الجمعة، 27 أكتوبر 2017

هل يجوز الاجتماع لإحياء المناسبات التاريخية كالمولد النبوي وذكرى الإسراء والمعراج و...!؟

مفهوم الاجتماع
جرت عادتنا أن نجتمع لإحياء جملة من المناسبات التاريخية كالمولد النبوي وذكرى الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان والهجرة النبوية وذكرى نزول القرآن وذكرى غزوة بدر ، وفي اعتبارنا أن هذا الأمر عادي لا صلة له بالدين فلا يوصف بأنه مشروع أو سنة كما أنه ليس معارضاً لأصل من أصول الدين لأن الخطر هو في اعتقاد مشروعية شيء ليس بمشروع ، وعندي أن أمثال هذه الأمور العادية العرفية لا يقال فيها أكثر من أنها محبوبة للشارع أو مبغوضة وأظن أن هذا القدر متفق عليه ، ويدعي البعض أن هذه المناسبات التي يجتمع الناس لإحيائها ينقصها التوقيت المضبوط المتفق عليه ، فيقول : إن الناس تعودوا أن يجتمعوا ليلة السابع والعشرين لإحياء ذكرى الإسراء والمعراج ، وأن يجتمعوا ليلة الاثني عشر من ربيع الأول لإحياء ذكرى المولد النبوي مع أن العلماء اختلفوا في تعيين وقت هاتين الحادثتين بالضبط ، وأنا أقول : إن عدم الاتفاق على تعيين الوقت لا يؤثر لأننا لا نعتقد مشروعية تحديد الاجتماع بوقت مخصوص بل الأمر عادي كما أسلفنا والذي يهمنا هو اغتنام فرصة الاجتماع وكسب ذلك لتوجيهه إلى الخير فهذه الليلة قد اجتمع الناس فيها بشكل فظيع وعظيم وسواء أخطأوا التوقيت أم أصابوا ، فإن مجرد اجتماعهم هذا على ذكر الله ومحبة رسول الله كاف في استجلاب رحمة الله وفضله .
إني أعتقد تمام الاعتقاد أن اجتماع هؤلاء الناس ما دام أنه لله وفي الله فإنه  مقبول عند الله ولو أخطأوا في التوقيت ، وأضرب لذلك مثلاً لتقريب القضية للأذهان برجل دعا إلى وليمة في يوم معين فجاء بعض المدعوين في غير وقت الدعوة ظناً منهم أنه هو الوقت فهل ترى أن صاحب الوليمة يطردهم ويردهم بجفوة وغلظة ويصد عنهم ويقول لهم : ارجعوا وانصرفوا عني فليس هذا هو وقت الوليمة الذي دعوتكم إليه وحددته لكم ، أو ترى أنه يقابلهم بالحسنى ويشكرهم على قدومهم ويفتح لهم بابه ويطلب منهم الدخول ثم يطلب منهم الرجوع مرة أخرى في الوقت المحدد ؟ هذا الذي أتصوره وهو اللائق بفضل الله وكرمه .
ونحن إذا اجتمعنا للإسراء والمعراج أو للمولد النبوي ولأي ذكرى من الذكريات التاريخية لا يهمنا تعيين الوقت بالضبط لأنه إن كان موافقاً للصواب في الواقع ونفس الأمر فالحمد لله ، وإن كان غير ذلك فإن الله لا يردنا ولا يغلق      بابه عنا .
فاغتنام فرصة الاجتماع بالدعاء والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى والتعرض لنفحاته وخيراته وبركاته هو أجل من فائدة الذكرى نفسها عندي ، واغتنام اجتماع الناس بتذكيرهم وإرشادهم ونصحهم وتوجيههم إلى الخير هو أولى من صدهم وردهم والإنكار على اجتماعهم بما لا طائل تحته إذ المشاهد أن ذلك لا ينفع ولا  يفيد وأن الناس يزيد إقبالهم ويعم تمسكهم كلما زاد الإنكار عليهم أو اشتد حتى كان الناهي لهم عن ذلك آمر لهم بفعله من حيث لا يشعر .

إن العقلاء من أرباب الفكر والدعوة يتمنون بكل قلوبهم أن يجدوا مكاناً   يجتمع فيه الناس ليبثوا فيهم آراءهم ويكسبوهم إلى صفهم ، ولذلك تراهم يرتادون الحدائق والنوادي والأماكن العامة التي يكثر فيها اجتماع الناس ليصنعوا بهم        ما يريدون ، ونحن نرى الأمة تجتمع في مناسبات متعددة برغبة وهمة وحرص فما هو الواجب علينا نحوهم ؟ .

إن الاشتغال بالإنكار والأخذ والرد في حكم اجتماعهم وما إلى ذلك هو    عبث بل وحمق وجهالة لأننا نضيع كنزاً عظيماً ونفوت فرصة لا يمكن أن يجود  الزمان بها إلا في مثل هذه المناسبات .
فلنغتنم هذه المجامع الكبرى .
]  ]  ]
                              مفهوم المولد النبوي
يخطئ كثير من الناس في فهمهم لحقيقة المولد النبوي الذي ندعو إليه     ونشجع عليه فيتصورون تصورات فاسدة يبنون عليها مسائل طويلة ومناقشات عريضة يضيعون بها أوقاتهم وأوقات القراء وهي كلها هباء لأنها مبنية على تصورات كما قلنا فاسدة .

وقد كتبنا عن المولد النبوي كثيراً وتحدثنا عنه في الإذاعة والمجامع العامة مراراً  بما يظهر معه وضوح مفهومنا عن المولد الشريف .

إننا نقول وقد قلنا من قبل : إن الاجتماع لأجل المولد النبوي الشريف         ما هو إلا أمر عادي وليس من العبادة في شيء وهذا ما نعتقده وندين الله تعالى به .

وليتصور من شاء ما يتصور لأن الإنسان هو المصدق فيما يقوله عن نفسه وحقيقة معتقده لا غيره .
ونحن نقول في كل محفل ومجمع ومناسبة : إن هذا الاجتماع بهذه الكيفية أمر عادي ليس من العبادة في شيء فهل يبقى بعد هذا إنكار لمنكر واعتراض لمعترض لكن المصيبة الكبرى في عدم الفهم ولهذا يقول الإمام الشافعي :

ما جادلت عالماً إلا غلبته ولا جادلت جاهلاً إلا غلبني . إن أقل الطلاب     علماً يعلم الفرق بين العادة والعبادة وحقيقة هذه وتلك فإذا قال القائل : هذه   عبادة مشروعة بكيفيتها نقول له : أين الدليل ؟ وإذا قال : هذه عادة نقول له : إصنع ما تشاء لأن الخطر كل الخطر والبلاء الذي نخشاه كلنا هو أن يلبس ثوب العبادة لفعل مبتدع غير مشرع بل من اجتهاد البشر ، وهذا ما لا نرضاه بل     نحاربه ونحذر منه ، والحاصل أن الاجتماع لأجل المولد النبوي  أمر عادي ولكنه من العادات الخيرة الصالحة التي تشتمل على منافع كثيرة وفوائد تعود على الناس   بفضل وفير لأنها مطلوبة شرعاً بأفرادها ، ومن التصورات الفاسدة التي تقع في  أذهان بعض الناس هي أنهم يظنون أننا ندعو إلى الاحتفال بالمولد في ليلة مخصوصة دون سائر العام وما درى هذا المغفل أن الاجتماعات تعقد لأجل المولد النبوي في مكة والمدينة بشكل منقطع النظير في كل أيام العام وفي كل مناسبة تحدث يفرح     بها صاحبها ولا يكاد يمر يوم أو ليلة بمكة والمدينة إلا ويحصل فيه اجتماع للمولد النبوي علم هذا من علمه وجهله من جهله ، فمن زعم أننا نذكر النبي r في      ليلة واحدة فقط ونهجره ونغفل عنه ثلاثمائة وتسعة وخمسين ليلة فقد افترى إثماً  عظيماً وكذب كذباً مبيناً ، وهذه مجالس المولد النبوي تنعقد بفضل الله تعالى في   جميع ليالي السنة ولا يكاد يمر يوم أو ليلة إلا وهنا مجلس وهناك محفل ، ونحن    ننادي بأن تخصيص الاجتماع بليلة واحدة دون غيرها هو الجفوة الكبرى للرسول r ، ولذلك فإن الناس بحمد الله يستجيبون لهذا النداء بكل إقبال ورغبة .

ومن زعم بأننا نخصص الاحتفال به r في المدينة المنورة فهو جاهل أو    متجاهل عن الحقيقة ، وما لنا إلا أن ندعو الله له بأن ينور بصيرته ويكشف عنه حجاب الجهل ليرى أن ذلك ليس خاصاً بالمدينة المنورة ولا بليلة مخصوصة في     شهر مخصوص ، بل هو عام في الزمان والمكان .
وليس يصح في الأذهان شيء   ::   إذا احتاج النهار إلى دليل
والحاصل أننا لا نقول بسنية الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة بل من اعتقد ذلك فقد ابتدع في الدين لأن ذكره r والتعلق به يجب أن يكون في كل   حين ويجب أن تملأ به النفوس ، فنعم : إن في شهر ولادته يكون الداعي أقوى  لإقبال لإقبال الناس واجتماعهم وشعورهم الفياض بارتباط الزمان بعضه ببعض، فيتذكرون بالحاضر الماضي وينتقلون من الشاهد إلى الغائب .

