الاثنين، 27 يونيو 2022

حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء..

 حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء....(01).

قد كانت المناوشات العلمية بين الأطراف الثلاثة جزءا من منهج يضرب بجذوره في التراث الإسلامي، والإرث الحضاريّ للأُمّة في إدارة الخلافات الفكرية والسلوكية، مما يدفعنا اليوم لبحث كيفية استلهام تلك السوابق المنهجية والتاريخية لتوحيد متنافرات الساحة العلمية والإصلاحية اليوم ، إن الحديث عن الصراع الدائر اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء ، حديث يبتعد كثيرا عن منهج العدل و الإنصاف ذلك أن أي عمل لإصلاح فكرة ما لا بد أن يبدأ من النظر إلى نشأتها ومسيرتها وإعادة رسم حضورها في الذاكرة ، كيف نظر الفقهاء والمحدِّثون إلى تبلور التصوف تاريخيا وكيف قاموا بتقسيم مراحله وأنماطه تقسيما منهجيا؟
يمدَّنا ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) بنص ثمين يساعدنا -ولو بالتقريب- في رسم المنحنى الزمني لتحقيب أجيال الصوفية منذ نهاية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي ، فنجده يقول في كتابه «الصفدية» : "الشيوخ الأكابر -الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السُّلَمي (ت 412هـ/1023م) في ‘طبقات الصوفية‘ وأبو القاسم القُشيري (ت 465هـ/1074م) في ‘الرسالة‘- كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهل الحديث، كالفُضْيل بن عياض (ت 187هـ/803م) والجُنيد بن محمد (البغدادي ت 297هـ/910م) وسهل بن عبد الله التُّـسْتَري (ت 283هـ/896م) وعمرو بن عثمان المكي (ت بعد 300هـ/912م) وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي (ت 371هـ/982م) وغيرهم، وكلامهم موجود في السنة وصنفوا فيها الكتب".
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق الإسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ الأستاذ الدكتور محمد صياد.» --
حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء(02)
ويبني الذهبي (ت 748هـ/1348م) على استقراء ابن تيمية التحقيبي لبيان شِقِّ العلاقة الثانية بين معسكريْ الفقه والحديث، الذين سمح التفاهمُ بينهما باستيعاب الظاهرة الصوفية ودمجها في النسيج المعرفي العام لـ"أهل السنة والجماعة"؛ فنجد أن الذهبي أحسن رصْدَ ووصْف وضعية الساحة العلمية حتى مطلع القرن الرابع/العاشر الميلادي، وقيمة هذا الوصف أنه قدَّم لنا طبيعة الأرضية التي تأسس عليها اللقاء بين علماء الأمة من مختلف التخصصات.
فقد ذكَر -في ‘سير أعلام النبلاء‘- طائفةً من الأئمة الجامعين بين الفقه والحديث، ثم قال: "فكان المحدِّثون إذْ ذاك أئمةً عالمين بالفقه أيضا، وكان أهل الرأي بُصَراءَ بالحديث، قد رحلوا في طلبه وتقدموا في معرفته. وأما اليومَ 😊 القرن الثامن/الرابع عشر الميلادي) فالمحدثُ قد قنع بالسكة والخطبة فلا يفقه ولا يحفظ، كما أن الفقيه قد تشبث بفقه لا يُجيد معرفته ولا يَدري ما هو الحديث"!!
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق الإسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ الأستاذ الدكتور محمد صياد.»-

حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و الحدثون و الفقهاء(03)
وقبل ابن تيمية والذهبي؛ زوّدنا -في ‘حِلْيَة الأولياء‘- الإمامُ الحافظ أبو نُعَيم الأصبهاني الشافعي (ت 430هـ/1040م) بلمحة مهمة تعين على استكمال تصوُّر المخطط التاريخي للإصلاح الصوفي، ومدَّ الخيط -بأثر رجعي- إلى عهد الصحابة من أهل الصُّفَّة جاعلا التصوف مذهبا اتباعيا مسنودا ومتسلسلا من الصحابة إلى مَنْ سمَّاهم "الأوائل من السلف"، ونابذاً دخلاء التصوف غير المقبول أو مذهب "المتخرِّمين المتهوِّسين من جهال الصوفية"؛ وفق تعبيره.
