الثلاثاء، 20 أغسطس 2019

دفع شبهة وإزالة إشكال في مسألة إرضاع الرجال ...

دفع شبهة وإزالة إشكال في مسألة إرضاع الرجال ...  
لقد كان التبني أمرا شائعا في الجاهلية وقد بقي الى زمن في الاسلام ثم حرم
فكان الرجل يتبى الابن يأخذه من ابويه ويكون عنده بحكم الابن المولود له حتى في الميراث
فالابن يتعامل وفق تربيته عندهم كوالدين من المحبة والميول ويدخل عليهم ويرى منهم مايراه ابنهم فليس هناك فارق في التحفظ بينه وبين الابن المولود لهم
وكان سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما عبدا فأُعتق فوالى أبا حذيفة رضي الله عنه فأحبه وتبناه
وتربى عندهم كابن مع والديه
رأت زوجة ابي حذيفة ان زوجها بدء يتحرج من دخوله عليها وقد بلغ مبلغ الرجال
فهو الآن شرعا أجنبي عليها فقد حرم الله التبني
فجاءت الى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بأمر زوجها
فقال لها صلى الله عليه وسلم أرضعيه
فقالت له هو كبير فقال صلى الله عليه وسلم أعلم انه كبير
فأرضعته وانتهى الأمر
الإشكال هنا
اولا : ان أحاديث تحريم الرضاع هي للصغير وأثناء الحولين
فجاءت الأحاديث تبين "ان الرضاعة من المجاعة "و "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" و " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء ، وكان قبل الفطام"
ومابعد الحلوين يكون بحكم الغذاء وليس الرضاع
فكيف ترضع سالما وهو كبير ؟!
فمن العلماء من قال إرضاع الكبير كارضاع الصغير يثبت به الحرمة
ومنهم من قال هذا خاص بسالم رضي الله عنه ولايصح رضاع الكبير
قال الإمام مالك رحمه الله: "إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَعْمَلِ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ لَعَمِلَ بِهِ النَّاسُ بَعْدَهُ"
وهذا قول جماهير العلماء وهو قول ازواج النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها
ومنهم من قال هذا يجوز لمن يكون حاله كحال ابي حذيفة مع سالم
وهذا قول شيخ الاسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله وغيرهما من العلماء
وهذا هو الأقوى جمعا بن الأدلة وضعف الخصوصية
قال الصنعاني " والأحسن في الجمع بين حديث سهلة وما عارضه: كلام ابن تيمية , فإنه قال: إنه يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يُستغنى عن دخوله على المرأة وشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثّر رضاعه. وأما من عداه , فلا بد من الصغر. انتهى. فإنه جمع بين الأحاديث حسن، وإعمال لها من غير مخالفة لظاهرها باختصاص , ولا نسخ , ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت له الأحاديث))
وقد رد ابن تيمية دعوى الخصوصية فقال ( أن ما ثبت في حق الواحد من الأحكام ثبت في حق جميع الأمة وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام،وحيث ما خص الواحد بحكم فلا بد أن يكون اختصاصه بذلك الحكم لعلة اختص بها لو وجدت في غيره لكان حكمه حكمه ولا بد من دليل على التخصيص كما قال لأبي بردة بن نيار في الأضحية تجزؤك ولا تجزؤ عن أحد بعدك لأنه كان قد ذبح قبل أن يسن وقت الأضحية وكما خص سالما مولى أبي حذيفة بأن يرضع كبيرا لأنه قد تبني قبل أن يحرم ) وبين ان هذه الخصوصية لسالم ان وجدت في حال يشابهه فيأخذ حكما
جاء في ((الاختيارات الفقهية-البرهان ابن القيم)) أنه قال : ((وأن ارتضاع الكبير تنتشر به الحرمة بحيث يبيح الدخول والخلوة إذا كان قد تربى في البيت بحيث لا يحتشمون منه - كقصة سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنه - وهو بعض مذهب عائشة رضي الله عنها فإنها تقول: إن ارتضاع الكبير ينشر الحرمة مطلقاً)).
وقال في ((الاختيارات الفقهية- للبعلي)):
((وَيَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ عَلَى الصَّحِيحِ وَرَضَاعُ الْكَبِيرَ[ةِ ] تَنْتَشِرُ بِهِ الْحُرْمَةُ بِحَيْثُ لَا يَحْتَشِمُونَ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ لِقِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَاللَّيْثِ وَدَاوُد مِمَّنْ يَرَى أَنَّهُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا)).
وقال ابن القيم: ((أن حديثَ سهلة ليس بمنسوخ، ولا مخصوصٍ، ولا عامٍ فى حقِّ كُلِّ أحد، وإنما هو رخصةٌ للحاجة لمن لا يَستغنى عن دخوله على المرأة، ويَشقُّ احتجابُها عنه، كحال سالم مع امرأة أبى حُذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجَةِ أَثَّر رضاعُه، وأما مَنْ عداه، فلا يُؤثِّر إلا رضاعُ الصغير، وهذا مسلكُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والأحاديثُ النافية للرضاع فى الكبير إما مطلقة، فتقيَّد بحديث سهلة، أو عامة فى الأحوال فتخصيصُ هذه الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديثِ من الجانبين، وقواعدُ الشرع تشهد لهُ، والله الموفق)).
بقي أن نبين أمر وهو ...
1- هل التقم سالم ثديها في الرضاع أم سقته حليبها بإناء ؟!
أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (8\ 271): « كانت سهلة تحلب في مسعط أو إناءٍ قدر رضعة، فيشربه سالمٌ في كل يومٍ حتى مضت خمسة أيام. فكان بعد ذلك يدخل عليها وهي حاسِرٌ رأسها، رُخصة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل»
وأخرج عبد الرازق في مصنفه (7\ 458): عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يُسأل، قال له رجل: «سقتني امرأة من لبنها بعدما كنت رجلاً كبيراً، أأنكحها؟». قال: «لا». قلت: «وذلك رأيك؟». قال: «نعم. كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها».
ففي الأثر الأول ذكر إناء وفي الثاني كلمة سقتني
وعلى فرض ضعف هذه الروايات فالتقام سالم ثدي زوجة ابي حذيفة هو التقام الابن ثدي أمه فليس هناك غريزة جنسية يخشى منها فالأمر طبيعي لمثل حاله معهم وهو رخصة لهم لبقاء الألفة والمحبة بينهم
قال النووي في "شرح صحيح مسلم" (5/ 375):
" قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أرضعيه" قال القاضي عياض: لعلها حلبته، ثم شربه من غير أن يمس ثديها، ولا التقت بشرتاهما، وهذا الذي قاله القاضي حسن، ويحتمل أنه عفي عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر"
2- ماورد عن عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها وارضاها
الطاهرة المطهرة والمبرأة من فوق سبع سموات بقرآن يتلى حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنها كانت تأمر بنات أخيها وبنات أخواتها أن يرضعن من تشاء أن يدخل عليها
حول ماورد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها كانت تأمر بنات إخوانها أو بنات أخواتها أن يرضعن من أرادت أن يدخل عليها .
********
روى الامام مالك أن عائشة رضي الله عنها " كانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال وأبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس وقلن لا والله ما نرى الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل إلا رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رضاعة سالم وحده لا والله لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد، فعلى هذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في رضاعة الكبير"
وأخرج مسلم عن زينب بنت أم سلمة عن أمها: أنها قالت لعائشة: " إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي،
فقالت عائشة: أما لك في رسول الله أسوة ؟
قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى يدخل عليك."