وإن هذه الاجتماعات ، هي وسيلة كبرى للدعوة إلى الله وهي فرصة       ذهبية ينبغي أن لا تفوت ، بل يجب على الدعاة والعلماء أن يذكروا الأمة بالنبي r بأخلاقه وآدابه وأحواله وسيرته ومعاملته وعباداته ، وأن ينصحوهم ويرشدوهم    إلى الخير والفلاح ويحذروهم من البلاء والبدع والشر والفتن .

وإننا دائماً بفضل الله ندعو إلى ذلك ونشارك في ذلك ونقول للناس : ليس المقصود من هذه الاجتماعات مجرد الاجتماعات والمظاهر بل إن هذه وسيلة شريفة إلى غاية شريفة وهي كذا وكذا ومن لم يستفد شيئاً لدينه فهو محروم من خيرات  المولد الشريف ، ولا نحب أن نطيل بذكر الأدلة والمسوغات التي استنبطناها في    هذا الموضوع ، إذ لنا رسالة خاصة لذلك بعنوان : حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، غير أننا سنخص قصة عتق ثويبة بالذكر لكثرة الكلام حولها :
]  ]  ]
قصة عتق ثويبة
يذكر العلماء في كتب الحديث والسيرة قصة عتق أبي لهب لجاريته ثويبة لما أخبرته بولادة النبي r وأن العباس بن عبد المطلب رأى أبا لهب في النوم بعد     وفاته فسأله عن حاله فقال : لم ألق خيراً بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي    ثويبة وإنه ليخفف عليَّ في كل يوم الاثنين .
قلت : هذا الخبر رواه جملة من أئمة الحديث والسير مثل الإمام عبد الرزاق الصنعاني والإمام البخاري والحافظ ابن حجر والحافظ ابن كثير والحافظ البيهقي  وابن هشام والسهيلي والحافظ البغوي وابن الديبع والأشخر والعامري ، وسأبين ذلك بالتفصيل .
فأما الإمام عبد الرزاق الصنعاني فقد رواه في المصنف (ج7 ص478) ، وأما الإمام البخاري فقد رواه في صحيحه بإسناده إلى عروة بن الزبير مرسلاً في كتاب النكاح باب } وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ { ، وأما ابن حجر فقد ذكره في الفتح وقال : إنه رواه الاسماعيلي من طريق الذهلي عن أبي اليمان ، ورواه عبد الرزاق عن معمر وقال : وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة ، لكنه مخالف لظاهر القرآن ، قال الله تعالى : } وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ   فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً { ، وأجيب أولاً بأن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به ، وعلى تقدير أن يكون موصولاً فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه ، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به ، وسلم مخصوصاً من      ذلك دليل قصة أبي طالب كما تقدم أنه خفف عنه فنقل من الغمرات إلى  الضحضاح ، وقال البيهقي : ما ورد من بطلان الخير للكفار فمعناه أنهم لا يكون  لهم التخلص من النار ولا دخول الجنة ، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات .

وأما عياض فقال : انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا    يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب ، وإن كان بعضهم أشد عذاباً من بعض .   قلت : وهذا لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي ، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر ، وأما ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه ؟ وقال القرطبي :  هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه ، وقال ابن المنير في الحاشية : هنا قضيتان : إحداهما محال وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره ، لأن شرط الطاعة أن  تقع بقصد صحيح ، وهذا مفقود من الكافر .

الثانية : إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلاً من الله تعالى وهذا لا يحيله  العقل ، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة ، ويجوز              أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبي طالب ، والمتبع في ذلك التوقيف   نفياً وإثباتاً .

قلت : وتتمة هذا أن يقع التفضيل المذكور إكراماً لمن وقع من الكافر البر له ونحو ذلك . والله أعلم . اهـ (فتح الباري ج9 ص145) .
وأما الحافظ ابن كثير فقد رواه في البداية والنهاية ، وقال معلقاً : لأنه لما   بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته ، فجوزي بذلك لذلك . اهـ من السيرة النبوية لابن كثير (ج1 ص224) .
وأما الحافظ عبد الرحمن بن الديبع الشيباني صاحب جامع الأصول فقد رواه في سيرته وقال معلقاً : ((قلت : فتخفيف العذاب عنه إنما هو كرامة للنبي r         كما خفف عن أبي طالب لا لأجل العتق ، لقوله تعالى : } وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { . اهـ من حدائق الأنوار في السيرة (ج1 ص134) .
وأما الحافظ البغوي فقد رواه في شرح السنة (ج9 ص76) .

وأما الإمام الأشخر فقد رواه في بهجة المحافل ، وقال شارحه العامري : قيل : هذا خاص به إكراماً له r كما خفف عن أبي طالب بسببه ، وقيل : لا مانع        من تخفيف العذاب عن كل كافر عمل خيراً . اهـ من شرح البهجة (ج1 ص41) .
وأما السهيلي فقد رواه في الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام وقال بعد نقل الخبر : فنفعه ذلك وهو في النار كما نفع أخاه أبا طالب ذبه عن  رسول الله r فهو أهون أهل النار عذاباً ، وقد تقدم في باب أبي طالب أن          هذا النفع إنما هو نقصان من العذاب ، وإلا فعمل الكافر كله محبط بلا خلاف      أي : لا يجده في ميزانه ولا يدخل به جنة . اهـ الروض الأنف (ج5 ص192) .
]  ]  ]

حاصل البحث
والحاصل أن هذه القصة مشهورة في كتب الأحاديث وفي كتب السير ،   ونقلها حفاظ معتبرون معتمدون ، ويكفي في توثيقها كون البخاري نقلها في  صحيحه المتفق على جلالته ومكانته ، وكل ما فيه من المسند صحيح بلا كلام .
 حتى المعلقات والمرسلات فإنها لا تخرج عن دائرة المقبول ولا تصل إلى   المردود وهذا يعرفه أهل العلم المشتغلون بالحديث والمصطلح والذين يعرفون معنى المعلق والمرسل ويعرفون حكمها إذا جاءت في الصحيح .
فانظر إن شئت ذلك في كتب المصطلح كألفية السيوطي والعراقي وشروحها وتدريب الراوي فإنهم تعرضوا لهذه المسألة وبينوا قيمة ما في الصحيح من المعلق والمرسل وأن ذلك مقبول عند المحققين .
ثم إن هذه المسألة من المناقب والفضائل والكرامات التي يذكرها العلماء في كتب الخصائص والسير ويتساهلون في نقلها ولا يشترطون فيها الصحيح بالمعنى المصطلح عليه ، ولو ذهبنا إلى اشتراط هذا الشرط الشاذ لما أمكن لنا ذكر شيء   من سيرة النبي r قبل البعثة وبعد البعثة مع أنك تجد كتب الحفاظ الذين         عليهم العمدة وعلى صنيعهم المعول ، والذين منهم عرفنا ما يجوز وما لا يجوز ذكره من الحديث الضعيف نجد كتبهم مملوءة بالمقطوعات والمراسيل وما أخذ عن     الكهان وأشباههم في خصائص رسول الله r لأن ذلك مما يجوز ذكره في هذا     المقام .
أما قول من قال : إن هذا الخبر يعارض قوله تعالى  } وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ   فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً { فهذا قول مردود بما قاله العلماء ونقلناه عنهم سابقاً .
وتحرير الكلام في هذا المقام هو أن الآية تدل على أن أعمال الكفار             لا ينظر إليها وليس فيها أنهم سواء في العذاب ، وأنه لا يخفف عن بعضهم العذاب كما هو مقرر عند العلماء .
وكذلك الإجماع الذي حكاه عياض ، فإنه في عموم الكفار وليس فيه أن      الله تعالى لا يخفف العذاب عن بعضهم لأجل عمل عملوه ولهذا جعل الله تعالى   جهنم دركات ، والمنافقون في الدرك الأسفل منها .
ثم إن هذا الإجماع يرده النص الصحيح ، ولا يصح إجماع مع مخالفة النص   كما هو معلوم للطلبة .
وذلك إنه ثبت في الصحيح أن رسول الله e سئل: هل نفعت                  أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويدافع عنك ؟ فقال : وجدته في غمرات من   النار ، فأخرجته إلى ضحضاح منها ، الحديث .
فها هو أبو طالب قد نفعه دفاعه عن النبي e وأخرجه النبي e من          أجل ذلك من غمرات النار إلى ضحضاح منها .
 فالتخفيف عن أبي لهب من هذا الباب أيضا لا منكر فيه ، والحديث يدل    على أن الآية المذكورة فيمن لم يكن لهم عمل يوجب التخفيف . وكذلك الإجماع.
وفي حديث أبي طالب المذكور دلالة وأي دلالة على أن النبي e يتصرف    الآن وقبل يوم القيامة في أمور الآخرة ويشفع لمن تعلق به ودافع عنه .
وأما قول من قال : إن هذا الخبر رؤيا منام لا يثبت بها حكم ، فإن هذا    القائل - هداه الله للصواب - لا يفرق بين الأحكام الشرعية وغيرها .
أما الأحكام الشرعية فإن الخلاف واقع بين الفقهاء : هل يجوز أخذ      الأحكام وتصحيح الأخبار برؤيا رسول الله e في المنام أم لا ؟ .
وأما غيرها فإن الاعتماد على الرؤيا في هذا الباب لا شيء فيه مطلقاً .       وقد اعتمد عليها الحفاظ وذكروا ما جاء في رؤيا أهل الجاهلية قبل بعثة رسول الله e المنذرة بظهوره ، وأنه سيقضي على الشرك وما هم عليه من فساد . وكتب  السنة مملوءة بهذا .
وفي مقدمتها كتاب دلائل النبوة وعدوها من الإرهاصات التي لا مانع من الاستدلال في شأنها بالرؤيا ، ولولا ذلك لما ذكروها .
فقول القائل في شأن رؤيا العباس : إنها ليست بحجة ولا يثبت بها حكم       ولا خبر ، خروج عن عمل الأئمة من الحفاظ وغيرهم ، والمراد به التهويل لا غير ، وما هكذا يكون شان الباحث عن الحق والأمر لله .
وأما من قال : إن الرائي والمخبر هو العباس في حال الكفر ، والكفار           لا تسمع شهادتهم ولا تقبل أخبارهم فإن هذا قول مردود ، لا رائحة للعلم فيه ، وهو باطل ، ذلك لأنه لم يقل أحد أن الرؤيا من باب الشهادة مطلقاً ، وإنما هي بشارة لا غير فلا يشترط فيها دين ولا إيمان ، بل ذكر الله تعالى في القرآن معجزة يوسف عليه السلام عن رؤيا ملك مصر وهو وثني لا يعرف ديناً سماوياً مطلقاً ،   ومع ذلك جعل الله تعالى رؤيته المنامية من دلائل نبوة يوسف عليه السلام وفضله وقرنها بقصته ، ولو كان ذلك لا يدل على شيء لما ذكرها الله تعالى لأنها رؤيا  مشرك وثني لا فائدة فيها لا في التأييد ولا في الإنكار .
ولهذا ذكر العلماء أن الكافر يرى الله تعالى في المنام ويرى في ذلك ما فيه إنذار له وتوبيخ وتقريع .
والعجب كل العجب من قول القائل : إن العباس رأى ذلك في حال        كفره ، والكفار لا تسمع شهادتهم ولا تقبل أخبارهم ، فإن هذا القول يدل على عدم المعرفة بعلم الحديث إذ المقرر في المصطلح أن الصحابي أو غيره إذا تحمل الحديث في حال كفره ثم روى ذلك بعد إسلامه أخذ ذلك عنه ، وعمل به .

