الاثنين، 30 يوليو 2018

" خطبة الحاجة " ليست سنة في ابتداء الخطب والكتابة والتأليف .

السؤال :

لا شك أن كثيرا من المؤلفين المعاصرين يكتبون في أول كتابهم بالخطبة النبوية التي هي مشهورة بخطبة الحاجة ( إن الحمد لله نحمده ...) ، ويقولون كتابة هذه الخطبة سنة ، ولكني نظرت إلى كتب المؤلفين القدامى فلم أر واحدا منهم - خصوصا البخاري ومسلم والنووي - يكتبون في مقدمة كتبهم هذه الخطبة .

فلذا أرجو منكم جوابا شافيا على هذا السؤال .
وهو إذا كانت كتابة هذه الخطبة سنة فلماذا لم يكتبها البخاري ومسلم وغيرهم من العلماء المعتبرين ؟0

الجواب :
الحمد لله
أولا :
اختلف العلماء في " خطبة الحاجة " ومشروعيتها في بداية التأليف والتصنيف أو المراسلات بين الناس ، وذلك على قولين :
القول الأول : " خطبة الحاجة " ليست سنة في ابتداء الكتابة والتأليف .
يقول ابن علان رحمه الله :
" الخطبة المعروفة من خطبة الجمعة والعيد ونحوهما ، وخطبة الحاجة ونحوها ؛ لأنها المعهودة في عهد الشارع ، دون خطب نحو الكتب ، وقد ترك الإتيان بها – أي بالشهادة – الترمذي في جامعه وشمائله ، وكذا أبوداود ، وهما راويا الحديث ، فدل صنيعهما على تخصيصه بما ذكر " انتهى من " الفتوحات الربانية " (6/63) دار إحياء التراث العربي.
ويقول الملا علي القاري رحمه الله :
" لما ترك أكثر المصنفين العمل بظاهر هذا الحديث ( كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء ) دل على أن ظاهره غير مراد ، فيؤول بأحد التأويلات ، والأظهر عندي أن تحمل الخطبة في هذا الحديث على الخطب المتعارفة في زمانه صلى الله عليه وسلم أيام الجمع والأعياد وغيرها ، فإن التصنيف حدث بعد ذلك " .
انتهى من " جمع الوسائل شرح الشمائل " (1/5) طبعة مصطفى البابي الحلبي.
واستدلوا بالأدلة الآتية :
الدليل الأول : كُتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء ليس فيها البداءة بهذه الخطبة ، كما أنه عليه الصلاة والسلام في كثير من كتبه التي أمر بكتابتها للمسلمين في بيان الصدقات والديات وغيرها لم يأمر ببداءتها بخطبة الحاجة ، وليس فيها الحمد والتشهد ، وإنما فقط البسملة .
يقول ابن حجر رحمه الله : 
" جمعت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم ، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد ، بل بالبسملة " انتهى من " فتح الباري " (7/220) .
الدليل الثاني : أن أحدا من أهل العلم المصنفين في الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل أو الفقه كالشافعي ، أو التفسير أو علوم القرآن أو النحو ، كلهم لم نجد أحدا منهم يبتدئ كتابه بخطبة الحاجة ، كما لم نقف على من يذكر خطبة الحاجة في كتب الآداب ، أو يقرر استحبابها في التأليف والمراسلات ، وإنما يذكرونها في كتاب " النكاح " فحسب ، فإذا كان ذلك سنة فكيف تغيب عن علماء الإسلام الذين هم مادته وقوامه !!
يقول ابن حجر رحمه الله :
" تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري ، وشيوخ شيوخه ، وأهل عصره ، كمالك في الموطأ ، وعبد الرزاق في المصنف ، وأحمد في المسند ، وأبي داود في السنن ، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة ، ولم يزد على التسمية ، وهم الأكثر ، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة .... أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب ، كما تقدم ، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد وتشهد كما صنع مسلم ... وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة ، وكذا معظم كتب الرسائل " انتهى من " فتح الباري " (1/9) .
القول الثاني : " خطبة الحاجة " سنة مستحبة في أوائل المصنفات والمراسلات ، وهو قول الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله (ت229هـ) الصريح في مقدمة كتابه " مشكل الآثار "، كما هو ظاهر ما يذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقد افتتح الكثير من رسائله بإحدى صيغ خطبة الحاجة الثابتة ، وهي من الكثرة بحيث يشق حصرها ، تجدها في " مجموع الفتاوى "، و " جامع الرسائل "، وكذلك كتبه " درء التعارض "، و" بيان تلبيس الجهمية "، و" الأخنائية "، وكذلك العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله ، افتتح كتبه " الطرق الحكمية "، و" الصلاة وأحكام تاركها " بهذه الخطبة .
يقول الطحاوي رحمه الله :
" ابتدأته – يعني كتابه - بما أمر صلى الله عليه وسلم بابتداء الحاجة به ، مما قد روي عنه بأسانيد أنا ذاكرها بعد ذلك إن شاء الله ، وهو : إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله – وذكر الآيات الكريمات " انتهى من " شرح مشكل الآثار " (1/6) .
ويقول ابن تيمية رحمه الله : 
" لهذا استُحبت – يعني خطبة الحاجة - وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عموما وخصوصا ، من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك ، وموعظة الناس ومجادلتهم ، أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية . 
وكان الذي عليه شيوخ زماننا الذين أدركناهم وأخذنا عنهم وغيرهم يفتتحون مجلس التفسير أو الفقه في الجوامع والمدارس وغيرها بخطبة أخرى . مثل : الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد خاتم المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ورضي الله عنا وعنكم وعن مشايخنا وعن جميع المسلمين ، أو وعن السادة الحاضرين وجميع المسلمين . 
كما رأيت قوما يخطبون للنكاح بغير الخطبة المشروعة ، وكل قوم لهم نوع غير نوع الآخرين ، فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح ، وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضا ، والنكاح من جملة ذلك ، فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات هو كمال الصراط المستقيم ، وما سوى ذلك إن لم يكن منهيا عنه فإنه منقوص مرجوح ، إذ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ".
انتهى من " مجموع الفتاوى " (18/ 287) .
ويقول ابن علان رحمه الله :
" وقيل : بل الخطبة على عمومها ، ولعل أبا داود والترمذي أتيا بها لفظا ، وأسقطاها خطا ، وذلك كاف " انتهى من " الفتوحات الربانية " (6/63) .
ويقول الشيخ الألباني رحمه الله :