*************
سبق وأن بينا أن ارضاع الكبير هو أمر خاص بسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه وأجاز بعض العلماء لمن يكون بمثل حاله من الحاجة والضرورة
***************
لقد حرم الاسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان. رواه أحمد والترمذي
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء!»، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت»
الحمو هو أقارب الزوج من الرجال
«الحمو الموت»: معناه "أن الخوف منه أكثر من غيره لحصول الفتنة "
قال العلامة العثيمين رحمه الله " ومعلوم أن الحمو يحتاج إلى الدخول إلى بيت أخيه، ولاسيما إذا كانوا في بيت واحد، فلو كان إرضاع الكبير مؤثراً لقال: الحمو: ترضعه زوجة قريبه، ليزول الحرج، فلما لم يقل ذلك، علم أن مطلق الحاجة لا يؤثر في ثبوت حكم الرضاع في الكبير، وأنه لابد أن تكون حاجة خاصة نمشي فيها على كل ما حصل في قضية سالم مولى أبي حذيفة. "
فشذوذ ان يفتي البعض للموظفين أنه إذا كان الموظف مع الموظفة في غرفة لوحدهما ولايدخل عليهما أحد إلا بإذنهما
فليرتضع منها حتى يجوز له أن يختلي بها ؟!
فهذا فتح باب فساد عريض وليس ثمة حاجة ملحة لو أجزناه للحاجة هنا والشرع قد نهى عن الخلوة والاختلاط
**************
ولما كان ازواج النبي صلى الله عليه وسلم قد فرض عليهن الحجاب
قال الله تعالى:
" وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ "
وقد كانت عائشة رضي الله عنها عالمة ويرجع اليها في الفتوى
وكانت حريصة على تبليغ ماعندها من علم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولعل نشر العلم وتبليغه للرجال كان من اجتهادها رضي الله عنها انه من جملة الحاجات التي تجيز فعل ما أمر النبي به من ارضاع سالم من سهيلة زوجة ابي حذيفة حتى يدخل عليها من تحب أن تنفعه بماعندها من علم من الرجال
وهي مأجورة في اجتهادها إن أصابة فيه أو أخطأت
فهل كانت تأمر بارضاع الصغار حتى يدخلوا عليها حين البلوغ وهم رجال
أم هو إرضاع للكبار الرجال ؟!
فقد ورد عن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة أم المؤمنين أرسلت به وهو [ رضيع ] إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق فقالت: أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل عليَّ.
ويؤيد هذا ماورد عن مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته: أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو [صغير يرضع ] ففعلت فكان يدخل عليها)
اي يدخل عليها وهو كبير
وفي أحكام القرآن للجصاص (3/ 25):
" وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَأْمُرُ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ تُرْضِعَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا "
إذن كانت عائشة تحب أن يدخلوا عليها بعد أن يصيروا رجالا؛ لتعلمهم أمر دينهم؛
ولو فرضنا كان الارضاع للكبار فهو بطريقة السقي وليس التقام الثدي
اخرج عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يسأل، قال له رجل: [ سقتني ] !! امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلاً كبيراً، أأنكحها؟ قال: لا، قلت: وذلك رأيك ؟ قال: نعم، قال عطاء: كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها.
قال الإمام ابن عبد البر في التمهيد (8\ 257): «هكذا إرضاع الكبير كما ذكر: يحلب له اللبن ويسقاه. وأما أن تلقمه المرأة ثديها -كما تصنع بالطفل- فلا. لأن ذلك لا يَحِلُّ عند جماعة العلماء. وقد أجمع فقهاء الأمصار على التحريم بما يشربه الغلام الرضيع من لبن المرأة، وإن لم يمصه من ثديها. ».
وقال ابن حجر في الفتح (9\ 148): «التغذية بلبن المرضعة يحرِّم، سواء كان بشرب أم بأكل، بأيِّ صفةٍ كان، حتى الوجور والسعوط والثرد والطبخ، وغير ذلك إذا ما وقع ذلك بالشرط المذكور من العدد، لأن ذلك يطرد الجوع». الوجور هو صب اللبن في الفم، والثرد هو خلط اللبن بالخبز.
اللهم اهدنا واهد بنا وزدنا هدى وانفعنا وانفع بنا وعلمنا وزدنا علما
وصل يارب وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين