة البريطانية على ذلك. وتعهدت بريطانيا من جانبها بحماية ابن سعود، مهما كانت الظروف من كل اعتداء خارجي. ويروي الجنرال برموند – كما ذكرت التايمز في ذلك الوقت – أن سلطان نجد تلقى في الحقبة بين 1917 و1924 من التاج البريطاني مبلغ 477310 جنيهات إسترلينية ذهبا. وكثير من المراقبين قد اعتراهم الذهول بسبب الخداع والمكر البريطانيين الذين أمنت بريطانيا عن طريقهما جانب الخصمين العربيين الكبيرين حسين وعبد العزيز، وذلك كي تبقى هي سيدة الموقف أيا كان الغالب، ومع ذلك فقد كان هناك تمييز في المعاملة لأن حسين قدر ثمنه بأربعة أضعاف أكثر من الأمير البدوي. كان يقبض شهريا مبلغ عشرين ألف جنيه إسترليني مقابل خمسة آلاف فقط لعبد العزيز...". وأنظر أيضا "بعثة إلى نجد" لسانت جون فيلبي (ص 258-259): الملحق الثالث: بيان بالسلاح والذخائر المعطاة لابن سعود، والملحق الرابع: بيان عن جميع النقود المعطاة لابن سعود.
وقالت غيرترود بيل الجاسوسة البريطانية الشهيرة باسم الخاتون (في أورواق منسية من تاريخ الجزيرة العربية، ص37-38): "لقد لقيت علاقة ابن سعود ببريطانيا تأييدا شعبيا خلال اجتماع للشيوخ العرب تم عقده في الكويت في 20 نوفمبر [1916] حيث استضافه شيخ الكويت... وقف هؤلاء الشيوخ إلى جوار بعضهم في محبة ووفاق، وأعلنوا التزامهم بالقضية البريطانية، وفي حديث تلقائي غير متوقع أشار ابن سعود إلى أن الحكومة العثمانية قد سعت إلى تفكيك وإضعاف الأمة العربية، بينما السياسة البريطانية قد استهدفت توحيد وتقوية قادة الأمة. وكلما استمع المندوب السياسي السامي إلى هذا الكلام الذي سوف يتردد وتتم مناقشته بين الرجال الذين يتحلقون حول كل نار تشعل في المخيمات، فبالتأكيد سيقطف ثمار سنوات خلت من العمل الصبور في الخليج".
وقال فؤاد حمزة (في قلب جزيرة العرب، ص 303-304): "وحين إعلان الحرب العمومية كان موقف الدولة العثمانية في البلاد العربية موقفا لا يحمد. ولم يشد أزر الدولة في السنوات الأولى من الحرب إلا ابن رشيد الذي ظل على ولائه، وأما الشريف حسين فقد حالف الحلفاء ورفع علم الثورة العربية وحارب إلى جانب الإنكليز والفرنساويين ضد الأتراك والألمان والتف حول الحسين شبان العرب من سائر الأقطار العربية عاقدين عليه الآمال الجسام لتحقيق أمانيهم القومية، وإنشاء دولة عربية جديدة إلا أنه لم يقدر للحسين أن يكون ذلك الباني للمجد العربي. وأما ابن سعود فقد وقف موقف المتفرج في الظاهر وحالف الانكليز ضد ابن الرشيد طيلة مدة الحرب وكذلك فعل الإدريسي".
وقال محمد جلال كشك (في السعوديون والحل الإسلامي، ص246-247): "ويمكن القول أيضا أن ابن رشيد كان مخلصا في تحالفه مع الترك حتى نهاية الحرب، وفي وثائق المكتب الهندي نص رسالتين متبادلتين بين ابن سعود وابن رشيد بتاريخ 22 رجب 1335 – 15 مايو 1917 – 28 رجب 1355 – 20 مايو 1917 (الفارق من اختلاف التقويم الهجري بين حايل والرياض) ورسالة عبد العزيز كانت ردا على طلب الصلح والمسالمة من ابن رشيد، فرد ابن سعود قائلا: (لو كان الأمر بيني وبينك لما كان أحب إلي من حقن دم المسلمين، وجمع شمل العرب. لكن الأمر اليوم، يا أخي، ليس في يدي. فإن شئت الخير لك وللعرب، فإن السلام يمكن أن يتحقق بثلاثة شروط: 1. أن تقطع كل صلة لك بتلك الحكومة الوضيعة التي سببت الخسارة لديننا ودنيانا، وأعني بها الحكومة التركية التي لم تترك إثما لم ترتكبه. 2. أن تصبح صديقا مع الحكومة التي نحن حلفاؤها [أي بريطانيا]، وإخوانك العرب ونحن متعاهدون على توحيد العرب. 3. أن تكون صديقا مع الشريف وتساعده، فأي عربي لا يساعده يجب أن نتجنبه لأن الشريف هو عضو في تحالفنا...)... وقد رد ابن رشيد برسالة مختصرة... فقال: (لقد تلقيت رسالتك 22 رجب 1335 – 14 مايو 1917 وفهمت ما بها. إن الشروط التي ذكرتها غير مقبولة، لا لصالح ديننا ولا دنيانا، ولذا فالأمر على ما هو عليه...)...".
وقال أمين الريحاني (في ملوك العرب، ج2 ص492-494): "... ستة أسابيع انتظر من أصحابي الانكليز إذنا بالسفر إلى – إلى نجد؟ كلا. بل إلى العراق. فإن ابن سعود عند هؤلاء الأماجد شخص مقدس لا يدنو منه غير المقربين من قدس الأقداس على شاطئ التيمس... كان قد مرّ أربعة أشهر ونيف على كتابي إلى السلطان عبد العزيز، فسافرت من عدن إلى بمباي... وقد أخبرني أحدهم... أن عبد الله القصيبي وكيل ابن سعود في البحرين وصل صباح ذاك اليوم إلى بمباي فبادرت في اليوم التالي إليه... وكان موضوع الحديث السلطان عبد العزيز وكتابي إليه. قال الوكيل: نعم وصلنا كتابكم بوقته وأرسلناه إلى حضرة الإمام، فجاء الجواب مرحبا بكم وقد أمرنا بإعداد كل ما يلزم من أسباب السفر والراحة عند وصولكم إلى البحرين. ثم قال: ونحن من زمان ننتظركم، أبطأتم في السفر أو أنكم غيرتم في الخطة التي كتبتم إلى حضرة الإمام عنها. قلت: لا التغيير ولا الإبطاء بيدي. فقال: بل بيد الله. فقلت مستفهما: وأصحابنا الانكليز؟ فضحك الوكيل وسكت...".
وقال (ج2 ص541): "حدثني سموه [أي ابن سعود] قال: يظنّ الناس أننا نقبض من الانكليز مبالغ كبيرة من المال. والحقيقة أنهم لم يدفعوا لنا إلا اليسير مما تستحقه الأعمال التي قمنا بها أثناء الحرب وبعدها...".
وقال (ج2 ص544-545): "فالانكليز يحتكرون الخليج وهم يعززون هذا الاحتكار بنشر سيادتهم على ضفتيه الشرقية والغربية... وهم يأبون أن يكون لسواهم من الأوروبيين أو الأميركيين يد أو رجل أو شراع في تلك البقعة من الأرض. أما في الخليج وفي الجهة العجمية منه فهم آمنون. على أنهم في السواحل العربية لا يطمئنون كل الاطمئنان رغم ما عقدوه من المعاهدات مع أمراء العرب لولا ابن سعود وهو أول المتعاهدين وأكبرهم لما أمنوا التعديات البرية والبحرية. لست مبالغا إذا قلت قد يكون ابن سعود حامي بريطانيا في الخليج...".
وجاء في تقرير للكابتن شكسبير (الجاسوس البريطاني وصديق الملك عبد العزيز) بتاريخ 3 كانون الثاني/ يناير 1915 (قبل مقتله بعشرين يوما): "من المهم أن نلاحظ هنا أن الموقف في جزيرة العرب الوسطىى على قدر استطاعتي أن أحكم عليه من هذا المخيم، هو ودي جدا نحو بريطانية العظمى ومعاد لألمانية ومبغض لتركية... وأقوى عامل، فيما عدى ميول الأمير وأسرته الشخصية، في خلق هذه النتيجة الطيبة في بلاد العرب الوهابية كان البيان البريطاني حول الأماكن المقدسة. فقد قال لي بعض الحاضرين هناك إن عبد العزيز بن سعود أمر بقراءة البيان في أحد مجالسه في "بريدة" حين كان عدد كبير من وجهائه حاضرين، وعلق عليه بأنه دليل على إخلاص بريطانية... ويمكنني القول أن أقول بكل تأكيد إن الحرب الدينية التي كانت الحكومة العثمانية تأملها ليس لها مؤيد في بلاد العرب الوسطى، وابن سعود نفسه قد سجن فعلا ضابطا تركيا في الأحساء أوفد إليه للمساعدة في تدريب قواته على الحرب، وهو يحتفظ بأربعة علماء في "بريدة" في ما يمكن أن يوصف باعتقال شريف. وهؤلاء العلماء الأربعة من المذهب الوهابي ومن سكنة بغداد أو كربلاء، وقد أرسلتهم السلطات التركية للدعوة إلى الجهاد. ويظهر جليا مما تقدم أن الحالة السياسية العامة في أنحاء أقاليم ابن سعود هي أشد ما تكون موافقة لبريطانية". (عن الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، لنجدة فتحي صفوة، ج1 ص386-387).
وجاء (في الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، لنجدة فتحي صفوة، ج1 ص383-385):
"كتاب من الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل السعود إلى المقيم السياسي في الخليج العربي والقنصل العام لجلالته في بوشهر 9 محرم 1333... تسلمنا رسالتكم الفخيمة المؤرخة في 14 ذي الحجة 1333 (3 تشرين الثاني/نوفمبر 1914) التي تفضلتم فيها بأنه سبق لسعادتكم أن ذكرتم في رسالة سابقة أن الحومة البريطانية البهية قد أعلنت الحرب على الحكومة العثمانية وأن تلقيتم من الحكومة البهية تعليمات لدعوتنا إلى التعاون مع صديقينا الكريمين وحليفينا المخلصين – شيخ المحمرة وحاكم الكويت، على مهاجمة البصرة وتحريرها من الحكومة العثمانية، أو المجيء إلى البصرة ومنع وصول أية تعزيزات إليها أو إلى القرنة، إلى أن تصل القوات البريطانية للاستيلاء على المنطقة وتذكرون أيضا تحرير البصرة وعزلها عن السيادة العثمانية، مما هو من أهدافنا الرئيسية في هذا الشأن، وتطلبون إلينا منع نهب البضائع التي تعود للتجارة البريطانيين في مدينة البصرة وما جاورها، وحمايتهم من الأذى وصد القوات التركية عن الأحساء والقطيف، وإجلائها عن مدينتنا. إن التعاون مع الصديقين مع الصديقين المذكورين أعلاه هو واجب علينا. وكذلك علينا أن نبذل مساعينا الحميدة لدى أصدقائنا، لأجل الحكومة البهية، في جميع الأعمال المفيدة التي تتطلبها. وإنني باذل جهودي ومحاولاتي لخدمة المصالح المشتركة لجميع الأصدقاء. ولكم أن تكونوا متأكدين تماما وواثقين من هذه القضية. إنني واحد من أكبر أعوان حكومة بريطانيا العظمى وإنها ستحصل بعون الله على نتائج مرضية، كما ذكرنا لصديق الطرفين الكابتن شكسبير. أما بخصوص الجنود العثمانيين، فإننا لم نسمح لجندي واحد منهم بالبقاء (في هذه الأقسام) بعد احتلالنا وأزحناهم جميعا خارجا. أما فيما يتعلق بالأمور الثلاثة التالية من قبلكم، أي وعد الحكومة البهية بحمايتنا ضد الحكومة العثمانية بمنحنا معونتها وحمايتها لنا في المستقبل ضد أي هجوم أو عدوان قد يأتي من البحر، واعترافها باستقلال مشيختي في جميع أنحاء نجد والأحساء والقطيف، وأن عقد المعاهدات بيننا سيعتمد على وصولنا إلى الكويت. إنني مغادر مقري في هذا التاريخ ومتوجه إلى الكويت وإننا سنجري المفاوضات الشفوية اللازمة، لكي نحصل على موافقة صديقتنا حكومة بريطانيا العظمى. آمل أن تواصلوا دعم الصداقة المخلصة بيننا بإسعاد ذهني بأخبار راحتكم وخيركم وأحوال الحكومة البريطانية. هذا ما لزم بيانه ودمتم موفقين".
"... رسالة من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل بن سعود إلى اللفتنانت كرنل السر برسي كوكس، المقيم السياسي في الخليج العربي مؤرخة في 15 صفر 1333... أما فيما يتعلق بي فقد بعثتم في نفسي الأمل أنه نتيجة ما تم من أمر احتلالكم هذه البلاد فسيكون لدينا سبب أعظم من السابق للرضا، وأن بلادنا ستكون بمأمن من استبداد الحكومة التركية التي عانينا منها في الماضي. إني شاكر لهذا وليس هنالك شك بأنكم أعدل الناس وأكثرهم تقديرا لحقوقنا وحقوق الناس المحترمين. وإنني كنت معتزا دائما بمشاعر الصداقة والاحترام ونحوكم ولا أفكر بأي أمر يكون معارضا لرغباتكم. إنني مقتنع بأنكم أناس صادقون وعادلون... وإننا مقتنعون بأن مصلحتنا وشرفنا يتوقفان على إطاعة أوامركم...".
وجاء (في الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، لنجدة فتحي صفوة، ج2 ص725-727) رسالة من عبد العزيز بن سعود إلى اللورد هاردنغ أوف بنشورست نائب الملك وحاكم الهند العام بتاريخ 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1915م: "تلقيت رسالتكم الكريمة... أخذتها بيد الاحترام وتشرّفت بقراءتها، وفهمت بوضوح ما أخبرتموني به، خصوصا فيما يتعلق بالإعراب عن سروركم لتحقيق الصداقة والنوايا المخلصة التي أحملها من صميم قلبي المخلص نحو جلالة الملك الإمبراطور، زيد مجده، ونحو الحومة البريطانية وحكومة الهند. وسروركم ليس إلا علامة عن سمو مشاعركم ورفعة قدركم. وإنني لذلك أعرب عن شكري وحمدي للاعتبار السامي الذي عبّرتم عنه نحو شخصي... إن سعادتكم تعرفون أن مصالحي مرتبطة مع مصالح صديقتي الحكومة البريطانية ضد جميع الدول المحاربة عموما وضد تركية وحلفائها خصوصا لأنهم أعداؤنا. إن العرب غيري قد تكون لهم بعض الحجج (لاتخاذ موقف مختلف)، ولكنني لا أمل لي إلا في الله وفيكم، لأنكم مخلصون وصادقون، فلا آراء لي سوى آراء أصدقائي...".
وجاء في برقية من السر برسي كوكس إلى دائرة الشؤون الخارجية في حكومة الهند بتاريخ 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1916 (كما في الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، ج2 ص787): "ابن سعود قدم مؤخرا دليلا ملموسا على عدائه للأتراك باعتقاله مندوبهم وتسليمه إلى وكيلنا 700 جمل اشتراها المندوب... وإنني أقترح تخويلي أن أعلن خلال المناسبة نفسها أن جلالته قد منح ابن سعود وسام فارس الإمبراطورية الهندية... ".
وقد تشرّف ابن سعود بقبول الوسام البريطاني وأصبح من "فرسان بريطانيا"، وقال في رسالة إلى السر برسي كوكس (كما في الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، ج2 ص789-790): "... لقد تسلمت بسرور كتابكم المكرم... وقرأته بسرور وأمل طيب حيث أخبرني بوصول البرقية من سعادة وزير الدولة لصاحب الجلالة البريطانية وكذلك حكومة الهند العالية، تشرح عطفهم الجميل نحو صديقكم الحقيقي والمخلص بتقليده الوسام السامي للفارس القائد لإمبراطورية الهند عربونا عن ثقتهم بولائي وموقفي المساعد لقضية سيادة الشريف واتفاقي الثابت مع حكومتكم العظمى. لقد سررت جدا بتنازلهم اللطيف وحسن نظر صاحب الجلالة. ولا شك أن ذلك يعود إلى لطفكم البالغ وتقديركم للمخلص... أنا أنتظر اليوم حضوركم في المجلس الذي يعقده أخي العزيز الشيخ جابر، وسيحصل لي الشرف بتقليدكم إياي الوسام الرفيع".
هل خرج الوهابية على الخلافة العثمانية؟
http://azeytouna.net/index.php/2012-09-24-14-14-53/item/5392-7
يقول الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف (في دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص233-240): "ادعى بعض خصوم الدعوة السلفية أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب قد خرج على دولة الخلافة العثمانية، ففارق بذلك الجماعة، وشق عصا السمع والطاعة… وقبل أن نورد الجواب على شبهة خروج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة، فإنه من المناسب أن نذكر ما كان عليه الشيخ الإمام من اعتقاد وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، لأن الطاعة إنما تكون في المعروف. يقول الشيخ الإمام في رسالته لأهل القصيم: (وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه). ويقول أيضاً: (الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمّر علينا، ولو كان عبداً حبشياً فبين الله له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً. ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند كثير من يدعي العلم، فكيف العمل به). وصرح الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله باعتقادهم في هذه المسألة فقال: (ونرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية). وبعد هذا التقرير الموجز الذي أبان ما كان عليه الشيخ من وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله فإننا نشير إلى مسألة مهمة جواباً عن تلك الشبهة، فهناك سؤال مهم هو: هل كانت نجد موطن هذه الدعوة ومحل نشأتها تحت سيطرة دولة الخلافة العثمانية؟ يجيب الدكتور صالح العبود على هذا السؤال فيقول: (لم تشهد نجد على العموم نفوذاً للدولة العثمانية، فما امتد إليها سلطانها، ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارها حامية تركية في الزمان، الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية، فمن خلال رسالة تركية عنوانها (قوانين آل عثمان مضامين دفتر الديوان) يعني قوانين آل عثمان في ما يتضمنه دفتر (الديوان) ألفها – يمين علي أفندي – الذي كان أميناً للدفاتر الخاقاني سنة 1018هـ الموافقة 1609م من خلال هذه الرسالة يتبين أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري، كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى اثنتين وثلاثون إيالة، منها أربع عشرة إيالة عربية، وبلاد نجد ليست معها ما عدا الإحساء إن اعتبرناه من نجد..). ويقول الدكتور عبد الله العثيمين: (ومهما يكن فإن نجداً لم تشهد نفوذاً مباشراً للعثمانيين عليها قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما أنها لم تشهد نفوذاً قوياً بفرض وجوده على سير الحوادث داخلها لأية جهة كانت، فلا نفوذ بني جبر، أو بني خالد في بعض جهاتها، ولا نفوذ الأشراف في بعض جهاتها الأخرى أحدث نوعاً من الاستقرار السياسي، فالحروب بين البلدان النجدية ظلت قائمة، والصراع بين قبائلها المختلفة استمر حاداً عنيفاً)... فإذا كانت نجد - محل ظهور وانطلاق هذه الدعوة - ليست تحت سيطرة العثمانيين، فكيف ترد هذه الشبهة ويظن أن الشيخ قد خرج على دولة الخلافة ؟. واستكمالاً لهذا المبحث نذكر بعض جواب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على ذلك الاعتراض، يقول الشيخ عبد العزيز: (لم يخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة العثمانية - فيما أعلم وأعتقد -، فلم يكن في نجد رئاسة ولا إمارة للأتراك بل كانت نجد إمارات صغيرة وقرى متناثرة، وعلى كل بلدة أو قرية - مهما صغرت - أمير مستقل … وهي إمارات بينها قتال وحروب ومشاجرات، والشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخرج على دولة الخلافة، وإنما خرج على أوضاع فاسدة في بلده، فجاهد في الله حق جهاده وصابر وثابر حتى امتد نور هذه الدعوة إلى البلاد الأخرى …). ويجيب الشيخ محمد نسيب الرفاعي على من ادعى أن هذه الدعوة حركة انقلابية المراد منها خلع الخليفة العثماني، وإعادة الخلافة إلى العرب، فكان مما قاله: (لم يكن ليخطر على بال الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن ينقلب على خليفة المسلمين ولا مرّ بخاطره ذلك.. ولكن الملتفين حول الخليفة إذ ذاك من الطرقيين المتصوفة قلبوا له الأخبار، وشوهوها، ليوغروا صدر الخليفة عليهم، وحرضوه عليهم بحجة أنهم أهل حركة انقلابية على الخليفة نفسه، تقصد إرجاع الخلافة إلى العرب.. مع أن من صميم عقيدة الشيخ رحمه الله التي هي العقيدة الإسلامية الحقة أنه لا تنقض الأيدي من طاعة الخليفة القائم إلا أن يروا فيه كفراً بواحاً صراحاً، ولم ير الشيخ شيئاً من هذا حتى يدعو الناس إلى خلع الخليفة، حتى ولو كان الخليفة فاسقاً في ذاته، إن لم يصل فسقه إلى درجة الكفر البواح الصراح، فلا يجوز الانقلاب عليه، ولا الانتقاض على حكمه، وأن الشرع يخالف القيام على السلطان إلا في حالات الكفر البواح الصراح، حتى وإن الحركة – من أولها إلى آخرها – لم يكن للخليفة والخلافة أي علاقة في الدعوة ألبتة، حتى ولما استتب لهم الأمر في نجد والحجاز، أنهم انتقضوا على الخليفة، ولم يكن للخليفة ذكر قط في مراحل الدعوة..). يتبين – من خلال النصّيْن السابقين – جانب من موقف الشيخ من دولة الخلافة فليس هناك عداء أو خصومة لدولة الخلافة. ولذا يقول الدكتور عجيل النشمي: (نستطيع القول باطمئنان أن كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس فيها تصريح بموقف عدائي ضد دولة الخلافة. - ويقول أيضا: ولم نعثر على أي فتوى له تكفر الدولة العثمانية بل حصر افتاءاته في البوادي القريبة منه التي كان على علم بأنها على شرك..). بل – كما يقول النشمي – أن موقفه من دولة الخلافة هو موقف الناصح الآمر بالمعروف، المنكر لما يخالف الشرع دون أن يتعداه إلى الصدام المسلح، بل كان يتجنبه ويتحاشاه، كما هو واضح في موقفه من الأشراف الذين يحكمون الحجاز باسم دولة الخلافة. ويذكر النشمي بعض الأحداث التاريخية – في زمن الشيخ – التي تثبت ما كان عليه الشيخ الإمام من نبل الموقف، وتقدير الدولة العثمانية وإجلالها... وبهذه النقول المتنوعة ينكشف زيف هذه الشبهة، وتهافتها أمام البراهين العلمية الواضحة من رسائل الشيخ الإمام ومؤلفاته، كما يظهر زيف الشبهة أمام الحقائق التاريخية التي كتبها المنصفون".
أقول: هذا الكلام الذي سماه صاحبه بالبراهين العلمية الواضحة والحقائق التاريخية ليس إلا مجموعة مغالطات لا تمتّ إلى البحث العلمي النزيه بصلة. وإليك الدليل:
1.الوهابية حركة دينية سياسية أسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب واستمرت بعده إلى يومنا هذا، فليست محصورة في شخص المؤسس حتى يستدلّ على موقفها من دولة الخلافة العثمانية من كتابات المؤسس فقط بل يجب أن ينظر إلى الثقافة الوهابية ككلّ وتاريخها من خلال مواقف رجالها كلّهم الذين ورثوا دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب وساروا على نهجه. فالكاتب يدافع عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويؤكّد لنا أنّه لم يكفّر الخلافة العثمانية ولم يكن عدوا لها، ولكنه نسي الحروب التي شنّها أمراء الوهابية على الخلافة ومنهم سعود الذي تحدّى "الدولة العثمانية تحديا صارخا وحاربها، وانتصر عليها خلال فترة من الزمن" (تاريخ البلاد العربية السعودية، للدكتور منير العجلاني، ج2 ص10)، ونسي علماء الوهابية الذين كفروا الخلافة العثمانية ومنهم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف القائل (في الدرر السنية، ج9 ص429): "من لم يعرف كفر الدولة [أي الخلافة العثمانية]، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله، فإن اعتقد مع ذلك: أن الدولة مسلمون، فهو أشد وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله، وأشرك به، ومن جرهم وأعانهم على المسلمين بأي إعانة فهي ردة صريحة". فهل خالف هؤلاء الوهابية منهج شيخهم أم ساروا على نهجه؟
لقد حاول بعض العلماء من قبل الدفاع عن شخص الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونصرة الحركة الوهابية، إلا أنّهم اصطدموا بحقائق لا يستطيع باحث نزيه تجاهلها وإنكارها. ومن هؤلاء العلماء، الشيخ السيد محمود شكري الألوسي (ت1342هـ\1924م) الذي كان مناصرا لدعوة الشيخ ابن عبد الوهاب فأثنى عليه وعلى حركته في كتاب سماه "تاريخ نجد"، إلا أنه لم يستطع تجاهل بعض الحقائق فسلّم بها قائلا (ص94): "ثم خلف عبد العزيز (سعودا) وهو أيضا قد قاد الجيوش على الخيل العتاق والركائب النجب، وأذعنت له صناديد العرب، وذلت له رؤساؤهم، بيد أنه منع الناس عن الحج، وخرج على السلطان، وغالى في تكفير من خالفهم...". فإن سلمنا جدلا أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب لم يخرج على الخلافة، فهل يعني هذا أنّ غيره من أمراء آل سعود لم يخرجوا على الخلافة؟ والجواب: قطعا لا، لأنّ التاريخ يثبت لنا بيقين أنّ أمراء الدولة الأولى (عبد العزيز وسعود وعبد الله) حاربوا الدولة العثمانية وغزوا مناطق تابعة لها. فهل خالف هؤلاء منهج الشيخ ابن عبد الوهاب أم ساروا على نهجه؟ قال ابن غنّام (في تاريخ نجد، ص89-90): "وقد بقي الشيخ [أي ابن عبد الوهاب] بيده الحلّ والعقد، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد بن سعود ولا من ابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه. فلما فتح الله الرياض... واتسعت ناحية الإسلام، وأمنت السبل، وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفوّض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ منها، ولزم العبادة وتعليم العلم، ولكنّ عبد العزيز لم يكن يقطع أمرا دونه، ولا ينفذّه إلا بإذنه". فقد كان الشيخ ابن عبد الوهاب على علم بسياسة الدولة وهو الذي حدّد أهدافها ومنهجها ونظامها.
2.يصوّر لنا الكاتب حركة الشيخ ابن عبد الوهاب كحركة علمية تثقيفية دعوية تعنى بنشر التوحيد والعلم الشرعي في مناطق سادها الجهل والشرك؛ ولهذا فإنّ الحركة الوهابية لم تهدد نفوذ دولة الخلافة ولم تساهم في هدمها. وهذا الكلام يخالف الحقيقية.
· قال لويس دو كورانسي (في: الوهابيون: تاريخ ما أهمله التاريخ، ص96): "... مات عبد العزيز [سنة1803م] في الوقت الذي دخل فيه مكة منتصرا فأصبح سيد الجزيرة العربية، وأصاب السلطنة العثمانية بأخطر الضربات. والوهابيون مدينون لهذا القائد بانتصاراتهم الأولى. فهو أول من زعزع بصورة علنية حكم السلطان [أي الخليفة] في آسيا، بعد أن انهار في أوروبا، حيث ما زالت بعض المصالح السياسية تسنده".
· وقال السفير السعودي محمد الفهد العيسى (في الدرعية قاعدة الدولة السعودية الأولى، ص81-82): "... توحدت دولة عربية مسلمة بزعامة سعود بن عبد العزيز، مملكة موحدة من نجد والحجاز واليمن وعمان، دولة شاسعة الأطراف، شعارها التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... اضطربت الدولة العثمانية اضطرابا شديدا لتوحيد جزيرة العرب تحت لواء الدرعية، والدعوة الحازمة، وشعرت بالخوف لا على مقامها في جزيرة العرب فحسب، بل خشيت تقلص سيادتها في مصر وسورية والعراق".
· وقالت الدكتورة مديحة أحمد درويش (في تاريخ الدولة السعودية، ص49): "... قامت الدولة السعودية بطرد القاضيين التركيين من مكة والمدينة وبذلك قضت على أي نفوذ روحي للخليفة العثماني على الحرمين، كما أمر الأمير سعود بإخراج من كان في مكة من الجنود والترك، وقد أثر كل هذا بدوره على مركز السلطان العثماني الديني وأحرج موقفه أمام العالم الإسلامي".
· وقال اليكسي فاسيلييف (في تاريخ العربية السعودية، ص110): "إن تمرد الوهابيين على الإسلام العثماني، كما بينت الأحداث، قد تجاوز كثيرا الإطار الديني واتسم بطابع سياسي عسكري. لقد كان ذلك صداما بين نظام الدولة العربي في الجزيرة وبين الإمبراطورية العثمانية. وصارت راية للحركة الوطنية العربية ضد النفوذ العثماني في الجزيرة".
· وقال الدكتور عبد الفتاح حسن أبو علية (في محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ص43): "وتكون الدولة السعودية الأولى بعد دخولها الأحساء قد شكلت خطرا كبيرا يهدد النفوذ العثماني في المنطقة. وكان هذا مؤشرا لقيام صراع طويل ومرير بين الدولة السعودية والدولة العثمانية متمثلا لك في ولاية العراق ثم في الولايات العثمانية العربية الأخرى كولاية الشام وولاية مصر".
· وقال الدكتور فائق حمدي طهبوب (في بحث: الحملة العثمانية على شرقي الجزيرة العربية عام 1871م، ضمن كتاب: الصلات التاريخية بين الخليج العربي والدولة العثمانية، ص251): "وعندما ظهرت الحركة الوهابية في نجد أتت بمفاهيم جديدة تشكل خطرا على فكرة الخلافة العثمانية، ومما زاد الأمر إثارة أن السعوديين استطاعوا إدخال منطقة الأحساء التي تطل على الخليج العربي ضمن أقاليم دولتهم عام 1795 مما أثار حفيظة الدولة العثمانية، فحاولت استرجاعها من السعوديين أكثر من مرة ولكنها فشلت في ذلك".
· وقال آلويس موسيل (في آل سعود: دراسة في تاريخ الدولة السعودية، ص84): "أصبحت في عام 1810م (1225هـ) مناطق عسير والجزء الشمالي من اليمن، ونصف الجزء الغربي من عمان تابعة للدولة السعودية، كما تمكن في هذه الأثناء من إجبار شريف مكة والذي كان آنذاك يقيم في جدة على التبعية له. ونظرا لأن مكة والمدينة كانتا منذ عام 1806م (1220هـ) تابعتين لسعود بن عبد العزيز، فقد أصبح يلقب "خادم الحرمين الشريفين" وبذلك فهو إمام جميع المسلمين؛ إذ إن من تتبع له مكة والمدينة يكون قد حقق أول شروط استحقاق لقب الخليفة. وصل في هذه الأثناء سلطان سعود بن عبد العزيز إلى ذروته، لقد أصبحت جزيرة العرب كلها ليس اسميا فقط وإنما فعليا تحت حكمه....".
فالشيخ ابن عبد الوهاب لم يكن مجرّد عالم يدعو إلى العلم الشرعي بل أسّس دولة (ينظر المقال الأول والثاني) أصابت – وفق تعبير لويس دو كورانسي – " السلطنة العثمانية بأخطر الضربات".
3.ينقل الكاتب عن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز قوله: "والشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخرج على دولة الخلافة، وإنما خرج على أوضاع فاسدة في بلده، فجاهد في الله حق جهاده وصابر وثابر حتى امتد نور هذه الدعوة إلى البلاد الأخرى...". ومراد الكاتب أن يبيّن لنا أنّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان معترفا بالخلافة العثمانية ولم يخطر بباله "أن ينقلب على خليفة المسلمين ولا مرّ بخاطره ذلك"، ولم يفعل الشيخ سوى رفع لواء الجهاد لتطهير نجد وما حولها من الشرك والمشركين. ولكن، هل يجوز في فقه الشيخ ابن عبد الوهاب الجهاد دون إذن الإمام؟
· قال الشيخ الدكتور صالح الفوزان (في شرح عقيد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ص121): " الشرط الثاني: أن يكون الجهاد تحت راية يعقدها ولي أمر المسلمين، وليس كلّ يجاهد، وكلّ يقاتل، وكلّ يكوّن له جماعة، هذا لا يجوز في الإسلام... ولهذا قال الشيخ: (وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام)، أي: إمام للمسلمين يقودهم وينظمهم، ويشرف عليهم، ويعدّ العدّة ويسلّحهم، لا بدّ أن يكون الجهاد تحت راية الإمام وبأمره حتى ينجح الجهاد، أما إذا كان بدون إمام وبدون راية فإنه يؤول إلى الفشل في النهاية، فقوله (مع كل إمام)، دل على أنه يشترط وجود الإمام الذي يقاتل تحت رايته".
· وقال عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن عبد اللطيف (في الدرر السنية، ج9 ص95-96): "ورأينا أمرا يوجب الخلل على أهل الإسلام، ودخول التفرق في دولتهم، وهو الاستبداد من دون إمامهم، بزعمهم أنه بنية الجهاد، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو، وبذل الذمة للعامة، وإقامة الحدود، أنها مختصة بالإمام، ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك، إلا بولايته؛ وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فأخبر بشروطه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فهو المجاهد في سبيل الله" والذي يعقد له راية، ويمضي في أمر من دون إذن الإمام ونيابته، فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله".
· وقال الدكتور حمد بن إبراهيم العثمان (في الجهاد أنواعه وأحكامه والحدّ الفاصل بينه وبين الفوضى، ص151-153): "وحاصل الأمر كما قال موفق الدين أبو محمد المقدسي رحمه الله: (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده)... قال شيخنا العلامة محمد العثيمين رحمه الله... (إنّ الله يخاطب الإمام، إمام الأمة، لا أنه يخاطب كل واحد، ولهذا قال: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، وهذا الرجل إذا خرج بدون إذن الإمام خارج عن الجماعة، ومخطئ على نفسه... ولهذا قال العلماء: يحرم الغزو بدون إذن الإمام)... وكذلك استدلّ بعضهم بقول العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله بأن الجهاد لا يشترط له إذن الإمام، وأذّكر أولا بأن أئمة الدعوة يستدل لهم لا يستدل بهم، ثم لا بدّ من معرفة المحامل التي خرج عليها كلام ذلك الإمام، ولا بدّ من تلمح أن الدولة السعودية اختطف إمامها إبراهيم باشا نائب الدولة العثمانية، وذهب به إلى مصر، فحينئذ لا يقال لرجال الدولة السعودية لا جهاد، لأن إمامكم غير موجود. كما أن سائر أئمة الدعوة جميعا يقولون باشتراط إذن الإمام للجهاد، وأئمة الدعوة يتوافقون لأن مصادر تلقيهم واحدة الكتاب والسنة بفهم السلف، فلماذا يعرض هذا البعض عن إجماع أئمة الدعوة، ويتعسّف لكلام إمام منهم مقطوعا عن المحامل التي خرج عليها؟!... وقد تلمح شيخنا العلامة محمد العثيمين رحمه الله مقاصد الداعين للقتال بدون إذن الإمام، فقال: (لو جاز للناس أن يغزو بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى، كل من شاء ركب فرسه وغزا، ولأنه لو مُكّن الناس من ذلك لحصلت مفسدة عظيمة، فقد تتجهز طائفة من الناس على أنهم يريدون العدو، وهم يريدون الخروج على الإمام، أو يريدون البغي على طائفة من الناس، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، فلهذه الأمور الثلاثة ولغيرها أيضا لا يجوز الغزو إلا بإذن الإمام)".
إذن فنحن أمام "إجماع لأئمة الدعوة" (الوهابية\السلفية) بأنه لا يجوز الجهاد إلا بإذن الإمام. وبناء عليه نسأل "أئمة الدعوة": قلتم إنّ من عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب "وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم"، وإنّه لم يخرج على الخلافة، فهل أخذ الشيخ إذن الإمام أو نائبه للجهاد؟
والجواب – كما يعلمه "أئمة الدعوة" - : لم يأخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذن الإمام بل كوّن دولة وعقد له راية ومضى في أمر القتال وفتوح البلدان وجمع الأنفال والفيء والزكاة وتوزيعها من دون إذن الإمام أي الخليفة. قال ابن بشر (في عنوان المجد في تاريخ نجد، ج1 ص45-46): "ثم أمر الشيخ [أي محمد بن عبد الوهاب] بالجهاد لمن عادى أهل التوحيد وسبه وسب أهله، وحضهم عليه فامتثلوا... فأغاروا أظنه على بعض الأعراب فغنموا ورجعوا... فكانت الأخماس والزكاة وما يجبى إلى الدرعية من دقيق الأشياء وجليلها، كلّها تدفع له يضعها حيث يشاء". فهل يصدق عليه قول الشيخ العثيمين: "وهذا الرجل إذا خرج بدون إذن الإمام خارج عن الجماعة"؟
4.هناك حقيقة تاريخية ثابتة بيقين لا ينكرها أحد، وهي وجود دولة في نجد وما حولها يسميها السعوديون بالدولة الأولى (ينظر المقال الأول والثاني) أسسها محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود سنة (1157هـ/1744م)، وهناك حقيقة تاريخية أخرى ثابتة أيضا بيقين لا ينكرها أحد، وهي وجود دولة عثمانية في ذلك الزمن تعرف لدى المسلمين بأنها خلافة إسلامية. فكيف نفسّر قيام دولة وهابية\سعودية بجانب دولة الخلافة؟
يجيبنا بعض علماء الوهابية بقولهم: لم تكن نجد تحت سيطرة الدولة العثمانية. هذا جوابهم، وهو جواب من يتهرّب من الحقيقة التاريخية والشرعية.
فالحقيقة التاريخية، أنّ الدولة الوهابية\السعودية لم تقتصر على نجد بل افتكّت مناطق تابعة للدولة العثمانية وخاضعة لسيطرتها في الحجاز والشام والعراق. قال محمد بن عمر الفاخري (في تاريخه، ص167-171): "وفي سنة 1222هـ... وفيها حج سعود بالناس وقدم المدينة وأخذ شيئا مما في الحجرة [النبوية]. وفيها حججت حجة الإسلام وحج أخي إبراهيم، ولم يحجّ أحد من أهل الأقطار الشاسعة. وفي سنة 1223ه غزا سعود مغزى كربلاء الثاني... ثم وصلوا أشثاثا [بالعراق] وأخذوها ثم رجعوا. وفيه حج سعود بالناس ولم يحج أحد من أهل الأقطار سوى شرذمة قليلة من أهل المغرب وشرذمة قليلة من العجم... وفي سنة 1225هـ... وفيها غزوة الشام، وصل سعود – رحمه الله – إلى قصر المزيريب ونزل في عين البجّة، ثم نزل عند بصرى وغنم ما شاء الله ثم رجع... وفيها حج سعود بالناس حجته السابعة وأوعب معه رعيته للحج، ولم يحج غيرهم أحد...". فالدولة الوهابية\السعودية لم تقتصر على نجد بل بسطت سيطرتها على مناطق تابعة للخلافة كمكة والمدينة، وتحدت سلطة الخلافة فمنعت الناس من الحج فلم يحج أحد سوى سعود ورعيته، ولم تكتف بذلك بل "غزت" العراق والشام. فهذه الأحداث التاريخية ليست من نسج الخيال ولم يختلقها أعداء الدعوة الوهابية بل هي حقيقة تاريخية ذكرها مؤرخو الدعوة الوهابية وأتباعها كالفاخري.
وأما الحقيقة الشرعية فتتمثّل في جواب سؤال: ما هو حكم الشرع في قيام دولة إسلامية بجانب دولة إسلامية أخرى؟
والجواب نأخذه من فقه الدعوة الوهابية: قال الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف في رسالة إلى جمع من المشايخ (في الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ج9 ص78-80): "... ومن شعارهم: أنّ مخالفة ولي الأمر، وعدم الانقياد له فضيلة، وبعضهم يجعله دينا، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأمر بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة، والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك، وأبدى وأعاد. وهذه: هي التي ورد فيها، ما في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم "إنّ الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم، إلا من الإخلال بهذه الوصية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بسمع وطاعة". فليتأمل: من أراد نجاة نفسه هذا الشرط، الذي لا يوجد الإسلام إلا به، ومع ذلك استحسن الواقع من استحسنه، وأجاز نصب إمامين، وأثبت البيعة لاثنين، كأنه لم يسمع في ذلك نص: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما؛ أوفوا ببيعة الأول فالأول؛ وما قاله الفاروق رضي الله عنه، في بيعة أبي بكر رضي الله عنه عنهما، لما قال الأنصار – أهل السقيفة – منا أمير ومنكم أمير؛ وما ذهب إليه الحكمان، في شأن علي ومعاوية رضي الله عنهما. فلو كان جائزا في دينهم نصب إمامين، لأقرا عليا على الحجاز والعراق، وأقرا معاوية على مصر والشام، ولكن لم يجدا مخرجا إلا بخلع أحدهما، مع أن عليا رضي الله عنه، لم يقاتل معاوية وأهل الشام، إلا لأجل الجماعة، والدخول في الطاعة، وكان محقا في ذلك رضي الله عنه. وما ذهب إليه الحسن، في خلع نفسه، فلو رأى ذلك جائزا له، لاقتصر على الحجاز والعراق، وترك معاوية وما بيده، لكن لما علم أن ذلك لا يستقيم إلا بخلع أحدهما، آثر الباقي وغض الطرف عن الفاني، وخلع نفسه. وكذلك ما قاله إمام هذه الدعوة النجدية، الشيخ محمد رحمه الله تعالى، لما أراد عبد العزيز: أن يجعل أخاه عبد الله، أميرا في الرياض بعد فتحها، أنكر ذلك وأعظمه، وقال هذا قدح وغيبة لإمام المسلمين، وعضده ونصيره؛ لأنه رأى ذلك وسيلة إلى الفرقة، مع أن عبد الله ما يظن به إلا خيرا، وحسبك به رحمه الله".
ويفسّر لنا الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية، ج2 ص13) سبب عدم موافقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على تسمية عبد العزيز لأخيه عبد الله أميرا على الرياض "مع محبته هو أيضا لعبد الله"، فيقول: "وذلك حرصا على وحدة الدولة الناشئة وقوتها، فلو أن البلدان النجدية توزعت بين عدد من أمراء آل مقرن واستقلّ كل واحد منهم بمملكته الصغيرة لما قامت الدولة السعودية الكبرى". وهذا معنى عبارة الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف: "لأنه رأى ذلك وسيلة إلى الفرقة".
ونقول كما قال الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف: "وحسبك به رحمه الله"؛ فقد كان الشيخ المؤسس للدولة الوهابية حريصا على الجماعة عدوا للتفرقة والتجزئة. ولكن، لماذا استقلّ بدولة في الدرعية، ولم يقل "هذا قدح وغيبة لإمام المسلمين"؟
هل خرج الوهابية على الخلافة العثمانية؟ (2)
قال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق (في فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله، ص77-81): "وأما ما زعمه الكاتب أيضا من أن محمد بن عبد الوهاب خرج على السلطان العثماني عبد الحميد خان الأول وسليم خان الثالث، فهذا كذب محض واختلاق، فمعلوم لكل من قرأ شيئا من التاريخ أن الأشراف في مكة كانوا هم نواب السلطان العثماني في بلاد الحجاز، وهؤلاء الأشراف ما كادوا يسمعون بدعوة ابن عبد الوهاب في الجزيرة حتى خافوا على أنفسهم منها، ورأوا أنها ستسلبهم الإتاوات والسحت الذي يأخذونه من القبور المقامة في بلاد الحجاز، وعلموا أن من دعوة بن عبد الوهاب هدم القبور وتحريم الذبح لها والصلاة عندها، ولذلك سيروا جيوشهم الجيش تلو الجيش يحارب ابن عبد الوهاب في نجد، ولم يقم الشيخ بأكثر من رد العدوان عن نفسه وعن دعوته.. فأين كان في هذا خارجا على السلطان!؟ ومع ذلك أرسل الشيخ محمد عبد الوهاب بوفد إلى الشريف أحمد بن سعيد شريف مكة، وكان على رأس هذا الوفد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، وكان مع هذا الوفد هدايا وتحف كثيرة، وكتب الشيخ ابن عبد الوهاب مع هذا الوفد كتابا للشريف أحمد قال فيه بالنص:
(المعروض لديك أدام الله فضل نعمه عليك حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده سيد الثقلين أن الكتاب لما وصل إلى الخادم "يعني نفسه"، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور)، ثم يقول في ختام رسالته (فإذا كان الله سبحانه قد أخذ ميثاق الأنبياء إن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته، فكيف بنا يا أمته؟ فلابد من الإيمان به، ولابد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذي بعثه الله منهم، وشرفهم على أهل الأرض به، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك يعلم الشريف أعزه الله أن غلمانك من جملة الخدام، ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته] (انظر حياة محمد بن عبد الوهاب ص322).
فإذا كان الشيخ يجعل نفسه من جملة خدام الأشراف، فكيف يكون خارجاً على السلطان؟!...
هذا ومع أن الدولة العثمانية حاربت أتباع ابن عبد الوهاب بدعوى أنهم كفار عن طريق محمد علي باشا والي مصر، إلا أن أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب لم يرفعوا لهم يدا من طاعة فيما يطيعون فيه الله ورسوله، وقد كتب الأمير عبد الله بن سعود مجموعة من الرسائل إلى محمد علي باشا والي مصر والسلطان محمود الغازي العثماني، يعلن في كل واحدة منها أنه عبد من عبيدهم، وأنهم ما قاموا بدعوتهم في نجد إلا إصلاحا لأهلها، وإبعادا لهم عن الشرك والخرافة، وإقامة للصلاة والزكاة فيهم، وإنهم من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني ولواليه محمد علي باشا.
وهذه فصول من الرسالة التي أرسلها الأمير عبد الله بن سعود إلى السلطان محمود الغازي:( بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله الذي جعل للداء العضال دواء، وحسم وألفي نيات الأعداء السيئة بالصلح والصلاح، اللذين كانا أول مانع من الوقوع في المهالك المهلكة، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأصفيائه محمد خاتم أنبيائه الذي بلغ أحسن أنبائه وبعد: فإني أطوف حول الكعبة آمال العبيد التي هي أعتاب دولة مولانا قطب دائرة الوجود، وروح جسد العالم الموجود، وملاذ الحاجز والبادي، ومحط رحال آمال الرائح والغادي، علم الأعلام ، إنسان عين أعيان الأنام، من نام في ظل عدله كل خائف، ولجأ إلى حماه كل عاقل عارف، ذي الأخلاق هي أرق من نسيم الصبا، مع الهيبة التي تحل من أجله الحبا، سلطان البرين، وخاقان البحرين، الذي برز بطلعته طالع السمو، السلطان ابن السلطان، سيدنا السلطان محمود الغازي، وأقدم عريضتي هذه المشتملة على الضراعة، وهي أنه لما كان عبدكم هذا من المسلمين الذين لا ينفكون عن أداء شروط الإسلام، التي هي إعلاء كلمة الشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، ومنع الظلمة من الإضرار بالناس كف أيديهم) ا.هـ. ثم بعد ذلك سرد الأمير عبد الله بن سعود كيف أن أشراف مكة افتروا عليه عند السلطان العثماني لقتاله، وأنهم كتبوا عرائض مزورة إلى السلطات باسم الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد تعلن العصيان، ورفض الحجاج الذين يأتون من الآفاق، ويتابع الأمير رسالته قائلا: (وعلى العموم فإن كل ما نسب إلى عبدكم هذا من أمور الطغيان والخروج كلها ناشئ عن خدعة الشريف المشار إليه "دسيسة"، ثم يقول في ختام رسالته: (قدمت عريضتي هذه التي هي أشهر من المثل السائر مصداقا لصداقتي على أن لا أنفك عن قيد الإطاعة، وأن أعد من عبيدكم القائمين بجميع خدمات الدولة العليا، فهي برهان قاطع يشهد بأني قائم بالدعوات في الأعياد والمحافل وعلى المنابر بدوام عمركم ودولتكم). (انظر الدولة السعودية الأولى لعبد الرحيم عبد الرحيم ص392-393).
وأما كتاب الأمير عبد الله بن سعود أيضا إلى محمد علي باشا والي مصر، فقد كان وافيا مظهرا أن أتباع ابن عبد الوهاب لم يكونوا خوارج، فقد قال في كتابه بعد ديباجة طويلة ومدح لمحمد علي. (وبعد فغير خاف على جنابكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو الناس إليه: أننا جاهدنا الأعراب حتى أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وألزمناهم صيام رمضان وحج بيت الله الحرام: ومنعناهم عن ظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، وعن قطع السبيل والتعرض لحجاج بيت الله الحرام من الوافدين، فبعد ذلك شكوا إلى والي مكة غالب ورمونا بالكذب والبهتان، وخرجونا (أي اتهمونا بأننا خوارج)، وبدعونا، وقالوا فينا ما نحن منه براء، فسير علينا بأجناد وعدد وعدة فأعجزه الله وله الحمد والمنة فقاتلناهم دفعا لشره، ومقابلة لفعله القبيح ومكره، فرده الله بغيظه لم ينل خيرا، واستولينا على الحرمين الشريفين وجدة وينبع، فلما تمكنا من أوطانه فعلنا معه كل جميل، وأقررناه على ما كان تحت يده من البلدان، ووجهنا مدخول البنادر إليه، وأكرمناه غاية الإكرام توقيرا للنسب الشريف، وتعظيما للبلد الحرام).. ثم يقول بعد أن بين مكر الشريف بهم وتزويره رسائل إلى السلطان العثماني باسمهم: (فعلمنا أنه مطلوب الدولة العلية صيانة الممالك الإسلامية، لاسيما الأقطار الحجازية، ومن أعظمها صيانة الحرمين الشريفين، والذود عن حماها الأحمى بلا ريب.. ومنها الدعاء بحضرة سلطان السلاطين -نصره الله تعالى- على المنابر، وكف يد الأذى عن الوارد إلى الممالك المحروسة والصادر).
فإذا كانت هذه هي صورة العلاقات القائمة بين أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب بين الدولة العثمانية والوالي محمد علي باشا فكيف يقال بعد ذلك أن ابن عبد الوهاب خارج على السلطان العثماني وأن هذه هي عقيدة السلف؟!".
أقول: ذكّرني كلام الكاتب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق بمشكلة من مشكلات كتابة التاريخ والتعامل معه - ذكرها الشيخ الطاهر ابن عاشور (في كتابه أليس الصبح بقريب)- وهي: "سوء المأخذ وفساد الاستنتاج". فالتاريخ – كما يقول ابن خلدون في مقدّمته ص36- "هو في ظاهره لا يزيد على إخبار... وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق". فعلى من كتب في التاريخ أن يتحلّى بعمق التحقيق ونزاهة التفكير، وأن يتجنّب الهوى والعصبية والانتقائية والمبالغة في التبرير التي قد تقود إلى التزييف والتزوير. وإليك البيان:
1. علاقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأشراف مكة:
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: "فمعلوم لكل من قرأ شيئا من التاريخ أن الأشراف في مكة كانوا هم نواب السلطان العثماني في بلاد الحجاز، وهؤلاء الأشراف ما كادوا يسمعون بدعوة ابن عبد الوهاب في الجزيرة حتى خافوا على أنفسهم منها... ولذلك سيروا جيوشهم الجيش تلو الجيش يحارب ابن عبد الوهاب في نجد، ولم يقم الشيخ بأكثر من رد العدوان عن نفسه وعن دعوته.. فأين كان في هذا خارجا على السلطان!؟".
وسنجيب عن سؤال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق من خلال بعض الأسئلة:
السؤال الأوّل: من هم أشراف مكّة وما صلتهم بنجد؟
الجواب: أشراف مكة هم حكّام الحجاز، وكما قال الشيخ عبد الرحمن نفسه: ""فمعلوم لكل من قرأ شيئا من التاريخ أن الأشراف في مكة كانوا هم نواب السلطان العثماني في بلاد الحجاز". وأما صلتهم بنجد، فكما قال حسين خلف الشيخ خزعل (في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص317): "... صلة قديمة، وروابطهما قوية ومتينة. والحدود بين القطرين لم تكن واضحة ولا مرسومة. وكان أشراف مكة يسيطرون على بوادي نجد المجاورة لهم ويجبون من قبائلها الزكاة ويتقبلون منهم الهدايا ويقومون بتأديب بعض المتمردين منهم، كما شملت سيطرتهم السراة وبعض أجزاء من تهامة".
نفهم من هذا، أنّ أشراف مكة نواب السلطان العثماني في الحجاز امتدت سيطرتهم باسم الدولة العثمانية على بعض المناطق في نجد، ولا شكّ أنّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يعلم هذا، وبناء عليه نسأل:
السؤال الثاني: هل اتصّل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأشراف مكة نواب السلطان العثماني في الحجاز وبعض المناطق في نجد ليعلن الطاعة والولاء للدولة العثمانية؟
الجواب: لم يتصل الشيخ ابن عبد الوهاب بأشراف مكة، ولم يعلن انضمامه للدولة العثمانية، بل أسّس في الدرعية إمارة\دولة تنفذ الحدود وترفع لواء الجهاد وتجبي الأموال دون إذن الخليفة العثماني أو نائبه. ولهذا، فقد حارب الأشراف الشيخ ابن عبد الوهاب بإذن الخليفة العثماني لإدخاله في طاعتهم التي تعني طاعة الخليفة. قال حسين خلف الشيخ خزعل (في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص318-319):"... تبدّل موقف أشراف مكة نحو الدعوة... وأعلنوا حربهم للدعوة القائمة وقرروا القضاء عليها... وأقرتهم الدولة العثمانية على هذا وشايعتهم...". وأما قول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: "ولم يقم الشيخ بأكثر من رد العدوان عن نفسه وعن دعوته"، فلا نفهم معناه، ولذلك نسأل:
السؤال الثالث: إذا "كان الشيخ يجعل نفسه من جملة خدام الأشراف" – كما يقول الكاتب – ويرى نفسه من أتباع الدولة العثمانية، فلماذا قاتل الأشراف الذين يقاتلون باسم الخليفة؟
الجواب: قد يقال: قاتل الشيخ الأشراف من باب دفع الصائل. وهذا القول غير دقيق؛ لأنّ من فقه الشيخ ابن عبد الوهاب وجوب السمع والطاعة للحاكم وإن جلد ظهرك وأخذ مالك، فلا نتصوّر أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب يبيح ردّ عدوان الحاكم – الذي يجعل نفسه من جملة خدامه كما زعم الكاتب- ودفع صياله بقتاله.
وقد يقال: قاتل الشيخ الأشراف من باب قتال البغاة. وهذا أيضا غير دقيق؛ لأنّ الشيخ ابن عبد الوهاب – كما زعم الكاتب- كان معترفا بسلطة الأشراف عليه، فكيف يقاتلهم قتال البغاة وهم يمثلون السلطة الواجب طاعتها؟
والذي نراه، أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب قاتل الأشراف لأنّه لم يكن يعترف بسلطتهم عليه، ولو اعترف بسلطتهم وخضع لحكمهم – كما يزعم الكاتب – لما قاتلهم لحرمة هذا القتال عنده.
2. رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى الشريف:
وجد الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتاب "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" لحسين خلف الشيخ خزعل ص322 رسالة أرسلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى شريف مكة أحمد بن سعيد (بعد حوالي 30 سنة من قيام دولة الدرعية) وفيها يقول: "يعلم الشريف أعزه الله أن غلمانك من جملة الخدام". وقد اعتبر الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق هذا الكلام من أوضح الأدلة على تابعية الشيخ ابن عبد الوهاب لأشراف مكة مما يعني بالضرورة الاعتراف بسلطة الخلافة العثمانية.
والحقيقة، أنّ عبارة الشيخ ابن عبد الوهاب التي يصف فيها نفسه بالخادم لا تفيد معنى التابعية لسلطة الأشراف؛ لأنّ الشيخ أرسل رسالته إلى الشريف يخاطبه فيها باللين والحكمة طمعا في قبوله لدعوته وتبنيه لأفكاره. قال حسين خلف الشيخ خزعل (ص312-322): "ولما عادت شرافة مكة إلى الشريف أحمد بن سعيد مرة ثانية أراد هذا الشريف أن يحسّن علاقته بالدرعية ويكفّر عن أعمال أسلافه، فكتب كتابا إلى الشيخ محمد ابن عبد الوهاب والأمير عبد العزيز آل سعود عام 1184هـ\1770م يطلب إليهما أن يرسلا إليه عالما من علمائهم ليناظر علماء مكة ويبيّن لهم حقيقة الدعوة التي يدعون إليها، فأوفد إليه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين وأرسلا معه إلى الشريف أحمد هدايا وتحفا كثيرة وزوداه بكتاب جوابا لكتابه هذا نصه". فسياق الرسالة يدلّ على أنّ الشيخ تلطّف في العبارة طمعا في قبول الشريف لدعوته.
وقد يقول قائل: لماذا سوء الظن بالشيخ ابن عبد الوهاب، ولماذا نبحث في سياق الرسالة لنتأوّلها إذا كانت عباراتها واضحة وتفيد الإقرار بتبعية الشيخ لسلطة الأشراف كما فهم الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق؟
والجواب: أنّ كلامنا ليس مبناه على سوء ظنّ بالشيخ ابن عبد الوهاب، وإنما مبناه على أدلّة واضحة لم ينتبه إليها الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق. فالشيخ عبد الرحمن نقل رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى الشريف أحمد من كتاب "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (ص322) ولم ينتبه إلى رسالة أخرى وردت في الكتاب ذاته (ص328-329) أرسلها الشيخ ابن عبد الوهاب إلى الشريف غالب وعلماء مكة، وفيها يقول: "فلما طلب منا الشريف غالب أعزه الله ونصره، امتثلنا، وهو إليكم واصل. فإن كانت المسألة إجماعا، فلا كلام. وإن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فمن عمل من محل ولايته، لا ينكر عليه". وفي تاريخ نجد لابن غنّام (ص174): "... فمن عمل بمذهبه في محلّ ولايته لا ينكر عليه". ومعنى هذا الكلام، أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب يصرّح بعدم خضوعه لسلطة الأشراف، ويرى نفسه مستقلا بولاية يعمل فيها بمذهبه. ولهذا قلنا إن رسالته إلى الشريف أحمد لا تدلّ على اعتراف بسلطته وخضوع لولايته بل هي من قبيل التلطّف في العبارة طمعا في قبول دعوته. فهل يجوز للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يستقلّ بولاية يحكم فيها بجانب دولة الخلافة دون إذن الخليفة؟ أجبنا عن هذا السؤال من قبل.
3. رسائل عبد الله بن سعود إلى الخليفة العثماني ومحمد علي باشا:
وجد الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق بعض الرسائل الموجهة إلى السلطان محمود الغازي وإلى محمد علي باشا منسوبة إلى عبد الله بن سعود، فنقلها ليثبت لنا "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب لم يرفعوا لهم يدا من طاعة فيما يطيعون فيه الله ورسوله... وإنهم من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني ولواليه محمد علي باشا". وقد أخطأ الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في اعتماده الرسائل واستنتاجه منها بصيغة قاطعة ولاء "أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب" للدولة العثمانية وعدم خروجهم عليها؛ وإليك الدليل:
أولا: موقف "أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب" من الدولة العثمانية لا يؤخذ من رسالة – كتبت في ظرف معيّن كما ستراه بعد قليل – إنما يؤخذ من مجموع كتابات أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب عن العثمانيين، ومن مجموع الأحداث والوقائع التي حدثت ووقعت خلال عشرات السنين التي شهدت قيام الدولة الوهابية\السعودية وحركتها في منطقة الجزيرة العربية وما حولها. وإليك بعض الأمثلة:
- قال حسين خلف الشيخ خزعل (في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص386-387) – وهو الكتاب الذي اعتمده الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -: "بعد انسحاب الحملة التي قادها علي باشا على الأحساء استضعفت الدرعية قوات الدولة العثمانية التي في العراق فأرادت أن تهاجمها في عقر دارها فجهزت جيشا من أهالي نجد والجنوب والحجاز وتهامة وغيرهم وأسندت قيادته إلى الأمير سعود وأمرته بمهاجمة الحدود العراقية والتوغل فيها، فسار الأمير سعود على رأس ذلك الجيش في عام 1216هـ\1801م وهاجم به حدود العراق الجنوبية ثم توغل إلى الفرات الأوسط ثم اتجه إلى جهة شفاثة (عين النمر) في لواء كربلاء وعسكر هناك... فلما بلغ الأمير سعود أن الدولة العثمانية سائرة للقائه في مدينة كربلاء أراد أن يفاجئها بالقتال قبل أن تفاجئه، فزحف على مدينة كربلاء... فقتل منهم الكثير في الأسواق والبيوت وقدر عدد القتلى بألفي قتيل واستولت القوات المهاجمة على أموالهم كما استولت على ما كان في داخل القبة المقامة على مرقد الإمام حسين من التحف الثمينة والأحجار الكريمة وأخذت النصيبة الموضوعة على مرقد الإمام وكانت مرصوفة بالأحجار الكريمة التي لا تقدر بثمن". وقال (ص390): "... تم للإمام عبد العزيز بعد جهاد طويل متوال في إعلاء كلمة الله وإخلاص العبادة لله وتنفيذ أحكام شرع الله إخضاع أواسط الجزيرة العربية... وتحدى الدولة العثمانية وهاجمها من جهة العراق...". فهل يدلّ الهجوم على العراق وتحدي الدولة العثمانية على "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب... من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني" أم يدلّ على خلاف ذلك؟
- وقال أمين الريحاني (في تاريخ نجد، ص58-59): "بعد فتح المدينة اتجهت أنظار أهل نجد إلى الشمال فوصلوا في غزواتهم إلى الجوف والبتراء، واجتازوهما إلى حوران والكرك، فوقفوا متنصرين عند أبواب الشام وفلسطين. وقد أرسل الإمام سعود كتبا إلى الولاة هناك يدعوهم فيها إلى دين الله... وفي السنة التالية منع الإمام سعود الحجاج غير الموحدين عن الحج وأخرج من مكة من كان فيها من الترك". فهل يدلّ غزو الشام ومنع "غير الموحدين" من الحج وطرد الترك من مكة على "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب... من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني" أم يدلّ على خلاف ذلك؟
- وقال جون. ب. كيلي (في بريطانيا والخليج، ج1 ص217-218): "... غير أن عبد الله أبلغ المقيم البريطاني في رسالة بعث بها إليه في شهر أكتوبر سنة 1814 بأن هجمات القواسم على السفن غبر البريطانية سوف تستمر وقد ذكر له في تلك الرسالة بأننا نرجو أن تشعروننا من هم رعاياكم وما هي العلامة المميزة لهم لأن سفن المسلمين تجوب البحار باستمرار... والذي يمكن أن تستنتجه من ذلك هو أن حكومة بومباي قد اشترت سلامة مصالحها باعترافها الضمني بحق القواسم في العبث والنهب والسلب بسفن الدول الأخرى. ويؤيد هذا الرأي ما أوضحه الأمير عبد الله في عام 1815 عندما قام رحمة بن جابر... بالاعتداء على إحدى السفن التركية وكانت تحمل تصريحا من المقيم البريطاني في البصرة. وقد كتب عبد الله بعد ذلك إلى بروس في بوشهر يحتج بمنتهى القوة على إصدار تصريح لسفن غير بريطانية، وقال في احتجاجه: (أما هؤلاء الكلاب الأتراك فإنهم خصومي وهم يسعون إلى بذر بذور الشقاق فيما بيننا، أما الذين يمتون إليكم بصلة فإننا لن نسمح لرعايانا بالاعتداء عليهم بأي شكل من الأشكال...)". فهل يدلّ وصف الأتراك بالكلاب على "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب... من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني" أم يدلّ على خلاف ذلك؟
- وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (في المقامات، ص110): "وأما الدول التركية المصرية [الدولة العثمانية وواليها على مصر] فابتلى الله بهم المسلمين لما ردوا حاج الشامي عن الحج، بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر، فطلبوا منهم أن يتركوها، وأن يقيموا الصلاة جماعة، فما حصل منهم ذلك، فردهم سعود رحمه الله تعالى تدينا، فغضبت تلك الدولة التركية، وجرى عندهم أمور يطول عدها، ولا فائدة في ذكرها". فهل هذا كلام من يرى الخلافة العثمانية دولة للمسلمين جميعا تجب طاعتها أم كلام من يرى الخلافة العثمانية دولة تركية غريبة عنه ولا علاقة له بها؟
- وقال أمين الريحاني (في تاريخ نجد، ص57-58): "دخل سعود مكة ظافرا، وكان الشريف غالب وعساكره وأتباعه قد رحلوا إلى جده، فأعطى أهلها الأمان. ثم شرع ورجاله يهدمون القباب التي بنيت فوق القبور. وقد كتب سعود كتابا إلى السلطان سليم الثالث هذا معناه: (من سعود إلى سليم: أما بعد فقد دخلت مكة في الرابع من محرم سنة 1281 وأمنت أهلها على أرواحهم وأموالهم بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية، وألغيت الضرائب إلا ما كان منها حقا...". قال محمد جلال كشك (في: السعوديون والحل الإسلامي، ص140): "وعبارة من سعود إلى سليم وضعت بوعي سياسي، لأن أية صيغة أخرى كانت مستحيلة، فهو لا يستطيع أن يصف نفسه بلقب يحدد سيادته، وإلا فماذا سيقول؟ أمير الدرعية؟ وماذا يفعل أمير الدرعية في مكة؟ ولماذا ذهب إلى العراق ومسقط، وسيذهب إلى الشام؟... أما قوله: "سليم" (حاف) فلتجنب التسليم له بأية صفة، فهو ليس السلطان، فلو سلم بذلك لأقر على نفسه بشق عصا الطاعة. وهو ليس أمير المؤمنين بكل تأكيد...". فكيف يمكن لشخص أن يزعم بعد هذه الحقائق: "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب... من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني"؟
ثانيا: قال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية: عهد الإمام عبد الله بن سعود، ج4 ص29): "أما ما نشرناه في كتابنا من الوثائق المصرية فقليل جدا، أخذناه عن كتاب الأستاذ عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم (الدولة السعودية الأولى)، وما زلنا في شك من صحة الرسائل التي ينسبها المؤلف الفاضل إلى الإمام عبد الله ابن سعود، فأسلوب كتابتها يختلف كثيرا عن الأسلوب المألوف في نجد في تلك الأيام، ويستبعد أن يصدر عن الإمام عبد الله بن سعود مثل الكلام الذي تضمنته...). وقال (ص266-267): "3 رسائل مشكوك في صحتها.. زعموا أن الإمام عبد الله بن سعود أرسلها إلى السلطان ومحمد علي... اكتفينا بهذا القدر اليسير من الرسالة المنسوبة إلى الإمام عبد الله بن سعود، ليشاركنا القارئ شكنا في صحتها بل تثبتنا من وضعها... ملاحظة قيّمة: وقد تلطّف معالي الشيخ حسن آل الشيخ، وزير المعارف في المملكة العربية السعودية، بعد النظر في هذه الرسالة، بكتابة الحاشية الآتية: (إن هذه الرسالة المزعوم صدورها عن الإمام عبد الله إلى السلطان العثماني مكذوبة عليه، وكلماتها لا يمكن أن تصدر عن الإمام عبد الله، لأن بعض ما جاء فيها يتنافى مع كمال العقيدة وعزّة المؤمن)". فهذه الرسائل لم تثبت نسبتها إلى عبد الله بن سعود بل أكّد مصر رسمي في المملكة السعودية من آل الشيخ عدم صحة الرسالة المرسلة إلى السلطان العثماني، فكيف يستدلّ بها الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ويبني عليها استنتاجات بصيغة قاطعة؟
ثالثا: إذا افترضنا جدلا صحة الرسائل المنسوبة إلى عبد الله بن سعود، فعلينا أن ننظر في سياقها التاريخي الذي وردت فيه.