" هذه الخطبة تفتتح بها جميع الخطب ، سواء كانت خطبة نكاح ، أو خطبة جمعة ، أو غيرها ، فليست خاصة بالنكاح - كما قد يظن - وفي بعض طرق حديث ابن سعود التصريح بذلك كما تقدم " انتهى من " خطبة الحاجة " (ص/36) .
واستدلوا على ذلك بالأدلة الآتية :
الدليل الأول : الأحاديث الكثيرة الواردة في افتتاح النبي صلى الله عليه وسلم بعض خطبه ومواعظه وكلامه بخطبة الحاجة . ولم يخصها بالنكاح ، فقد تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي ضمام بن ثعلبة ، ولم يكن في ذلك نكاح ولا جمعة ولا عيد . 
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : ( أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ ... فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ ، فَهَلْ لَكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَمَّا بَعْدُ ) ، قَالَ : فَقَالَ : أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ . فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . قَالَ : فَقَالَ : لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ ، قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، قَالَ : فَبَايَعَهُ ) رواه مسلم (868) .
ومن ذلك أيضا حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ ، وَالتَّشَهُّدَ فِي الحَاجَةِ ) رواه الترمذي (1105) وقال : حديث حسن .
فقالوا : إن كلمة ( الحاجة ) تشمل كل حاجة ، سواء كانت درسا وموعظة وخطبة ، أم مصنفا وتأليفا ورسالة ، أم غيرها .
يقول السندي رحمه الله :
" الظاهر عموم الحاجة للنكاح وغيره ، فينبغي للإنسان أن يأتي بهذا ليستعين به على قضائها وتمامها " انتهى من " حاشيته على سنن النسائي " (3/105) .
الدليل الثاني : العموم الوارد في بعض الروايات ، منها ما ورد في " سنن أبي داود " (2118) عن عبد الله بن مسعود قوله : ( عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ خُطبَةَ الحَاجَةِ فِي النِّكَاحِ وَغَيرِهِ ). 
الدليل الثالث : افتتاح بعض العلماء كتبهم بهذه الخطبة ، كما سبق عن كل من الإمام الطحاوي (ت229هـ)، وابن تيمية (728هـ)، وابن القيم (751هـ) .
مناقشة الأدلة :
بالتأمل في أدلة الفريقين يمكننا أن نتبين رجحان القول الأول لقوة أدلته . 
أما الجواب على أدلة القول الثاني :
فدليلهم الأول ليس فيه نص في محل الخلاف الذي هو ابتداء الكتب والمصنفات ، فجميع الروايات الواردة في خطبة الحاجة إنما هي في الخطب القولية واللفظية ، أما السنة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء وغيرهم فليس في شيء منها خطبة الحاجة ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم مبين للمجمل ، وموضح للمبهم .
أما الدليل الثاني فلا يسلَّم لهم أيضا ، فقد وردت زيادة ( في النكاح وغيره ) من طريق أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود . وهذا إسناد منقطع ، فأبو عبيدة لم يسمع من أبيه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وهذا ما عقب به النسائي على الحديث بعد أن أخرجه في " السنن " (1404) قال : " أبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا "
قال الشيخ الألباني رحمه الله : 
" هذه الزيادة ( في النكاح وغيره ) هي لأبي داود من طريق سفيان عن أبي إسحاق ، وظاهرها أنها من قول ابن مسعود ، لكن خالف شعبة ، فجعلها من قول أبي إسحاق ، حيث قال : قلت لأبي إسحاق : هذه في خطبة النكاح أو في غيرها ؟ قال : في كل حاجة . رواه الطيالسي " انتهى من " خطبة الحاجة " (ص10) وعلى فرض صحة الزيادة فالمقصود بها غير النكاح من الكلام والمواعظ ، وليس الكتابة والتأليف .
وأما الدليل الثالث فهو محل الخلاف ، فلا يستدل بموضع النزاع ، كما لا ينبغي أن يستدل برأي بعض العلماء على الآخرين ، وإنما العبرة بالسنة النبوية المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله . 
وحين نقول بعدم السنية فذلك لا يعني عدم الجواز ، فلا مانع أن يستفتح الكتاب بخطبة الحاجة أحيانا ، ولكن ذلك لا يعني الاستحباب والندب . 
هذا فضلا عن أن كل من بدؤوا بعض كتبهم بخطبة الحاجة : كان هديهم الأكثر على خلاف ذلك ، فالطحاوي لم يفتتح سوى كتاب واحد بهذه الخطبة ، أما بقية كتبه فلم يفعل . وكذلك الشأن لدى كل من ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله جميعا .
وجواب الشيخ الألباني رحمه الله عن ذلك بقوله : " هي ليست فرضا حتى لا تترك ، بل قد يكون العكس هو الأصوب ، وهو تركها أحيانا ، حتى لا يتوهم أحد فرضيتها ".
انتهى من " خطبة الحاجة " (ص/42) .
مثل هذا الجواب يصلح لو كانت ثبتت الحجية بأدلة صريحة من قول النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على بداءة الكتب بها أو فعله ، ولكن لما لم يثبت ذلك فترك العلماء لها يؤيد عدم سنيتها.
يقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله :
" وهؤلاء المؤلفون من علماء الإسلام ، لا تراهم كذلك ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، فإنه في كتبه وفتاويه يفتتح بها تارة ، وبغيرها تارة أخرى .
ولهذا فإن ما تشاهده وتسمعه في عصرنا من التزام بعض الكتاب بافتتاح رسائلهم بها ، وخطبهم بها ، كل هذا التزام لا أعرفه في الحياة العملية في هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم ، ولا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان ، ومن ادعى فعليه الدليل .
بهذا التقرير تعلم فقه أصحاب السنن رحمهم الله تعالى في ترجمة خطبة الحاجة في " كتاب النكاح " وتقرير العلماء بمشروعيتها بين يدي عقد الزواج " انتهى من " تصحيح الدعاء " (ص/454-455)، وانظر : " معجم المناهي اللفظية " (ص: 590) .
فالخلاصة : 
أن الهدي العام في المؤلفات هو البداءة بالبسملة ، أو الحمدلة العامة بأي صيغة ترد ، أما خطبة الحاجة المشتملة على ألفاظ معينة وآيات محددة : فليست سنة في المؤلفات والمصنفات.
بل قد قال كثير من العلماء إنما تستحب في خطبة النكاح فقط ، لأنك عند البحث والتفتيش تتبين أن عشرات المحدثين والفقهاء في كتب الفقه والحديث إنما أوردوا خطبة الحاجة في معرض أبواب النكاح وآدابه وأحكامه ، ولو رحنا نسوق ذلك لطال المقام بنا جدا . 
والله أعلم .

الأدلة والأمثلة على وجود البدعة الحسنة من السنة والآثار





- 1- عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: »من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء«(1). قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: »سنة حسنة« أي طريقة مرضية يُقتَدى بها، والتمييز بين الحسنة والسيئة بموافقة أصول الشرع وعدمها.اه.

 2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من استن خيراً فاستُن به كان له أجره كاملاً ومن أجور من استن به، لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن استن سنة سيئة فاستُن به، فعليه وزره كاملاً ومن أوزار الذي استن به لا ينقص من أوزارهم شيئاً« (2).

3 -عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من سن سنة حسنة فعمل بها بعده كان له أجره ومثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سنَّ سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزره ومثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً«(1).

4 -عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من سن خيراً فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً، ومن سن شراً فاستُن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً«(2).

5 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: »من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد«(3).
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الأمور المحدثة الموافقة للشرع مقبولة، والمخالفة للشرع مردودة، والدليل واضح كالشمس. فهذه الأحاديث تُثْبت وجود البدعة الحسنة والبدعة السيئة، فمعنى »من سن سنة حسنة« أي اخترع طريقة أو أمراً في الدين موافقاً للشرع. ومعنى: »من سنة سنة سيئة« أي من اخترع أمراً في الدين مخالفاً للشرع.

ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم عما أحدثه الصحابة واخترعوه بأنه »سنة« فقال: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين« فإحداث الصحابة أمراً ليس إلا صورة عما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة ما أحدثه الصحابة هو اختراع في الدين، ولكن لما كان موافقاً للشرع كان حسناً، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم »سنة« ويطلق عليه »بدعة حسنة« كما قال سيدنا عمر في اجتماع الناس على التراويح: »نعمت البدعة هذه« رواه البخاري. ومن حمل قوله »البدعة« على البدعة اللغوية فقد أخطأ، لأن الصحابة لما كانوا يطلقون قولهم: »هذا العمل بدعة« فإنهم يقصدون البدعة الشرعية لا اللغوية، ولم يكن هذا الإطلاق »البدعة اللغوية« معهوداً عند الصحابة، والمقام مقام الكلام على صلاة التراويح وهي من أمور الشرع.

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء« أي عليكم بمنهجيتي وطريقتي ومنهجية أصحابي وطريقتهم.
فسنة الصحابة سنة قياسية، إذن هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من جاء بعد الصحابة من العلماء الربانيين سنتهم الموافقة للشرع سنة قياسية، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذوا الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:»من سن سنة حسنة«. وحَصْرُ اختراع السنة في السلف جمود ظاهر تأباه النصوص، فكل سنة قياسية هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث »كل بدعة ضلالة« فهو عام مخصوص خصصه الحديث الصحيح »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« فلو كانت كل بدعة ضلالة بلا استثناء ولا تخصيص لقال النبي صلى الله عليه وسلم: »من أحدث في أمرنا هذا شيئاً فهو رد« ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« فأفاد صلى الله عليه وسلم بقوله هذا أن من أحدث في أمر الدين ما هو منه فليس برد، وهذا تقسيم صريح للبدعة إلى حسنة وسيئة.

وفي رواية للبغوي(1): »من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد«. وفي رواية لمسلم: »من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد«. وأفاد هذا الحديث برواياته ما يلي:
أ جواز إحداث البدعة الحسنة إذا كانت موافقة لأصل من أصول الدين.
ب عدم جواز إحداث البدعة إذا كانت مخالفة لأصل الشرع، يؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: »أمرنا« و»ديننا« فهو شامل لكل المحدثات سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غير ذلك، لأن كلمة »ديننا« و»أمرنا« كلمة عامة، فكل ما له أصل عام فهو مقبول يندرج تحت البدعة الحسنة، وكل ما ليس له أصل عام فهو مردود من البدع السيئة، وهذا نص الحديث ينطق بالحق.

ج يؤخذ من الحديث جواز فعل وإحداث أمور لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشترط في كل فعل أن يكون موجوداً في عهد السلف.
6 - قال سيدنا عمر رضي الله عنه في اجتماع الناس على صلاة التراويح: »نعم البدعة هذه« (1).

ونعم كلمة مدح، والمقام مقام شرع لا مقام لغة، ولذلك احتج الإمام المجتهد اللغوي الحجة محمد بن إدريس الشافعي بهذا الحديث على تقسيم البدعة إلى بدعة محمودة، وبدعة مذمومة.
فانظر إلى قول الشافعي المولود (150ه) حيث جعل من البدع الحسنة الأمور المحدثة من الخير، ولا خلاف في هذه الأمور لكتاب ولا لسنة ولا لإجماع، وليس في هذه الأمور رد للنصوص. وليس في عمل الشيء المتروك في العهد النبوي (مخالفة) أو(رد) لنصوص الشرع، فلم يعبر أحد من العقلاء ب(الترك) عن المخالفة والمناقضة للنصوص.

فتقسيم الشافعي للبدعة إنما هو للبدعة الشرعية وهو واضح وجلي، واحتج على ذلك بقول سيدنا عمر. والذين حصروا البدعة ب (البدعة المذمومة) لم يجدوا مصرفاً كما قال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره(1). وتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة هو رأي الجمهور وهو الصحيح كما قال العلامة ابن الشاط في تهذيب الفروق، وهو التحقيق كما قال العلامة الشوكاني في نيل الأوطار(1).
وقد استدل بعض الناس بأن كل مالم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمنه فهو بدعة. وهذا قول خطير جداً يهدم شطراً عظيماً من الدين، فكم من محدثات حدثت في عهد الخلفاء، ومن بعدهم من الصحابة والتابعين، وأقروها لأنها تندرج تحت أصل عام من أصول الشريعة.

وليس الترك حجة ولا دليلاً على المنع والتحريم، كما هو معلوم في أصول الفقه وقواعد الشريعة، فإن الترك قد يكون للتحريم، وقد يكون للكراهة، وقد يكون للإباحة، إلى غير ذلك، كما بسطنا الكلام فيه سابقاً. وأكبر دليل على رد هذا الافتراء أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ما أحدثه الخلفاء »سنة« مع أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما كان مندرجاً تحت أصل من أصول الشرع صار مقبولاً، ويرد على المخالفين قوله صلى الله عليه وسلم:»من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« فمفهومه أن من أحدث في أمرنا وديننا هذا ما هو منه فهو مقبول، لأنه مندرج تحت أصل من أصول الشرع، فهناك محدثات ليست من الدين فهي مردودة، وهناك محدثات من الدين فهي مقبولة. فالإحداث مستمد أصله من السنة التقريرية كما تقدم.

7 - وقال الإمام التابعي مجاهد بن جبر رحمه الله:
دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا نحن بعبدالله بن عمر، فجالساناه، قال: فإذا رجال يصلون الضحى، فقلنا: يا أبا عبدالرحمن، ما هذه الصلاة؟ فقال: بدعة، فقلنا له: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعاً، إحداهن في رجب. قال: فاستحيينا أن نرد عليه، قال: فسمعنا استنان أم المؤمنين عائشة، فقال لها عروة بن الزبير: يا أم المؤمنين، ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمن؟! يقول: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً، إحداهن في رجب؟! فقالت: يرحم الله أبا عبدالرحمن، أما إنه لم يعتمر عمرة إلا وهو شاهدها، وما اعتمر شيئاً في رجب(1).
وقد قصد سيدنا عبدالله بن عمر من قوله (بدعة) البدعة الشرعية الحسنة، ودليل ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة(2) بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج عن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى؟ فقال: بدعة ونعمت البدعة. وله طريق آخر.

وما رواه عبدالرزاق(1) بإسناد صحيح عن سالم ابن عبدالله عن أبيه عبدالله بن عمر قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها (يعني ما أحد يصلي صلاة الضحى) وما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها.
وقد صحح هذه الأسانيد الحافظ ابن حجر (2).
وفي قوله رضي الله عنه: »ونعمت البدعة« وقوله: »ما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها« دليل واضح وناصع على أن مقصوده من البدعة البدعة الحسنة؛ لأنه أطلقها على صلاة الضحى، وجعلها من المحدثات المحببة إليه، ولا معنى البتة لحمل البدعة هنا على المعنى اللغوي.

ومن حمل قول سيدنا عمر وابنه عبدالله: »نعمت البدعة« على البدعة اللغوية فقد أخطأ. وتشديدُ بعض الناس وإصرارهم على هذا القول يوقع الصحابة الكرام بأمر خطير، وذلك لأن حملهم البدعة هنا على المعنى اللغوي يجعلهم يعُدُّون ما فعله سيدنا عمر ووافقه عليه الصحابة أمراً منكراً وبدعة ضلالة؛ لأن هؤلاء المصرين يجعلون كل بدعة ضلالة، وصلاة الصحابة التراويح جماعة إما أن يكون حسناً في الشرع أو سيئاً، فأما كونه سيئاً، فهو قول أهل البدع، وأما كونه حسناً فهو إجماع الأمة.
ومما يؤكد أن قول سيدنا عمرو ابنه: »نعمت البدعة« مراده البدعة الحسنة استناد الإمام الشافعي رحمه الله في تقسيمه البدعة إلى حسنة وسيئة إليه، كما مر آنفاً، ومعلوم أن الشافعي رحمه الله من أئمة اللغة ومن المجتهدين في الشرع.

وإنه رحمه الله قد قسَّم ههنا الأمور الشرعية لا اللغوية، واستشهاد الشافعي بفعل سيدنا عمر على البدعة الحسنة، قاطع، وناسف لقول من يقول:المقصود البدعة اللغوية.
ثم إن سؤالاً يطرح على المعترضين:
ماذا تقولون بفعل الصحابة وصلاتهم عشرين ركعة جماعة هل هو من البدع أم من السنن، فإن قلتم: من البدع المنكرة، فقد هلكتم وطعنتم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاءالراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ«.
وإن قلتم: فعلهم من السنن ولكن لا يقال: بدعة حسنة، وإنما سنة حسنة. فنقول: لا مشاحة في الاصطلاحات. وعليكم أن تقروا بكل فعل ليس معارضاً لأصول الشريعة وتسموه سنة حسنة.

ثم إن الصحابة كانوا يسألون أحياناً عن بعض الأمور المذمومة، فيقولون: (بدعة).
فترى المشاغبين يحملون هذا القول على البدعة الضلالة ويجعلونها بدعة شرعية. وعندما أطلقها الصحابة على الأمور المحمودة رأينا المشاغبين حملوها على المعنى اللغوي فقالوا: (بدعة لغوية) فسبحان الله على هذا التناقض؟!!!

