نصوص الوحيين وافرة في النهي عن الظلم وذمه وتقبيحه والسعي في دفعه واجتنابه ، والأمر بالعدل والحض عليه.
فمن الأدلة على تحريم الظلم في الكتاب العزيز:
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }
{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}البقرة229
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ }الأنعام47
{إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }الأنعام135
فعاقبة الظلم مبينة في آيات الكتاب العزيز وفيها الوعيد بالإهلاك والخذلان والعذاب وسخط الله واللعنة والخسار .
قال تعالى في الحديث القدسي:(( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )) رواه مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل .
روى مسلم في صحيحه حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .."
وروى البخاري في صحيحه من حديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم
وروى أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي بكر الصديق أَنَّهُ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ"
روى البخاري من حديث مَعقِل بن يَسارقال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ " .
فالظلم محرم بالكتاب والسنة والإجماع والعقل .
وقال الشوكاني في السيل الجرار (4/586) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما العمادان العظيمان من أعمدة هذا الدين والركنان الكبيران من أركانه .أهـ
والله يحب من عباده الإصلاح والطاعة ويكره الفساد والمعصية ، فالإصلاح والطاعة علامة على أن العباد شكروا نعمته سبحانه فيباركها لهم ويزيدهم من فضله ، وأما المعصية فعلامة على الجحود والنكران فيسلبهم الله نعمه ويمحق بركتها ،وينزع هيبتهم من صدور أعدائهم فيتسلطون على المسلمين كما هو واقع الآن ، فالمتظاهرون المطالبون بالعدل والإصلاح هم سبب بقاء الخيرية في أمة الإسلام وسبب بقاء النعم ، فبهم تدفع النقم ، فكيف يكون احتشادهم للمطالبة بالعدل والإصلاح فساداً وانحرافا؟!
فهؤلاء الحكام المسرفون قد أهلكوا رعيتهم بالجور ، فقد استعانوا على تدبير الملك وتسيير شئون الأمة بمن ليسوا أهل ثقة وديانة ، فقل الخير وزاد الشر وضج الناس بالشكوى لمصابهم في الدين والدنيا .
وربما يعترض أحد على إطلاق القول بجواز المظاهرات السلمية بأن المبادرة بالاحتشاد والتظاهر قبل المناصحة الهادئة لأولياء الأمور مخالفة لما كان عليه السلف من المناصحة سرا قبل أن يتكلم به على المنابر وفي دروس العلم ومنتديات الناس ، فنقول: أولا قد سئم المصلحون من تكرار النصح وتجرع الغصص بعدم الاكتراث ، بل في كثير من الحالات يصيب الناصحَ الأذى والعنت والسجن لتجرؤه على توجيه النصح لولي الأمر، فلم يبق أمام الناصحين المطالبين بالتغيير والإصلاح إلا هذه الوسيلة المشروعة الناجحة .
وأيا ما كان الأمر فقد أجاز بعض أهل العلم أن يكون الإنكار معلنا إن غلب على الظن أن الحاكم قد يتسلط على من ينكر عليه فيؤذيه أو يسجنه ، فيجوز عند غلبة الظن بذلك المبادرة بالإنكار العلني وهو ما ذهب إليه الجصاص في أحكام القرآن عند تفسيره لقول الله تعالى { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قضية استئذان الحاكم في تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية :
ذهب قوم من أهل العلم إلى اشتراط إذن الإمام أو الوالي للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وذهب جمهور فقهاء المذاهب إلى عدم اشتراط إذن الإمام وولي الأمر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وردوا على الفريق الأول: بأن الآيات والأخبار الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عليه عصى إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له.
وقال الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد الغنيمي في كتابه حكم تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية
يثير البعض قضية استئذان الحاكم في التغيير، بمعنى أنهم يقولون: نعم لآحاد الرعية أن يغيروا ولكن لا بد من إذن الحاكم في ذلك.
والحق أن النصوص التي أوردناها كما أنها تدل على أن التغيير باليد ليس خاصاً بالحكام فإنها أيضاً تدل على عدم اشتراط استئذانه في التغيير، وهذا الشرط تحكمٌ لا دليل عليه، فهو شرط باطل ولا شك.
يقول الغزالي رحمه الله: ((هذا الاشتراط فاسد؛ فإن الآيات والأخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عليه عصى، إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له)) .
وقال: ((بل أفضل الدرجات كلمة حق عند سلطان جائر، كما ورد في الحديث فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه؟)).
وقال: ((واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بمعروف، فإن كان الوالي راضياً فذاك وإن كان ساخطاً له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يُحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه؟)).
فإذا كانت المظاهرات من قبيل تغيير المنكر فقد نقل النووي الإجماع على عدم اشتراط إذن الولاة في التغيير .
قصة حلف الفضول والتي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(لقد حضرت حلفاً في دار ابن جدعان ما أود أن لي بها حمر النعم,ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت)
وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول وهو حلف كان في الجاهلية أقامه جماعة من أهل مكة تعاهدوا فيه أن ينصروا المظلوم ويعينوه حتى يستوفي حقه من ظالمه ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : فَاجْتَمَعَ بَعْض مَنْ كَانَ يَكْرَه الظُّلْم وَيَسْتَقْبِحهُ إِلَى أَنْ عَقَدُوا الْحِلْف , وَظَهَرَ الْإِسْلَام وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
واتفقوا في هذا الحلف على نصرة المظلوم ، وتعاهدوا على ذلك ، ثم قاموا لفورهم لتصديق ما تعاهدوا عليه ، فانطلقوا مجتمعين في تظاهرة حاشدة وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم قاصدين الرجل الذي ظلم اليماني ، فلما رآهم الرجل الظالم دخله الخوف منهم وأذعن لأمرهم برد الحق لصاحبه.
وصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم شاركهم في ذلك وهو صغير مع بعض أعمامه ، لكنه صلى الله عليه وسلم أثنى على الحلف بعد البعثة كما في الحديث وقال فيه: " لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت" لما فيه من المروءة والنجدة ونصرة المظلوم وهي قيم أخلاقية أعلى الإسلام مقامها ورفع شأنها .
وهل الاعتصام والمظاهرات السلمية إلا من هذا الباب لإرغام الحكام الظلمة على كف الظلم ورد الحقوق .
وثمة معنى دقيق وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم يثني على حلف قام لنصرة المظلوم وقد كان المظلوم آنذاك كافرًا ، فكيف لو كان الاجتماع من أجل التعاون على رفع الظلم عن جماعة المسلمين ، فإنه يكون آكد وأشدَّ وجوبا .
وقد سجل تاريخ الإصلاح وإنكار المنكرات في تاريخنا صفحات مشرقة سجلها ابن الجوزي في كتابه المنتظم : ذكر فيه قيام عدد من كبار العلماء الشافعية والحنابلة بالاجتماع والاعتصام لإنكار المنكرات التي فشت في بغداد آنذاك من بيع النبيذ وظهور المواخير وشيوع الفحش ، والبيوع المحرمة ، وارتفعت أصواتهم مستغيثين بأمير المؤمنين مطالبين بتتبع مواطن الفساد ، فتقدم أمير المؤمنين فهرب المفسدات واختفت الأنبذة وكبست الدور ، فنجحت المظاهرة ، واستحسنها العلماء لما آلت إليه الأمور من زوال المنكرات وارتداع المفسدين والمفسدات .
ومما ذكره ابن الجوزي في كتابه المنتظم أيضا ما قام به جموع المشايخ ومعهم كثير من الناس من الاحتشاد لإنكار بدعة شتم الصحابة حين فشت في أهل الكرخ ، وقصدت المظاهرة قصر الخليفة والناس في حال غضب ، فأرسل إليهم الخليفة يقول لهم: : قد أنكرنا ما أنكرتم ، فانصرفت الجموع .
وثبت أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خرج مع جمع كبير من الناس ليغيروا منكرا ، وبقي معهم في هذه المظاهرة السلمية حتى غيروا ذاك المنكر.
فهؤلاء أئمة مشهود لهم بالرسوخ في العلم والأمانة والديانة ، احتشدوا وتجمهروا مع الناس لإظهار النكير على الظلم ، فكانوا أعوانا على الإصلاح ودفع الظلم ، لا أعوانا للظلمة على ظلمهم وفسادهم .
رسالة بعنوان ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محبّ الدين الخطيب
وقد فعل ذلك الإمام البربهاري ومعه جموع غفيرة من طلابه ومن عامة الناس ، يخرجون في مظاهرة حاشدة ينكرون المنكرات .
فدعاة الإصلاح حين يتواعدون إلى ساحة كبيرة في موعد محدد ليجتمع الناس لينذروا السلطة برفضهم للمنكرات الموجودة والمظالم المتفشية في المجتمع ، ويطالبونهم بالإصلاح ، حين يفعلون ذلك إنما هم متبعون سنن السابقين من أئمة الدين ، ولا ريب أن الإنكار الجماعي أبلغ تأثيرًا وأقرب لتحقيق المقصود من الإنكار الفردي .
وروى الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 50 ، عن محمد بن أبي حرب قال : ( سألت أبا عبدالله – يعني أحمد بن حنبل - عن الرجل يسمع المنكر فـي دار بعض جيرانه ، قال : يأمره , قلت : فإن لم يقبل ؟ قال : تجمع عليه الجيران ، وتهوِّل عليه ) ، قال الشيخ حامد العلي : وقوله تجمع عليه الجيران ، وتهـوّل عليه أي ليكون ذلك أردع ، عندما يرى تظاهر الجيران كلُِّهم في الإنكـار .
قال العلماء المانعون من المظاهرات السلمية : هذا فساد وانحراف .
والحق أن الفساد في استمرار السكوت ، والانحراف هو تسويغ هذا السكوت.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( انصر أخالك ظالماً أو مظلوماً )) ثم بيّن صلى الله عليه وسلم أن نصرة الظالم بمنعه عن الظلم ، أما نصرة المظلوم فإنها واضحة متجلية لا ريب فيها ويكون بالوقوف معه وشد أزره والمطالبة برفع الظلم عنه.
ومن محاسن هذه الوسيلة في إنكار المنكرات والمطالبة برفع المظالم أنها تعرف الشعوب المغيبة تحت تخدير وسائل الإعلام المملوكة لهذه الأنظمة تعرفها بحقوقها ، فالدولة هي التي ترسم للإعلام السياسة التي تحقق مآربها وتغيب الشعوب عن إدراك مصالحها .
فلا يخفى ما تقوم به وسائل الإعلام في معظم الأنظمة العربية من الغش وكتمان الحقائق وتزييف الوعي ، وتضليل العامة بتحسين القبيح وتقبيح الحسن ، فتأتي المظاهرات السلمية التي تساهم في رفع سقف وعي الناس وتعريفهم بحقوقهم ، وفضح الممارسات الإجرامية في نهب الثروات والتواطؤ مع أعداء الدين والشريعة.
فعلى العلماء الذين سارعوا بالفتاوى بتجريم المظاهرات أن يبينوا للشعوب المسلمة أن التحريم والتجريم ليس على إطلاقه وأن المظاهرات السلمية المطالبة بالحقوق والإصلاح مشروعة ومستحبة عند اقتضائها .
ومما يلاحظ أن هذه الأنظمة الظالمة المسرفة في طغيانها وخياناتها تعمل ألف حساب لصورتها أمام دول العالم ، فنجدها تخفي جرائمها وتتظاهر بالعدل ومراعاة حقوق الإنسان ، فإذا سكتت الشعوب بسبب الخوف والقهر وبسبب التضليل الذي يمارسه الإعلام وبسبب الفتاوى المضلة التي يتقرب بها بعض من ينسب للعلم والوعظ إلى الحكام ، إذا سكتت الشعوب ظن العالم أن ما يقوله الإعلام الرسمي صحيح ، فتأتي المظاهرات السلمية لتُسمَع أصواتُ المظلومين ويفضح الظالمون القساة .
ولو كانت الشعوب واعية لما أوقفت مظاهراتها السلمية حتى يرتدع الظلمة ويكفوا أيديهم عن ظلم الناس في دينهم ودنياهم .
قال الله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )البقرة الآية 251 ومن أوضح مظاهر سنة التدافع المظاهرات والاعتصامات السلمية
ومن أقوى الأدلة على جواز المظاهرات السلمية للتنديد بالظلم والمطالبة بالحقوق ، الواقع الذي شاهدناه حيث سقط عدد من الطغاة المتجبرين ورفع الظلم عن الناس ونالوا الحرية في أن يظهروا شعائر الدين دون خوف من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ، وشفيت صدور المؤمنين برؤية الظالمين أذلة منكسرين أو صرعى في دمائهم مضرجين .
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .