الأربعاء، 2 أغسطس 2017

دراسة نقدية لأهم ما يميز تفسير" في ظلال القرآن " عن غيره من التفاسير

 دراسة نقدية لأهم ما يميز تفسير" في ظلال القرآن " عن غيره من التفاسير


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .. أما بعد
فلا شك أن كتاب في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب رحمه الله قد أحدث في ساحة الفكر الجاد صدى واسعاً ، وأثار في أوساط المثقفين على اختلاف مشاربهم جدلاً كبيراً ، وأن ذلك كان بسبب ما أحدثه الكتاب من تأثير كبير في مجتمعات المسلمين ، وقد شهد المنصفون من الدارسين بأن الكتاب قد نجح في إحداث تلك الهزة الفكرية والإيمانية الواسعة في العالم الإسلامي بما امتاز به من الأصالة والجدية والصدق .
الأصالة التي يمثلها اعتماده على المصادر الموثوقة الأمينة وهي القرآن الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتجرده عند البحث من الانصياع لأي مقررات سابقة ، فلم يستلهم في دراساته القرآنية إلا نصوص الوحي المتمثلة في القرآن والسنة .
وأما الجدية فمعناها أن المؤلف لم ينظر إلى تفسير القرآن على أنه ترف فكري أو تسلية ثقافية أو لهو عقلي ، بل جعل من أهدافه في الظلال إبراز سمة الجدية ، فكان رحمه الله يشعر أنه في ميدان المعركة ، فواجه الجاهلية وسدنتها مواجهة المجاهد الشجاع الهاديء الواثق بربه وبالحق الذي ملأ جوانحه وامتلك عليه نفسه ، فلم يعبأ بالجاهلية ولم يخفه انتفاشها ، ولم يخدعه بريقها ، ولم ينطل عليه زيفها ، فمزق بعزم المؤمن الثابت قناعها الخادع ، فجاء كتابه جهاداً جاداً مباركاً يلمسه كل دارس جادّ .
وأما الصدق فيشهد به من عرف المؤلف ، وما أحاط به من ظروف زمن تأليفه للكتاب ، وما كان عليه رحمه الله من ثبات وصبر وعزم ، فلقد عاش المؤلف بروحه وفكره وشعوره وكيانه كل ما سطره في كتابه ، فلا يحتاج صدقه إلى دليل بعدما جاد بنفسه في سبيل الله فصدع بالحق ، ونصح لأمته أخلص النصح .. نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً .
 يعد تفسير في ظلال القرآن نقلة جديدة واسعة رائدة في عالم التفسير ، فهو من كتب التفسير بالرأي المحمود ، حيث لم يخالف المؤلف رحمه الله معتقد أهل السنة والجماعة بل وافقه ونصره في تفسيره في جميع المواطن التي تناولت قضايا الإيمان ومباحث العقيدة ، فعقيدته في الصحابة موافقة لما عليه أهل السنة والجماعة من حب الصحابة رضي الله عنهم وتوقيرهم بل إنه يصرح بأن ذلك الجيل الفريد الذي تربى على القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يتكرر في التاريخ على هذا النحو من عمق الإيمان وإخلاص التوحيد وبذل النفس والمال تحت راية الإسلام
كما أنه رحمه الله عرض في كتابه عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان وأنه قول وعمل بطريقة جديدة ، حيث فصّل القول بأقوى الحجج وأنصع البراهين على أن الإيمان إذا انفصل عن العمل لم يعد إيماناً ، بين ذلك بجلاء لا سيما في قضية الحكم والتشريع ، وهي القضية التي أصيبت الأمة بغيابها وانفصالها عن أصل الإيمان في شعور كثير من المسلمينإصابة بالغة .
فلم يكن سيد رحمه الله يعتمد في أمر العقيدة سوى القرآن والحديث ، كما كان موفقاً في الحذر من التأثر برواسب الثقافات البشرية والتي عكرت صفاء النبع الذي استقى منه الجيل الأول الذي تفرد بتمام النقاء في جانب التلقي والاعتقاد .
 ولقد ظل مخلصاً لهذا المنهج طوال كتابه مستلهماً الهداية من التنزيل الحكيم وهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، ولهذا وصفه النقاد المنصفون بأنه كان سلفي المنهج ، وهذا حق لا ريب فيه ، ولقد أثرى بهذا المنهج في عرض القرآن الكريم الدراساتِ التربويةَ الإسلامية أيما إثراء .
بل إنه رحمه الله انتقد مناهج بعض المفسرين قبله في أنهم نظروا إلى العقيدة بمنظار الفلسفة والجدل فعقّدوها على المسلمين ، ولو أنهم أخذوا عقيدتهم من القرآن والسنة مباشرة لما وقع الجدل والخصام ، ولما فُتح على المسلمين في هذا الجانب باب الشقاق والفرقة .
ولا يحتاج الدارس لكتاب الظلال لكبير جهد ليقف على مجانبة المؤلف لمنهج المعتزلة في تضخيم دور العقل في منهج التلقي وتكوين العقيدة ،وخوضهم في مناهج كلامية جدلية عقيمة دوخت الدارسين وغبشت على المسلمين عقيدتهم السهلة الميسرة ، فقد كان قلمه حاسماً واضحاً في هذه القضية حيث بين رحمه الله أن دور العقل لا يتجاوز التلقي عن الوحي ، وأنه تابع للوحي وليس العكس ، وأن العقل إذا استقل في طلب الهداية وابتعد عن الوحي ضل وانحرف.
يقول رحمه الله في عبارة شفافة قاطعة : " والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير ، وبترك وحي الله وهداه أعمى " .
كما يقرر المؤلف رحمه الله عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان بالطاعات فيقول ( الظلال 3/1475): " والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيماناً..".اهـ
كما أن المؤلف رحمه الله عبر عن منهجه في أسماء الله وصفاته فبين أنها توقيفية ؛ لا مجال للعقل في الوقوف عليها إلا من جهة نصوص الوحي فحسب ، هذا ، ولا ننكر أن بعض عبارات المؤلف في هذا الصدد كانت موهمة غير واضحة مما فتح الباب لانتقادات حادة وجهها البعض للكتاب ومؤلفه ، ولا شك أن سيداً رحمه الله قد غلب على عباراته وهو يعالج بعض مسائل العقيدة شيء من الاتساع  والتسامح لإخراج العبارة في صورتها الأدبية البليغة المعهودة غير أن ذلك أحياناً يكون على حساب الدقة والضبط اللازمين للتعبير عن مثل هذه القضايا الدقيقة .
فقد فسر قوله تعالى { ثم استوى على العرش } بعبارة غير صحيحة حيث قال : إنها كناية على الاستعلاء والسيطرة ، وقال : كناية عن الهيمنة ، والصحيح قول أهل السنة : استوى : علا وارتفع . وغفر الله للأستاذ سيد ما كان من كبوات قلمه ، وجزاه خير ما جازى به عالماً عاملاً .
وإن مما يؤسف له ما يقع فيه بعض طلبة العلم من الحدة عند النقد ، وإغفال الإشارة إلى مكانة هذا الكتاب النفيس بين كتب التفسير ، فعلى سبيل المثال نجد أن أحد المراجعين للظلال وهو الأستاذ عبد الله الدويش يقسو في عباراته وهو يراجع الأستاذ سيد في خطأه في تفسير الاستواء ، فيقول الدويش في كتابه " المورد الزلال في التنبيه على أخطاء تفسير الظلال " : هذا قول الجهمية الضلال المعطلين . 
وعلى كل حال  ، فإن مما تقرر عند المسلمين أن كل امريء يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الكلام في موقف البعض الذين حمّلوا تلك العبارات أكثر مما تحتمل فبدلاً من أن يغتفر الخطأ اليسير للمؤلف بجانب الحسنات العظيمة التي يفصح عنها كتابه القيم ذهب البعض إلى إبراز هذه الهنات أو الأخطاء التي هي بمثابة قطرات من نهر كبير وإغفال ماء النهر كله ، ولو أنصفوا لخففوا من غلوائهم وحملوا أمره على مجمل ما في الكتاب من خير وعلم ومنهج سلفي واضح المعالم .