وفي ذلك يقول: "قد أتينا على مَن ذكرهم الشيخ أبو عبد الرحمن السُّلَمي (في ‘طبقات الصوفية‘) ونسَبَهم إلى توطُّن الصُّفَّة ونزولها، وهو أحد من لقيناه وممن له العناية التامة بتوطئة مذهب المتصوفة وتهذيبه على ما بينه الأوائل من السلف، [فهو] مقتدٍ بسيمتهم ملازمٌ لطريقتهم متَّبع لآثارهم، مفارقٌ لما يُؤْثَر عن المتخرِّمين المتهوِّسين من جهال هذه الطائفة، منكِرٌ عليهم؛ إذ حقيقة هذا المذهب عنده متابعةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيما بلّغ وشرع وأشار إليه وصدَع، ثم [أهلِ] القدوة المتحققين من علماء المتصوفة ورواة الآثار وحكام الفقهاء..، [ثم أتينا على] ما ذكره الأغرُّ الأبـْلَج أبو سعيد ابن الأعرابي (البصري ت 340هـ/951م).. وكان أحد أعلام رواة الحديث والمتصوفة، وله التصانيف المشهورة في سيرة القوم وأحوالهم..، إذْ هو شَرَع في تأليف ‘طبقات النُّسّاك‘".
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق الإسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ الأستاذ الدكتور محمد صياد.» -
حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء(04).
لقد قام العلماء باستيعاب المقبول شرعا من التصوف وفرز واستبعاد الدخيل، وهنا يحسن التنبيه بشكل خاص إلى دور الغزالي الحاسم في فتح طريق الالتقاء بين الفقهاء والمتصوفة، ونظيره الإسهام المفصلي للشيخ الجيلي بتمهيده مسار التواصل بين المحدّثين والمتصوفة.
فعلى أساس هذين الإنجازيْن التصالحييْن التاريخييْن بين الاتجاهات الثلاثة (الفقه والحديث والتصوف)؛ نشأت أرضية جديدة جمعت سواد الأمّة وبلورت نسقها الفكري العام المتجانسَ والمُـصالِـحَ بين أصحاب الاتجاهات الثلاثة، فكان في ذلك تلطيفٌ لـ"جفاف" الفقهاء، وتليينٌ لـ"حَدِّيّة" المحدّثين، وضبطٌ لـ"جموح" المتصوفة!
وفي الحديث عن عملية غربلة التصوف الإصلاحية؛ يمكن القول إن الغزالي -بعد ترسخ نزعته التصوفية بدءا من عزلته سنة 488هـ/1095م وحتى وفاته- قاد جهود المصالحة بين التصوف وعلوم الشريعة، وإن كان حقيقةً لم يؤسس لتلك المصالحة لأنّ الفقهاء والمحدثين قبله كان كثير منهم صوفية كما تقدم ذكره وسيأتي بيانه، وكانت لهم جهود واضحة في تتبع الغُلاة، بيد أنّ الغزالي توسع في ذلك النقد الإصلاحي للتصوف وصنّف فيه عدة مصنفات.
ففي نقده للمتصوفة الذين يُسقِطون التكليفات الشرعية بدعوى بلوغ درجة اليقين والمكاشفة؛ يقول الغزالي في ‘إحياء علوم الدين‘: "وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدَثَه بعض الصوفية: أحدهما الدعاوي الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى، والوصال المُغْني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب، فيقولون: قيل لنا كذا وقلنا كذا..، وهذا فنٌّ من الكلام عظيم ضرره في العوام..، فإن هذا الكلام يستلذّه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم"!!
وينتقد الغزالي الاكتفاء بالمَظهر دون الجوهر عند كثير من المتصوفة وخاصة صوفية زمانه نهاية القرن الخامس ومطلع السادس: "الصنف الثالث المتصوفة وما أغلب الغرور عليهم، والمغترون منهم فرقٌ كثيرة: ففرقة منهم -وهم متصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله- اغتروا بالزِّي والهيئة والمنطق، فساعدوا 😊 قلّدوا) الصادقين من الصوفية في زيّهم وهيئتهم، وفي ألفاظهم وفي آدابهم ومراسمهم..، ولم يُتعِبوا أنفسَهم قَطُّ في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية..، [بل] يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين"!!