الأدلة والأمثلة على وجود البدعة الحسنة من السنة والآثار

اثبات وجود البدعة الحسنة
1- جمع سيدنا عمر صلاة التراويح
2- التزام دروس الوعظ يومياً في رمضان
3- دعاء ختم القران في التراويح 
4- تكرار العمرة في رمضان
5- افتتاح المحافل الخطابية بقراءة آيات من القرآن
6- اقامة المسابقات والاحتفالات لحفظ القران او السنة او الخطابة وغير ذلك
7- انشاء المنظمات التي تعتني بالدعوة والاغاثة وشؤون المسلمين
8- عقد المؤتمرات والندوات
9- اقامة دورات صيفية
10- الايام الوطنية والاحتفال بذكراها
11- تحري المناسبات للتكلم في المناسبة
12- الزخاف والتشكيلات في المساجد
13- جمع القران الكريم
14- ضبط القراءت
15- طباعة المصاحف
16- وجود العلوم الشرعية والتصنيفات
أ- علوم القران
ب- علوم الحديث
د- علم الفقه
ھ- علم العقيدة
ع- علم النحو
س- علم الصرف
و- علم البلاغة
ر- وغير ذلك من العلوم


"سلفية" أم - ناصرية؟!.. السلفيون لايقبلون الفتاوى أئمة السلف وكأنهم يفتون بغير دليل . أما فتاوى شيخ ناصر ومدخلي وشيوخ حزبهم لايحتاج الى دليل !!!



ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به
 "سفيان الثوري"

(1) يتعامل "السلفيون" مع مسائل الفقه كما يتعامل المسلمون مع قوله تعالى: (أفي الله شك) (إبراهيم:10)، فالرأي الذي يَرونَه هو الرأي، والقاعدة عندهم معكوسة منكوسة، فرأيهم صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيرهم خطأ لا يحتمل الصواب!.

 وهذا المنحى مخالف لمنهج السلف في الاجتهاد( )، فما زال العلماء يختلفون فلا يُنكر بعضهم على بعض، ومازالوا يُنبهون على أن الخلاف في مسائل الفقه، لا يقتضي موقفا من الآخرين،
  
وهذه بعض عباراتهم:

قال سفيان رحمه الله: "إذا رأيتَ الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلِفَ فيه وأنت ترى غيره فلا تنههُ".

 وقال أحمد رحمه الله: "لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناسَ على مذهب ولا يُشدد عليهم"
  
وقال ابن تيمية رحمه الله: "والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قولَ بعض الفقهاء، ووافق قول بعض آخرين، لم يكن لأحد اًن يُلزمه بقول المخالِف، ويقول: هذا خالف الشرع"



(2) وقد سبق وأشرتُ إلى بعض المسائل في المبحث السابق التي ألحقها "السلفيون" بدائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( )، مثل مسألة اللباس، والإسبال، وصيام السبت،... وللحقيقة فإن البعض ما عاد يُثير هذه المسائل، لكن الجو العام عند "السلفيين" النظر لمن يخالفهم فـي هذه المسائل نظرة انتقاص، حتى إن بعضهم يتحرج من الصلاة خلف المتَبَنْطِل!.


ولعلهم - وهذا ظن مني - يَعدون الأخذ باختياراتهم في هذه المسائل من الأولويات، أولويات الدعوة، لأنهم يفهمون - وهذا ظن مني أيضا- أن الالتزام بهذه المسائل داخل في قول الإمام مالك رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"!.



(3) والذي يظهر لي - والله أعلم - أن الآفة السابقة مرتبطة ارتباطا عضوياً بالآفة التالية: وهي أن "السلفيين" يتعاملون مع فقه الشيخ ناصر - مثلاً- واختياراته، وكأنه فقه السلف، هكذا بالألف واللام الدالتين على العهد والاستغراق "ونتيجة لهذه الآفة تتشكل القضية في عقل "السلفي" على النحو التالي:


إذا كان هذا هو فقه السلف، فالفقه الآخر خارج عن فقه السلف، وهي معادلة تلقي في رُوع "السلفي" تلقائيا أن الفقه الآخر فقه مذموم. وهي نتيجة لها انعكاس على السلوك والمواقف.


(4) علم نفس الدليل!



والسؤال المهم في هذا السياق هو: لماذا يتصرف "السلفيون" هكذا؟! لأن هذه الآفة مبنية على مقدًمات عن الإتباع، والدليل، والسلف، والحديث الصحيح، والتزام السنة، وفتح باب الإجتهاد،....، وكما ترى فإنها مقدمات صحيحة، فلا اعتراض عليها، وإنما البحث في كيفية التعامل معها، وفي المآل الذي آلت إليه طريقة "السلفيين" في استخدامها. والذي يحدث أن المسلم إذا عرف عن عالم بأنه يأخذ بهذه المقدمات ويدعو إليها، ينشأ عنده نوع من التسليم لفتاوى هذا العالم من دون نقاش، وقد كنت ألحظ هذا المزلق من نفسي: فعندما كنت أسمع فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - مثلاً- أجد اطمئنانا وقبولاً لا أجده عندما أسمع فتوى للشافعي رحمه الله، أو لغيره من المجتهدين، وكأنهم يُفتون بلا أدلة! وهذا هو موقف "السلفي" من فتاوى الشيخ ناصر - رحمه الله - حيث يتقبلها باستسلام لوجود نفس المقدمات - المشار إليها - في ذهنه، وهو بعد ذلك يحاول فرض الفتوى على الآخرين من خلال التقديم بهذه المقدمات، فتفعل فعلها في نفوسهم. ولك أن تُسمًيَ هذه الحالة بعقدة الدليل، أو برعب الدليل( ). هذا هو السبب - باختصار- الذي يؤدي إلى التعامل مع فتوى الشيخ


بما يلي:1- بنظرة أحادية، أي أنها الحق الذي لا مِرية فيه، وغيرها خطأ لا صواب فيه!.