وانظر أمثلة ذلك في كتب المصطلح لتعرف بعد صاحب هذا القول عن العلم . وإنما الهوى هو الذي حمل المعترض على الدخول فيما لا يتقنه .

ماهو مكانة المعلم في الإسلام ؟!


                         مكانة المعلم في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم
مكانة المعلم في الإسلام[1]
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، الذي هدانا لهذا وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاةُ والسلامُ على مُعلِّم الناس الخير، وهادي البشرية إلى الرشد، وقائد الخلق إلى الحقِّ، البشير النذير، والسراج المنير، سيدنا وإمامنا وأُسوتنا وحبيبنا ومعلِّمنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن دعا بدعوته، واهتدى بسنَّته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
خير ما أحيِّيكنَّ به أيَّتها الأخوات والبنات العزيزات تحيَّةُ الإسلام، وتحيَّةُ الإسلام السلام، فالسلام عليكنَّ ورحمة الله وبركاته، وأشكر لكلية التربية وللجنة الأنشطة الطلابية فيها، أن أتاحت لي هذه الفرصة للالتقاء ببناتي العزيزات، لأتحدَّث إليهنَّ، ولأتلقَّى منهنَّ الأسئلة والاستفسارات، ولنتحاور معًا فيما يهمُّ ديننا ودنيانا.
أهمية لقاء المؤمنين:
قال سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه: مثل الأخوين المؤمنين كمثل اليدين، تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان قط إلاَّ أفاد الله أحدهما من صاحبه خيرا[2].
فلقاء المؤمنين دائمًا يكون على خير، لأنه يكون لقاء في الله ولله، ولهذا لا يثمر إلا خيرًا، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58].
أحدِّثكن أوَّلاً عن المعلِّم في الإسلام، ومكانته، ووظيفته بإيجاز؛ لنفتح الباب للأسئلة، فلعلَّها أكثر نفعا.
المعلِّم خليفة الرسول:
المعلِّم هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسل مُعلِّمون، كلُّ الرسل معلِّمون، وظيفتهم الدعوة والتعليم، مبشِّرون ومنذرون، كما قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وقومٌ يذكرون الله, وقومٌ يذاكرون الفقه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلٌّ على خير، أما الذين يذكرون الله تعالى ويسألون ربهم فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم, وهؤلاء يُعلِّمون الناس ويتعلَّمون, وإنما بعثتُ معلِّمًا"[3]. فهم أفضل.
وقال أيضًا: "إن الله لم يبعثني مُعْنِتًا ولا مُتَعَنِّتًا، ولكن بعثني معلِّما ميسِّرا"[4]. فهو معلِّم وميسِّر في تعليمه، وقد علَّم أمَّته ذلك فقال: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا"[5]، كما روى عنه صاحبه وخادمه أنس بن مالك رضي الله عنه.
وحينما أرسل صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذًا رضي الله عنهما إلى اليمن، أوصاهما بهذه الوصية الجامعة: "يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا".[6] فهكذا كان صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه.
كان هو معلِّم المعلِّمين، إنَّ المعلِّم الأول في الإسلام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كما قال الفلاسفة، عن أرسطو أنه المعلِّم الأول, حينما ترجم المسلمون كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية أُعجبوا بأرسطو وسمَّوْه المعلِّم الأول، وسمَّوْا تلميذ مدرسة الفارابي المعلِّم الثاني، والواقع أن المعلِّم الأول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
التزكية والتعليم لا يفترقان:
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخرج الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15]، وقد خاطب الله رسوله فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فهو المعلِّم الهادي، يعلِّم الكتاب والحكمة ويزكِّي، فهو تعليم وتزكية، فالتزكية تتعلَّق بالنفوس، والتعليم يتعلَّق بالرؤوس. فلا يكفي الإنسان أن يملأ رأسه بالمعلومات، إذا لم تتزكَّى نفسه، ولذلك قال: {وَيُزَكِّيهِمْ}.
بين التزكية والتربية:
كلمة التزكية هي التي نعبِّر عنها الآن بكلمة التربية، كنتُ أودُّ أن تكون الكلمة وهي مترجمة طبعًا بدل (Education)، لو كانوا ترجموها بكلمة التزكية، فهي الأقدر على التعبير عن المراد، بل التربية تُستعمل أكثر ما تُستعمل في التربية الجسمية، كما في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، إنما التربية النفسية، والتربية العقلية، والتربية الرُّوحية، والتربية الإيمانية، والتربية الخُلقية يعبِّر عنها بالتزكية.
معنى التزكية:
كلمة تزكية في اللغة العربية مشتقَّة من زكَّى، وكلمة زكَّى وزكاة تعني أمرين في لغة العرب: الطهارة والنماء، فمعنى زكَّى يعني طهَّر ونمَّا.
فهو يُطهِّر العقول والنفوس من رذائل الشرك، ومن رذائل النفاق، ومن كلِّ رذائل الجاهلية وينمِّيها ويطِّهرها من الشرك، وينمِّيها بالتوحيد, يطهِّرها من التفاق وينمِّيها بالإخلاص, يطهِّرها من الكذب, وينمِّيها بالصدق, يطهِّرها من الخيانة، وينمِّيها بالأمانة, وهكذا هذه هي التزكية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10]، التزكية تطهير النفس وتنميتها، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
القرآن حدد مهمة النبي بتلاوة الكتاب والتزكية والتعليم:
في أربع آيات من القرآن جاء أن مهمَّة النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشُّعَب: تلاوة الكتاب، والتزكية، والتعليم.
الآية الأولى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]، وهذا ما دعا به سيدنا إبراهيم عليه السلام للأمة المرتقبة, أمة الإسلام.
الآية الثانية: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].
الآية الثالثة: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
الآية الرابعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
أثر تعليم النبي وتزكيته صلى الله عليه وسلم:
علَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وزكَّى، زكَّى الأنفس .. وصنع أمة جديدة .. صَبَّ في عروقها دمًا جديدًا .. أنشأ من كلِّ إنسان خلقًا آخر، يعني لو رأيتَ مثلاً عمر بن الخطاب في الجاهلية، وعمر بن الخطاب في الإسلام، تجد إنسانًا آخر، إنسانًا كان يعبد إلها من الأصنام، وقيل: إنه مرَّة كان يعبد صنمًا من العَجْوة، فلما جاع أكله. أصبح إنسانًا آخر.. تغيَّرت عقليَّته، وتغيَّرت عاطفته .. القلب القاسي أصبح قلبًا رحيمًا .. عمر بن الخطاب الذي كان يعبد الصنم هو نفسه الذي يأتي إلى الحجر الأسود في الحجِّ ويُقَبِّله ويقول له: إني أعلم أنك حجر، لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُك ما قبَّلتك[7]. عقله تحرَّر.. قلبه رقَّ وحنا بعد القسوة الجاهلية، حتى إنه كان يقول بعد ما تولَّى الخلافة: لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة لظننت أن الله تعالى سائلي عنها يوم القيامة[8]. هذه نتيجة التعليم النبوي، التربية المحمدية.
من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم:
لقد تربَّى هؤلاء على حصير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا في مُدرَّجات مثل مُدرَّجاتنا هذه، ولا في (سبورات)، كانت وسيلة الإيضاح هي الرمل، النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعلِّمهم بوسائل الإيضاح يخطُّ في الرمل، خطَّ في يوم من الأيام في الرمل خطًّا وقال: "هذا صراط الله المستقيم"، وخطَّ عن يمينه وشماله خطوطًا متعرِّجة وقال: "هذه سُبُل على رأس كلٍّ منها شيطان يدعو إليه". ثم تلا قول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]"[9].
خير مُعَلِّم وخير تلاميذ:
كان يعلِّم الناس بهذه الإمكانيات، إنما كان خير معلِّم، كان خير معلِّم للناس، ربَّى هذه الفئة التي تعتبر خير أجيال البشرية، الصحابة هم خير أجيال البشر، إيمانًا وأخلاقًا وسلوكًا وتضحيةً وبرًّا، هم الذين حفظوا القرآن ونقلوه إلينا، هم الذين حفظوا السنن وروَوها لنا، هم الذين نشروا الإسلام في العالم، وفتحوا الفتوح، هم خير جيل أُخرج للناس، هؤلاء تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسول هو سيِّد المعلِّمين، وكلُّ معلِّم إنما يقتبس من مشكاته صلى الله عليه وسلم.
المُعلِّم الناجح من يتأسى برسول الله:
المعلِّم الناجح حقًّا هو الذي يأخذ الهداية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَعُدُّ التعليم عبادة وجهادًا، مهنة التعليم إذا أُدِّيت على وجهها تعتبر عبادة، وتعتبر جهادًا في سبيل الله، المعلِّم الذي ينوِّر العقول، ويرقِّق القلوب، ويحرِّك العزائم لعمل الخير وخير العمل، هذا هو ميراث النُّبُوَّة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم, فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافر"[10].
العلم ميراث الرسول:
دخل سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه السوق فوجد الناس يتبايعون ويشترون، ويحلفون أحيانًا بالأيمان الكاذبة، وهمُّهم الدنيا، فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك، يا أبا هريرة؟
قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَسَّم، وأنتم ها هنا، ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه! قالوا: وأين هو؟
قال: في المسجد. فخرجوا سراعًا، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا.
فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فلم نرَ فيه شيئًا يُقَسَّم.
فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قوما يصلُّون، وقوما يقرءون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام.
فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم[11].
فالمُعلِّم الناجح حقًّا هو الذي يهتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتدي.
حاجة الأمة إلى المعلِّم الصادق:
والأُمَّة الآن هي أحوج ما تكون للمعلِّم الصادق، فالمعلِّم هو الذي يغرس الإيمان أو الإلحاد، هو الذي يزرع الفضيلة أو الرذيلة، هو الذي يصنع العقل المتحرِّر أو العقل التابع لغيره، ولذلك الذين أرادوا أن يُنْشِئوا نهضةً حقيقيةً اهتمُّوا أول ما اهتمُّوا بالتعليم.
في الهند كان هناك شاعر ساخر, فقال: إن فرعون أساء إلى نفسه، واكتسب السمعة السيئة في التاريخ كلِّه بما صنع مع بني إسرائيل، ذبَّح أبناءهم، واستحيا نساءهم، وكان يكفِيه عن هذا التذبيح والتقتيل، لو أنشأ لهم مدرسة أو كليَّة تعلِّمهم ما يريد هو، لم يكن بحاجة إلى أن يُقتِّل أو يُذبِّح وغير ذلك، بل يعلِّمهم ما يريد عن طريق هذه الكلية، فيخرج أناس يطيعون أمره, ويتَّبعون نهجه, بدون قطرة دم واحدة تُراق. وهذا كلام صحيح.
أثر الاستعمار في مناهج التعليم:
حينما جاء المستعمرون إلى البلاد الإسلامية فعلوا هذا. فاستولَّوا على التعليم, ففي مصر كان المستشار الأوَّل للتعليم في مصر رجل قسيس اسمه (دنلوب)، وهو الذي وضع فلسفة التعليم في مصر, ووضع المناهج، وبصمته كانت على التعليم وظلَّت سنين طويلة، عقودًا طويلة، ولعل هذه البصمات لا زالت إلى اليوم، لأنَّ التعليم هو المهم، ويمكن للتعليم أن يُخرج أناسًا لا يعرفون شيئًا عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفون شيئًا عن عمر، ولا عن علي، ولا عن ابن حنبل، ولا عن ابن تيمية، ولا عن الغزالي، وإنما يعرفون عن نابليون بونابارت، عن الثورة الفرنسية، عن الثورة البلشفية، عن العالم الغربي، وهذا ما كان يحدث.
في الأزهر درسنا السيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي إلى الحروب الصليبية - أي: القرن السادس تقريبا - درسنا هذا كلَّه في كتاب واحد، بينما في الأول الثانوي: درسنا الإغريق والرومان ومصر الفرعونية، وغيرها من الدول، وفي السنة الرابعة والخامسة من الثانوية، درسنا تاريخ أوروبا: تاريخ النهضة، النهضة عند أوروبا والانحطاط عندنا نحن! سمَّوها العصور الوسطى، وهل كانت عصورا وسطى عند الأوروبيين وليست عندنا. هذا في الأزهر، تصوروا الأزهر، لأن من كان يُدرِّسنا التاريخ كانوا من خريجي (دنلوب) وهذه المدرسة، فكيف يُغيِّر الأزهر التعليم؟
المُعلِّم أهم عنصر في التعليم:
إعداد المُعلِّم أمرٌ مهمٌ جدًّا فهو أهم عنصر في التعليم، طبعًا ليس المُعلِّم هو المؤثِّر وحده، لأنَّ هناك المنهج, وهناك الكتاب, وهناك الإدارة, وهناك الرُّوح العامة المُسيْطرة، ولكن يظلُّ المُعلِّم هو العنصر الفعَّال، هناك حكمة تقول: (إن العدل ليس في نص القانون، ولكن في ضمير القاضي). أي: لو كان القانون أعوج، والقاضي رجل مستقيم، فإنه يستطيع أن يجعل القانون يحكم بالعدل، وذلك بتصرُّفه ورُوحه, وكذلك ليس التعليم في الكتاب، ولكن في رُوح المُعلِّم.
روح المُعلِّم حياةٌ للمنهج التعليمي:
ليس التعليم في الكتاب وحده، ولكن في روح المعلم، فقد يُمِيت المعلم المادة الحيَّة. وأنا أقول لكم بصراحة: لقد ألَّفنا كتبًا لوزارة التربية والتعليم، وأنا مدير للمعهد الديني، شاركتُ في أكثر من عشرين كتابًا، في التربية الإسلامية، وفي المجتمع الإسلامي، والفلسفة الأخلاقية، ومواد كثيرة، ولكن كانت هذه الكتب تحتاج إلى مُعلِّم حيٍّ، لأن المُعلِّم الميِّت يُميت الكتاب الحيَّ. فبعض المُعلِّمين عبارة عن لوح من الثلج يمسك بالكتاب المليء حرارة، فيضع عليه من ثلجيَّته، فيصبح شيئًا باردًا فاترا, لا يكاد يُحسُّ به الطالب، بل يُحسُّ أنَّ المادة طويلة وثقيلة، ولذلك يأتوا بعدها ليقولوا: نريد أن نختصرها، وبالفعل يختصرون ويختصرون حتى يجعلوها أشياء تُحفظ، لا أشياء تُشرح، يجعلوها كلمات تُحفظ وفقط.
ليست هذه هي التربية, فالمُعلِّم هو المحور المُهم في التربية، يستطيع المُعلِّم برُوحه، بحماسه، بحرارته، بتحضيره لدرسه، باهتمامه بأبنائه وبناته وطلابه وطالباته، يستطيع أن يفعل الكثير، وبدون المعلم لا تنجح التربية.
فضل مُعلِّم الناس الخير:
نحن نُركِّز على المُعلِّم الذي يعلِّم الخير, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى وملائكته، وأهل السماوات وأهل الأرض، حتى النملة في جُحرها, وحتى الحوت في البحر، ليصلُّون على معلِّم الناس الخير"[12]. فانظر هو مشغول بالتعليم، والكائنات العُلْويَّة مثل الملائكة، والكائنات البحريِّة مثل الحيتان، والحشرات والنمل، تصلِّى عليه، يعني تدعو له بلسان لا نفقهه: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، يصلُّون على مُعلِّم الناس الخير، ولذلك كان التعليم أمرًا في غاية الأهمية.
 المعلم مشغول بالتعليم والدنيا مشغولة بالدعاء له والصلاة عليه.
مُعلِّم الدين ليس مُعلِّم التربية الشرعية:
ومن أجل هذا نؤكِّد على أن المُعلِّم يستطيع أن يؤثِّر، ليس فقط مُعلِّم التربية الإسلامية، بعض الناس يظن أن مُعلِّم الدين فقط هو مُعلِّم التربية الإسلامية، ليس هذا صحيحا، بل على العكس فأحيانًا يكون مُعلِّم العلوم أو الآداب أو اللغة أو التاريخ أو أيُّ مُعلِّم: أقدر على التأثير من مُعلِّم التربية الدينية؛ لأن مُعلِّم التربية الدينية هذا عمله, وتلك مُهمَّته، لا بد أن يقول للناس تديَّنوا، آمنوا. بينما لو أن معلمًا يعلم الفيزياء أو الكيمياء أو الحيوان أو النبات أو البيولوجي، ويقول للطلاب أو الطالبات وهو يعلِّمهم: هذه سُنن الله في الكائنات، التي نقول نحن عليها قوانين فيزيائية وكيميائية وبيولوجية. هذه القوانين اسمها الحقيقي: سنن الله في الكائنات.
سُنن الله في الكائنات:
إنَّ الله تعالى أجرى نظام الأسباب والمسبَّبات على هذا الكون، فالكون لا يجري اعتباطا, ولا يمضي عبثا، بل هناك قوانينٌ وسُننٌ تَحْكمه: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
قانون أرشيميدس، أو قانون الضغط الجوي، أو أي قانون من القوانين هي سُنن الله في الكائنات، يتعرَّف الطالب عليها، ويتلقَّاها من المُعلِّم بيُسرٍ وبساطةٍ وتلقائية، وبدلا من أن يقول: إن الطبيعة زوَّدت الكائنات الحيَّة بأسلحةٍ تدافع بها عن نفسها، زودت الطائر بمنقار يدافع به عن نفسه، وزودت السمكة بزعانف  .. وبعض الأسماك برعشة كهربائية، أو بحبر. بدلا من أن يقول: الطبيعة زوَّدتْ. يقول: الله خلق الكائنات، وهيَّأها للدفاع عن نفسها، كلُّ واحد في الكائنات مهيَّأ ليدافع عن نفسه بسلاح مُعيَّن. يقول: الله، وليست الطبيعة. فيغرس معنى الإيمان بالله بعفوية وتلقائية بدون تكلُّف، هذا مهم جدًّا، وقد يكون بذلك أفضل من معلم التربية الدينية، عندما يدلِّل على وجود الله.
كلُّ مُعلِّم يستطيع أن يؤدِّي واجبه في غرس الإيمان, وغرس الفضائل والأخلاق, وفي تعليم الناشئة ماذا لهم وماذا عليهم.
تعاون المعلمين في مُختلف تخصُّصاتهم:
 يجب أن يتعاون الجميع، فلا يقول مدرس التربية الإسلامية شيئا، ثم يأتي مدرس التاريخ فيقول شيئًا ضدَّه.
وقد كنتُ أول ما أُنشئتْ كلية التربية في جامعة قطر، أُدرِّس للجامعة كلِّها في ذلك الوقت، فكنتُ أدرس تربية وثقافة إسلامية، وأُدرِّس السنة والسيرة، وأُدرِّس مواد كثيرة. وكنتُ وأنا أدرِّس السنة والسيرة للطالبات، يقلن لي: أنت تقول لنا شيئا، وأستاذ التاريخ يقول لنا شيئا آخر. فجئتُ الدكتور وسألتُه: كيف تقول كذا وكذا وكذا؟! فقال لي بصراحة: الأَوْلى أن تُدرِّسوا أنتم هذا، فأنا لا علم لي بما تقوله أبدًا، لم أدرس البخاري ولا مسلم، ولا علم لي بالأحاديث الصحاح. وكان يأخد كلاما من تاريخ الطبري، ولا يدري أنَّ هذا الإسناد الذي اعتمد عليه إسناد هالك ضائع، لا قيمة له من ناحية التوثيق العلمي، هو حسبه أن يقول لك: الطبري جزء كذا صفحة كذا, ولا يعرف علام استند الطبري؟! الطبري جمع في كتابه الغثَّ والثمين؛ لأنَّ هذا الكتاب ليس كتاب فقه، ليس كتاب حلال وحرام، فلذلك لم يهتم بتمحيص الأسانيد.
يجب أن يتعاون المُعلِّمون، فلا يبني واحد ويهدم وراءه آخر، يتحدَّث مدرس التربية الإسلامية عن خلق الله للكائنات، والذي يُدرِّس البيولوجيا يتكلم عن نظرية داروين وكأنها نظرية ثابتة، وهي في الحقيقة: فرضية من الفرضيَّات، ورأي من الآراء، وهناك من العلماء من أهل العلم نفسه العلم البيولوجي مَن ردُّوا على داروين، وهناك من تلاميذ داروين مَن خالفوه، سمَّوها الدارونية الحديثة (داروينزم)، هؤلاء خطَّؤوا داروين وقالوا: بل الإنسان مخلوق متفرِّد.
إذًا ينبغي أن يكون هناك تعاون بين المعلِّمين، حتى لا يبني مُعلِّم ويهدم آخر، لأنه في هذه الحالة نكون كما قال الشاعر:
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم[13]
أحدهم يبني والآخر يهدم، لا يصلح هذا!! لا بد أن يبني الجميع ويتعاونوا على تحقيق الأهداف المنشودة.
هذه أيتها الأخوات العزيزات بعض لمحات في قضية المُعلِّم في الإسلام، فالمُعلِّم يقوم مقام النبي، ومهمته أن يُنوِّر العقول, وأن يُرقِّق القلوب, وأن يحرِّك العزائم, وأن ينشئ الشخصية المؤمنة، الشخصية المتكاملة المتوازنة، هذا هو الذي ينبغي للمعلم.
 وينبغي أن يُعدَّ نفسه الإعداد اللازم حتى يقوم بوظيفته خير قيام، وبذلك يرضى عنه الله, ويرضى عنه الناس.
 أكتفي بهذه اللمحات وأتلقَّى أسئلتكنَّ إن شاء الله.
 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.