ومما أولاه المؤلف عنايته من البحث في الظلال مسألة دار الحرب ودار الإسلام ، حيث جاء توصيفه للدارين موافقاً لما ذهب إليه جمهورأهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة ، فقدد قرر سيد ما قرروه من أن دار الحرب هي الدار التي لا تحكم بشرع الله وإن كان غالب ساكنيها من المسلمين ، ودار الإسلام هي الدار التي يعلو فيها شرع الله وإن كان ساكنوها من المسلمين وغيرهم ، بيد أن نفراً من الكتاب الإسلاميين المعاصرين اختاروا أن يكون تقسيم الدور على أساس تاريخي أو جغرافي بحت ، فالبلاد التي يعيش فيها المسلمون دار إسلام ولو حكمت بغير شريعة الله ، وهو ما مال إليه أبو حنيفة رحمه الله حيث اشترط لسريان أحكام الكفر على دار الإسلام لتصبح دار حرب شرطين
1-              ألا تكون متصلة بدار الإسلام .
2-     ألا يبقى أحد من أهل الإسلام من أهل هذه المنطقة المغلوبة بأحكام الكفر آمناً بالأمان الأول الثابت قبل تبديل أحكام الإسلام .
       وقد وافق صاحبا أبي حنيفة محمد وأبو يوسف الجمهور ، وأيدهما ابن عابدين في حاشيته فقال : إن قول الصاحبين – المساند لقول الجمهور – هو الذي يقتضيه القياس ؛ لأن الشرطين الأخيرين لا يعرفان من النصوص الشرعية ولا من سلوك الصدر الأول " . 
والحق والصواب ما ذهب إليه الجمهور، وهو ما اختاره سيد رحمه الله  .
وقد حاول البعض اتهام المؤلف بأنه يحكم على الأفراد الذين يعيشون في هذه المجتمعات التي وصفها سيد بأنها جاهلية ، أو وصّف الدولة بأنها دار حرب أن هذا الوصف ينطبق على الناس الذين يعيشون في هذه المجتمعات ، وهو أمر قد نفاه المصنف في أكثر من موضع من كتابه ، فبين أن الوصف للمجتمع أو الدولة يخص أنظمتها وقوانينها ، وأنه لا يمكن أن ينطبق على الأفراد .
وعند كلامه على الجهاد في سبيل الله بين أنه " جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وطرد الطواغيت المغتصبين لسلطان الله .. وأنه جهاد لتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ، ومن الفتنة بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد .. ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في الأرض كلها لتحرير الإنسان كله بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام ، وبين ما هو خارج عنها .اهـ

 إثراء ميدان الدعوة إلى الله :
وقد أثرى الظلال ميدان الدعوة إلى الله تعالى بأبحاث قيمة استقاها المؤلف من توجيهات القرآن وهداياته ، وكانت هذه الأبحاث القيمة سمة بارزة ميزت الظلال عن غيره من التفاسير التي لم تعن في تفاسيرها بمثل هذه الأبحاث التفصيلية .
كشف عداوة اليهود للدعوة الإسلامية
 قال رحمه الله في الظلال (1/30) : لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة ؛ وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة .. . اهـ
فبين رحمه الله أن أول هذه الأسباب : ما انطوت عليه نفوسهم الشريرة من بغض وحسد وكيد للنبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلوه بهذه العداوة ودأبوا على ذلك حتى أجلاهم.
قال رحمه الله : قد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأن فيهم الرسالة والكتاب . فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما . فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته ، وأن يقصر الدعوة على الأميين من العرب فلما وجدوه يدعوهم - أول من يدعو - إلى كتاب الله ، بحكم أنهم أعرف به من المشركين ، وأجدر بالاستجابة له من المشركين .. أخذتهم العزة بالإثم ، وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة !
 ثم إنهم حسدوا النبي  حسدا شديدا . حسدوه مرتين : مرة لأن الله اختاره وأنزل عليه الكتاب - وهم لم يكونوا يشكون في صحته - وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة . على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى : ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المديني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف ! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة . ويذوبوا في المجتمع الإسلامي . وهما أمران - في تقديرهم - أحلاهما مر !
 لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف .
وهكذا يمضي رحمه الله مع الآيات وهي تصف اليهود وصفاً دقيقاً وتبين جحودهم لنعم الله عليهم ، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم .. ونكثهم لعهد الله معهم: ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون . وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم . ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ؟ وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ )  ..  ( أفتطعمون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ )  ..   ( وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . قال : أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ )  ..   ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين )  ...   ( وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله . قالوا : نؤمن بما أنزل الله علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم )  ...  
ويقول رحمه الله :  وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبل الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا . مما جعل القرآن يخاطبهم - في عهد النبي  كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى - عليه السلام - وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبارهم جبلة واحدة . سماتهم هي هي ، ودورهم هو هو ، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان ! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى ، إلى خطاب اليهود في المدينة ، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين . ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها . وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما ! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة ، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد ، وحرب منوعة المظاهر ، متحدة الحقيقة !

ومن أهم ما يميز تفسير في ظلال القرآن عن غيره من التفاسير :
مراعاته إبراز ذلك الترابط العجيب بين مواكب الإيمان على طول التاريخ الإنساني ، وتحديد أواصر تلكم الروابط الإيمانية متمثلة في أجلى معانيها في حياة الرسل الكرام ، وذلك من شأنه أن يعطي السائر في ظلال القرآن طاقة دافعة للثبات والمضي دونما استيحاش أو تردد ، وفيم الاستيحاش ولم التردد والرفقة كريمة رفيعة ؟ ، إنه الشعور العميق بالدفء والأنس والكرامة . 
يقول صاحب الظلال عليه رحمة الله تعالى : والمؤمن ذو نسب عريق ، ضارب في شعاب الزمان . إنه واحد من ذاك الموكب الكريم ، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم : نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ويعقوب ويوسف ، وموسى وعيسى ، ومحمد .. عليهم الصلاة والسلام ..   ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون )  ..
 كان صاحب الظلال موفقاً غاية التوفيق في إلقائه الأضواء الباهرة على سجل الدعوة إلى الله متمثلاً في مسيرة الرسل الكرام وما لاقوه من عنت ومعاناة وإيذاء ، وما كانوا عليه من صبر جميل ، ونبل كبير ، ورغبة صادقة في هداية أقوامهم ، وثقة لا حدود لها في نصر الله وتأييده ، واحتساب يهون عليهم كل مشقة ، ويملأ نفوسهم الكبيرة بالروح والاطمئنان ، وهو درس كبير للدعاة على مر الأجيال ، ومعالم ساطعة على الطريق .
يقول رحمه الله : هذا الموكب الكريم ، الممتد في شعاب الزمان من قديم ، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة ، وأزمات متشابهة ، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور ، وتغير المكان ، وتعدد الأقوام . يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى ، والاضطهاد والبغي ، والتهديد والتشريد .. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو ، مطمئن الضمير ، واثقا من نصر الله ، متعلقا بالرجاء فيه ، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد :   ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا . فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد )  .. موقف واحد وتجربة واحدة . وتهديد واحد . ويقين واحد . ووعد واحد للموكب الكريم .. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف . وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد .
 وإن من الخطوط العريضة التي ما فتئ صاحب الظلال يبرزها ويجليها في كتابه : الحكمةُ البالغة التي صبغت الكون كله معلنة أن الخالق العظيم حكيم خبير ، وأنه لا مجال لتصور العبث في الخلق ، كما لا مجال لتصور المصادفة العمياء أو الاتفاق العارض . إنه القصد الحكيم والإرادة المبصرة . فالكتاب يدعو إلى فتح العيون وإنفاذ البصائر لاستجلاء جوانب الحكمة الإلهية ،  والاستسلام لأمره والتسليم لحكمته في رضى ويقين . 
