د. ريان توفيق
يتصور عدد ليس بالقليل ممن يعيش في كنف الشريعة أنه لابد أن يُنَحَّى العقل جانبا، باعتبار أن الإيمان وانشغالاته هي من القضايا التي لا مدخلية للعقل فيها، ثم يخطو الخطوة الثانية ليعمم هذا الحكم على الجانب الفقهي، فيرى أن الحكم التكليفي هو تكليف وكفى، ولا يمكن للعقل أن يتطفل على الشريعة باعتبارها ربانية المصدر، فيسد باب السؤال عن مدى معقولية هذا الاجتهاد أو ذاك .. باعتبار أن العقل إنساني سفلي قاصر، فلا يمكن له – بناء على هذا التصور - أن يتساءل ويناقش ويستنبط؛ ليصل إلى أفضل المعاني والدلالات التي تقترب من مراد الشارع الكريم من خلال مقاصده التشريعية العامة.
وترتب على هذه الرؤية تسفيه العقل والعقلانية .. إلى درجة أن من أراد أن يقدح في باحث أو مفكر أو فقيه سرعان ما يطلق عليه عقلاني .. حتى غدت هذه الكلمة تعني أن صاحبها يغرد في فضاء الفلسفات الوضعية التي لا تقيم للدين وزنا، أو أنه يتخطى الحدود الحمراء، من خلال التماهي مع اجتهادات تتجاوز الاجتهادات القديمة.
والواقع أن الخطاب القرآني وعلى مساحات كبيرة يتعاطى مع العقل من خلال الفعل المضارع ( تعقلون ) نحو: "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" / "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" / "لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون" ولهذه الصيغة المضارعية استحقاقاتها على المستوى الدلالي، من جهة كون الفعل يدل على الحدوث والتجدد.. وكأن الإشارة التي لم يلتقطها القادح في العقل والعقلانية هو ضرورة الحفر المتكرر والمتجدد في النصوص؛ بغية اشتقاق المعاني التي ترمي إليها التراكيب من خلال تثوير المنظومات الاستدلالية المختلفة، وتجاوز الاستدلالات التي لا تقيم للعلة والمقصد معنى.
الحقيقة أن الكثير يتغنى بأمجاد السلف رحمهم الله، لكنه لا يجرؤ أن يحذو حذوهم في نظرتهم المقاصدية التي هي ذاتها نظرة عقلانية، فهذا سيدنا عمر رضي الله عنه يوقف سهم المؤلفة قلوبهم لما رأى أن المعنى الذي ارتبط بالحكم قد تغير، وهذا سيدنا علي رضي الله عنه يُضَمِّنُ الصُناع ( الحرفيين ) لما وجد أن الواقع قد تغير، وأن القوم لم يعودوا أمناء في الأعم الغالب في الحفظ على أمتعة الناس، وقال مقولته المشهورة: "لا يصلح الناس إلا هذا"وهذا سيدنا عثمان يجعل إخراج زكاة النقد موكولة إلى المالك لا إلى الدولة، مع أن الخطاب القرآني يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره الحاكم "خذ من أموالهم صدقة تزكيهم وتطهرهم".
إن خطابنا الشرعي مدعو إلى أن يترقى ليصل إلى رحاب مقاصد الشريعة، ونصوصها المؤسسة، وكلياتها العامة، ويتعاطى مع اشتقاق الأحكام والمواقف من خلال أنظمة الشريعة المعرفية، ومناهجها الأصولية الرصينة، ليضبط إيقاع الحياة بتعقيداتها وإشكالياتها، فيقدم تدينا يروي ظمأ هذا الإنسان، ويعيد إليه كرامته وكينونته، وثقته بدينه التي اختطفها خطاب مأزوم ساد في العقود الأخيرة لا يعرف للنصوص علة، ولا يقيم لكلياتها وزنا، ولا يعرف لتناسق الأحكام وترابطها طريقا.