يقول سيد قطب فى كتابه العدالة الاجتماعية فى الإسلام) في الصفحة (102) :
(وليُّ الأمر في الإسلام لا يطاع لذاته ، وإنما يطاع لإذعانه هو لسلطان الله واعترافه له بالحاكمية ، ثم لقيامه على شريعة الله ورسوله . ومن اعترافه بحاكمية الله وحده ، ثم تنفيذه لهذه الشريعة يستمد حق الطاعة ، فإذا انحرف عن هذه أو تلك سقطت طاعته ، ولم يجب لأمره النفاذ .
يقول صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلّم : « عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ » رواه مسلم والنسائي .
((( لهذا يحارب علماء السلاطين سيد قطب )))
لأنه يفضح زيف قلوبهم وضلال فعالهم
قال سيد قطب في الصفحة (103) من الطبعة السادسة من كتابه : (العدالة الاجتماعية) الصادرة عام 1964م ، أي في السنة الميلادية التي صدر فيها (معالم في الطريق) :
(يجب أن نفرق بين قيام الحاكم بتنفيذ الشريعة الدينية ، وبين استمداده السلطان من صفة دينية لشخصه . فليست للحاكم سلطة دينية يتلقاها مباشرة من السماء ، كما كان لبعض الحكام في القديم في نوع الحكم المسمى : (ثيوقراطية) إنما هو يصبح حاكماً باختيار المسلمين الكامل وحريتهم المطلقة ، لا يقيدهم عهد من حاكم قبله ، ولا وراثة كذلك في أسرة .. فإذا لم يرضه المسلمون لم تقم له ولاية ، وإذا رضوه ثم ترك شريعة الله لم تكن له طاعة) .
(( لمن يدعى أن سيدا ينادى بالحكم الثيوقراطى ))
الطاغوت كله طاغوت! .. إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله. ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية : " لا إله إلا الله ".. " لا إله إلا الله " كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله.. وهذا هو الطريق.
إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم. فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد. إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم.. إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد. ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون.
لا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير. إنها معركة لله، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له.
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية. ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك- لحكمة يعلمها الله- أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد،فلا يمنحهم الله النصر أبداً، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا..
وما الطاغية إلا فرد، لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطاناً؛ وإنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب، وتمد له أعناقها فيجر، وتحني له رؤوسها فيستعلي، وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى.
وإننا لنبخس القرآن قدره ، إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنه حديث عن جاهليات كانت ! إنما هو حديث عن شتى الجاهليات في كل أعصار الحياة . ومواجهة للواقع المنحرف دائما ورده إلى صراط الله المستقيم .
المنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد، ولا ينتهي إلى رشاد. واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون. وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه. فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم.
الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم..
استخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة ، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ، ولا يعودوا يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة . ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك ، ويلين قيادهم ، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!
روى الصحفي السعودي أحمد عبد الغفور عطار حادثة رآها من سيد قطب بعينه وعاشها بكيانه ، وهي أغرب من الخيال .
والأستاذ أحمد عالم لغوي شهير قدم له الأستاذ العقاد بعض كتبه وهو مؤسس صحيفة عكاظ السعودية عام 1379 هـ و كان رئيس تحريرها
قال : اتصل بي سيد قطب تليفونيا ذات يوم وطلب مني أن آتي إلى منزله سريعا
وطلب مني باستحياء أن أحضر معي بضعة عشر جنيها قرضا ، ليشتري بها دواء ، وهو مريض ولا يملك ثمن الدواء !! .
فذهبت إلى المنزل سريعا ومعي المبلغ المطلوب ..
ولما دخلت غرفة الإستقبال ، رأيت مشهدا عجيبا ،أقسم لقد دهشت مما رأيت !
كان يجلس في الغرفة، موظف دبلوماسي في سفارة دولة عربية بترولية ، وأمامه حقيبة مليئة بالأوراق المالية من مختلف الأرقام والفئات ، تبلغ في مجموعها عدة آلاف من الجنيهات تقريبا !! .
