الأربعاء، 19 يونيو 2019

كتاب عن عقائدُ الأشاعرةِ للرد على شبهات الواردة في كتاب منهج الأشاعرة في العقيدة للشيخ سفر الحوالي


عقائدُ الأشاعرةِ في حوارٍ هادئٍ مع شُبهاتِ المناوئين

بسم الله الرحمن الرحيم

 (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) 

الحمد لله رب العالمين ، القائل في كتابه المبين: [فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] [[1]] .

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، القائل لأمته : [ إياكم والظنَّ ، فإن الظنَّ أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره ، التقوى ههنا ، التقوى ههنا ، التقوى ههنا] وأشار إلى صدره [بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وعرضه وماله] [[2]] .






وبعد ، فقد كتب أحد الباحثين كتاباً يبين فيه ـ حسب دعواه ـ منهج الأشاعرة في العقيدة ، أخرجهم فيه من دائرة [السُّنة] ، وعدهم طائفة من أهل [البدع] ، وعمّق التباغض والتدابر بين المسلمين، يرى نفسه متقرباً بذلك إلى الله تعالى ، حيث إنه ـ في ظن نفسه ـ  يبين حقيقة مذهب الأشاعرة ، ويقوم بواجب نصرة الكتاب والسنة ؛ إذ يكشف ضلالهم وانحرافهم ، ويقول : إنه من المتخصصين في علم العقيدة ، المؤسس على الكتاب والسنة ، ومذهب السلف الصالحين .

ولقد كان الباحث ـ سامحه الله ـ  متجنياً  ـ في بحثه هذا ـ  على الأشاعرة ، بعيداً عن الروح العلمية ، ومن مظاهر ذلك :

·     أنه ينسب أقوالاً كثيرة للأشاعرة وهم لم يقولوا بها ، ولا يذكر نصوص كلامهم من كتبهم ، ولا تتعدى النصوص التي نقلها عنهم عدد أصابع اليد الواحدة ، وينبغي لمن يرد على آخر أن يذكر قول المردود عليه بنصه ، ليرى القارئ ما إذا كان صاحب الرد قد نقل كلام المردود عليه من كتبه ، أومن كتب أهل مذهبه ، أومن كتب خصومه أحياناً!!! ـ كما فعل الباحث سامحه الله ـ، وليرى القارئ ما إذا كان صاحب الرد قد فهم كلام المردود عليه بدقة ـ في حالة النقل من كتبه ـ  أو لا ؟.

·     وأنه لا يذكر أدلة الأشاعرة من الكتاب والسنة على أقوالهم ، ليظهرهم على أنهم على غير الكتاب والسنة ، وربما كان لهم في المسألة أدلة من الكتاب والسنة وكلام الصحابة فلا يذكرها ويغفلها تماماً ، ولكن حيث إن المسألة لغوية وقد استأنسوا فيها ببيت من الشعر لشاعر غير مسلم ؛ فإن الباحث يذكر البيت الشعري ـ مع إغفال الأدلة من الكتاب والسنة وكلام الصحابة تماماً ـ ويقول :

[ واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً ] ،

ويقول : [ ثم أسسوا مذهبهم وبنوه في أخطر الأصول والقضايا ، الإيمان ، القرآن ، العلو، على بيتين غير ثابتين عن شاعر نصراني ....] .

·     وأنه يكتفي بسرد ما قاله الأشاعرة وما نسب إليهم مع التنفير والتسفيه دون أن يذكر الأدلة على إبطال تلك الأقوال .

·     وأنه لم يحدد المراد ببعض المصطلحات التي يستخدمها في بحثه والتي قد تكون مثار خلاف ، فكلمة [السلف] عندما يعزو إليهم بعض الأقوال فإنه لم يحدد مراده بها ، فهل السلف هم الصحابة ؟ أو الصحابة والتابعون ؟ أو الصحابة والتابعون وأتباع التابعين ؟ وهل يدخل معهم من جاء بعد تلك القرون الثلاثة كالإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن حبان والبيهقي رحمهم الله تعالى ؟؟ وهل يدخل معهم عثمان بن سعيد الدارمي والآجري والبربهاري وابن بطة واللالكائي رحمهم الله تعالى؟ ؟ وهل أقوال هؤلاء يُحتج بها أو يحتج لها؟ ؟ ؟ أي هل هي صحيحة قطعاً حيث لا يتطرق إليها الخطأ فيحتج بها على من خالفهم فيها من أهل العلم ؟ أو هي محتملة للصواب والخطأ محتاجة ـ حتى في حال صوابها ـ إلى ذكر الأدلة من الكتاب والسنة فيحتج إذاً لها لا بها ؟ ؟ ؟ .

وكلمة [أهل السنة] لم يحدد مراده بها ، ويبدوأن المراد بها عنده ابن تيمية وابن القيم ومن وافق فهمه فهمهما ، وإلا فهو ليس من أهل السنة مهما بذل من جهد واعتناء بالسنة النبوية رواية ودراية وفهماً !!! .


نتيجة بحث الصور عن كتاب سفر الحوالي الاشاعرة
وأخيراً فقبل ذكر الأدلة والاحتجاج فكنت أود لو أن الباحث كان منصفاً ودقيقاً في تصوير مذهب الأشاعرة ، بحيث يلخص مذهبهم كما هو في كتبهم ، لا كما هو في كتب مخالفيهم ، ثم يبين ـ بالأدلة ـ ما الذي في كتبهم وفي كتب مخالفيهم من صواب ومن خطأ .

ويحسن هنا أن أورد ما كتبه ابن تيمية رحمه الله ناقداً وناصحاً لأحد العلماء ، وأنا أوجهه للباحث لعله يستفيد منه ، قال: [فإنه دائماً يقول قال أهل الحق ، وإنما يعني أصحابه ، وهذه دعوى يمكن كل أحد أن يقول لأصحابه مثلها ، فإن أهل الحق الذين لا ريب فيهم هم المؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة ، فأما أن يفرد الإنسان طائفة منتسبة إلى متبوع من الأمة ويسميها أهل الحق ويُشْعِرَ بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل: فهذا حال أهل الأهواء والبدع ، ... فليس الحق لازماً لشخص بعينه دائراً معه حيث دار لا يفارقه قط إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم] [[3]].



فإن قلت أين الدليل على أن الباحث متجن على الأشاعرة؟ فالجواب الواضح البين ـ بإذن الله تعالى ـ ستجده في قراءتك لهذا الكتاب .

وأحب أن أبادر إلى القول بأنني لست أشعرياً مقلداً ، والحمد لله الذي أنعم علي بمحبة الكتاب والسنة والتعلق بهما منذ نعومة الأظفار ، مع محبة الاتباع على بصيرة والنفور من التقليد الأعمى ، وعليه فإنني إذا قرأت في كتب الأشاعرة ـ رحمهم الله تعالى ـ  أو في كتب غيرهم فإني أقبل منها ما أجد له دليلاً يدل على تثبيته وتأييده ، وأرفض منها ما أجد دليلاً على بطلانه ، وأتوقف فيما لا أجد ما يؤيد قبوله أو يؤكد بطلانه .

وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينـزل شآبيب رحمته ومغفرته ورضوانه على روح شيخي الذي سمعته يقول: [لا تقلِّد في العقيدة] .

أقول إنني لست أشعرياً مقلداً بمعنى أنني لا ألتزم بكل ما في كتب الأشاعرة ، وإن كنت أرى أن معظم ما قالوه صواب ، ومن مآخذي على الأشاعرة إجمالاً دخولهم في الفلسفة وتبنيهم طرقها ومناهجها ، دون التنبه إلى عقم تلك الطرق والمناهج ، فنحن أمة أغنانا الله تعالى بالطرق القرآنية في إثبات العقائد ، ولا حاجة لنا إلى غيرها ، ومن كان من هذا في شك فلينظر ـ على سبيل المثال ـ في الشامل لإمام الحرمين والمطالب العالية للإمام فخر الدين الرازي ـ رحمهما الله وغفر لهما ـ ، فإنه يرى فيهما الإغراق الشديد في الطرق الفلسفية العقيمة التي لا تعطي اليقين ، ولا توصل إلى الهداية .

أما مذهب الأشاعرة الذي يتصوّره الباحث فمعظم تلك التصورات مغايرة لما في كتب الأشاعرة ، فإن يكن ذلك مذهباً لبعضهم فإني أبرأ  إلى الله منه .

هذا وإني أرى من الواجب علي أن أسهم ببيان بعض ما وقع في كلام الباحث ، تجلية للحق ، وإبراء للذمة ، سائلاً المولى ـ تعالى ـ أن يجنبني الزلل ، وأن يلهمني السداد ، بفضله ومنّه وتوفيقه ، فما كان في هذا البيان من صواب فبمحض توفيق الله تعالى ، وله الفضل والمنّة ، وما كان فيه من خطأ فمن عجزي وتقصيري ، وأستغفر الله منه .

وهذا أوان الشروع في المقصود:







قال الباحث :

[فالأشاعرة ... هي أكبر فرق المرجئة الغلاة ، ولن أستعجل نتائج بحثي ، ولكن حسبي أن أدّعي دعوى وأطرحها للمناقشة وأقبل  ـ بكل سرور ـ  من يدلي بوجهة نظره فيها] .



أقول:



1 ـ  لقد أحسن الباحث إذ قدم بحثه بأنه دعوى ، وأنه يطرحها للمناقشة ، وأنه يقبل ـ بكل سرور ـ  من يدلي بوجهة نظره فيها .

لكن يؤخذ عليه أنه كثيراً ما يذكر الدعوى ولا يأتي بالبينة ، كيف وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [البينة على المدعي واليمين على من أنكر] [[4]] ؟

2 ـ  لقد وقع الباحث هنا في تناقض واضح إذ يقول [هي أكبر فرق المرجئة الغلاة ، ولن أستعجل نتائج بحثي ، ....] .

أفليس قوله عن الأشاعرة [هي أكبر فرق المرجئة الغلاة] قبل البدء بالبحث هو من استعجال النتائج؟ !!! .

3 ـ  اتهام الأشاعرة بأنهم من المرجئة بل من المرجئة الغلاة: قول عظيم ، وبهتان جسيم .

ما الذي يقوله المرجئة؟ وما الذي يميزهم عما سواهم من الفرق؟ قال ابن أبي العز: [المرجئة يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة] [[5]] .

فهل وجدت أيها الباحث ـ سامحك الله وغفر لك ـ  أن الأشاعرة يقولون لا يضرُّ مع الإيمان ذنب ؟ ؟ بل هل وجدت هذا منقولاً عن واحد من الأشاعرة؟ ؟ !!! . هذا ما لا يقوله أشعري قط .

أرجوك أن تستعدَّ للجواب عند أحكم الحاكمين ، [ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ] [[6]] .



قال الباحث:

[ إنها مسألة مذهب بدعي له وجوده الواقعي الضخم في الفكر الإسلامي ، حيث تمتلئ به كثير من كتب التفسير وشروح الحديث وكتب اللغة والبلاغة والأصول فضلاً عن كتب العقائد ... ، وقد ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات ضخمة متواصلة لترميمه وتحديثه ، تشرف عليها هيئات رسمية كبرى ، ويغذوها المستشرقون بما ينبشونه من تراثه ويخرجون من مخطوطاته ] .



أقول:

1 ـ  قول الباحث عن المذهب الأشعري [ له وجوده الواقعي الضخم في الفكر الإسلامي] فهذا صحيح ، لكن قوله عنه [ مذهب بدعي ] فهذا يحتاج إلى أدلة ، فهلا أبرزت أدلتك ـ أيها الباحث ـ  بعد تحديد نقط الابتداع في المذهب الأشعري !!![ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ][[7]] .

2 ـ  قول الباحث عن المذهب الأشعري بأنه [قد ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات ضخمة متواصلة لترميمه وتحديثه] فلا أدري ما المقصود بهذه المحاولات الضخمة؟ ولا أين هي؟ وليت الباحث يذكرها ! .

3 ـ وقوله [ويغذُوها المستشرقون] فما أبعده عن الحقيقة !!! فهل أحصى الباحث ما أسهم المستشرقون في نشره من كتب التراث الإسلامي ووجد تركيز المستشرقين على نشر كتب الأشاعرة في العقيدة؟ !!! ما أظن الباحث فعل ذلك ، وما أظنه يتبنى مثل هذا المنهج العلمي .

المستشرقون يهتمون بكافة فروع المعرفة ، وقد نشروا  أو أسهموا في نشر كثير من كتب التراث الإسلامي ، ومن ذلك قسم من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم للواقدي ، والطبقات الكبرى لابن سعد ، والسيرة النبوية لابن هشام ، ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ، والكلم الطيب من أذكار النبي صلى الله عليه وسلم لابن تيمية ، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ، وطبقات الحفاظ للذهبي ، وبعض كتب القراءات ، والوقف والابتداء ، والرسم القرآني ، وطبقات الفقهاء ، والأنساب ، ومصطلح الحديث ، والجرح والتعديل ، والنحو، وكثير من كتب الفلسلفة ، والتصوف ، وعلم الكلام ، وكتب الأشاعرة[[8]] . وقد طبع بعناية المستشرقين أربعة وعشرون جزءاً حتى الآن من كتاب الوافي بالوفيات للصفدي ، ولم يتم ، ولا أدري لم ينسى الباحث أن المستشرقين قد طبعوا "الرد على الجهمية" للدارمي في "ليدن"؟ ؟ !!! وهذا من كتب العقيدة التي أثنى عليها الباحث ، وجعله قريناً لمؤلفات الإمام أحمد والبخاري وغيرهما ، فتأمل !!! .

فما هذا الربط بين الأشاعرة وبين المستشرقين؟ ! وما دوافعه؟ ! ولمصلحة مَنْ؟ !!! .



قال الباحث:

[الأشاعرة هم الذين كفروا وما يزالون يكفرون أتباع السلف ، بل كفروا كل من قال إن الله تعالى موصوف بالعلو، وحسبك تكفيرهم واضطهادهم لشيخ الإسلام ، وهو ما لم يفعله أهل السنة بعالم أشعري قط ، ... ولولا الإطالة لأوردت بعض ما تصرح به كتب عقيدتهم من اتهامه بالزندقة والكفر والضلال . وانظر عن القدامى: الرد الوافر على من زعم أن ابن تيمية شيخ الإسلام كافر ، وكتاب الحصني دفع شبه من شبه وتمرد ، ... ومن ذلك قول صاحب حواشي على شرح الكبرى للسنوسي [ابن تيمية أي الحنبلي المشهور زنديق وبغضه للدين وأهله لا يخفى] .



أقول:

1 ـ  هل كفَّر الأشاعرة أتباع السلف؟ !!! .

وهل كفَّر الأشاعرة كل من قال إن الله تعالى موصوف بالعلو؟ !!! أين وجد الباحث هذا؟!!! [ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ] [[9]] .

2 ـ  هل كفَّر الأشاعرة ابن تيمية؟ وهل صرحت كتب عقيدتهم باتهامه بالزندقة؟ :

لقد كفَّر ابنَ تيمية رحمه الله أحدُ فقهاء الحنفية وهو علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري المتوفى سنة (841 هـ) ، وكفَّر كلَّ من يطلق عليه لقب شيخ الإسلام .

ولكن علاء الدين البخاري ـ رحمه الله وغفر له ـ  ليس بأشعري ولا يمثل المذهب الأشعري ، ويكفيك أنه كان ينهى عن النظر في كلام الإمام النووي ويقول هو ظاهري [[10]] . ورد عليه ابن ناصر الدين بكتابه الذي سماه "الرد الوافر على من زعم أن ابن تيمية شيخ الإسلا م كافر" ، حيث ذكر فيه أسماء عشرات العلماء من المعاصرين لابن تيمية وغيرهم من الذين سموا ابن تيمية شيخ الإسلام ، فهل كان أولئك كافرين ؟ !!!. ومن أولئك المعاصرين لابن تيمية من كان بينهم وبينه خصومة علمية ظاهرة وأطلقوا عليه مع ذلك كلمة شيخ الإسلام ، وأخص منهم بالذكر عالمين كبيرين من كبار علماء الأشاعرة ، هما الإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السـبكي المتوفى سـنة(756هـ)، ومحمد بن علي بن عبد الواحد ابن الزملكاني المتوفى سنة (727هـ) . فهل بعد هذا الإنصاف إنصاف؟ ! .

فأولئك المعاصرون لابن تيمية لم يكفروه ، بل اعترفوا له بالمكانة العلمية ، وأطلق كثير منهم عليه لقب شيخ الإسلام [[11]] .

ومن العلماء الذين جرت بينهم وبينه خصومة علمية قضاة المذاهب الأربعة ، ولو كفروه لحكموا باستتابته وبقتله إذا لم يتب ، ولكن ذلك لم يقع .

وقد قرظ الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله كتاب "الرد الوافر" الذي صنفه ابن ناصر الدين رداً على علاء الدين البخاري ، وأثنى في تقريظه على الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وأشار إلى المسائل التي أنكرت عليه ، فقال: [ وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس ، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس ، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره أو تجنب الإنصاف ، ... ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً  بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع ، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق ، ولا يُحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته ولا حكم بسفك دمه ،... والمسائل التي أُنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ، ولا يصرُّ على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً ، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه ، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب ، فالذي أصاب فيه ـ وهو الأكثر ـ يستفاد منه ويترحم عليه بسببه ، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه ، بل هو معذور ، لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه ،...] .

3 ـ  لقد كان الفقيه الشـافعي الشـيخ تقي الدين الحصني أبو بكر بن محمد المتوفى سـنة (829هـ) ـ رحمه الله وغفر له ـ يحمل على ابن تيمية ـ رحمه الله ـ  ويكفره ، فما الذي أخذه عليه؟ وما مستنده في ذلك؟

قال الحصنيُّ: [... فمن ذلك ما أَخبر به أَبو الحسن علُّي الدمشقي في صحن الجامع الأُموي عن أَبيه أنه قال: كنا جلوساً في مجلس ابن تيمية ، فذكّر ووعظ وتعرض لآيات الاستواء ثم قال: واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا] [[12]] .

ونقل الحصني عن تفسير أَبي حيان الأندلسي المسمى بالنهر عند تفسير قول الله تعالى [ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ] [[13]] ، أَنَّ أَبا حيَّان قرأ في كتاب العرش لابن تيمية وهو بخطِّه أَنه قال فيه: [إِنَّ الله يجلِس على الكرسي وقد أَخلى مكاناً يُقعد معه فيه رسول الله صلَّى الُله عليهِ وسلَّم][[14]] .

ونقل الحصنيُّ عن ابن تيمية أَنه قال في الكلام على حديث النـزول المشهور: [إِنَّ الله يَنزل إِلى سماء الدنيا إلى مرجةٍ خضراءَ وفي رجليه نَعلان من ذهب] [[15]] .

وقال الحصني عن ابن تيمية [مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم ، والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى الله عليه وسلم والشيخين ، وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأنه من الملحدين ، وجعْلِ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من المجرمين وأنه ضال مبتدع ، ذكر ذلك في كتاب له سماه الصراط المستقيم والرد على أهل الجحيم ، وقد وقفت في كلامه على المواضع التي كفَّر فيها الأئمةَ الأربعة] [[16]] .

وقال عنه في موضعٍ آخر: [وأَما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتةَ ولا يعتبره ، سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز ،... وإشاعته هو وأتباعه أَنَّ الطلاق الثلاث واحدةٌ: خزعبلات ومكر ، وإلا فهو لا يوقع طلاقاً على حالف به ، ... وإن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تستُّراً وخديعة ، وقد وقفت على مصنف له في ذلك] [[17]] .

وقال عنه متحدثاً عن سبب إدخاله السجن: [وكان السبب في اعتقاله وحبسه أَنه قال لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، وأَنَّ زيارة قبور الأَنبياء لا تُشد إليها الرواحل كغيرها ، كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي صلَّى الله عليه وسلم ، ثم إنَّ الشَّاميين كتبوا فتيا أيضاً في ابن تيمية لكونه أَول من أحدث هذه المسألة التي لا تصدر إلا ممن في قلبه ضغينة لسيد الأَولين والآخرين ، فكتب عليها الإمام العلامة برهان الدين الفزاري نحو أربعين سطراً بأَشياء ، وآخر القول أَنه أَفتى بتكفيره ، ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين ابن جهبل الشافعي ، وكتب تحت خطِّه كذلك المالكي ، وكذلك كتب غيرهم ، ووقع الاتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته ، ... فجمع السُّلطان لها القضاة ، فلما قرئت عليهم أَخذها قاضي القضاة بدرُ الدين ابنُ جماعة وكتب عليها [القائل بهذه المقالة ضالٌّ مبتدع] ، ووافقه على ذلك الحنفيُّ والحنبلُّي ، فصار كفره مجمعاً عليه][[18]]. ثم ذكر الحصني حضور كتاب السُّلطان إلى نائب البلد وأَنَّ فيه: [ورسْمنا بقراءةِ الفتوى على القضاة والعلماء ، فذكروا جميعاً من غير خلف أَنَّ الذي أَفتى به ابنُ تيمية في ذلك خطأ مردود عليه ، وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقاً][[19]] .

يبدو أَنَّ من أهم مآخذ الحصني على ابن تيمية ـ رحمهما الله ـ هو ما بلغه عنه أَنَّه قال [واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا] !!! ولكن أين السَّند؟ ؟ السند هو أَنَّ هذا أَخبر به أَبو الحسن علُّي الدمشقي عن أَبيه ، فمَن أبو الحسن علي الدمشقي؟ ومن أبوه؟ وهل كان كل واحد منهما عدلاً ضابطاً؟ أَم إِنهما من المجاهيل الذين يروون المناكير؟ ! يبدو أَنهما  أَو أَحدهما على الأَقل من النوع الأخير ، والدليل على ذلك هو أن كتب ابن تيمية رحمه الله مملوءة بالرد على التشبيه والمشبهين ، فلا شك في أن هذا الخبر مختلَق مكذوب . لكن كيف غفل الشيخ تقي الدين الحصني عن نقده سنداً ومتناً؟ !!! سامحه الله وغفر له [[20]] .

ولابن تيمية ـ سامحه الله وغفر له ـ كلمات توهم التشبيه إيهاماً ، وليس هو ممن يقول [كاستوائي هذا] ، بل يقول ليس استواؤه كاستواء المخلوقين .

أَمَّا مسأَلة إِقعاد الله تعالى لنبيِّنا محمدٍ صلَّى الُله عليه وسلَّم معَه على العرش؛ فابن تيمية ـ سامحه الله ـ يقول بها ، لأَنَّه يذكر الأَثر الوارد في هذا عن مجاهدٍ رحمه الله ، ولا يتعقبه سنداً ولا متناً ، ولكنَّه لا يقول إِن الله تعالى قاعدٌ على العرش كقعود المخلوقين ، ومن المواطن التي ذكره فيها ما نقله من كتاب السُّنة لأَبي بكر ابن أَبي عاصم إِذ قال: وقال أَبو بكر: حدثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد [عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً] [[21]] قال: [يُقعده معه على العرش] [[22]] . ولم يذكر أنَّ ليثاً هذا هو ابن أَبي سُليم ، وأنَّه كان قد اختلط .


وأَمَّا القول بأَنَّ كتبَ ابن تيمية مشحونةٌ بالتشبيه والتجسيم فليس فيها تصريح بذلك[[23]].
وأما الإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى الله عليه وسلم والشيخين وتكفير ابن عباس وتضليل ابن عمر وتبديعه وتكفير الأئمة الأربعة فهذا في واد وابن تيمية رحمه الله في واد آخر ، وكتبه مشحونة بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب محبته وتوقير الصحابة والثناء على الأئمة الأربعة . ولا أدري أَين وجد الحصني ـ سامحه الله ـ  هذه الطَّامات؟ وكيف نسبها لكتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أَصحاب الجحيم" ؟؟ ولا أَستبعد أَن يقوم أَحد الوضاعين بكتابة مثل هذه الافتراءات وينسبها لابن تيمية رحمه الله ويأتي بها إلى الحصني وغيره ليوغر صدورهم على ابن تيمية .
ولا يغيبن عن بالك الافتراءاتِ الشنيعة الكثيرة التي نسبها ابنُ حزم إلى الباقلانيِّ رحمهما الله تعالى ، مما تجد كتب الباقلاني مشحونة بنقيضها ، وهذا يجعلك لا تتردد في أَنها من فعل أَحد الوضَّاعين الأَفاكين .

وأَما أَنَّ ابن تيمية رحمه الله لا يوقع طلاقاً على حالف به سواء كان بالتصريح أو الكناية أَو التعليق أَو التنجيز وأَنه يشيع مسألة وقوع التطليقات الثلاث واحدة تستراً وخديعة: فهذا من أَعجب العجب ، فابن تيمية يوقع الطلاق الصادر بالتصريح والكناية والتنجيز كما يوقعه سائرُ العلماء ، وخالفهم في مسألة الطلاق المعلَّق ، إِذ لا يقول بوقوعه حالةَ وجود المعلَّق عليه مطلقاً ، بل يستثني ما إِذا كان قصد الحالف به الحثَّ على فعل شيء أَو المنع من فعله ، كما أَنه لا يقول بوقوع ثلاث تطليقات لمن جمعهن في لفظ واحد ، ويرى أَن الواقع بذلك تطليقةٌ واحدة فقط . فمسألة الرد على ابن تيمية رحمه الله فيما انفرد به من مسائل الطلاق شيء واتهامه بأنه لا يوقع طلاقاً على حالف به شيءٌ آخر !!! .

وأَمَّا قول ابن تيمية رحمه الله بتحريم شدِّ الرَّواحل لزيارة قبور الأنبيـاء ـ فضلاً عن غيرهم ـ  فهو يقول بهذا ، لكنَّ القول بأَنه أَول من أَحدث هذه المسألة غيرُ مسلَّمٍ ، فقد نقل ابن حجر في فتح الباري نحواً من ذلك عن أَبي محمد الجويني والقاضي عياض وغيرهما ، وأَما القولُ بأنَّ هذه المسألةَ لا تصدر إِلا ممن في قلبه ضغينة لسيد الأولين والآخرين صلَّى الُله عليه وسلَّم فهذا كذلك غير مسلَّم ، وأين هذا من ذاك؟ !!! فقد يحمل بعضُ أَهل العلم حديث النبي صلى الله عليه وسلَّم [لا تُشَدُّ الرِّحالُ إِلا إِلى ثَلاثةِ مَساجد] على ظاهر العموم ، ولا يستثني منه إلا ما ورد دليل خاص على إِباحته ، وهذا المسلك مخالف لقول جمهورِ أَهل العلم ، وهو اجتهادٌ من قائله ، لكنه لا ينافي تعظيمَ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وتوقيرَه ومحبَّته .

وليس من المقبول أَن يقول الحصني إِن برهان الدين الفزاري كتب أَشياء على فتوى ابن تيمية بتحريم شدِّ الرحال لزيارة القبر الشريف وأَنه [أَفتى بتكفيره ووافقه ابن جهبل ووقع الاتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته] !! فإنه لا يقبل حتى ينقل نصوص كلامهم ، لأننا وجدناه ينقل نصوصاً ليس فيها تكفير ويفسرها بالتكفير !!! فإنه نقل نصَّ القاضي الشافعي بدر الدين ابن جماعة وأَنه كتب على تلك الفتوى [القائل بهذه المقالة ضالٌّ مبتدع] ، وعقب ذلك النقل بقوله [ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي فصار كفره مجمعاً عليه] !!!. ولا أدري كيف يستقيم هذا بعد أَنَّ حكم القاضي بدرُ الدين ابن جماعة بالضلال والابتداع ثم يجعله الحصني تكفيراً ويقول [فصار كفره مجمعاً عليه] !!!. ثم إِنَّ الحصني نقل كتاب السُّلطان إِلى نائب البلد وأَنَّ القضاة والعلماء الذين قُرِئت عليهم فتوى ابن تيمية [ذكروا أَنَّ الذي أَفتى به في ذلك خطأٌ مردود عليه وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعِه من الفتوى] ، وليس في شيءٍ من ذلك رميه بالكفر أَو الزندقة .

ويبدو أَن الحصني ـ سامحه الله وغفر له ـ  كان قد امتلأ غضباً وسخطاً على ابن تيمية فتضَّخمت أَخطاؤه ـ بالإِضافة إلى المفتريات عليه ـ  في قلبه وعقله ، وأَخرجته عن سمت الاتِّزان ، فقال ما قال ، والواجب على المسلم العدلُ في حالة الحبِّ والكره ، فقد قال الله تعالى [وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ][[24]] .

