الاثنين، 30 نوفمبر 2020

أسئلة واجوبه حول مشروعية اقامة المولد النبوي الشريف؟!

 صلى عليك الله يا علم الهدى .. هتفت لك الأرواح من أشواقها

واستبشرت بقدومك الأيامُ ..
أسئلة واجوبه حول مشروعية اقامة المولد النبوي الشريف؟!
قولهم: المولد ما فعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) – ما فعله الصحابة – ما فعله التابعون. ولو كان خيراً لسبقونا إليه:
قال ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" :
"إن ما تركه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع قيام المقتضى له لا يجوز إحداثه لأن إحداثه من البدع .
قال: وأما ما رآه المسلمون من مصلحة إن كان لسبب أمر أحدث بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهاهنا يجوز إحداث ما تدع الحاجة إليه" اهـ .
ونحن نقول وبالله التوفيق:
إن ذكرى المولد لم يكن سبب يقتضي إقامتها في عهده ( صلى الله عليه وسلم )، أو في عهد القرون الثلاثة، حتى ولا التفكير في إقامتها، وإنما حدث الموجب لإقامتها بعد ذلك حين انصرفت النفوس عن الخير .
وقد سبق القول بأن إحياء الذكرى ذات هدف نبيل، وأسلوب غير مباشر للتذكر بما تم على يده ( صلى الله عليه وسلم ) من صنوف الخير، وسبب من أسباب استمالة القلوب واجتذاب النفوس إلى الخير والصلاح .
وفي عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعهد أصحابه كانت المشخصات تغني عن الذكريات، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعيش بين ظهراني أصحابه يتفقدهم بشخصه، ولا تلم بأحدهم شبهة إلا كشفها، ولا تنزل به غاشية إلا جلاها، ولا يحتك في صدر أي منهم نزعة أو يطرقه وسواس إلا كان عند الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دواؤه وشفاؤه، وكان يدخل في أنفسهم، وفي مسرى مشاعرهم، ومشارب تفكيرهم، فتعمر قلوبهم بالإيمان، ونفوسهم بالسكينة، وكانوا وهم بهذا الشعور يقطعون المسافات الطويلة بقلب مطمئن ، ونفس ساكنة .
وإنه بعد لحاقه ( صلى الله عليه وسلم ) بالرفيق الأعلى ظلت أفواههم رطبة ندية بسيرته العطرة، يتنسمون منها أرواح الهدى، ويتزودون بخير الزاد .
قلوبهم عامرة مشخصة لذكره ( صلى الله عليه وسلم ) وما تم على يده مما شاهدوه بأعينهم، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) مقياساً فصلاً في خواطرهم وآرائهم وأهوائهم ورغباتهم وخلجات نفسهم لا مكان في قلوبهم لهوى نفس .
وأنه لا سبيل بعد هذا كله أن يقال عن إقامة الذكرى: "ما فعلها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) – ما فعلها الصحابة – لو كانت خيراً لسبقونا إليه " ، اللهم إلا أن يقول ذلك من لا يعقل أن الذكريات التي تقام من أجل تحقيق تلك النتائج أو بعضها لا يفكر فيها إلا عندما تفقد المشخصات المبصرة بالعيون، أو عندما يضعف أثرها في القلوب حين يبعد العهد بها .
وكان يغني التابعين وتابعيهم عن التفكير في هذه الذكريات والحاجة إليها ما امتلأت به صدورهم من تلك السيرة العطرة ونتائجها مما شاهدوه من هدي الصحابة ومن بعدهم وما تلقوه منهم. فطبع جلهم على الصلاح لا يفارقون العلم وحلقاته، ويتنافسون في صقل نفوسهم وتزويدها بما ازدهر في عصرهم من علوم القرآن والحديث والسيرة والفقه والأخلاق .
فأنى لمثل هذه النفوس أن تفكر في إقامة الذكرى، بينما القلوب مشحونة بالاتباع، مشخصة فيها السيرة العطرة، وكأن أحداثها مبصرة بأعينهم .
وهذا بالإضافة إلى أن جو الصعيد الرسمي في العهد الأموي الذي كان يلعن فيه علي بن أبي طالب زوج فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويطارد أولادها ويقتلون: لم يكن يوحى للاحتفاء بذكرى تذكر الناس بما لهؤلاء من شأن .
وكذلك الحال في أوائل عهد الدولة العباسية يوم بدأت مطاردة أهل البيت العلوي، والجدل حول من هو أحق بميراث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الخلافة، هل هم بنو عمه أم بنو بنته فاطمة "وما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ممن يورث ولكنه التبرير لشهوة السلطان بأي سبيل" .
ونتيجةً لتأثر المجتمع الإسلامي مما فيه من أصناف الجماعات، وما دخل عليهم من الفتن ، وإطلال الأطماع والشهوات، وتنافس الناس على شؤون الدنيا والانشغال بها: قل من تسعدهم الأوقات بدراسة القرآن الكريم، ومد أيديهم إلى الكتب للاستبصار بسيرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والاستئناس بسيرة السلف الصالح .
وكلما تباعد الزمان ساءت الأمور ودعت الحاجة إلى ابتكار أسلوب يذكر الأمة بما هو عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من صفات وشمائل، وما أفاض الله به من أنواع الخير كسبب للوقاية من الدعايات والمغريات التي يحارب بها أعداء الإسلام أمة الإسلام .
ولما كان أسلوب التوجيه المباشر هو أسلوب لا يقترب من النفس البشرية. لذا فاللجوء إلى الأساليب غير المباشرة أسلوب ناجح في الوصول إلى صدور الناس واستمالتهم إلى الخير والصلاح .
وانبثق عن هذا فكرة الاحتفاء بذكرى مولد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) للوصول إلى تلك النتائج إذ لا أسهل من الاجتماع في مناسبة على مجلس فيه ذكر وفيه تذكير لإيصال ما يراد إيصاله إلى أهله. وعلى هذا فلا سبيل إلى اعتراض المعترضين على الاحتفاء بهذه الذكرى .
وتنبهت الأمم الإسلامية في المشرق والمغرب إلى ما لهذا الأسلوب من آثار في الوصول إلى صدور الناس وإثارة للعواطف الكريمة التي تثيرها تلك الذكرى وما تحمله من شكر المولى عز وجل على ما من به من إيجاده ( صلى الله عليه وسلم )، وما تنميه في قلوب الأمة من تعظيم لقدر هذا النبي ( صلى الله عليه وسلم )، وإظهار الفرح والسرور بمولده والعرفان لما فاض من طلعته الميمونة في إنارة الطريق وشحن القلوب بجلاله ومحبته وتعظيمه ( صلى الله عليه وسلم )، كلما تجددت تلك الذكرى، فكان فيها جلاء لصدأ القلوب، وجلوس لمجلس خير، يتحقق فيه مبرات وصلات وذكر وقراءة قرآن وإشاعة لسيرته ( صلى الله عليه وسلم )، وكثرة صلاة وتسليم عليه، ومدحه وغرس لحبه الذي لا يتحقق الإيمان إلا به .
وحسب هذا المجلس بركة ما يشاهد فيه من امتلاء القلوب بالخشية، وتذلل الوجه بالضراعة، ورفع الأيدي بالرجاء، واشتغال الألسن بالدعاء، وانكسار النفوس بالتذلل، وصدق الآمال في أرحم الراحمين، وليس في استدرار الرحمة مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد وصعيد واحد، فلا بدع أن عم الجمع الرحمة ونال بعضهم بركة بعض، ووهب الله مسيئهم لمحسنهم، وطالحهم لصالحهم كما هو الحال في كل اجتماع شرعه الله كالوقوف بعرفات والجماعات والجمع والعيدين وغيرها، وكما هو الحال يوم المحشر الذي تزدحم فيه الخلائق فينال المؤمنين فيه بركات الرسل والأنبياء وعباد الله الصالحين .
فنهج ملوك الدول السلامية وشعوبها على المواظبة على الاحتفال بهذه الذكرى لهذه الغايات .
وكان أكثر الأمم احتفالاً بها بعد مصر : الشام الجزيرة والموصل واليمن وإفريقيا والمغرب والأندلس .