وهو يرجو سيد قطب بإلحاح ورجاء وحرارة أن يأخذ الحقيبة ، بما فيها من أموال ، فهي هدية من دولته له ، لأنها تعرف منزلته ومسؤولياته ، وتريد منه أن يستعين بها على أعباء حياته ، وتمويل مشروعاته الأدبية والفكرية ، وكان سيد وقتها بصدد إصدار مجلة أدبية وفكرية إصلاحية – لعلها العالم العربي أو الفكر الجديد .
فنظرت إلى سيد قطب الذي كان جالسا مريضا ، فإذا به حزين ..
ثم رد هدية الرجل بحزم وأدب ، وبدا عليه الغضب والحدة ، وهو يخاطبه قائلا :
إنني لا ابيع نفسي وفكري بأموال الدنيا ، فأعد أموالك إلى حقيبتك مشكورا !! .
ثم التفت سيد إلي وقال لي : هل أحضرت ما طلبته منك ؟
فقلت له : نعم ، وناولته المبلغ ، وأنا في غاية الدهشة والإستغراب والإنفعال !!!
ولما عرف الدبلوماسي قصة هذا المبلغ ، وان سيد يومها فقير لا يملك ثمن الدواء ، ومع ذلك استعلى على آلاف الجنيهات ورفضها وردها مع حاجته الماسة إلى بعضها ... خرج محتارا متعجبا !! .
يقول الاستاذ أحمد : هذه الحاثة أثبتها وأسوقها بدون تعليق .. وأقدمها هدية لمن يتناولون حياة سيد قطب وفكره وآراءه الحركية ومواقفه الجهادية ، بالتخطئة والنقد والاتهام والتجهيل ... وهم يعيشون في ترف ظاهر ، ويلهثون وراء المال ، ويرتبطون الارتباطات المشبوهة ، ويتصلون الإتصالات المريبة ، ويمدون أيديهم لهنا وهناك !!
واقول لهم : قليلا يا هؤلاء !
ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه فوقف عندها !!
واين أنتم من هذا الرجل الزاهد المتجرد الشهيد بإذن الله ؟!!!.
.
بقلم : محمد الفاتح .
المرجع : كتاب سيد قطب من الميلاد إلى الإستشهاد .
في ليلة تنفيذ أحكام الإعدام في سيد وأخويه تم نقل الإخوان من السجن الحربي إلى سجن الاستئناف ليتم إعدامه .. وقد نشر التلفزيون صور لسيد وهو خارج من السجن .. كان منتصب القامة، رافع الرأس، مشرق الوجه، منبسط الأسارير ...
وكان يمد يده لكل جندي وحارس أمام السجن الحربي، ويسلم عليه مصافحا، ويودعه بابتسامه مشرقة!!
ثم رأينا سيد قطب وقد ركب سيارة الجيش،, والابتسامة المشرقة ما زالت تملأ وجهه، ويده ترتفع لوداع الواقفين من الجنود والحراس وتحييهم.
ولما همت السياره بالسير، نظر سيد إلى الواقفين بجانب شباك السيارة والابتسامة المشرقة كما هي.
والتقطت صورة هذه الابتسامة، ونشرت في الصحف، وصارت تنشر في الكتب التي تتحدث عن الشهيد.
إن هذه الأبتسامة الساحرة تعني الكثير، وتوحي بالكثير، وتدل على الكثير، وقد قال سيد قطب من خلالها الكثير، وحملها كل ما يريد قوله للأجيال القادمة!!
إنها ابتسامة الفرح والرضا، ابتسامة السعادة والراحة، ابتسامة الطمأنينة واليقين، ابتسامة الظفر والفوز.
وكأن سيد قطب لم يكن ذاهبا للموت، بل ذاهب للعرس، وهو في الحقيقة ذاهب للعرس في جنات الفردوس إن شاء الله تعالى.
وصدق الشاعر في كلامه عن هذه الابتسامة عندما قال :
يا شهيدا رفع الله به *** جبهة الحق على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا علما *** حاديًا للركب رمزا للفدى
ما نسينا أنت قد علمتنا *** بسمة المؤمن في وجه الردى
(من كتاب: سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد، للدكتور صلاح الخالدي).