لكن إِذا كان قد وقع الحصني في تكفير ابن تيمية كما وقع في ذلك عصريُّه علاء الدين البخاري فإِنَّ جمهور الأشاعرة لم يقعوا في تكفيره ، ولم يتهموه في دينه ، وأَثنوا عليه فيما يرون أَنه أَصاب فيه، وانتقدوه فيما يرون أَنه أَخطأ فيه نقداً يتناسب في القوَّة مع شدَّة الخطأ الذي يرون أَنه وقع فيه .

4ـ أَما ما قاله صاحب الحواشي على شرح الكبرى للسنوسي إِذ قال عن ابن تيمية [زنديق وبغضُه للدِّين وأَهلِه لا يخفى]؛ فهي كلمة لا تستحق أَن توضع في معرض الحديث عن الأَشاعرة وابن تيمية ، فمن هو قائلها؟ ؟ وما موقعه بين علماء الأشاعرة؟ ؟ !:

قائلها هو الشيخ إِسماعيل بن موسى بن عثمان الحامدي المتوفى سنة (1316هـ) ، فهو من المتأَخرين جداً ، فلا يمكن أَن يقرن قوله بكلام المتقدِّمين من الأَشاعرة ، ولعلَّه قرأَ [دفع شُبَه من شبَّه وتمرَّد] للحصني فقال ما قال ، رحمهم الله جميعاً وغفر لنا ولهم .

  اشتهر عن كثير من العلماء المتأخرين النفورُ الشَّديد من ابن تيمية رحمه الله ، ومع ذلك فقد قال بعضهم كلماتٍ في حقِّه فيها إِنصاف ، فأَحببت أَن أَذكر ما وجدته من ذلك:

قال السُّيوطي: [وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه "نصيحة أَهل الإيمان في الردِّ على منطق اليونان" ...] . ثم قال في ذكر المجتهدين: [وفي هذا العصر شيخ الإسلام العلامة تقي الدين ابن تيمية ، وصفه غيُر واحد بالاجتهاد ، منهم الشيخ ولُّي الدين العراقي في "فتاويه"][[25]] .

وقال الفقيه الحنفي الصُّوفي ابن عابدين: [وقد سبق إِلى نقل ذلك أَيضاً شيخُ الإسلام تقي الدين أحمد ابنُ تيمية الحنبلُّي في كتابه "الصَّارم المسلول" ] [[26]] .

وقال أَحد مشايخ الطريقة الصُّوفية الرفاعية المشهور بالصيَّادي في جملة وصاياه لأَتباع الطريقة: [المادة (122): محبَّة العلماء العاملين الذين يريدون إِعلاء كلمة الله تعالى ولو أغلظوا على خدَّام الطرُق العلية في دروسهم ومؤلفاتهم ، إِن علمت أَنَّ ذلك لله تعالى ، لا لغرضٍ نفساني ، ولو خامر بعض كلمات البعض منهم شدة وغلظة وتخلل ذلك الغلط ، ككلمات الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى وأَمثالِه] [[27]] .

ومواقف الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى من أَتباع الطريقة الرِّفاعية مع النقد القاسي والتجريح الشديد معلومةٌ ومشهورةٌ ، إِلا أَنه لا يتكلَّم في شيخ الطريقة الرِّفاعية السَّيدِ أَحمدَ الرِّفاعيِّ رحمه الله تعالى بشيءٍ .

وقال الشيخ يوسف النبهاني من كبار الصوفيين ببيروت في القرن الرابع عشر الهجري: [وابن تيمية هو إِمام كبير ، وعلَم شهير ، من أَفراد أَئمة الأُمة المحمدية الذين تفتخر بهم على سائر الأمم ، ولكنه مع ذلك غيرُ معصوم من الخطأ والزلل ، فقد أخطأ في مسائلَ قليلةٍ ـ منها هاتان المسألتان ـ خطأ فاحشاً خالف فيه جمهورَ الأُمة من السَّلف والخلف ، كما بين ذلك كثير من المحققين ، ... وابن تيمية وإِن أخطأ في هذه المسائل المعدودة فقد أَصاب بمسائل لا تعدُّ ولا تحصر ، نصرَ بها الدين المبين ، وخدم بها شريعة سيد المرسلين ، صلَّى الله عليه وسلَّم] . ثم قال: [اعلم أني أَعتقد في ابن تيمية وتلميذيه ابن القيم وابن عبد الهادي أَنهم من أَئمة الدين ، وأَكابر علماء المسلمين ، وقد نفعوا الأُمة المحمدية بعلمهم نفعاً عظيماً وإن أساءوا غاية الإساءة في بدعة منع الزيارة والاستغاثة وأَضَروا بها الإسلام والمسلمين أضراراً عظيمة][[28]] .

فانظر إِلى كلمات هؤلاء العلماء والصُّوفيين وما فيها من إِنصاف ، على الرغم من تباعد المناهج وتباين المشارب ، فرحمة الله تعالى ومغفرته لنا ولهم جميعاً إِن شاء الله .

6ـ هل اضطهد الأَشاعرةُ ابنَ تيمية؟ :

لم ير الأَشاعرة في ابن تيمية كفراً ولا زندقةً ، وبالتالي فإنهم لم يحكموا عليه بالقتل ، وإنما رأَوا فيه ضلالاً وابتداعاً في بعض المسائل ، فحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى ، دون أن يوقعوا عليه الضرب أو الجلد .

وكم أَودُّ لو اكتفوا بإِقامة مجالس المناظرة مهما طالت وتعددت وامتدَّ بها الزمن حتى يظهر الُله الحقَّ في كل مسألة على لسان صاحب الحق فيها ، [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] [[29]] .

وقبل التسرُّع في الحكم على الأشاعرة في موقفهم من ابن تيمية ـ رحمهم الله وغفر لنا ولهم جميعاً ـ ؛ تصور أن ابن تيمية كان هو القاضي وصاحب الكلمة النافذة عليهم في ذلك الوقت ؛ فهل كان سيكتفي بالحكم عليهم بمثل الذي حكموا هم به عليه؟ !!! ما أظنُّ ذلك .

7 ـ من الغريب أن يقول الباحث [... وحسبك تكفيرهم واضطهادهم لشيخ الإسلام ، وهو ما لم يفعله أَهل السُّنة بعالم أَشعري قط] .

فهل كان من يسمِّيهم الباحث أَهل السُّنة يكفُّون ألسنتهم عن تكفير أَي عالم أشعري؟ ! ما أظن ذلك .

وأَكتفي بنقل جزء من كلام ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ ظاهره أَنه يكفِّر خصومه الذين دعوه للحضور من الأمراء والقضاة ومن معهم ، إِذ يقول: [فإِنه في آخر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة جاء أَميران رسولين من عند الملأ المجتمعين من الأمراء والقضاة ومن معهم ...] ثم قال [فأخذا الجواب وذهبا ، فأطالا الغيبة ، ثم رجعا ولم يأتيا بكلام محصل إِلا طلب الحضور ، فأَغلظت لهم في الجواب ، وقلت لهم بصوت رفيع: يا مبدِّلين ، يا مرتدين عن الشَّريعة ، يا زنادقة] [[30]] . فمن هم المعنيُّون بأَنهم مبدِّلون ومرتدُّون عن الشريعة وزنادقة؟؟ الأميران المرسلان من قبل الملأ؟ أو الملأ الذين أَرسلوا الرسولين من الأمراء والقضاة والعلماء الذين معهم؟؟!!! .

8 ـ  وأَما الألفاظ التي ليس فيها تكفير ولكنها من السبِّ الذي يجب على المسلم ـ فضلاً عن العالم ـ أَن ينـزِّه عنه لسانَه وقلمه فاقرأْ هذا المثال:

قال ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ : [كما يقال الأَشعرية مخانيثُ المعتزلة ، والمعتزلة مخانيث الفلاسفة] . ثم قال: [... وإِنما اعتقادهم أَنَّ القرآن غيرُ موجود ، لفظته الجهمية الذكور بمرَّة والأشعرية الإناث بعشرِ مرات] [[31]] . فهل التلفُّظ بمثل هذا مما يليق بعالم من علماء المسلمين؟!!! .

9 ـ هل كان من يسمِّيهم الباحث أَهل السُّنة يكفُّون أَيديهم عن اضطهاد أَي عالم أَشعري؟! ما أَظن ذلك .



وأَكتفي ببعض النقول التي تبين لك شيئاً من حقيقة الأمر:

قال ابن أَبي يعلى في ترجـمة الشـريف أبي جعفر عبد الخالق بن عيسى العباسي المتوفى سـنة (470 هـ) وهو يصف ما جرى بينه وبين أَبي نصر عبد الرحيم ابن أَبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري المتوفى سنة (514هـ) : [فوصل إلى مدينة السَّلام بالجانب الشرقي ولدُ القشيري ، وأَظهر على الكرسي مقالةَ الأشعري ، ولم تكن ظهرت قبل ذلك على رؤوس الأَشهاد ، لما كان يلحقهم من أَيدي أَصحابنا وقمعهم لهم ، فعظُم ذلك عليه ، وأَنكره غايةَ الإنكار ، ... فاشتدَّ أَزر أَهل السُّنة ، وقويت كلمتهم ، وأوقعوا بأَهل هذه البدعة دفعات ، وكانت الغلبة لطائفتنا طائفة الحقِّ ، ...][[32]]. وتأَمَّل قول ابن أبي يعلى [لما كان يلحقهم من أَيدي أصحابنا وقمعهم لهم]!!! . وابن أبي يعلى كان ممن صحب الشريف أبا جعفر ولازمه خمسَ سنين .

وقد ذكر ابنُ رجب نحواً من هذه الواقعة ، وكان مما قال: [ومضمون ذلك أَنَّ أَبا نصر ابن القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأَربعمائة ، وجلس في النِّظامية ، وأَخذ يذمُّ الحنابلة وينسبهم إِلى التجسيم ، ... فاتفق جماعة من أَتباعه على الهجوم على الشريف أَبي جعفر في مسجده والإيقاع به ، فرتب الشريف جماعة أَعدهم لردِّ خصومه إِن وقعت ، فلما وصل أولئك إِلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجرِّ ، فوقعت الفتنة ، وقُتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون ، ...] [[33]] .