- قال لوريمر (في دليل الخليج، ج3 ص1617-1618): "ويبدو أن ضعف القوات المصرية لم يكن واضحا تمام الوضوح للوهابيين، وكان أميرهم لهذا يعتقد أن موارد مصر الكثيرة لا بد ستنتصر في النهاية على مصادره المحدودة.. وظن أن من المناسب أن يتراجع عن الاستمرار في هذا الصراع.. ومهما كان السبب فقد استجاب الأمير عبد الله لعقد تسوية اقترحها طوسون، وتمّ التوصل إلى اتفاقية تخلى فيها الأمير عن مطالبته بالأماكن المقدسة في الحجاز واحتفظ بحقه في زيارتها لهدف الحج فقط، كما اعترف أيضا بسيادة سلطان تركيا عليه".
- وقال جون. ب. كيلي (في بريطانيا والخليج، ج1 ص216):"... عقد طوسون معاهدة مع الأمير عبد الله تعهد فيها الأخير بالتنازل عن مطالبه في الحجاز والأماكن المقدسة وإعلان ولائه للسلطان العثماني بينما تعهد طوسون من جانبه بفتح أبواب الحجاز للوهابيين للأغراض التجارية والدينية كما اعترف بسلطة عبد الله على نجد وعلى جزء من القاسم وهي المقاطعة الواقعة بين نجد والحجاز".
- وقال أمين الريحاني (في تاريخ نجد، ص70): "ولكن عبد الله مثل طوسون من أولئك القواد الذين يضعفون ما عندهم من قوة بما ينقصهم من زعامة وإقدام. وقف الضعيفان في القصيم وقفة المنازل الراغب في الصلح المتظاهر بعكس رغبته، فتناوشت الجنود وتقهقرت، وتخاذلت، وتقاعست، حتى سئم أولو العزم في الجانبين الحالة وقام منهم من يطالب بشيء يشفع بتردد القائدين وتذبذبهما. قال أهل نجد لعبد الله: اخرج إلى طوسون أو اخرج عليه أي صالحه أو حاربه. وقد توفق الفريقان إلى عقد صلح...".
- وقال مانجان (كما في تاريخ البلاد العربية السعودية: عهد الإمام عبد الله بن سعود، للدكتور منير العجلاني، ج4 ص58-59): "إن المعارك هدأت قليلا، بعد استيلاء طوسون على بعض مدن القصيم، فأرسل عبد الله بن سعود إلى طوسون الشيخ أحمد الحنبلي، ليعلن باسمه ونيابة عنه أنه يخضع للسلطان ويعدّ نفسه من رعاياه...".
- وقال اليكسي فاسيلييف (في تاريخ العربية السعودية، ص197-198): "غدت حالة طوسون عصيبة للغاية، فإن ضغط الوهابيين الشديد كان يمكن أن يدمره. بيد أن قوى عبد الله لم تكن كافية على ما يبدو، ثم إنه كان يخشى تمرد أهل القصيم في مؤخرته. وتم توقيع الصلح بشروط تعكس توازن القوى المترجرج هذا... ويقول بوركهاردت كذلك أن عبد الله وافق على اعتبار نفسه من رعية السلطان العثماني. ويؤكد المؤرخ المصري المعاصر أ. عبد الرحيم هذه الحقيقة استنادا إلى وثائق من أرشيفات القاهرة".
وعليه، فالرسائل التي أرسلها عبد الله بن سعود إلى محمد علي باشا كانت بعد الصلح الذي تم بينه وبين طوسون. والدليل عليه قوله في رسالته الأولى (كما في تاريخ البلاد العربية السعودية: عهد الإمام عبد الله بن سعود، للدكتور منير العجلاني، ج4 ص269-271): "نحمدك اللهم على ما منّيت به من الإصلاح، بالصلح الحاقن لدماء المسلمين عن السفك بالسلاح... وفتحنا إلى الصلح طريقا، ولم نزل نجتهد في إبرامه حتى انعقد بين الفريقين..."، وقوله في رسالته الثانية (كما في تاريخ البلاد العربية السعودية: عهد الإمام عبد الله بن سعود، للدكتور منير العجلاني، ج4 ص272): "... وما ذكرتم من القبول لما انبرم من أمر الصلح... فلكم منا العهد والميثاق أننا لما جرى بيننا وبينكم ملتزمون...". وبما أنّ الصلح الذي تمّ بين طوسون وعبد الله قد تضمّن جملة من الشروط منها – وفق رواية بعض المؤرخين ووفق رسالة من طوسون إلى محمد علي- الدخول في طاعة الخليفة والخضوع لسلطانه، فهذا يعني بداهة أنّ عبد الله بن سعود لم يكن قبل الصلح خاضعا للخليفة. ولذا، فإنّ رسائل عبد الله بن سعود إلى الخليفة ومحمد علي حجة على من يقولون بعدم خروج الوهابية على الخلافة وليست حجة لهم؛ لأنها وإن أثبتت الخضوع للسلطان عن كره، فقد أثبتت أيضا الخروج عليه قبل الصلح.
قال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق (في فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله، ص77-81): "وأما ما زعمه الكاتب أيضا من أن محمد بن عبد الوهاب خرج على السلطان العثماني عبد الحميد خان الأول وسليم خان الثالث، فهذا كذب محض واختلاق، فمعلوم لكل من قرأ شيئا من التاريخ أن الأشراف في مكة كانوا هم نواب السلطان العثماني في بلاد الحجاز، وهؤلاء الأشراف ما كادوا يسمعون بدعوة ابن عبد الوهاب في الجزيرة حتى خافوا على أنفسهم منها، ورأوا أنها ستسلبهم الإتاوات والسحت الذي يأخذونه من القبور المقامة في بلاد الحجاز، وعلموا أن من دعوة بن عبد الوهاب هدم القبور وتحريم الذبح لها والصلاة عندها، ولذلك سيروا جيوشهم الجيش تلو الجيش يحارب ابن عبد الوهاب في نجد، ولم يقم الشيخ بأكثر من رد العدوان عن نفسه وعن دعوته.. فأين كان في هذا خارجا على السلطان!؟ ومع ذلك أرسل الشيخ محمد عبد الوهاب بوفد إلى الشريف أحمد بن سعيد شريف مكة، وكان على رأس هذا الوفد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، وكان مع هذا الوفد هدايا وتحف كثيرة، وكتب الشيخ ابن عبد الوهاب مع هذا الوفد كتابا للشريف أحمد قال فيه بالنص:
(المعروض لديك أدام الله فضل نعمه عليك حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده سيد الثقلين أن الكتاب لما وصل إلى الخادم "يعني نفسه"، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور)، ثم يقول في ختام رسالته (فإذا كان الله سبحانه قد أخذ ميثاق الأنبياء إن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته، فكيف بنا يا أمته؟ فلابد من الإيمان به، ولابد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذي بعثه الله منهم، وشرفهم على أهل الأرض به، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك يعلم الشريف أعزه الله أن غلمانك من جملة الخدام، ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته] (انظر حياة محمد بن عبد الوهاب ص322).
فإذا كان الشيخ يجعل نفسه من جملة خدام الأشراف، فكيف يكون خارجاً على السلطان؟!...
هذا ومع أن الدولة العثمانية حاربت أتباع ابن عبد الوهاب بدعوى أنهم كفار عن طريق محمد علي باشا والي مصر، إلا أن أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب لم يرفعوا لهم يدا من طاعة فيما يطيعون فيه الله ورسوله، وقد كتب الأمير عبد الله بن سعود مجموعة من الرسائل إلى محمد علي باشا والي مصر والسلطان محمود الغازي العثماني، يعلن في كل واحدة منها أنه عبد من عبيدهم، وأنهم ما قاموا بدعوتهم في نجد إلا إصلاحا لأهلها، وإبعادا لهم عن الشرك والخرافة، وإقامة للصلاة والزكاة فيهم، وإنهم من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني ولواليه محمد علي باشا.
وهذه فصول من الرسالة التي أرسلها الأمير عبد الله بن سعود إلى السلطان محمود الغازي:( بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله الذي جعل للداء العضال دواء، وحسم وألفي نيات الأعداء السيئة بالصلح والصلاح، اللذين كانا أول مانع من الوقوع في المهالك المهلكة، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأصفيائه محمد خاتم أنبيائه الذي بلغ أحسن أنبائه وبعد: فإني أطوف حول الكعبة آمال العبيد التي هي أعتاب دولة مولانا قطب دائرة الوجود، وروح جسد العالم الموجود، وملاذ الحاجز والبادي، ومحط رحال آمال الرائح والغادي، علم الأعلام ، إنسان عين أعيان الأنام، من نام في ظل عدله كل خائف، ولجأ إلى حماه كل عاقل عارف، ذي الأخلاق هي أرق من نسيم الصبا، مع الهيبة التي تحل من أجله الحبا، سلطان البرين، وخاقان البحرين، الذي برز بطلعته طالع السمو، السلطان ابن السلطان، سيدنا السلطان محمود الغازي، وأقدم عريضتي هذه المشتملة على الضراعة، وهي أنه لما كان عبدكم هذا من المسلمين الذين لا ينفكون عن أداء شروط الإسلام، التي هي إعلاء كلمة الشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، ومنع الظلمة من الإضرار بالناس كف أيديهم) ا.هـ. ثم بعد ذلك سرد الأمير عبد الله بن سعود كيف أن أشراف مكة افتروا عليه عند السلطان العثماني لقتاله، وأنهم كتبوا عرائض مزورة إلى السلطات باسم الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد تعلن العصيان، ورفض الحجاج الذين يأتون من الآفاق، ويتابع الأمير رسالته قائلا: (وعلى العموم فإن كل ما نسب إلى عبدكم هذا من أمور الطغيان والخروج كلها ناشئ عن خدعة الشريف المشار إليه "دسيسة"، ثم يقول في ختام رسالته: (قدمت عريضتي هذه التي هي أشهر من المثل السائر مصداقا لصداقتي على أن لا أنفك عن قيد الإطاعة، وأن أعد من عبيدكم القائمين بجميع خدمات الدولة العليا، فهي برهان قاطع يشهد بأني قائم بالدعوات في الأعياد والمحافل وعلى المنابر بدوام عمركم ودولتكم). (انظر الدولة السعودية الأولى لعبد الرحيم عبد الرحيم ص392-393).
وأما كتاب الأمير عبد الله بن سعود أيضا إلى محمد علي باشا والي مصر، فقد كان وافيا مظهرا أن أتباع ابن عبد الوهاب لم يكونوا خوارج، فقد قال في كتابه بعد ديباجة طويلة ومدح لمحمد علي. (وبعد فغير خاف على جنابكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو الناس إليه: أننا جاهدنا الأعراب حتى أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وألزمناهم صيام رمضان وحج بيت الله الحرام: ومنعناهم عن ظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، وعن قطع السبيل والتعرض لحجاج بيت الله الحرام من الوافدين، فبعد ذلك شكوا إلى والي مكة غالب ورمونا بالكذب والبهتان، وخرجونا (أي اتهمونا بأننا خوارج)، وبدعونا، وقالوا فينا ما نحن منه براء، فسير علينا بأجناد وعدد وعدة فأعجزه الله وله الحمد والمنة فقاتلناهم دفعا لشره، ومقابلة لفعله القبيح ومكره، فرده الله بغيظه لم ينل خيرا، واستولينا على الحرمين الشريفين وجدة وينبع، فلما تمكنا من أوطانه فعلنا معه كل جميل، وأقررناه على ما كان تحت يده من البلدان، ووجهنا مدخول البنادر إليه، وأكرمناه غاية الإكرام توقيرا للنسب الشريف، وتعظيما للبلد الحرام).. ثم يقول بعد أن بين مكر الشريف بهم وتزويره رسائل إلى السلطان العثماني باسمهم: (فعلمنا أنه مطلوب الدولة العلية صيانة الممالك الإسلامية، لاسيما الأقطار الحجازية، ومن أعظمها صيانة الحرمين الشريفين، والذود عن حماها الأحمى بلا ريب.. ومنها الدعاء بحضرة سلطان السلاطين -نصره الله تعالى- على المنابر، وكف يد الأذى عن الوارد إلى الممالك المحروسة والصادر).
فإذا كانت هذه هي صورة العلاقات القائمة بين أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب بين الدولة العثمانية والوالي محمد علي باشا فكيف يقال بعد ذلك أن ابن عبد الوهاب خارج على السلطان العثماني وأن هذه هي عقيدة السلف؟!".
أقول: ذكّرني كلام الكاتب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق بمشكلة من مشكلات كتابة التاريخ والتعامل معه - ذكرها الشيخ الطاهر ابن عاشور (في كتابه أليس الصبح بقريب)- وهي: "سوء المأخذ وفساد الاستنتاج". فالتاريخ – كما يقول ابن خلدون في مقدّمته ص36- "هو في ظاهره لا يزيد على إخبار... وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق". فعلى من كتب في التاريخ أن يتحلّى بعمق التحقيق ونزاهة التفكير، وأن يتجنّب الهوى والعصبية والانتقائية والمبالغة في التبرير التي قد تقود إلى التزييف والتزوير. وإليك البيان:
1. علاقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأشراف مكة:
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: "فمعلوم لكل من قرأ شيئا من التاريخ أن الأشراف في مكة كانوا هم نواب السلطان العثماني في بلاد الحجاز، وهؤلاء الأشراف ما كادوا يسمعون بدعوة ابن عبد الوهاب في الجزيرة حتى خافوا على أنفسهم منها... ولذلك سيروا جيوشهم الجيش تلو الجيش يحارب ابن عبد الوهاب في نجد، ولم يقم الشيخ بأكثر من رد العدوان عن نفسه وعن دعوته.. فأين كان في هذا خارجا على السلطان!؟".
وسنجيب عن سؤال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق من خلال بعض الأسئلة:
السؤال الأوّل: من هم أشراف مكّة وما صلتهم بنجد؟
الجواب: أشراف مكة هم حكّام الحجاز، وكما قال الشيخ عبد الرحمن نفسه: ""فمعلوم لكل من قرأ شيئا من التاريخ أن الأشراف في مكة كانوا هم نواب السلطان العثماني في بلاد الحجاز". وأما صلتهم بنجد، فكما قال حسين خلف الشيخ خزعل (في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص317): "... صلة قديمة، وروابطهما قوية ومتينة. والحدود بين القطرين لم تكن واضحة ولا مرسومة. وكان أشراف مكة يسيطرون على بوادي نجد المجاورة لهم ويجبون من قبائلها الزكاة ويتقبلون منهم الهدايا ويقومون بتأديب بعض المتمردين منهم، كما شملت سيطرتهم السراة وبعض أجزاء من تهامة".
نفهم من هذا، أنّ أشراف مكة نواب السلطان العثماني في الحجاز امتدت سيطرتهم باسم الدولة العثمانية على بعض المناطق في نجد، ولا شكّ أنّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يعلم هذا، وبناء عليه نسأل:
السؤال الثاني: هل اتصّل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأشراف مكة نواب السلطان العثماني في الحجاز وبعض المناطق في نجد ليعلن الطاعة والولاء للدولة العثمانية؟
الجواب: لم يتصل الشيخ ابن عبد الوهاب بأشراف مكة، ولم يعلن انضمامه للدولة العثمانية، بل أسّس في الدرعية إمارة\دولة تنفذ الحدود وترفع لواء الجهاد وتجبي الأموال دون إذن الخليفة العثماني أو نائبه. ولهذا، فقد حارب الأشراف الشيخ ابن عبد الوهاب بإذن الخليفة العثماني لإدخاله في طاعتهم التي تعني طاعة الخليفة. قال حسين خلف الشيخ خزعل (في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص318-319):"... تبدّل موقف أشراف مكة نحو الدعوة... وأعلنوا حربهم للدعوة القائمة وقرروا القضاء عليها... وأقرتهم الدولة العثمانية على هذا وشايعتهم...". وأما قول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: "ولم يقم الشيخ بأكثر من رد العدوان عن نفسه وعن دعوته"، فلا نفهم معناه، ولذلك نسأل:
السؤال الثالث: إذا "كان الشيخ يجعل نفسه من جملة خدام الأشراف" – كما يقول الكاتب – ويرى نفسه من أتباع الدولة العثمانية، فلماذا قاتل الأشراف الذين يقاتلون باسم الخليفة؟
الجواب: قد يقال: قاتل الشيخ الأشراف من باب دفع الصائل. وهذا القول غير دقيق؛ لأنّ من فقه الشيخ ابن عبد الوهاب وجوب السمع والطاعة للحاكم وإن جلد ظهرك وأخذ مالك، فلا نتصوّر أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب يبيح ردّ عدوان الحاكم – الذي يجعل نفسه من جملة خدامه كما زعم الكاتب- ودفع صياله بقتاله.
وقد يقال: قاتل الشيخ الأشراف من باب قتال البغاة. وهذا أيضا غير دقيق؛ لأنّ الشيخ ابن عبد الوهاب – كما زعم الكاتب- كان معترفا بسلطة الأشراف عليه، فكيف يقاتلهم قتال البغاة وهم يمثلون السلطة الواجب طاعتها؟
والذي نراه، أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب قاتل الأشراف لأنّه لم يكن يعترف بسلطتهم عليه، ولو اعترف بسلطتهم وخضع لحكمهم – كما يزعم الكاتب – لما قاتلهم لحرمة هذا القتال عنده.
2. رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى الشريف:
وجد الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتاب "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" لحسين خلف الشيخ خزعل ص322 رسالة أرسلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى شريف مكة أحمد بن سعيد (بعد حوالي 30 سنة من قيام دولة الدرعية) وفيها يقول: "يعلم الشريف أعزه الله أن غلمانك من جملة الخدام". وقد اعتبر الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق هذا الكلام من أوضح الأدلة على تابعية الشيخ ابن عبد الوهاب لأشراف مكة مما يعني بالضرورة الاعتراف بسلطة الخلافة العثمانية.
والحقيقة، أنّ عبارة الشيخ ابن عبد الوهاب التي يصف فيها نفسه بالخادم لا تفيد معنى التابعية لسلطة الأشراف؛ لأنّ الشيخ أرسل رسالته إلى الشريف يخاطبه فيها باللين والحكمة طمعا في قبوله لدعوته وتبنيه لأفكاره. قال حسين خلف الشيخ خزعل (ص312-322): "ولما عادت شرافة مكة إلى الشريف أحمد بن سعيد مرة ثانية أراد هذا الشريف أن يحسّن علاقته بالدرعية ويكفّر عن أعمال أسلافه، فكتب كتابا إلى الشيخ محمد ابن عبد الوهاب والأمير عبد العزيز آل سعود عام 1184هـ\1770م يطلب إليهما أن يرسلا إليه عالما من علمائهم ليناظر علماء مكة ويبيّن لهم حقيقة الدعوة التي يدعون إليها، فأوفد إليه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين وأرسلا معه إلى الشريف أحمد هدايا وتحفا كثيرة وزوداه بكتاب جوابا لكتابه هذا نصه". فسياق الرسالة يدلّ على أنّ الشيخ تلطّف في العبارة طمعا في قبول الشريف لدعوته.
وقد يقول قائل: لماذا سوء الظن بالشيخ ابن عبد الوهاب، ولماذا نبحث في سياق الرسالة لنتأوّلها إذا كانت عباراتها واضحة وتفيد الإقرار بتبعية الشيخ لسلطة الأشراف كما فهم الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق؟
والجواب: أنّ كلامنا ليس مبناه على سوء ظنّ بالشيخ ابن عبد الوهاب، وإنما مبناه على أدلّة واضحة لم ينتبه إليها الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق. فالشيخ عبد الرحمن نقل رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى الشريف أحمد من كتاب "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (ص322) ولم ينتبه إلى رسالة أخرى وردت في الكتاب ذاته (ص328-329) أرسلها الشيخ ابن عبد الوهاب إلى الشريف غالب وعلماء مكة، وفيها يقول: "فلما طلب منا الشريف غالب أعزه الله ونصره، امتثلنا، وهو إليكم واصل. فإن كانت المسألة إجماعا، فلا كلام. وإن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فمن عمل من محل ولايته، لا ينكر عليه". وفي تاريخ نجد لابن غنّام (ص174): "... فمن عمل بمذهبه في محلّ ولايته لا ينكر عليه". ومعنى هذا الكلام، أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب يصرّح بعدم خضوعه لسلطة الأشراف، ويرى نفسه مستقلا بولاية يعمل فيها بمذهبه. ولهذا قلنا إن رسالته إلى الشريف أحمد لا تدلّ على اعتراف بسلطته وخضوع لولايته بل هي من قبيل التلطّف في العبارة طمعا في قبول دعوته. فهل يجوز للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يستقلّ بولاية يحكم فيها بجانب دولة الخلافة دون إذن الخليفة؟ أجبنا عن هذا السؤال من قبل.
3. رسائل عبد الله بن سعود إلى الخليفة العثماني ومحمد علي باشا:
وجد الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق بعض الرسائل الموجهة إلى السلطان محمود الغازي وإلى محمد علي باشا منسوبة إلى عبد الله بن سعود، فنقلها ليثبت لنا "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب لم يرفعوا لهم يدا من طاعة فيما يطيعون فيه الله ورسوله... وإنهم من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني ولواليه محمد علي باشا". وقد أخطأ الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في اعتماده الرسائل واستنتاجه منها بصيغة قاطعة ولاء "أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب" للدولة العثمانية وعدم خروجهم عليها؛ وإليك الدليل:
أولا: موقف "أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب" من الدولة العثمانية لا يؤخذ من رسالة – كتبت في ظرف معيّن كما ستراه بعد قليل – إنما يؤخذ من مجموع كتابات أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب عن العثمانيين، ومن مجموع الأحداث والوقائع التي حدثت ووقعت خلال عشرات السنين التي شهدت قيام الدولة الوهابية\السعودية وحركتها في منطقة الجزيرة العربية وما حولها. وإليك بعض الأمثلة:
- قال حسين خلف الشيخ خزعل (في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص386-387) – وهو الكتاب الذي اعتمده الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -: "بعد انسحاب الحملة التي قادها علي باشا على الأحساء استضعفت الدرعية قوات الدولة العثمانية التي في العراق فأرادت أن تهاجمها في عقر دارها فجهزت جيشا من أهالي نجد والجنوب والحجاز وتهامة وغيرهم وأسندت قيادته إلى الأمير سعود وأمرته بمهاجمة الحدود العراقية والتوغل فيها، فسار الأمير سعود على رأس ذلك الجيش في عام 1216هـ\1801م وهاجم به حدود العراق الجنوبية ثم توغل إلى الفرات الأوسط ثم اتجه إلى جهة شفاثة (عين النمر) في لواء كربلاء وعسكر هناك... فلما بلغ الأمير سعود أن الدولة العثمانية سائرة للقائه في مدينة كربلاء أراد أن يفاجئها بالقتال قبل أن تفاجئه، فزحف على مدينة كربلاء... فقتل منهم الكثير في الأسواق والبيوت وقدر عدد القتلى بألفي قتيل واستولت القوات المهاجمة على أموالهم كما استولت على ما كان في داخل القبة المقامة على مرقد الإمام حسين من التحف الثمينة والأحجار الكريمة وأخذت النصيبة الموضوعة على مرقد الإمام وكانت مرصوفة بالأحجار الكريمة التي لا تقدر بثمن". وقال (ص390): "... تم للإمام عبد العزيز بعد جهاد طويل متوال في إعلاء كلمة الله وإخلاص العبادة لله وتنفيذ أحكام شرع الله إخضاع أواسط الجزيرة العربية... وتحدى الدولة العثمانية وهاجمها من جهة العراق...". فهل يدلّ الهجوم على العراق وتحدي الدولة العثمانية على "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب... من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني" أم يدلّ على خلاف ذلك؟
- وقال أمين الريحاني (في تاريخ نجد، ص58-59): "بعد فتح المدينة اتجهت أنظار أهل نجد إلى الشمال فوصلوا في غزواتهم إلى الجوف والبتراء، واجتازوهما إلى حوران والكرك، فوقفوا متنصرين عند أبواب الشام وفلسطين. وقد أرسل الإمام سعود كتبا إلى الولاة هناك يدعوهم فيها إلى دين الله... وفي السنة التالية منع الإمام سعود الحجاج غير الموحدين عن الحج وأخرج من مكة من كان فيها من الترك". فهل يدلّ غزو الشام ومنع "غير الموحدين" من الحج وطرد الترك من مكة على "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب... من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني" أم يدلّ على خلاف ذلك؟
- وقال جون. ب. كيلي (في بريطانيا والخليج، ج1 ص217-218): "... غير أن عبد الله أبلغ المقيم البريطاني في رسالة بعث بها إليه في شهر أكتوبر سنة 1814 بأن هجمات القواسم على السفن غبر البريطانية سوف تستمر وقد ذكر له في تلك الرسالة بأننا نرجو أن تشعروننا من هم رعاياكم وما هي العلامة المميزة لهم لأن سفن المسلمين تجوب البحار باستمرار... والذي يمكن أن تستنتجه من ذلك هو أن حكومة بومباي قد اشترت سلامة مصالحها باعترافها الضمني بحق القواسم في العبث والنهب والسلب بسفن الدول الأخرى. ويؤيد هذا الرأي ما أوضحه الأمير عبد الله في عام 1815 عندما قام رحمة بن جابر... بالاعتداء على إحدى السفن التركية وكانت تحمل تصريحا من المقيم البريطاني في البصرة. وقد كتب عبد الله بعد ذلك إلى بروس في بوشهر يحتج بمنتهى القوة على إصدار تصريح لسفن غير بريطانية، وقال في احتجاجه: (أما هؤلاء الكلاب الأتراك فإنهم خصومي وهم يسعون إلى بذر بذور الشقاق فيما بيننا، أما الذين يمتون إليكم بصلة فإننا لن نسمح لرعايانا بالاعتداء عليهم بأي شكل من الأشكال...)". فهل يدلّ وصف الأتراك بالكلاب على "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب... من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني" أم يدلّ على خلاف ذلك؟
- وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (في المقامات، ص110): "وأما الدول التركية المصرية [الدولة العثمانية وواليها على مصر] فابتلى الله بهم المسلمين لما ردوا حاج الشامي عن الحج، بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر، فطلبوا منهم أن يتركوها، وأن يقيموا الصلاة جماعة، فما حصل منهم ذلك، فردهم سعود رحمه الله تعالى تدينا، فغضبت تلك الدولة التركية، وجرى عندهم أمور يطول عدها، ولا فائدة في ذكرها". فهل هذا كلام من يرى الخلافة العثمانية دولة للمسلمين جميعا تجب طاعتها أم كلام من يرى الخلافة العثمانية دولة تركية غريبة عنه ولا علاقة له بها؟
- وقال أمين الريحاني (في تاريخ نجد، ص57-58): "دخل سعود مكة ظافرا، وكان الشريف غالب وعساكره وأتباعه قد رحلوا إلى جده، فأعطى أهلها الأمان. ثم شرع ورجاله يهدمون القباب التي بنيت فوق القبور. وقد كتب سعود كتابا إلى السلطان سليم الثالث هذا معناه: (من سعود إلى سليم: أما بعد فقد دخلت مكة في الرابع من محرم سنة 1281 وأمنت أهلها على أرواحهم وأموالهم بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية، وألغيت الضرائب إلا ما كان منها حقا...". قال محمد جلال كشك (في: السعوديون والحل الإسلامي، ص140): "وعبارة من سعود إلى سليم وضعت بوعي سياسي، لأن أية صيغة أخرى كانت مستحيلة، فهو لا يستطيع أن يصف نفسه بلقب يحدد سيادته، وإلا فماذا سيقول؟ أمير الدرعية؟ وماذا يفعل أمير الدرعية في مكة؟ ولماذا ذهب إلى العراق ومسقط، وسيذهب إلى الشام؟... أما قوله: "سليم" (حاف) فلتجنب التسليم له بأية صفة، فهو ليس السلطان، فلو سلم بذلك لأقر على نفسه بشق عصا الطاعة. وهو ليس أمير المؤمنين بكل تأكيد...". فكيف يمكن لشخص أن يزعم بعد هذه الحقائق: "أنّ أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب... من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني"؟
ثانيا: قال الدكتور منير العجلاني (في تاريخ البلاد العربية السعودية: عهد الإمام عبد الله بن سعود، ج4 ص29): "أما ما نشرناه في كتابنا من الوثائق المصرية فقليل جدا، أخذناه عن كتاب الأستاذ عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم (الدولة السعودية الأولى)، وما زلنا في شك من صحة الرسائل التي ينسبها المؤلف الفاضل إلى الإمام عبد الله ابن سعود، فأسلوب كتابتها يختلف كثيرا عن الأسلوب المألوف في نجد في تلك الأيام، ويستبعد أن يصدر عن الإمام عبد الله بن سعود مثل الكلام الذي تضمنته...). وقال (ص266-267): "3 رسائل مشكوك في صحتها.. زعموا أن الإمام عبد الله بن سعود أرسلها إلى السلطان ومحمد علي... اكتفينا بهذا القدر اليسير من الرسالة المنسوبة إلى الإمام عبد الله بن سعود، ليشاركنا القارئ شكنا في صحتها بل تثبتنا من وضعها... ملاحظة قيّمة: وقد تلطّف معالي الشيخ حسن آل الشيخ، وزير المعارف في المملكة العربية السعودية، بعد النظر في هذه الرسالة، بكتابة الحاشية الآتية: (إن هذه الرسالة المزعوم صدورها عن الإمام عبد الله إلى السلطان العثماني مكذوبة عليه، وكلماتها لا يمكن أن تصدر عن الإمام عبد الله، لأن بعض ما جاء فيها يتنافى مع كمال العقيدة وعزّة المؤمن)". فهذه الرسائل لم تثبت نسبتها إلى عبد الله بن سعود بل أكّد مصر رسمي في المملكة السعودية من آل الشيخ عدم صحة الرسالة المرسلة إلى السلطان العثماني، فكيف يستدلّ بها الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ويبني عليها استنتاجات بصيغة قاطعة؟
ثالثا: إذا افترضنا جدلا صحة الرسائل المنسوبة إلى عبد الله بن سعود، فعلينا أن ننظر في سياقها التاريخي الذي وردت فيه.
