وقفات مع من يقول : اخراج زكاة الفطر طعاما وحـي- وإخراجهــا مــالاً رأي !!!
في البداية يجب ان نفهم القاعدة الأصولية ( لا قياس مع النص ) و ( القياس على النص ) .
أولا : ( لا قياس مع النص ) هذا كلام صحيح ، أى ألا يكون فى الفرع نص ، فإن كان فى الفرع نص فلا يجوز القياس ، كمن يريد أن يعطى البنت نصيبا مساويا لنصيب الولد فى الميراث ، لأن البنت تشترك مع الولد فى أنها ابنه للميت ، فهذا قياس فاسد ، لأن الفرع فيه نص ، وهو قول الله تعالى : ( للذكر مثل حظ الأنثيين) فهذا القياس يبطل النص ، ويتعارض معه كليا ، فوجب إبطاله ، وهكذا كل قياس يعارض النص فهو باطل .
أما ( القياس على النص ) فهو القياس الصحيح ، لأنه (لا قياس إلا على نص) فينظر الفقيه إلى النص وحكمه وعلته ، ثم ينظر فيجد العلة الموجوة فى النص موجودة فى شئ آخر ، ومن المعلوم أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ، فيعدى الفقيه حكم الأصل إلى الفرع ، سواء كان هذا الحكم هو الوجوب أو التحريم أوغير ذلك ،
ونضرب على ذلك مثالا حتى يتضح الأمر ، نص القرآن الكريم على تحريم الخمر بقوله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه .... إلى قوله تعالى فهل أنتم منتهون ) فنظر الفقهاء إلى علة التحريم فوجدوها الإسكار ، ووجدوا هذه العلة موجودة فى النبيذ ، فقاسوا النبيذ على الخمر ، وأعطوه حكم التحريم ٠
ونفس الموضوع فى مسألتنا ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج فى زكاة الفطر صاعا من تمر أوصاعا من شعير أو .... فنظر الأحناف إلى العلة فوجدوها إغناء الفقراء فى هذا اليوم ، كما قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اغنوهم عن السؤال فى هذا اليوم ) إذن العلة منصوص عليها ، وهى أقوى أنواع العلة ، ٠٠٠
فنظروا إلى القيمة ، هل فيها نفس العلة ؟ وهى إغناء الفقراء ، فوجدوها مشتملة على نفس العلة ، بل وتزيد ، لأنك لو أعطيت الفقير القيمة نقدا لاستطاع أن يشتري القمح إن كان محتاجا إليه ، أو يشترى شيئا آخر هو أكثر إحتياجا إليه ، وليس فى الحديث نهى عن إخراج القيمة ٠
فإن كان لك يا أخى أعتراض فقل : إن ( النقد ) أى الأموال لا تقوم مقام الطعام ، ولا يجوز لك أن تقول هنا ( لاقياس مع النص ) إنما يحق لك ذلك لو كان النص هكذا : ( لا يجوز إخراج القيمة فى زكاة الفطر ) فهنا لوقال فقية يجوز إخراج القيمة لكان القياس مصادما للنص ومبطلا له فيكون قياسا باطلا ، أما أن يجيز رسول الله صلى الله عليه وسلم إخراج أنواع من الطعام فى زكاة الفطر ثم يأتى فقية فيقيس عليها شيئا آخرى فليس هذا قياسا مع النص بل هو قياس على النص أرجو أن يكون قد اتضح الأمر .
ولكن قد يقول قائل لماذا لم يذكر النبى صلى الله عليه وسلم القيمة ؟
نقول قد ذكرها وذلك بالقياس ، فالقياس حكم شرعى ، فلا يحق لأحد أن يقول المخدرات غير حرام ، لأنها غير مذكورة فى الكتاب ولا السنة ، نقول له بل مذكورة بالقياس على الخمر ، لأن الله تعالى تعبدنا بالقياس ، وهو من الأدلة الثابتة .
ثانيا : أنه صلى الله عليه وسلم لو ذكر نقودا محددة كدرهم أو عشر (بضم العين) دينار مثلا ، لأدى ذلك إلى اضطراب كبير ، لأن قيمة النقود تتغير من زمان إلى زمان ، انظر إلى قيمة الجنيه المصرى منذ مائة سنة وقيمته الآن ، فالفرق شاسع جدا بين القيمتين .
ثالثا : أن جل التعامل فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالمبادلة ، وكانت النقود قليلة ، وذلك لأن العرب لم تكن قد صكت نقودا ولا الدولة الإسلامية الوليدة ، إنما عرفت النقود الإسلامية فى الدولة الأموية ، وقد كانوا يجلبون الدنانير والدراهم من الفرس والروم ، فكان إخراج الطعام أرفق لندرة النقد .
والذى أراه والله أعلم أن القياس هنا من نوع القياس الجلى ، الذى تكون العلة فيه فى الفرع أعلى من الأصل ، كما قال الله تعالى : ( ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما) فقد نهى الله تعالى الأبناء أن يقولوا : أف للوالدين ، والعلة هى الأذى الواقع على الوالدين ، فالشتم والضرب أكثر أذى للوالدين من التأفف ، فيكونان أشد تحريما ، ويسمى هذا بالقياس الجلى أو القياس الأولوى أي من باب أولى .
فالنقود للفقير أفضل من القمح أو الشعير ، لأنه بالنقود يستطيع أن يشترى القمح أو الشعير إن كان فى حاجة إليهما ، ويستطيع أن يشترى أى شئ هو أكثر إحتياجا له ، وهذا لا يخالف فيه أحد ، لذا تجد كثيرا من الفقراء يبيعون القمح والشعير بنصف الثمن ، لإحتياجهم إلى النقود ، ولو سألت أى فقير : أيها أفضل لك القمح والشعير أم النقود ؟ ، لقال دون تردد النقود طبعا ، ولا يختلف فى ذلك فقير واحد ، لأن الزمان قد أختلف فمعظم الناس تشترى الخبز من المخابز ، فليس عندها أفران فى البيوت والشقق السكنية ، ثم هناك مشكلة فى طحن القمح ، والشريعة الأسلامية ما شرعها الله إلا لجلب المصالح ودفع المفاسد ، والتيسير على الناس مطلب شرعى ، كما قال الله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ولذلك نظر العالم الربانى الذى أنار الله قلبه ابن تيمية إلى مقصد التشريع فى هذه المسألة فوجدها إغناء الفقير وإسعاده والتخفيف عنه فقال قولته الرائعة : إن كانت المصلحة للفقير هى إخراج القيمة جاز أخراجها ، لأن النظر إلى مقاصد التشريع يفيد الفقيه فى تحقيق الفتوى ، فكان من اليسر والإرفاق بالناس القول بجواز إخراج القيمة فى زكاة الفطر ، وكذلك وافق الإمام البخارى السادة الأحناف فى هذه الفتوى ، وقال بقولهم ، لما رأى قوة حجتهم .
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الميسرين لا من المعسرين .