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق الإسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ الأستاذ الدكتور محمد صياد.» -
حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء(05)
لم يكن انتقاد الفقهاء والمحدثين لبعض الصوفية -في أكثره- انتقاداً من الخارج، أو بين فِرَقٍ وتيارات متباينة ومتنافسة، وكأنه خلاف بين المعتزلة والحنابلة، أو الأشعرية والشيعة ، بل كان عملاً إصلاحياً من داخل البيت الصوفي، فكثيرٌ من المحدِّثين والفقهاء كانوا من أهل التصوف كما سنرى، وكثير منهم -حتى من غير متصوفتهم- كان يتبع منهجاً علميا دقيقا في النقد والاستدراك، بعيداً عن العاطفة والأهواء. ولكن إذا كان الفقهاء والمحدثون انتقدوا بشدة -كما رأينا- التصوفَ المُتفلِّت من الضوابط والتكاليف الشرعية، فإنهم دافعوا عن قسيمه المنضبط بنصوص الشرع.
فابن الجوزيّ مثلا مرّ بأطوارٍ وتحولات نفسية وروحية عميقة أوصلته إلى تلك القناعة، فنراه -في ‘صيد الخاطر‘- يقرر أنه توصل -عندما حدثتْه نفسه بالعزلة وترك مجالس الوعظ خشية الرياء- إلى أنه "ينبغي أن تكون العزلة عن الشر لا عن الخير..، وأما تعليم الطالبين وهداية المريدين فإنه عبادة العالم. وإن من تغفيل بعض العلماء إيثاره للتنفل بالصلاة والصوم عن تصنيف كتاب أو تعليم علم ينفع، لأنّ ذلك بذر يكثر رَيْعُه ويمتد زمان نفعِه". ورغم شدته على المتصوفة؛ فإننا نجد ابن الجوزي يلخص كتابين من أعمدة تعاليم التصوف، هما: ‘حِلْيَة الأولياء‘ للأصفهاني الذي اختصره في كتابه ‘صفة الصفوة‘، و‘إحياء علوم الدين‘ للغزالي الذي أوْدع خلاصته في كتابه ‘منهاج القاصدين‘...
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق الإسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ -
حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء (06)
من طالع بإنصاف و فهم و بعد عن الإيحاء و التعصب يجد ابن تيمية نفسه يصحَّح على طريقته النظرةَ إلى الصوفية حين وضَعَها في سياقها الطبيعي بوصفها إحدى فرق التديُّن المجتهدة في الدِّين تصيب وتخطي كغيرها؛ فقال -في ‘مجموع الفتاوى‘- إنه "لأجل ما وقع في كثير منهم 😊 الصوفية) من الاجتهاد والتنازع فيه: تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمَّت الصوفية والتصوف وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة..، وطائفة غلتْ فيهم وادّعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميمٌ؛ والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعة لله، ففيهم السابقُ المقرَّب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين..، ومن المنتسبين إليهم مَن هو ظالم لنفسه عاصٍ لربه، وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ولكن عند المحققين من أهل التصوف [أنهم] ليسوا منهم".
وفي مقام من مقامات النفس السوية الكبيرة التي تراعي رحابة الأخوة الدينية والإنسانية ، فرَّق المحدثون بين خلافهم العلميّ مع غلاة المتصوفة وفهم مقام البشرية وعوارضها، وتقلبات النفس وأحوالها وما تمرّ به من مقامات وإلهامات ونحو ذلك؛ فدافعوا عن المتصوفة حتى بعض من رأوهم غلاةً وأمروا بتحسين الظنّ بهم والتأول لهم بما يسوغ، إلا أنهم في نفس الوقت حذّروا من مقولاتهم وتصرفاتهم غير المبرهنة بنصوص الشرع.
وهذان مستويان مهمان تجب التفرقة بينهما؛ فالذهبيّ يحكم -في ‘ميزان الاعتدال‘- على ابن الفارض (ت 632هـ/1234م) بأنه "ينعق بالاتحاد الصريح في شعره، وهذه بلية عظيمة! فتدبَّرْ نَظْمَه ولا تستعجل، ولكن حَسِّن الظنَّ بالصوفية" في مجمل أقوالهم وأحوالهم.
ويدافع الذهبي عن كرامات الأولياء وينكر على من أنكرها حتى ولو كان من أكابر أئمة الفقهاء والمحدثين؛ فيقول -في ‘السِّيَر’- مترجما للإمام أبي إسحق الإسفراييني الشافعي (ت 418هـ/1028م) إنه "أحد المجتهدين في عصره..، ومن المجتهدين في العبادة المبالغين في الورع..، وكان ثقة ثبْتاً في الحديث..؛ كان ينكر كرامات الأولياء ولا يُجوِّزها، وهذه زلَّة كبيرة"!
