الثلاثاء، 15 ديسمبر 2020

الاستمناء باليد ؟!

 تعقيب على فتوى ‎ ‎ (حول الاستمناء باليد)

مقال كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان تعقيبا على فتوى نشرت حول حكم الاستمناء باليد اعتبرها الشيخ ناقصة ولم تستوف الجواب الكامل للسائلة فنشر تعقيبا عليها نشر في مجلة التربية الاسلامية العراقية بعددها الثالث من سنتها الثامنة والعشرون الصادر في ربيع الاول 1407هـ / تشرين الثاني 1986م.

بقلم: الدكتور عبدالكريم زيدان

نشرت مجلة التربية الاسلامية بعددها الاول للسنة السابعة والعشرين فتوى شرعية جواباً على سؤال سائلة, وتدور هذه الفتوى على موضوع الاستمناء باليد, ويلاحظ على هذه الفتوى – على ما يبدو لي – ملاحظتان: (الاولى) أن المفتي لم يبدأ فتواه بنصيحة السائل بلزوم الزواج اذا كانت تخاف على نفسها العنت أو الوقوع في المحظور الشرعي ودليل هذه النصيحة, (الثانية) أن المفتي –أثابه الله – لم يذكر النصوص الفقهية من أقوال الفقهاء التي فيها ما يسند ما ذهب اليه في فتواه.

وتعقيبنا على فتواه يتعلق بهاتين الناحيتين حتى تكون المسالة واضحة في أنظار القراء الكرام وحتى لا يكون فيها شيء من اللبس أو الغموض او التشويش أو القاء الكلام جزافاً بلا دليل ولا برهان والله يقول الحق وهو الهادي الى سواء السبيل.

الملاحظة الاولى – النصيحة للسائلة:

1) قال الفقهاء رحمهم الله أن النكاح يكون واجباً اذا كان ضرورياً للوقاية من الزنا وعدم الوقوع فيه, فمن اقوالهم:

    أ-جاء في المغني لابن قدامة الحنبلي رحمه الله تعالى: والناس في النكاح على ثلاثة أضرب, منهم: من يخاف على نفسه الوقوع في المحظور أن ترك النكاح فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء ، لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام، وطريقة النكاح.

  ب-وجاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى:

المشهور عن أحمد أنه لا يجب –اي النكاح - للقادر التائق إلا إذا خشي العنت. وقال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج لا يختلف في وجوب التزويج عليه.

وقال ابن دقيق العيد: قسّم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري. وقال المازري المالكي: فالوجوب – اي وجوب النكاح - في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به.

   ج-في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما: قال النبي ﷺ(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) وجاء في تفسير هذا الحديث الشريف (خص الشباب بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ. وإن كان المعنى معتبرا إذا وجد السبب في الكهول والشيوخ أيضا ). وأما المقصود (بالباءة) فقد قال الامام الخطابي هو النكاح. وقال النووي رحمه الله المراد بالباءة الجماع, فيكون تقديره: من استطاع منكم الجماع لعجزه عن مؤنه النكاح فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء – أي الاخطاء.

ووجه الدلالة بهذا الحديث الشريف أنه يأمر الشباب بالزواج معللا ذلك بأنه أغض للبصر وأحفظ للفرج وأن هذا الخطاب يعم الشيوخ والكهول اذا وجد فيهم الداعي الى النكاح – أي الشهوة فيه – كما قال ابن حجر العسقلاني, وذكرنا قوله في أعلاه. ومعنى ذلك أن هذا العن يعتبر ايضاً في النساء, فالمرأة التي فيها الداعي الى النكاح – اي الشهوة فيه – فإنها تدخل في هذا الخطاب الشرعي وتؤمر بالنكاح اذا استطاعته, ليتيسر لها غض بصرها وحفض فرجها. ثم ان الاصل في الخطابات الشرعية العموم, أي عمومها لعموم المكلفين من الذكور والاناث الا اذا قام الدليل على التخصيص, ولا دليل هنا على التخصيص, لان المرأة محتاجة ابضاً الى غض بصرها وحفظ فرجها والطريق الى ذلك هو النكاح فتكون مخاطبة به.

2) وفي ضوء ما ذكرناه: الحديث الشريف ودلالته, وأقوال الفقهاء, فان على المرأة المسلمة السائلة أن تتزوج, فلا تمتنع من النكاح اذا جاءها الرجل المرضي ديناً وخلقاً, لا سيما وأن مؤنة النكاح هي على الزوج وليس على الزوجة,  (فالباءة) أي مؤن النكاح لا تحتاج المرأة الى تحصيلها لان الشرع الاسلامي أوجبها على الرجل لا على المرأة.

ولا يقال هنا أن اقوال الفقهاء يُراد بها الرجال لا النساء, لأننا نقول أن العلة فيما قالوه من وجوب النكاح عند الخوف من الوقوع في الزنا – عند القدرة على مؤن النكاح – هذه العلة متحققة في المرأة أيضا لان لها شهوة فاذا خافت على نفسها العنت والوقوع في الزنا وجب عليه النكاح, لان الاحكام تناط بعللها فاذا تحققت علة الحكم تحقق الحكم . هذه واحدة, والاخرى, أن الاصل في الاحكام الشرعية العموم: أي شمولها للذكور والاناث الا اذا قام الدليل على اختصاص أحد الصنفين بالحكم الشرعي. ولا دليل على اختصاص الرجل دون المرأة بوجوب النكاح عليه اذا قدر عليه وخاف على نقسه الوقوع في الزنا اذا لم يتزوج, بل ان وجوب النكاح على المرأة اذا خافت على نفسها الزنا أيسر وأولى من الرجل لان مؤنة النكاح على الرجل لا عليها كما قلنا.

3) اذا لم يتيسر للمرأة المسلمة السائلة النكاح, كأن لم يتقدم اليها خاطب, أو تقدم ولم يكن مرضياً في نظر الشرع, فماذا عليها في هذه الحالة؟ عليها في هذه الحالة –الى ان تتزوج – ما أرشدها اليه في الحديث الشريف وهو (الصوم) فانه لها وجاء. فاذا قدر وان الصوم لم يقطع شهوتها, او لم يحفظها الى الحد المطلوب فهل لها ان تفعل الاستمناء باليد؟ الجواب على ذلك يتبين من ذكرنا لأقوال الفقهاء رحمهم الله أولا ثم نبين رأينا في المسألة.

الملاحظة الثانية- أقوال الفقهاء والمفسرين في الاستمناء باليد:

4) ما جاء في كتب التفسير بصدد الاستمناء باليد:

    أ-جاء في تفسير النسفي في قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ). قال النسفي رحمه الله:

قوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ) أي طلب قضاء شهوة من غير هذين – أي الزوجة وملك اليمين - (فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)‏ الكاملون في العدوان. وفيه دليل تحريم المتعة والاستمناء بالكف لإرادة الشهوة.

    ب-وجاء في تفسير ابن كثير:

وقد استدل الامام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ... الى قوله تعالى: فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ).

    ج-وجاء في تفسير القرطبي:

قال محمد بن الحكم: سمعت حرملة بن عبدالعزيز قال: سألت مالكاً عن الرجل يجلد عُميرة. فتلا هذه الآية: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ). وهذا لانهم يكنون عن (الذكر) بـ (عميرة) ويسميه أهل العراق (الاستمناء). واحمد بن حنبل على ورعه يجوزه ويحتج بأنه اخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة, وأصله: القصد والحجامة, وعامة الفقهاء على تحريمه.

    د-تفسير روح المعاني للآلوسي:

وكذلك اختلف في استمناء الرجل بيده ويسمى (الخضخضة) و (حلب عميرة) فجمهور الائمة على تحريمه وهو عندهم داخل فيما وراء ذلك – أي في قوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) –وكان احمد بن حنبل يجيزه لان المني فضلة من البدن فجاز اخراجها عند الحاجة كالقصد والحجامة. وقال الامام ابن الهمام – حنفي المذهب- يحرم فان غلبته الشهوة ففعل ارادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب. ومن الناس من منع دخوله فيما ذكر – اي منع دخول الاستمناء باليد – في قوله تعالى (فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ).

    هـ-وجاء في تفسير الرازي: السحق من النسوان وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزير.

5) اقوال الفقهاء:

ونذكر فيما يلي بعض أقوال الفقهاء في مسألة الاستمناء باليد على سبيل التمثيل وليس على سبيل الاستقصاء لجميع اقوالهم:

أ-جاء في الدر المختار شرح تنوير الابصار في فقه الحنفية: (ولكن الاستمناء بالكف, وان كره تحرجاً لحديث (ناكح اليد ملعون) ولو خاف الزنا يرجى أن لا وبال عليه.