يقول رحمه الله : وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ، ولا للفلتة العارضة :   ( إنا كل شيء خلقناه بقدر )  ..   ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا )  .. وكل أمر لحكمة . ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة :   ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل ) .
 كما أن من أهم ما يميز هذا التفسير هو ذلك الإلحاح الصبور على ترسيخ قضية (توحيد الله في الحكم والتشريع ) في عقل القارئ وقلبه ، وإزالة كل غبش عنها ، ونفض كل غبار تراكم على مفهومها عبر قرون من الجهل والغفلة والتراجع والانهزامية .. إن المؤلف رحمه الله لم يغفل هذه القضية في أي مرحلة من رحلته الطويلة في ظلال القرآن عن التنبيه على الترابط المتين بين توحيد الله تعالى والتسليم لأمره ، والإيمان بصفات الكمال والجلال لله الخالق والانقياد لشرعه .. وأن ذلك الإيمان المبصر هو الواحة الصالحة الرفيعة المباركة التي تفعم نفس المؤمن بالسكينة والراحة ، وتحرره من أغلال الشح والجبن ، وتطهره من أوضار الشهوات والأطماع ، وترتقي به في مراقي الفلاح ، ليعمر الأرض من خلال منهج الله الذي أراده لعباده .
يقول رحمه الله : وانتهيت من فترة الحياة - في ظلال القرآن - إلى يقين جازم حاسم .. إنه لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا الإنسان ، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة .. إلا بالرجوع إلى الله ..
 والرجوع إلى الله - كما يتجلى في ظلال القرآن - له صورة واحدة وطريق واحد .. واحد لا سواه .. إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم .. إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها . والتحاكم إليه وحده في شؤونها . وإلا فهو الفساد في الأرض ، والشقاوة للناس ، والارتكاس في الحماة ، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله :   ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين )  ..
 ويضيف : إن الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار ، إنما هو الإيمان .. أو .. فلا إيمان ..   ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )  ..   ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، والله ولي المتقين )  ..
 والأمر إذن جد .. إنه أمر العقيدة من أساسها .. ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها ..
 إن هذه البشرية - وهي من صنع الله - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله ؛ ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق ، وشفاء كل داء :   ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين )
 ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها ، ونكبة قاصمة في حياتها ، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات .. لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعدما فسدت الأرض ، وأسنت الحياة ، وتعفنت القيادات ، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة ؛ و   ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي )
ثم يزيد الأمر وضوحاً وحسماً يقطع كل شك في تلكم القضية الخطيرة فيقول عند تفسيره لقول الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) : بهذا الحسم الصارم الجازم . وبهذا التعميم الذي تحمله  ( مَن )  الشرطية وجملة الجواب . بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان ، وينطلق حكما عاما ، على كل من لم يحكم بما أنزل الله ، في أي جيل ، ومن أي قبيل ..
 والعلة هي التي أسلفنا .. هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله ، إنما يرفض ألوهية الله . فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية . ومن يحكم بغير ما أنزل الله ، يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب ، ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر .. وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك ؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان ، والعمل - وهو أقوى تعبيرا من الكلام - ينطق بالكفر أفصح من اللسان ؟!
 إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل ، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة . والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكم عن مواضعه .. وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد .
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة ، ونحي الإسلام عن القيادة . نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى ، في صورة من صورها الكثيرة . صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم ، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان !
 وإن مما يميز كتاب الظلال هو الاسترسال غير المتكلف عبر المعاني التي تتعلق بالآية أو الآيات ، والإشارة إلى صور من الواقع داخلة في معنى الآيات ، موسعاً بذلك أرجاء الرؤية ، وكان المفسرون يقتصرون على تجلية المعنى بأوجز عبارة دون الإشارة إلى الصور المتعددة للباطل التي تشير الآية إليها ، فلما كان هذا الزمان ، وعم الجهل بالقرآن ولغة القرآن ، وشرد الناس بعيداً عن أخلاق القرآن وهداياته ، وتعطل شرعه ، فما عاد يسود ويعلو كما أمر الله ، كانت حاجة الناس ماسة إلى معالجة التفسير على نحو جديد يتمثل في التفهيم والشرح والإسهاب، وتقليب الصور المتعددة للباطل على ضوء القرآن لتنكشف الحقائق وتنجلي ، فاحتاج المفسر الموفق في هذا الزمان أن يعرض لألوان الباطل الخادعة فيكشف خداعها ، ولهذا كان كتاب الظلال متميزاً بطريقته في التفصيل والتعيين والقصد الواضح دونما مواربة أو مجاملة .. كان صريحاً في ندائه للأمة النائمة أن تصحو ، وأن تعود مرة أخرى إلى جادة الطريق .. إلى المنهج الإلهي .. ليعود إليها عزها الذي كان .
                 يقول رحمه الله - وكأنه يشير بوضوح إلى العلمانيين ؛ ذلك النبت الضار الذي نما في ديار المسلمين وتخلل كالمرض الخطير أعضاء الأمة وحناياها ، وتمكن من مواطن التأثير في المجتمعات المسلمة - :
يقول : إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية . يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ؛ ثم يقولون لها : اختاري !!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة ، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج الله !!! وهذا خداع لئيم خبيث . فوضع المسألة ليس هكذا أبدا .. إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني . إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة .. ذاك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض . هذا المقام الذي منحه الله له ، وأقدره عليه ، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه فيه ؛ وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه ؛ ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع .. على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله ، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام ، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة ؛ وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله . فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة ، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى .. فهم سيئو النية ، شريرون ، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال ، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح ، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة . وأن تطمئن إلى كنف الله ...
 وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية ؛ ولكن ينقصهم الوعي الشامل ، والإدراك العميق .. هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية ، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة . فيفصل ذاك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية ، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة ؛ ويجعلون للقوانين الطبيعية مجالا ، وللقيم الإيمانية مجالا آخر ؛ ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غبر متأثرة بالقيم الإيمانية ، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا . اتبعوا منهج الله أم خالفوا عنه . حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس ! .
    حرمة موالاة الكفار   :
ومن القضايا التي أخذت مساحة كبيرة في اهتمام المؤلف رحمه الله ، وتكررت في مواطن عديدة من الظلال قضية الولاء والبراء ، والتي فقه الأستاذ المفسر أنها من أخطر قضايا العقيدة وأهمها ، وأشدها لصوقاً بمنهج التربية الضروري للجماعة المسلمة في مرحلة التكوين والإعداد ، وقد بين رحمه الله أنه لا يجتمع في قلب مسلم حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه .. وأن أي خلخلة في بنيان هذا المفهوم في وجدان المسلم لابد أن يحدث زلزالاً في كيانه يفقده توازنه ، ويفقده صدقه ، بل إنه يزيغ قدمه عن الطريق ، ليتعطل هناك على جنباته ، فلا هو مضى لهدفه ولا هو نجا من السقوط .
يقول رحمه الله عند تفسير قوله تعالى { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - إلا أن تتقوا منهم تقاة - ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير . قل إن تخفوا ما في صدروكم أو تبدوه يعلمه الله ، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله على كل شيء قدير . يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا . ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد } :  لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله ، والقوة كلها لله ، والتدبير كله لله ، والرزق كله بيد الله .. فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله ؟ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون .. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد ، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو والى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة ، سواء كانت الموالاة بمودة القلب ، أو بنصره ، أو باستنصاره سواء :
   ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء )  ..
ومن خصائص هذا التفسير : تميزه بأبحاث تربوية إيمانية موضوعية يستخلصها المؤلف الموفق رحمه الله من الآيات ويعرضها بعبارة أدبية شيقة ، وحرارة إيمانية صادقة ، وعمق في نظرته التربوية ، وجدية في عرض موضوعاته ، وتحليل دقيق للحدث الذي تتناوله الآيات في واقعية مقنعة ، ودونما تعسف أو تكلف .
لقد أدرك المؤلف رحمه الله أن منهج القرآن في تعبيد الناس لله ، وإقامة الجماعة المسلمة التي تقوم بتكاليف هذا الدين منهج قائم على الواقعية والصدق والجدية ، فلم يشغل القارئ بمباحث جدلية سواء كان ذلك عند تقريره للعقيدة في النفوس ، أو كانت في شرح أحكام فقهية ، فلا تجده يُدخل القارئ في جدل علم الكلام ، ولا الخلافات الفقهية الفرعية .بل نجده يعيش مع القارئ في جو الآيات وما تسكبه في النفس من إيمان وما تستجيشه فيها من التقوى ، ثم ما يترتب على ذلك من التسليم لأحكام الدين وشريعته دونما تلكؤ أو ترخص ، أو طلب للمتعة العقلية أو الترف الفكري ، أو التسلية الثقافية .
يقول المؤلف رحمه الله ( الظلال 2/987) :
 لقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب ، ولا ليشرع شريعة فحسب . ولكن كذلك ليربي أمة ، وينشىء  مجتمعا ، وليكون الأفراد وينشئهم على منهج عقلي وخلقي من صنعه .. وهو هنا يعلمهم أدب السؤال ، وحدود البحث ، ومنهج المعرفة .. وما دام الله - سبحانه - هو الذي ينزل هذه الشريعة ، ويخبر بالغيب ، فمن الأدب أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة أو إجمالها ؛ وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره . وأن يقفوا هم في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها العليم الخبير . لا ليشددوا على أنفسهم بتنصيص النصوص ، والجري وراء الاحتمالات والفروض . كذلك لا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله منه وما هم ببالغيه . والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم ، فهو يشرع لهم في حدود طاقتهم ، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم . وهناك أمور تركها الله مجملة أو مجهلة ؛ ولا ضير على الناس في تركها هكذا كما أرادها الله . ولكن السؤال - في عهد النبوة وفترة تنزل القرآن - قد يجعل الإجابة عنها متعينة فتسوء بعضهم ، وتشق عليهم كلهم وعلى من يجيء بعدهم .
 لذلك نهى الله الذين آمنوا أن يسألوا عن أشياء يسوؤهم الكشف عنها ؛ وأنذرهم بأنهم سيجابون عنها إذا سألوا في فترة الوحي في حياة رسول الله  وستترتب عليهم تكاليف عفا الله عنها فتركها ولم يفرضها :
   ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم .. عفا الله عنها .. )  .
 أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها وترك فرضها أو تفصيلها ليكون في الإجمال سعة .. كأمره بالحج مثلا .. أو تركه ذكرها أصلا ..
 ثم ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم - من أهل الكتاب - ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالسؤال عن التكاليف والأحكام . فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها . ولو سكتوا وأخذوا الأمور باليسر الذي شاءه الله لعبادة ما شدد عليهم ، وما احتملوا تبعة التقصير والكفران .
 ولقد رأينا في سورة البقرة كيف أن بني إسرائيل حينما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة ، بلا شروط ولا قيود ، كانت تجزيهم فيها بقرة أية بقرة .. أخذوا يسألون عن أوصافها ويدققون في تفصيلات هذه الأوصاف . وفي كل مرة كان يشدد عليهم . ولو تركوا السؤال ليسروا على أنفسهم .
 وكذلك كان شأنهم في السبت الذي طلبوه ثم لم يطيقوه ! ..
 ولقد كان هذا شأنهم دائما حتى حرم الله عليهم أشياء كثيرة تربية لهم وعقوبة !
 وفي الصحيح عن رسول الله  أنه قال :  ذروني ما تركتكم . فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم  . 
 وفي الصحيح أيضا :  إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها . وسكت عن أشياء رحمة بكم - غير نسيان - فلا تسألوا عنها  .. 
 وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما ، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته  ..
ولعل مجموعة هذه الأحاديث - إلى جانب النصوص القرآنية - ترسم منهج الإسلام في المعرفة ..
 إن المعرفة في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة .. فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه ، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية . وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به . فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه ؛ فإنه لا يصل إلى شيء أبدا ، لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها . فهو جهد ضائع . فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل ، يؤدي إلى الضلال البعيد .
 وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام .. وهذا هو منهج الإسلام ..
ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه ؛ فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل ؛ وفي حدود القضية المعروضه دون تفصيص للنصوص ، ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني :
 كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يلعن من سأل عما لم يكن .. ذكره الدارمي في مسنده .. وذكر عن الزهري قال : بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد كان ، حدث فيه بالذي يعلم . وإن قالوا : لم يكن ، قال : فذروه حتى يكون . وأسند عن عمار بن ياسر - وقد سئل عن مسألة - فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا . قال دعونا حتى يكون ، فإذا كان تجشمناها لكم . 
 وقال الدرامي : حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله  ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن :   ( يسألونك عن الشهر الحرام )  ..   ( ويسألونك عن المحيض )  .. وشبهه .. ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم . 
 وقال مالك : أدركت هذا البلد  [ يعني المدينة ]  وما عندهم علم غير الكتاب والسنة . فإذا نزلت نازلة ، جمع الأمير لها من حضر من العلماء ، فما اتفقوا عليه أنفذه . وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله  !
 وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية : روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله  قال :  إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعاً وهات . وكره لكم ثلاثا : قيل وقال ؛ وكثرة السؤال ، وإضاعة المال  ..  قال كثير من العلماء : المراد بقوله : "وكثرة السؤال" : التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا ، وتكلفا فيما لم ينزل ، والأغلوطات ، وتشقيق المولَّدات . وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف . ويقولون : إذا نزلت النازلة وفِّق المسؤول لها ..
 إنه منهج واقعي جاد . يواجه وقائع الحياة بالأحكام ، المشتقة لها من أصول شريعة الله ، مواجهة عملية واقعية .. مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها ، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقا كاملا دقيقا ..
 فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع ، فهو استفتاء عن فرض غير محدد . وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع . والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غير محدد . والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة ؛ كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم .
وقد قسم العلماء التفاسير تقسيمات توضح مزايا كل تفسير ، فقالوا : التفسير بالمأثور أي الذي اعتمد على المأثور من حديث رسول الله r في تفسير ما يتناوله من آيات ، وكذا أقوال الصحابة رضي الله عنهم ، وكذا أقوال التابعين الذين اشتهروا بالتفسير كمجاهد بن جبر وهو من التابعين الذين تلقوا جميع التفسير عن الصحابة . قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها .
وقال سفيان الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .
ولهذا اعتمد الشافعي وأحمد والبخاري  وغيرهم من أهل العلم على تفسيره .
فنجد أن صاحب الظلال رحمه الله يذكر مثلاً قول مجاهد أو يضمنه بيانه للآية  ، غير أنه يستلهم النص معاني أوسع تكافئ ما استجد في أزماننا من تنوع صور الباطل ، وتفنُّن أهلِه في تلوين أباطيلهم بألوان خادعة تصرف عوام المسلمين عن حقيقة الإيمان ، فإذا بجموع المسلمين بسبب هذا الخداع ينحرفون عن الإسلام ، ويقعون في ألوان من الشرك وهم يحسبون أنهم على الجادة ، فاحتاج المفسر الموفق إلى أن يضع تفسيره على هذا النحو من التفصيل والتحديد والتفريع لمعاني الإيمان ليكشف النفاق وأهله ويعري الباطل وأهله وليقف الناس بعد هذا الوضوح أمام مفرق الطريق ليختاروا أن يكونوا عبيداً لله أو يكونوا عبيداً لأهوائهم أو أصنامهم الخفية التي صنعوها في وجدانهم حين بهت الإيمان واندرست في واقعهم معالمه .
وقد قسم العلماء التفسير بالرأي إلى تفسير بالرأي المحمود ، وتفسير بالرأي المذموم ويعنون بالأخير تفاسير المبتدعة .
