معركة الحجاب...!!
نريد للصحوة الأسلامية المعاصرة أمرين: أولهما:
البعد عن الأخطاء التي انحرفت بالأمة وأذهبت ريحها وأطمعت فيها عدوها.. والآخر:
إعطاء صورة عملية للإسلام تعجب الرائين، وتمحو الشبهات القديمة وتنصف الوحي
الإلهي...
ويؤسفني أن بعض المنسوبين الى هذه
الصحوة فشل في تحقيق الأمرين جميعا، بل ربما نجح في إخافة الناس من الإسلام، ومكن
خصومه من بسط ألسنتهم فيه..
ولنستعرض هنا طائفة من المعارك التي
أثاروها، أو المبادئ التي رأوا أن ينطلقوا منها. ونبدأ بمعركة النقاب!.
قرأت كتيبا في إحدى دول الخليج يقول فيه
مؤلفه: إن الإسلام حرم الزنا! وإن كشف الوجه ذريعة إليه، فهو حرام لما ينشأ عنه من
عصيا!.
قلت: إن الإسلام أوجب كشف الوجه في
الحج، وألفه في الصلوات كلها، أفكان بهذا الكشف في ركنين من أركانه يثير الغرائز
ويمهد للجريمة؟ ما أضل هذا الاستدلال!.
وقد رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
الوجوه سافرة في المواسم والمساجد والأسواق فما روي عنه قط أنه أمر بتغطيتها، فهل
أنتم أغير على الدين والشرف من الله ورسوله؟.
وللنظر الى كتاب اله ورسوله لنستجلي
اطراف الموضوع
1 ـ إذا كانت الوجوه مغطاة فمم يغض
المؤمنون أبصارهم؟ كما جاء في الآية الشريفة «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم...»(24). أيغضونها عن القفا والظهر؟..
الغض يكون عند مطالعة الوجوه بداهة،
وربما رأى الرجل ما يستحسنه من المرأة فعليه ألا يعاود النظر عندئذ كما جاء في
الحديث. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي رضي الله عنه: «يا علي لا تتبع
النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة»!.
2 ـ وقد رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ من تستثار رغبته عند النظر المفاجئ، وعندئذ فالواجب على المتزوج أن يستغني بما
عنده كما روى جابر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته
فليأت أهله ـ أي ليذهب الى زوجته ـ فإن ذلك يرد ما في نفسه».
إن لم تكن له زوجة فليع قوله تعالى:
«وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله»(25).
حكى القاضي عياض عن علماء عصره ـ كما
روى الشوكاني ـ أن المرأة لا يلزمها ستر وجهها وهي تسير في الطريق، وعلى الرجال غض
البصر كما أمرهم الله...
3 ـ في أحد الأعياد خطب النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ النساء ـ ومصلى العيد يجمع الرجال والنساء بأمر من رسول الله ـ
فقال لهن: «تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم» فقال امرأة سفعاء الخدين جالسة في وسط
النساء: لم نحن كما وصفت؟ قال: «لأنكن
تكثرن الشكاة وتكفرن العشير» يعني ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن نساء كثيرات يجحدن
حق الزوج، وينكرن ما يبذل في البيت ولا تسمع منهن إلا الشكوى!..
قال الراوي: فجعلن يتصدقن من حليهن،
يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن...! والسؤال: من أين عرف الراوي أن المرأة
سفعاء الخدين ـ؟ والخد الأسفع هو الجامع بين الحمرة والسمرة ـ ما ذلك إلا لأنها
مكشوفة الوجه.
وفي رواية أخرى: كنت أرى النساء وأيديهن
تلقى الحلى في ثوب بلال.. فلا الوجه عورة ولا اليد عورة.
4 ـ قال بعض النساء: إن الأمر يكشف
الوجه في الحج، أو في الصلاة، يعطى أن الوجه يجب ستره فيما رواء ذلك، وأن على
المرأة ارتداء النقاب. والقفازين!.
ونقول: هل إذا أمر الله الحجاج بتعرية
رؤوسهم في الإحرام كان ذلك يفيد أن الرءوس تغطي وجوبا في غير الإحرام؟ من قال ذلك؟
من شاء غطى رأسه ومن شاء كشفه..
5 ـ عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن
أمرأة جاءت الى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب
لك نفسي، فنظر اليها رسول الله فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه ـ لم يجبها
بشيء ـ فلما رأت أنه لم يقض فيها بشيء جلست...».
وفي رواية أخرى أن أحد الصحابة خطبها،
ولم يكن معه مهر فقال له النبي: التمس ولو خاتما من حديد!.