- قال لوريمر (في دليل الخليج، ج3 ص1617-1618): "ويبدو أن ضعف القوات المصرية لم يكن واضحا تمام الوضوح للوهابيين، وكان أميرهم لهذا يعتقد أن موارد مصر الكثيرة لا بد ستنتصر في النهاية على مصادره المحدودة.. وظن أن من المناسب أن يتراجع عن الاستمرار في هذا الصراع.. ومهما كان السبب فقد استجاب الأمير عبد الله لعقد تسوية اقترحها طوسون، وتمّ التوصل إلى اتفاقية تخلى فيها الأمير عن مطالبته بالأماكن المقدسة في الحجاز واحتفظ بحقه في زيارتها لهدف الحج فقط، كما اعترف أيضا بسيادة سلطان تركيا عليه".
- وقال جون. ب. كيلي (في بريطانيا والخليج، ج1 ص216):"... عقد طوسون معاهدة مع الأمير عبد الله تعهد فيها الأخير بالتنازل عن مطالبه في الحجاز والأماكن المقدسة وإعلان ولائه للسلطان العثماني بينما تعهد طوسون من جانبه بفتح أبواب الحجاز للوهابيين للأغراض التجارية والدينية كما اعترف بسلطة عبد الله على نجد وعلى جزء من القاسم وهي المقاطعة الواقعة بين نجد والحجاز".
- وقال أمين الريحاني (في تاريخ نجد، ص70): "ولكن عبد الله مثل طوسون من أولئك القواد الذين يضعفون ما عندهم من قوة بما ينقصهم من زعامة وإقدام. وقف الضعيفان في القصيم وقفة المنازل الراغب في الصلح المتظاهر بعكس رغبته، فتناوشت الجنود وتقهقرت، وتخاذلت، وتقاعست، حتى سئم أولو العزم في الجانبين الحالة وقام منهم من يطالب بشيء يشفع بتردد القائدين وتذبذبهما. قال أهل نجد لعبد الله: اخرج إلى طوسون أو اخرج عليه أي صالحه أو حاربه. وقد توفق الفريقان إلى عقد صلح...".
- وقال مانجان (كما في تاريخ البلاد العربية السعودية: عهد الإمام عبد الله بن سعود، للدكتور منير العجلاني، ج4 ص58-59): "إن المعارك هدأت قليلا، بعد استيلاء طوسون على بعض مدن القصيم، فأرسل عبد الله بن سعود إلى طوسون الشيخ أحمد الحنبلي، ليعلن باسمه ونيابة عنه أنه يخضع للسلطان ويعدّ نفسه من رعاياه...".
- وقال اليكسي فاسيلييف (في تاريخ العربية السعودية، ص197-198): "غدت حالة طوسون عصيبة للغاية، فإن ضغط الوهابيين الشديد كان يمكن أن يدمره. بيد أن قوى عبد الله لم تكن كافية على ما يبدو، ثم إنه كان يخشى تمرد أهل القصيم في مؤخرته. وتم توقيع الصلح بشروط تعكس توازن القوى المترجرج هذا... ويقول بوركهاردت كذلك أن عبد الله وافق على اعتبار نفسه من رعية السلطان العثماني. ويؤكد المؤرخ المصري المعاصر أ. عبد الرحيم هذه الحقيقة استنادا إلى وثائق من أرشيفات القاهرة".
وعليه، فالرسائل التي أرسلها عبد الله بن سعود إلى محمد علي باشا كانت بعد الصلح الذي تم بينه وبين طوسون. والدليل عليه قوله في رسالته الأولى (كما في تاريخ البلاد العربية السعودية: عهد الإمام عبد الله بن سعود، للدكتور منير العجلاني، ج4 ص269-271): "نحمدك اللهم على ما منّيت به من الإصلاح، بالصلح الحاقن لدماء المسلمين عن السفك بالسلاح... وفتحنا إلى الصلح طريقا، ولم نزل نجتهد في إبرامه حتى انعقد بين الفريقين..."، وقوله في رسالته الثانية (كما في تاريخ البلاد العربية السعودية: عهد الإمام عبد الله بن سعود، للدكتور منير العجلاني، ج4 ص272): "... وما ذكرتم من القبول لما انبرم من أمر الصلح... فلكم منا العهد والميثاق أننا لما جرى بيننا وبينكم ملتزمون...". وبما أنّ الصلح الذي تمّ بين طوسون وعبد الله قد تضمّن جملة من الشروط منها – وفق رواية بعض المؤرخين ووفق رسالة من طوسون إلى محمد علي- الدخول في طاعة الخليفة والخضوع لسلطانه، فهذا يعني بداهة أنّ عبد الله بن سعود لم يكن قبل الصلح خاضعا للخليفة. ولذا، فإنّ رسائل عبد الله بن سعود إلى الخليفة ومحمد علي حجة على من يقولون بعدم خروج الوهابية على الخلافة وليست حجة لهم؛ لأنها وإن أثبتت الخضوع للسلطان عن كره، فقد أثبتت أيضا الخروج عليه قبل الصلح.
التكفير
سبب خروج الوهابية هو تكفير الدولة العثمانية
http://azeytouna.net/index.php/2012-09-24-14-14-53/item/5452-9
تبيّن معنا فيما سبق أنّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب أسّس في الدرعية – بمعية الأمير محمد بن سعود – دولة\إمارة إسلامية تطبّق الشرع وتنفذ الحدود وترفع لواء الجهاد وتجبي الأموال وتوزعها. فما هي الأسس الشرعية التي اعتمد عليها الشيخ ابن عبد الوهاب لتأسيس دولته؟
يجيبنا الشيخ بقوله (كما في الدرر السنية، ج9 ص5): "الأئمة مجمعون من كل مذهب، على أن من تغلّب على بلد أو بلدان، له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام، لا يصح إلا بالإمام الأعظم". فقد اعتمد الشيخ على فكرة إمامة المتغلّب أو الإمامة القهرية التي قال بها جمع من الفقهاء. ولكن، قال الإمام بدر الدين بن جماعة (في تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، ص55): "وأما الطريق الثالث الذي تنعقد به [الإمامة] البيعة القهرية: فهو قهر صاحب الشوكة، فإذا خلا الوقت عن إمام فتصدى لها من هو من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته، ولزمت طاعته، لينتظم شمل المسلمين وتجتمع كلمتهم". فهل خلا وقت الشيخ ابن عبد الوهاب عن إمام؟
الجواب كما يعلمه الجميع، أنّ في زمن الشيخ ابن عبد الوهاب كانت هناك دولة تعرف باسم الخلافة العثمانية، وهذه الخلافة كانت قريبة من الشيخ ابن عبد الوهاب وامتدّ سلطانها عبر أشراف مكة في بعض مناطق الشيخ النجدية – إن لم نقل في المناطق كلها -. فهل كان الشيخ ابن عبد الوهاب وأتباعه على علم بوجود دولة الخلافة العثمانية أم لا؟
الجواب كما يعلمه الجميع، أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب الذي طلب العلم في مناطق الخلافة، كان على علم بوجود دولة تزعم أنها خلافة إسلامية تطبّق الشرع وتحمي دار الإسلام وتخدم الحرمين الشريفين. وكذلك كان أتباعه على علم بوجود هذه الدولة الإسلامية. "سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين [ت1282هـ]، إذا قال بعض الجهال: إن من شرط الإمام أن يكون قرشيا، ولم يقل عارضيا، يشير إلى أنه قد ادّعاها من ليس من أهلها، يعني محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ومن قام معه وبعده بما دعا إليه...؟ فأجاب: إذا قال بعض الجهال ذلك، فقل له: ولم يقل: تركيا، فإذا زال هذا الأمر عن قريش، فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أولى به من الترك، لأنهم أفضل من الترك، ولهذا ليس التركي كفوا للعربية، ولو تزوج تركي عربية كان لمن لم يرض من الأولياء فسخ هذا النكاح، وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغيا على قريش...". (نقلا عن الدرر السنية، ج9 ص8-9). فقول الشيخ عبد الله أبا بطين: "وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي" يعني به الخليفة العثماني. وقوله: "وهم أخذوها بغيا على قريش" يعني الخلافة. فلماذا إذن أقام الشيخ ابن عبد الوهاب – بمعية الأمير محمد بن سعود – دولة رغم عدم خلو وقته عن إمام يزعم أنه خليفة وتطيعه عامة المسلمين؟
فهل كان الشيخ ابن عبد الوهاب لا يعترف بسلطة الخلافة العثمانية لأن "الترك" كما قال الشيخ أبا بطين " أخذوها بغيا على قريش"؟
لا نظنّ هذا؛ لأنّ الشيخ ابن عبد الوهاب يقرّ بإمامة المتغلب، ويعلم قول الإمام أحمد بن حنبل في أصول السنة – كما في شرح أصول السنة لعبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، ص100-: "ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأيّ وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية. ولا يحلّ قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنّة والطريق".
أم هل كان الشيخ ابن عبد الوهاب لا يعترف بسلطة الخلافة العثمانية لأنّ نجدا غير تابعة لها؟
لا نظنّ هذا؛ والدليل عليه أنّ ابن غنّام (في تاريخ نجد، ص270-273) ذكر رسالة "كتبها سليمان بن محمد بن سحيم، مطوع أهل الرياض، وأرسلها إلى أهل البصرة والأحساء يشنع فيها على الشيخ ويفتري عليه أشياء لم تحدث، وقصده من ذلك الاستنصار بكلامهم على إبطال ما أظهره الشيخ من بيان التوحيد وإخلاص الدعوة لله، وهدم أركان الشرك وإبطال مناهج الضلال". والشيخ سليمان بن محمد بن أحمد بن سحيم (1130هـ-1181هـ) هو عالم الرياض، وكان "مدرس أهل البلاد ومفتيهم وإمامهم وخطيبهم في زمن دهام بن دواس أمير الرياض" – كما في علماء نجد، ج2 ص381 -. وقد كتب رسالة -كما ذكر ابن غنام – بيّن فيها مآخذه على الشيخ ابن عبد الوهاب. ومما جاء في الرسالة، قوله: "ومنها: أنه [أي الشيخ ابن عبد الوهاب] ترك تمجيد السلطان في الخطبة، وقال: السلطان فاسق لا يجوز تمجيده". وقد أجاب الشيخ ابن عبد الوهاب على مجمل المؤاخذات الواردة في رسالة سليمان بن سحيم، إلا أنه أهمل التعرّض لمسألة "تمجيد السلطان"، فلم يردّ عليها. وقد تكفّل ابن غنّام بالردّ نيابة عن الشيخ فقال (كما في تاريخ البلاد العربية السعودية، للدكتور منير العجلاني، ج1 ص266): "وأما قوله إنه ترك تمجيد السلطان في الخطبة، فهو صادق في ذلك، وإنما تركه الشيخ رحمه الله لأنه من البدع المحدثة. وقد كره جمع من المالكية وغيرهم ذلك وقالوا إنه من البدع المنكرة ولم يستحب ذلك أحد من أئمة الدين".
فاعتبار الشيخ سليمان بن سحيم، وهو إمام الرياض وعالمها، "ترك تمجيد السلطان في الخطبة" مؤاخذة من المؤاخذات على الشيخ ابن عبد الوهاب، يدلّ على أنّ تمجيد السلطان في الخطبة (أي الدعاء له مع مدحه) كان من الأمور الشائعة المعلومة في نجد. وهذا يعني بداهة أنّ نجدا كانت تابعة اسميا لسلطة الخلافة العثمانية أو تربطها بها رابطة الخلافة الإسلامية؛ ذلك أنّ الدعاء للسلطان في الخطبة علامة من علامات الخضوع له أو الارتباط به. وقد أكّد هذا الأمر الشيخ ابن عبد الوهاب بسكوته وعدم ردّه، وأكّده أيضا ابن غنّام بتصديق الشيخ ابن سحيم. وعليه، فقد كان الشيخ ابن عبد الوهاب على علم بارتباط بعض مدن نجد ومناطقها بالخلافة العثمانية.
أم هل كان الشيخ ابن عبد الوهاب لا يعترف بسلطة الخلافة العثمانية لأنه يرى جواز تعدد الدول والأئمة؟
لا نظنّ هذا؛ لأنّ الشيخ ابن عبد الوهاب يعلم قول الإمام الماوردي (في الأحكام السلطانية، ص10): "وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد وإن شذّ قوم فجوزوه". وقول إمام الحرمين (في غياث الأمم، ص126-127): "إذا تيسر نصب إمام واحد يطبق خطة الإسلام، ويشمل الخليقة على تفاوت مراتبها في مشارق الأرض ومغاربها أثره، تعين نصبه ولم يسع والحالة هذه نصب إمامين. وهذا متفق عليه لا يلفى فيه خلاف... وقد تقرر من دين الأمة قاطبة، أن الغرض من الإمامة جمع الآراء المشتتة، وارتباط الأهواء المتفاوتة، وليس بالخافي على ذوي البصائر، أن الدول إنما تضطرب بتحزب الأمر، وتفرق الآراء وتجاذب الأهواء... فقد تقرر أن نصب إمامين مدعاة الفساد وسبب حسم الرشاد...".
فإن قال قائل: لا إجماع في المسألة، بدليل قول بعض العلماء بجواز التعدد؟
قلت: نعم، قال بعض العلماء بجواز التعدد، ولكن بشرطين:
الأوّل: أنهم جوزوا نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما بحيث لا يتأتى لإمام واحد النظر في مصالح المسلمين. قال القرطبي (في تفسيره، ج1 ص273): "وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول: "ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه أن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوه عنق الآخر". رواه مسلم أيضا، ومن حديث عرفجة: "فاضربوه بالسيف كائنا من كان". وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين، ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك... فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعا لما ذكرنا. قال الإمام أبو المعالي: ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم، ثم قالوا: لو اتفق عقد الإمامة لشخصين نزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة واحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الآخر. قال: والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف غير جائز وقد حصل الإجماع عليه. فأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع. وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم...".
فهل تكون تونس (أو الجزائر) تابعة لدولة الخلافة العثمانية ولا تكون بعض نجد تابعة لها بتعلّة تباعد الأقطار؟
الثاني: أنّهم جوّزا ذلك لمانع طرأ على الأصل، فإن زال المانع، عاد المنع وبطل الجواز. قال إمام الحرمين (في غياث الأمم، ص129-130): "إن سبق عقد الإمامة لصالح لها، وكنا نراه عند العقد مستقلا بالنظر في جميع الأقطار، ثم ظهر ما يمنع من انبثاث نظره، أو طرأ، فلا وجه لترك الذين لا يبلغهم أمر الإمام مهملين ولكنهم ينصبون أميرا يرجعون إلى رأيه، ويصدرون عن أمره، ويلتزمون شرعة المصطفى فيما يأتون ويذرون، ولا يكون ذلك المنصوب إماما. ولو زالت الموانع، واستمكن الإمام من النظر لهم، أذعن الأمير والرعايا للإمام، وألقوا إليه السلم، والإمام يمهد عذرهم، ويسوس أمرهم. فإن رأى تقرير من نصبوه فعل. وإن رأى تغيير الأمر، فرأيه المتبوع، وإليه الرجوع". وقد طلبت الخلافة العثمانية – عبر الولاة والأشراف - من إمارة الدرعية الدخول في طاعة الخليفة وضمّ الإمارة للدولة، فكان الجواب الرفض.
والحاصل، فقد أسّس الشيخ ابن عبد الوهاب – بمعية الأمير محمد بن سعود – دولة\إمارة\ولاية لا حدود جغرافية لها، قابلة للتوسع ضمن المناطق المتاخمة لها، ولم يخطر بباله أن ينظمّ للدولة العثمانية لأنه لا يعترف بسلطانها وبشرعيتها؛ ولذا كان الصدام بين الدولة الوهابية والدولة العثمانية مسألة حتمية. قال محمد جلال كشك (في السعوديون والحل الإسلامي، ص135-136): "الصدام مع الترك أو "الروم" كما كان العرب يسمونهم، كان محتوما، وقد بدأ مبكرا، وفي عهد عبد العزيز، هذا إذا نظرنا إليه من الناحية العسكرية البارزة، أما من ناحية المفاهيم والمبادئ والشعارات، فدعوة محمد بن عبد الوهاب، وما اتفق عليه مع الأمير "محمد بن سعود"، كلها موجهة مباشرة ضد الترك والسلطنة والخلافة. والحرب التي دارت في الأحساء، والصدام مع الوالي التركي في بغداد، وإعلان ابن غنام أن الحملة التركية التي زحفت من العراق لانتزاع الأحساء من السعوديين كانت تريد تقسيم الإقليم بين "الروم" والبدو.. وإصرار السعوديين على أن بلادهم و"قرية" الأحساء ليست داخلة في بلاد "الروم" أو ملكهم، وتطور الصراع إلى غزو السعوديين للعراق، ثم تدبير والي بغداد لمقتل الإمام السعودي عبد العزيز بن محمد، ومصرعه هو بدوره على يد السعوديين أو بتدبيرهم. كل هذا يجعل الحرب سابقة على ولاية سعود ورسالته "الغليظة"، بل وسابقة على غزو الحجاز ووقف الحج. ورسائل والي بغداد تؤكد أن مقاتلة هذا "المبتدع" الوهابي "فرض عين" أي لازمة على كل مسلم، ولا بدّ من "تطويقه من كافة الجهات" لأن "حركته لا تشبه بوجه من الوجوه غيرها من التي سبق معالجتها، بحيث لا يمكن أن تقاس بها"...وهكذا فالصدام مع تركيا كان محتوما، والحركة الوهابية كلها تبدو ضربا من العبث والخسائر غير المبررة لجميع الأطراف، إن لم تكن تحمل هدف التحرر من السيطرة العثمانية...".
وإننا لا نجد سببا يبرّر قيام الدولة الوهابية وعدم اعترافها بالخلافة العثمانية، ودخولها في حرب مع من جاورها، سوى التكفير.
قال محمد جلال كشك (في السعوديون والحل الإسلامي، ص121): "وما نريد توضيحه هنا، أو بالأحرى تفنيده، هو الزعم الذي أثاره المعلقون الغربيون، وتابعهم بعض "الناقلين" العرب، أعني التركيز على أن الغزوة كانت موجهة ضد الشيعة، ولا يجوز التعلل بقول سعود: "إن أهل الأحساء رافضة أدخلناهم في الإسلام بالسيف" فهو نفسه اعتبر الأشراف في مكة مشركين، واشترط إسلامهم! وهو نفس رأيه في أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين السلطان السني".
وقال لويس دو كورانسي (في الوهابيون تاريخ ما أهمله التاريخ، ص62): "وكان الوهابيون ينقضّون على حين غرة على القبيلة التي يريدون إخضاعها ويتقدّم رسول من عبد العزيز يحمل القرآن بيد والسيف باليد الأخرى، مع رسالة من سيده، تتضمن الشروط التي يجب العمل بموجبها. وما زالت النصوص الحرفية لهذه الرسائل محفوظة، وفيها لهجة الإيجاز والبساطة التي اعتمدها عادة جميع المصلحين في جميع الأديان وكافة الأزمان: (من عبد العزيز إلى قبيلة... سلام. واجبكم يدعوكم إلى الإيمان بالكتاب الذي أرسل لكم. لا تكونوا وثنيين كالأتراك الذين يشركون بالله. إذا آمنتم نجوتم، وإلا فسنقاتلكم حتى الموت)".
ومسألة التكفير مسألة شهيرة ذكرها كثير من المؤرخين والعلماء. قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف (في دعاوى المناوئين، ص159-160): "... فما أكثر من أثار هذه الشبهة على دعوة الشيخ، وسيتضح ذلك جلياً عند نقل أقوال المناوئين في ذلك. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى أن بعض العلماء المحققين ممن عرف عنهم سلامة المعتقد، قد تأثروا بتلك الشبهة وصدقوا تلك الدعوى - بكل ما فيها من حق أو باطل -. كما هو واضح من حال الإمام محمد بن علي الشوكاني، حيث يقول الشوكاني - عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه -. (ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد، وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام).كما أن الشيخ محمد بن ناصر الحازمي قد تأثر بتلك الدعاوى.. فذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأثنى عليه خيرا، ومدحه بحسن الإتباع …، ولكن أنكر عليه خصلتان, الأولى: تكفير أهل الأرض بمجرد تلفيقات لا دليل عليها..، والأخرى: التجاري في سفك الدم المعصوم بلا حجة ولا برهان. وكذا الشيخ محمد صديق حسن، صدّق هذه الشبهات، فأعلن في كتابه (ترجمان الوهابية) براءة أهل الحديث من الوهابيين، لأن الوهابيين - كما يذكر محمد صديق حسن - يعرفون بإراقـة الدماء، وينص محمد صديق – عفا الله عنه – أن مصدره في هذه المعلومات هي كتب العلماء المسيحيين!. وممن تأثر وصدّق هذه الدعاوى، الشيخ أنور شاه كشميري، فزعم – عفا الله عنه – أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – يتسارع إلى الحكم بالتكفير".
ولن نتناول المسألة من زاوية تاريخية أو بالاعتماد على قول المؤرخين أو بعض العلماء بل سنركّز – بإذن الله تعالى - على ثقافة الدعوة الوهابية وأقوال علمائها لنثبت صدق دعوانا.
سبب خروج الوهابية هو تكفير الدولة العثمانية
http://azeytouna.net/index.php/2012-09-24-14-14-53/item/5452-9
تبيّن معنا فيما سبق أنّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب أسّس في الدرعية – بمعية الأمير محمد بن سعود – دولة\إمارة إسلامية تطبّق الشرع وتنفذ الحدود وترفع لواء الجهاد وتجبي الأموال وتوزعها. فما هي الأسس الشرعية التي اعتمد عليها الشيخ ابن عبد الوهاب لتأسيس دولته؟
يجيبنا الشيخ بقوله (كما في الدرر السنية، ج9 ص5): "الأئمة مجمعون من كل مذهب، على أن من تغلّب على بلد أو بلدان، له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام، لا يصح إلا بالإمام الأعظم". فقد اعتمد الشيخ على فكرة إمامة المتغلّب أو الإمامة القهرية التي قال بها جمع من الفقهاء. ولكن، قال الإمام بدر الدين بن جماعة (في تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، ص55): "وأما الطريق الثالث الذي تنعقد به [الإمامة] البيعة القهرية: فهو قهر صاحب الشوكة، فإذا خلا الوقت عن إمام فتصدى لها من هو من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته، ولزمت طاعته، لينتظم شمل المسلمين وتجتمع كلمتهم". فهل خلا وقت الشيخ ابن عبد الوهاب عن إمام؟
الجواب كما يعلمه الجميع، أنّ في زمن الشيخ ابن عبد الوهاب كانت هناك دولة تعرف باسم الخلافة العثمانية، وهذه الخلافة كانت قريبة من الشيخ ابن عبد الوهاب وامتدّ سلطانها عبر أشراف مكة في بعض مناطق الشيخ النجدية – إن لم نقل في المناطق كلها -. فهل كان الشيخ ابن عبد الوهاب وأتباعه على علم بوجود دولة الخلافة العثمانية أم لا؟
الجواب كما يعلمه الجميع، أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب الذي طلب العلم في مناطق الخلافة، كان على علم بوجود دولة تزعم أنها خلافة إسلامية تطبّق الشرع وتحمي دار الإسلام وتخدم الحرمين الشريفين. وكذلك كان أتباعه على علم بوجود هذه الدولة الإسلامية. "سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين [ت1282هـ]، إذا قال بعض الجهال: إن من شرط الإمام أن يكون قرشيا، ولم يقل عارضيا، يشير إلى أنه قد ادّعاها من ليس من أهلها، يعني محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ومن قام معه وبعده بما دعا إليه...؟ فأجاب: إذا قال بعض الجهال ذلك، فقل له: ولم يقل: تركيا، فإذا زال هذا الأمر عن قريش، فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أولى به من الترك، لأنهم أفضل من الترك، ولهذا ليس التركي كفوا للعربية، ولو تزوج تركي عربية كان لمن لم يرض من الأولياء فسخ هذا النكاح، وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغيا على قريش...". (نقلا عن الدرر السنية، ج9 ص8-9). فقول الشيخ عبد الله أبا بطين: "وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي" يعني به الخليفة العثماني. وقوله: "وهم أخذوها بغيا على قريش" يعني الخلافة. فلماذا إذن أقام الشيخ ابن عبد الوهاب – بمعية الأمير محمد بن سعود – دولة رغم عدم خلو وقته عن إمام يزعم أنه خليفة وتطيعه عامة المسلمين؟
فهل كان الشيخ ابن عبد الوهاب لا يعترف بسلطة الخلافة العثمانية لأن "الترك" كما قال الشيخ أبا بطين " أخذوها بغيا على قريش"؟
لا نظنّ هذا؛ لأنّ الشيخ ابن عبد الوهاب يقرّ بإمامة المتغلب، ويعلم قول الإمام أحمد بن حنبل في أصول السنة – كما في شرح أصول السنة لعبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، ص100-: "ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأيّ وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية. ولا يحلّ قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنّة والطريق".
أم هل كان الشيخ ابن عبد الوهاب لا يعترف بسلطة الخلافة العثمانية لأنّ نجدا غير تابعة لها؟
لا نظنّ هذا؛ والدليل عليه أنّ ابن غنّام (في تاريخ نجد، ص270-273) ذكر رسالة "كتبها سليمان بن محمد بن سحيم، مطوع أهل الرياض، وأرسلها إلى أهل البصرة والأحساء يشنع فيها على الشيخ ويفتري عليه أشياء لم تحدث، وقصده من ذلك الاستنصار بكلامهم على إبطال ما أظهره الشيخ من بيان التوحيد وإخلاص الدعوة لله، وهدم أركان الشرك وإبطال مناهج الضلال". والشيخ سليمان بن محمد بن أحمد بن سحيم (1130هـ-1181هـ) هو عالم الرياض، وكان "مدرس أهل البلاد ومفتيهم وإمامهم وخطيبهم في زمن دهام بن دواس أمير الرياض" – كما في علماء نجد، ج2 ص381 -. وقد كتب رسالة -كما ذكر ابن غنام – بيّن فيها مآخذه على الشيخ ابن عبد الوهاب. ومما جاء في الرسالة، قوله: "ومنها: أنه [أي الشيخ ابن عبد الوهاب] ترك تمجيد السلطان في الخطبة، وقال: السلطان فاسق لا يجوز تمجيده". وقد أجاب الشيخ ابن عبد الوهاب على مجمل المؤاخذات الواردة في رسالة سليمان بن سحيم، إلا أنه أهمل التعرّض لمسألة "تمجيد السلطان"، فلم يردّ عليها. وقد تكفّل ابن غنّام بالردّ نيابة عن الشيخ فقال (كما في تاريخ البلاد العربية السعودية، للدكتور منير العجلاني، ج1 ص266): "وأما قوله إنه ترك تمجيد السلطان في الخطبة، فهو صادق في ذلك، وإنما تركه الشيخ رحمه الله لأنه من البدع المحدثة. وقد كره جمع من المالكية وغيرهم ذلك وقالوا إنه من البدع المنكرة ولم يستحب ذلك أحد من أئمة الدين".
فاعتبار الشيخ سليمان بن سحيم، وهو إمام الرياض وعالمها، "ترك تمجيد السلطان في الخطبة" مؤاخذة من المؤاخذات على الشيخ ابن عبد الوهاب، يدلّ على أنّ تمجيد السلطان في الخطبة (أي الدعاء له مع مدحه) كان من الأمور الشائعة المعلومة في نجد. وهذا يعني بداهة أنّ نجدا كانت تابعة اسميا لسلطة الخلافة العثمانية أو تربطها بها رابطة الخلافة الإسلامية؛ ذلك أنّ الدعاء للسلطان في الخطبة علامة من علامات الخضوع له أو الارتباط به. وقد أكّد هذا الأمر الشيخ ابن عبد الوهاب بسكوته وعدم ردّه، وأكّده أيضا ابن غنّام بتصديق الشيخ ابن سحيم. وعليه، فقد كان الشيخ ابن عبد الوهاب على علم بارتباط بعض مدن نجد ومناطقها بالخلافة العثمانية.
أم هل كان الشيخ ابن عبد الوهاب لا يعترف بسلطة الخلافة العثمانية لأنه يرى جواز تعدد الدول والأئمة؟
لا نظنّ هذا؛ لأنّ الشيخ ابن عبد الوهاب يعلم قول الإمام الماوردي (في الأحكام السلطانية، ص10): "وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد وإن شذّ قوم فجوزوه". وقول إمام الحرمين (في غياث الأمم، ص126-127): "إذا تيسر نصب إمام واحد يطبق خطة الإسلام، ويشمل الخليقة على تفاوت مراتبها في مشارق الأرض ومغاربها أثره، تعين نصبه ولم يسع والحالة هذه نصب إمامين. وهذا متفق عليه لا يلفى فيه خلاف... وقد تقرر من دين الأمة قاطبة، أن الغرض من الإمامة جمع الآراء المشتتة، وارتباط الأهواء المتفاوتة، وليس بالخافي على ذوي البصائر، أن الدول إنما تضطرب بتحزب الأمر، وتفرق الآراء وتجاذب الأهواء... فقد تقرر أن نصب إمامين مدعاة الفساد وسبب حسم الرشاد...".
فإن قال قائل: لا إجماع في المسألة، بدليل قول بعض العلماء بجواز التعدد؟
قلت: نعم، قال بعض العلماء بجواز التعدد، ولكن بشرطين:
الأوّل: أنهم جوزوا نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما بحيث لا يتأتى لإمام واحد النظر في مصالح المسلمين. قال القرطبي (في تفسيره، ج1 ص273): "وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول: "ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه أن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوه عنق الآخر". رواه مسلم أيضا، ومن حديث عرفجة: "فاضربوه بالسيف كائنا من كان". وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين، ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك... فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعا لما ذكرنا. قال الإمام أبو المعالي: ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم، ثم قالوا: لو اتفق عقد الإمامة لشخصين نزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة واحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الآخر. قال: والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف غير جائز وقد حصل الإجماع عليه. فأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع. وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم...".
فهل تكون تونس (أو الجزائر) تابعة لدولة الخلافة العثمانية ولا تكون بعض نجد تابعة لها بتعلّة تباعد الأقطار؟
الثاني: أنّهم جوّزا ذلك لمانع طرأ على الأصل، فإن زال المانع، عاد المنع وبطل الجواز. قال إمام الحرمين (في غياث الأمم، ص129-130): "إن سبق عقد الإمامة لصالح لها، وكنا نراه عند العقد مستقلا بالنظر في جميع الأقطار، ثم ظهر ما يمنع من انبثاث نظره، أو طرأ، فلا وجه لترك الذين لا يبلغهم أمر الإمام مهملين ولكنهم ينصبون أميرا يرجعون إلى رأيه، ويصدرون عن أمره، ويلتزمون شرعة المصطفى فيما يأتون ويذرون، ولا يكون ذلك المنصوب إماما. ولو زالت الموانع، واستمكن الإمام من النظر لهم، أذعن الأمير والرعايا للإمام، وألقوا إليه السلم، والإمام يمهد عذرهم، ويسوس أمرهم. فإن رأى تقرير من نصبوه فعل. وإن رأى تغيير الأمر، فرأيه المتبوع، وإليه الرجوع". وقد طلبت الخلافة العثمانية – عبر الولاة والأشراف - من إمارة الدرعية الدخول في طاعة الخليفة وضمّ الإمارة للدولة، فكان الجواب الرفض.