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق الإسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ -
حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء (07).
ونطالع ترجمات الذهبيّ لعدد كبير من أعلام المتصوفة فنراه ينصفهم، ويُثني عليهم بتصوفهم المنضبط بالشرع وبمعارفهم غير التصوفية؛ فها هو يقول -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن إدريس الخَوْلاني الزاهد (ت 211هـ/826م) -مستخدما دون تحرُّج بعض المصطلحات الجدلية للصوفية- إنه "كان يقال: إنه من الأبدال، وكان يشبَّه ببشرٍ الحافي (ت 226هـ/841م) في فضله وعبادته".
ويصف أبا البقاء التَّفْليسي الصوفي (ت 631هـ/1234م) بأنه "كان صوفيا جليلا معظما نبيلا، له معرفة بالفقه والأصول والعربية والأخبار والشعر والسلوك، وكان صاحب رياضات ومجاهدات". كما ترجم لأبي المحامد الزَّنْجاني الصوفي الشافعي (ت 674هـ/1275م) فقال إنه "كان فقيها إماما، صالحا زاهدا، كبير الشأن".
ويتحسر الذهبي على فوات لقائه بأحد أكابر مشايخ الصوفية هو أبو الفضل ابن الدَّمِيري اللخمي (ت 695هـ/1296م)؛ فيقول عنه: "الشيخ الإمام المُسنِد..، ولَبِسَ الخِرقةَ من الشيخ شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي (أبو حفص ت 632هـ/1235م) وكان من كبار المُسْنِدين، فاتني لُقِـيُّه 😊 لقاؤه) وقد سمع منه خلق". بل إن الذهبيّ نفسه تصوَّف ولبِس خِرقة الصوفية؛ فقد قال في ترجمة الشيخ ضياء الدين السَّبتي الصوفي (ت 696هـ/1297م): "كان مليح القراءة للحديث..، ألبسني الخِرقةَ وذكر لي أنه لبسها بمكة من الشيخ شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي..، وكان متواضعا بسّاما مُتنسِّكا بِزِيِّ الصوفية والفقهاء"....يتبع...
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق الإسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ -
حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء (08).
ويؤكد الذهبيّ أنّ العالم الشرعي لا بد أن يكون متصوفا مربِّيا، وأن المتصوف لا بد له من علم الشرع الصحيح؛ فوضع -في السِّيَر‘- قاعدةً كلية يلخِّص بها منهج المحدثين تجاه الفريقين: "والعالم إذا عَرِي من التصوف والتألُّه فهو فارغ، كما أن الصوفي إذا عَرِي من علم السُّنة زلَّ عن سواء السبيل"!!
ويبدو أن الذهبيّ سار على نفس نهج شيخه ابن تيمية الذي فرّق بين الصالحين والطالحين من الصوفية، وينقل عنه الذهبيّ روايته بالسند عن أبي حفص السُّهْرَوَرْدي؛ فيقول في ‘تاريخ الإسلام‘: "سمعتُ شيخنا ابن تيمية يقول: سمعتُ الشيخ عز الدين أحمد الفاروثي (ت 694هـ/1295م) يقول: سمعتُ شيخنا شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي يقول: عزمتُ على الاشتغال بالكلام وأصول الدين فقلت في نفسي: أستشير الشيخ عبد القادر الجيلاني أو كما يعرف في تصانيفهم [بالجِيلِي]، فأتيته فقال قبل أن أنطِق: يا عمر، ما هو من عُدَّة القبر..! قال: فتركته".
وكان الشيخ عبد القادر الجِيلاني "شيخ الحنابلة" في عصره، وهو -في الوقت نفسه- "شيخ شيوخ" المتصوفة المؤسِّس لكُبْرَى طُرِق التصوف وأوسعها انتشارا في العالم الإسلامي؛ وفيه يقول الذهبيّ في ‘تاريخ الإسلام‘: "هو صاحب الكرامات والمقامات وشيخ الحنابلة..، سمع الحديث.. وكان إمام زمانه وقطب عصره، وشيخ شيوخ الوقت بلا مدافعة".
كان سيدي عبد القادر الجيلاني رجل إصلاح صوفي من الداخل، وجهوده في إصلاح البيت الصوفيّ ومحاولة تسنينه لا تقلّ عن جهود الغزاليّ؛ بل ربما كانت جهود الجيلي أهمَّ باعتباره حنبلي الانتماءيْن الفقهي والعَقَدي، فقرّب بين الحنبلية والمتصوفة وليَّن قلوب متشددي الحنابلة ببغداد على الزهاد وأهل الورع من الصوفية، ووسّع الأفق الشرعي لهؤلاء بمخالطة أولئك. ومن هنا تعززت مدرسة "صوفية أهل الحديث"؛ كما يسميها ابن تيمية.
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق إسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ الأستاذ الدكتور محمد صياد.» -
حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء (09)
ومن صوفية الحنابلة الكبار أيضا الذين ساهموا في ترسيخ التصوف الحديثي داخل المدرسة الحنبلية؛ شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي (ت 481هـ/1088م)، فحين ترجم له ابن رجب قال إنه "الفقيه المفسر الحافظ الصوفي الواعظ شيخ الإسلام"، وذكر أنه كان شديد الولاء للمذهب الحنبلي فقال: "كان شيخ الإسلام مشهورا في الآفاق بالحنبلة والشدة في السنة"، بل إنه كان يقول لتلامذته: "مذهبُ أحمدَ أحمدُ مذهبٍ"، ثم صاغ ذلك شعرا سَيّاراً فكان "ينشد على المنبر في يوم مجلسه بهَـراة:
أنا حنبليٌّ ما حييتُ وإن أمُتْ ** فوصيتي للناس أن يتحنبلوا"!
وقد نقل ابن رجب شهادة ابن تيمية بإمامة الهروي في التصوف والحديث: "وقال شيخ الإسلام أبو العباس 😊 ابن تيمية) في كتاب ‘الأجوبة المصرية‘: شيخُ الإسلام 😊 الهروي) مشهور معظَّم عند الناس، هو إمام في الحديث والتصوف والتفسير، وهو في الفقه على مذهب أهل الحديث، يعظِّم [الإماميْن] الشافعيَّ (ت 204هـ/820م) وأحمدَ".
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق إسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ -
حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء (10)
وإذا جئنا إلى حافظ محدّث كبير آخر هو الإمام ابن حجر العسقلاني فسنجد أنه لم يكن من مناهضي المتصوفة بإطلاق، بل ثناؤه ومديحه للصوفية المنضبطة بالشرع أشهَرُ من أن يُشْهَر. وهذا الخطّ في الحقيقة نجده متواصلا منذ الإمام الشافعيّ الذي يقول عن فضل صحبتهم: "صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين، سمعتهم يقولون: الوقت سيف فإن قطعتَه وإلا قطعك، ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل"! فقال ابن القيم -في كتابه الصوفي ‘مدارج السالكين‘- معلقا على كلمة الشافعي: "قلت: يا لهما من كلمتين ما أنفعهما وأجمعهما، وأدلهما على علوّ همة قائلهما ويقظته! ويكفي في هذا ثناء الشافعي على طائفة هذا قدر كلامهم".
وفي هذا التوجه الدفاعي عن التصوف المنضبط؛ تدخل سلسلة مصنفات وضعها فقهاء ومحدثون لتقديم بديل صوفي معرفي يستبعد المكونات الدخية في مناهجه، إذ صنّف الإمام المحدّث أبو نُعَيم الأصبهاني الشافعي كتابه ‘حِلْيَة الأولياء‘ فترجم فيه لأعيان الصوفية وكبارهم، وألّف الإمام المحدّث محمد بن طاهر القيسراني الظاهري (ت 507هـ/1113م) كتابه ‘صفة التصوف‘، ثم جاء الإمام المحدِّث أبو بكر ابن العربي المالكي فقدّم كتابه ‘سراج المريدين‘ الذي سماه بعضهم "تصوف المحدِّثين"؛ كما في ‘قواعد التصوف‘ للإمام أحمد زرّوق الفاسي (ت 899هـ/1494م).
ويجدر هنا التنويه بأنّه حتى النساء المتصوفات حُزْنَ ثناءً عطِرا عليهن من المحدّثين الكبار كثنائهم على رجال التصوف وربما أكثر. ففي ترجمة سيدة بنت عبد الرحيم السُّهْرَوَرْدي (ت 640هـ/1242م) قال الذهبيّ في ‘تاريخ الإسلام‘: "زوجة الشيخ شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي..، وحدَّثتْ وأجازتْ.. جماعةً، وكان فيها صلاح وخير وتعبُّدٌ".
وترجم -في ‘السِّيَر’- لرابعة العدوية البصرية (ت 180هـ/796م) فوصفها بأنها "الزاهدة العابدة الخاشعة أم عمرو رابعة بنت إسماعيل..، وحكى عنها: سفيان (الثوري ت 161هـ/778م) وشعبة (بن الحَجّاج ت 160هـ/777م) وغيرهما ما يدل على بطلان ما قيل عنها". فالذهبيّ يستدلّ على صحة معتقد رابعة واستقامة سيرتها بشهادة محدثِين كبار أمثال سفيان وشعبة أخذوا عنها. وأنكر الذهبيُّ بشدّة على من اتَّهموها بالحلول ووصفهم بـ"الغلوّ والجهل".
كما يُثني -في ‘العِبَر‘- على سَمْتِ وتعبُّد الشيخة المتصوفة فاطمة البغدادية (ت 714هـ/1314م) ذاكرا أنه زارها؛ فيقول: "العالمة الفقيه الزاهدة القانتة، سيدة نساء زمانها الواعظة..، انتفع بها خلق من النساء وتابوا. وكانت وافرة العلم…، انصلح بها نساء دمشق ثم نساء مصر، وكان لها قبول زايد ووقْعٌ في النفوس..، زُرْتها مرّة"، ويضيف في ‘السِّير‘: "وقد زرتها وأعجبني سمتها وتخشعها"!
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق إسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ -
حقيقة الصراع المفتعل اليوم بين الصوفية و المحدثون و الفقهاء (11)
ومن اللافت فعلا أننا نلاقي بين أعلام الصوفية أنصارا للإمام ابن تيمية الذي يظنّ كثيرون أنه هو وتلامذته منابذون للصوفية ومنبوذون منهم دائما؛ فابن حجر يقول -في إنباء الغُمْر‘- إن علي بن غريب البُرْجُمي (ت 777هـ/1376م) كان "أحد المشايخ المُعتقَدين 😊 المتصوفة)، وكان بزِيّ الجند، وكان كثير التعصب لابن تيمية وأتباعه"!! وفي ترجمة شمس الدين الدَّبَاهيّ البغدادي (ت 711هـ/1311م) يقول الذهبي -في ‘العِبَر‘- إنه "الإمام القدوة الشيخ الحنبلي الصوفي..، وكان ذا تألُّه وصدق وعِلْم".
ويضيف الحافظ ابن رجب مُبْرِزا تلمذة الدَّبَاهي لابن تيمية: "صحب بقايا الصوفية واقتفي آثارهم وحفظ كثيرا عنهم وعن مشايخ الطريق، وأنفق كثيرا من الأموال من ميراثه على الفقراء 😊 المتصوفة)، وقرأ الفقه في شبيبته على مذهب أحمد، فلما لمعت له أنوار شيخنا 😊 ابن تيمية) وظفر بأضعاف تطلبه: ارتحل إلى دمشق بأهله واستوطنها".
ولم يقتصر وجود الصوفية الفقهاء على المذاهب الأربعة، بل كان لهم حضور في المذهب الظاهري الذي يعدّ نظيرا للحنابلة في الأثرية إن لم يَفُـْقهم فيها؛ ومن فقهائه المتصوفة الإمام القيسراني السابق ذكره، ورُوَيْمٌ بن محمد البغدادي (ت 303هـ/915م) الذي كان "شيخ الصوفية ومن الفقهاء الظاهرية، تفقّه بداود (الظاهري الأصبهاني ت 270هـ/884م)"؛ وفقا للذهبي في ‘السير‘. ومنهم أيضا محمد بن إبراهيم الشيرازي الكاغَذى (ت 474هـ/1082م)؛ فقد قال عنه الذهبي -في ‘ميزان الاعتدال‘- إنه "الداودي الظاهري الصوفي.. كان له حانوت ببغداد يبيع الكتب".
«...نقلا عن قراءات طويلةجماعات وفرق إسلامية
كيف تصالح المتصوفة مع المحدّثين فتتلمذوا لابن تيمية ولبس الذهبي الخرقة وأسس شيخ الحنابلة ببغداد أكبر طريقة صوفية؟ -