وانتهت القصة بزواجه منها.
والسؤال فيم صعد النظر وصوبه إن كانت
منقبة؟.
6 ـ عن ابن عباس كان الفضل رديف رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاءت امرأة من خثعم ـ تسأله ـ فجعل الفضل ينظر اليها
وتنظر إليه وجعل رسول الله يصرف وجه الفضل الى الشق الآخر... فقالت يا رسول الله
إن فريضة الله على عباده الحج، وقد أدركت بي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحة، أفأحج
عنه؟ قال: نعم... وكان ذلك في حجة الوداع ـ أي لم يأت بعده حديث ناسخ ـ.
7 ـ وحدثت عائشة قالت: كان نساء مؤمنات
يشهدن مع النبي صلاة الفجر، متلحفات بمروطهن ـ مستورات الأجساد بما يشبه الملاءة ـ
صم ينقلبن الى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لايعرفن من الغلس ـ تعني أنه لولا غبش
الفجر لعرفن لانكشاف وجوههن ـ.
8 ـ على أن قوله تعالى: «وليضربن بخمرهن
على جيوبهن»(26) يحتاج الى تأمل، إذ لو كان المراد إسدال الخمار على الوجه لقال: ليضربن
بخمرهن على وجوههن، مادامت تغطية الوجه هي شعار المجتمع الإسلامي، وما دامت للنقاب
هذه المنزلة الهائلة التي تنسب اليه… وعند التطبيق العملي لهذا الفهم اضطرت النساء
لاصطناع البراقع أو حجب أخرى على النصف الأدنى للوجه كي يستطعن السير، فإن إسدال
الخمار من فوق يعشى العيون، ويعسر الرؤية.. ومن ثم فنحن نرى الآية لا نص فيها على
تغطية الوجوه!.
ولاشك أن بعض النساء في الجاهلية، وعلى عهد الإسلام كن يغطين وجوههن
مع بقاء العيون دون غطاء، وهذا العمل كان من العادات لا من العبادات، فلا عبادة
إلا بنص.
9 ـ ويدل على ماذكرنا: أن امرأة جاءت
الى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقال لها «أم خلاد» وهي متنقبة تسأل عن ابنها
الذي قتل في إحدى الغزوات فقال لها بعض أصحاب النبي: جئت تسألين عن ابنك وأنت
متنقبة؟ فقالت المرأة الصالحة: إن أرزأ ابني فلم أرزأ حيائي..!!.
واستغراب الأصحاب لتنقب المرأة دليل على
أن النقاب لم يكن عبادة!.
10 ـ قد يقال: إن ما روي عن عائشة يؤكد
أن النقاب تقليد إسلامي، فقد قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات، فإذا
جازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» ونجيب
بأن هذا الحديث ضعيف من ناحية السند، شاذ من ناحية المتن، فلا احتجاج به..
والغريب أن هذا الحديث المردود يروج له
دعاة النقاب مع أنهم يردون حديثا خيرا منه حالا وهو حديث عائشة أن أسماء بنت أبي
بكر دخلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال:
«يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم
يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار الى وجهه وكفيه»
ونحن نعرف ان الحديث مرسل، ولكن الحديث
قوته روايات أخرى، وهو أقوى من الحديث الذي سبقه.
11 ـ وأدل على ذلك السفور المباح:
مارواه لنا مسلم أن سبيعة بنت الحارث ترملت من زوجها وكانت حاملا، فما لبثت أياما
حتى وضعت، فأصلحت نفسها، وتجملت للخطاب! فدخل عليها أبو السنابل أحد الصابة ـ وقال
لها: مالي أراك متجملة؟ لعلك تريدين الزواج، إنك والله ما تتزوجين إلا بعد أربعة
أشهر وعشرة أيام..
قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي
ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، وسألته عن ذلك فأفتاني
بأني قد حللت حين وضعت حملي! وأمرني بالتزوج إن بدا لي..
كانت المرأة مكحولة العين مخصوبة الكف،
وابو السنابل ليس من محارمها الذين يطلعون بحكم القرابة على زينتها، والملابسات
كلها تشير الى ببيئة يشيع فيها السفور!.
وقد وقع ذلك بعد حجة الوداع، فلا مكان
لنسخ حكم أو إلغاء تشريع.. وأعرف ان هناك من ينكر كل ما قلناه هنا، فبعض المتحدثين
في الإسلام أشد تطيرا من ابن الرومي! وهم ينظرون الى فضائل الدنيا والآخرة من خلال
مضاعفة الحجب والعوائق على الغريزة الجنسية..