قال الباحث:

[فيا عجباً لهؤلاء القوم ، يكفِّرونه ثم يدَّعون أَنهم وإياه على مذهب واحد ويشملهم جميعاً اسم السنة والجماعة !! ...]

ثم قال: [إِن مصطلح أَهل السنة والجماعة يُطلق ويراد به معنيان:

[المعنى الأَعم: وهو ما يقابل الشِّيعة ، ... وهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة كالأَشاعرة ، ...

[المعنى الأَخص: وهو ما يقابل المبتدعة وأَهل الأهواء ، ...وهذا المعنى لا يدخل فيه الأَشاعرة أبداً ، بل هم خارجون عنه ، وقد نص الإِمام أحمد وابن المديني على أنَّ من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أَهل السنة وإِن أصاب بكلامه السنة حتى يدعَ الجدل ويسلِّم للنصوص ، فلم يشترطوا موافقة السُّنة فحسب ، بل التلقي والاستمداد منها ، ... والأشاعرة ـ كما سترى ـ  تلقَّوا واستمدّوا من غير السُّنة ولم يوافقوها في النتائج ، فكيف يكونون من أَهلها؟ !] .



أقول:

1ـ الباحث يقول كلامَه هذا في معرض حديثه عن الأَشاعرة وابن تيمية ، فهل قال الأشاعرة إِنهم وابن تيمية على مذهب واحد؟ ؟ !!! .

2ـ لا أَدري لمَ يتعجب الباحث فيما لو قال الأَشاعرة إِنهم وابن تيمية يشملهم جميعاً اسم السنة والجماعة وقد بيَّن هو نفسه أَنَّ هذا المصطلح يطلق ويراد به المعنى الأَعم ويُطلق ويراد به المعنى الأَخص؟ !! .

فإِن كان الأَشاعرة أَو بعضُهم قد قالوا ذلك فعلاً فلا شك في أَنهم أَرادوا المعنى الأعمَّ الذي يقابل الشِّيعة وسائر الفرق ، فما وجه التعجب من ذلك؟ !! بل الباحث نفسه يقبل دخول الأشاعرة تحت اسم السنة والجماعة بهذا المعنى ، فلم تنكر ـ أيها الباحث ـ على الأشاعرة ولا تنكر على نفسك؟ ! .

3ـ يرى الباحث أَنَّ اسم السنة والجماعة بالمعنى الأَخص يقابل المبتدعة وأَهل الأهواء وأَنَّ الأشاعرة لا يدخلون فيه أبداً .

ويرى الباحث أَن الأشاعرة تلقَّوا واستمدوا من غير السُّنة وأَنهم لم يوافقوها في النتائج ، وقال: فكيف يكونون من أَهلها؟ ! . فهل عندك ـ أيها الباحث ـ  دليل على هذه الدعاوى؟! أَو إِن الدعوى يمكن أَن تُقبل بدون دليل؟ !!! .

وإِذا  أَردت ـ أَيها القارئ المنصف ـ أَن تعلم ماذا قدَّم الباحث من أَدلة على أَنَّ الأشاعرة تلقوا واستمدوا من غير السُّنة ؛ فاقرأْ ماسطَّره مما سيأتي في الموضوع الأول الذي عنونه بمصدر التلقي ، وتأمل هل في ذلك دليل على صحة الدعوى؟ ! . وإذا أردت أن تعلم ماذا قدم من أدلة على أنهم لم يوافقوا السنة في النتائج فاقرأ وتأمل ما سطره مما سيأتي في المواضيع التي تلي الموضوع الأول .

  هجوم الباحث على الأشاعرة واتهامهم بأنهم يتلقون ويستمدون ـ في العقيدة ـ من غير السنة وأنهم لم يوافقوها في النتائج مع الثناء الكبير على ابن تيمية: يوحي للقارئ بأن ابن تيمية لا يستمد ـ في العقيدة ـ من غير السنة وأنه لم يخالفها في النتائج ، والمظنون به والمعروف عنه ـ رحمه الله وغفر له ـ أنه شديد الحرص على اتباع السنة ، ولكن لا بد هنا من وقفة صغيرة:

لم لا يتعامل الباحث مع علماء الأشاعرة وابن تيمية وسائر العلماء ممن قبلهم ومن بعدهم بمنهج واحد؟ ؟ لم لا يزن أقوالهم بغض النظر عن قائلها بميزان واحد؟ ألا وهو العرض على كتاب الله تعالى وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فما شهدت له النصوص بالقبول فهو المقبول ، وما شهدت له بالرد فهو المردود .

وما أجمل كلمة الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ التي مرت قريباً ، حيث يقرظ كتاب الرد الوافر لابن ناصر الدين ، فقد قال بعد الثناء على ابن تيمية والإشارة إلى الأشياء التي أنكرت عليه: [ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب ، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترحم عليه بسببه ، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه] .

وإذا نظرنا بهذا المنظار المنصف فلا بد من أن نقول للباحث: إن ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أصاب في أشياء وأخطأ في أشياء ، ومن المجانبة للإنصاف تقديره لدرجة التقديس ، ورفعه إلى مرتبة تكاد تصل به إلى العصمة التي لا يستحقها مَن سوى الأنبياء والمرسلين ، حتى إن أقوال سابقيه ولاحقيه من العلماء توزن ـ عند كثير ممن فُتنوا به لحد التقديس ـ بالعرض على كلامه ، لا على نصوص الكتاب والسنة وأساليب اللغة وموازين العقول !!! .



والذي يتتبع كلام ابن تيمية ـ رحمه الله وغفرله ـ في العقيدة يجد أن فيه خللاً في عدد من المواضع، وهذه إشارات لبعضها:



أ ـ  رأى ابنُ تيمية قولَ ابنِ حزمٍ [وأن الله تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه] فعلَّق ابنُ تيمية قائلاً: [هذه العبارة ليست في كتاب الله ، ولا تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ... ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين] [[34]] .



أقول:

من العجيب الغريب أن يقول ابن تيمية عن هذه العبارة [ولا تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] وقد قال صلى الله عليه وسلم [كان الله ولم يكن شيء غيره]؟ !! [[35]] .

ومن العجيب الغريب أن يرجح رواية أخرى من روايات الحديث وهي [كان الله ولم يكن شيء قبله] [[36]] على الرواية الأولى معرضاً تمام الإعراض عن منهج أئمة الحديث في الترجيح بين الروايات . وطرق هذا الحديث مبثوثة في أكثر من عشرين مصدراً من مصادر السنة النبوية ، فلم يكلِّف نفسه عناء الرجوع إلى المصادر لجمع الطرق ، واكتفى بالطريقين المرويين في مصدر واحد ، وهو صحيح البخاري . ولو أنه أنفق من عمره سنوات لجمع طرق هذا الحديث ومعرفة اللفظ الراجح حقاً وهو [ولم يكن شيء غيره] ؛ لجنب نفسه وأتباعه الوقوع في عدد من البدع الاعتقادية ، كالقول بالقدم النوعي للعرش وجواز وقوع حوادث لا أول لها [[37]] .

ومن العجيب الغريب أن يقول إن هذه العبارة لا تعرف أو لا يعرفها هو عن أئمة المسلمين ، ومعناها منقول عن عدد من أئمة المسلمين منهم يزيد بن هارون ـ شيخ الإمام أحمد ـ ، والإمام أحمد ، وابن جرير الطبري ، وابن حبان ، والبيهقي ، والقاضي أبو يعلى ، وغيرهم ، وجاء معناها في الاعتقاد القادري الذي كتب للخليفة العباسي القادر بالله !!! فكيف غفل ابن تيمية عن هذا؟! .

والأعجب أنه هو نفسه ينقل عن الإمام أحمد أنه يقول [كان الله ولا شيء] [[38]] ، وينقل في معرض الثناء والإقرار قول عمرو بن عثمان المكي رحمه الله: [الله تعالى واحد لا كالآحاد ، ... خلصت له الأسماء السنية ، فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق ، ... فكان هادياً سيهدي ، وخالقاً سيخلق ، ورازقاً سيرزق ، وفاعلاً سيفعل] [[39]] ، وإذا كان الله تعالى مستحقاً في قديم الأزل لاسم [الخالق] بمعنى القدرة على الخلق عندما يشاء ذلك وبمعنى أنه سيخلق ؛ فهذا يعني أنه كان في الأزل وحده ولم يكن شيء غيره ولم يكن شيء معه ، فكيف غفل عن هذا؟ ! .



ب ـ  ذكر ابن تيمية رحمه الله حديث الأوعال [[40]] ورد على من حاول الطعن فيه وقال [هذا الحديث مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود وابن ماجه والترمذي وغيرهم فهو مروي من طريقين مشهورين ، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر] [[41]] .



أقول:

حديث الأوعال روي من طرق عن سماك بن حرب عن عبد الله بن عَميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض؟ ] . فقالوا: لا . فقال: [إن بعد ما بينهما ... ، ثم السماء فوقها كذلك ، ... ثم فوق السابعة بحر ... ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك] .

وفي غمرة الدفاع عن هذا الحديث المنكر الذي يرتب السموات بعضها فوق بعض ثم يجعل فوقهن بحراً ثم ثمانية أوعال ثم الله تبارك وتعالى وكأنه سبحانه في جهة مكانية ؛ فإن ابن تيمية ـ سامحه الله ـ يدعي أن هذا الحديث مروي من طريقين مشهورين وأن القدح في أحدهما لا يقدح في الآخر !! .