وحتى بعد قضاء صلاح الدين في سنة 567 على الدلة الفاطمية
وانصرافه إلى الاستعداد المستمر لرد غارات الصليبيين لم يحل ذلك دون مواصلة الشعب للاحتفاء بهذه الذكرى حتى إن الملك المظفر أبو سعيد ملك إربل المتوفي سنة 630 وهو أمير تابع لصلاح الدين، وصهره زوج أخته حافظ على الاحتفاء بهذه الذكرى وألف له الحافظ ابن دحية المتوفى سنة 633 حين مر على إربل سنة 604 كتاباً في المولد سماه: "التنوير في مولد البشير النذير" حسن فيه الاحتفال وأقام على ذلك وجوه الاستدلال .
واستمر عمل المولد في سائر أقطار الإسلام على مستوى الحكومات والشعوب منذ نشأت في سنة 362إلى اليوم وتطورت مظاهر الاحتفال بذكراه حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن مما سبق ذكره.
قال السخاوي: ولا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ويعملون الولائم ويتصدقون في ليلته بأنواع من الصدقات .
وليس المهم من فعله من الحكام أو الشعوب، وإنما من طالع الوفيات وكتب الطبقات والتاريخ يعلم أن القرن الرابع والخامس والسادس والسابع كان زاهراً بالعلماء، ومع ذلك لم ينقل عن أحد منهم إنكاراً على إقامته حتى جاء ابن تيمية المتوفى أوائل القرن الثامن سنة 728 فأنكر فعله شاذاً عن الجمهور .
وإن المرء يستغرب عده المولد من المحدثات الممنوعة مع ما نقلناه عنه أن للمسلمين إحداث ما تقضي به المصلحة وتدعو إليه الحاجة من الأمور التي لم يكن المقتضي لها قائماً في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا في عهد أصحابه .
فهل كان الصحابة في عهده ( صلى الله عليه وسلم ) وبعد عهده في حاجة إلى إقامة ذكريات تشحذ عزائمهم إلى الاتباع والتعظيم والمحبة وعندهم المشخصات التي شاهدوها بأعينهم، وبقيت حيةً في قلوبهم بعد وفاته ( صلى الله عليه وسلم )، تلقنها التابعون مشافهةً عملاً وعلماً .
ولم يقل بقول ابن تيمية في بدعة المولد إلا فئة تأثرت بأقواله من معاصريه وبعدهم ، كابن الحاج المتوفي سنة 733، والفاكهاني المتوفى سنة 734، والشاطبي المتوفى سنة 790 لما شبه لهم أنه عبادة وإحداث في الدين وزيادة فيه، وفاتهم أن المولد هو أسلوب اجتماعي لتحقيق أغراض دينية مشروعة، فخلطوا بين الأسلوب وبين ما قصد به من تحقيق غايات دينية مشروعة .
ولم يلتفت جماهير العلماء إلى إنكارهم بل المنقول عن جل العلماء وسوادهم الأعظم تحبيذه والتأليف فيه وحضور مجالسه .
قال أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحواد" مادحاً لهذا العمل: "وإنه يحسن ويندب إليه ويشكر فاعله ويثني عليه"اهـ .
والمهم بيانه: إن المقتضي لإقامة الاجتماع لذكرى المولد لم يكن قائماً في عهده ( صلى الله عليه وسلم ) ولا عهد أصحابه كما ذكرناه عن الصحابة ثم التابعين، من عمران القلوب بهديه ( صلى الله عليه وسلم )، حيث أغنت المشخصات عن إقامة الذكريات .
أما حين بَعُدَ العهد وانشغل الناس بالدنيا عن الدراسة والاستبصار بسيرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصدأت القلوب، فلا حرج على من اتخذ أسلوباً للوصول إلى صدور الناس في جلاء الصدأ، وليس أنسب من اختيار يوم ميلاده لتشخيص ذكراه في القلوب، واستعراض بعض ما جاء به ترقيقاً للقلوب بأسلوب غير مباشر ، يقرب من النفس البشرية .
فلا سبيل إلى الاعتراض على الاحتفاء بهذه الذكرى لما تحققه من غاية نبيلة سبق ذكرها ... والله الهادي إلى سواء السبيل .
الشبه والتشكيكات
ثانياً
ليس المولد من العبادات التوقيفية :
اعلم أن ما شرعه الله للتعبد به لا يكون إلا بتوقيف من الشارع ولا يكون إحداث ما يشتبه به أو من جنسه إلا بدعة ضلالة إن لم يقم الدليل على إخراجه منها كإحداث أذان في العيد، أو تراويح في شعبان، أو حج إلى مكان غير الأمكنة المشروعة، أو إحداث راتبة تشبه الراتبة الشرعية إلى غير ذلك مما فيه اشتباه غير المشروع بالمشروع.
أما مالم يشرعه الله للتعبد به، ولا يشتبه به، ولا هو من جنس ما شرعه الله للتعبد به، كالمولد مثلاً فإن بعض من أخطأ في التطبيق كابن تيمية والشاطبي ومن قلدهما حاول أن يصوره بأنه من العبادات التي تحتاج إلى توقيف من الشارع ليسلكه في بدعة الضلالة ، وليس الأمر كما ادعوا، ولذا ذهب جمهور العلماء إلى جواز إقامة الاحتفاء بالمولد، وإلى نية اجتذاب النفوس إلى الخير والصلاح بواسطة التذكير بما تم على يده ( صلى الله عليه وسلم ) من صنوف الخير، والإشادة بذلك وبشمائله وفضائله، كل ذلك يجعله قربى إلى الله كسائر أعمال المسلم التي لم يتعبدنا الله بها فإن النية تصرفها إلى القربى،ولا تحتاج مزاولتها إلى توقيف من الشارع وإنما يشترط أن لا يكون العمل منهياً عنه .
ولو كان كل عمل يقصد به التقرب إلى الله يسلك في سلك العبادة التي تحتاج إلى توقيف لأصبحت جميع أعمال المسلم حتى العادات إذا قصد بها التقرب مما يحظر مزاولته إلا بتوقيف من الشارع.
ولا يقول أحد بالتسوية بين عبادة شرعها الله للتعبد بها وبين عمل لم يضع للتعبد به وإنما صرفته النية أن يكون قربى إلى الله .
فمن أطلق القول: "بأن الأصل في العبادات أن لا يشرع فيها إلا ما شرعه الله والأصل في العادات أن لا يحظر إلا ما حظره الله" فقد لبَّس على الناس، لأن العبادة التي تحتاج إلى توقيف من الشارع هي العبادة التي وضعها الشارع للتعبد بها، فلا يجوز الزيادة فيها ولا النقص أو إحداث ما يشتبه بها، بخلاف أعمال المسلم الأخرى فإنه لا يحظر فيها إلا ما حظره الله وكلها صالح لأن يكون عبادة إذا نوى فاعلها التقرب بها إلى الله .
فجعل المولد بدعة في الدين تحكم، لأنه ليس من جنس ما وضعه الله للتعبد به حتى يشتبه به ولم يدع أحد أن الله قد شرعه للتعبد، ولم يتخذه أحد ديناً يضاهي به المشروع من العبادات، ولم يوجب أحد على الناس حضوره، وإنما ينكر على من يمنع من حضوره .
فالزعم بأنه تغيير لدين الله، أو زيادة في الدين، أو اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو إحداث في الدين ما ليس منه، أو تشريع في الدين، أو زيادة في ضروريات الدين القطعية وشعائره، إلى آخر تلك العبارات وأمثالها فكل ذلك تهويش .
إذ المولد في حقيقته نشاط اجتماعي قصد به جلاء القلوب مما أصابها من الصدأ، فكان أسلوباً غير مباشر يهدف إلى تحقيق خيرات لا محظور من إقرارها: من إطعام وصدقة وإنشاء شيء من الأشعار في المدائح النبوي والزهدية الباعثة إلى فعل الخير، بالإضافة إلى ما فيه من تلاوة وصلاة على النبي( صلى الله عليه وسلم )، وإظهار السرور بمولده، وشكر الله على إبرازه ومنته به علينا وما ينجم عن ذلك من امتلاء القلوب بالخشية وتذلل الوجوه بالضراعة ، ورفع الأيدي بالرجاء، واشتغال الألسن بالدعاء، وانكسار النفوس بالتذلل، وصدق الآمال في أرحم الراحمين .
وصرف النية إلى تحقيق هذه الأهداف يصرف هذا الاجتماع إلى قربى إلى الله شأن جميع أعمال المسلم التي لم توضع للتعبد بها تصرفها النية إلى قربى .
ومن زعم أنه تحصل منكرات في هذا الاجتماع فليوجه نقده إلى ما يحدث إن صدق لا إلى أصل الاجتماع في هذة المناسبة الكريمة الذي تتحقق فيه أعمال مشروعة وأهداف خيرة .
وبقي بعد هذا أن نبين هدفهم من جعل المولد من العبادات التي تحتاج إلى توقيف من الشارع :
فهم يريدون بادعاء ذلك التنصل من أن يطالبهم أحد بإيراد الأدلة على تحريمه وبدعيته بزعم أنه داخل في العبادات التي تحتاج إلى توقيف فلا يكون جائزاً، بل مسلوك في سلك بدع الضلالة إلا أن يسوق المجيز دليلاً على إخراجه منها كما يدعون .
وهذا الأسلوب منهم هو من باب قلب الأمور، لأن تحريم ما لم يرد تحريمه بدليل هو من أسباب الضلال. وإن من لا يملك الدليل على التحريم ينطبق عليه ما ورد فيمن حللوا وحرموا من عند أنفسهم .
أما من زاول أمراً لم يوضع للتعبد به ولا يشتبه به ولم ينه عنه فلا يقال: إنه اتخذ ديناً، ولا إنه يحتاج إلى توقيف ، وإنما تصيره النية قربى شأن جميع أعمال المسلم الأخرى التي لم يضعها الله للتعبد بها تصير قربى إن نوى بها التقرب إلى الله كما في الحديث: "أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر" .
وحسب الجمهور احتياطاً في قبول الجديد بعد العهود الأولى أن يندرج تحت مصلحة مناسبة، وذلك عند عدم النص أو الإجماع، وأن لا تكون معارضة لنص أو أصل شرعي .
وإقامة ذكرى المولد لا تضاد أصلاً من أصول الشرع ولا دليلاً من دلائله .
وعلى فرض أنه من الأمور المبتدأة بعد العهود الأولى فإنه يكون من القسم المقبول بالإطلاق اللغوي .
وما يتلى فيه من ذكر مولده ومعجزاته وشمائله وفضائله مما يحيي في القلوب القدوة الحسنة والعظة ويذكر بمنة الله به ( صلى الله عليه وسلم ) على الأمة، وما وصل إليها من أنواع الخير من طريقه فيغرس ذلك كمال محبته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكمال الإيمان به، والمحافظة على تعظيمه ( صلى الله عليه وسلم ) وشكره تعالى على هذه المنة العظيمة، وكل تلك الأمور من الضروريات التي ترجع إلى حفظ الدين ، فمن لم يجد سنداً صحيحاً ودليلاً ناهضاً على درجه في المحدث وبدعة الضلالة التي أطلقها الشرع على محدث يصادم نصاً أو أصلاً شرعياً لا على كل عمل مبتدأ لا يعارض شيئاً من ذلك فعليه أن لا يجزأ على الله بتحريم شيء لا دليل على تحريمه.
وسيأتيك في البحث التالي أنهم استدلوا على تحريمه ودرجه في بدعة الضلالة بما لا دليل فيه على ذلك .
الشبه والتشكيكات
ثالثاً
حديث كل بدعة ضلالة لا يشمل المولد:
ردد الوهابيون كثيراً حديث: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" ، وحديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" على أنهما دليلان على تحريم المولد وأنه بدعة ضلالة .
وقد علمت مما سبق في بحث البدعة أنه لا دليل في الحديثين على ذلك، لأن المحدث والبدعة في الحديثين مراد بهما الاستعمال الشرعي لها وهو المحدث الذي يتعارض مع النصوص والأصول الشرعية، فذلك هو بدعة الضلالة كما أوضحه الشافعي إذ إنها بمخالفتها للنصوص والأصول الشرعية تكون خارجة عن شرعه ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى خلاف منهج تشريعه .
أما المحدث والبدعة بالإطلاق اللغوي وهو الأمر المبتدأ على غير مثال من أمور تجد على الأمة بعد العهود الأولى، فمنه المردود وهو بدعة الضلالة السابقة ، ومنه المقبول لحديث: "من سن سنةً حسنة عمل بها بعده فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة عمل بها بعده فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
ولذا فإنه جمعاً بين الأحاديث يتضح أن الكلية في حديث: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" لا يشمل كل أمر مبتدأ إذا لم يعارض النصوص ولا الأصول الشرعية فإن ذلك محمود غير مذموم بنص حديث: "من سن سنة حسنةً" .