والباحث في ظلال القرآن يجد أنه في جانب منه تفسير بالرأي المحمود بجانب كونه تفسيراً بالمأثور . فكان رحمه الله يفسر القرآن بالقرآن ، ثم بالحديث النبوي ، ثم بأقوال الصحابة أو سيرتهم وأحوالهم ، يحرص في ذلك على إيراد الروايات المأثورة عن السلف الصالح .
 ولقد راق لبعض الدارسين أن يسميه التفسير الحركي ، ويعني به التفسير الذي اعتمد التأصيل والتوضيح والتفصيل ليرسم للجماعة المسلمة الطريق الذي تمضي عليه وهي تنبعث في دعوتها وجهادها ، ويكشف لها المعاني الدقيقة لتفهم الواقع حولها لتبصر المزالق المخوفة ، يفعل ذلك لتتضح الجادة ويمضي السائرون الجادون الصادقون في طريق الإيمان لا يكتنفهم غبش ولا إبهام ولا إيهام . وهي اصطلاحات حادثة ولا مُشاحة في الاصطلاح ، وإن شئت قلت : التفسير التربوي ، أو التفسير الموضوعي الذي يعتني ببحث المواضيع عند ورود مناسبتها في الآيات ، فالمؤلف رحمه يستطرد كثيراً ويتوسع في بحث المواضيع التي انتفع بها الباحثون والدعاة والمربون أيما انتفاع ، ولا ريب أن كتاب الظلال تتضح منه هذه السمات ، لكنه لا ينحصر في تلك المعاني الحركية والتربوية بل يفسر كل آية بما تتضح به ؛ شأنه في ذلك شأن المفسرين السابقين الذين التزموا تعظيم السنة ، وتقديم التفسير بالمأثور ، وبيان المراد من الآية أو الآيات وعدم معارضة المأثور برأيه المجرد بحال  .
وهاك نموذجاً من التفسير بالمأثور في الظلال : -
يقول رحمه الله : وهذا القرآن يتنزل عليهم غضا ؛ وتشربه نفوسهم ؛ وتعيش به وله ؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته ؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس ، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من الخوارق ، في ربع قرن من الزمان :
 روى ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله بن إدريس ، قال : "لما نزلت هذه الآية :    {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }  ، شق ذلك على أصحاب رسول الله  وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ قال : فقال رسول الله   ليس كما تظنون . وإنما هو ما قال لقمان لابنه :   { لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم }  .. 
 وروى كذلك - بإسناده - عن ابن المسيب ، أن عمر بن الخطاب قرأ :   { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } فلما قرأها فزع . فأتى أبى بن كعب . فقال : يا أبا المنذر ، قرأت آية من كتاب الله . من يسلم ؟ فقال : ما هي ؟ .. فقرأها عليه .. فأينا لا يظلم نفسه ؟ فقال : غفر الله لك ! أما سمعت الله تعالى ذكره يقول :   { إن الشرك لظلم عظيم }  ؟ إنما هو : ولم يلبسوا إيمانهم بشرك . 
 وروى بإسناده عن أبى الأشعر العبدي عن أبيه ، أن زيد بن صوحان سأل سلمان ، فقال : يا أبا عبد الله ، آية من كتاب الله قد بلغت مني كل مبلغ ..   { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }  ! فقال سلمان : هو الشرك بالله تعالى ذكره . فقال زيد : ما يسرني بها أني لم أسمعها منك ، وأن لي مثل كل شيء أمسيت أملكه .
 فهذه الآثار الثلاثة تصور لنا كيف كان حس هذا الرهط الكريم بهذا القرآن الكريم . كيف كانت جدية وقعه في نفوسهم . كيف كانوا يتلقونه وهم يشعرون أنه أوامر مباشرة للتنفيذ وتقريرات حاسمة للطاعة ، وأحكام نهائية للنفاذ . وكيف كانوا يفزعون حين يظنون أن هناك مفارقة بين طاقتهم المحدودة ومستوى التكليف المطلوب . وكيف كانوا يجزعون أن يؤاخذوا بأي درجة من درجات التقصير ، والتفاوت بين عملهم وبين مستوى التكليف . حتى يأتيهم من الله ورسوله التيسير .
 إنه مشهد كذلك رائع باهر .. مشهد هذه النفوس التي حملت هذا الدين .. وكانت ستارا لقدر الله ؛ ومنفذا لمشيئته في واقع الحياة .. .اهـ
لقد كان المؤلف رحمه الله من أهل البيان ، ولا ريب في أنه أخذ من علوم العربية قسطاً كبيراً أعانه على فهم مراد الله تعالى في كتابه الكريم ، وأنه اطلع على التفاسير الموجودة ، وأنه كان واسع الأدب حلو العبارة ، دقيق النظر ، مرهف الحس ، عارفاً بكثير من علوم الآلة ، وعلم الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ، يظهر كل ذلك لمن طالع كتابه بإنصاف وتجرد ، ولهذا حصل من كتابه النفع الكثير للمسلمين .
كان رحمه الله يتأمل النص تأملاً عميقاً ، ويدرسه دراسة جادة ، ويسجل ما يلمحه من الدروس والعبر والدلالات ثم يوجه القارئ إلى الفهم الذي يراه أصوب وأدق ، وكان مهتماً على الدوام بربط جزئيات التوجيه القرآني سواء في عالم الأخلاق والسلوك أو ما يتعلق بإقامة المجتمع المسلم أو ما يتعلق بفهم طبيعة الصراع بين الإسلام والكفر ، وما يقتضيه ذلك من الولاء والبراء .. كان حريصاً في كل ذلك على الربط بين هذه التوجيهات وأصل الإيمان ، وأنه لا ينفك الإيمان مطلقاً عن مقتضياته من العمل ، سواء كان العمل في صورة قلبية كالحب في الله والبغض فيه وما يترتب عليه عملياً من الولاء والبراء ، أو كان في ميدان العمل المتمثل في الخضوع لله في كل أمره ، واقفاً في هذا كله تحت راية السلف الصالح في عقيدتهم الراسخة بأن الإيمان قول وتصديق وعمل ، ولئن كانت جموع غفيرة من المسلمين قد تنكبت الطريق ، وحادت عن الجادة ، فإن عقيدة الإرجاء التي سرت في ديار المسلمين وترسخت في وجدان كثير من المسلمين ، وأحدثت هذا الخلل الهائل في مسيرتها ، هي العامل الأساس في انفصال العمل عن الاعتقاد ، وهي السبب الرئيس في ترك الأمة العمل اكتفاء بشعورها بالانتماء إلى أمة الإسلام ، واقتناعاً بما تحس به من إيمان وإن كان باهتاً ضعيفاً لا يحرك نفوسهم إلى عمل . وكأن الأستاذ المفسر رحمه الله قد أدرك بدقيق فهمه أن مكمن المرض هنا ، وأن موطن الخلل هنا ، وأن عند هذه النقطة يجب أن يقف الدارسون والمعنيون بالعمل على إرجاع الأمة إلى جادة الطريق .
أدرك رحمه الله أنه لابد من العمل ، وأن العمل هو مقتضى الإيمان ، وأن إيماناً بلا عمل بمقتضاه إنما هو إيمان ناقص ضعيف لا ينفع صاحبه في الدنيا حق النفع ، وقد لا ينجيه في الآخرة ، وإن صرخ مدعوه بأعلى أصواتهم بدعواهم الكاذبة .
دور العقل عند سيد في فهم العقيدة : لقد كان رحمه الله سلفياً في تلقيه النصوص القرآنية وتعامله معها ، وكان يصرح بأن القرآن والسنة هما المصدران اللذان يكَوِّن المسلم عقيدته وفهمه على ضوئهما ، وأنه لا يقبل في التصور الإيماني أن يؤمن إنسان بالله العليم الخبير ، الكبير المتعال ، ثم يذهب يطلب الهداية بعيداً عنه ، أو يعتقد أن جهة أخرى يمكن أن يكون عندها الحق والهداية ، وما يحتاج إليه الإنسان في صلاح أمره في الدنيا والآخرة ، إن المؤلف رحمه الله يجلي هذه المسألة ويحسمها مهتدياً بطريقة القرآن { فماذا بعد الحق إلا الضلال } ثم يوضح أن العقيدة لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة وفهم الصحابة والتابعين لهذين الأصلين العظيمين .