الأسئلة
احترام المُعلِّم واجبٌ شرعيّ:
السؤال: فضيلة الشيخ نسمع هذه المقولة: (مَن علمني حرفًا، صرتُ له عبدًا)، ولكننا لا نجد أثر هذه المقولة في عصرنا الحالي، فقد شاع في معظم المجتمعات عدم احترام المُعلِّم، وازدراء مهنة التعليم، فما هي الأسباب؟
الجواب: من أهم الأسباب: فقْدُ الوعي في الأُمَّة، ولشوقي قصيدة شهيرة في تكريم المعلم:
قـم للمعـلم وفِّـــــــه التبجيــــــــلا

كاد المعلم أن يكون رسولا
أرأيتَ أعظم أو أجـلَّ من الـذي

يبني ويُنشيء أنفسًا وعقولا
ويقولون: إن الإسكندر الأكبر كان يحترم مُعلِّمه، حتى قيل له: إنك تحترم مُعلِّمك أكثر من أبيك! قال: نعم، لأن أبي سبب حياتي الفانية، ومُعلِّمي سبب حياتي الباقية. يعني الأب يؤكلني لكن هذا يُعلِّمني، هذا يربِّي الجسم وهذا يربِّي العقل، كما قال أحد الشعراء:
فذاك مربي الروح والروح جوهر

وذاك مربي الجسم والجسم كالصدى[14]
فعندما يعي الناس ويعرفون حقيقة دور المعلم يأخذ المعلم حقه.
 للأسف إن المُعلِّم لم يأخذ حقَّه، لا أدبيًّا ولا ماديًّا أيضًا، وأذكر أنني أول ما تخرجتُ بعدما خرجتُ من الاعتقال، بدأتُ أبحث عن عمل، طبعًا رفضوا تعييني، مع إني كنتُ الأول على الدُّفعة، فجلستُ أبحث عن المدارس الخاصَّة، فأصحاب المدارس الخاصَّة يريدون مدرِّسين لغة عربية، ولمَّا تقدَّمتُ إليهم قالوا لي: أنت يا أستاذ خريج أصول الدين، وأصول الدين لا يصلح أن يُعيَّن خِرِّيجوها عندنا، مع أنَّني كنتُ الأول على الكلية, والأول في تخصُّص التدريس.
 فكنتُ أقول لإخواننا من باب الممازحة: إنَّ أبأس الناس هم الموظفون، وأبأس الموظفين هم المعلمون، وأبأس المُعلِّمين هم معلمو اللغة العربية والدين، وأبأس معلمي اللغة العربية والدين: خريجو كليات الشريعة وأصول الدين.
 فالمُعلِّم لم يأخذ حقَّه، ولذلك - للأسف - أنَّ الكثير من الشباب يهرب من مهنة التعليم، في قطر هنا الشباب يتخرج في كلية التربية، ومع هذا لا يعمل مُربِّيًا ولا مُعلِّمًا، وذلك لأن أيَّ موظف يمكن أن يهرب من مهنته إلا المُعلِّم، فماذا سيفعل في الأولاد؟ الجالس على مكتبه يمكن أن يُبدِّد الوقت ويذهب ليرى مصلحته، لكن المُعلِّم لا يستطيع أن يترك الفصل, فلذلك هرب كثير من الخِرِّيجين من مهنة التعليم، فالتعليم مهمة عظيمة، ولكن - للأسف - الناس يهربون منها، بعض المُعلِّمين يُسيئون إلى مهنة التعليم – للأسف - بسلوكهم وأخلاقهم، ولا يقتصر هذا على مهنة التعليم, فكل مهنة من المهن فيها الصالح وفيها الطالح، وفيها الطيِّب وفيها الخبيث.
القرآن يحث على احترام المعلم:
السؤال:  هل مكانة التعليم تقتصر على ما أوردتَه من قول الشاعر: (قم للمعلم وفِّه التبجيلا)؟ وأين مكانة المُعلِّم في القرآن الكريم؟
الجواب: ذكرتُ ما جاء في القرآن الكريم من مكانة المُعلِّم ومنزلته، فالقرآن جعل مهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي التعليم والتزكية، فأي شيء تريدونه أفضل من هذا؟
ويقول الله عز وجل: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، الربانيّ: هو الذي يتعلَّم ويعمل ويُعلِّم، من اجتمعت فيه الثلاثة، فهذا هو الربانيُّ، فلذلك قالوا عن المسيح عليه السلام أنه قال: من تعلَّم وعلَّم فذلك يدعى عظيمًا في ملكوت السماء[15]. القرآن قال: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79]، وقال:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، فالإنذار هو التعليم، لأن التعليم تبشير وإنذار، فالقرآن مليء بهذا، وفي السنة كما قلتُ لكم: "أن أهل السماوات وأهل الأرض يصلُّون على مُعلِّم الناس الخير". وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".[16] فالنصوص الإسلامية كثيرة جدًا والحمد لله.
باب الاجتهاد مفتوحٌ لا يُغلق:
السؤال:  لماذا أُقفل باب الاجتهاد، ومن يملك سُلْطة فتح باب الاجتهاد مرة أخرى؟
الجواب: من قال: إن باب الاجتهاد أُغلق؟ ومن الذي يملك إغلاق باب فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هذا الكلام لم يأت من طريق صحيح. هل انعقد مؤتمر وقال: نغلق باب الاجتهاد؟ ولو عُقد هذا المؤتمر فمن المجتهدون أو من المُقلِّدون؟ إذا كان من المجتهدين فلا يمكن أن يغلقوا باب الاجتهاد؛ لأنهم مجتهدون، وإذا كانوا مقلِّدين، فقولهم غير معتبر، لأن المقلِّد لا يقلَّد في قوله؛ لأنه هو نفسه ليس بعالم.
 وقد أجمع العلماء على أن التقليد ليس بعلم، لأن العلم هو معرفة الحقِّ بدليل، أما من يأخذ كلام غيره في الصواب وفي الخطأ، ويقلده فهذا ليس بعالم، ولذلك باب الاجتهاد مفتوح ولم يغلق.
 والاجتهاد في عصرنا أيسر من الاجتهاد في العصور الماضية، لأنه أتيح لنا ما لم يُتَح للعلماء من قبل، فعندنا الآن من الوسائل ما لم تكن عندهم.
 فأنا مثلا كنتُ في أوائل حياتي حينما أحتاج لنسخ صفحة أو صفحتين من كتاب، فإني أنقلها وأكتبها، وأظلُّ أكتب حتى تتورم أصابعي من كثرة الكتابة، لكني الآن أصورها في لحظة.
 وقد أصبح عندنا الآن الكتب المحقَّقة والمُفهْرسة بسهولة، وعندنا الآن الكمبيوتر، فعصرنا أصبح الاجتهاد فيه أيسر من الاجتهاد في العصور الماضية.
زواج الفتاة أم تعليمها؟
السؤال:  ما رأي فضيلتكم فيمن ترفض الزواج بسبب إكمال دراستها الجامعية؟
الجواب: من حقِّها أن توازن أيُّ الأمرين أفضل عندها، إذا كانت متفوقة ونابغة ويُرجى منها، وتَخشى أن الزواج سيحرمها من الدراسة، تكمل، فهي صاحبة القرار لنفسها، وإن كانت ترى أن هذا سيضيع عليها الفرصة ويفوتها القطار، فأرى الزواج لها أحسن, فلتنظر الأوْلى لها، فالمسلم يختار لنفسه ما هو أفضل وما هو أولى, وأيضًا ليس كلُّ خاطب يُرفض، فهناك شاب متديِّن فيكون فرصةً لا تُعوَّض، ويُعَض عليه بالنواجذ، وهناك آخر لا يستحقُّ القبول.
وهناك مثلاً من قد يشجعها على أن تُتمّ دراستها ويقول: سأساعدها. وآخر لا يقبل، يقول: لا أقبل أن تخرج من البيت. لذلك فالفتاة تنظر لهذا فيما هو أولى لها، إن شاء الله.
قطع الأشجار بدلاً من غرسها:
السؤال:  كنتُ أعيش مع أسرتي في بيت، وكان أبي حريصًا على الزراعة في ذلك البيت، وبعد خمسة عشر سنةً اضطررنا إلى المغادرة من هذا البيت وظلتْ الأشجار في ذلك المنزل، ولقد حرص أبي على عدم المِساس بها، أو العبث بها، مؤمنًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما مؤمن يغرس غرسا فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقة"[17]. لكنَّ الشخص الذي سكن البيت قطع المياه عن الأشجار حتى جفَّتْ ويبستْ، ثم قام بقطعها، مع العلم أنَّ الأشجار لم تكن تسبب أضراراً أو مضايقات له ولا لأي أحدٍ من الجيران ولا لغيرهم، فما رأي فضيلتكم فيما فعله هذا الشخص؟
الجواب: هذا الأب يشكر على ما صنع من غرس وزرع وله به صدقة، وأما هذا الذي قطع المياه عن الأشجار حتى ماتت، ثم قطعها بالآلة الكهربائية بدون داع إلى ذلك، هذا - للأسف - أفسد في الأرض، النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من قطع شجرة سدر صوَّب الله رأسه في النار"[18]. فلو كان هناك شجرة سدر في البرية وجاء من يقطعها صوَّب الله رأسه في النار، قال بعض العلماء: لعله أراد شجر الحرم، لكني أقول: أي شجرة يقطعها الشخص بدون حاجة فهو بذلك يرتكب إثمًا.
 فالإسلام يُشجِّع على الغرس والزرع ويحب من أتباعه أن يهتموا بالبيئة، ويشيعوا الخضرة، وهناك أحزاب في أوروبا وغيرها الآن اسمها أحزاب الخضر، بمعنى أنها تتبنَّى البيئة الخضراء، وترى أن هذه الخضرة سبب من أسباب الحياة الطيبة، وأن قطع الأشجار يتسبَّب في تلويث البيئة، فهؤلاء أنصار البيئة وأنصار الخُضْرة.
الإسلام سبقهم بهذا وحرَّم قطع الشجر لغير حاجة، فهذا الذي فعله الرجل يدلُّ على أنه فَقَد الوعي الإسلامي, وفَقَد حتى الحسَّ الجمالي، لقد قال الناس من قديم: ثلاثــة يذهبــن الحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن.
فهذا الرجل بإقدامه على قطع الأشجار دون مبرِّر، أثبت أنه لا يتذوَّق الجمال. ثم إن الله أعطاك هدية لم تتعب في أمرها بشيء، وتعب غيرك فيها، تقطعها؟!
ولعل هذا ما تريده الأخت السائلة، كأنَّ الأب المسكين الذي رعى هذه الأشجار كأنه يربِّي بناتاً له أو أولاداً، ثم جاء آخر فقتلهم، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9]. وحقًّا هناك فرق بين الإنسان الحسَّاس، والإنسان البليد الميت، والعياذ بالله.
السؤال:  هل يُعتَبر مُخْطئا كذلك من قطع أشجارًا ليزرع مكانها أخرى؟
الجواب: لا, إذا كان له هدف نبيل من قطع هذه الأشجار: كأن يريد أن يزرع أشجارًا أخرى مكانها، فلا مانع من ذلك، فالإنسان له أن يُغيِّر في الحديقة.
 كما لو زرع شجرةً ووجد أنها ليست النوع الذي أراد، فله أن يُغيِّرها ويأتي بنوع أحسن، ولا حرج عليه إن شاء الله.
عملياتٌ استشهاديَّةٌ أم انتحاريَّةٌ؟
السؤال:  أريد من فضيلتكم أن تردوا على من يتكلم عن العمليات الاستشهاديّة التي صارت في الآونة الأخيرة واستهدفت الأبرياء؟
الجواب: لقد رددتُ على ذلك في خطبة الجمعة، وأعتقد أنكم سمعتم هذا، قلتُ: إسرائيل هي الإرهابي الأكبر، والآن هي التي تريد مكافحة الإرهاب، وهي أكبر إرهابي في العالم، والمشكلة أن الإعلام العربي - كما قلت قبل ذلك - تهوَّد، فاليهود هم الذين يقودون إعلامنا, ويقودون أفكارنا، وأصبحنا نسير وراءهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، ماذا نقول!
وللشاعر البحتري بيت جميل يقول فيه:
إذا محاسني اللاتي أُدِلُّ بها            

كانت ذنوبي فقل لي: كيف أعتذر
إذا كنَّا نعدُّ هذه العمليات الفدائية العظيمة التي قام بها شباب باعوا أنفسهم لله، عمليات إجرامية ونقول كما تقول إسرائيل، فيا للأسف. وقد فصلت الإجابة عن هذا في مواضع أخرى.
العلم في الإسلام دين والدين علم:
السؤال: في إحدى المحاضرات كان الدكتور يُبيِّن لنا العلاقة بين العلم والدين، ووضع لنا الجدول الآتي: العلم في خانة والدين في خانة، العلم يقصد إلى رفاهية الإنسان، وإشباع الفضول والعقل. والدين يقصد إلى الهدى. ومصدر العلم العقل، ومصدر الدين الله. العلم هو المنهج التجريبي، والدين هو الوحي. وفي نهاية كلامه قال: إن العلم والدين مختلفان. فهل هذا الكلام صحيح؟
الجواب: هذا الكلام بالنسبة للإسلام باطلٌ تمامًا، فإنَّ العلم عندنا دينٌ, والدين عندنا علمٌ، قد يقال هذا بالنسبة للكنيسة الغربية، بالنسبة للغرب، فالغرب عندهم الدين والعلم شيئان مختلفان تمامًا، وعندهم كذلك: اعتقد وأنت أعمى. العقيدة لا تخضع للعقل، لكن علماؤنا يقولون: العقل أساس النقل. فنحن أثبتنا وجود الله بالعقل، وأثبتنا النبوة بالعقل، الوحي عندنا يَثبُت بالعقل، فمن دون العقل لا يقوم دين، فلذلك قالوا: العقل أساس النقل. ولذلك نحن نقول: العلم عندنا دين، لأنه فريضة على كلِّ مسلم، والدين عندنا علم، لأنه قائم على أساس البرهان: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وإيمان المُقلِّد لا يُقْبَل.
والكلام المنقول عن ذلك المُدرِّس مرفوض، لأنه إذا كان يقول: إن العلم مهمته إشباع العقل. فالدين أيضًا عندنا يقوم على إشباع العقل وإشباع الروح وإشباع الجسم، الحياة المتكاملة المتوازنة.
 لكن عند الغربيين مصدر العلم: العقل، ومصدر الدين: الله. بينما عندنا مصدر الدين: الله والعقل؛ لأنَّ ثبوت وجود الله نفسه بالعقل، وثبوت النبوة بالعقل, بماذا عرفنا أن محمدًا نبيٌّ؟ بأيِّ شيء عرفنا؟ فثبوت النُّبُوَّة يقينًا بالعقل.
المنهج التجريبي هذا يصحُّ في العلم التجريبي، ولكن ليس كلُّ العلم تجريبيًّا، هناك علم تجريبي قائم على أساس التجريب, وهناك علم برهاني قائم على أساس التفكير، ومع هذا الإسلام يُقِرُّ المنهج التجريبي، يعني أنتم أعلم بأمر دنياكم.
فهذا  - للأسف - كلام يقوله عبيد الفكر الغربي الذين لم يتثقَّفوا بالثقافة الإسلامية, ولم يعرفوا شيئًا عن الإسلام، وهذه مشكلة كثير من أساتذة الجامعات أنهم جَهَلَةٌ بالإسلام، ولا أعرف كيف يُسَمِّي الإنسان نفسه مُثقَّفًا وهو لا يعرف دينه، أو لا يعرف – حتى - دين قومه ، لأنه حتى لو كان نصرانيا ولا يعرف دين القوم الذين يعيش فيهم، فالعجب كيف يُعتَبَر هذا مثقفًا؟!
هل التسوك يستلزم الأراك؟
السؤال:  ذكرتم فضيلتكم في كتابكم: (مدخل للسنة النبوية) تغيير الوسيلة، فذكرتم في حديث: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"[19]. جواز استبدال السواك بالفرشاة والمعجون، فهل هذا يُلغي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لا, ما ألغاها، فالسنة تنظيف الأسنان، وهذا هو الهدف الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي عنده شجر الأراك يتسوَّك بعود الأراك، والذي ما عنده الأراك، كالذين في أوروبا وأمريكا واستراليا وهذه الدول يستعمل الفرشاة، فالهدف هو تحصيل المقصود، وهو أن الإنسان ينظف أسنانه. فهذا ما قَصَدْتُه، أنَّ الوسيلة قد تتغير والهدف ثابت، وعلماء الفقه قالوا: من لم يجد سواكًا فلْيَتَسوَّك بأيِّ شيء آخر، ولو بإصبعه[20]. ينظف أسنانه بأي شيء، هذا هو القصد مما قلْتُه.
واجب طالب العلم نحو العلم:
السؤال:  ما هو واجب طالب العلم نحو العلم الذي يدرسه؟
الجواب: واجبه أن يعطيه هِمَّته ووقته وجُهده، وقد قال سلفنا الصالح: إن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك. أي: كل جهدك وكل وقتك وكل هِمَّتك، لكنك إذا أَعطيتَ العلم فَضْل الوقت وفَضْل الجُهد، فلن تتعلَّم، فمن أراد أن يتعلَّم فلْيبذل الجُهد في طلب العلم، ويتواضع لمن يُعلِّمه، كما قالت الأخت في السؤال الأول: من علَّمني حرفًا صرتُ له عبدًا. هكذا كان الناس قديمًا يقولون، أي: من علمني فقد أوجب عليَّ احترامه وإكرامه.
استغلال الوقت في طاعة الله:
السؤال:  كيف يستطيع الإنسان أن يستغل وقته في طاعة الله ومجاهدة الشيطان؟
الجواب: بالاستعانة بالله, ثم بالإرادة القوية, والاستعانة بأهل الخير والصحبة الصالحة، فيصاحب أهل الخير وهم يعينونه على ذلك إن شاء الله، وأسال الله أن يعينه على ذلك.
العمل في البنوك الربويَّة:
السؤال: نقرأ كثيرًا في الصحف والمجلات يوميًّا عن تحليل العمل في البنوك الربويَّة لأن الاقتصاد قائمٌ عليه؟
الجواب: هذا الكلام لا يؤخذ به، لأنه ليس صادرًا من أهل الفقه والعلم، أمور الدين تؤخذ من أهل العلم البصراء فيه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، إنما للأسف بعضنا أصبح عبيدًا للغرب، فيريد أن نُحلَّ ما أحلَّ الغرب, ونُحرِّم ما يُحرِّم الغرب، وقد كنا قد أغلقنا هذا الملف، حتى جاء أحد العلماء – وهذا ممَّا يؤسف له - وأعادها جذعةً, وقال كلاماً باطلاً في تحليل الفوائد، مع أنَّ كل المجامع في البلاد الإسلامية، كمَجْمع البحوث في الأزهر, ومَجْمع الفقه لرابطة العالم الإسلامي في مكة، ومَجْمع الدول الإسلامية في جدة، كل هذه المجامع قالت: إن فوائد البنوك هي الربا الحرام.
الضرب ليس سياسةً إسلاميةً:
السؤال: ما رأي فضيلتكم في سياسة الضرب في المدارس؟
الجواب: الأصل أنَّ الضرب ممنوعٌ، الضرب ليس سياسة إسلامية، فالنبي عليه الصلاة والسلام متى أجاز الضرب؟ قال: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر"[21]. فلهم فرصةٌ ثلاث سنواتٍ نُعلِّم ونُرغِّب ونكافئ، وبعد ثلاث سنوات نضرب، ولذلك أقول لمَن يحتفل بأعياد الميلاد: لا تحتفلوا بأعياد الميلاد، واحتفلوا بالولد عند بلوغ سبع سنين, وقولوا له: هذه سِنُّ الصلاة، أنت الآن كَبِرتَ ووجبتْ عليك الصلاة، ونبدأ نعلمه الصلاة ويصليِّ مع أبيه أو مع أمه. وبعد ثلاث سنين عندما يبلغ عشر سنين نعمل له حفلة ثانية، نقول له: هذه حفلة الضرب يا بطل، فقد كنا قبلَ الآن نقول لك: صلَّ, فتصلِّي وقد لا تُصلِّي، ولم يكن يضربك أحدٌ، أما الآن فقد كَبِرت وستُضرب إذا تركتَ الصلاة. فهذا هو الذي ينبغي, فالإسلام أجاز الضرب في هذه الحالة، فلا يُضرب الولد على كلِّ خطأ، بل لا بدَّ من التوجيه أولاً، ولا يُضرب إلا في الحالات القصوى.
فإذا كان الإسلامُ قد أجاز ضرب المرأة، فإنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ولن يضرب خياركم"[22]. أي: الرجل الكريم لا يضرب امرأته، وقال: "ألا عسى أحدكم أن يضرب امرأته ضرب الأمة, ألا خيركم خيركم لأهله"[23]. أي: لا يليق بالإنسان الكريم أو الإنسان الحُر أن يضرب امرأة، إنَّما ذلك ممكن عند الضرورة، وليس معنى أن يضربها، أن يُمسك عصا أو يضربها بخشبة يكسر رأسها، إنما كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لولا القصاص يوم القيامة، لأوجعتك بهذا السواك"[24].
فالأصل عدم الضرب، وإذا ضرب يضرب ضربًا خفيفًا، ويكون ذلك بعد أن يستنفد كل الوسائل، ويضرب وهو هادئ, لا يضرب وهو غضبان، والمُعلِّم الناجح والفاضل: هو الذي لا يحتاج إلى الضرب، ولن يضرب الأخيار من الرجال.
الجمع بين الصلوات للمقيم:
السؤال:  لي محاضرةٌ متصلةٌ أُلقيها, تبدأ في الثانية والنصف وتنتهي في الخامسة والنصف، فهل يجوز لي جمع الظهر والعصر؟
الجواب: يجوز، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء في المدينة في غير سفر ولا مطر، روى ذلك ابن عباس، وسئل ابن عباس: ماذا أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يُحْرِجَ أمته[25]. أي: أراد رفع الحرج، فإذا كان هناك حرج أمكن جمع الظهر والعصر جمع تقديم ولا حرج، وإذا كانت هناك محاضرتان مع بعض, فإنَّه لا بدَّ من إقامة خمس دقائق أو سبع دقائق للبنات أن يُصلِّين، فلا بد أن تتاح لهنَّ فرصة، فلا مانع أن يبقى الكلُّ مستعدًا للصلاة, وتؤمُّهم الأستاذة وتصلي بهنَّ فيما بين المحاضرتين، أعتقد أنَّ هذا سيكون أولى لأنها ستعطي قدوة وتعين الطالبات على الصلاة.
الصور المُجسَّمة مُحرَّمةٌ:
السؤال:  ما حكم لبس قلائد من الذهب عليها صورة رأس إنسان أو صور حيوان؟
الجواب: الصور المُجسَّمة مُحرَّمةٌ، فلا يجوز للمسلمة أن تلبس هذه الأشياء، إلا إذا كانت صورة غير مُجسَّمة، يعني في صورة مُسطَّحة، مثل هذه الصور الرأي الراجح فيها عندي أنها مكروهةٌ وليست مُحرَّمةً، إنما إذا كانت صورةً مُجسَّمةً فهذه لا تجوز.
أطع أباك، ولا تعص أمك:
السؤال:  والدتي تأمرني بفتح النافذة, ووالدي لا يريدني فتحها, فماذا أفعل؟
الجواب: قال أحدهم للإمام مالك: أمي تريد كذا وأبي يريد خلافه، قال له: أطع أباك، ولا تعص أمك[26]. أي: حاول أن تُرضي الطرفين بأي طريقة.
وضوء الفتيات في الجامعة:
السؤال:  بالنسبة للوضوء في الجامعة تجد الطالبات حرجًا في أمر الوضوء؟
الجواب: أنا أنصح الطالبة، وأنصح الموظف والموظفة والموظفين في الجامعة وفي أي مكان، بلبس الجوارب على طهارة، على وضوء، فبعد أن تصلي الصبح تخرج من بيتك على وضوء، ثم تأتي إلى الجامعة, فإن احتجتَ إلى الوضوء تتوضأ, فتغسل الوجه واليدين, وتمسح الرأس, ثم تمسح على الجورب، لأن المشكلة في الوضوء هي غسل الرجلين، وقد سألني واحدٌ مرةً, فقال لي: أنا لا أستطيع الصلاة في العمل، فقلتُ له: اعمل كذا وكذا. كما قلتُ لكنَّ الآن, فقال لي: وهل يجوز هذا؟ قلتُ له: نعم يجوز، ثم قابَلني بعدها, فقال لي: جزاك الله خيرا، لقد سهَّلتَ عليَّ.
 لأنَّ غَسل القدم هو المشكلة، خاصة للذين يلبسون البنطال، فإنه يحتاج إلى تشمير البنطال، ورفع الرجل على الحوض، وهكذا، فيكون الأمر مُتعِبًا وصعبًا، بينما غَسلُ الوجه والمرفقين ومسح الرأس عمليةٌ سهلةٌ، قال لي: أصبح الأمر سهلاً جدًّا. فأنا أنصح من يريد الوضوء في الجامعة أن يفعل هذا.
أمر الفتاة لمنْ؟
السؤال:  سمعنا كثيرًا واجب طاعة المرأة لأمها وزوجها وأخيها، فأردنا أن نعرف كيف يمكن أن تشارك في تقدم المجتمع إذا كانت حياتها في يد كل هؤلاء، ويكفي شخص منهم أن يرفض، ومتى تستطيع المرأة أن تفعل ما تريد؟
الجواب: إذا كانت المرأة غير متزوجة، فالذي يرعاها هو أبوها، فالرأي رأي الأب، أمَّا إذا كانت متزوجةً فلا شأن لأبيها ولا لأخيها بها, إنما هي وزوجها، تتفق مع زوجها, ولا يتحكَّم فيها والدها بعد الزواج، فإنها بعد الزواج تتعامل مع زوجها فقط, وليس لأهلها أن يتدَّخلوا في حياتها.
تلاوة القرآن بدون وضوء:
السؤال:  هل يجوز تلاوة القرآن بدون وُضوء؟
الجواب: إذا كانت القراءة بدون مصحف فإنها تجوز, أما إذا كانت القراءة من المصحف فهناك خلاف، وبعض العلماء كالإمام الشوكاني وغيره[27] يقولون: يكفي أن يكون القارئ غيرَ جُنُبٍ، بل أجاز الإمام البخاري للحائض أن تقرأ القرآن وهي حائضٌ[28]، وأنا مع هذا الرأي وخصوصًا أنَّ الجنابة يمكن للإنسان أن يزيلها باختياره، بينما الحيض لا يمكن أن تزيله المرأة باختيارها، فيمكنها أن تقرأ القرآن حتى وهي حائض على هذا المذهب.
حديث النفس هل يحاسب عليه؟
السؤال:  هل يحاسب الإنسان على حديثه حتى ولو لم يكن خيرًا أو شرًا؟
الجواب: نعم يحاسب على حديثه، فإذا كان الكلام خيرًا كان في صحيفة الحسنات، وإذا كان شرًا كان في صحيفة السيئات، وإذا لم يكن خيرًا ولا شرًا فلا شيء عليه إن شاء الله, وإن كان السؤال عن كلِّ شيء, كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93].
وصلى الله وسلم علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكنَّ ورحمة الله وبركاته.




[1]- ألقيت هذه المحاضرة في كلية التربية بجامعة قطر بتاريخ 9 مارس 1996م، تحت رعاية لجنة الأنشطة الطلابية بكلية التربية، خلال موسمها الثقافي لهذا العام.
[2]- رواه أبو عبد الرحمن السلمي في آداب الصحبة (128).
[3]- رواه ابن ماجه (229). والدارمي (349)، كلاهما في المقدمة، عن عبد الله بن عمرو، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (44).
[4]- رواه مسلم في الطلاق(1478)، وأحمد (14516)، عن جابر بن عبد الله.
[5]- متفق عليه: رواه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734)، كما رواه أحمد (12333)، والنسائي في الكبرى في العلم (5859)، عن أنس بن مالك.
-[6] متفق عليه: رواه البخاري (3038)، ومسلم (1733) كلاهما في الجهاد، كما رواه أحمد (19742)، وأبو داود في الحدود (4355)، والنسائي (5595)، وابن ماجه (3391) كلاهما في الأشربة، عن أبي موسى الأشعري.
[7]- متفق عليه: رواه البخاري (1597)، ومسلم (1270)، كلاهما في الحج، كما رواه أحمد (99)، وأبو داود في المناسك (1873)، والترمذي في الحج (860)، والنسائي في مناسك الحج (2937).
[8] - رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/53).
[9]- رواه أحمد (15278) وقال مخرجوه: حسن لغيره، والنسائي في الكبري في التفسير (11109)،عن ابن مسعود.
[10]- رواه أحمد (21715) وقال مخرجوه: حسن لغيره، أبو داوود (3641)، والترمذي (2682)، كلاهما في العلم، وابن ماجه في المقدمة (223)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (182)، عن أبي الدرداء .
[11]- رواه الطبراني في الأوسط (2/114)، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/331), وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(83): حسن موقوف.
[12]- رواه الترمذي في العلم (2685)، وقال حديث حسن صحيح غريب، والطبراني في الكبير (8/234)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1838)، عن أبي أمامة.
[13] -  من شعر: صالح بن عبد القدوس.
[14] -  من شعر: أبو عثمان التجيبي.
[15] - رواه أبو نعيم في الحلية (6/93)، عن ثور الحمصي.
[16]- رواه البخاري في فضائل القرآن(5027)، وأحمد (500)، وأبو  داود في الصلاة(1452)، والترمذي في فضائل القرآن (2907)، وابن ماجه في المقدمة(211).
[17]- متفق عليه: رواه البخاري في المزارعة (2320)، ومسلم في المساقاة (1553)، كما رواه أحمد (12495)، والترمذي في الأحكام (1382)، عن أنس.
[18]- رواه أبو داود في الأدب (5239)،  والنسائي في الكبرى كتاب السير (8557)، وصححه الألباني في الصحيحة (614) عن عبد الله بن حبشي.
[19] - ذكره البخاري معلقا بلا إسناد في الصوم, ورواه أحمد(24203), والنسائي(5), وابن حبان(1067), كلاهما في الطهارة, عن عائشة.
[20] - راجع كتابنا فتاوي معاصرة الجزء الأول صـ329 .
[21]- رواه أحمد (6756)، وقال مخرجوه: إسناده حسن، وأبو داود (495)، والدار قطني (1/230)، والبيهقي (2/229) ثلاثتهم في الصلاة، وصححه الألباني في إرواء الغليل (298)، عن عبد الله بن عمرو.
[22]- رواه الحاكم في النكاح (2/191) وصحح إسناده، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبرى في النكاح (7/304) عن أم كلثوم بنت أبي بكر.
[23]- رواه البزار في مسنده(3/196)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(2678)، عن الزبير بن العوَّام.
[24]- رواه البخاري في الأدب المفرد (184)، وأبو يعلي (6944)، عن أم سلمة، وضعف إسناده البوصيري في إتحاف الخيرة (3423)، وضعفه الألباني في الضعيفة (4363).
[25]- رواه مسلم  في صلاة المسافر (705)، وأحمد (1953)، وأبو داود في الصلاة (1025)، والترمذي في الصلاة (172)، والنسائي في المواقيت(601) عن ابن عباس.
[26] -  ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (10/402).
[27] -  راجع: نيل الأوطار (1/259).
[28] - راجع: فتح الباري (1/414) عند شرح حديث رقم (297).