ويعلم الله إني ـ مع اعتدادي برأيي ـ
أكره الخلاف والشذوذ. وأحب السير مع الجماعة، وأنزل عن وجهة نظري التي أقتنع بها
بغية الإبقاء على وحدة الأمة..
فهل ما قلته رأي انفردت به؟.
كلا كلا إنه رأي الفقهاء الأربعة
الكبار، ورأي أئمة التفسير البارزين..
إن الشاغبين على سفور الوجه يظاهرون
رأيا مرجوحا، ويتصرفون فيه قضايا المرأة كلها على نحو يهز الكيان الروحي والثقافي
والاجتماعي لأمة أكلها الجهل والاعوجاج لما حكمت على المرأة بالموت الأدبي
والعلمي.
إن من علماء المذاهب الأربعة من يرى أن
وجه المرأة ليس بعورة، وأثبت هنا نقولا عن كبار المفسرين من أتباع هذه المذاهب:
قال أبو بكر الجصاص ـ وهو حنفي ـ في تفسير
قوله تعالى: «وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا
ما ظهر منها...»(27).
قال أصحابنا: المراد: الوجه والكفان،
لأن الكحل زينة الوجه، والخضاب والخاتم زين الكف. فإذا أبيح النظر الى زينة الوجه
والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر الى الوجه والكفين.
ويقول القرطبي ـ وهو مالكي ـ «لما كان
الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن
يكون الاستثناء راجعا إليهما...».
ويقول الخازن ـ وهو شافعي ـ مفسرا
الاستثناء في الآية «قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي: الوجه والكفان».
ويقول ابن كثير ـ وهو سلفي ـ «ويحتمل أن
ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند
الجمهور...».
وقال ابن قدامة في «المغني» ـ وهو مرجع
حنبلي ـ: المرأة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان!!.
ونختم برأي ابن جرير الطبري في تفسيره
الكبير «أولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال ـ في
الاستثناء المذكور عن زينة المرأة المباحة ـ عني بذلك الوجه والكفين، ويدخل
الكحل والخاتم والسوار والخضاب.. وإنما قلنا ذلك أقوى الأقوال، لأن الإجماع على أن
كل مصل يستر عورته في الصلاة وأن للمرأة أن تكشف وجها وكفيها في الصلاة، وأن تستر
ما عدا ذلك من بدنها، وما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره...».
والمذهب الحنفي يضم ظهور القدمين الى
الوجه والكفين، منعا للحرج...
وبعد هذا السرد نسارع الى التنبيه بأن
المجتمع الإسلامي بما شرع الله له من آداب اللباس والسلوك العام هو شيء آخر غير
المجتمع الأوروبي ـ بشقيه الصليبي والشيوعي ـ فإن هذا المجتمع أدنى الى الفكر
المادي البحت وأقرب الى الإباحة الحيوانية المسعورة..
إن الملابس هناك تفصل للإثار لا للستر،
والتزين للشارع لا للبيت، والاختلاط لا يعرف التصون أو تقوى الله، والخلوة ميسورة
لمن شاء، والقانون لا يرى الزنا جريمة ما دام بالتراضي!! وتكاد الأسر تكون حبرا
على ورق..
إن الإسلام شيء آخر مغاير كل المغايرة
لهذا الاتجاه الطائش الكفور، فهل أحسنا نحن بناء المجتمع القائم على حدود الله؟.
إننا قدمنا للإسلام صورا تثير الاشمئزاز
وفي خطاب لأحد الدعاة المشاهير قال: إن المرأة تخرج من بيتها للزوج أو للقبر! ثم
ذكر حديثا(28): إن امرأة مرض أبوها مرض الموت فاستأذنت زوجها لتعوده فأبى عليها!
فلما مات استأذنته أن تشهد الوفاة وتكون مع الأهل عند خروج الجنازة فأبى... قال
الخطيب: فلما ذكرت ذلك لرسول الله قال لها: إن الله غفر لأبيك لأنك أطعت زوجك!!.
أكذلك يعرض ديننا؟ سجنا للمرأة تقطع فيه
ما أمر الله به أن يوصل؟..
وجاءتني رسالة من طالبة منعها أبوها من
الالتحاق بالجامعة، قالت: إن أبانا يقول لي ولأخواتي البنات: «إن الله دفنكم
أحياء، فلا أترككن لما تردن من خروج»!.
هذا فهم الأب الأحمق لآية «وقرن في
بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى...»(29).