والحاصل، فقد أسّس الشيخ ابن عبد الوهاب – بمعية الأمير محمد بن سعود – دولة\إمارة\ولاية لا حدود جغرافية لها، قابلة للتوسع ضمن المناطق المتاخمة لها، ولم يخطر بباله أن ينظمّ للدولة العثمانية لأنه لا يعترف بسلطانها وبشرعيتها؛ ولذا كان الصدام بين الدولة الوهابية والدولة العثمانية مسألة حتمية. قال محمد جلال كشك (في السعوديون والحل الإسلامي، ص135-136): "الصدام مع الترك أو "الروم" كما كان العرب يسمونهم، كان محتوما، وقد بدأ مبكرا، وفي عهد عبد العزيز، هذا إذا نظرنا إليه من الناحية العسكرية البارزة، أما من ناحية المفاهيم والمبادئ والشعارات، فدعوة محمد بن عبد الوهاب، وما اتفق عليه مع الأمير "محمد بن سعود"، كلها موجهة مباشرة ضد الترك والسلطنة والخلافة. والحرب التي دارت في الأحساء، والصدام مع الوالي التركي في بغداد، وإعلان ابن غنام أن الحملة التركية التي زحفت من العراق لانتزاع الأحساء من السعوديين كانت تريد تقسيم الإقليم بين "الروم" والبدو.. وإصرار السعوديين على أن بلادهم و"قرية" الأحساء ليست داخلة في بلاد "الروم" أو ملكهم، وتطور الصراع إلى غزو السعوديين للعراق، ثم تدبير والي بغداد لمقتل الإمام السعودي عبد العزيز بن محمد، ومصرعه هو بدوره على يد السعوديين أو بتدبيرهم. كل هذا يجعل الحرب سابقة على ولاية سعود ورسالته "الغليظة"، بل وسابقة على غزو الحجاز ووقف الحج. ورسائل والي بغداد تؤكد أن مقاتلة هذا "المبتدع" الوهابي "فرض عين" أي لازمة على كل مسلم، ولا بدّ من "تطويقه من كافة الجهات" لأن "حركته لا تشبه بوجه من الوجوه غيرها من التي سبق معالجتها، بحيث لا يمكن أن تقاس بها"...وهكذا فالصدام مع تركيا كان محتوما، والحركة الوهابية كلها تبدو ضربا من العبث والخسائر غير المبررة لجميع الأطراف، إن لم تكن تحمل هدف التحرر من السيطرة العثمانية...".
وإننا لا نجد سببا يبرّر قيام الدولة الوهابية وعدم اعترافها بالخلافة العثمانية، ودخولها في حرب مع من جاورها، سوى التكفير.
قال محمد جلال كشك (في السعوديون والحل الإسلامي، ص121): "وما نريد توضيحه هنا، أو بالأحرى تفنيده، هو الزعم الذي أثاره المعلقون الغربيون، وتابعهم بعض "الناقلين" العرب، أعني التركيز على أن الغزوة كانت موجهة ضد الشيعة، ولا يجوز التعلل بقول سعود: "إن أهل الأحساء رافضة أدخلناهم في الإسلام بالسيف" فهو نفسه اعتبر الأشراف في مكة مشركين، واشترط إسلامهم! وهو نفس رأيه في أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين السلطان السني".
وقال لويس دو كورانسي (في الوهابيون تاريخ ما أهمله التاريخ، ص62): "وكان الوهابيون ينقضّون على حين غرة على القبيلة التي يريدون إخضاعها ويتقدّم رسول من عبد العزيز يحمل القرآن بيد والسيف باليد الأخرى، مع رسالة من سيده، تتضمن الشروط التي يجب العمل بموجبها. وما زالت النصوص الحرفية لهذه الرسائل محفوظة، وفيها لهجة الإيجاز والبساطة التي اعتمدها عادة جميع المصلحين في جميع الأديان وكافة الأزمان: (من عبد العزيز إلى قبيلة... سلام. واجبكم يدعوكم إلى الإيمان بالكتاب الذي أرسل لكم. لا تكونوا وثنيين كالأتراك الذين يشركون بالله. إذا آمنتم نجوتم، وإلا فسنقاتلكم حتى الموت)".
ومسألة التكفير مسألة شهيرة ذكرها كثير من المؤرخين والعلماء. قال الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف (في دعاوى المناوئين، ص159-160): "... فما أكثر من أثار هذه الشبهة على دعوة الشيخ، وسيتضح ذلك جلياً عند نقل أقوال المناوئين في ذلك. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى أن بعض العلماء المحققين ممن عرف عنهم سلامة المعتقد، قد تأثروا بتلك الشبهة وصدقوا تلك الدعوى - بكل ما فيها من حق أو باطل -. كما هو واضح من حال الإمام محمد بن علي الشوكاني، حيث يقول الشوكاني - عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه -. (ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد، وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام).كما أن الشيخ محمد بن ناصر الحازمي قد تأثر بتلك الدعاوى.. فذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأثنى عليه خيرا، ومدحه بحسن الإتباع …، ولكن أنكر عليه خصلتان, الأولى: تكفير أهل الأرض بمجرد تلفيقات لا دليل عليها..، والأخرى: التجاري في سفك الدم المعصوم بلا حجة ولا برهان. وكذا الشيخ محمد صديق حسن، صدّق هذه الشبهات، فأعلن في كتابه (ترجمان الوهابية) براءة أهل الحديث من الوهابيين، لأن الوهابيين - كما يذكر محمد صديق حسن - يعرفون بإراقـة الدماء، وينص محمد صديق – عفا الله عنه – أن مصدره في هذه المعلومات هي كتب العلماء المسيحيين!. وممن تأثر وصدّق هذه الدعاوى، الشيخ أنور شاه كشميري، فزعم – عفا الله عنه – أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – يتسارع إلى الحكم بالتكفير".
ولن نتناول المسألة من زاوية تاريخية أو بالاعتماد على قول المؤرخين أو بعض العلماء بل سنركّز – بإذن الله تعالى - على ثقافة الدعوة الوهابية وأقوال علمائها لنثبت صدق دعوانا.
معنى التكفير:
قد يقول قائل (كما في دعاوى المناوئين، ص169-171):"لقد بلغت هذه الفرية الخاطئة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -، فتعددت ردوده وأجوبته عليها، ولأن فرية تكفير المسلمين واستباحة دمائهم قد شاعت وذاعت في غالب بلاد المسلمين، وانتشرت انتشار النار في الهشيم، فقد حرص الشيخ – رحمه الله – على تأكيد هذه الردود, وإعلان براءته مما ألحق به..، فأرسل هذه الردود إلى مختلف البلاد. فعلى النطاق المحلي في منطقة نجد، نلاحظ أن الشيخ قد بعث رسالة لأهل الرياض ومنفوحه، ينفي تلك الفرية، يقول الشيخ الإمام رحمه الله: (وقولكم إننا نكفر المسلمين، كيف تفعلون كذا، كيف تفعلون كذا. فإنا لم نكفّر المسلمين، بل ما كفرنا إلا المشركين). ويبعث رسالة لمحمد بن عيد أحد مطاوعة ثرمداء، يقول فيها: (وأما ما ذكره الأعداء عني أني أكفر بالظن، والموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله)... ويؤكد الشيخ الإمام - مرة أخرى - بطلان تلك الدعوى، وأنها دعوى كذب وبهتان، فيقول جواباً على سؤال الشريف..: (وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: أنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله..). ويبعث الشيخ رسالة لأحد علماء المدينة لدحض فرية تكفير الناس عموما، يقول الشيخ: (فإن قال قائلهم أنهم يكفرون بالعموم فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفّر أهل التوحيد). ويكتب الشيخ الإمام إلى إسماعيل الجراعي صاحب اليمن تكذيباً لهذه الفرية، قال الشيخ: (وأما القول بأنّا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين، ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم)".
أقول:
ردود الشيخ ابن عبد الوهاب تتعلّق بأمرين: عدم تكفير المسلمين، والتكفير بالعموم.
أمّا التكفير بالعموم فمعناه – كما في جواب مسائل وردت على ولدي الشيخ ابن عبد الوهاب حسين وعبد الله -: "أن يكفّر الناس كلهم عالمهم وجاهلهم، ومن قامت عليه الحجة ومن لم تقم، وأما التكفير بالخصوص فهو أن لا يكفّر إلا من قامت عليه الحجة بالرسالة التي يكفر من خالفها" (عن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج1 ص44). فالشيخ لا يكفّر كل فرد بعينه، وهذا معنى نفيه التكفير بالعموم.
وأمّا عدم تكفير المسلمين، فالشيخ لا يكفّر إلا من ثبت كفره لديه؛ ولذا قال: "ما كفرنا إلا المشركين". ومراد الشيخ أنّ من كفّرهم لم يثبت إسلامهم حتى يقال إنّه كفّر المسلمين.
والملاحظ في هذه الردود أنّ الشيخ لا ينكر التكفير أي يقرّ بأنه كفّر، ولكنه ينفي التكفير بالعموم. فمن كفّر الشيخ؟
الحقيقة أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب لم يكفّر كلّ الناس أي حكم على كل فرد بعينه بأنه كافر، إنما كفّر أغلب الناس، وكفّر المجتمع والدار والدولة. وإليك الدليل من ثقافة الدعوة الوهابية:
- قال الشيخ ابن عبد الوهاب لمحمد بن سعود (كما في عنوان المجد في تاريخ نجد، لابن بشر ج1ص42): "وأنت ترى نجداً وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم بعض".
- وقال في رسالة أرسلها إلى مطاوعة أهل سدير والوشم والقصيم (كما في تاريخ نجد، ص243-245): "وهذا معنى قول (لا إله إلا الله)... فمن عرف هذه المسألة عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان، وزيّن لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب حبّ الصالحين وتعظيمهم... لكن المشركون في زماننا أضلّ من الكفار الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين: أحدهما: أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء، وأما في الشدائد فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، الآية. والثاني: أن مشركي زماننا يدعون أناسا لا يوازنون عيسى والملائكة. إذا عرفتم هذا فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر، عبادة الأصنام، هذا يأتي إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي كالزبير وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح وهذا يدعوه في الضراء وفي غيبته، وهذا ينذر له، وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة، وهذا يسأله خير الدنيا والآخرة. فإن كنتم تعرفون أن هذا الشرك من جنس عبادة الأصنام الذي يخرج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر والبحر، وشاع وذاع، حتى إن كثيرا ممن يفعله يقوم الليل، ويصوم النهار، وينتسب إلى الصلاح والعبادة فما بالكم لم تفشوه في الناس؟ وتبينوا لهم أن هذا كفر بالله، مخرج عن الإسلام؟".
- وقال في رسالة أرسلها إلى عبد الرحمن بن ربيعة مطوع أهل ثادق (كما في تاريخ نجد،ص342): "وهذا الشرك الذي ذكره قد طبق اليوم مشارق الأرض ومغاربها، إلا الغرباء المذكورين في الحديث {وقليل ما هم}...".
- وقال (كما في الدرر السنية، ج10 ص6-8): "فاصبروا يا إخواني، واحمدوا الله على ما أعطاكم، من معرفة الله سبحانه، ومعرفة حقه على عباده، ومعرفة ملة أبيكم إبراهيم - في هذا الزمان - التي أكثر الناس منكر لها... وسمعتم قول المشركين: الشرك عبادة الأصنام، وأما الصالحون فلا، وسمعتم قولهم: لا نريد إلا من الله، لكن نريد بجاههم; وسمعتم ما ذكر الله في جواب هذا كله. وقد منّ الله عليكم بإقرار علماء المشركين بهذا كله، سمعتم إقرارهم: أن هذا الذي يفعل في الحرمين، والبصرة، والعراق، واليمن، أن هذا شرك بالله، فأقروا لكم: أن هذا الدين الذي ينصرون أهله، ويزعمون أنهم السواد الأعظم، أقروا لكم أن دينهم هو الشرك".
- وقال ابن غنّام (في تاريخ نجد، ص13-14): "كان أكثر المسلمين – في مطلع القرن الثاني عشر الهجري – قد ارتكسوا في الشرك، وارتدوا إلى الجاهلية، وانطفأ في نفوسهم نور الهدى، لغلبة الجهل عليهم، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال. فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من الضلالة... فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين... وظلوا يعكفون على أوثانهم تلك حتى صدق فيهم قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. وأحدثوا من الكفر والفجور، والشرك بعبادة أهل القبور، وصرف النذور إليهم، والابتهال بالدعاء لهم ما زادوا به على أهل الجاهلية... عكف إذن أكثر الناس على دعوة الأولياء والصالحين: أمواتهم وأحيائهم وفتنوا بالاعتقاد بقدرتهم على تقديم النفع وصرف السوء من دون الله... ولقد انتشر هذا الضلال حتى عمّ ديار المسلمين كافّة...". وانظر تفصيله لمظاهر الشرك في بلاد المسلمين كافة (نجد، الحجاز، الشام، مصر، العراق...) من ص14 إلى ص22 من كتابه.
- وقال ابن بشر (كما في عنوان المجد في تاريخ نجد،ج1 ص33-34): "وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد وغيرها، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها، والاستعاذة بالجن والنذر لهم، ووضع الطعام وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم. والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر".
- وقال عبد العزيز بن سعود في رسالة إلى أهل المخلاف السليماني (كما في الدرر السنية، ج1 ص266-267): "... فلما منّ الله علينا بمعرفة ذلك، وعرفنا أنه دين الرسل، اتبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس، من الشرك بالله، من عبادة أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إلى الله بالذبح لهم، وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات، وارتكاب الأمور المحرمات، وترك الصلوات، وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله تعالى الحق بعد خفائه، وأحي أثره بعد عفائه، على يد شيخ الإسلام، فهدى الله تعالى به من شاء من الأنام. وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له في آخرته المآب، فأبرز لنا ما هو الحق والصواب، من كتاب الله المجيد، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].فبين لنا أن الذي نحن عليه، وهو دين غالب الناس، من الاعتقادات في الصالحين وغيرهم، ودعوتهم، والتقرب بالذبح لهم، والنذر لهم، والاستغاثة بهم في الشدائد، وطلب الحاجات منهم أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه، وتهدد بالوعيد الشديد عليه، وأخبر في كتابه أنه لا يغفره إلا بالتوبة منه... فحين كشف لنا الأمر، وعرفنا ما نحن عليه من الشرك، والكفر بالنصوص القاطعة، والأدلة الساطعة، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الأئمة الأعلام الذين أجمعت الأمة على درايتهم، عرفنا أن ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولا، أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه وحذر...".
- وقال سعود بن عبد العزيز في رسالة إلى الكتخدا علي بك نائب والي بغداد من قبل الدولة العثمانية(كما في الدرر السنية، ج9 ص285): "... وما ذكرت من جهة الحرمين الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمدا كثيرا كما ينبغي أن يحمد، وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن الإسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد، وجب علينا الجهاد بحمد الله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم من غير استحلال لحرمتهما".
- وقال إبراهيم وعبد الله وعلي أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب (كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج1 ص27): "... تعرفون ما من الله به علينا وعليكم من دين الإسلام وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على جميع المسلمين. وأكثر الناس اليوم على الشرك وعبادة غير الله".
- وفي جواب مسائل وردت على ولدي الشيخ ابن عبد الوهاب حسين وعبد الله قالا (كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج1 ص44): "وقد يحكم بأنّ أهل هذه القرية كفار حكمهم حكم الكفار ولا يحكم بأن كل فرد منهم كافر بعينه؛ لأنه يحتمل أن يكون منهم من هو على الإسلام معذور في ترك الهجرة أو يظهر دينه ولا يعلمه المسلمون [أي أتباع الوهابية]...".
- وقال عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج4 ص48-49): "... الاختلاف الذي بيننا وبينكم ليس هذا سببه، وإنما سبب الاختلاف والعداوة والمقاتلة لمن قاتلناه هو الشرك بالله الذي قد انتشر وذاع في سائر البلاد، من يمن وشام ومغرب ومشرق، وهو الاستغاثة بالصالحين ودعوتهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد...".
- وسئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى (كما في الدرر السنية، ج9 ص252-253): "من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم؟ فأجابوا: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بدين الإسلام، لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى. وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره ونقاتله، ونشن عليه الغارة، بل بداره; وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحقق ونعتقده: أن أهل اليمن وتهامة، والحرمين والشام والعراق، قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص العبادة لله. وننكر ما عليه أكثر الناس، من الإشراك بالله من دعاء غير الله، والاستغاثة بهم عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات; وأنا نأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام; وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات; ومثل هؤلاء لا تجب دعوتهم قبل القتال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم خيبر، لما أعطاه الراية، وقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"، فهو عند أهل العلم على الاستحباب، وأما إذا قدرنا: أن أناسا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، فإن الواجب دعوتهم أولا قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم".
- وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (كما في الدرر السنية، ج10 ص404-405): "وهذا الذي ذكر الشيخ أن من فعله كافر بإجماع المسلمين، هو الذي يفعل اليوم عند هذه المشاهد المشهورة في أكثر بلاد الإسلام، بل زادوا على ذلك أضعافه، وضموا إلى ذلك الذبح والنذر لهم، وبعضهم زاد السجود لهم في الأرض. فنقول: كل من فعل اليوم ذلك عند هذه المشاهد، فهو مشرك كافر بلا شك، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ ونحن نعلم أن من فعل ذلك ممن ينتسب إلى الإسلام، أنه لم يوقعهم في ذلك إلا الجهل، فلو علموا أن ذلك يبعد عن الله غاية الإبعاد، وأنه من الشرك الذي حرمه الله، لم يقدموا عليه، فكفرهم جميع العلماء، ولم يعذروهم بالجهل، كما يقول بعض الضالين: إن هؤلاء معذورون لأنهم جهال".
- ووصف الشيخ عبد اللّطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ما كان عليه الناس زمن الشيخ ابن عبد الوهاب فقال (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص661-672): " كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت معبورة غير مردودة ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق على غير الله، من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين. وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون، وبه راضون... وهكذا سائر بلاد نجد، على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والردّ. ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطرائق الخاسرة قد فشت وظهرت، وعمّت وطمّت، حتى بلاد الحرمين الشريفين... كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل... وأما بلاد مصر وصعيدها وفيومها وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوى الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي وأمثاله من المعتقدين المعبودين. فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم... كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن، ففي صنعاء وبرع والمخا وغيرها من تلك البلاد ما يتنزّه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشيطان. فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم. وفي حضرموت والشحر وعدن ويافع ما تصتك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس! شيء لله يا محيي النفوس. وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن... وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من تلك المشاهد والنصب والأعلام ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا من الكفريات المصرية، والتلطخ بتلك الأوحوال الوثنية الشركية. وكذلك الموصل وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان... وكذلك جميع قرى الشط والمجرة على غاية من الجهل والمغرّة. وفي القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام، وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا عن مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل...".
- وقال الشيخ حمد بن علي بن عتيق (كما في هداية الطريق، ص137-138): "... بلغني عنك ما ساءني، عسى أن يكون كذبا، وهو أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الأحساء، التي تؤخذ منهم قهرا. فإن كان صدقا فلا أدري ما الذي عرض لك؛ والذي عندنا أنّ الذي ينكر مثل هذا الأمر يعتقد معتقد أهل الضلال القائلين: إن من قال (لا إله إلا الله) لا يكفر، وإن ما عليه أكثر الخلق من فعل الشرك وتوابعه، والرضاء بذلك، وعدم إنكاره، لا يخرج من الإسلام. وبذلك عارضوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أصل هذه الدعوة، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون قد اطلع على أن البلد إذا ظهر فيها الشرك وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها وتستباح دماؤهم... هذا ونحن نقول: قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن من مستضعف ونحوه، وأما في الظاهر فالأمر - ولله الحمد - واضح، ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة، مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام من استباحة الدماء والمال والسبي، وكل عاقل وعالم يعلم أن ما أتى به هؤلاء من الكفر والردة أقبح وأفحش وأكثر مما فعله أولئك...".
- وقال أيضا (كما في هداية الطريق، ص207-209): "جرت المذاكرة في كون مكة بلد كفر أم بلد إسلام; فنقول وبالله التوفيق:... وأما إذا كان الشرك فاشيا، مثل دعاء الكعبة والمقام والحطيم، ودعاء الأنبياء والصالحين وإفشاء توابع الشرك مثل الزنا والربا وأنواع الظلم، ونبذ السنن وراء الظهر، وفشوّ البدع والضلالات، وصار التحاكم إلى الأئمة الظلمة ونواب المشركين، وصارت الدعوة إلى غير القرآن والسنة، وصار هذا معلوما في أي بلد كان، فلا يشك من له أدنى علم أنّ هذه البلاد محكوم عليها بأنها بلاد كفر وشرك، لا سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد... وجماع الأمر أنه إذا ظهر في بلد دعاء غير الله وتوابع ذلك، واستمر أهلها عليه وقاتلوا عليه، وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد وأبوا عن الانقياد للدين، فكيف لا يحكم عليها بأنها بلد كفر؟ ولو كانوا لا ينتسبون لأهل الكفر، وأنهم منهم بريئون مع مسبتهم لهم، وتخطئتهم لمن دان به والحكم عليهم بأنهم خوارج أو كفار، فكيف إذا كانت هذه الأشياء كلها موجودة؟ فهذه مسألة عامة كلية".
- وقال الشيخ سليمان بن سحمان (كما في منهاج أهل الحق والإتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع، ص15-17): "قد كان أهل نجد قبل ظهور هذه الدعوة المحمدية [أي دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب] على غاية من الجهالة والضلالة, والفقر والعالة, لا يستريب في ذلك عاقل, ولا يجادل فيه عارف, كانوا على غاية من الجهالة في أمر دينهم, في جاهلية: يدعون الصالحين, ويعتقدون في الأشجار والأحجار والغيران, ويطوفون بقبور الأولياء, يرجون الخير والنصر من جهتها, وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية, وجهالة الصوفية ما يرون أنه من الشعب الإيمانية والطريقة المحمدية, وفيهم من إضاعة الصلاة ومنع الزكاة وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور, وغير ذلك من جميع الفواحش والمنكرات التي لا تحصى, ولا تستقصى, فهذه هي حال الحاضرة من أهل نجد قبل ظهور الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية. وأما حال الأعراب من أهل نجد وغيرهم فهم أغلظ كفرا ونفاقا, وأشد إعراضا عن الدين, مع ما هم عليه من قتل النفس ونهب الأموال وارتكاب المحرمات... ويصدق عليهم قول الأعرابي الذي وفد على الشيخ في الدرعية - لما تبين له الإسلام, وعرف أنّ ما هم عليه قبل ذلك هو الكفر والإشراك بالله - فقال: أشهد بالله أني وسائر البدو كفار, وأنّ المطوع الذي ما يكفر البدو كافر... فهذه هي حال أهل نجد حاضرتهم وباديتهم بعد ما دخلوا في دين الله وتركوا ما كانوا عليه قبل ذلك من الكفر بالله والإشراك به".
وقال (ص79): "... من في جزيرة العرب لا نعلم ما هم عليه جميعهم, بل الظاهر أن غالبهم وأكثرهم ليسوا على الإسلام, فلا نحكم على جميعهم بالكفر لاحتمال أن يكون فيهم مسلم. وأما من كان في ولاية إمام المسلمين [يعني الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود] فالغالب على أكثرهم الإسلام, لقيامهم بشرائع الإسلام الظاهرة. ومن قام به من نواقض الإسلام ما يكونون به كفارا فلا نحكم على جميعهم بالإسلام ولا على جميعهم بالكفر, لما ذكرنا. وأما من لم يكن في ولاية إمام المسلمين فلا ندري بجميع أحوالهم وما هم عليه, لكن الغالب على أكثرهم ما ذكرناه أولا من عدم الإسلام".
وقال (ص84): "أهل نجد كانوا قبل دعوة الشيخ على الكفر, وبينا أن جميع باديتهم وحاضرتهم أسلموا بتلك الدعوة, وعمهم الإسلام بما أغنى عن إعادته ههنا".
قد يقول قائل (كما في دعاوى المناوئين، ص169-171):"لقد بلغت هذه الفرية الخاطئة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -، فتعددت ردوده وأجوبته عليها، ولأن فرية تكفير المسلمين واستباحة دمائهم قد شاعت وذاعت في غالب بلاد المسلمين، وانتشرت انتشار النار في الهشيم، فقد حرص الشيخ – رحمه الله – على تأكيد هذه الردود, وإعلان براءته مما ألحق به..، فأرسل هذه الردود إلى مختلف البلاد. فعلى النطاق المحلي في منطقة نجد، نلاحظ أن الشيخ قد بعث رسالة لأهل الرياض ومنفوحه، ينفي تلك الفرية، يقول الشيخ الإمام رحمه الله: (وقولكم إننا نكفر المسلمين، كيف تفعلون كذا، كيف تفعلون كذا. فإنا لم نكفّر المسلمين، بل ما كفرنا إلا المشركين). ويبعث رسالة لمحمد بن عيد أحد مطاوعة ثرمداء، يقول فيها: (وأما ما ذكره الأعداء عني أني أكفر بالظن، والموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله)... ويؤكد الشيخ الإمام - مرة أخرى - بطلان تلك الدعوى، وأنها دعوى كذب وبهتان، فيقول جواباً على سؤال الشريف..: (وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: أنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله..). ويبعث الشيخ رسالة لأحد علماء المدينة لدحض فرية تكفير الناس عموما، يقول الشيخ: (فإن قال قائلهم أنهم يكفرون بالعموم فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفّر أهل التوحيد). ويكتب الشيخ الإمام إلى إسماعيل الجراعي صاحب اليمن تكذيباً لهذه الفرية، قال الشيخ: (وأما القول بأنّا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين، ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم)".
أقول:
ردود الشيخ ابن عبد الوهاب تتعلّق بأمرين: عدم تكفير المسلمين، والتكفير بالعموم.
أمّا التكفير بالعموم فمعناه – كما في جواب مسائل وردت على ولدي الشيخ ابن عبد الوهاب حسين وعبد الله -: "أن يكفّر الناس كلهم عالمهم وجاهلهم، ومن قامت عليه الحجة ومن لم تقم، وأما التكفير بالخصوص فهو أن لا يكفّر إلا من قامت عليه الحجة بالرسالة التي يكفر من خالفها" (عن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج1 ص44). فالشيخ لا يكفّر كل فرد بعينه، وهذا معنى نفيه التكفير بالعموم.
وأمّا عدم تكفير المسلمين، فالشيخ لا يكفّر إلا من ثبت كفره لديه؛ ولذا قال: "ما كفرنا إلا المشركين". ومراد الشيخ أنّ من كفّرهم لم يثبت إسلامهم حتى يقال إنّه كفّر المسلمين.
والملاحظ في هذه الردود أنّ الشيخ لا ينكر التكفير أي يقرّ بأنه كفّر، ولكنه ينفي التكفير بالعموم. فمن كفّر الشيخ؟
الحقيقة أنّ الشيخ ابن عبد الوهاب لم يكفّر كلّ الناس أي حكم على كل فرد بعينه بأنه كافر، إنما كفّر أغلب الناس، وكفّر المجتمع والدار والدولة. وإليك الدليل من ثقافة الدعوة الوهابية:
- قال الشيخ ابن عبد الوهاب لمحمد بن سعود (كما في عنوان المجد في تاريخ نجد، لابن بشر ج1ص42): "وأنت ترى نجداً وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم بعض".
- وقال في رسالة أرسلها إلى مطاوعة أهل سدير والوشم والقصيم (كما في تاريخ نجد، ص243-245): "وهذا معنى قول (لا إله إلا الله)... فمن عرف هذه المسألة عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان، وزيّن لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب حبّ الصالحين وتعظيمهم... لكن المشركون في زماننا أضلّ من الكفار الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين: أحدهما: أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء، وأما في الشدائد فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، الآية. والثاني: أن مشركي زماننا يدعون أناسا لا يوازنون عيسى والملائكة. إذا عرفتم هذا فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر، عبادة الأصنام، هذا يأتي إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي كالزبير وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح وهذا يدعوه في الضراء وفي غيبته، وهذا ينذر له، وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة، وهذا يسأله خير الدنيا والآخرة. فإن كنتم تعرفون أن هذا الشرك من جنس عبادة الأصنام الذي يخرج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر والبحر، وشاع وذاع، حتى إن كثيرا ممن يفعله يقوم الليل، ويصوم النهار، وينتسب إلى الصلاح والعبادة فما بالكم لم تفشوه في الناس؟ وتبينوا لهم أن هذا كفر بالله، مخرج عن الإسلام؟".
- وقال في رسالة أرسلها إلى عبد الرحمن بن ربيعة مطوع أهل ثادق (كما في تاريخ نجد،ص342): "وهذا الشرك الذي ذكره قد طبق اليوم مشارق الأرض ومغاربها، إلا الغرباء المذكورين في الحديث {وقليل ما هم}...".
- وقال (كما في الدرر السنية، ج10 ص6-8): "فاصبروا يا إخواني، واحمدوا الله على ما أعطاكم، من معرفة الله سبحانه، ومعرفة حقه على عباده، ومعرفة ملة أبيكم إبراهيم - في هذا الزمان - التي أكثر الناس منكر لها... وسمعتم قول المشركين: الشرك عبادة الأصنام، وأما الصالحون فلا، وسمعتم قولهم: لا نريد إلا من الله، لكن نريد بجاههم; وسمعتم ما ذكر الله في جواب هذا كله. وقد منّ الله عليكم بإقرار علماء المشركين بهذا كله، سمعتم إقرارهم: أن هذا الذي يفعل في الحرمين، والبصرة، والعراق، واليمن، أن هذا شرك بالله، فأقروا لكم: أن هذا الدين الذي ينصرون أهله، ويزعمون أنهم السواد الأعظم، أقروا لكم أن دينهم هو الشرك".
- وقال ابن غنّام (في تاريخ نجد، ص13-14): "كان أكثر المسلمين – في مطلع القرن الثاني عشر الهجري – قد ارتكسوا في الشرك، وارتدوا إلى الجاهلية، وانطفأ في نفوسهم نور الهدى، لغلبة الجهل عليهم، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال. فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من الضلالة... فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين... وظلوا يعكفون على أوثانهم تلك حتى صدق فيهم قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. وأحدثوا من الكفر والفجور، والشرك بعبادة أهل القبور، وصرف النذور إليهم، والابتهال بالدعاء لهم ما زادوا به على أهل الجاهلية... عكف إذن أكثر الناس على دعوة الأولياء والصالحين: أمواتهم وأحيائهم وفتنوا بالاعتقاد بقدرتهم على تقديم النفع وصرف السوء من دون الله... ولقد انتشر هذا الضلال حتى عمّ ديار المسلمين كافّة...". وانظر تفصيله لمظاهر الشرك في بلاد المسلمين كافة (نجد، الحجاز، الشام، مصر، العراق...) من ص14 إلى ص22 من كتابه.
- وقال ابن بشر (كما في عنوان المجد في تاريخ نجد،ج1 ص33-34): "وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد وغيرها، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها، والاستعاذة بالجن والنذر لهم، ووضع الطعام وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم. والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر".
- وقال عبد العزيز بن سعود في رسالة إلى أهل المخلاف السليماني (كما في الدرر السنية، ج1 ص266-267): "... فلما منّ الله علينا بمعرفة ذلك، وعرفنا أنه دين الرسل، اتبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس، من الشرك بالله، من عبادة أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إلى الله بالذبح لهم، وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات، وارتكاب الأمور المحرمات، وترك الصلوات، وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله تعالى الحق بعد خفائه، وأحي أثره بعد عفائه، على يد شيخ الإسلام، فهدى الله تعالى به من شاء من الأنام. وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له في آخرته المآب، فأبرز لنا ما هو الحق والصواب، من كتاب الله المجيد، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].فبين لنا أن الذي نحن عليه، وهو دين غالب الناس، من الاعتقادات في الصالحين وغيرهم، ودعوتهم، والتقرب بالذبح لهم، والنذر لهم، والاستغاثة بهم في الشدائد، وطلب الحاجات منهم أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه، وتهدد بالوعيد الشديد عليه، وأخبر في كتابه أنه لا يغفره إلا بالتوبة منه... فحين كشف لنا الأمر، وعرفنا ما نحن عليه من الشرك، والكفر بالنصوص القاطعة، والأدلة الساطعة، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الأئمة الأعلام الذين أجمعت الأمة على درايتهم، عرفنا أن ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولا، أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه وحذر...".
- وقال سعود بن عبد العزيز في رسالة إلى الكتخدا علي بك نائب والي بغداد من قبل الدولة العثمانية(كما في الدرر السنية، ج9 ص285): "... وما ذكرت من جهة الحرمين الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمدا كثيرا كما ينبغي أن يحمد، وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن الإسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد، وجب علينا الجهاد بحمد الله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم من غير استحلال لحرمتهما".
- وقال إبراهيم وعبد الله وعلي أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب (كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج1 ص27): "... تعرفون ما من الله به علينا وعليكم من دين الإسلام وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على جميع المسلمين. وأكثر الناس اليوم على الشرك وعبادة غير الله".
- وفي جواب مسائل وردت على ولدي الشيخ ابن عبد الوهاب حسين وعبد الله قالا (كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج1 ص44): "وقد يحكم بأنّ أهل هذه القرية كفار حكمهم حكم الكفار ولا يحكم بأن كل فرد منهم كافر بعينه؛ لأنه يحتمل أن يكون منهم من هو على الإسلام معذور في ترك الهجرة أو يظهر دينه ولا يعلمه المسلمون [أي أتباع الوهابية]...".
- وقال عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج4 ص48-49): "... الاختلاف الذي بيننا وبينكم ليس هذا سببه، وإنما سبب الاختلاف والعداوة والمقاتلة لمن قاتلناه هو الشرك بالله الذي قد انتشر وذاع في سائر البلاد، من يمن وشام ومغرب ومشرق، وهو الاستغاثة بالصالحين ودعوتهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد...".
- وسئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى (كما في الدرر السنية، ج9 ص252-253): "من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم؟ فأجابوا: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بدين الإسلام، لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى. وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره ونقاتله، ونشن عليه الغارة، بل بداره; وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحقق ونعتقده: أن أهل اليمن وتهامة، والحرمين والشام والعراق، قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص العبادة لله. وننكر ما عليه أكثر الناس، من الإشراك بالله من دعاء غير الله، والاستغاثة بهم عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات; وأنا نأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام; وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات; ومثل هؤلاء لا تجب دعوتهم قبل القتال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم خيبر، لما أعطاه الراية، وقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"، فهو عند أهل العلم على الاستحباب، وأما إذا قدرنا: أن أناسا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، فإن الواجب دعوتهم أولا قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم".
- وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (كما في الدرر السنية، ج10 ص404-405): "وهذا الذي ذكر الشيخ أن من فعله كافر بإجماع المسلمين، هو الذي يفعل اليوم عند هذه المشاهد المشهورة في أكثر بلاد الإسلام، بل زادوا على ذلك أضعافه، وضموا إلى ذلك الذبح والنذر لهم، وبعضهم زاد السجود لهم في الأرض. فنقول: كل من فعل اليوم ذلك عند هذه المشاهد، فهو مشرك كافر بلا شك، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ ونحن نعلم أن من فعل ذلك ممن ينتسب إلى الإسلام، أنه لم يوقعهم في ذلك إلا الجهل، فلو علموا أن ذلك يبعد عن الله غاية الإبعاد، وأنه من الشرك الذي حرمه الله، لم يقدموا عليه، فكفرهم جميع العلماء، ولم يعذروهم بالجهل، كما يقول بعض الضالين: إن هؤلاء معذورون لأنهم جهال".
- ووصف الشيخ عبد اللّطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ما كان عليه الناس زمن الشيخ ابن عبد الوهاب فقال (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص661-672): " كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت معبورة غير مردودة ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق على غير الله، من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين. وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون، وبه راضون... وهكذا سائر بلاد نجد، على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والردّ. ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطرائق الخاسرة قد فشت وظهرت، وعمّت وطمّت، حتى بلاد الحرمين الشريفين... كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل... وأما بلاد مصر وصعيدها وفيومها وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوى الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي وأمثاله من المعتقدين المعبودين. فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم... كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن، ففي صنعاء وبرع والمخا وغيرها من تلك البلاد ما يتنزّه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشيطان. فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم. وفي حضرموت والشحر وعدن ويافع ما تصتك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس! شيء لله يا محيي النفوس. وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن... وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من تلك المشاهد والنصب والأعلام ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا من الكفريات المصرية، والتلطخ بتلك الأوحوال الوثنية الشركية. وكذلك الموصل وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان... وكذلك جميع قرى الشط والمجرة على غاية من الجهل والمغرّة. وفي القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام، وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا عن مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل...".
- وقال الشيخ حمد بن علي بن عتيق (كما في هداية الطريق، ص137-138): "... بلغني عنك ما ساءني، عسى أن يكون كذبا، وهو أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الأحساء، التي تؤخذ منهم قهرا. فإن كان صدقا فلا أدري ما الذي عرض لك؛ والذي عندنا أنّ الذي ينكر مثل هذا الأمر يعتقد معتقد أهل الضلال القائلين: إن من قال (لا إله إلا الله) لا يكفر، وإن ما عليه أكثر الخلق من فعل الشرك وتوابعه، والرضاء بذلك، وعدم إنكاره، لا يخرج من الإسلام. وبذلك عارضوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أصل هذه الدعوة، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون قد اطلع على أن البلد إذا ظهر فيها الشرك وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها وتستباح دماؤهم... هذا ونحن نقول: قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن من مستضعف ونحوه، وأما في الظاهر فالأمر - ولله الحمد - واضح، ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة، مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام من استباحة الدماء والمال والسبي، وكل عاقل وعالم يعلم أن ما أتى به هؤلاء من الكفر والردة أقبح وأفحش وأكثر مما فعله أولئك...".
- وقال أيضا (كما في هداية الطريق، ص207-209): "جرت المذاكرة في كون مكة بلد كفر أم بلد إسلام; فنقول وبالله التوفيق:... وأما إذا كان الشرك فاشيا، مثل دعاء الكعبة والمقام والحطيم، ودعاء الأنبياء والصالحين وإفشاء توابع الشرك مثل الزنا والربا وأنواع الظلم، ونبذ السنن وراء الظهر، وفشوّ البدع والضلالات، وصار التحاكم إلى الأئمة الظلمة ونواب المشركين، وصارت الدعوة إلى غير القرآن والسنة، وصار هذا معلوما في أي بلد كان، فلا يشك من له أدنى علم أنّ هذه البلاد محكوم عليها بأنها بلاد كفر وشرك، لا سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد... وجماع الأمر أنه إذا ظهر في بلد دعاء غير الله وتوابع ذلك، واستمر أهلها عليه وقاتلوا عليه، وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد وأبوا عن الانقياد للدين، فكيف لا يحكم عليها بأنها بلد كفر؟ ولو كانوا لا ينتسبون لأهل الكفر، وأنهم منهم بريئون مع مسبتهم لهم، وتخطئتهم لمن دان به والحكم عليهم بأنهم خوارج أو كفار، فكيف إذا كانت هذه الأشياء كلها موجودة؟ فهذه مسألة عامة كلية".
- وقال الشيخ سليمان بن سحمان (كما في منهاج أهل الحق والإتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع، ص15-17): "قد كان أهل نجد قبل ظهور هذه الدعوة المحمدية [أي دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب] على غاية من الجهالة والضلالة, والفقر والعالة, لا يستريب في ذلك عاقل, ولا يجادل فيه عارف, كانوا على غاية من الجهالة في أمر دينهم, في جاهلية: يدعون الصالحين, ويعتقدون في الأشجار والأحجار والغيران, ويطوفون بقبور الأولياء, يرجون الخير والنصر من جهتها, وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية, وجهالة الصوفية ما يرون أنه من الشعب الإيمانية والطريقة المحمدية, وفيهم من إضاعة الصلاة ومنع الزكاة وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور, وغير ذلك من جميع الفواحش والمنكرات التي لا تحصى, ولا تستقصى, فهذه هي حال الحاضرة من أهل نجد قبل ظهور الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية. وأما حال الأعراب من أهل نجد وغيرهم فهم أغلظ كفرا ونفاقا, وأشد إعراضا عن الدين, مع ما هم عليه من قتل النفس ونهب الأموال وارتكاب المحرمات... ويصدق عليهم قول الأعرابي الذي وفد على الشيخ في الدرعية - لما تبين له الإسلام, وعرف أنّ ما هم عليه قبل ذلك هو الكفر والإشراك بالله - فقال: أشهد بالله أني وسائر البدو كفار, وأنّ المطوع الذي ما يكفر البدو كافر... فهذه هي حال أهل نجد حاضرتهم وباديتهم بعد ما دخلوا في دين الله وتركوا ما كانوا عليه قبل ذلك من الكفر بالله والإشراك به".
وقال (ص79): "... من في جزيرة العرب لا نعلم ما هم عليه جميعهم, بل الظاهر أن غالبهم وأكثرهم ليسوا على الإسلام, فلا نحكم على جميعهم بالكفر لاحتمال أن يكون فيهم مسلم. وأما من كان في ولاية إمام المسلمين [يعني الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود] فالغالب على أكثرهم الإسلام, لقيامهم بشرائع الإسلام الظاهرة. ومن قام به من نواقض الإسلام ما يكونون به كفارا فلا نحكم على جميعهم بالإسلام ولا على جميعهم بالكفر, لما ذكرنا. وأما من لم يكن في ولاية إمام المسلمين فلا ندري بجميع أحوالهم وما هم عليه, لكن الغالب على أكثرهم ما ذكرناه أولا من عدم الإسلام".
وقال (ص84): "أهل نجد كانوا قبل دعوة الشيخ على الكفر, وبينا أن جميع باديتهم وحاضرتهم أسلموا بتلك الدعوة, وعمهم الإسلام بما أغنى عن إعادته ههنا".
تكفير الدولة العثمانية
تبيّن معنا فيما سبق أنّ الدعوة الوهابية كفّرت غالب الناس، وكفّرت المجتمع والدار والدولة؛ ولهذا أقامت دولة إسلامية رفعت لواء الجهاد، وقاتلت الناس، واعتبرت أموالهم غنيمة (وهي ما يؤخذ من مال الكافر على وجه القهر والغلبة). ومن علماء الوهابية من يعتبر الدولة الوهابية/السعودية خلافة راشدة. جاء في ترجمة محمد بن سعود (كما في الدرر السنية، ج16 ص355): "صار هو: الخليفة في نجد، من سنة 1158 إلى 1179 وتتابعت الخلافة في ذريته إلى الآن". وفي رسالة من عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن فيصل قال (كما في الدرر السنية، ج14 ص122): " تفهم أن أول ما قام به جدك محمد، وعبد الله، وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة، يطلبون الحق ويعملون به، ويقومون ويغضبون له، ويرضون ويجاهدون، وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم، إذا مشى العدو كسره الله، قبل أن يصل، لأنها خلافة نبوة". وقال في رسالة أخرى (كما في الدرر السنية، ج14 ص77): "من عبد الرحمن بن حسن، إلى إمام المسلمين، وخليفة سيد المرسلين، في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين، والخلفاء الراشدين، فيصل بن تركي، جعله الله في عدادهم، متبعا لسيرهم وآثارهم، آمين".
وأما الخلافة العثمانية، فقد اعتبرها دعاة الوهابية دولة شركية؛ لأنّ مظاهر الشرك السائدة في البلاد الخاضعة لسلطتهم كانت بعلم السلطان والولاة، وكانت برعايتهم وتشجيعهم. قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (كما في الدرر السنية، ج10 ص397): "... عمارة هذه المشاهد الشركية، أكثرها من تحت أيدي ولاة الأمور، وأهل الدنيا، ووافقهم على ذلك، وزينه لهم بعض علماء السوء; وبسبب ذلك: استحكم الشر، وتزايد، والشر في زيادة، والخير في نقصان. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائها وفقهائها" فما أصدق قول عبد الله بن المبارك، رحمه الله تعالى: وهل أفسد الدين إلا الملوك، وأحبار سوء ورهبانها". وقال الشيخ عبد اللّطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بعدما وصف ما كان عليه الناس من الشرك في البلاد الإسلامية زمن الشيخ ابن عبد الوهاب (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص674-675): "وهذه الحوادث المذكورة، والكوارث المشهورة، والبدع المزبورة، قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان. ولكن لما كانت الغلبة للجهال والطغام، انتقضت عرى الدين، وانثلمت أركانه وانطمست منه الأعلام، وساعدهم على ذلك من قلّ حظه ونصيبه من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال والحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا بما هم عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام. ومع عدم العلم، والإعراض عن النظر في آيات الله والفهم، لا مندوحة للعامة عن تقليد الرؤساء والسادة... وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها".
ونذكر فيما يلي جملة من النقول تبيّن تكفير الوهابية للخلافة العثمانية والترك:
- قال سعود بن عبد العزيز في رسالة (بتاريخ 14 من ذي القعدة سنة 1225هـ) إلى سليمان باشا والي بغداد من قبل الدولة العثمانية (كما في الدرر السنية، ج1 ص293-312): "فشعائر الكفر بالله، والشرك به، هي الظاهرة عندكم، مثل بناء القباب على القبور، وإيقاد السرج عليها، وتعليق الستور عليها، وزيارتها بما لم يشرعه الله ورسوله، واتخاذها عيدا، وسؤال أصحابها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، هذا مع تضييع فرائض الله التي أمر الله بإقامتها، من الصلوات الخمس، وغيرها، فمن أراد الصلاة صلى وحده، ومن تركها لم ينكر عليه، وكذلك الزكاة ; وهذا أمر، قد شاع، وذاع، وملأ الأسماع، في كثير من بلاد الشام، والعراق، ومصر، وغير ذلك من البلدان... فانظر إلى تصريح هؤلاء الأئمة، بأن هذه الأعمال الشركية، قد عمت بها البلوى، وشاعت في كثير من بلاد الشام وغيرها، وأن الإسلام قد اشتدت غربته، حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا; وأن هذه المشاهد، والأبنية التي على القبور، قد كثرت، وكثر الشرك عندها وبها، حتى صار كثير منها، بمنزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها، وهذا مما يبطل قولكم: إنكم على الفطرة الإسلامية، والاعتقادات الصحيحة، ويبين أن أكثركم قد فارق ذلك، ونبذه وراء ظهره، وصار دينه الشرك بالله، ودعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتمسك بالبدع المحدثات. وأما قولكم: فنحن مسلمون حقا، وأجمع على ذلك أئمتنا أئمة المذاهب الأربعة، ومجتهدوا الدين والملة المحمدية. فنقول: قد بينا من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أتباع الأئمة الأربعة، ما يدحض حجتكم الواهية، ويبطل دعواكم الباطلة، وليس كل من ادعى دعوى، صدقها بفعله... وحالكم، وحال أئمتكم، وسلاطينكم، تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك. وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عام اثنين وعشرين، رسالة لسلطانكم: سليم، أرسلها ابن عمه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث به، ويدعوه، ويسأله النصر على الأعداء، من النصارى وغيرهم; وفيها من الذل، والخضوع، والعبادة، والخشوع، ما يشهد بكذبكم. وأولها: من عبيدك السلطان سليم، وبعد: يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروه ما لا نقدر على دفعه، واستولى عباد الصلبان على عباد الرحمن، نسألك النصر عليهم، والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا، وذكر كلاما كثيرا، هذا معناه وحاصله. فانظر إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم، العزى واللات، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد، أخلصوا لخالق البريات. فإذا كان هذا حال خاصتكم، فما الظن بفعل عامتكم، وقد رأينا من جنس كلام سلطانكم، كتبا كثيرة في الحجرة للعامة والخاصة، فيها من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات، ما لا نقدر على ضبطه... فإن كنتم صادقين في دعواكم أنكم على ملة الإسلام، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فاهدموا تلك الأوثان كلها، وسووها بالأرض، وتوبوا إلى الله من جميع الشرك والبدع، وحققوا قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ومن صرف من أنواع العبادة شيئا لغير الله، من الأحياء والأموات، فانهوه عن ذلك، وعرفوه أن هذا مناقض لدين الإسلام، ومشابهة لدين عباد الأصنام؛ فإن لم ينته عن ذلك إلا بالمقاتلة، وجب قتاله، حتى يجعل الدين كله لله; وقوموا على رعاياكم بالتزام شعائر الإسلام وأركانه، من إقام الصلاة جماعة في المساجد، فإن تخلف أحد، فأدبوه، وكذلك الزكاة التي فرض الله، تؤخذ من الأغنياء، وترد على أهلها الذين أمر الله بصرفها إليهم. فإذا فعلتم ذلك فأنتم إخواننا، لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، يحرم علينا دماؤكم وأموالكم. وأما إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك، الذي أنتم عليه، وتلتزموا دين الله الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك والبدع والمحدثات، لم نزل نقاتلكم، حتى تراجعوا دين الله القويم، وتسلكوا صراطه المستقيم، كما أمرنا الله بذلك...".
- وكتب الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رسالة في بيان كفر الترك وحرمة موالاتهم عنوانها: "الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك". قال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري (كما في الدرر السنية، ج9 ص157): "سبب تصنيف "الدلائل"، فإن الشيخ سليمان، صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد، من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم". وعليه، فالألفاظ الواردة في الكتاب، كأهل الشرك والمشركين وعبّاد القبور والقباب وجنود الشرك وغيرها، إنما يراد بها الأتراك. ومما جاء في الدلائل (ص5) قول الشيخ سليمان: "اعلم، رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم، خوفاً منهم ومداراة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود الشرك والقباب وأهلها، بعد ما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله؟ فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشدّ الناس عداوة لله ورسوله". وقوله (ص8-9): "فكيف بأهل البلدان الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، ودخلوا في طاعتهم وآووهم ونصروهم، وخذلوا أهل التوحيد، وابتغوا غير سبيلهم وخطئوهم، وظهر فيهم سبهم وشتمهم وعيبهم والاستهزاء بهم، وتسفيه رأيهم في ثباتهم على التوحيد، والصبر عليه وعلى الجهاد فيه، وعاونوهم على أهل التوحيد طوعاً لا كرهاً، واختياراً لا اضطراراً. فهؤلاء أولى بالكفر والنار، من الذين تركوا الهجرة شحاً بالوطن، وخوفاً من الكفار، وخرجوا في جيشهم مكرهين خائفين". وقوله (ص15): "فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة، يعبدون الله على حرف، أي على طرف، ليسوا ممن يعبد الله على يقين وثبات، فلما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم، وأظهروا موافقة المشركين، وأعطوهم الطاعة، وخرجوا من جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين، فهم معهم في الآخرة كما هم معهم في الدنيا، فـخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين". وقوله (19): "فأخبر تعالى خبرا بمعنى الأمر بولاية الله ورسوله والمؤمنين، وفي ضمنه النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين. ولا يخفى أي الحزبين أقرب إلى الله ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، أأهل الأوثان والقباب والقحاب واللواط والخمور والمنكرات، أم أهل الإخلاص وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؟ فالمتولي لضدهم واضع للولاية في غير محلها، مستبدل بولاية الله ورسوله والمؤمنين المقيمين للصلاة المؤتين للزكاة ولاية أهل الشرك والأوثان والقباب".
- وقال الشيخ علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب في قصيدة يتحدث فيها عن سقوط الدرعية (كما في مجموعة القصائد الزهديات، لعبد العزيز المحمد السلمان، ج1 ص412):
بَدَّلَت النَّعْمَاءُ بُؤْسًا وَأَصْبَحَتْ ... طُغَاةٌ عُتَاةٌ مَلْجَئًا لِلأَرَاذِلِ
وَبَثَّ عُتَاةُ الدِّيْنِ في الأرَضِ بَغْيَهُم ... وَرِيْعَتْ قُلُوبُ المُؤْمِنِيْنَ الغَوَافِلِ
وَأَقْبَلَ قَادَاتُ الضَّلاَلَةِ وَالرَّدَى ... وَسَادَاتُهَا في عَسْكَرٍ وَجَحَافِلِ
وَشُتِّتَ شَمْلُ الدِّيْنِ وَانْبَتَّ أصْلُهُ ... فَأَضْحَى مُضَاعًا كَالبُدُوْرِ الأَوَافِلِ
وَفَرّ عَنِ الأَوْطَانِ مَنْ كَانَ قَاطِنًا ... تَرَاهُمْ فُرَادَى نَحْوَ قِطْرٍ وَسَاحِلِ
وَفُرِّقَ شَمْلٌ كَانَ لِلْخَيْرِ شَاملاً ... وَزَالَتْ وُلاَةُ المُسْلِمِيْنَ الأَعَادلِ
وَسَادَ شِرَارُ الخَلْقِ في الأَرْضِ بَعُدْهُمْ ... وَدَارَتْ رَحىً لِلأَرْذَلِيْنَ الأَسَافِلِ
- وقال الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن معمّر في قصيدة يرثي فيها سقوط الدرعية (كما في مجموعة القصائد الزهديات، لعبد العزيز المحمد السلمان، ج1 ص234-235):
عسى وعسى أن ينصر الله دينه ... ويجبر منّا مأمنا قد تصدّعا
ويظهر نور الحقّ يعلو ضياؤه ... فيضحي ظلام الشرك والشكّ مقشعا
- وكتب الشيخ حمد بن علي بن عتيق رسالة في بيان كفر الترك وحرمة موالاتهم عنوانها: "سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك". قال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري (كما في الدرر السنية، ج9 ص157-158): "وكذلك: سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق "سبيل النجاة" هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين، وساعدهم من ساعدهم، حتى استولوا على كثير من بلاد نجد". ومما جاء في سبيل النجاة قول الشيخ حمد (كما في هداية الطريق، ص21): "ومما أخبر أنّ أمته تقاتل الترك... فكان من حكمة الله تعالى وعدله أن سلّطهم المسلمين، لما ظهرت فيهم الملة الحنيفية، ودعوا على الطريقة المحمدية. ولكن حصل من بعضهم ذنوب، بها تسلّطت هذه الدولة الكفرية [أي الدولة العثمانية]".
- وكتب أيضا رسالة عنوانها: "الدفاع عن أهل السنّة والإتباع"، ألفها لبيان حكم الهجرة عن بلد استولت عليه العساكر التركية "الذين قد شاع كفرهم وتنوع فسادهم". (ينظر هداية الطريق، ص73-99).
- وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله ابن طوق في قصيدة يصف فيها حال الأحساء بعد أن استولى عليها الأتراك أرسلها إلى الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (كما في مشاهير علماء نجد، ص1144-115):
وأعظم من ذا يا خليلي كتائب ... تهدم من ربع الهدى كل عامر
ويبدو بها التعطيل والكفر والزنا ... ويعلو من التأذين صوت المزامر
فقد سامنا الأعداء في كل خطة ... واصل من الإسلام سوم المقامر
أناخ لدينا للضلالة شيعة ... أباحوا حمى التوحيد من كل فاجر
- وفي الدرر السنية (ج9 ص209-210): "وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ: صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة علماء العارض، عن العجمان، والدويش، ومن تبعهم، حيث خرجوا من بلدان المسلمين، يدعون: أنهم مقتدون بجعفر بن أبي طالب وأصحابه، رضي الله عنهم، حيث خرجوا من مكة مهاجرين إلى الحبشة؟ فأجابوا: هؤلاء الذين ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش ومن تبعهم، لا شك في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم، فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم... وأما قول السائل: إنهم يدعون أنهم رعية الأتراك، ومن الأتراك السابقين، وأنهم لم يدخلوا تحت أمر ابن سعود وطاعته، إلا مغصوبين، فهذا أيضا من أعظم الأدلة على ردتهم، وكفرهم".
- وفي الدرر السنية (ج9 ص289-291): "وقال بعضهم رحمهم الله تعالى [أي من علماء الدعوة الوهابية]... فمن لم يكفّر المشركين من الدولة التركية، وعباد القبور كأهل مكة وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدل سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالبدع، فهو كافر مثلهم...".
- وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين (كما في الدرر السنية، ج6 ص398): "عن مسلم له ثمرة أخذها جيرانه، يدعون أنهم اشتروها من رجل آخر اشتراها من عدو تغلب عليهم، من أمراء الأتراك المتغلبين على البلاد، وأقام صاحب الثمرة بينة: أن هذا الرجل الذي باعها على جيرانه، استوهبها من العدو المتغلب فوهبها له، والبينة تشهد بإقرار البائع لها، وكذلك تشهد البينة على إقرار المشترين، الذين باشروا أخذها من رءوس النخل ... إلخ؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لا بد من الكلام على أصل هذه المسألة، وهو ما حكم مال المسلم إذا استولى عليه الكفار، هل يملكونه بذلك أم لا؟...".
- وقال الشيخ سليمان بن سحمان (كما في منهاج أهل الحق والإتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع، ص78): "وكذلك قوله رحمه: وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسالة فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره. قلت: وهؤلاء كأمثال الذين حكموا بإسلام طائفة الترك وأشباههم...".
- وقال (ص101): "... السفر إلى بلد الأحساء بعد أن أخرج الإمام الدولة الكفار [أي الدولة العثمانية] منها مباح، فهذا لا شك فيه، لأنها صارت دار إسلام، بعد أن كانت دار كفر...".
- وأنظر أيضا ديوانه المسمى "ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان" وستجد فيه جملة كثيرة من القصائد يكفّر فيها الدولة العثمانية والترك ومن رضي بولايتهم.
- وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري (كما في الدرر السنية، ج9 ص157-158): "نبين لكم سبب تصنيف "الدلائل"، فإن الشيخ سليمان، صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد، من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم. وكذلك: سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق "سبيل النجاة" هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين، وساعدهم من ساعدهم، حتى استولوا على كثير من بلاد نجد. فمعرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء، فإنه بحمد الله ظاهر المعنى؛ فإن المراد به موافقة الكفار على كفرهم، وإظهار مودتهم، ومعاونتهم على المسلمين، وتحسين أفعالهم، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم".
- وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن (كما في الدرر السنية، ج10 ص450-451): "... وأقاموا على ذلك مدة سنين، في أمن وعافية، وعز وتمكين، وبنودهم تخفق شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، حتى دهمهم ما دهمهم، من الحوادث العظام، التي أزعجت القلوب، وزلزلتهم من الأوطان، عقوبة قدرية، سببها ارتكاب الذنوب والمعاصي، لأن من عصى الله وهو يعرفه، سلط الله عليه من لا يعرفه. والفتنة التي حلت بهم، هي فتنة العساكر التركية، والمصرية، فانتثر نظام الإسلام، وشتت أنصاره وأعوانه، وارتحلت الدولة الإسلامية; وأعلن أهل النفاق بنفاقهم، فرجع من رجع إلى دين آبائه، وإلى ما كان عليه سابقا من الشرك والكفر; وثبت من ثبت على الإسلام; وقام بهم من أمور الجاهلية أشياء، لا تخرج من ثبت منهم عن الإسلام".
- وقال الشيخ عبد اللّطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص906-907): "... ثم بلغنا أن الدولة ومن والاهم من النصارى وأشباههم، نزلوا على القطيف، يزعمون نصرة عبد الله، وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضّينا سعودا على جهادهم ورغّبناه في قتالهم، وكتبنا لبلاد المسلمين بذلك. قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}. والعاقل يدور مع الحق أينما دار، وقتال الدولة والأتراك، والإفرنج وسائر الكفار، من أعظم الذخائر المنجية من النار".
- وقال في رسالة إلى حمد بن عتيق (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص920): "وعبد الله له بيعة، وله ولاية شرعية في الجملة. ثم بعد ذلك بدا لي منه: أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة [أي الدولة العثمانية]، واستنصرها، واستجلبها علي ديار المسلمين... فخاطبته شفاها بالإنكار والبراءة، وأغلظت له بالقول إنّ هذا هدم لأصول الإسلام، وقلع لقواعده، وفيه وفيه وفيه مما لا يحضرني تفصيله الآن، فأظهر التوبة والندم، وأكثر الاستغفار".
- وقال في رسالة إلى أهل الحوطة (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص940-941): "وبعد: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته والاعتصام بحبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين، فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة. وقد أناخ بساحتكم من الفتن والمحن ما لا نشكوه إلاّ إلى الله. فمن ذلك الفتنة الكبرى والمصيبة العظمى؛ الفتنة بعساكر المشركين أعداء الملة والدين [أي عساكر الخلافة العثمانية]، وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله، وتجريد التوحيد، والتحيز إلى أولياء الله وعباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك بالله، وعدل به غيره، ولم ينزّهه مما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون; وأفضل القرب إلى الله: مقت أعدائه المشركين، وبغضهم وعداوتهم وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك فله من ولايتهم بحسب ما أخلّ به وتركه من ذلك".
- وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف (كما في الدرر السنية، ج10 ص429): "عمن لم يكفر الدولة [أي الدولة العثمانية]، ومن جرهم على المسلمين، واختار ولايتهم وأنه يلزمهم الجهاد معه; والآخر لا يرى ذلك كله، بل الدولة ومن جرهم بغاة، ولا يحل منهم إلا ما يحل من البغاة، وأن ما يغنم من الأعراب حرام؟ فأجاب: من لم يعرف كفر الدولة، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله،؛ فإن اعتقد مع ذلك: أن الدولة مسلمون، فهو أشد وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله، وأشرك به; ومن جرهم وأعانهم على المسلمين، بأي إعانة، فهي ردة صريحة".
- وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ (كما في مشاهير علماء نجد وغيرهم، هامش ص94): "ما ذكره الشيخ عبد الرزاق البيطار وفيه خطآن الأول حذفه اسم والد المترجم الشيخ عبد الله فانه كما ذكرنا الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. والخطأ الثاني ترحمه على السلطان محمود فما كان يستحق ذلك وليس هذا محل إبراز معائب السلطان محمود والعثمانيين الذين تسلطوا على أهل هذه الدعوة السلفية بغياً وعدواناً والحمد لله أن هذه الدعوة السلفية عادت أعظم مما كانت وأن أعداءها بادوا لا تحس منهم أحداً ولا تسمع لهم ركزاً أيد الله ولاة هذه الدعوة من ملوك آل سعود وجعلهم أنصارا لدينه انه سميع مجيب".
- وقال (هامش ص111): "وقوله: وأظهر الاستغفار والندم، يريد بذلك الإمام عبد الله بن فيصل وسبب استغفاره وندمه وتوبته أنه استعان بالدولة العثمانية على قتال أخيه سعود بن فيصل وهذا لا يجوز لأنه حرام في الشرع الاستعانة بالمشرك على قتال المسلم ومعلوم أن الدولة العثمانية كانت وثنية تدين بالشرك والبدع وتحميها وتقاتل من وحد الله ودعا إلى إفراده بالعبادة. كما جرى لأهل هذه الدعوة السلفية معهم من الوقائع والحروب وما نقم العثمانيون من أهل هذه الدعوة السلفية إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله ودعوا إلى إفراد الله جل وعلا بالعبادة ودعوا إلى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر...".
أقول: والعجيب، أنّه لما وقعت الفتنة بين أبناء فيصل: عبد الله وسعود، وعزم عبد الله على الاستعانة بالدولة العثمانية، استفتى بعض العلماء الوهابية ومنهم محمد بن إبراهيم بن عجلان، فأفتوه بجواز ذلك من باب "جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام". فردّ عليه بعض علماء الوهابية ومنهم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن الذي قال في رسالة له (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص279-283): "وما ذكرت من استعانته بابن أريقط، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: "إنا لا نستعين بمشرك"، وابن أريقط أجير مستخدم، لا معين مكرم. وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام ابن تيمية استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار، وهلة عظيمة، وزلة ذميمة... وأما إجازتك الاستنصار بهم، فالنزاع في غير هذه المسألة، بل في توليتهم وجلبهم، وتمكينهم من دار إسلامية، هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملة، وأصول الدين وفروعه. وعند رؤسائهم قانون وطاغوت، وضعوه للحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها، مضاد ومخالف للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وأما مسألة: الاستنصار بهم، فمسألة خلافية والصحيح الذي عليه المحققون: منع ذلك مطلقاً... ثم القائل به شرط: أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم. وشرط أيضا أن لا يكون للمشرك صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية. واشترط مع ذلك أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة، بخلاف ما هنا. كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعف مرسل الزهري جداً. وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام. وأما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذ واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه. ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها...".
والقول بجواز الاستعانة بالدولة العثمانية من باب "جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام"، يدلّ على اتفاق علماء الوهابية على كفر الدولة العثمانية، وأنها دولة شركية وثنية يحرم الدخول في ولايتها.
تبيّن معنا فيما سبق أنّ الدعوة الوهابية كفّرت غالب الناس، وكفّرت المجتمع والدار والدولة؛ ولهذا أقامت دولة إسلامية رفعت لواء الجهاد، وقاتلت الناس، واعتبرت أموالهم غنيمة (وهي ما يؤخذ من مال الكافر على وجه القهر والغلبة). ومن علماء الوهابية من يعتبر الدولة الوهابية/السعودية خلافة راشدة. جاء في ترجمة محمد بن سعود (كما في الدرر السنية، ج16 ص355): "صار هو: الخليفة في نجد، من سنة 1158 إلى 1179 وتتابعت الخلافة في ذريته إلى الآن". وفي رسالة من عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن فيصل قال (كما في الدرر السنية، ج14 ص122): " تفهم أن أول ما قام به جدك محمد، وعبد الله، وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة، يطلبون الحق ويعملون به، ويقومون ويغضبون له، ويرضون ويجاهدون، وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم، إذا مشى العدو كسره الله، قبل أن يصل، لأنها خلافة نبوة". وقال في رسالة أخرى (كما في الدرر السنية، ج14 ص77): "من عبد الرحمن بن حسن، إلى إمام المسلمين، وخليفة سيد المرسلين، في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين، والخلفاء الراشدين، فيصل بن تركي، جعله الله في عدادهم، متبعا لسيرهم وآثارهم، آمين".
وأما الخلافة العثمانية، فقد اعتبرها دعاة الوهابية دولة شركية؛ لأنّ مظاهر الشرك السائدة في البلاد الخاضعة لسلطتهم كانت بعلم السلطان والولاة، وكانت برعايتهم وتشجيعهم. قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (كما في الدرر السنية، ج10 ص397): "... عمارة هذه المشاهد الشركية، أكثرها من تحت أيدي ولاة الأمور، وأهل الدنيا، ووافقهم على ذلك، وزينه لهم بعض علماء السوء; وبسبب ذلك: استحكم الشر، وتزايد، والشر في زيادة، والخير في نقصان. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائها وفقهائها" فما أصدق قول عبد الله بن المبارك، رحمه الله تعالى: وهل أفسد الدين إلا الملوك، وأحبار سوء ورهبانها". وقال الشيخ عبد اللّطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بعدما وصف ما كان عليه الناس من الشرك في البلاد الإسلامية زمن الشيخ ابن عبد الوهاب (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص674-675): "وهذه الحوادث المذكورة، والكوارث المشهورة، والبدع المزبورة، قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان. ولكن لما كانت الغلبة للجهال والطغام، انتقضت عرى الدين، وانثلمت أركانه وانطمست منه الأعلام، وساعدهم على ذلك من قلّ حظه ونصيبه من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال والحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا بما هم عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام. ومع عدم العلم، والإعراض عن النظر في آيات الله والفهم، لا مندوحة للعامة عن تقليد الرؤساء والسادة... وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها".
ونذكر فيما يلي جملة من النقول تبيّن تكفير الوهابية للخلافة العثمانية والترك:
- قال سعود بن عبد العزيز في رسالة (بتاريخ 14 من ذي القعدة سنة 1225هـ) إلى سليمان باشا والي بغداد من قبل الدولة العثمانية (كما في الدرر السنية، ج1 ص293-312): "فشعائر الكفر بالله، والشرك به، هي الظاهرة عندكم، مثل بناء القباب على القبور، وإيقاد السرج عليها، وتعليق الستور عليها، وزيارتها بما لم يشرعه الله ورسوله، واتخاذها عيدا، وسؤال أصحابها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، هذا مع تضييع فرائض الله التي أمر الله بإقامتها، من الصلوات الخمس، وغيرها، فمن أراد الصلاة صلى وحده، ومن تركها لم ينكر عليه، وكذلك الزكاة ; وهذا أمر، قد شاع، وذاع، وملأ الأسماع، في كثير من بلاد الشام، والعراق، ومصر، وغير ذلك من البلدان... فانظر إلى تصريح هؤلاء الأئمة، بأن هذه الأعمال الشركية، قد عمت بها البلوى، وشاعت في كثير من بلاد الشام وغيرها، وأن الإسلام قد اشتدت غربته، حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا; وأن هذه المشاهد، والأبنية التي على القبور، قد كثرت، وكثر الشرك عندها وبها، حتى صار كثير منها، بمنزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها، وهذا مما يبطل قولكم: إنكم على الفطرة الإسلامية، والاعتقادات الصحيحة، ويبين أن أكثركم قد فارق ذلك، ونبذه وراء ظهره، وصار دينه الشرك بالله، ودعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتمسك بالبدع المحدثات. وأما قولكم: فنحن مسلمون حقا، وأجمع على ذلك أئمتنا أئمة المذاهب الأربعة، ومجتهدوا الدين والملة المحمدية. فنقول: قد بينا من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أتباع الأئمة الأربعة، ما يدحض حجتكم الواهية، ويبطل دعواكم الباطلة، وليس كل من ادعى دعوى، صدقها بفعله... وحالكم، وحال أئمتكم، وسلاطينكم، تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك. وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عام اثنين وعشرين، رسالة لسلطانكم: سليم، أرسلها ابن عمه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث به، ويدعوه، ويسأله النصر على الأعداء، من النصارى وغيرهم; وفيها من الذل، والخضوع، والعبادة، والخشوع، ما يشهد بكذبكم. وأولها: من عبيدك السلطان سليم، وبعد: يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروه ما لا نقدر على دفعه، واستولى عباد الصلبان على عباد الرحمن، نسألك النصر عليهم، والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا، وذكر كلاما كثيرا، هذا معناه وحاصله. فانظر إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم، العزى واللات، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد، أخلصوا لخالق البريات. فإذا كان هذا حال خاصتكم، فما الظن بفعل عامتكم، وقد رأينا من جنس كلام سلطانكم، كتبا كثيرة في الحجرة للعامة والخاصة، فيها من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات، ما لا نقدر على ضبطه... فإن كنتم صادقين في دعواكم أنكم على ملة الإسلام، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فاهدموا تلك الأوثان كلها، وسووها بالأرض، وتوبوا إلى الله من جميع الشرك والبدع، وحققوا قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ومن صرف من أنواع العبادة شيئا لغير الله، من الأحياء والأموات، فانهوه عن ذلك، وعرفوه أن هذا مناقض لدين الإسلام، ومشابهة لدين عباد الأصنام؛ فإن لم ينته عن ذلك إلا بالمقاتلة، وجب قتاله، حتى يجعل الدين كله لله; وقوموا على رعاياكم بالتزام شعائر الإسلام وأركانه، من إقام الصلاة جماعة في المساجد، فإن تخلف أحد، فأدبوه، وكذلك الزكاة التي فرض الله، تؤخذ من الأغنياء، وترد على أهلها الذين أمر الله بصرفها إليهم. فإذا فعلتم ذلك فأنتم إخواننا، لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، يحرم علينا دماؤكم وأموالكم. وأما إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك، الذي أنتم عليه، وتلتزموا دين الله الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك والبدع والمحدثات، لم نزل نقاتلكم، حتى تراجعوا دين الله القويم، وتسلكوا صراطه المستقيم، كما أمرنا الله بذلك...".
- وكتب الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رسالة في بيان كفر الترك وحرمة موالاتهم عنوانها: "الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك". قال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري (كما في الدرر السنية، ج9 ص157): "سبب تصنيف "الدلائل"، فإن الشيخ سليمان، صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد، من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم". وعليه، فالألفاظ الواردة في الكتاب، كأهل الشرك والمشركين وعبّاد القبور والقباب وجنود الشرك وغيرها، إنما يراد بها الأتراك. ومما جاء في الدلائل (ص5) قول الشيخ سليمان: "اعلم، رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم، خوفاً منهم ومداراة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود الشرك والقباب وأهلها، بعد ما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله؟ فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشدّ الناس عداوة لله ورسوله". وقوله (ص8-9): "فكيف بأهل البلدان الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، ودخلوا في طاعتهم وآووهم ونصروهم، وخذلوا أهل التوحيد، وابتغوا غير سبيلهم وخطئوهم، وظهر فيهم سبهم وشتمهم وعيبهم والاستهزاء بهم، وتسفيه رأيهم في ثباتهم على التوحيد، والصبر عليه وعلى الجهاد فيه، وعاونوهم على أهل التوحيد طوعاً لا كرهاً، واختياراً لا اضطراراً. فهؤلاء أولى بالكفر والنار، من الذين تركوا الهجرة شحاً بالوطن، وخوفاً من الكفار، وخرجوا في جيشهم مكرهين خائفين". وقوله (ص15): "فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة، يعبدون الله على حرف، أي على طرف، ليسوا ممن يعبد الله على يقين وثبات، فلما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم، وأظهروا موافقة المشركين، وأعطوهم الطاعة، وخرجوا من جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين، فهم معهم في الآخرة كما هم معهم في الدنيا، فـخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين". وقوله (19): "فأخبر تعالى خبرا بمعنى الأمر بولاية الله ورسوله والمؤمنين، وفي ضمنه النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين. ولا يخفى أي الحزبين أقرب إلى الله ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، أأهل الأوثان والقباب والقحاب واللواط والخمور والمنكرات، أم أهل الإخلاص وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؟ فالمتولي لضدهم واضع للولاية في غير محلها، مستبدل بولاية الله ورسوله والمؤمنين المقيمين للصلاة المؤتين للزكاة ولاية أهل الشرك والأوثان والقباب".
- وقال الشيخ علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب في قصيدة يتحدث فيها عن سقوط الدرعية (كما في مجموعة القصائد الزهديات، لعبد العزيز المحمد السلمان، ج1 ص412):
بَدَّلَت النَّعْمَاءُ بُؤْسًا وَأَصْبَحَتْ ... طُغَاةٌ عُتَاةٌ مَلْجَئًا لِلأَرَاذِلِ
وَبَثَّ عُتَاةُ الدِّيْنِ في الأرَضِ بَغْيَهُم ... وَرِيْعَتْ قُلُوبُ المُؤْمِنِيْنَ الغَوَافِلِ
وَأَقْبَلَ قَادَاتُ الضَّلاَلَةِ وَالرَّدَى ... وَسَادَاتُهَا في عَسْكَرٍ وَجَحَافِلِ
وَشُتِّتَ شَمْلُ الدِّيْنِ وَانْبَتَّ أصْلُهُ ... فَأَضْحَى مُضَاعًا كَالبُدُوْرِ الأَوَافِلِ
وَفَرّ عَنِ الأَوْطَانِ مَنْ كَانَ قَاطِنًا ... تَرَاهُمْ فُرَادَى نَحْوَ قِطْرٍ وَسَاحِلِ
وَفُرِّقَ شَمْلٌ كَانَ لِلْخَيْرِ شَاملاً ... وَزَالَتْ وُلاَةُ المُسْلِمِيْنَ الأَعَادلِ
وَسَادَ شِرَارُ الخَلْقِ في الأَرْضِ بَعُدْهُمْ ... وَدَارَتْ رَحىً لِلأَرْذَلِيْنَ الأَسَافِلِ
- وقال الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن معمّر في قصيدة يرثي فيها سقوط الدرعية (كما في مجموعة القصائد الزهديات، لعبد العزيز المحمد السلمان، ج1 ص234-235):
عسى وعسى أن ينصر الله دينه ... ويجبر منّا مأمنا قد تصدّعا
ويظهر نور الحقّ يعلو ضياؤه ... فيضحي ظلام الشرك والشكّ مقشعا
- وكتب الشيخ حمد بن علي بن عتيق رسالة في بيان كفر الترك وحرمة موالاتهم عنوانها: "سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك". قال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري (كما في الدرر السنية، ج9 ص157-158): "وكذلك: سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق "سبيل النجاة" هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين، وساعدهم من ساعدهم، حتى استولوا على كثير من بلاد نجد". ومما جاء في سبيل النجاة قول الشيخ حمد (كما في هداية الطريق، ص21): "ومما أخبر أنّ أمته تقاتل الترك... فكان من حكمة الله تعالى وعدله أن سلّطهم المسلمين، لما ظهرت فيهم الملة الحنيفية، ودعوا على الطريقة المحمدية. ولكن حصل من بعضهم ذنوب، بها تسلّطت هذه الدولة الكفرية [أي الدولة العثمانية]".
- وكتب أيضا رسالة عنوانها: "الدفاع عن أهل السنّة والإتباع"، ألفها لبيان حكم الهجرة عن بلد استولت عليه العساكر التركية "الذين قد شاع كفرهم وتنوع فسادهم". (ينظر هداية الطريق، ص73-99).
- وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله ابن طوق في قصيدة يصف فيها حال الأحساء بعد أن استولى عليها الأتراك أرسلها إلى الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (كما في مشاهير علماء نجد، ص1144-115):
وأعظم من ذا يا خليلي كتائب ... تهدم من ربع الهدى كل عامر
ويبدو بها التعطيل والكفر والزنا ... ويعلو من التأذين صوت المزامر
فقد سامنا الأعداء في كل خطة ... واصل من الإسلام سوم المقامر
أناخ لدينا للضلالة شيعة ... أباحوا حمى التوحيد من كل فاجر
- وفي الدرر السنية (ج9 ص209-210): "وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ: صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة علماء العارض، عن العجمان، والدويش، ومن تبعهم، حيث خرجوا من بلدان المسلمين، يدعون: أنهم مقتدون بجعفر بن أبي طالب وأصحابه، رضي الله عنهم، حيث خرجوا من مكة مهاجرين إلى الحبشة؟ فأجابوا: هؤلاء الذين ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش ومن تبعهم، لا شك في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم، فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم... وأما قول السائل: إنهم يدعون أنهم رعية الأتراك، ومن الأتراك السابقين، وأنهم لم يدخلوا تحت أمر ابن سعود وطاعته، إلا مغصوبين، فهذا أيضا من أعظم الأدلة على ردتهم، وكفرهم".
- وفي الدرر السنية (ج9 ص289-291): "وقال بعضهم رحمهم الله تعالى [أي من علماء الدعوة الوهابية]... فمن لم يكفّر المشركين من الدولة التركية، وعباد القبور كأهل مكة وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدل سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالبدع، فهو كافر مثلهم...".
- وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين (كما في الدرر السنية، ج6 ص398): "عن مسلم له ثمرة أخذها جيرانه، يدعون أنهم اشتروها من رجل آخر اشتراها من عدو تغلب عليهم، من أمراء الأتراك المتغلبين على البلاد، وأقام صاحب الثمرة بينة: أن هذا الرجل الذي باعها على جيرانه، استوهبها من العدو المتغلب فوهبها له، والبينة تشهد بإقرار البائع لها، وكذلك تشهد البينة على إقرار المشترين، الذين باشروا أخذها من رءوس النخل ... إلخ؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لا بد من الكلام على أصل هذه المسألة، وهو ما حكم مال المسلم إذا استولى عليه الكفار، هل يملكونه بذلك أم لا؟...".
- وقال الشيخ سليمان بن سحمان (كما في منهاج أهل الحق والإتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع، ص78): "وكذلك قوله رحمه: وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسالة فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره. قلت: وهؤلاء كأمثال الذين حكموا بإسلام طائفة الترك وأشباههم...".
- وقال (ص101): "... السفر إلى بلد الأحساء بعد أن أخرج الإمام الدولة الكفار [أي الدولة العثمانية] منها مباح، فهذا لا شك فيه، لأنها صارت دار إسلام، بعد أن كانت دار كفر...".
- وأنظر أيضا ديوانه المسمى "ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان" وستجد فيه جملة كثيرة من القصائد يكفّر فيها الدولة العثمانية والترك ومن رضي بولايتهم.
- وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري (كما في الدرر السنية، ج9 ص157-158): "نبين لكم سبب تصنيف "الدلائل"، فإن الشيخ سليمان، صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد، من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم. وكذلك: سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق "سبيل النجاة" هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين، وساعدهم من ساعدهم، حتى استولوا على كثير من بلاد نجد. فمعرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء، فإنه بحمد الله ظاهر المعنى؛ فإن المراد به موافقة الكفار على كفرهم، وإظهار مودتهم، ومعاونتهم على المسلمين، وتحسين أفعالهم، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم".
- وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن (كما في الدرر السنية، ج10 ص450-451): "... وأقاموا على ذلك مدة سنين، في أمن وعافية، وعز وتمكين، وبنودهم تخفق شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، حتى دهمهم ما دهمهم، من الحوادث العظام، التي أزعجت القلوب، وزلزلتهم من الأوطان، عقوبة قدرية، سببها ارتكاب الذنوب والمعاصي، لأن من عصى الله وهو يعرفه، سلط الله عليه من لا يعرفه. والفتنة التي حلت بهم، هي فتنة العساكر التركية، والمصرية، فانتثر نظام الإسلام، وشتت أنصاره وأعوانه، وارتحلت الدولة الإسلامية; وأعلن أهل النفاق بنفاقهم، فرجع من رجع إلى دين آبائه، وإلى ما كان عليه سابقا من الشرك والكفر; وثبت من ثبت على الإسلام; وقام بهم من أمور الجاهلية أشياء، لا تخرج من ثبت منهم عن الإسلام".
- وقال الشيخ عبد اللّطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص906-907): "... ثم بلغنا أن الدولة ومن والاهم من النصارى وأشباههم، نزلوا على القطيف، يزعمون نصرة عبد الله، وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضّينا سعودا على جهادهم ورغّبناه في قتالهم، وكتبنا لبلاد المسلمين بذلك. قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}. والعاقل يدور مع الحق أينما دار، وقتال الدولة والأتراك، والإفرنج وسائر الكفار، من أعظم الذخائر المنجية من النار".
- وقال في رسالة إلى حمد بن عتيق (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص920): "وعبد الله له بيعة، وله ولاية شرعية في الجملة. ثم بعد ذلك بدا لي منه: أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة [أي الدولة العثمانية]، واستنصرها، واستجلبها علي ديار المسلمين... فخاطبته شفاها بالإنكار والبراءة، وأغلظت له بالقول إنّ هذا هدم لأصول الإسلام، وقلع لقواعده، وفيه وفيه وفيه مما لا يحضرني تفصيله الآن، فأظهر التوبة والندم، وأكثر الاستغفار".
- وقال في رسالة إلى أهل الحوطة (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص940-941): "وبعد: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته والاعتصام بحبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين، فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة. وقد أناخ بساحتكم من الفتن والمحن ما لا نشكوه إلاّ إلى الله. فمن ذلك الفتنة الكبرى والمصيبة العظمى؛ الفتنة بعساكر المشركين أعداء الملة والدين [أي عساكر الخلافة العثمانية]، وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله، وتجريد التوحيد، والتحيز إلى أولياء الله وعباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك بالله، وعدل به غيره، ولم ينزّهه مما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون; وأفضل القرب إلى الله: مقت أعدائه المشركين، وبغضهم وعداوتهم وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك فله من ولايتهم بحسب ما أخلّ به وتركه من ذلك".
- وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف (كما في الدرر السنية، ج10 ص429): "عمن لم يكفر الدولة [أي الدولة العثمانية]، ومن جرهم على المسلمين، واختار ولايتهم وأنه يلزمهم الجهاد معه; والآخر لا يرى ذلك كله، بل الدولة ومن جرهم بغاة، ولا يحل منهم إلا ما يحل من البغاة، وأن ما يغنم من الأعراب حرام؟ فأجاب: من لم يعرف كفر الدولة، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله،؛ فإن اعتقد مع ذلك: أن الدولة مسلمون، فهو أشد وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله، وأشرك به; ومن جرهم وأعانهم على المسلمين، بأي إعانة، فهي ردة صريحة".
- وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ (كما في مشاهير علماء نجد وغيرهم، هامش ص94): "ما ذكره الشيخ عبد الرزاق البيطار وفيه خطآن الأول حذفه اسم والد المترجم الشيخ عبد الله فانه كما ذكرنا الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. والخطأ الثاني ترحمه على السلطان محمود فما كان يستحق ذلك وليس هذا محل إبراز معائب السلطان محمود والعثمانيين الذين تسلطوا على أهل هذه الدعوة السلفية بغياً وعدواناً والحمد لله أن هذه الدعوة السلفية عادت أعظم مما كانت وأن أعداءها بادوا لا تحس منهم أحداً ولا تسمع لهم ركزاً أيد الله ولاة هذه الدعوة من ملوك آل سعود وجعلهم أنصارا لدينه انه سميع مجيب".
- وقال (هامش ص111): "وقوله: وأظهر الاستغفار والندم، يريد بذلك الإمام عبد الله بن فيصل وسبب استغفاره وندمه وتوبته أنه استعان بالدولة العثمانية على قتال أخيه سعود بن فيصل وهذا لا يجوز لأنه حرام في الشرع الاستعانة بالمشرك على قتال المسلم ومعلوم أن الدولة العثمانية كانت وثنية تدين بالشرك والبدع وتحميها وتقاتل من وحد الله ودعا إلى إفراده بالعبادة. كما جرى لأهل هذه الدعوة السلفية معهم من الوقائع والحروب وما نقم العثمانيون من أهل هذه الدعوة السلفية إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله ودعوا إلى إفراد الله جل وعلا بالعبادة ودعوا إلى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر...".
أقول: والعجيب، أنّه لما وقعت الفتنة بين أبناء فيصل: عبد الله وسعود، وعزم عبد الله على الاستعانة بالدولة العثمانية، استفتى بعض العلماء الوهابية ومنهم محمد بن إبراهيم بن عجلان، فأفتوه بجواز ذلك من باب "جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام". فردّ عليه بعض علماء الوهابية ومنهم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن الذي قال في رسالة له (كما في عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، ص279-283): "وما ذكرت من استعانته بابن أريقط، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: "إنا لا نستعين بمشرك"، وابن أريقط أجير مستخدم، لا معين مكرم. وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام ابن تيمية استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار، وهلة عظيمة، وزلة ذميمة... وأما إجازتك الاستنصار بهم، فالنزاع في غير هذه المسألة، بل في توليتهم وجلبهم، وتمكينهم من دار إسلامية، هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملة، وأصول الدين وفروعه. وعند رؤسائهم قانون وطاغوت، وضعوه للحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها، مضاد ومخالف للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وأما مسألة: الاستنصار بهم، فمسألة خلافية والصحيح الذي عليه المحققون: منع ذلك مطلقاً... ثم القائل به شرط: أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم. وشرط أيضا أن لا يكون للمشرك صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية. واشترط مع ذلك أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة، بخلاف ما هنا. كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعف مرسل الزهري جداً. وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام. وأما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذ واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه. ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها...".
والقول بجواز الاستعانة بالدولة العثمانية من باب "جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام"، يدلّ على اتفاق علماء الوهابية على كفر الدولة العثمانية، وأنها دولة شركية وثنية يحرم الدخول في ولايتها.
هل كانت الدولة العثمانية دولة إسلامية؟
- قال الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي (في الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها، ج1 ص54): "والدولة العثمانية دولة دينية. ويقصد بهذه العبارة الطابع الديني الإسلامي الذي اتسمت به تشريعاتها ومعظم تصرفاتها".
وقال (ج1 ص65): "ووضح الطابع الديني وعمقه في الدولة من حرصها على تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية تطبيقا صارما من ناحية، وعلى المحافظة على التقاليد الإسلامية من ناحية أخرى".
- وقال الدكتور إسماعيل أحمد ياغي (في الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص7): "ويعتبر التاريخ العثماني مكملا لتاريخ الإسلام، وإن السلاطين (الخلفاء) العثمانيين كانت لهم الهيبة والمحبة في نفوس المسلمين أسوة بغيرهم من الخلفاء الأمويين والعباسيين، فقد عملوا على نشر الإسلام، وأجلّوا العلماء وأكرموا أهل القرآن، وانقادوا للشرع الشريف مع علو قدرهم، فهم دائما للشرع معظمون وبإتباعه آمرون. واهتموا بخدمة الحرمين الشريفين والاعتناء بمصالحهما، وقدموا الصدقات الجليلة والإحسانات إلى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة والقدس والخليل...".
وقال (ص256): "كانت الدولة العثمانية تمثل الأقطار الإسلامية، فهي مركز الخلافة، لذا كان المسلمون في كل مكان ينظرون إلى الخلافة وإلى الخليفة نظرة احترام وتقدير، ويعدون أنفسهم من أتباعه ورعاياه، وبالتالي كانت نظرتهم إلى مركز الخلافة ومقرّها المحبة والعطف وكلما وجد المسلمون أنفسهم في ضائقة طلبوا الدعم من مركز الخلافة كما كان الخلفاء".
- وقال زياد أبو غنيمة (في جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين الأتراك، ص21): "الدولة العثمانية دولة إسلامية المنطلق، والراية، والهدف".
وقال (ص24): "لهؤلاء المتشككين، إن وجدوا، أسوق دليلا آخر، يتمثل في نصوص الواجبات التي أناطها دستور الدولة العثمانية بسلاطين الدولة... هذه الواجبات هي: أولا: أن يخضع السلطان لأحكام الشريعة الإسلامية خضوعا كاملا. ثانيا: أن يجلّ الشريعة الإسلامية ويبجّل علماءها. ثالثا: أن يحمي مقدسات المسلمين، وينظم شؤون الحجّ بعناية. رابعا: أن يدافع عن تخوم المسلمين ضد أعدائهم".
وقال (ص26): "ويؤكد الأستاذ الدكتور عبد الكريم غرايبة في كتابه (العرب والترك) الهوية الإسلامية للدولة العثمانية بقوله: لقد تعلّق الناس بالسلطان الذي وحدهم، فجعل بلادهم سوقا واحدة، وحماهم من العدو الإفرنجي، ورفع راية الإسلام زمنا طويلا، وطبّق أحكام الشريعة".
- وجاء (في كتاب: صفحات من تاريخ الدولة العثمانية، لجمال عبد الهادي محمد مسعود ووفاء جمعة وعلي لبن، ص8): "إن الدولة العثمانية كانت دولة عقدية بمعنى أنها تؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا؛ ولذلك فإن الدولة كانت تدعو إلى الإسلام في الداخل والخارج وتربي النشء عليه، وتحميه من التيارات الفكرية المعارضة للإسلام، وترتب على ذلك أيضا جميع أنظمة الدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والتعليمية والثقافية والعسكرية كانت تنبثق من الإسلام... من عقيد توحيد الله رب العالمين، وكذلك سياستها تجاه الدول الخارجية وعلاقاتها الدولية والمحلية".
- وقال الشيخ تقي الدين النبهاني (في نظام الإسلام، ص44-45): "أما كون المسلمين طبقوا الإسلام عملياً فإن الذي يطبق النظام هو الدولة، والذي يطبق في الدولة شخصان أحدهما القاضي الذي يفصل الخصومات بين الناس، والثاني الحاكم الذي يحكم الناس. أما القاضي فإنه نقل بطريق التواتر أن القضاة الذين يفصلون الخصومات بين الناس منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى نهاية الخلافة في استانبول، كانوا يفصلونها حسب أحكام الشرع الشريف في جميع أمور الحياة، سواء بين المسلمين وحدهم، وبين المسلمين وغيرهم. وقد كانت المحكمة التي تفصل جميع الخصومات من حقوق وجزاء وأحوال شخصية وغير ذلك، محكمة واحدة تحكم بالشرع الإسلامي وحده. ولم يرو أحد أن قضية واحدة فصلت على غير الأحكام الشرعية الإسلامية، أو أن محكمة ما في البلاد الإسلامية حكمت بغير الإسلام قبل فصل المحاكم إلى شرعية ونظامية بتأثير الاستعمار. وأقرب دليل على ذلك سجلات المحاكم الشرعية المحفوظة في البلدان القديمة كالقدس وبغداد ودمشق ومصر واستانبول وغيرها فإنها دليل يقيني بأن الشرع الإسلامي وحده هو الذي كان يطبقه القضاة. حتى إن غير المسلمين من النصارى واليهود كانوا يدرسون الفقه الإسلامي ويؤلفون فيه مثل سليم الباز شارح المجلة وغيره ممن ألفوا في الفقه الإسلامي في العصور المتأخرة. وأما ما أدخل من القوانين فإنه أدخل بناء على فتوى العلماء بأنها لا تخالف أحكام الإسلام، وهكذا أدخل قانون الجزاء العثماني 1275هـ الموافق 1857م وأدخل قانون الحقوق والتجارة 1276هـ الموافق 1858م ثم في 1288هـ والموافق 1870م جعلت المحاكم قسمين: محاكم شرعية ومحاكم نظامية، ووضع لها نظام. ثم في 1295هـ الموافق 1877م وضعت لائحة تشكيل المحاكم النظامية. ووضع قانون أصول المحاكمات الحقوقية والجزائية 1296هـ. ولما لم يجد العلماء ما يبرر إدخال القانون المدني إلى الدولة وضعت المجلة قانوناً للمعاملات، واستبعد القانون المدني وذلك 1286هـ. فهذه القوانين وضعت كأحكام يجيزها الإسلام، ولم توضع موضع العمل إلا بعد أن أخذت الفتوى بإجازتها، وبعد أن أذن شيخ الإسلام بها، كما تبين من المراسيم التي صدرت بها".
- وقال الدكتور أحمد آق كوندوز (في الدولة العثمانية المجهولة، ص12-13): "... حتى في أحلك أيام الدولة العثمانية وأكثرها سوءا بذلوا ما بوسعهم لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فلم يخالفوا صراحة حكما شرعيا إسلاميا صريحا كحرمة الخمر مثلا، بل اتبعوا الشريعة حتى في الأمور الاجتهادية، وملايين الوثائق الموجودة حاليا في الأرشيف العثماني تبرهن على هذا...".
وقال (ص566): "... ويلزم أن نعيّن المصادر الأساسية للتشريع العثماني حتى نستجلي طبيعة العلاقة بين الدين والدولة العثمانية التي هي خير أنمودج للدول الإسلامية. وإننا نعلم عند الرجوع إلى هذه المصادر، أن الدولة العثمانية نفذت الشريعة الإسلامية، ولا يتناقض ذلك مع استثناءات قليلة من النقص أو الخلل في التطبيقات. وننقل هنا خلاصات من لائحة (مذكرة) قدمها إلى السلطان عبد الحميد الثاني حقوقي غير مسلم نسب نفسه إلى الفلمنك (هولندا) فيها مطالعة لمصادر التشريع الإسلامي وكنهه: الدولة العثمانية دولة إسلامية، والشريعة عند المسلمين أوامر إلهية تتفرع إلى فرعين: أوامر دينية وأوامر دنيوية (عبادات ومعاملات) وهما لا ينفصلان عن بعضهما...".
وقال (ص589): "إنّ مراجعة متون القوانين العثمانية تبطل المزاعم الخاوية بأنّ الدولة العثمانية، السابقة لكثير من دول العالم الحاضر في ميادين الحقوق والحريات، قد قامت على السيف والقوة والسطوة والظلم، أو أنها لم تعتمد على الشريعة الإسلامية في نظامها القانوني رغم أنف هذه الوثائق التي تبرهن التزامها بالشرع الشريف...".
- وقال يلماز أوزتونا (في تاريخ الدولة العثمانية، ج2 ص465): "يوجد نظامان حقوقيان: الشريعة، وهي في غنى عن الإيضاح، والنظام الذي يسميه العثماني "سلطاني" وعلى الأكثر "خاقاني" وهو نظام تركي قديم. يمكن به تشريع أحكام لا توجد في الشريعة ووضع قوانين باسم الخاقان لحماية مصالح الدولة وكذلك مصالح الدين العليا. بشرط ألاّ تكون متعارضة مع الشريعة... طبّق الفقه الحنفي بصورة كاملة تقريبا في القانون المدني. ولكن وضعت أحكام ونشرت قوانين جديدة في المجالات كالجزاء، والضريبة والسياسة. وأساسا كان مبدأ الاستحسان في المذهب الحنفي والاستصلاح في المذهب المالكي، يوفران تسهيلات وراحة وحرية لم بيدهم الصلاحيات التشريعية في الدولة، وأبدع الأمثلة لذلك هي القوانين التي أمر القانوني بوضعها، وأعدها شيخ الإسلام أبو السعود أفندي. أمكن بها، بدهاء قانوني خارق تلبية احتياجات الدولة العالمية العظمى لذلك العصر بشكل لطيف جدا دون معارضة أحكام الشريعة".
- وقال الدكتور خليل اينالجيك (في تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ص112): "كان القانون العثماني يصدر على شكل فرمان، إذ إنّ "كل ما يرسمه السلطان هو قانون للسلطان"، ويتضمن سلسلة من الأنظمة التي يصدرها السلاطين شخصيا حسب مقتضى الأحوال. ولأجل ذلك فقد كان كل سلطان جديد يقوم بعد تنصيبه بتثبيت هذه القوانين. أمّا الشريعة فقد كانت القانون الأساسي والثابت، وبالتحديد القانون الديني الإسلامي. ولذلك فقد كانت الفرمانات السلطانية تتضمن دائما جملة تفيد أنّ هذه الفرمانات تنسجم مع الشريعة والقوانين الصادرة من قبل".