والحديث معروف ومشهور في عدد من المصادر بالسند الذي ذكرته ليس له غيره ، وهو سند ضعيف بيِّن الضعف ، فيه سماك بن حرب وعبد الله بن عميرة:

فأما سماك بن حرب فقد وثقه ابن معين وأبو حاتم ، لكن ضعفه شعبة وعبد الله بن المبارك وسفيان الثوري وغيرهم ، وقال أحمد: مضطرب الحديث . وقال النسائي: ليس ممن يعتمد عليه إذا انفرد بالحديث لأنه كان يقبل التلقين . وأما عبد الله بن عَميرة فقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الإمام مسلم: تفرد سماك بالرواية عنه . وقال إبراهيم الحربي: لا أعرفه . وقال ابن حجر في التقريب: مقبول . ومراد ابن حجر بقوله هذا أنه يقبل في المتابعات لا فيما انفرد به ، وذكره في ثقات ابن حبان لا ينفعه لما عرف من تساهل ابن حبان .

فمثل هذا السند لا يصلح للاحتجاج به في الأحكام فكيف يحتج به في العقائد؟ !!!‍‍‍‍.



جـ ـ  وقف ابن تيمية ـ سامحه الله ـ على بعض الآثار التي فيها القول عن الله تبارك وتعالى بأنه [أبدى عن بعضه] ، فراح يثبتها ويدافع عنها ، وقال: [وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض ؛ فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ، ذاكرين وآثرين] . وذكر الأثر الوارد في ذلك من طريق [عمرو بن عثمان الكلابي قال: حدثنا موسى بن أعين ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال: إذا أراد الله أن يخوف عباده أبدى عن بعضه للأرض ، فعند ذلك تزلزل ، وإذا أراد الله أن يدمدم على قوم تجلى لها عز وجل] [[42]] . ثم نقل عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل أنه قال: [حدثني أبي قال: حدثنا أبو المغيرة الخولاني قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة أنه قال: إن الله إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تزلزل ، وإذا أراد الله أن يدمر على قوم تجلى لها] . ونقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال معلقاً على ذلك: [أما قوله أبدى عن بعضه فهو على ظاهره وأنه راجع إلى الذات ، إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا ما يخرجها عما تستحق ، ... ولا يمتنع إطلاق هذه الصفة على وجه لا يفضي إلى التجزئة والتبعيض ، كما أطلقنا تسمية يد ووجه لا على وجه التجزئة والتبعيض][[43]] [[44]] .



أقول:

هل الأثر المنسوب لعكرمة هنا ثابت عنه؟ ؟ إن السند من عبد الله بن أحمد إلى عكرمة رواته ثقات ، ولكن كتاب السنة لعبد الله بن أحمد غير ثابت عن مؤلفه ، ولا تصح نسبته إليه ، لأن في سند النسخة راوياً غير معروف ، وإذا لم يكن معروفاً أصلاً فكيف يعرف أنه من أهل الصدق أو لا؟. فكل النصوص المروية في هذا الكتاب لا يمكن إثباتها منه ، لأن البناء المبني على أساس ضعيف كله ضعيف . وإذا افترضنا جدلاً صحة نسبة هذا القول لعكرمة مولى ابن عباس فهل هو حجة؟ !! إن قول الصحابي إذا تطرق إليه الاحتمال أنه قاله باجتهاده أو مما تلقاه من غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس بحجة في الأحكام ، فكيف يكون قول التابعي حجة؟!! وإذا لم يكن قول التابعي حجة في الأحكام فمن باب أولى في العقائد ، ومن باب أولى إذا تطرق إليه الاحتمال بأنه تلقاه عن بعض أهل الكتاب ـ كما هنا ـ ، فتنبه !! .

أما الأثر المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ففي سنده عمروبن عثمان الكلابي ، وهذا قد ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ . وقال عنه أبو حاتم الرازي: كان شيخاً أعمى بالرقة ، يحدث الناس من حفظه بأحاديث منكرة . وضعفه العقيلي والدارقطني ، وقال النسائي والأزدي: متروك الحديث . أفمثل هذا يكون حجة؟ !! وكيف غفل ابن تيمية  ـ سامحه الله ـ  عن الاشتغال بنقد السند قبل أن يقول [فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة .... ذاكرين وآثرين]؟ !!! فهل نطقوا به يذكرونه من تلقاء أنفسهم؟ ! أو نطقوا به يأثرونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! أو لا هذا ولا ذاك؟ !!! .

ومن العجيب الغريب أن ينقل ابن تيمية مع الإقرار قول القاضي أبي يعلى ـ سامحمهما الله ـ  أن قول القائل عن الله تبارك وتعالى [أبدى عن بعضه] هو على ظاهره !!! وأنه راجع إلى الذات !!! وأنه لا يمتنع إطلاق هذه الصفة على وجه لا يفضي إلى التجزئة والتبعيض !!! .

فهل بعد هذا التناقض ـ يا ذوي الحجى ـ تناقض أظهر منه؟ ! يقولون بإثبات لفظ البعض على الله وأنه راجع إلى الذات وأنه على ظاهره !!! ثم يقولون إن إطلاق هذا على معنى لا يؤدي إلى التبعيض ليس بممتنع !!! فكيف هو [بعض] وكيف لا يؤدي إلى التبعيض؟ !!! . ثم يقولون [كما أطلقنا تسمية يد  ووجه  لا على وجه التجزئة والتبعيض] !!! يخلطون القول في الذات بالقول في الصفات ، إذ من الممكن أن يقال إن لله تعالى صفات كثيرة ، وإن العلم والسمع والبصر من صفات الله ، وهي بعض صفات الله جل وعلا ، وإن هذا لا يؤدي إلى التجزئة والتبعيض على الله ، وإذا أثبتنا لله تعالى صفة اليد وصفة الوجه فنقول إنها من صفات الله ، وإن إثباتها صفات لا يؤدي إلى التجزئة والتبعيض على الله ، لكن هل من الممكن أن نثبت شيئاً  أو أشياء هي [بعض الذات] ثم نقول إن هذا لا يؤدي إلى التجزئة والتبعيض على الله؟!!! تعالى الله عن هذا علواً كبيراً .



د ـ  ذكر ابن تيمية حديثاً مرفوعاً يوهم ظاهره تأييد هذا المعنى فقال: [وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه سبحانه للجبل ما رواه الترمذي في جامعه ، قال: حدثنا عبد الله بن عبدالرحمن يعني الدارمي قال: أنبأنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، ـ قال حماد هكذا ، وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى ـ ، قال: فساخ الجبل وخرَّ موسى صعقاً][[45]]. ثم ذكر من طريقين عن أسباط ، عن السدِّي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال: [فلما تجلى ربه للجبل: ما تجلى منه إلا مثل الخنصر] [[46]] .



أقول:

من الغريب إيراد ابن تيمية للحديث المرفوع الذي رواه الترمذي في معرض تأييده [أن يقال في صفات الله لفظ البعض] !!! ولعل هذا هو مستنده إذ قال: [وهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة ذاكرين وآثرين] !!! والحديث المرفوع ليس فيه في رواية الترمذي أكثر من [أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً فقال: فساخ الجبل وخرَّ موسى صعقاً] . أما الذي قال هكذا ووضع طرف الإبهام على أنملة إصبعه اليمنى فهو حماد بن سلمة ، وقد فعل الراوي عنه سليمان بن حرب مثلما رآه فعل ليوضح بذلك لمن يروي عنه كيف فعل حماد ، وليس في هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هكذا ، ولا أنس بن مالك رضي الله عنه ، ولا ثابتاً  البناني رحمه الله . وعلق الترمذي على هذا الحديث ـ رغم صحة إسناده ظاهراً ـ  بقوله [هذا حديث حسن صحيح غريب] ، ولعله يعني في جمعه بين الصحة والغرابة صحة السند وغرابة المعنى .

فإن قيل: لقد روى جماعة من الرواة هذا الحديث عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه ، وأن الذي وضع الإبهام على طرف الخنصر هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن حميداً الطويل قال لثابت لما حدث بهذا الحديث: تقول هذا؟ ! . فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس وأنا أكتمه؟ !! . فأقول: بلى ، لقد رواه جماعة عن حماد بن سلمة بهذا ، ولكن تفرد حماد به يوقع في النفس ريبة ، سيما وقد قال فيه ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث وربما حدث بالحديث المنكر . وقال ابن معين: من سمع من حماد الأصناف ففيها اختلاف ومن سمع منه نسخاً فهو صحيح . وقال الإمام أحمد: كان يخطئ . وأشار بيده أي كثيراً . وأقرَّ ابن حبان أنه ممن يخطئ وأنه قد كثر خطؤه ، وقال الإمام الذهبي: إمام ثقة له أوهام وغرائب . وإذا كان ذلك كذلك فالأولى أن يتوقف عن رواية ينفرد بها حماد بن سلمة ويستغربها مثل الإمام الترمذي ويدرجها ابن الجوزي في الموضوعات .

ثم إن حماد بن سلمة ـ رحمه الله ـ  قد خولف في هذه الرواية المستغربة سنداً ومتناً ، فأما في الإسناد فقد جاءت هذه الرواية من طريقين لابأس بهما عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس موقوفة لا مرفوعة ، وأما المتن فقد جاء اللفظ عن أنس رضي الله عنه أنه قال: [أشار إليه بيده] أو قال بأصبعه [فتعفر الجبل بعضه على بعض] [[47]] . وليس فيها تفسير فلما تجلى ربه للجبل بوضع الإبهام على طرف الخنصر .

فلله در الإمام الترمذي الذي اختار من الطرق الكثيرة المروية عن حماد: الطريق الذي لا يصرح بنسبة اللفظ الموهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إلى الصحابي ولا التابعي ، ونصَّ مع ذلك على أنه [غريب] .