وأما العقل فمجاله الفهم عن الله ورسوله ، أما أن يستقل بإنشاء الأحكام وتقرير العقيدة فهذا ما لا يقبله عقل سليم ، فضلاً عما يواجهه العقل إذا اندفع خارج الحدود التي رسمها له خالقه .. إنه يضل ويتحير ويدمر صاحبه . لقد كان منهجه في تقرير العقيدة مؤسساً على هذين المصدرين اليقينيين ، وكثيراً ما نجده يحذر من الوقوع في التأثر برواسب الثقافات البشرية التي تؤثر بصورة سلبية على صفاء العقيدة ، ويعني الفلسفات والتصورات المبنية على التخمينات والتوهمات والمجازفات ، والتي لا تستند على أرض صلبة من الحقائق .
كما أن من القضايا التي أولاها المؤلف رحمه الله عناية خاصة في بحثها وجودة عرضها مسألة المقررات السابقة التي يسلم بها المرء دونما أساس واضح من المنهجية العلمية في البحث والنظر ، وإنما هي مقررات استقرت عنده بناء على اعتبارات بعيدة عن العلم والتحقيق ، ثم يذهب يطلب لها الدليل والاعتراف من القرآن ، فيقع عنذاك في التعسف في فهم الآيات أو ليّ عنق النصوص لتوافق مقرراته السابقة التي يصعب عليه مخالفتها.
ولقد كان سيد نفسه صورة حية صادقة لهذا التجرد حيث كانت الثقافة السابقة التي تضلع منها ونشأ عليها في بيئته الأدبية التي ترعرع في جوها ، كان لهذه الثقافة ثقلها في نفسه ولصوقها في فكره ، لكنه لما آمن وصدق وفقه وأيقن أن القرآن هو الأصل الذي يجب أن يخضع له العقل ، وأن تنطوي عليه حنايا القلب ، وأن ينطبع به السلوك والواقع ، حينذاك طلب من القرآن ومن السنة الهداية فصفت له عقيدته ، وصفى له منهجه .
يقول رحمه الله :
 وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب ، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا ، فقد انقطع كل قول ، وبطل كل زعم ، وانتهى أمر الكهانة والعرافة . وتمحض الغيب لله ، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته ، ولا على التنبؤ به . وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل ! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير !
 أما أين يقف ذلك الحرس ؟ ومن هو ؟ وكيف يرجم الشياطين بالشهب ؟ فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئا ، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئا ؛ ولو علم الله أن في تفصيله خيرا لنا لفعل . وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث ؛ لا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئا !
 ولا مجال كذلك للاعتراض أو الجدل حول الشهب ، وأنها تسير وفق نظام كوني ، قبل البعثة وبعدها ووفق ناموس يحاول علماء الفلك تفسيره ، بنظريات تخطئ وتصيب . وحتى على فرض صحة هذه النظريات فإن هذا لا يدخل في موضوعنا ، ولا يمنع أن ترجم الشياطين بهذه الشهب عند انطلاقها . وأن تنطلق هذه الشهب رجوما وغير رجوم وفق مشيئة الله الذي يجري عليها القانون !
 فأما الذين يرون في هذا كله مجرد تمثيل وتصوير لحفظ الله للذكر من الالتباس بأي باطل ؛ وأنه لا يجوز أن يؤخذ على ظاهره .. فسبب هذا عندهم أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم ، أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن . ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل .. ومن ثم يرون الملائكة تمثيلا لقوة الخير والطاعة . والشياطين تمثيلا لقوة الشر والمعصية . والرجوم تمثيلا للحفظ والصيانة ... الخ لأن في مقرراتهم السابقة - قبل أن يواجهوا القرآن - أن هذه المسميات : الملائكة والشياطين أو الجن ، لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو ، وأن تكون لها هذه التحركات الحسية ، والتأثيرات الواقعية !!!
 من أين جاءوا بهذا ؟ من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث ؟
 إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره ، وفي التصور الإسلامي وتكوينه .. أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق ، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرراته كلها حسبما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود . ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن . ولا ينفي شيئا يثبته القرآن ولا يؤوله ! ولا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله . وما عدا المثبت والمنفي في القرآن ، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته ..
وهكذا نقف على معالم سلفية الظلال بالمعنى الصحيح للسلفية بما لا يدع مجالاً للشك .
كان رحمه الله معنياً بوضع الأسس لبناء الجماعة المسلمة وإعدادها للخلافة :
وحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما ، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا ..
 لم يفوت رحمه الله أي فرصة يجدها مناسبة ليوضح أن دور الجماعة المسلمة هو القيام بالخلافة في الأرض بمنهج الله وشريعته . وتمييزها بتصورها الخاص للوجود ، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى .
التنبيه إلى تناسق المعاني بين افتتاح السورة وختامها وإبراز الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم ، والتناسب الموضوعي في دروسه ومقاطعه ، وقد كان ذلك ظاهراً في تعريفه بكل سورة في مطلع تفسيره لها ، وعرض موضوعها الأساسي وموضوعاتها الفرعية وذلك قبل الشروع في تفسيرها التفصيلي ، فيقف القاريء بذلك على شخصية السورة وملامحها جملة واحدة ، وهذا من شأنه أن يساعد القاريء على ربط موضوعات السورة الفرعية بموضوعها الأساسي . ففي سورة البقرة على سبيل المثال نجد أنها افتتحت بالحديث عن الإيمان بالغيب ، واختتمت بالحديث عن الإيمان بالأنبياء كلهم ، وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه ، مع السمع والطاعة :   ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله ، وقالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير . لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، وأعف عنا واغفر لنا ، وارحمنا ، أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين )  .. وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها ، فيبين طبيعة التصور الإيماني .
 ومن ثم يتناسق البدء والختام ، وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان.

وإن مما أولاه رحمه الله أكبر الأهمية في تفسيره موضوع الأسرة المسلمة كنواة للمجتمع المسلم المنشود الذي دندن في طول كتابه حوله ، واستخلص من ثنايا الآيات الكريمة ما يلزم إقامته في مرحلة التأسيس ، ثم ما يحتاجه من صيانة وحماية حتى يشتد وينضج ويقوى على الآفات وينجح في تحدي الأعاصير ، فإذا به زرع أخضر طيب يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار .
يقول رحمه الله في الظلال  : تنظيم مؤسسة الأسرة ..  ، هو تنظيم مؤسسة الأسرة ؛ وضبط الأمور فيها ؛ وتوزيع الاختصاصات ، وتحديد الواجبات ؛ وبيان الإجراءات التي تتخذ لضبط أمور هذه المؤسسة ؛ والمحافظة عليها من زعازع الأهواء والخلافات ؛ واتقاء عناصر التهديم فيها والتدمير ، جهد المستطاع :
   ( الرجال قوامون على النساء ، بما فضل الله بعضهم على بعض ، وبما أنفقوا من أموالهم ، فالصالحات قانتات ، حافظات للغيب بما حفظ الله . واللاتي تخافون نشوزهن ، فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا . إن الله كان عليًا كبيرًا . وإن خفتم شقاق بينهما ، فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ، إن يريدا إصلاحًا يرفق الله بينهما . إن الله كان عليمًا خبيرًا ) 
 ولا بد - قبل الدخول في تفسير هذه النصوص القرآنية ، وبيان أهدافها النفسية والاجتماعية - من بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة ، ومنهجه في بنائها والمحافظة عليها ، وأهدافه منها .. بيان مجمل بقدر الإمكان ، إذ أن التفصيل فيه يحتاج إلى بحث مطول خاص  :
 إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته "الزوجية " شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود :   ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون )  ..
 ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة :   ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها )  ..
 وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة - بعد ذلك - فيما أراد ، أن يكون هذا اللقاء سكنًا للنفس ، وهدوءًا للعصب ، وطمأنينة للروح ، وراحة للجسد .. ثم سترًا وإحصانًا وصيانة .. ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة ، مع ترقيها المستمر ، في رعاية المحضن الساكن الهاديء المطمئن المستور المصون :
   ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة )  ..
   ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن )  ..
   ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله )  ..
   ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة ) .
ومن الخصائص التي ميزت كتاب الظلال أنه أبرز دور الصحابة الكرام رضي الله عنهم في القيام بأمر هذا الدين وتمثله في واقع الحياة على أرفع صورة وأصدق نموذج ، في عالم التصديق واليقين ، وفي ميدان البذل والعطاء والتضحية بالنفس والمال مع الرضى التام ، وقد نقل للقارئ صوراً من هذا المستوى السامق ليبين أن القرآن بمستواه الرفيع إنما جاء للإنسان الذي يعلم خالقُه أن في مقدوره أن يقوم به إن هو صدق ، { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } .وقد أوضح رحمه الله أن الإسلام دين الواقعية ، وأنه ليس مبادئ خيالية فوق مستوى البشر .
يقول عند تفسير قوله تعالى { ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون }  (ص 504-505) :
يهدد الذين يغلون ، ويخفون شيئا من المال العام أو من الغنائم ، ذلك التهديد المخيف :
روى الإمام أحمد . حدثنا سفيان عن الزهري ، سمع عروة يقول : حدثنا أبو حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله  رجلا من الأزد يقال له ابن اللتيبة . على الصدقة . فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي إلي . فقام رسول الله  على المنبر فقال :  ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي . أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده ، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته ، وإن بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر  .. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه . ثم قال :  اللهم هل بلغت ؟  - ثلاثا - ..  [ وأخرجه الشيخان ]   وروى الإمام أحمد بإسناده ، عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله  يوما فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره . ثم قال :  لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت . فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك  ..  [ وأخرجه الشيخان من حديث أبي حيان ]  .. 
 وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميرة الكندي . قال : قال رسول الله  : يا أيها الناس . من عمل لنا منكم عملا ، فكتمنا منه مخيطا  فما فوقه ، فهو غل يأتي به يوم القيامة  .. قال : فقام رجل من الأنصار أسود - قال مجاهد : هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه - فقال : يا رسول الله ، أقبل مني عملك . قال :  وما ذاك ؟  قال : سمعتك تقول : كذا وكذا . قال :  وأنا أقول ذلك الآن . من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره . فما أوتي منه أخذه ؛ وما نهي عنه انتهى  ..  [ ورواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي رافع ]  .. 
 وقد عملت هذه الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة ؛ حتى أتت بالعجب العجاب ؛ وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره ، كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية . وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة ، لا يراه أحد ، فيأتي به إلى أميره ، لا تحدثه نفسه بشيء منه ، خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب ، وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة ! فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلا . وكانت الآخرة في حسه واقعا ، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه ، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها . وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه . فالآخرة كانت حقيقة يعيشها ، لا وعدا بعيدا ! وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت ، وهم لا يظلمون ..
 روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال : لما هبط المسلمون المدائن ، وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق معه ، فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه . فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : أما والله لولا الله ما آتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأنا . فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ، ولا غيركم ليقرظوني ! ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه . فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس 
 وقد حملت الغنائم إلى عمر - رضي الله عنه - بعد القادسية ، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن .. فنظر - رضي الله عنه - إلى ما أداه الجند في غبطة وقال : " إن قوما أدوا هذا لأميرهم لأمناء " ..
 وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير .
 ثم يستطرد السياق - في معرض الحديث عن الغنائم والغلول - يوازن بين القيم .. القيم الحقيقية التي يليق أن يلتفت إليها القلب المؤمن ، وأن يشغل بها :
   ( أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير ؟ هم درجات عند الله ، والله بصير بما يعملون )  ..
 إنها النقلة التي تصغر في ظلها الغنائم ، ويصغر في ظلها التفكير في هذه الأعراض . وهي لمسة من لمسات المنهج القرآني العجيب في تربية القلوب ، ورفع اهتماماتها ، وتوسيع آفاقها وشغلها بالسباق الحقيقي في الميدان الأصيل .
   ( أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )  ..
لا يكاد الباحث المهتم بدراسة الظلال يخطئ الوقوف على سمة هامة من سمات هذا التفسير ، ألا وهي الاهتمام البالغ بأمر الدعوة إلى الله ، والحركة التربوية كمعلم بارز من معالم الكتاب ، ولهذا تراه يقف بالقارئ وقفات هامة ويشير له إلى دلالات عميقة ترسخ في عقله ونفسه درساً من دروس القرآن ، يضع به لبنة جديدة في بناء الشخصية المسلمة الصالحة للقيام بأعباء الإسلام من دعوة وجهاد .
ولهذا نجده يقول :(ص 3482).. ومنهج القرآن الإلهي في علاج القلوب جدير بأن يقف الدعاة إلى الله أمامه طويلا ؛ ليتدبروه ويحاولوا أن يقلدوه !
ويقول رحمه الله عند تفسيره لقول الله تعالى   {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } ..
وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها ، بمناسبة تحويلهم الآن عنها :
ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة ، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة ، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة . إنه يريد لها أن تخلص له ؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها ؛ وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغائبها الدفينة ؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية ، ومن كل شعار اتخذته ، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر ، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر .
 ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة ؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك ، ومن عصبية الجنس ، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس .. والله يريده أن يكون بيت الله المقدس ، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره ، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته .
 لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى ، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة ، ووجههم إلى بيت المقدس ، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا ؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول  ثانيا ، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله ، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة ، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة .
 إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة .. إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكا ؛ ولا تقبل شعارا غير شعارها المفرد الصريح ؛ إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور . جل أم صغر . وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني :   ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )  .. والله - سبحانه - يعلم كل ما يكون قبل أن يكون . ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس ، حتى يحاسبهم عليه ، ويأخذهم به . فهو - لرحمته بهم - لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم ، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم .
 ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية ، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس علقة .. أمر شاق ، ومحاولة عسيرة .. إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق ، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه . اهـ
التزم سيد رحمه الله بالاستشهاد بما صح من الحديث النبوي في الغالب ، وأما ما وقع في كتابه من الأحاديث الضعيفة فكان عن غير قصد منه ، وربما كان عذره أنه قضى فترة طويلة في سجون الظالمين فلم تتهيأ له المراجع ، لكن الملاحظ في كتابه أنه اجتنب الاستدلال بالإسرائيليات وما تبعها من الخرافات ، ، فلم يوردها في تفسيره ، بينما لا نكاد نجد تفسيراً من التفاسير إلا وشابه من غبارها شائبة ، كما أنه لم يشغل القاريء بالبحث عن مبهمات القرآن والتي لا سبيل للوقوف عليها عن طريق الظن والتخمين أو الخرص والمجازفة ، فنجده قد أعرض عن كل ذلك ، مصفياً كتابه منها ، وهذا مما يسجل لكتابه رحمه الله .
ومما اتُهم به سيد رحمه الله أيضاً أنه حاول القضاء على الفقه الإسلامي ، وهي تهمة باطلة ينكشف زيفها لمن يدرس " في ظلال القرآن " على وجه الخصوص ، بالإضافة إلى كتب أخرى له . كما يقول الأستاذ محمد توفيق بركات ، حيث بين أن سيد إنما يعتبر الفقه ثمرة طبيعية لحياة المجتمع الإسلامي في ظل الإسلام ، ويعتبره استجابة طبيعية للمشكلات الواقعية في ذلك المجتمع .