2- بأنها هي "الفتوى السلفية".


(5) لقد أدى هذا الوضع إلى قيام مذهب جديد، بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، أو لنقل بكل الأركان التي لا بد من توفرها لقيام مذهب، فهناك: إمام مجتهد، ومؤلفات، ومنهج أصولي، وفتاوى، ومقلدون متعصبون! فماذا بقي؟! أليس هذا مذهباً؟.



.وحتى لا اُفهم بصورة خاطئة فإنني أًبين ما يلي:


لا اعتراض على أن الإمام مجتهد، ولا على أن الفتاوى مهمَّة ونافعة، ولا على أن المنهج الأصولي - في أغلبه - صحيح، ولا على أن الفتاوى المستمدة من هذا المنهج علميَة( ) - في أغلبها-، إنما الاعتراض على المقلدين المتعصبين، وعلى المقلد الذي يرى ويسمع ولا تعليق!.


  
(6) وعليه فلك أن تعجب، إذا عرفت أن منهج أهل السنة العلمي الذي دعا إليه "السلفيون" منذ زمن - عدمُ وضع أي عالم مهما بلغت درجته العلمية في منزلة من لا يُسأل عما يُفتي، أو عمَا يُصحح ويُضعف من الأحاديث. وإليك بعض الأمثلة الدالة على ما قلت: المثال الأول: يعرف طلاب الحديث أن وصفَ عالم لكتابه بالصحيح لا يعني أنه كذلك، ويعرف طلاب الحديث - لذلك عدم كفاية الإحالة - عند التخريج - على كتاب وُسِم بالصحة، أو على حديث صحًحه أحد النقاد دون مراجعة. وهذه قاعدة أكد عليها "السلفيون" كثيراً، وقد سِرنا على ذلك مع أمثال أبي داود، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبَان... حتى إذا استقرت القاعدة أو كادت، إذا بالكتبة "السلفيين" يُخرجون الأحاديث في الحواشي بطريقة رفضوها في حق الترمذي وأقرانه، وقبلوها في حق الشيخ ناصر فما ينفع القارئ أن يقول له كاتب "سلفي" صحيح الجامع، أو صححه شيخنا؟! هذا مع أنَهم لا يقبلون من مخرج قوله: حسنه الترمذي.


 فإن قيل: ثبت أن تحسين الترمذيَ لا َيطرِد قلنا: وثبت أيضا أن تصحيح الشيخ لا يطرد.

  
المثال الثاني: ما معنىْ أن يؤلف "السلفيون" كتباً عارية من الدليل؟ ولماذا علي أن أقبلها، في الوقت الذي يحرم علي فيه أن أعتمد على كتاب لعالمٍ ليس "سلفياً" خلى من الدليل؟ الجواب واضح إذا استحضرت عقدة الدليل: فالأول يقول لك: لقد اعتمدتُ الدليلَ الصحيح، ولقد تحريتُ اتباع السنة، ولم أتعصب، ولم أقَلد الرجال؟. الخ هذه العناوين التي ما أنْ يقرأها المسلم حتى يَقبل تبنًيات الكاتب "السلفي" باستسلام مُطلق.


 . ..المثال الثالث: حذر العلماء سابقاً من نمطٍ من الطلاب الذين يعتمدون على الكتب وحَسْب، وسمَوا من هذه حاله "بالصُحفي ". ومع تقدم وسائل الإتصال! نَبَتَ طلاب من نمط جديد يعتمدون على الهاتف، لا مانع من تسمية من هذه حاله "بالهاتفي "! فمن هذا "الهاتفي"؟ إنه الذي يتصل بالشيخ ناصر ليستفتيه، فيجيبه الشيخ باختصار يتناسب مع الوقت المخصص للمكالمات، فإذا حاول السائل التحقق والإضافة يضيق الشيخ به، ولا يسمح بالإطالة، وإلى هنا، لا حرج ولا تثريب. لكن الحرج والتثريب في طيران ذلك.. "الهاتفي" بالفتوى لينشرها على الملأ،

  
وهو لا يدري -لأنه "هاتفي "- من أين أخذها الشيخ، ولا كيف استنبطها، وهل إذا كانت صالحة لنازلته، تصلح لكل نازلة؟ وكيف يُحقق مناطها؟ وتجده إذا سئل أجاب، وإذا نوقِش ناقش، فإذا سألته من أين لك هذا؟ أجابك -وهو مسرور-: سألت الشيخ على الهاتف: ثم بعد ذلك يقول لك أنا مجتهد، أنا مُتبع! حبذا الصحف، وحبذا التقليد، في زمن الهواتف والتقييد

  
(7) هناك ظاهرة أخرى مهمة، وهي صالحة لتُجعل سبباً من أسباب رفض كثير من الناس اتَباع منهج السلف، وهي صالحة - كذلك - لتُلحَقَ بكل المباحث، لأنها سبب في مخالفات "السلفيين" لأهل السنة. إنها ظاهرة الضعف في الأصول، والفهم الدقيق الذي يفصل بين الامور. وهي ظاهرة شكى وحذر منها العلماء قديماً أعني علماء الحديث من أهل السنة، وليس غيرهم: فلقد شكى الخطيب البغدادي من صِنف ينتسب إلى الحديث، ولا يتفقه فيصبح بسلوكه ومواقفه مثلبةً للمدرسة التي ينتمي إليها.



قال رحمه الله: "وإنما أسرعت ألسنةُ المخالفين إلى الطعن على المحدثين لجهلهم أصول الفقه وأدلته في ضمن السنن، مع عدم معرفتهم بمواضعها"( ).


وقال: "وليُعلم أنَ الإكثار من كتب الحديث وروايته لا يصير بها الرجل فقيها، إنما يتفقه باستنباط معانيه وإمعان التفكر فيه"( ).



وقال: "ولا بد للمتفقه من أستاذ يدرس عليه، ويرجع في تفسير ما أشكِل إليه، ويتعرف منه طرق الاجتهاد، وما يُفَرق به بين الصحة والفساد"( ).



وقد لاحظ الذهبي رحمه الله! ما لاحظه الخطيب، فقال عن محدثي زمانه: "فغالبهم لا يفقهون"( ). ونحن إذ اصطدمنا بما اصطدم به الخطيب والذهبي رحمهما الله، لا نزيد عن التحذير مما حذرا، ونُسجل رفضنا السلوكات وفقهيات صارت عنواناً على مدرسة الحديث ومنهج السلف، فإن أحفاد أولئك( ) متوافرون يشوهون المدرسة، ويسيئون للمنهج.



(8) ظاهرة أخيرة، وهي تصدر الأصاغر للفتيا، وهجومهم على التصنيف! وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لن يزال الناس بخير ما اخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا اًتاهم عن أصاغرهم فقد هلكوا".



الملاحظ أن الإكثار من جمع كتب الحديث، وحفظ الأحاديث الضعيفة، أصبحا دليلا -شبه وحيد - من أدلة تحقق العلم والانتساب إليه، ولما كانت هذه ميسورة هذه الأيام أصبح الأصاغر مقصودين! وانتشرت.. "جرثومة" اسمها. "جرثومة" التحقيق والفهرسة، فما أن يدور "الفتى" حول نفسه دورة أو دورتين حتى تصبح غاية طموحه، ومنتهى أربه تحقيق كتيب، أو إعداد فهرس، وهو إن فعل ذلك أصبح من المشار إليهم بالعلم!.



لقد تحول الواجب الذي نادى "السلفيون" به وهو (العلم قبل العمل)، إلى نوع من الاحتراف، وأصبح التصنيف ممسوخاً في شكل تحقيقات لكتيبات في مواضيع ممجوجة أنهكِت بحثا، مع أن المكتبة الإسلامية تفتقر لأبحاث جادة تجبر النقص، وتغذًي احتياجات الحياة المعاصرة؟. ولكن لأنها مواضيع يلزمها علماء حقيقيون، يتمّ الهروب إلى الفهرسة واجترار الرسائل التي وَصَفتُ، فهذه يستطيعها الفنيون( ).



(9) وأخيراً، فقد كان المأمول أن يبقى "السلفيون" متمسكين بالشعارات التي رفعوها عن التعصب المذهبي والغلو في الأئمة، وجمع شمل الأمَّة، والتواضع العلمي، والتضلع بالعلم، وعند جعل باب من أبواب العلم دليلاً - وحيداً- على علم العالم... ولكنهم - وللأسف - تنكًبوا كل ما رفعوه، فخالفوا منهج السلف.



والناظر في أحوالهم يلمس غلواً في مشايخهم، وتعصبا لأقوالهم التي غدت مذهباً يوالون ويعادون عليه،واستعلاءً علميا بحيث لا عالم عندهم إلا الذي يقرأ بعض الكتب، ويتشدق بمصطلحات خاصة. إن الأصل الأصيل من أصول أهل السنة جمعُ شمل الأمة، وعدم تمزيقها إلى مذاهب وفرق، ولقد كان الظن "بالسلفيين" تحقيق هذا الأصل، ولكنهم تحولوا إلى مذهب جديد، فرسخوا التشرذم، وعمقوا - بممارساتهم المذهبية- الفُرقة. فانطبق عليهم ما قاله الشاعر:



أتينا إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فمالنا من سعد