- وقال الشيخ محمد البشير النيفر (في فصل الدين عن الحكومة، ص24): "ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فكان ممن صلي نارها الدولة العثمانية الدستورية وهي يومئذ دولة الخلافة ودينها الإسلام حسب المنصوص عليه في دستورها. ثم وضعت الحرب أوزارها وخرجت الدولة منها مغلوبة على أمرها فرأت دولة انكلترا أنه جاء الوقت الذي تتمكن فيه من القضاء على الخلافة الإسلامية الدينية وتقيم مكانها دولة تقطع الصلة بينها وبين من يعتصم بحبل الدين من الدول والأفراد في الشرق والغرب، وسخرت لهذا أحد قواد الأتراك ممن رضي أن يقوم بهذا ويقضي على الخلافة ويجردها عن الدين، وفي هذا ما فيه من الفوائد للدولة الانكليزية والخسارات الجمة على الإسلام ودولته".
فالدولة العثمانية دولة إسلامية، كانت تطبّق الإسلام في سياستها الداخلية والخارجية، إلا أنها وقعت في أخطاء فادحة مما أدى إلى ضعفها وانحلالها وسقوطها.
- قال أبو الحسن الندوي (في ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص215-220): "ولم يكن الجمود العلمي والكلال الفكري مقتصرين على تركيا وأوساطها العلمية والدينية فحسب، بل كان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصابا بالجدب العلمي، وشبه شلل فكري، قد أخذه الإعياء والفتور، واستولى عليه النعاس. ولعل القرن التاسع- إذا لم نقل القرن الثامن- آخر قرون النشاط والتوليد والابتكار في الدين والعلم، والأدب والشعر والحكمة، والقرن العاشر أول قرون الخمود والتقليد والمحاكاة، وترى هذا الخمود عاما شاملا للعلوم الدينية والفنون الأدبية والمعاني الشعرية والإنشاء والتاريخ ومناهج التعليم، فلا تجد في كتب التراجم التي ألفت للعصور الأخيرة من تطلق عليه لقب العبقري، أو النابغة أو المحقق على الأقل، أو من جاء في فن من الفنون بشيء طريف مبتكر، أو زاد في العلم زيادة حسنة إذا استثنينا بعض الأفراد في أطراف العالم الإسلامي... ولا نقرأ في شعر هذه العصور الأخيرة على كثرة ما نظم وقيل فيها شعرا مطبوعا يعلق بالذهن أو إنشاء مترسلا ينشرح له الصدر، ترى أدبا فاترا باردا قد أفسده التأنق في الحلية اللفظية والمبالغة والتهويل في الألفاظ والمعاني وكثرة التملق في المدح والغزل بالمذكر في الشعر، والتكلف حتى في الرسائل الإخوانية والأغراض الطبيعية والسجع البارد حتى في كتب التاريخ والتراجم. كذلك حلقات التعليم قد رحلت عنها كتب المتقدمين وحلت محلها كتب المتأخرين المتكلفين وغصت بالحواشي والتقريرات والتلخيصات والمتون التي ضن فيها مؤلفوها على القرطاس، وتعمدوا التعقيد والغموض، وكأنهم ألفوها في صناعة الاختزال، وكل ذلك ينبئ عن الانحطاط الفكري والعلمي الذي حل بالعالم الإسلامي وتغلغل في أحشائه... ولم يكن انحطاط المسلمين في العلوم النظرية والحكمية والمدنية فحسب، بل كان هذا الانحطاط عاما شاملا، حتى تخلفوا عن أوربا في صناعة الحرب التي كان التركي في الزمن الأخير ابن بجدتها وأبا عذرتها، قد أقر بفضلهم وتبريزهم فيها العالم، ولكن سبقتهم أوربا باختراعها وقوة إبداعها وحسن تنظيمها حتى هزمت جيوشها الجيوش العثمانية هزيمة منكرة...".
- وقال الشيخ تقي الدين النبهاني (في الدولة الإسلامية، ص177-179): "وما أن جاء القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي حتى كان ميزان التاريخ بين الدولة الإسلامية والدول غير الإسلامية في تأرجح، فأخذت كفة العالم الإسلامي تخف في الوزن، وكفة الدول الأوروبية ترجح شيئاً فشيئاً. فقد بدأت اليقظة في أوروبا، وبدأت تظهر نتائجها وبدأت تظهر على المسلمين نتائج الجمود الفكري وسوء التطبيق للإسلام. وذلك أن القرن التاسع عشر شاهد انقلاباً خطيراً في الأفكار الأوروبية على أثر المجهود العظيم الذي بذله الفلاسفة والكتاب والمفكرون، والتغيير الشامل الذي طرأ على الفكر الأوروبي لإحياء الشعوب، فنشأت الحركات المتعددة التي كان لها أثر في إحداث آراء جديدة في وجهة النظر في الحياة. وكان من أهم ما وقع تعديل الأنظمة السياسية والتشريعية وجميع أنظمة الحياة، فقد زال شبح الملكية المستبدة تدريجياً في أوروبا، وحلت محلها أنظمة حكومية جديدة قائمة على الحكم النيابي وسيادة الأمة، فكان لهذا أثر كبير في توجيه النهضة الأوروبية، كما كان للانقلاب الصناعي الذي ظهر في هذا القرن في أوروبا الأثر الفعال. كما ظهرت الاختراعات المتعددة. فكان لذلك في مجموعه الأثر الفعال في تقوية أوروبا وفي تقدمها الفكري والمادي. وكان من جراء هذه القوى المادية والتقدم العلمي أن رجحت كفة العالم الأوروبي على العالم الإسلامي في الموقف الدولي رجحاناً عظيماً فتغير مفهوم المسألة الشرقية، فلم تعد مسألة اتقاء الأخطار الإسلامية على أوروبا، وإنما صارت مسألة الإبقاء على الدولة العثمانية أو تقسيمها، حيث اختلفت عليها الدول تبعاً لاختلافها في المصلحة، وكان هذا الانقلاب في مفهوم المسألة الشرقية وما طرأ على أحوال أوروبا من الارتفاع الفكري، والتقدم العلمي، والثورة الصناعية؛ وما طرأ على العثمانيين من الضعف والتفكك، كل ذلك أدى إلى هذا الانقلاب السياسي بين الدولة الإسلامية ودول الكفر، فرجحت كفة الأوروبيين وخفت كفة المسلمين. وكان سبب هذا الانقلاب السياسي في حالة أوروبا محاولة المفكرين فيها الوصول إلى نظام للحياة. وقد كان اتخاذهم وجهة نظر معينة في الحياة، واعتناقهم عقيدة معينة، وبناء النظام على أساسها، هو الذي قلب مفاهيم الأشياء عندهم وقلب مراتب القيم لديهم، مما أدى إلى الانقلاب العام في الحياة، ومما ساعد على وجود الانقلاب الصناعي العظيم. بخلاف الحال في العالم الإسلامي أو في الدولة العثمانية التي كانت تتزعمه، فإنها بدل أن تنظر لأوضاعها النظرة الصحيحة، وتفكر في مبدئها التفكير العميق، وتثير الأفكار وتعمل على إيجاد الاجتهاد، وتعالج مشاكلها حسب الأحكام المنبثقة عن عقيدتها، وتقبل على العلم والصناعة، بدل أن تفعل كل ذلك أصابتها حيرة وقلق مما حصل في أوروبا، ووقفت جامدة من جراء هذه الحيرة، ونتج عن ذلك تخلف الدولة العثمانية من الناحية العلمية والصناعية، فتخلفت في الرقي المادي وتخلفت عن باقي الدول. والسر في ذلك هو أن الدولة العثمانية دولة إسلامية، والشعوب التي تحكمها شعوب مسلمة. والإسلام هو عقيدة الدولة وهو نظامها، وأفكاره أفكارها، ووجهة نظره في الحياة هي وجهة نظرها، فكان عليها أن تنظر إلى الأفكار الجديدة التي حصلت في أوروبا وتقيسها بقاعدتها الفكرية، وأن تنظر إلى المشاكل الحديثة من وجهة نظر إسلامية فتعطي حكمها على الأفكار والمشاكل باجتهاد صحيح حسب وجهة نظر الإسلام، فَتَبُتفي شأنها من حيث الصحة والفساد، ولكنها لم تفعل؛ لأن الأفكار الإسلامية لم تكن واضحة لديها، فلم تكن لها مفاهيم محددة. ولأن العقيدة الإسلامية لم تكن قاعدة فكرية تبنى عليها جميع الأفكار، وإنما كانت عقيدة تقليدية. فكان الأساس الذي تقوم عليه الدولة وهو العقيدة والأفكار غير واضح لدى الدولة العثمانية، وكان النظام جامداً لعدم وجود الاجتهاد، وكانت الحضارة التي هي مجموع المفاهيم عن الحياة غير مبلورة وغير مقترنة بأعمال الدولة، فسبب ذلك الانحطاط الفكري وعدم وجود نهضة، ولهذا وقفوا مبهوتين أمام ما شاهدوه في أوروبا من الانقلاب الفكري والصناعي، فلم يقطعوا بأخذه، ولم يقطعوا بتركه، ولم يميزوا بين ما يجوز أن يأخذوه من علوم وصناعات واختراعات، وبين ما لا يجوز أن يأخذوه من فلسفة تعين وجهة النظر في الحياة، وحضارة هي مجموع المفاهيم عن الحياة. وبذلك جمدوا ولم يتحركوا، فكان هذا الجمود سبباً في وقوف عجلتهم في حين كانت عجلة الدول الأوروبية تسير، وما ذلك كله إلا بسبب عدم فهمهم الإسلام فهماً صحيحاً، وعدم إدراكهم التناقض بين الأفكار الأوروبية وأفكارهم، وعدم تمييزهم بين العلم والصناعات والاختراعات مما يحثهم الإسلام على أخذها، وبين الفلسفة والحضارة والفكر مما يمنعهم الإسلام من أخذها".
ورغم الأخطاء التي وقعت فيها الدولة العثمانية كسوء الفهم لبعض المسائل في العقيدة والشريعة ونظام الحكم، ورغم تكالب الأعداء عليها وسعيهم لتشويه صورتها، ورغم خيانة بعض الأمراء لها كالشريف حسين وآل سعود، رغم تكفير علماء الوهابية لها، إلا أنها ظلّت في نظر العالم الإسلامي وعند أغلب المسلمين خلافة إسلامية تمثّل وحدتهم ويجب الدفاع عنها. قال الدكتور محمد محمد حسين (في الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج1 ص27-28): "هذه النزعة الإسلامية التي رأيناها واضحة في كتّاب العصر وقادته ومفكريه نستطيع أن نتتبعها في الشعر فنجدها في مثل هذا الوضوح. فليس بين الشعراء المعاصرين وقتذاك، على اختلافهم وتباين نزعاتهم، من يخلو ديوانه من شعر في مدح الخليفة التركي، والإشادة بفضله على المسلمين، وحرصه على إعلاء كلمة الدين. وليس فيهم من تخلف عن المشاركة بشعره في حروب تركيا وأحداثها الجسام، مثل حرب اليونان وحرب طرابلس وحرب البلقان والدستور العثماني وسقوط عبد الحميد. وهم يرون أن الخليفة هو الجامع لشمل المسلمين، وأنه حين يحارب إنما يحارب دفاعا عن الإسلام وتمسكا بإعلاء كلمته بين الدول التي تتربص به. وهم يدعون إلى اتحاد كلمة المسلمين في ظل راية الخلافة، محذرين من الإصغاء إلى دعوة التفرقة التي لا تصيب الأمم الإسلامية جميعا إلا بالشرّ".
- قال الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي (في الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها، ج1 ص54): "والدولة العثمانية دولة دينية. ويقصد بهذه العبارة الطابع الديني الإسلامي الذي اتسمت به تشريعاتها ومعظم تصرفاتها".
وقال (ج1 ص65): "ووضح الطابع الديني وعمقه في الدولة من حرصها على تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية تطبيقا صارما من ناحية، وعلى المحافظة على التقاليد الإسلامية من ناحية أخرى".
- وقال الدكتور إسماعيل أحمد ياغي (في الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص7): "ويعتبر التاريخ العثماني مكملا لتاريخ الإسلام، وإن السلاطين (الخلفاء) العثمانيين كانت لهم الهيبة والمحبة في نفوس المسلمين أسوة بغيرهم من الخلفاء الأمويين والعباسيين، فقد عملوا على نشر الإسلام، وأجلّوا العلماء وأكرموا أهل القرآن، وانقادوا للشرع الشريف مع علو قدرهم، فهم دائما للشرع معظمون وبإتباعه آمرون. واهتموا بخدمة الحرمين الشريفين والاعتناء بمصالحهما، وقدموا الصدقات الجليلة والإحسانات إلى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة والقدس والخليل...".
وقال (ص256): "كانت الدولة العثمانية تمثل الأقطار الإسلامية، فهي مركز الخلافة، لذا كان المسلمون في كل مكان ينظرون إلى الخلافة وإلى الخليفة نظرة احترام وتقدير، ويعدون أنفسهم من أتباعه ورعاياه، وبالتالي كانت نظرتهم إلى مركز الخلافة ومقرّها المحبة والعطف وكلما وجد المسلمون أنفسهم في ضائقة طلبوا الدعم من مركز الخلافة كما كان الخلفاء".
- وقال زياد أبو غنيمة (في جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين الأتراك، ص21): "الدولة العثمانية دولة إسلامية المنطلق، والراية، والهدف".
وقال (ص24): "لهؤلاء المتشككين، إن وجدوا، أسوق دليلا آخر، يتمثل في نصوص الواجبات التي أناطها دستور الدولة العثمانية بسلاطين الدولة... هذه الواجبات هي: أولا: أن يخضع السلطان لأحكام الشريعة الإسلامية خضوعا كاملا. ثانيا: أن يجلّ الشريعة الإسلامية ويبجّل علماءها. ثالثا: أن يحمي مقدسات المسلمين، وينظم شؤون الحجّ بعناية. رابعا: أن يدافع عن تخوم المسلمين ضد أعدائهم".
وقال (ص26): "ويؤكد الأستاذ الدكتور عبد الكريم غرايبة في كتابه (العرب والترك) الهوية الإسلامية للدولة العثمانية بقوله: لقد تعلّق الناس بالسلطان الذي وحدهم، فجعل بلادهم سوقا واحدة، وحماهم من العدو الإفرنجي، ورفع راية الإسلام زمنا طويلا، وطبّق أحكام الشريعة".
- وجاء (في كتاب: صفحات من تاريخ الدولة العثمانية، لجمال عبد الهادي محمد مسعود ووفاء جمعة وعلي لبن، ص8): "إن الدولة العثمانية كانت دولة عقدية بمعنى أنها تؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا؛ ولذلك فإن الدولة كانت تدعو إلى الإسلام في الداخل والخارج وتربي النشء عليه، وتحميه من التيارات الفكرية المعارضة للإسلام، وترتب على ذلك أيضا جميع أنظمة الدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والتعليمية والثقافية والعسكرية كانت تنبثق من الإسلام... من عقيد توحيد الله رب العالمين، وكذلك سياستها تجاه الدول الخارجية وعلاقاتها الدولية والمحلية".
- وقال الشيخ تقي الدين النبهاني (في نظام الإسلام، ص44-45): "أما كون المسلمين طبقوا الإسلام عملياً فإن الذي يطبق النظام هو الدولة، والذي يطبق في الدولة شخصان أحدهما القاضي الذي يفصل الخصومات بين الناس، والثاني الحاكم الذي يحكم الناس. أما القاضي فإنه نقل بطريق التواتر أن القضاة الذين يفصلون الخصومات بين الناس منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى نهاية الخلافة في استانبول، كانوا يفصلونها حسب أحكام الشرع الشريف في جميع أمور الحياة، سواء بين المسلمين وحدهم، وبين المسلمين وغيرهم. وقد كانت المحكمة التي تفصل جميع الخصومات من حقوق وجزاء وأحوال شخصية وغير ذلك، محكمة واحدة تحكم بالشرع الإسلامي وحده. ولم يرو أحد أن قضية واحدة فصلت على غير الأحكام الشرعية الإسلامية، أو أن محكمة ما في البلاد الإسلامية حكمت بغير الإسلام قبل فصل المحاكم إلى شرعية ونظامية بتأثير الاستعمار. وأقرب دليل على ذلك سجلات المحاكم الشرعية المحفوظة في البلدان القديمة كالقدس وبغداد ودمشق ومصر واستانبول وغيرها فإنها دليل يقيني بأن الشرع الإسلامي وحده هو الذي كان يطبقه القضاة. حتى إن غير المسلمين من النصارى واليهود كانوا يدرسون الفقه الإسلامي ويؤلفون فيه مثل سليم الباز شارح المجلة وغيره ممن ألفوا في الفقه الإسلامي في العصور المتأخرة. وأما ما أدخل من القوانين فإنه أدخل بناء على فتوى العلماء بأنها لا تخالف أحكام الإسلام، وهكذا أدخل قانون الجزاء العثماني 1275هـ الموافق 1857م وأدخل قانون الحقوق والتجارة 1276هـ الموافق 1858م ثم في 1288هـ والموافق 1870م جعلت المحاكم قسمين: محاكم شرعية ومحاكم نظامية، ووضع لها نظام. ثم في 1295هـ الموافق 1877م وضعت لائحة تشكيل المحاكم النظامية. ووضع قانون أصول المحاكمات الحقوقية والجزائية 1296هـ. ولما لم يجد العلماء ما يبرر إدخال القانون المدني إلى الدولة وضعت المجلة قانوناً للمعاملات، واستبعد القانون المدني وذلك 1286هـ. فهذه القوانين وضعت كأحكام يجيزها الإسلام، ولم توضع موضع العمل إلا بعد أن أخذت الفتوى بإجازتها، وبعد أن أذن شيخ الإسلام بها، كما تبين من المراسيم التي صدرت بها".
- وقال الدكتور أحمد آق كوندوز (في الدولة العثمانية المجهولة، ص12-13): "... حتى في أحلك أيام الدولة العثمانية وأكثرها سوءا بذلوا ما بوسعهم لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فلم يخالفوا صراحة حكما شرعيا إسلاميا صريحا كحرمة الخمر مثلا، بل اتبعوا الشريعة حتى في الأمور الاجتهادية، وملايين الوثائق الموجودة حاليا في الأرشيف العثماني تبرهن على هذا...".
وقال (ص566): "... ويلزم أن نعيّن المصادر الأساسية للتشريع العثماني حتى نستجلي طبيعة العلاقة بين الدين والدولة العثمانية التي هي خير أنمودج للدول الإسلامية. وإننا نعلم عند الرجوع إلى هذه المصادر، أن الدولة العثمانية نفذت الشريعة الإسلامية، ولا يتناقض ذلك مع استثناءات قليلة من النقص أو الخلل في التطبيقات. وننقل هنا خلاصات من لائحة (مذكرة) قدمها إلى السلطان عبد الحميد الثاني حقوقي غير مسلم نسب نفسه إلى الفلمنك (هولندا) فيها مطالعة لمصادر التشريع الإسلامي وكنهه: الدولة العثمانية دولة إسلامية، والشريعة عند المسلمين أوامر إلهية تتفرع إلى فرعين: أوامر دينية وأوامر دنيوية (عبادات ومعاملات) وهما لا ينفصلان عن بعضهما...".
وقال (ص589): "إنّ مراجعة متون القوانين العثمانية تبطل المزاعم الخاوية بأنّ الدولة العثمانية، السابقة لكثير من دول العالم الحاضر في ميادين الحقوق والحريات، قد قامت على السيف والقوة والسطوة والظلم، أو أنها لم تعتمد على الشريعة الإسلامية في نظامها القانوني رغم أنف هذه الوثائق التي تبرهن التزامها بالشرع الشريف...".
- وقال يلماز أوزتونا (في تاريخ الدولة العثمانية، ج2 ص465): "يوجد نظامان حقوقيان: الشريعة، وهي في غنى عن الإيضاح، والنظام الذي يسميه العثماني "سلطاني" وعلى الأكثر "خاقاني" وهو نظام تركي قديم. يمكن به تشريع أحكام لا توجد في الشريعة ووضع قوانين باسم الخاقان لحماية مصالح الدولة وكذلك مصالح الدين العليا. بشرط ألاّ تكون متعارضة مع الشريعة... طبّق الفقه الحنفي بصورة كاملة تقريبا في القانون المدني. ولكن وضعت أحكام ونشرت قوانين جديدة في المجالات كالجزاء، والضريبة والسياسة. وأساسا كان مبدأ الاستحسان في المذهب الحنفي والاستصلاح في المذهب المالكي، يوفران تسهيلات وراحة وحرية لم بيدهم الصلاحيات التشريعية في الدولة، وأبدع الأمثلة لذلك هي القوانين التي أمر القانوني بوضعها، وأعدها شيخ الإسلام أبو السعود أفندي. أمكن بها، بدهاء قانوني خارق تلبية احتياجات الدولة العالمية العظمى لذلك العصر بشكل لطيف جدا دون معارضة أحكام الشريعة".
- وقال الدكتور خليل اينالجيك (في تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ص112): "كان القانون العثماني يصدر على شكل فرمان، إذ إنّ "كل ما يرسمه السلطان هو قانون للسلطان"، ويتضمن سلسلة من الأنظمة التي يصدرها السلاطين شخصيا حسب مقتضى الأحوال. ولأجل ذلك فقد كان كل سلطان جديد يقوم بعد تنصيبه بتثبيت هذه القوانين. أمّا الشريعة فقد كانت القانون الأساسي والثابت، وبالتحديد القانون الديني الإسلامي. ولذلك فقد كانت الفرمانات السلطانية تتضمن دائما جملة تفيد أنّ هذه الفرمانات تنسجم مع الشريعة والقوانين الصادرة من قبل".
- وقال الشيخ محمد البشير النيفر (في فصل الدين عن الحكومة، ص24): "ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فكان ممن صلي نارها الدولة العثمانية الدستورية وهي يومئذ دولة الخلافة ودينها الإسلام حسب المنصوص عليه في دستورها. ثم وضعت الحرب أوزارها وخرجت الدولة منها مغلوبة على أمرها فرأت دولة انكلترا أنه جاء الوقت الذي تتمكن فيه من القضاء على الخلافة الإسلامية الدينية وتقيم مكانها دولة تقطع الصلة بينها وبين من يعتصم بحبل الدين من الدول والأفراد في الشرق والغرب، وسخرت لهذا أحد قواد الأتراك ممن رضي أن يقوم بهذا ويقضي على الخلافة ويجردها عن الدين، وفي هذا ما فيه من الفوائد للدولة الانكليزية والخسارات الجمة على الإسلام ودولته".
فالدولة العثمانية دولة إسلامية، كانت تطبّق الإسلام في سياستها الداخلية والخارجية، إلا أنها وقعت في أخطاء فادحة مما أدى إلى ضعفها وانحلالها وسقوطها.
- قال أبو الحسن الندوي (في ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص215-220): "ولم يكن الجمود العلمي والكلال الفكري مقتصرين على تركيا وأوساطها العلمية والدينية فحسب، بل كان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصابا بالجدب العلمي، وشبه شلل فكري، قد أخذه الإعياء والفتور، واستولى عليه النعاس. ولعل القرن التاسع- إذا لم نقل القرن الثامن- آخر قرون النشاط والتوليد والابتكار في الدين والعلم، والأدب والشعر والحكمة، والقرن العاشر أول قرون الخمود والتقليد والمحاكاة، وترى هذا الخمود عاما شاملا للعلوم الدينية والفنون الأدبية والمعاني الشعرية والإنشاء والتاريخ ومناهج التعليم، فلا تجد في كتب التراجم التي ألفت للعصور الأخيرة من تطلق عليه لقب العبقري، أو النابغة أو المحقق على الأقل، أو من جاء في فن من الفنون بشيء طريف مبتكر، أو زاد في العلم زيادة حسنة إذا استثنينا بعض الأفراد في أطراف العالم الإسلامي... ولا نقرأ في شعر هذه العصور الأخيرة على كثرة ما نظم وقيل فيها شعرا مطبوعا يعلق بالذهن أو إنشاء مترسلا ينشرح له الصدر، ترى أدبا فاترا باردا قد أفسده التأنق في الحلية اللفظية والمبالغة والتهويل في الألفاظ والمعاني وكثرة التملق في المدح والغزل بالمذكر في الشعر، والتكلف حتى في الرسائل الإخوانية والأغراض الطبيعية والسجع البارد حتى في كتب التاريخ والتراجم. كذلك حلقات التعليم قد رحلت عنها كتب المتقدمين وحلت محلها كتب المتأخرين المتكلفين وغصت بالحواشي والتقريرات والتلخيصات والمتون التي ضن فيها مؤلفوها على القرطاس، وتعمدوا التعقيد والغموض، وكأنهم ألفوها في صناعة الاختزال، وكل ذلك ينبئ عن الانحطاط الفكري والعلمي الذي حل بالعالم الإسلامي وتغلغل في أحشائه... ولم يكن انحطاط المسلمين في العلوم النظرية والحكمية والمدنية فحسب، بل كان هذا الانحطاط عاما شاملا، حتى تخلفوا عن أوربا في صناعة الحرب التي كان التركي في الزمن الأخير ابن بجدتها وأبا عذرتها، قد أقر بفضلهم وتبريزهم فيها العالم، ولكن سبقتهم أوربا باختراعها وقوة إبداعها وحسن تنظيمها حتى هزمت جيوشها الجيوش العثمانية هزيمة منكرة...".
- وقال الشيخ تقي الدين النبهاني (في الدولة الإسلامية، ص177-179): "وما أن جاء القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي حتى كان ميزان التاريخ بين الدولة الإسلامية والدول غير الإسلامية في تأرجح، فأخذت كفة العالم الإسلامي تخف في الوزن، وكفة الدول الأوروبية ترجح شيئاً فشيئاً. فقد بدأت اليقظة في أوروبا، وبدأت تظهر نتائجها وبدأت تظهر على المسلمين نتائج الجمود الفكري وسوء التطبيق للإسلام. وذلك أن القرن التاسع عشر شاهد انقلاباً خطيراً في الأفكار الأوروبية على أثر المجهود العظيم الذي بذله الفلاسفة والكتاب والمفكرون، والتغيير الشامل الذي طرأ على الفكر الأوروبي لإحياء الشعوب، فنشأت الحركات المتعددة التي كان لها أثر في إحداث آراء جديدة في وجهة النظر في الحياة. وكان من أهم ما وقع تعديل الأنظمة السياسية والتشريعية وجميع أنظمة الحياة، فقد زال شبح الملكية المستبدة تدريجياً في أوروبا، وحلت محلها أنظمة حكومية جديدة قائمة على الحكم النيابي وسيادة الأمة، فكان لهذا أثر كبير في توجيه النهضة الأوروبية، كما كان للانقلاب الصناعي الذي ظهر في هذا القرن في أوروبا الأثر الفعال. كما ظهرت الاختراعات المتعددة. فكان لذلك في مجموعه الأثر الفعال في تقوية أوروبا وفي تقدمها الفكري والمادي. وكان من جراء هذه القوى المادية والتقدم العلمي أن رجحت كفة العالم الأوروبي على العالم الإسلامي في الموقف الدولي رجحاناً عظيماً فتغير مفهوم المسألة الشرقية، فلم تعد مسألة اتقاء الأخطار الإسلامية على أوروبا، وإنما صارت مسألة الإبقاء على الدولة العثمانية أو تقسيمها، حيث اختلفت عليها الدول تبعاً لاختلافها في المصلحة، وكان هذا الانقلاب في مفهوم المسألة الشرقية وما طرأ على أحوال أوروبا من الارتفاع الفكري، والتقدم العلمي، والثورة الصناعية؛ وما طرأ على العثمانيين من الضعف والتفكك، كل ذلك أدى إلى هذا الانقلاب السياسي بين الدولة الإسلامية ودول الكفر، فرجحت كفة الأوروبيين وخفت كفة المسلمين. وكان سبب هذا الانقلاب السياسي في حالة أوروبا محاولة المفكرين فيها الوصول إلى نظام للحياة. وقد كان اتخاذهم وجهة نظر معينة في الحياة، واعتناقهم عقيدة معينة، وبناء النظام على أساسها، هو الذي قلب مفاهيم الأشياء عندهم وقلب مراتب القيم لديهم، مما أدى إلى الانقلاب العام في الحياة، ومما ساعد على وجود الانقلاب الصناعي العظيم. بخلاف الحال في العالم الإسلامي أو في الدولة العثمانية التي كانت تتزعمه، فإنها بدل أن تنظر لأوضاعها النظرة الصحيحة، وتفكر في مبدئها التفكير العميق، وتثير الأفكار وتعمل على إيجاد الاجتهاد، وتعالج مشاكلها حسب الأحكام المنبثقة عن عقيدتها، وتقبل على العلم والصناعة، بدل أن تفعل كل ذلك أصابتها حيرة وقلق مما حصل في أوروبا، ووقفت جامدة من جراء هذه الحيرة، ونتج عن ذلك تخلف الدولة العثمانية من الناحية العلمية والصناعية، فتخلفت في الرقي المادي وتخلفت عن باقي الدول. والسر في ذلك هو أن الدولة العثمانية دولة إسلامية، والشعوب التي تحكمها شعوب مسلمة. والإسلام هو عقيدة الدولة وهو نظامها، وأفكاره أفكارها، ووجهة نظره في الحياة هي وجهة نظرها، فكان عليها أن تنظر إلى الأفكار الجديدة التي حصلت في أوروبا وتقيسها بقاعدتها الفكرية، وأن تنظر إلى المشاكل الحديثة من وجهة نظر إسلامية فتعطي حكمها على الأفكار والمشاكل باجتهاد صحيح حسب وجهة نظر الإسلام، فَتَبُتفي شأنها من حيث الصحة والفساد، ولكنها لم تفعل؛ لأن الأفكار الإسلامية لم تكن واضحة لديها، فلم تكن لها مفاهيم محددة. ولأن العقيدة الإسلامية لم تكن قاعدة فكرية تبنى عليها جميع الأفكار، وإنما كانت عقيدة تقليدية. فكان الأساس الذي تقوم عليه الدولة وهو العقيدة والأفكار غير واضح لدى الدولة العثمانية، وكان النظام جامداً لعدم وجود الاجتهاد، وكانت الحضارة التي هي مجموع المفاهيم عن الحياة غير مبلورة وغير مقترنة بأعمال الدولة، فسبب ذلك الانحطاط الفكري وعدم وجود نهضة، ولهذا وقفوا مبهوتين أمام ما شاهدوه في أوروبا من الانقلاب الفكري والصناعي، فلم يقطعوا بأخذه، ولم يقطعوا بتركه، ولم يميزوا بين ما يجوز أن يأخذوه من علوم وصناعات واختراعات، وبين ما لا يجوز أن يأخذوه من فلسفة تعين وجهة النظر في الحياة، وحضارة هي مجموع المفاهيم عن الحياة. وبذلك جمدوا ولم يتحركوا، فكان هذا الجمود سبباً في وقوف عجلتهم في حين كانت عجلة الدول الأوروبية تسير، وما ذلك كله إلا بسبب عدم فهمهم الإسلام فهماً صحيحاً، وعدم إدراكهم التناقض بين الأفكار الأوروبية وأفكارهم، وعدم تمييزهم بين العلم والصناعات والاختراعات مما يحثهم الإسلام على أخذها، وبين الفلسفة والحضارة والفكر مما يمنعهم الإسلام من أخذها".
ورغم الأخطاء التي وقعت فيها الدولة العثمانية كسوء الفهم لبعض المسائل في العقيدة والشريعة ونظام الحكم، ورغم تكالب الأعداء عليها وسعيهم لتشويه صورتها، ورغم خيانة بعض الأمراء لها كالشريف حسين وآل سعود، رغم تكفير علماء الوهابية لها، إلا أنها ظلّت في نظر العالم الإسلامي وعند أغلب المسلمين خلافة إسلامية تمثّل وحدتهم ويجب الدفاع عنها. قال الدكتور محمد محمد حسين (في الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج1 ص27-28): "هذه النزعة الإسلامية التي رأيناها واضحة في كتّاب العصر وقادته ومفكريه نستطيع أن نتتبعها في الشعر فنجدها في مثل هذا الوضوح. فليس بين الشعراء المعاصرين وقتذاك، على اختلافهم وتباين نزعاتهم، من يخلو ديوانه من شعر في مدح الخليفة التركي، والإشادة بفضله على المسلمين، وحرصه على إعلاء كلمة الدين. وليس فيهم من تخلف عن المشاركة بشعره في حروب تركيا وأحداثها الجسام، مثل حرب اليونان وحرب طرابلس وحرب البلقان والدستور العثماني وسقوط عبد الحميد. وهم يرون أن الخليفة هو الجامع لشمل المسلمين، وأنه حين يحارب إنما يحارب دفاعا عن الإسلام وتمسكا بإعلاء كلمته بين الدول التي تتربص به. وهم يدعون إلى اتحاد كلمة المسلمين في ظل راية الخلافة، محذرين من الإصغاء إلى دعوة التفرقة التي لا تصيب الأمم الإسلامية جميعا إلا بالشرّ".