        يقول سيد في الظلال : لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم ، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية . اهـ
ثم يصرح سيد بنفي أي اتهام بأنه يدعو لإهمال الفقه الإسلامي فيقول : إن هذه ليست دعوة لإهمال الفقه الإسلامي ، وإهدار الجهود الضخمة العظيمة التي بذلها الأئمة الكبار ، والتي تحوي من أصول الصناعة التشريعية ومن نتاج الأحكام الأصيلة ما يفوق - في نواح كثيرة – كل ما أنتجه المشرعون في أنحاء العالم . اهـ
إنه لابد لمن يتصدى لتقويم التفاسير بالنقد والتحليل أن يتجرد عند البحث من كل هوى أو    تعصب ، وأن يدرس التفسير الذي يقبل على نقده دراسة شرعية متأنية هادئة واعية .
     ويضيف الأستاذ صلاح الخالدي في بحثه القيم " في ظلال القرآن في الميزان " إلى أن من ضوابط النقد لكتب التفسير الوقوف على أهداف المفسر من تفسيره ، وضرورة استخراجها من تفسيره ، لأن الأصل في المفسر أن تكون له أهداف يريد تحقيقها من تفسيره ، والهدف يحدد المنهج ، والمنهج يوضح الطريقة ، والطرق تعرض الأفكار والآراء والمسائل ، وإغفال الهدف من قبل الدارس يوقعه في أخطاء في البحث والتقويم.اهـ
ولنا على كلام الأستاذ الخالدي ملاحظة هي أن المعيار الصحيح في تقييم التفاسير هو ضوابط الشرع ، وقواعد العلم الشرعي ، وما عرف من معتقد أهل السنة والجماعة ، وبالجملة ما كان عليه السلف الصالح في العقيدة والشريعة ، فمن خالف ذلك فقد أخطأ سواء كان هدفه من تفسيره واضحاً أو مبهما ، وسواء كان له هدف مقبول في الجملة أم لا ، وسواء كان تفسيره في الجملة من تفاسير أهل السنة أم من تفاسير المبتدعة ، فالميزان هو الشرع وقواعده وضوابطه ، وإلا فالمبتدعة كانت لهم أهداف واضحة من تفاسيرهم ، وقد راعوا في تفاسيرهم تحقيق أهدافهم ، فالقول بأن معرفة هدف المفسر ضرورية في تقويم كتابه ، قول غير مسلم ، وإنما يمكن أن يعتذر عن المؤلف في كون كتابه جاء على غير النمط المعهود من كتب التفسير ، وتوسعه في البحوث بأن ظروف عصره ، وما أحاط به شخصياً من أجواء اقتضى منه هذا التوسع ، واستلزم ذاك التفصيل.
وممن أسرفوا في الهجوم على خط سيد في الظلال وغيره الشيخ ربيع المدخلي ، فقد أفرد سلسلة من المؤلفات صب فيها ما توهمه من انحراف سيد ، وقد قرأت كتبه بعناية فوجدته في معظم وقفاته مجانباً للاتزان والإنصاف والتجرد ، وقد لمست أنه كوّن فكرة مشوهة عن سيد ومن سماهم جماعته ، ثم استصحب هذه الفكرة بمزاج معتل ، ونفس متوترة ، ودراسة متعجلة ، وتصيد للعبارات ، وتعسف في الفهم فأخرج بهذه التوليفة التي لا تمت للبحث العلمي بصلة كتبه التي سماها نقداً ،
ففي كتاب " أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب وفكره " يقول : سيد يجوز للبشر أن يشرعوا قوانين لتحقيق حياة إسلامية صحيحة . اهـ
يقول الشيخ ربيع ذلك مع أنه نقل من كلام سيد ما يوضح أنه إنما قصد ما يندرج ضمن قاعدتي المصالح المرسلة ، وسد الذرائع ، وأن ذلك يكون عند عدم تعارض تلك التشريعات والنظم مع أصول الإسلام ، وألا تصطدم بفكرته عن الحياة والناس .
ولا أدري كيف تصور الشيخ ربيع أن الشيخ سيد قطب رحمه الله يجوِّز للبشر أن يشرعوا ، مع أن هذه القضية من أهم القضايا التي دأب سيد على تجليتها وتوضيحها في الظلال وغيره من مؤلفاته ، وهي التي أفزعت الطغاة ، وهيجتهم عليه ، ودفع رحمه الله حياته وهو يدافع عنها في ثبات ووضوح وإصرار ، فهل قصر فهم الشيخ المدخلي عن قراءة الظلال قراءة صحيحة منصفة ؟ أم ماذا ؟ الله أعلم .
ولقد أحسن الشيخ بكر أبو زيد " أحد أكابر أهل العلم في السعودية الرد على الشيخ ربيع ، وكان مما قال : لقد اقشعرّ جلدي حينما قرأت في كتابكم قولكم " يجوِّز لغير الله أن يشرع " فهُرعتُ إليها قبل كل شيء ، .. فرأيت كلامه لا يفيد هذا العنوان الاستفزازي ، ولنفرض أن فيه عبارة موهمة أو مطلقة ، فكيف نحولها إلى مؤاخذة مكَفِّرة ، تنسف ما بنى عليه سيد رحمه الله حياته ، ووظف له قلمه من الدعوة إلى توحيد الله تعالى في الحكم والتشريع ورفض سنّ القوانين الوضعية ، والوقوف في وجوه الفعلة لذلك . إن الله يحب العدل والإنصاف . اهـ

وفي النهاية نقول : لقد ظُلم صاحبُ الظلال من الطغاة الذين أفزعهم جهاده الذي تمثل في إصراره على الصدع بالحق ، وإيقاظ الأمة النائمة ، وتسليط الأضواء الباهرة على الحقائق ، وكشف الباطل والمبطلين ، وكان من المفهوم أن يفزع الطغاة ، وكان من طبيعة الصراع أن يبطشوا بالمصلح ويحاولوا كسر المصباح .

وظلمه كذلك أمته حين أسلمته وخذلته .
 وظَلَم فكرَه ودعوته ومنهجه كذلك من أساؤوا الفهم عنه وأخطأوا في التطبيق أو وقعوا في تكفير المسلمين ونسبوا أنفسهم إلى فكر صاحب الظلال وهو من هذا الغلو براء ، وظلمه أناس نسبوا إلى العلم والدعوة فملئوا ساحة الدعوة ضجيجاً على أخطاء لا ينفك عنها إنسان بله عالم من العلماء ، وأغمضوا أعينهم عن بحار زاخرة من العلم والنصح والصدق .
لكن سيد أفضي إلى ربه الكريم العدل الذي لا يظلم الناس شيئاً ، ولا يضيع عنده جهاد المجاهدين أو صدق الصادقين .
هذا ما يسَّر الله تعالى تسجيله من نظرات في كتاب " في ظلال القرآن للشيخ سيد قطب رحمه الله " والحمد لله رب العالمين .
بحث أعده / صفاء الضوي أحمد العدوي


المراجع :
1-                          سيد قطب / في ظلال القرآن – طبعة دار الشروق .
2-                          صلاح عبد الفتاح الخالدي / في ظلال القرآن في الميزان –– دار المنارة – جدة .
3-         محمد توفيق بركات / " سيد قطب خلاصة حياته – منهجه في الحركة – النقد الموجه إليه " ، مكتبة المنارة – مكة المكرمة .
4-                          رسالة الشيخ بكر بن عبد الله بن أبو زيد في الرد على المتحاملين على كتابات سيد .
5-         أبو عائش عبد المنعم إبراهيم – أبو حذيفة محمد إبراهيم / فتح الجلال في تخريج أحاديث الظلال / مكتبة نزار مصطفى الباز – مكة المكرمة – الرياض .
6-         ربيع بن هادي المدخلي /أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب وفكره - مكتبة الفرقان - عجمان
7-         ربيع بن هادي المدخلي العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم - مكتبة الفرقان – عجمان .
8-         عبد الله بن محمد الدويش / المورد الزلال في التنبيه على أخطاء تفسير الظلال / مطابع دار السياسة – الكويت .

======
الدكتور صفاء الضوي أحمد العدوي