إنما تسري الكلية في حديث: "كل محدثة بدعة" على ما يسميه الشرع محدثاً باصطلاحه وعرفه، وهو الذي يعارض النصوص والأصول الشرعية، وهو بدعة الضلالة كما قلنا وهي شر كلها .
والمولد هو من القسم المقبول بالإطلاق اللغوي، لأنه لا يضاد أصلاً من مقاصد التشريع، ولا دليلاً من دلائله، بل هو مندرج تحت أصل شرعي .
ومن يزعم أنه يعارض شيئاً من النصوص أو الأصول الشرعية فعليه أن يسوقها سياقةً تدل على المطلوب لا بسرد الآيات والأحاديث التي هي بعيدة عن دعوى تحريم المولد بها أو أنه من بدع الضلالة .
وأما قولهم أن التعظيم والشكر لا يتم بالإحداث في الدين، فثبوت هذا يتوقف على ثبوت أن المولد من المحدثات الممنوعة في الدين، ودون إثبات ذلك خرط القتاد .
اللهم إلا أن يكرروا الاستدلال على ذلك بحديث: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وأمثاله مما بينا أنه لا دليل فيه على ذلك، فيكون الأمر منهم عوداً على بدء، وتكراراً ممجوجاً –كما هو في ديدنهم.
التويجري يسوق لتحريم المولد آيات لا دلالة فيها على ذلك :
ساق التويجري في كتابه "الرد القوي" ص 6 آيات جعلها دليلاً على تحريم الموالد وهي بعيدة عن ذلك كل البعد .
فسرد قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} ثم قال: إنها رد على من ابتدع بدعة يزيد بها في الدين ما ليس منه . اهـ .
وسبق القول أنه ليس ثمة من ادعى أن المولد أمر تعبدي، أو
دين ألزم الناس بالأخذ به، أو أوجب الاجتماع لإقامته، أو أوجب على الناس حضوره .
بل هو عندهم مزاولة نشاط اجتماعي لغايات دينية، ولم ينه عنه الشارع صيرته النية قربى بنية تحقيق تلك الغايات، شأن جميع أعمال المسلم الأخرى التي لم يضعها الله للتعبد بها تصير قربى إن نوى بها التقرب .
وسرد قوله تعالى: {وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ثم قال: والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يأمر أمته أن يتخذوا يوم مولده عيداً وقد نهاهم عن البدع وحذرهم منها .اهـ .
وأقول: ليس في الآية: {وما ءاتاكم الرسول فخذوه }دلالة على أن مالم يأمر به لا يكون إلا محرماً.
ففي حديث البخاري: " دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" ويفسره حديث البزار والطبراني بسنديهما عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما أحل الله فى كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا" ثم تلا: {وما كان ربك نسيا }.
فرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يقل يا صاحب "الرد القوي" كما قلت واستنبطت : أن ما لا يأمر به الله هو محرم ، بل المعتبر أن الحرام ما ورد نص بتحريمه، أو دلت الشريعة على تحريمه باستعمال الأدلة الشرعية بلا تعسف ولا تكلف، والفرض ما دلت الشريعة على فرضيته ، والسكوت عنه يدل على العفو إلا أن يرد حكم بشأنه من نص أو إجماع أو استنباط بإحدى طرق الاستنباط المعتبرة عند الفقهاء.
وأما قولكم: إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد نهى وحذر فقد سبق أن بينا لك ولأمثالك معنى المحدث، ومعنى البدعة التي نهى الله عنها فاستفد من ذلك وكن من الشاكرين .
وسرد أيضا قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} ثم قال: ففيها تخذير مخالفة سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته .
قال: وفي الآية تهديد ووعيد لمن خالف الأمر الذي كان عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بزيادة على المشروع أو نقص عنه . فالاحتفال بليلة المولد واتخاذها عيدا لم يكن من هدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإنما هو من المحدثات ، فهو داخل فيما حذر الله منه ولو كان في الاحتفال خير لسبق إليه الصحابة .اهـ .
وأقول : لما لم يفهم الوهابيون المراد من وصفه ( صلى الله عليه وسلم ) للفرقة الناجية: "بأنها هي التي تكون على مثل ما هو عليه ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه" أكثروا في كل أمر يريدون سلكه في سلك "بدع الضلالة" من التعبيرات: "ما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم )، ما فعله الصحابة، ما فعله التابعون، لو كان خيرا لسبقنا إليه الصحابة".
وفرق كبير بين قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "على مثل ما أنا عليه وأصحابي" وبين تعبيراتهم هذه.
فالأول: يعني عدم قبول ما أحدث على خلاف مناهجهم وطرقهم في استنباط الأحكام من الأدلة، أي عدم قبول ما يصادم قواعد الشرع ، فذلك هو المخالف لما هو عليه وأصحابه ، وهو الذي ليس من دينه ( صلى الله عليه وسلم )، وليس من أمره ولا سبيله ولا منهاجه ولا طريقته ولا سنته ولاشريعته.
وأما ما يرددون من عبارات فهو يعني أنه لا يقبل جديد من الحوادث مما يجد على الأمة من بعده ، وبعد الصحابة، وهذاجمود لا
يتناسب مع شمول شريعته ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان وما سيكون من الحوادث.
فحصر السنة على ما وجد في العهود الثلاثة الأولى، وجعل ما حدث بعدها بدعة ضلالة، دون نظر إلى معارضة ذلك لقواعد الشرع أو عدم معارضته لا يذهب إليه إلا جامد متحجر.
وحري بالقلة التي أكثرت من تلك التعبيرات وزعمت أن كل جديد بعد العهود الثلاثة هو بدعة ضلالة أن تتهم بسوء الفهم وبالشذوذ.
وقد وضحنا في مبحث البدعة أن المحدث في اصطلاح الشرع وعرفه هو المحدث الذي يعارض النصوص والأصول، وهذا هو الذي ينطبق عليه: أنه المخالف لشرعه والخارج عن أمره ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته.
والآية التي سردها إنما تحذر من مثل هذا. وأما ما لا يصادم نصا ولا أصلا شرعيا، وتتحقق به مصلحة مناسبة للتشريع، فليس من المحدث المعني في حديث: " كل محدثة بدعة"، ولا في: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه رد"، وليس مذموما ولو وقع بعد العهود الثلاثة، ولا خارجا عن الشرع، ولا عن أمره ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا عن طريقته وسنته ومنهج تشريعه.
وإلى هذا القسم الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) " من سن سنة حسنة " (الحديث).
فلا يقال في مثل هذا: إن فاعله قد خالف الأمر الذي كان عليه( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ولا خارجا عن هديه فهو بعيد عن مفهوم الآية التي ساقها.
وسرد أيضا قوله تعالى :{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} ثم قال: فاتخاذ ليلة المولد عيدًا هو من اتباع الأولياء الذين ابتدعوا إحياء ليلة المولد.
كما سرد أيضا قوله تعالى :{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله} ثم قال: واتباعه لا يحصل إلا بالتمسك بهديه وترك ما ابتدعه المبتدعون من بعده.
وأقول :حيث لم يقم على تحريم المولد حتى الآن أي دليل ناهض، ولا أنه مخالف لهديه ( صلى الله عليه وسلم )، ولا على أنه يعارض نصا أو أصلا شرعيا، بل هو مندرج تحت مصلحة مناسبة للتشريع، فإلى أن يجد المستدل الدليل الناهض على بدعية المولد فبإمكانه حينئذ أن يستدل بالآيتين على اجتنابه لا قبل ذلك.
وعلى ضوء هذا قل لي: من هو الأحق بوصف المبتدع، هل هم السواد الأعظم من العلماء الذين تلقوا المولد بالقبول وألف فيه أو رد على منكريه منذ نشأته إلى اليوم من أمثال الحفاظ: ابن دحية وأبي شامة والعراقي وابن رجب الحنبلي والجزري وابن ناصر الدمشقي وابن حجر و السخاوي والسيوطي وملاعلى القاري وابن الديبع، وغيرهم من علماء الجامعات الإسلامية على توالي القرون في أزهر مصر، وزيتونة تونس، ومعاهد المغرب، وجُلُّ علماء المسلمين شرقا وغربا من الذين لا ينكرون على إقامة ذكرى المولد،ويحضرون مجالسه، وينافحون عن جوازه. أم الأحق بوصف الابتداع هم الفلول المحرمة له بدون برهان؟ مع قول ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين خطب بالجابية مما رواه الترمذي: "إياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد".
الشبه والتشكيكات
رابعاً
زعمهم أن إقامة ذكرى المولد هي زيادة على الأعياد المشروعة:
استدل التويجري على بدعية المولد كما في ص 39 من رده "بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد شرع لأمته سبعة أعياد: هي يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم الأضحى ويوم عرفة، وأيام التشريق الثلاثة. وأطال – كعادته بسرد النصوص الواردة في كل يوم من هه الأيام .
ثم قال في ص 192: فمن زاد على هذه الأعياد السبعة عيداً غيرها فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، والاحتفال بالمولد النبوي من الأعياد الزائدة على ذلك .
وفي ص43 قال: إذ علم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشرع لأمته عيداً سوى السبعة الأيام فما سوى ذلك من الأعياد فهو بدعة ضلالة" اهـ.
وأقول :
أورد التويجري نصوصاً متفرقة بأن يوم الجمعة عيد مثلاً، ونصوصاً بأن يوم الفطر عيد وهكذا إلخ. السبعة أيام فكيف استنبط الحصر من هذه النصوص المتفرقة وأن ما سواها بدعة وتشريع لما لم يأذن به الله .
بل هو قد أورد فيما سرد بص 42 حديثين يدلان على خلاف ما استنبط وخلاصة ما جاء في الحديثين :
الأول: قال أنه رواه ابن جرير والطبراني في "الأوسط" أن كعباً قال لعمر رضي الله عنه: "لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية يريد :{اليوم أكملت لكم دينكم} لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، يوم الجمعة ويوم عرفة" وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
الثاني: قال إنه رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهودياً قال لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيداً، فأجابه ابن عباس بمثل ما أجاب به عمر .
وأنت ترى أنه ليس في حديث عمر ولا ابن عباس ما يدل على إنكارهما أن يتخذ يوم نزولها عيداً، بل أخبرا أن نزولها قد صادف يوم عيدين يجتمع فيهما الناس هما يوم الجمعة ويوم عرفة .
ثم من أين للتويجري أن الاحتفال بالمولد هو من اتخاذه عيداً اللهم إلا أن يكون الجامع عنده هو الفرحة مثلاً بميلاده ( صلى الله عليه وسلم ) وبعثته وما وصل من الخير على يديه .
فإن أراد هذا فليعلم أن تلك الفرحة هي وسيلة من أُشرب قلبه حب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما له مساس برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وليست هذه الفرحة مماتسلك الاحتفاء بالمولد في سلك الأعياد السبعة، لأن هذه الأعياد السبعة مشتملة على عبادات خصها الشارع بها. والمسلمون بحمد الله لا يدعون في المولد أنه عبادة، بل هو عندهم أمر غير ممنوع يزاوله الناس فيكون قربى بنية الفرحة به ( صلى الله عليه وسلم ) وتعظيمه،وشكر الله على ما من علينا به، وتحيق خيرات ونفع عام بواسطته، وذلك ليس خاصاً بالمولد بل هو شأن جميع أعمال المسلم التي لم يشرعها الله للتعبد بها، فإنها تصير قربى إذا نوى المرء التقرب بها.
ولذا فإن قول ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" : أن العيد "شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع لا الابتداع فما شرعه الله اتبع وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه" اهـ. محل نظر في تطبيقه على إقامة ذكرى المولد لأن أحداً لم يسلكه في سلك الأعياد التي اعتبرها الشارع لاشتمال هذه على عبادات خصها الشارع بها،ولم يدع أحد أن المولد أمر تعبدي، بل هو نشاط اجتماعي لتحقيق أغراض دينية مشروعة من الغبطة بمولده والتذكير بشمائله وفضائله ومنة الله تعالى به على الخلائق، وبما وصل من طريقه من الخير وغرس تعظيمه وكمال محبته وكمال الإيمان به، وشكر الله على المنة به وإحياء القدوة في القلوب. ونية تلك الغايات هي التي جعلت ذلك الاجتماع قربى إلى الله أسوة بسائر أعمال المسلم التي لم يشرعها الله للتعبد تتحول إلى قربى بالنية الحسنة .