ب-جاء في الدر المحتار على الدر المختار لابن عابدين رحمه الله: (لو تعين الخلاص من الزنا به – اي الاستمناء باليد – وجب لأنه اخف). وفي السراج: ان أراد بذلك تسكين الشهوة المفرطة الشاغلة للقلب وكان عازبا لا زوجة له ولا أمة أو كان, الا انه لا يقدر على الوصول اليها لعذر, قال أبو اللبث: أرجو أن لا وبال عليه. وأما اذا فعله لاستجلاب الشهوة فهة آثم).

ج-وجاء في المذهب في فقه الشافعية:

(ويحرم الاستمناء – أب باليد – لقوله عز وجل: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ...الخ) ولأنها مباشرة تفضي الى قطع النسل فحرم كالوطء, فان فعل عُزر ولم يحد لأنها مباشرة محرمة من غير ايلاج فأشبهت مباشرة الاجنبية فيها دون الفرج).

د-وجاء في فتح القدير لابن همام الحنفي في شرح الهداية: ولا يحل الاستمناء بالكف, فان غلبت الشهوة ففعل ارادة تسكينها فالرجاء أن لا يعاقب.

هـ-وجاء في سبل الاسلام شرح بلوغ المرام للصنعاني: (واستدل به – أي بقوله ﷺ: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج... الخ – بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه لو كان مباحا لأرشد اليه لأنه أسهل. وقد أباح الاستثناء بعض الحنابلة وبعض الحنفية).

و-وجاء في المحلى لابن حزم الاندلسي الظاهري (وكذلك الاستمناء للرجال سواء سواء لن مسّ الرجل ذكره بشماله مباح, ومس المرأة فرجها كذلك مباح بإجماع الامة كلها, فاذا هو مباح فليس هناك زيادة على المباح الا التعمد لنزول المني فليس ذلك حراماً أصلاً لقول الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وليس هذا مما فصل لنا تحريمه, فهو حلال لقوله تعالى: (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) الا انه نكرهه لأنه ليس من مكارم الاخلاق ولا من الفضائل). ثم قال ابن حزم: (والكراهة صحيحة عن عطاء, والاباحة المطلقة صحيحة عن الحسن, وعن عمرو بن دينار عن زياد أبي العلاء وعن مجاهد, ورواه من رواه عن هؤلاء عمن أدركوا وهؤلاء كبار التابعين الذين لا يكادون يروون الا عن الصحابة).

ز-قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في فتاويه: (وأما إنزاله –اي المني - باختياره فهذا حرام عند أكثر العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بل أظهرها، وفي رواية إنه مكروه. لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف على نفسه الزنا إن لم يستمن أو يخاف المرض، فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وقد رخص في هذه الحالة طوائف من السلف والخلف ونهى عنه آخرون).

ح-وجاء في فتاوى حسنين محمد مخلوق مفتي الديار المصرية السابق: قال بعد كلام طويل ونقول فقهية كثيرة, ما نصه: (ومن هذا يظهر أن جمهور الأئمة يرون تحريم الاستمناء باليد، ويؤيدهم في ذلك ما فيه من ضرر بالغ بالأعصاب والقوى والعقول، وذلك يوجب التحريم. والمروي عن أحمد وعن الحنفية جوازه عند الحاجة والضرورة القصوى فيكون من باب ارتكاب أخفف الضررين).

6) الخلاصة من أقوال الفقهاء:

وخلاصة ما تقدم أن الاستمناء باليد الاصل فيه الحظر والمنع, والاستثناء الجواز عند الضرورة, والضرورة هي الخوف المعتبر من الوقوع في الزنا. لان الضرورات تبيح المحظورات, وما يباح للضرورة, يباح بقدر ما تندفع به حالة الضرورة لان القاعدة, الضرورات تقدر بقدرها.

7) من يصار الى حكم الضرورة:

واذا كان الاستمناء باليد يجوز في حالة الضرورة, وهي حالة الخوف الحقيقي من الوقوع في الزنا, فان الاخذ بحكم هذه الضرورة لا يكون الا بعد الاخذ بما أرشد اليه الحديث الشريف (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) فيأخذ بالصوم ما استطاع. ويقاس على الصوم كل ما يضعف الشهوة مثل عدم التعرض لما يثيرها من النظر الى النساء وما يكشفن من عوراتهن, وهذا بالنسبة للرجال, ومن النظر الى المناظر الخليعة المثيرة للشهوة حقيقة أو صوراً, وكذلك التفكر في موضوع الجماع ونحو ذلك. كما ينبغي الاخذ بما يضادد اثارة الشهوة من التفكر في الآء الله واليوم الاخر والموت, ومن الانشغال بالعبادة بأنواعها المختلفة ومنها باللجوء الى الله بالدعاء والتثبيت والحفظ من الزنا ونحو ذلك. فاذا اخذ المسلم أو المسلمة بهذا كله وألمت الشهوة عارمة ولم يكن عند الرجل ما يتزوج به, ولم يأت للمرأة من يخطبها ويتزوجها من الاكفاء مع رغبتها في النكاح لأعفاف نفسها, ففي هذه الحالة يجوز الاخذ بحكم الضرورة ويباح الاستمناء بقدر ما تندفع به الضرورة.

8) خلاصة ما يفتى به للسائلة:

وفي ضوء جميع ما ذكرناه, يفتى للسائلة بما يأتي:

أولا –العزيمة على النكاح, بمعنى ان تعزم عليه وترغب فيه اذا خطبها الكفوء, والكفاءة في الدين والخلق, والقدرة على الانفاق عليها. ولا تتردد لان لها صبية من زوجها المتوفي, فان الفضليات من تساء الصحابة تزوجت الكثير منهن بعد فراق أزواجهن لهن بالموت أو غبره, وأذكر على سبيل المثال الصحابية الجليلة المقاتلة في سبيل الله أم سُليم فقد كانت تحت مالك وتوفي عنها ورزقت منه بأنس رضي الله عنه وقد دفعته الى رسول الله ﷺ ليخدمه, ثم تزوجت بالصحابي الجليل أبي طلحة رضي الله عنه. وأم حكيم بنت الحارث بن هشام استشهد زوجها عكرمة في حرب الروم فتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بعد انقضاء عدتها.

ثانياً –اذا لم يتيسر لها النكاح, فعليها بالصوم وما ذكرناه في الفقرة السابقة. والغالب أن هذه الوسائل من صوم وغيره سيؤدي الى عدم حاجتها الى الاخذ بحكم الضرورة الذي بيناه. فان قدر وبقيت حالة الضرورة قائمة بالنسبة لها, فلها الاخذ بحكمها حتى ييسر الله لها فرجا من زوج صالح أو من عدم الحاجة الى الاخذ بحكم الضرورة.

ثالثا –أن في الشريعة الاسلامية ميراث الاخوة لأم) ومعنى ذلك أن للمرأة المسلمة أن تتزوج زوجا اخر بعد فراق زوجها الاول الذي رزقت منه بأولاد ثم ترزق من زوجها الثاني بأولاد, فهؤلاء وأولئك (اخوة لأم) وما أجازته الشريعة وأباحته فيه الخير لمن أبيح له. والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

موقف الشريعة الإسلامية من الرِّق

 موقف الشريعة الإسلامية من الرِّق

مقال كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان قبل اكثر من اربعين عاما وتناول فيه موضوع الرق وموقف الشريعة الاسلامية منه محاولا تصحيح الاوهام التي علقت بهذا الموضوع.

المقال نُشر في مجلة التربية الاسلامية العراقية بعددها الحادي عشر من سنتها الثامنة عشر والصادر في جمادى الاخرة 1396 هـ الموافق لـ 30 مايس 1976م

بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان

تمهيد

1)  يسأل البعض: ما موقف الشريعة الاسلامية من الرِّق؟ وهل تجيزه او تمنعه؟ والواقع اني سُألت هذا السؤال اكثر من مرة وفي فترات مختلفة ومن طلابي في الجامعة وغيرهم, وقد رأيت من المفيد أن اكتب شيئا في هذا الموضوع عسى ان يساعد هذا المكتوب على محو وازالة الاوهام التي علقت بموضوع الرق بسبب كتابات بعض الكتاب المعاصرين الذين كتبوا في موضوع الرق. واذا كانت الكتابة في هذا الموضوع مفيدة – ان شاء الله تعالى – كما قلت, فاني لا ارى فائدة في الاسهاب والتفصيل والاحاطة بالجزيئيات لأن المسلمين اليوم, على ما اعتقد, ليسوا بحاجة ملحة الى معرفة تفاصيل وجزيئيات هذا الموضوع وانما هم بحاجة ملحة الى معرفة تفاصيل معاني الايمان وترسيخها في نفوسهم وشدهم اليها حتى تظهر آثارها على اقوالهم وافعالهم وسلوكهم. ولهذا فاني سأوجز القول في الرق ايجازا شديداً.

2)  وقبل البدء بالكلام ارى من المفيد أن اعرض للقراء الكرام القواعد التالية:

القاعدة الاولى: ان الكلام في الشريعة الاسلامية دِين يحاسب عليه المسلم لأنه اخبار عن شرع الله تعالى لا يحتمل   القول الجزاف بلا دليل ولا برهان.

القاعدة الثانية: ان اصول البحث العلمي  تقتضي ان يكون الباحث بعيدا عن الهوى والعاطفة وميول الناس حتى يستطيع ان يعرض نتائج بحثه بأمانة وصدق, واذا كان هذا ضروريا في كل بحث وبالنسبة لكل باحث فانه اشد ضرورة بالنسبة لأولئك الذين يبحثون في الشريعة الاسلامية ويعرضون معانيها واحكامها للناس.

القاعدة الثالثة: ان الادعاء بوجود او عدم وجود شيء في الشريعة, أي ان الادعاء بجواز شيء او منعه في الشريعة الاسلامية  يفتقر الى دليل شرعي ليقبل او يرفض هذا الادعاء. والادلة الشرعية هي كتاب الله وسنة نبيه ﷺ واجماع علماء المسلمين واجتهادهم السائغ المقبول بجميع انواعه.

وبعد هذا التمهيد ابدأ بالجواب على السؤال المتقدم.

3) نجد في كتاب الله تعالى آيات كثيرة تقر ملكية الرقيق مثل قوله تعالى في مواضع عديدة (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وتجعل عتق الرقيق في كفارات الايمان والظهار وقتل الخطأ. وهذه الآيات ونحوها تدل صراحة بان الشريعة الاسلامية تقر الرق.

4) وفي السنة النبوية آثار كثيرة وصريحة في جواز الاِستِرقَاق واقراره من قبل النبي ﷺ ومباشرة النبي ﷺ له, فقد قسم النبي ﷺ سبايا – أي اسرى – هوازن وبني المصطلق بعد ان انتصر المسلمون عليهم, قسمهم على المسلمين الذين اشتركوا في قتالهم, وان كان النبي ﷺ قد اشار بعتق سبايا بني المصطلق لما رأوا ان النبي ﷺ تزوج امرأة منهم بعد ان تسبب في عتقها.

وقد جاء في زاد المعاد للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تحت عنوان "هديه صلى الله عليه وسلم في الأسارى"

(كان يَمُنُّ على بعضهم، ويقتُلُ بعضَهُم، ويُفادِى بعضَهم بالمال، وبعضَهم بأسرى المسلمينَ، ‏وقد فعل ذلك كلَّه بِحَسَبِ المصلحة‏ ... ثم قال ابن القيم: وكان هديُه أن مَن أسلم قبل الأسر، لم يُسترق، وكانَ يسترق سَبْىَ العربِ، كما يَسْتَرِقُّ غيَرَهم مِن ‏أهل الكتاب، وكان عند عائشة –رضي الله عنها - سبِيَّةٌ منهم).

5) وقد أجمع المسلمون علماؤهم وعامتهم على جواز الاِستِرقَاق ولم يخالف في هذا أحد, ولهذا نجد في كتب الفقه في مختلف المذاهب الاسلامية ابواباً في الاِستِرقَاق والرقيق واحكامه.

6) وبناء على ما تقدم فان الشريعة الاسلامية تجيز الرق ولا تمنعه.

مدى مشروعيته

7) واذا كانت الشريعة الاسلامية تُجيز الرزق, فما درجة مشروعيته هل هو واجب او مندوب او مباح؟الجواب انه في الاصل مباح, وذلك ان مصدر الرق هو اسرى الحرب الشرعية, والامام مُخير في اسرى الحرب بجملة خيارات منها الاِستِرقَاق. فله ان يَمُنّ عليهم او يقبل الفداء منهم او يقتل بعضهم او يسترقهم وهذه الخيارات في حق الاسرى الرجال, اما بالنسبة للنساء الاسيرات فلا خيار للإمام فيهن وانما يسترقهن.

مصدره

8)  مصدر الرق هو الحرب الشرعية واعني بها الحرب التي يخوضها المسلمون ضد الكفرة دفاعاً عن دينهم او تمكيناً له او دفاعا عن ديارهم او انتزاعا لهذه الديار من ايدي اعدائهم, فاذا وقع في ايدي المسلمين في هذه الحرب اسرى من اعدائهم جاز لولي الامر ان يسترقهم عن النحو الذي بيناه في الفقرة السابقة. ومن هذا يعلم ان نهب الحرار الآمنين او شرائهم ولو بالتراضي مع اهليهم وذويهم لا يصلح شيء من ذلك سببا للرق ولا يصير به الانسان رقيقا خلافا لما يظنه بعض الناس.

شبهات ودفعها

9)  وقد يقال:

اولا: ان القران الكريم لم يرد فيه نص صريح بجواز الاِستِرقَاق وانما ورد فيه (الْمَنُّ و  الفِدَاءُ) بالنسبة للأسرى وهذا يدل على عدم جواز الاِستِرقَاق.

والجواب: بينت دلالة القرآن على جواز الاِستِرقَاق بإقراره الملكية على الرقيق, وهذا اسلوب يعرف به جواز الشيء كما هو مقرر في اصول الاستنباط. والثاني ان السنّة النبوية بينت جواز الاِستِرقَاق, والسنّة النبوية بينت جواز الاِستِرقَاق, والسنّة دليل شرعي اصيل تستفاد منه الاحكام.

10)  ثانيا: وقد يقال ان الاسلام دعا الى العُتُق وحرص عليه وشوَّقَ اليه وجعله في الكفارات وهذا يدل على رغبة الاسلام في منع الرق والتخلص منه فلا يجوز, لان عدم جوازه يلتقي مع رغبة الاسلام.

والجواب: ان الاسلام دعا الى انفاق المال في سبيل الله و شوَّقَنا اليه ولم يقل احد ان كسب المال وتحصيله ممنوع او غير جائز, فكذا الرق. فالحث على اخراج الشيء بعد الحصول عليه لا يعني حرمة الحصول على ذلك الشيء ابتداءً.

11)  ثالثا: وقد يقال ان الاسلام لم يُحرم الرق لأنه كان فاشيا في العالم وتجري عليه جميع الامم لهذا ترك تحريمه للزمن. فاذا قبل بمنعه فان هذا القول يتفق ورغبة الاسلام.

والجواب: ان فَشْو الباطل أو الفاسد لا يدعوا الى عدم منعه وتحريمه, ألا يرى أن الشرك بأنواعه كان فاشيا في الارض, وكانت اول دعوة الاسلام منعه وتحريمه وذمه وذم اهله؟ فالإسلام لا يحجم عن تحريم ما يرى لفَشْو هذا المحرم, نعم يمكن ان يتدرج في التحريم والمنع كما حصل في تحريم الخمر, اما انه يترك التحريم بتاتاً ولا يفصح عنه حتى تنقضي مدة رسالة النبي ﷺ فهذا لا يجوز ولا يقع ولم يقع وهو منكر من القول.

الفكرة وراء نظام الرق

12) والفكرة وراء نظام الرق في الشريعة الاسلامية تتضح مع الحكمة من هذا النظام بيان ما يأتي:

من المعلوم ان الله تعالى خلق الخلق لعبادته, وخلق لهم الاشياء, ليستعينوا بها على عبادة ربهم, قال تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ومقصود العبادة صلاح الانسان وفلاحه وكمال سعادته. وقد ارسل الله تعالى نبيه محمداً ﷺ برسالة الاسلام ليعرف الناس بتفاصيل العبادة وسبلها, وهذه الرسالة هي اعظم نعمة على الاطلاق انعم الله بها على عباده, ولذلك قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ), والرحمة تعني ارادة الخير والمصلحة والفلاح والسعادة... فالإسلام اذن خير ومصلحة ونعمة من الله تعالى لعباده جميعاً. ومن حق الناس ان تصلهم هذه النعمة وان لا يحال بينهم وبينها. وانما تصلهم هذه النعمة بتبليغهم رسالة الاسلام, وقد قام ﷺ بهذا التبليغ على اتم الوجوه حتى توفاه الله تعالى – وحيث ان كثيراً من البشر لم تصلهم رسالة الاسلام, فقد امر الله تعالى المسلمين بتبليغها, قال تعالى (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وقد قام بهذه المهمة الشريفة اصحاب النبي ﷺ ومن تبعهم بإحسان وستبقى مهمة التبليغ واجبا على المسلمين الى يوم الدين. فاذا قام المسلمون بتبليغ رسالة ربهم لإنقاذ البشر من الهلكة ثم تصدى لهم من يصدهم عن هذه المهمة الشريفة ويقاتلهم ليمنعهم من ايصال نعمة الاسلام الى الناس فان الله تعالى قد اذن للمسلمين ان يقاتلوا هؤلاء الاشرار الظالمين الذين يمنعون عن الناس نعمة الله الاسلام. فاذا وقع في هذه الحرب اسرى من الاعداء بأيدي المسلمين, فماذا عسى ان يان يعاملوا به؟ انهم اجرموا جريمة ذو شقين: الاول صدهم عن سبيل الله ومنع المسلمين من ايصال نعمة الله الى الناس وانقاذهم من الهلكة. والثاني – قتالهم للمسلمين الذين لم يريدوا الا انقاذ الناس واسعادهم بالاسلام. وازاء جريمة هؤلاء الاشرار الذين وقعوا اسرى بأيدي المسلمين "رجال الانقاذ" قرر الاسلام الخيارات التي قلناها في الاسرى: فأما الْمَنُّ واما الفِدَاءُ واما القتل واما الاِستِرقَاق وحيث ان كلامي عن الاِستِرقَاق فاكتفي ببيان وجه المصلحة فيه لأولئك الارقاء فأقول:

ان المصلحة فيه لهم ظاهرة لانهم بهذا الرق ينقلون من مجتمعهم الفاسد الآسِنٌ النتن الى مجتمع الاسلام الطاهر النقي الزكي وهذا يمكنهم من رؤية الاسلام بوضوح وتأمل وتؤدة وبدون تضليل ولا تلبيس, وهذا سيدعوهم الى الاسلام فيسلمون فاذا اسلموا سعدوا وفازوا فوزاً عظيما لا يساويه أي فوز في الدنيا, اما حريتهم فإنها ستعود اليهم لكثرة سُبلها لهم. فالرق اذن كان وسيلة لإسلامهم وفوزهم وان كانت تلك الوسيلة مكروهة لهم في الابتداء فكم من نعمة يؤتاها الانسان بطريق مكروه فاذا ظفر بالنعمة حمد ذلك الطريق واعترف بحكمة واضعه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مفاهيم اسلامية

 مفاهيم اسلامية

مقال كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان في ستينيات القرن الماضي ونشر في مجلة المسلمون التي كانت تصدر في سويسرا بأشراف الدكتور سعيد رمضان, ثم اعيد نشر هذا المقال بعد ان قام الدكتور عبد الكريم ببعض التعديلات والإضافات عليه ونشره بمجلة التربية الاسلامية العراقية في سنتها الثامنة عشر بعددها الثاني عشر الصادر في رجب 1396هـ/حزيران 1976م.

                                                   بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان

مقدمة وتمهيد

1) للإسلام مناهجه الخاصة عن الكون والحياة والانسان. وهذه المفاهيم كلها تدور حول اصل واحد كبير او مفهوم واحد كبير هو الايمان بالله تعالى وما يتفرع عنه من اصول وفروع. فالإيمان بالله يعني الايمان بانه هو الخالق لكل شيء المدبر له, وان من مخلوقاته ذلك المخلوق العجيب الممتاز: الانسان. وان من حق الله على هذا الانسان ان يعبد الله وحده, وان الانسان بهذه العبادة ينال الكمال المقدور له, وان الله تعالى ارسل رسوله ليبينوا للناس كيفية عبادة الله تعالى وطرق سلوكهم في الحياة, وان الناس مجزيون على اعمالهم, وان هذا الجزاء الكامل سيظهر في اليوم الآخر فاما نعيم دائم واما عذاب مقيم, ومن ثم فأن السعادة الحقة للإنسان أن يسلك في حياته السبيل التي وضعها الله تعالى وبينها رسوله الكريم  وان الشقاوة في انحرافه عن هذا السبيل.

2) وتأسيسا على هذا المفهوم الكبير وما تفرع عنه من مفاهيم استعمل الاسلام الفاظا ذات مفاهيم لغوية معروفة ولكن ليس في نطاق هذه المفاهيم الضيقة التي يعرفها الناس او تعارفوا عليها وقد يخلطون بها غيرها, وانما استعملها الاسلام في معاني اخرى تتفق ومفاهيمه الخاصة التي اشرنا اليها مع صدق انطباق الالفاظ اللغوية عليها بل هي حق بهذا الانطباق من المعاني التي يفهمها الناس من هذه الالفاظ.

3) وهذه المفاهيم الاسلامية لهذه الالفاظ تسهم اسهاما كبيرا في تصحيح مفاهيم الانسان وتعديل موازينه في الحياة ومن ثم وضعه على الطريق الموصل الى الله ورضوانه. ومن اجل ذلك نجد الاسلام يعتني بذلك عناية كبيرة جدا تظهر واضحة في كثير من نصوص القرآن والسنة النبوية المطهرة, ولا غرابة ولا اسراف في هذه العناية من الاسلام , ‏لان صحة اعمال الانسان واستقامة تصرفاته وقبولها وانتفاعه بها, كل ذلك منوط بصحة مفاهيمه واستقامة ‏موازينه, ومن المستحيل ان يكون ما صدر من الانسان صحيحا مقبولا عند الله تعالى موصلاً الى رضوانه اذا كان وراءه مفهوم فاسد او ميزان مختل.

4) والمفروض في المسلم – وقد انعم الله عليه بالإيمان – ان تكون مفاهيمه هي مفاهيم الاسلام التي بينها وارادها من الالفاظ التي استعملها, وان لا تكون موازينه غير الموازين التي نصبها الاسلام تأسيسا على هذه المفاهيم. ولكن ‏هذا المفروض في المسلم لا نجده في واقع المسلمين اليوم, او نجده على نحو فاسد او ‏مضطرب او مختلط بغيره.‏ وهذا الواقع المرير هو احدى العلل الكبار المسؤولة عما نجده في المسلمين من تعثر في السير وخروج على مناهج الاسلام.

5) ولهذا ‏كان لزاما على المهتمين بأمور المسلمين ان يولوا هذا الموضوع الخطير ما يستحق من عناية واهتمام, وان لا يكتفوا بالأسف والتحسر على احوال المسلمين وتعداد نقائصهم, لان ما ‏يرونه من احوال المسلمين انما هو اعراض لعلل ‏ابتلوا بها وليست هي اصل الداء, وانما ينفع العلاج ويؤمل الشفاء اذا تناول اصل العلة وليس اعراضها ولم يقف ‏المعالج عند هذه الاعراض يخفيها بالطلاء والاصباغ.

6) ومن سبل العلاج الحكيمة – في نظرنا – عرض مفاهيم ‏الاسلام بوضوح وجلاء ثم دعوة المسلمين اليها بعرض نفوسهم عليها ليروا ‏مدى التوافق والاختلاف بين ما عندهم من مفاهيم وبين ما يعرضه ‏الاسلام من مفاهيم, فاذا رأوا توافقا وتماثلا حمدوا الله وثبتوا على ما ‏عندهم واستمروا في السير حتى يصلوا الى الله راضين مرضيين, وان رأوا غير ذلك حملوا نفوسهم على النهج الصحيح بتصحيح ‏مفاهيمهم الفاسدة وتعديل موازينهم المعوجة حتى يسلم لهم دينهم من الزيغ والزلل‏‏,‏  وتصفو لهم اعمالهم من الكدر ويظلوا على الطريق المستقيم سائرين.

7) وانما يحسن هذا الاسلوب الذي قلنا عنه انه من ‏سبل المعالجة الحكيمة لان المفروض في المسلم انه يؤمن بالله واليوم الاخر وما يترتب على هذا الايمان من نتائج وما يستلزمه من اعمال, ‏وان من شأن كل انسان انه حريص على ما ينفعه ويسعده وبهرب مما يضره ‏ويشقيه. فاذا انكشف للمسلم طريق منفعته وسعادته وطريق مضرته وشقاوته سلك الطريق الاول وهجر الطريق الثاني بدافع من ايمانه ورغبته المشروعة في النجاة من كل أذى ‏وعذاب والظفر بالراحة والهناء. والذي يعينه بصورة اكيدة على سلوك طريق السعادة والنجاة هو تصحيح مفاهيمه اولاً واصباغ نفسه بها حتى يمكنه الانطلاق في ضوئها في دروب الحياة باستقامة وأمان.

8) ونحن من هذه البحث الموجز نعرض على سبيل التمثيل لا الحصر بعض المفاهيم الاسلامية المرادة شرعاً من الالفاظ التي استعملها الاسلام في القرآن والسنة والتي يظلمها الناس اذ يحصرونها في نطاق ضيق جدا لا يتجاوز متاع الدنيا وهو قليل, ويخلطونها مع معاني فاسدة حتى في هذا النطاق الضيق.‏

اولا – مفهوم الفوز والفلاح

9)  مفهوم الفوز والفلاح عند عموم الناس لا يتجاوز الظفر بمتع الحياة واغراض الدنيا ‏وما يؤدي الى ذلك من وسائل واسباب كالحصول على شهادة أو وظيفة, أو ‏منصب أو ‏ جاه, أو سلطان, أو ثناء, أو مال, أو ربح مادي, أو مسكن مريح أو ‏امرأة جميلة أو طعام لذيذ وعيش رغيد وغير ذلك مما يتعلق بشهوات الجسد.

 وهذه كلها من اغراض الدنيا ومتاعها القليل, وليس من المحظور ان يطلب المسلم هذه الاشياء بشرط ان يطلبها بالوسائل المشروعة وان لا يجعلها غاية فوزه وفلاحه, وانما المحظور ان يطلبها بكل وسيلة وان كانت غير مشروعة وان يجعلها غاية فوزه وفلاحه. ‏وتأسيسها على هذا المفهوم الذي عند عموم الناس كان الفائز المفلح في ميزان الناس هو من ظفر بهذه الاشياء او نال منها قدرا اكبر من غيره. ولهذا المفهوم وما ترتب عليه من ميزان للفوز والفلاح أثارا خطيرة ‏جدا في واقع المسلمين, ذلك ان معظم المسلمين انطلقوا الى تحصيل هذه الاشياء بأية وسيلة كانت وان كانت غير مشروعة أو ادت أو ‏تؤدي بهم الى التفريط بحقوق المسلمين الثابتة او بحقوق المسلمين او ادت الى موالاة الاعداء وارتكاب الحرام ومخالفة ‏احكام الاسلام الصريحة بالتأويل الفاسد او بالعصيان الصريح. ومن الواضح ان معظم ‏المسلمين او أكثريتهم الساحقة لم يقدموا للإسلام شيئا ذا بال, لان همهم صار ‏مقصورا على ما عددنا من اغراض التي تحقق الفوز والفلاح لصاحبه حسب مفهومهم للفلاح والفوز.

10) ان مفهوم الفوز والفلاح في الاسلام غير هذا الذي يراه عامة المسلمين ويتزاحمون ‏عليه ... انه المفهوم الحق الذي يجب ان يسلّم به كل مسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد  نبياً. انه النجاة من عذاب الله والظفر بالجنة حيث النعيم الدائم المقيم ... قال ‏تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ ‏وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) وأي فوز أعظم من دخول ‏الجنة وفيها النظر الى وجه الله الكريم والاحساس برضوان الله , وهذا وذاك اعظم ‏نعيم على الاطلاق. وفي الجنة مع ذلك ما لا عين رأت ولا اذن ‏سمعت ولا خطر على قلب بشر.

11) ان هذا الفوز هو الفوز الحقيقي وصاحبه هو المفلح حقا في ميزان الاسلام وميزان العقل وميزان الحساب.

اما في ميزان الاسلام فهذا كلام الله تعالى الذي ذكرناه – ومثله في القرآن كثير – شاهد على صحة ما نقول, ومن اصدق من الله قيلا.

اما في ميزان العقل, فلا نحسب انَّ عاقلا يؤمن بالله واليوم الاخر ‏يستطيع ان يكابر او يجادل في هذه الحقيقة, او يعتبر الفوز في اليوم الاخر ادنى رتبة من ‏الفوز بنعيم الدنيا ... واما في ميزان الحساب, فأن الفائز بنعيم سنة اربح صفقة ‏واكثر فلاحا واعظم فوزا من الفائز بساعة نعيم ... واذا كان هذا صحيحا في ميزان الحساب والارقام وهو صحيح فعلا, فما نسبة نعيم ‏الدنيا المتناهي الى نعيم الاخرة غير المتناهي؟ وما قيمة ما يحوزه الانسان في ‏عمره القصير من نعيم الدنيا القليل بالنسبة الى ما ينتظر الفائزين من نعيم دائم ‏؟ الا يحق لنا ان نقول ان الفوز في الاخرة هو الفوز الحقيقي وان الفوز بمتع ‏الحياة فوز على وجه المجاز؟ لقد شبه رسول الله  الحياة ‏ونعيمها بتشبيه رائع محسوس فقد جاء في الحديث الشريف (والله ما ‏الحياة الدنيا في الاخرة الا كما يغمس احدكم اصبعه في اليم فلينظر ماذا يرجع ‏اليه).‏

12) واذا تبين ان الفلاح والفوز الحقيقي هو الفلاح والفوز في الاخرة , وان هذا الفوز ‏جدير بحرص المسلم عليه ورفع بصره اليه وبذل جهده في الوصول اليه , فما ‏سبيل هذا الوصول , وما وسائل الظفر به؟ ان الاسلام بين هذه السبيل وكشف ‏عن هذه الوسائل , قال تعالى:‏

‏( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ‏

‏(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ ‏هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).‏

‏(لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ ‏وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).‏

‏(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).‏

‏(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).‏

13) فالإيمان بحقائق الاسلام, والصبر بمعناه الواسع, وتقوى الله في السر والعلن, ‏والامر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس, ‏وعبادة الله وحده وعلى رأسها الصلاة, وفعل الخير بأنواعه, كل ذلك وأمثاله ‏وسائل تؤدي الى الفلاح الحقيقي والفوز الحقيقي. فمن اخذ بهذه الوسائل فهو ‏من المفلحين حقا وان اعتبره الناس من الخائبين, ومن هجرها واتبع هواه وركض ‏وراء اللذات فهو من الاشقياء التعساء لان اهوائه ولذاته تدفعه الى الشقاء المؤكد ‏وان اعتبره الناس من السعداء, قال تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا ‏قَوْمًا ضَالِّينَ). ويقول الامام القرطبي في تفسير هذه الآية :( غلبت علينا لذاتنا ‏واهواؤنا . فسمى اللذات والاهواء شقوة لانهما يؤديان اليها).‏

ثانيا – مفهوم التهلكة

14) المفهوم الشائع للتهلكة عند عموم الناس , هو تعرض الانسان لما يؤذيه او يفوت ‏عليه راحته او حياته بغض النظر عن الدوافع والغايات. وقد سحبوا هذا المفهوم ‏على من يصيبه اذى وهو يقوم بحق الاسلام في الامر بالمعروف والنهي عن ‏المنكر والجهر بالحق والدعوة الى الاسلام والجهاد ‏في سبيل الله بالقول والعمل والمال والنفس, ويستشهدون بقوله تعالى: (وَلاَ ‏تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). لقد ظلم هؤلاء معنى هذه الآية الكريمة وانزلوها ‏على غير مفهومها الحق. ان مفهومها الحق هو غير ما فهموه ... ان التهلكة ‏في ميزان الاسلام ومفهوم هذه الآية ان تفر من الهلاك في سبيل الله مؤثرا ‏العافية والاقامة بين الاهل والولد منشغلا في تثمير المال وتكثيره ... فقد روي عن ‏ابي ايوب الانصاري رضي الله تعالى عنه انه قال في هذه الآية انما نزلت فينا ‏معشر الانصار. لما نصر الله تعالى نبيه وأظهر الاسلام , قلنا: نقيم في اموالنا ‏نصلحها, فانزل الله تعالى الآية (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ‏التَّهْلُكَةِ) فالألقاء بأيدينا الى التهلكة ان نقيم في اموالنا ونصلحها وندع الجهاد.‏

15) وتأسيساً على هذا المفهوم الحق للتهلكة لا يكون تهلكة في مفهوم الاسلام هلاك ‏المسلم او لحوق الاذى به أو خسارة ماله او فقدان حريته أو زوال وظيفته , أو ‏اضطهاده, اذا كان ذلك في سبيل الله وكان ذلك واجبا عليه او مستحبا. فالقيود ‏في هذه المسالة ثلاثة: ان يكون الهلاك في سبيل الله فاذا كان في غير سبيله ‏كما لو كان لطلب الثناء والمنصب والسمعة وما الى ذلك فالتعرض كان العلاك او التعرض له محرما. ‏والقيد الثاني ان يكون ذلك عليه واجبا او مستحبا. والوجوب والاستحباب بعرفان ‏بميزان الاسلام وما قرره الفقهاء.

والقيد الثالث ان ‏لا يفوّت هلاكه على المسلمين مصلحة مؤكدة هي ارجح من المصلحة التي اراد تحصيلها بتعريض نقسه للهلاك, فاذا كان الفائت بهلاكه مصلحة بهذا المقدار كان محظورا عليه ‏التعرض للهلاك لان نفس الانسان ليست ملكه وانما ‏هي ملك خالقها وهو الله جل جلاله , فلا يجوز للإنسان ان يتصرف بنفسه الا على ‏النحو الذي يأذن له به مالكها , فاذا اذن له بتعريضها للهلاك جاز له ذلك واذا أمره وجب عليه ذلك واذا منعه حرم عليه تعريض نفسه للهلاك وان كان هواه في هذا الهلاك.

ثالثا – مفهوم الربح

16) المفهوم العام للربح ان تأخذ اكثر مما تعطي وتحصل اكثر مما تبذل وهذا المفهوم ‏معروف في امور الدنيا كما في البيوع والاشربة والاجارات وسائر المعاوضات. وهذا ‏المفهوم للربح وان كان صحيحا سليما الا انه يكون ‏قاصرا اذا اقتصر الناس عليه دون سواه.

ان للربح مفهوم دقيقاً هو أولى بلفظ (الربح) وأجدر به واحق به من غيره... وقد اشار النبي ﷺ وبيّنه ليعرف المسلمون انه احق ما يحمل عليه لفظ (الربح) وانفعه للمسلم, ولكن قد يغفل عنه وينساه. هذا المفهوم الحق للربح هو ربح الحسنات لا ربح ‏الجنيهات. ومن اجل هذا الربح الجسيم جادت نفوس العارفين ببذل اموالهم غير ‏آسفين ولا نادمين. روي عن ابي عثمان عن صهيب الرومي, قال : لما اردت ‏الهجرة من مكة الى النبي  قالت لي قريش: يا صهيب ‏قدمت الينا ولا مال لك , وتخرج انت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك ابدا . فقلت لهم: ‏أرأيتم ان دفعت اليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا نعم . فدفعت اليهم مالي فخلوا ‏عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال (‏ربح صهيب ربح صهيب) وصهيب رضي الله عنه لم يربح درهم ولا ديناراً بل خسر دراهمه ودنانيره, فهو ‏الخاسر في ميزان الصيارفة والتجار عباد المال ... ولكنه في ميزان الاسلام ومفهومه للربح والخسران, رابح ‏على وجه الحقيقة لا المجاز, اعظم ما يكون الربح, انه ربح الحسنات بهجرته الى الرسول ‏الكريم  وظفره بالقرب منه, فليس في قول النبي  (ربح صهيب) الا الحقيقة التي لا مجاز فيها وان اعتبر الناس هذا الربح - ربح الحسنات – من مجاز القول ويجعلون ربح المال من الحقيقة لا المجاز.

17) فبذل المال في سبيل الله ربح مؤكد وهو اعظم من ربح التجار في البيع والشراء, لأنه ربح مضمون عند الغني القادر, يظهره ويقدمه لصاحبه احوج ما يكون اليه ويسلك به الى جنات النعيم. وكون هذا الربح مؤجلا لا يظهر أثره الا في الاخرة لا ينقص من قدره, فالتاجر الذكي يبذل المال الكثير بانتظار الربح الكثير في المستقبل وان كان في مقدوره أن يربح التافه القليل في الحال. ان الذي لا يرضى الا بالربح العاجل في الدنيا مثله مثل الطفل لا يدع ما في يده من احجار حتى ولو وعدته صادقاً – وانت القادر على العطاء – أن تعطيه غدا اضعاف ما في يده وزنا من الجواهر لا من الاحجار.

رابعا – الخيرية والتفاضل

18) للإسلام مفهومه للخيرية والفضل وميزانه لمعرفة ما هو خير من غيره او افضل من غيره.

فالعمل الصالح في ‏ميزان الاسلام خير ما يجب ان يحرص عليه الانسان وهو افضل ما يجد في دنياه . ‏جاء في الحديث الشريف عن النبي  (لغدوة في سبيل الله ‏أو روحة خير من الدنيا وما فيها). والغدوة في سبيل الله ليست اصطيافا في مصايف الدنيا ولا متعة من متع النفس, ولا لذه من لذائذ الجسد, وانما هي جهاد ‏وما في الجهاد من تعب ونصب واذى وجرح وتعرض لتلف النفس, ومع هذا كله يقول سيد العارفين ورسول رب العالمين: انها خير ‏من الدنيا وما فيها ... والغدوة , بعد هذا, التي جاءت في الحديث تشير ‏الى ان الاعمال الصالحة المراد بها وجه الله الكريم هي دائما خير من متاع الدنيا ‏وهي دائما في مقام التقديم والتفضيل في ميزان الاسلام ومفاهيمه. وانما كان لهذه ‏الاعمال الافضلية والتقديم لانها تثمر ثواب الله , وثواب الله خير ما يؤتاه الانسان, ‏وأفضل ما يناله في دنياه, وهذا هو مفهوم الاسلام وميزانه, اقرأ ان شئت قول الله تعالى‏‏: (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا ‏وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فما يؤتاه الانسان في هذه الدنيا من مال وولد ‏وسلطان وعافية ونحو ذلك فهو شيء تافه حقير . وما عند الله من ثواب ونعيم ‏للمؤمنين العاملين خير من هذا الذي يناله الانسان في هذه الدنيا.‏

19) أن هذا المعنى الجليل والميزان الدقيق للخيرية والافضلية كانا في حيز ادراك ‏العارفين من سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. اما طلاب الدنيا وأحبابها فانهم بعيدون عن هذا الادراك, ان نفوسهم ‏تحوم حول متاع الدنيا الفاني وان لعابهم يسيل كلما تذكروا هذا المتاع الزائل القليل, بل ان طلاب الدنيا ‏يعتبرون بميزانهم المختل ومفهومهم لما هو خير وافضل, يعتبرون السعيد من ظفر بالمال وولغ في لذائذ الحياة ‏‏... وفي قصة قارون مثل على ميزان هؤلاء . فقد اوتي قارون من المال ما اخبر الله ‏عنه (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) ثم حصل ما قصه ‏الله علينا: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا ‏مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ولكن العارفين بالله الماسكين بميزان الاسلام ‏المدركين قدر ثواب الله , لم يرضهم قول اولئك فردوا عليهم بما اخبرنا الله به : ‏‏(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ‏الصَّابِرُونَ ) فثواب الله (خير) من المال الذ اوتيه قارون ولكن اكثر الناس لا يعلمون. ويتكرر هذا المشهد في كل عصر فهناك من يمثل قارون والمتمنين ‏مكانته, وهناك من ينظر الى ما عند الله ‏من ثواب فيستحقر ما عند امثال قارون ويرد على اولئك المتمنين (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ‏...).

20) وخير الناس وافضلهم في ميزان الاسلام , المجاهد في سبيل الله, فقد جاء في ‏الحديث الشريف عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول ‏الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله    : (مؤمن مجاهد بنفسه وماله في ‏سبيل الله) فهذا افضل الناس وان كان مغموراً بينهم مجهولاً عندهم او كان معروفاً لديهم ولكنهم يجهلون قدره.

21) وبنفس ميزان التفاضل في الاسلام يوزن استحقاق الانسان للتقدم عند ذوي ‏السلطان ونوال العطاء من بيت المال ... ومن تطبيقات ذلك ان الخليفة الراشد الملهم ‏عمر بن الخطاب رضي الله عنه أذن لبلال بالدخول عليه قبل ابي سفيان ولما ‏سئل عن ذلك قال: بلال اسبق اسلاما وهجرة من ابي سفيان وقوم ابي سفيان, وما قاله الامام عمر رضي الله عنه حق, فالأحساب والانساب ‏لا قيمة لها في ميزان الاسلام, وانما يثقل وزن الرجل بهذا الميزان بالتقى والجهاد والسبق بالصالحات.

22) وروي ايضا عن هذا الخليفة الراشد انه قسم مروط ‏ بين نساء اهل ‏المدينة فبقي منها مِرط جيد , فقيل له: يا امير المؤمنين اعط هذا المِرط [كساءٌ من خزٍّ أَو صوف أو كَتَّان تتلفَّعُ به المرأْة] ‏ابنة رسول الله  التي عندك (يريدون زوجته ام كلثوم بنت سيدنا ‏علي رضي الله تعالى عنه) فقال عمر رضي الله عنه: ام سليط احق به, فأنها من بايع رسول الله  وكانت تزفر لنا القرب يوم أحد.

فأم سليط سبقت ام كلثوم سبقت أم كلثوم في الجهاد والبيعة وان تأخرت عنها بالنسب الرفيع, وبالتالي فهي احق بالمرط من ام كلثوم بنت علي بن ابي طالب وزوجة امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم اجمعين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مِن آداب إلاسلام في الكلام والمُناقشة

 


مِن آداب إلاسلام في الكلام والمُناقشة

مقال كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان ونشر في مجلة التربية الاسلامية بعددها الصادر في ذو الحجة 1393هـ / 25 كانون الاول 1973م يتضمن مجموعة من الوصايا للمسلم في الكلام والمناقشة مع الغير مستقاة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان

هناك ادآب يجب على الشخص مراعاتها اثناء الكلام مع الغير ومناقشته له, وهذه الآداب بجملتها دعا اليها الاسلام او اشار اليها, أو هي مما تقتضيه قواعده واصوله, وهي بعد ذلك من معاني الاخلاق الاسلامية ولوازمها. و ليعلم المسلم انه مؤاخذ بما يقول ومحاسب عليه  او رب كلمة يقولها لا يلقي لها بالا تهوي به في النار, وفي الحديث الشريف (... وهل يكب الناس في النار على وجوههم الا حصاد السنتهم).

فمن هذه الآداب:

1) عدم اكثار الكلام في المجالس, وليكن شعار المسلم ان يسمع اكثر مما يتكلم, لان كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب. جاء في الحديث الشريف عن النبي ﷺ (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي).

2) المسلم يسمع كثيراً من الاخبار والاقوال, فلا ينبغي ان يحدث الناس بكل ما سمع, فأن ذلك قد يجره الى الكذب, جاء في الحديث الشريف (كفى بالمرء كذباً ان يحدث بكل ما سمع) وتأويل ذلك انه يسمع الصدق والكذب فان حدث بكل ما سمع فقد كذب لأخباره بما لم يكن, هكذا فسر العلماء هذا الحديث الشريف.

3) ان يبتعد المسلم عن غيبة الاخرين, والغيبة كما جاءت في حديث رسول الله ﷺ ذكرك اخاك بما يكره, حتى وان كان ما تقوله موجودا فيه, اما اذا لم يكن ما تقوله عنه موجودا فيه فهذا هو البهتان كما جاء في الحديث. واذا كانت الغيبة منهيا عنها فسماعها كذلك, فينبغي للمسلم ان يسعى لتحويل حديث المغتابين الى حديث غيره هو أسلم لدينهم وانفع للسامعين.

4) لا يجوز الفُحشَ في الكلام لا على وجه الجد ولا على وجه الهزل فأن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء كما جاء في حديث رسول الله ﷺ ومن البذاءة الطعن واللعن والسباب, زكل اولئك مكروه في ميزان الاسلام, جاء في الحديث الشريف: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء). وفي حديث اخر سباب المسلم فسق وقتاله كفر. والمنع من السباب يشمل الاموات كما يشمل الاحياء جاء في حديث رسول الله ﷺ (لا تسبوا الاموات فانهم قد افضوا الى ما قدموا).

5) الابتعاد عن المِرَاءَ والجِدال الذي يراد به الغلبة والاستعلاء على الاخرين, ولهذا كان تركه مطلوبا في الاسلام ومثابا عليه قال ﷺ (أنا زَعيم ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّة لِمَنْ تَركَ المِراءَ وإن محقاً).

6) يجب ان يكون النقاش بقصد كشف الحق واظهار الصواب, ولا يهم بعد ذلك ان ظهر الحق وانكشف الصواب من قبلك او من قبل الاخرين, فاذا فات هذا القصد في المناقشة كانت من الهوى وعبث الشيطان ومن الخير قطعهما حالا.

7) ليكن كلام المسلم واضحا بسيطا خاليا من التكلف والتطاول على الناس بكلامه, خالبا من التفاصح والتعظم بالكلام واظهار الفضل على الاخرين, والتكبر عليهم, جاء في الحديث الشريف عن النبي ﷺ (وان ابغضكم الي وابعدكم مني يوم القبامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون).

8) ان يكون كلامه هادئا بَيِنّا مسموعاً للحاضرين ومفهوما عندهم فقد كان من شمائل النبي ﷺ انه اذا تكلم بكلمة اعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وكان فصلا يفهمه كل من يسمعه. وهذا يقتضي ان يبتعد المحدث عن الكلمات الغريبة غير المألوفة لدى السامعين ولا حاجة لها, وقد يفعل هذا رغبة منه في اظهار فضله أو اعلام الآخرين بقدرته على الكلام وبلاغته, وليس هذا بالمقصد السليم في موازين الاسلام.

9) ان يثَبَتَ المسلم في كل ما يقول, فلا يلقي القول جزافا, قال تعالى (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)

10) اذا كان مع اثنين فلا يختص بأحدهما فينّاجيه ويكلمه سرا بحيث لا يسمعه الثالث, أو يكلمه بلغة لا يفهمها الاخر, لان ذلك يوحش قلبه, قال ﷺ (اذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث).

11) ان يترك الحديث عن الآمه ومشاكله واحزانه, فأن ذلك لا ينفعه, وهو من قبيل الشكوى الى الناس, وهو خلاف الادب القرآني, قال تعالى حكاية عن نبيه يعقوب عليه السلام, (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) وايضا فان للناس هموهم ومشاكلهم فلا يرغبون في سماع هموم الآخرين.

12) ليكن حديثك وجدالك بأسلوب هَيّن ليْن خال من الايذاء والتحقير والاستهزاء بالآخرين. فقد أمر الله تعالى نبيه موسى واخاه هاون, وقد ارسلهما الى فرعون (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ).

13) لا تقاطع غيرك اذا تكلم واصغ الى كلامه حتى يفرغ منه, ثم عقب عليه بما ينفع ويفيد ان كان في التعقيب حاجة او فائدة.

14) لا ترد على الآخرين كلامهم كله اذا رأيت فيه خطأ أو باطلا فان الصواب لا يرد اذا اقترن به خطأ, والحق لا يرد اذا اقترن به باطل, وانما يجب قبول الصواب والحق ورد الخطأ والباطل. ولهذا ذم الله تعالى اليهود والنصارى لرد كل طائفة ما عند الاخرى من حق وباطل. قال تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ).

15) ليكن حديثك ذا مغزى ومعنى وهدف نبيل تقصده لا ان يكون لمجرد الكلام واضاعة الوقت.

16) تجنب الأيمَان والقسم بالله في حديثك, واجعل السامع يصدقك بلا يمين يما تعوده من قول الصدق وذكر الحقائق.

17) لا تغضب , واحمل نفسك على ان تكظم غضبها, ولا تتكلم وانت غضبان, ولا تجادل وانت غضبان, فان الغضب يذهب بالحجة ويفلت اللسان من عقاله فيأتي بما يشين.

وبعد فهذه بعض أداب الحديث والمناقشة, يحتاجها المسلم في علاقاته مع الآخرين ومجالسته لهم, وهي سهلة في القول صعبة في التطبيق, ولكن مع العزم على مراعاتها بعد الاستعانة بالله تصير ان شاء تعالى سهلة في التطبيق كما هي سهلة في القول والله المستعان والحمد لله.

الدكتور عبدالكريم زيدان

الحدود في الاسلام

 ردود على شبهات

 الجزء الرابع

الحدود في الاسلام

بحث بعنوان " ردود على شبهات" قدمه الدكتور عبدالكريم زيدان في المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية المنعقد في دولة قطر في الخامس من محرم  عام 1400 هـ المصادف 25 نوفمبر 1979م. 

تناول الدكتور عبد الكريم زيدان في هذا البحث الردود على اربع شبهات يرددها الجهال او الكارهين لشرع الله وهي (تعدد الزوجات, موقف النبي ‏  من بني قُرَيْظَة‏, الحروب و الغَزَوات في الاسلام, الحدود في الاسلام).

تمهيد :

في الشريعة الاسلامية عقوبات على ما يعتبر جرائم في حكم الشريعة الاسلامية , وهذه العقوبات ثلاثة انواع ( الاول) ويسمى الحدود ( والثاني) القصاص والديات ( والثالث) التعزير.

والحدود هي العقوبات المقدرة من قبل الشارع لبعض الجرائم وجبت حقا لله وهذه العقوبات هي : عقوبة جريمة الزنى ومقدارها الجلد والتعزير أو الرجم . وعقوبة شرب الخمر ومقدارها الجلد بعدد محدود. وعقوبة السرقة وهي قطع اليد والرجل من خلاف او القتل والصلب والنفي.

وعقوبة القذف وهي الجلد بعدد محدود , ومعنى القذف اتهام المقذوف بجريمة الزنى. وعقوبة البغي وهي قتل البغاة . وعقوبة الردة وهي قتل المرتد بعد استتابته ثلاثة ايام.

وهذه العقوبات عليها ادلة شرعية معتبرة مع اجماع الفقهاء ولا يختلفون في هذه العقوبات وانما يختلفون في شروط وجوبها, وتفصيل ذلك في كتب الفقه المختلفة.

اعتراضات:

وقد أثار البعض شبهات حول هذه العقوبات معترضين عليها صراحة حيناً ومخفين هذا الاعتراض حيناً آخر, فمن شبهاتهم واعتراضاتهم على هذه العقوبات ما يأتي:

ان هذه العقوبات جميعا تعتبر قاسية جدا ومن ثم بعيدة عن العدالة.

ان في بعضها اهداراً لآدمية الانسان كما في جلده في عقوبة الزنى.    

في بعضها تدخل في حرية الانسان الشخصية كما في عقوبة الزنى. والزنى اذا تم عن رضا بلا اكراه فلا يجوز العقاب عليه لأنه من قبل التدخل في حرية الانسان, ومثله عقوبة شارب الخمر.

عقوبة المرتد فيها معنى الاكراه على الدين والتدخل بحرية الانسان في الاعتقاد.

وبعضها فيه بتر الاعضاء والارجل, وهذا اسلوب قديم في العقاب يجب ان يزول فضلا عما فيه من تعطيل المعاقبين عن الكسب وصيرورتهم عالة على المجتمع.

تلك هي مجمل اعتراضاتهم التي يثيرونها على النقول: المسماة بالحدود , وهذه الاعتراضات هزيلة لا تثبت امام المناقشة الموضوعية ونرد عليها بإيجاز فيما يلي بنفس تسلسل فقراتها , فنقول.

أولا: بالنسبة لقسوتها وبعدها عن العدل كما يزعمون نقول:

في كل عقوبة يجب ان يتوفر مقدار كاف من الايلام ليردع من تسول له نفسه الاقدام على الجريمة, وهذا الايلام يتناسب طرديا مع جسامة الجريمة , والايلام شيء قاسِ بطبيعته , فاذا ما كان بالقدر المناسب للجريمة كان كافيا للردع ومحققا للعدالة, وهذا موفور في عقوبات الحدود وفي العقوبات الشرعية الاخرى قال تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) كما ان هذه العقوبات حققت الردع بالقدر الممكن يوم كانت هي المطبقة, ولكن عندما عُطلت كثرت هذه الجرائم والاحصائيات تدل على ذلك.

ثانيا: ادعاء اهدار الآدمية في الجلد

ادعاء اهدار الآدمية في الجلد مردود بان الزاني هو الذي أهدر آدميته عندما أباح لنفسه أن يَلغ في اناء غيره, وأباح لنفسه ان ينزل الى مستوى الحيوان في الاتصال الجنسي, ومثل هذا الشخص يحتاج الى الجلد بعد انحداره الى هذا المستوى.

واما جلد شارب الخمر, فمرده حرص الشريعة على عقل الانسان من التعطل او الزوال وما يترتب على ذلك من اقدام على الاجرام. واما جلده في جريمة القذف فلأن القاذف يريد تلويث سمعة وعرض المقذوف واشاعة الفاحشة في المجتمع, مع ان الاسلام يريده مجتمعا طاهراً عفيفا نظيفا حتى من كلمات الفحش فضلا عن عمل الفاحشة.

وقد يقال هنا : ان جريمة الكفر والردة اكبر من جريمة الزنى, ولو قال انسان لآخر مسلم "يا كافر " فمعنى ذلك انه اتهمه بالردة عن الاسلام, ومع هذا لا يعاقب القاذف بالجلد ثمانين جلدة بينما لو قال شخص لامرأة (يا زانية) وعجز عن الاثبات فانه يجلد ثمانين جلدة , أو ليس في هذا تفاوت وبعد عن العدالة فيه؟ والجواب على ذلك ان المقذوف بالكفر والردة يستطيع أن يكذب القاذف بان يتلفظ الشهادتين فيقول اشهد أن لا اله الا الله واشهد أن محمدا رسول الله, ولكن ماذا تفعل المرأة المقذوفة بالزنى لتكذيب القاذف ؟ ومن طبائع الناس أن تتلقف قالة السوء حتى لو كانت المقذوفة من الطاهرات, ولنا في قصة الافك ورمي السيدة ام المؤمنين عائشة الصدّيقة رضي الله عنها خير دليل.

من اجل هذا غلظت الشريعة الاسلامية عقوبة القاذف حفظا لأعراض المسلمين والمسلمات وصيانة المجتمع من قول الفحش والتعود عليه والاستهانة به, لأنه يجر الى الاستهانة بفعل الفاحشة.

ثالثا: الزعم بان في بعضها تدخل في حرية الشخص

الزعم بان في بعضها تدخل في حرية الشخص كما في عقوبة الزنى وشرب الخمر, فليس الامر كما زعموا, لان حرية الشخص تقف عندما تكون اداة ايذاء وافساد في المجتمع, والزنى افساد وتخريب بيوت وتشريد اطفال. أن الرضى في الزنى لا يغير من جريمة الزنى شيئا لان العرض مما لا يجوز فيه البذل والعطاء. ان الاسلام يريد سلامة الاسرة وحفظ اللسان وعدم ضياع الاطفال وهذا يحصل بمنع الزنى, ومنعه يكون بتحريمه والعقاب عليه, فلا يجوز لرجل شريف غيور ان يصبح معترضا على عقوبة الزنا , وانما يمكن أن يصدر هذا الصياح ممن لا يهتم بعرض ولا شرف ولا كثرة الاخطاء في المجتمع.

اما عقوبة شرب الخمر وانها تدخّل في حرية الانسان , فالرد على هذا القول ان شرب الخمر يؤدي الى الجريمة ومن حق المجتمع ان يمنع الجريمة ويسد منافذها, وعلى الانسان ان يخضع لقيود المجتمع النافعة له وللفرد نفسه.

رابعا: اما عقوبة المرتد وانها تعني الاكراه على الاعتقاد

اما عقوبة المرتد وانها تعني الاكراه على الاعتقاد وانها تدخل في حرية العقيدة, فالجواب ان المرتد رجل كان مسلما وارتد, اي انه ارتكب جريمة تسمى (الردة) فيعاقب على هذه الجريمة , وسبب كونها جريمة ان المسلم بإسلامه التزم احكام الاسلام, وبردته يكون قد نقض هذا الالتزام , ومن المعلوم ان هناك عقابا لم يخل بالتزامه أو ينقضه, وقد يكون العقاب اعدام الشخص, كالذي يخون وطنه ويتجسس على بلاده, وعقوبة هذا المواطن الخائن الاعدام, فلا غرابة في قتل المرتد. ومع هذا يمهل ثلاثة ايام فان تاب ورجع عن ردته سقط عنه العقاب. فعقوبة المرتد لا علاقة لها بحرية العقيدة ولا بالإكراه على الدين وانما هي عقوبة لجريمة الردة اذا ارتكبها المسلم.

خامسا: ادعاؤهم ان بتر الاعضاء في العقاب اسلوب قديم

ادعاؤهم ان بتر الاعضاء في العقاب اسلوب قديم ويؤدي الى صيرورة المعاقب عالة على المجتمع , ادعاء مردود, بان العبرة ليست بكل جديد, فما كل جديد مقبول ولا كل قديم مرفوض, وانما ميزان القبول والرفض هو الصلاحية, ولا شك ان قطع اليد عقاب صالح لأنه رادع بالقدر الكافي, وقد ادى مهمة في الماضي فمنع الاجرام وأمن الناس على اموالهم, أما عقوبة الحبس للسارق في الوقت الحاضر فما ردعت السُراق وما قللت جرائم السرقة بل هي في تزايد مستمر, واصبح السجن منتدى يتجمع فيه السراق فيتبادلون خبراتهم في عالم السرقة والاحتيال !!

واما صيرورة المعاقب والمقطوعة يده عالة على المجتمع, فهذا غير صحيح لان مقطوع اليد يستطيع ان يعمل بعض الاعمال, وحتى لو صار عالة, فهذا خير من ان يكون اداة رعب وتخريب وفزع في المجتمع . واليد على كل حال أهون من الرأس , والرأس يقطع في بعض الجرائم التي يستحق مرتكبوها قطع الرأس , فكذا اليد يجب ان تقطع – وهي اقل شأنا من الرأس – في الجرائم التي يستحق مرتكبها قطع يده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين,,