ومما يزيدنا استبصاراً في أن لحماد روايات منكرة في العقائد: ما رواه ابن عدي من ثلاثة طرق عنه عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء] [[48]] . فتأمل واعجب !!! .

أما الأثر الذي ذكره عن ابن عباس أنه قال [ما تجلى منه إلا مثل الخنصر] فلا يصح عن ابن عباس ، لأن أسباطاً والسدي فيهما ضعف ، فأما أسباط بن نصر فقد وثقه ابن معين ، وقال فيه البخاري: صدوق . وقال موسى بن هارون: لم يكن به بأس . وذكره ابن حبان في الثقات . لكن سئل أحمد: كيف حديثه؟ فقال: ما أدري . وكأنه ضعفه . وقال أبو حاتم: سمعت أبا نعيم يضعفه . وقال: أحاديثه عامية سقط مقلوب الأسانيد . وقال النسائي: ليس بالقوي . وقال ابن معين في رواية: ليس بشيء . واشتد إنكار أبي زرعة الرازي على الإمام مسلم أنه أخرج من أحاديث أسباط هذا في صحيحه . فلا شك في أنه صدوق ، كما لا شك في أنه كثير الأوهام . وأما إسماعيل بن عبد الرحمن السدي فقد وثقه أحمد والعجلي وغيرهما ، لكن ضعفه ابن معين والعقيلي ، وقال أبو زرعة: لين . وقال أبو حاتم: يكتب حديثه . فلا شك في أنه صدوق ، كما لا شك في أن له بعض الأوهام .

فمثل هذا السند إذا لم تعضده المتابعات فليس حجة في الأحكام ، فكيف يكون حجة في العقائد؟ !!! .

فاللفظ الذي يوهم التبعيض في حق الله تعالى ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أنس ولا عن ابن عباس رضي الله عنهم .



هـ ـ  قال ابن تيمية: [وروى الثوري وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة ، بعضهم عن ابن أبي نجيح وبعضهم عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير في قوله تعالى في قصة داود وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب قال: يدنيه حتى يمس بعضه] [[49]] .



أقول:

عبيد بن عمير من التابعين ، وقول التابعي ليس بحجة في الأحكام ، فكيف يكون حجة في العقائد؟ !!! . وربما كان مصدر هذا القول رواية من روايات أهل الكتاب ، والله أعلم .



و ـ  نقل ابن تيمية مع الإقرار أن الإمام أحمد قال: [وحديث الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك؟ . قال: نعم ، يا موسى ، هو كلامي ، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ، ولي قوة الألسن كلها ، وأنا أقوى من ذلك ، وإنما كلمتك على قدر ما تطيق ، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمتَّ . قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا: صف لنا كلام ربك . قال: سبحان الله ، وهل أستطيع أن أصفه لكم؟! . قالوا: فشبهه لنا . قال: أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله] [[50]] . وعلق ابن تيمية فقال: [هو صريح في أنه كلمه بصوت ، وكان يمكنه أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت] [[51]] .



أقول :

لم يبحث ابن تيمية عن إسناد مرسل الزهري قبل اعتماده مصدراً من مصادر العقيدة ، وقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات ، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث عن جرير بن جابر الخثعمي عن كعب [[52]]. فانظر كيف صارت أقوال كعب الأحبار معتمدة في العقيدة !!! .

وقد روى البيهقي نحوه من طريقين عن علي بن عاصم أنه قال: أخبرنا الفضل بن عيسى قال: حدثنا محمد بن المنكدر قال: حدثنا جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[[53]]. لكن لا بد من النظر في السند أولاً ، فأما علي بن عاصم فهو الواسطي وهو ضعيف ، وكان يخطئ ويصرُّ على الخطأ فاتهمه لذلك عدد من الأئمة بالكذب ، وأما الفضل بن عيسى فهو الرقاشي ، وقد اتفقوا على تضعيفه ، وقيل فيه منكر الحديث ، وقيل فيه ليس بثقة . ولعل أصل هذه الرواية هو قول كعب الأحبار ، فوصل إلى أحد الضعفاء الهلكى ، فألصقه ـ من باب الخطأ والغفلة ـ بأحد ثقات التابعين عن الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم !!! فتأمل واعجب .

أما المتن الإسرائيلي المصدر فكله إيحاء بأن كلام الله تعالى وإسماعه لموسى عليه الصلاة والسلام هو بصوت مادي قوي ، تبلغ قوته قوة عشرة آلاف لسان ، وأن الله تعالى قادر على أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت ، وأنه يمكن تشبيهه !!! ، وذلك أنه يشبه صوت الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة !!! ، وقد صار عند من يستدل به ـ دون التفات إلى معرفة مصدره ونقد سنده ـ  حجة في العقيدة ، إذ هو صريح في أنه كلَّمه بصوت !!! [سبحان الله عمَّا يصفون] .

وإمعاناً من ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ  في تثبيت معاني الجسمية فيما يتعلق بتكليم الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام ؛ فإنه يقول في موطن آخر: [وعلم بالاضطرار من دين أهل الملل والنقل بالتواتر أن الله لما كلم موسى كلَّمه من الشجرة وأنه كان يخرج منها نار محسوسة][[54]] فهل من المعلوم عند المسلمين علماً قطعياً ضرورياً أن الله تعالى لما كلم موسى كلَّمه من الشجرة وأنه كان يخرج منها نار محسوسة؟ !!! أو إن المراد بأهل الملل هنا هم اليهود والنصارى؟ !!! وهل عند اليهود والنصارى رواية مروية بالتواتر عن أنبيائهم أو إن رواياتهم منقطعة الأسانيد أصلاً؟ !!! ومن العجيب الغريب إثبات التواتر لمروياتهم ـ وأنى لها ذلك ـ لتثبيت الاحتجاج بها في العقيدة!!! فتأمل واعجب .

إن الثابت عند أهل الإسلام هو أن الله تعالى كلَّم موسى عليه الصلاة والسلام ، وأسمعه كلامه . قال الله تعالى: [فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين َ* وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ...] [[55]] . فقد ذكر ربنا تعالى أن النداء كان من جهة الشجرة ، ولم يقل إنه كان بصوت مادي ، ولم يذكر [أنه كان يخرج منها نار محسوسة] !!! .

والثابت المؤكد هو أن الله تعالى كلمه وناداه وأسمعه كلامه ، على ما يليق بعظمة الله تعالى ، لا على ما تصوره روايات أهل الكتاب من أنه كلام بصوت حسي تبلغ قوته قوة عشرة آلاف لسان ، إذ لو كان كذلك لسمعته زوجته ، ولو كانت قد شاركت موسى في سماع كلام الله تعالى لما بقيت لموسى هذه الميزة التي تفرد بها ، والتي ذكرها ربنا تعالى فقال: [يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي] [[56]] .

فلا بد من إثبات ما أثبته الله تعالى ، مع تفويض العلم بالكيفية له سبحانه ، ومع نفي مشابهة صفات الخالق لصفات المخلوق .



ز ـ  قال ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ : [وما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد ـ كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ونحوه من البقاع: فهو مما جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه] [[57]] .



أقول :

هل كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ؟!!! ما هذا ؟!!! اللهم غفراً .



قال الباحث:

[وسنأتي بحكمهم عند أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء ] .

ثم قال: [عند المالكية: روى حافظ المغرب وعلمها الفذ ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية بالمشرق ابن خويزمنداد أنه قال: [أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام ، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع ، أشعرياً كان أو غير أشعري ، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً ، ويهجر ويؤدب على بدعته ، فإن تمادى عليها استتيب منها .

ثم قال: [عند الشافعية: قال الإمام أبو العباس ابن سريج الملقب بالشافعي الثاني وقد كان معاصراً للأشعري: لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة .... . وانظر عقيدة ابن سريج في: اجتماع الجيوش الإسلامية .

ثم قال: [قال الإمام أبو الحسن الكرجي من علماء القرن الخامس الشافعية ما نصه: لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري .... . وضرب مثالاً بشيخ الشافعية في عصره الإمام أبي حامد الاسفراييني ، ... وبه اقتدى الشيخ أبو اسحاق الشيرازي ، ... انظر: "التسعينية" و"شرح الأصفهانية" . وانظر عن الكرجي وعقيدته: "اجتماع الجيوش الإسلامية" .

ثم قال: [وبنحو قوله  بل أشد منه قال شيخ الإسلام الهروي الأنصاري . يلاحظ أن كلاً من الشافعية والحنابلة يدعي الهروي لمذهبهم ، وقوله فيهم نقله في التسعينية عن كتاب ذم الكلام  .

ثم قال: [عند الحنفية: معلوم أن واضع الطحاوية وشارحها كلاهما حنفيان ، ... وتلميذ الإمام أبي حنيفة أبو يوسف كفـّر بشراً المريسي ، ... ومعلوم أن أصول الأشاعرة مستمدة من بشر المريسي .

ثم قال: [عند الحنابلة: موقف الحنابلة من الأشاعرة أشهر من أن يذكر ، فمنذ بدّع الإمام أحمد ابن كلاب وأمر بهجره وهو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري لم يزل الحنابلة معهم في معركة طويلة ، ... وبسبب انتشار مذهبهم وإجماع علماء الدولة سيما الحنابلة على محاربته أصدر الخليفة القادر منشور الاعتقاد القادري أوضح فيه العقيدة الواجب على الأمة اعتقادها ، سنة (433هـ) ] .



أقول:

  قول عالم أو عالمين من فقهاء المذهب لا يدل على أنه هو قول فقهاء المذهب ، حتى ولا غالب فقهاء المذهب ، فإذا افترضنا أن واحداً من المالكية ونفراً من الشافعية وواحداً من الحنفية قد ذموا الأشاعرة فهل ذمهم إياهم يعني أن هذا هو [حكمهم عند أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء]؟!!! هذا لا يقوله عاقل .

  المشهور والمعروف عن أكثر فقهاء المذهب المالكي والشافعي أنهم أشاعرة ، وعن أكثر فقهاء المذهب الحنفي أنهم ماتريدية ، والماتريدية متفقون مع الأشاعرة في أصول مسائل العقيدة ، وهذه مسألة خارجة عن موضوع هذا البحث ، أشير إليها هنا استطراداً ، فمن أرادها فليطلبها من مظانها .

 3ـ ذكر الباحث قول ابن خويزمنداد من المالكية العراقيين ، وهو محمد بن أحمد بن عبدالله ، وقيل: محمد بن أحمد بن علي ، المتوفى سنة (390هـ) تقريباً ، وهذا لا يمثل فقهاء المالكية ، فقد قال فيه الإمام الباجي: [لم أسمع له في علماء العراقيين ذكراً ، وكان يجانب الكلام جملة ، وينافر أهله ، حتى يؤدي إلى منافرة المتكلمين من أهل السنة ، وحكم على أهل الكلام أنهم من أهل الأهواء الذين قال مالك في مناكحتهم وشهادتهم ما قال] . وقال فيه القاضي عياض: [وعنده شواذ عن مالك ، وله اختيارات لم يعرج عليها حذاق المذهب ، ولم يكن بالجيد النظر ولا بالقوي الفقه] [[58]] . وفـي قول الباجي إشـارة إلى أن الأشـاعرة الذين خاضوا في علم الكلام ليسـوا من أهل الأهواء والكلام المذموم الذين قال فيهم الإمام مالك ما قال .

  ذكر الباحث قولاً منسوباً لأبي العباس ابن سريج ، وهو الفقيه الشافعي الكبير أحمد بن عمر بن سريج ، المتوفى سنة (306هـ) [[59]] ، منقولاً من كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" لابن القيم رحمه الله ، والواجب التريث والتثبت عند نقل أي نص يحتج به على أحد من كتاب من يخالفه ويخاصمه ، أو من يجر بذلك النقل لنفسه نفعاً ، لا للتهمة بالكذب ، ولكن للتسرع في قبول ما ينقل دون تمحيص ، إذ المعاداة والمنافرة قد تحول بين المرء وبين دقة التحري ، فينسب الناقل متسرعاً عن المنقول عنه ما لم يقله ، وكذا إذا كان الناقل يجر بذلك النقل لنفسه نفعاً ، وهنا تحمل الرغبة الباطنة في انتصار الكاتب لقوله وتأييده لمذهبه على التساهل في قبول الرواية عن المنقول عنه ، دون نقد ولا تمحيص .

ويبدو أن ابن القيم ـ رحمه الله وغفر له ـ  قد وقع في ذلك التساهل ، إذ نقل شيئاً من العقيدة المنسوبة لابن سريج ، دون أن ينقد الرواية ، لا سنداً ، ولا متناً .

فأما السند فهو منقطع ، لأن الذي ذكرها عن ابن سريج كما قال ابن القيم هو أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني ، وهذا قد ولد سـنة (380هـ) تقريباً ، وتوفي سـنة (471هـ)[[60]]. أي إنه ولد بعد وفاة ابن سريج بخمسة وسبعين عاماً تقريباً ، ولم يذكر من الذي بلغه إياها ، وكل سند منقطع فهو ضعيف .

وأما المتن فإن من المستبعد جداً أن يتحدث من توفي قبل الأشعري بعشرين عاماً تقريباً عن [الأشعرية] وكأنهم جماعة معروفة بهذا الانتساب ومتمذهبة به ، فهل عرف أن تحدث من توفي قبل أبي حنيفة عن [الحنفية] ؟!! أو قبل مالك عن [المالكية] ؟!! أو قبل الشافعي عن [الشافعية]؟!! أو قبل ابن حنبل عن [الحنبلية] ؟!! أو قبل الماتريدي عن [الماتريدية] ؟!! أو قبل الرفاعي عن [الرفاعية]؟!!! . فالظاهر أن كلمة [ والأشعرية ] ليست من كلام ابن سريج ، وإنما هي مقحمة فيه .

  ذكر الباحث قولاً منسوباً لأبي الحسن الكرجي ، وهو الفقيه الشافعي الكبير محمد بن عبد الملك الكرجي ، المتوفى سنة (532هـ) [[61]] ، منقولاً من كتب ابن تيمية وابن القيم ، وهما مخالفان ومخاصمان للأشاعرة ، ويجران بذلك النقل لنفسيهما نفعاً ، فهذا النقل لا يصح أن يعتمد عليه [[62]] .

ويبدو أن الكرجي هذا رحمه الله كان قد ابتلي بمن يدس في كلامه في العقيدة ما لم يقله!!! . وما أكثر الذين كانوا يستجيزون مثل ذلك !!! .

وقد أشار السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" إلى وقوفه على قصيدة تنسب إليه في العقيدة ، وأبدى شكه في جزء منها على الأقل ، وهو المشتمل على ما يقتضي التجسيم وعلى مخالفة الأشاعرة والطعن في الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله . ومن أهم الأسباب التي دعته للشك في ذلك الجزء منها هو قول ابن السمعاني: [وله قصيدة بائية في السُّنة شرح فيها اعتقاده واعتقاد السلف ، تزيد على مئتي بيت ، قرأتها عليه في داره بالكرج] . وابن السمعاني كان أشعري العقيدة ، فلو كان فيها ما اشتمل عليه ذلك الجزء لما أثنى عليها .

ومن ذلك عنده كذلك أن بعض أبيات القصيدة شعر مقبول ، بينما بعضها الآخر في غاية الرداءة ، وهو الجزء المشتمل على تلك القبائح ، ثم إن فيها الطعن في الأشعري وأنه لم يك ذا علم ودين !!! والحال هو أنه قد اتفق الجميع على علمه ودينه وزهده وورعه [[63]] .

هذا وقد نقل ابن تيمية الكلام المنسوب إلى أبي الحسن الكرجي من الكتاب المسمى بـ "الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول" ، ونسب الكتاب للكرجي ، وقد قال الإسنوي في ترجمة الكرجي في "طبقات الشافعية": [ وله تصانيف في الفقه والتفسير ، وله تصنيف يقال له الذرائع في علم الشرائع ] . ولم يذكر أن له كتاباً في العقيدة أو الأصول ، فربما كان هذا الكتاب منحولاً مكذوباً ، أو مقحماً فيه مثل ذلك الطعن في الأشعري والأشاعرة .

وابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ  ينقل ما يجده في الكتب دون أن يتحقق من صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف الذي نسب إليه ، ولما كانت حاله كذلك ووجدنا ابن السمعاني وابن السـبكي ـ وهما من كبار الأشاعرة ـ  يثنيان على الكرجي ؛ تبين لنا أنه لم يثبت من الطعن في الأشاعرة عن الكرجي شيء .

  ذكر الباحث ما يدل على نفور الفقيهين الشافعيين الكبيرين أبي حامد الإسفراييني وأبي إسحاق الشيرازي من مذهب الأشاعرة ، وهذا منقول من كلام ابن تيمية [[64]] ، وهو قد نقله عن الكرجي ، فرجع الأمر إلى ما ذكر في الفقرة السابقة .

ومما يؤكد ما تقدم هو أن أبا إسحاق الشيرازي أشعري العقيدة ، واقرأ إن شئت معتقده المطبوع في مقدمة شرح اللمع له ، وفيه قوله في اعتقادات أهل الحق: [ فمن ذلك أنهم يعتقدون أن أول ما يجب على العاقل البالغ: القصد إلى النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله عز وجل] [ ثم يعتقدون أن التقليد في معرفة الله عز وجل لا يجوز ، لأن التقليد قبول قول الغير من غير حجة ] [ ثم يعتقدون أن الله تعالى ليس بجسم ] [[65]] . وقوله [ العقل عند أهل الحق لا يوجب ولا يحسن ولا يقبح ] [ ولا يقال إن كلام الله لغات مختلفة ، لأن اللغات صفة المخلوقين ] [[66]] . وقوله [ ثم يعتقدون أن الله تعالى مستو على العرش ، ... وأن استواءه ليس باستقرار ولا ملاصقة ، لأن الاستقرار والملاصقة صفة الأجسام المخلوقة ، والرب عز وجل قديم أزلي ، فدل على أنه كان ولا مكان ، ثم خلق المكان ، وهو على ما عليه كان ] [[67]] . ثم قال عن المخالفين للأشاعرة: [فإظهارهم لما هم عليه من التشبيه ولعنة المسلمين وتكفيرهم لا يدل على أنهم على الحق ، ... ومن شرهم: لعنهم لأهل الحق وغيبتهم لهم وتقبيح اسمهم عند العامة وتلقيبهم لهم بالأشعرية] [[68]] .

فهذا هو أبو إسحاق الشيرازي ، أشعري محض ، وكلامه من صميم مذهب الأشاعرة ، بخلاف قول الباحث عنه ، وهذا عاقبة التسرع وعدم التحقيق والاعتماد على ما ينقله المتسرعون . فتنبه!!! .

  ثم حشر الباحث مع فقهاء الشافعية الصوفي الحنبلي المدعو بشيخ الإسلام الهروي الأنصاري ، وأن قوله في الأشاعرة هو بنحو قول الكرجي ، بل أشد منه .

والهرويُّ هذا هو أبو إسـماعيل عبد الله بن محمد الهروي الأنصـاري ، المتوفـى سـنة (481هـ) ، وهو حنبلي متعصب ، بعيد عن المذهب الشافعي والشافعيين ، فلم يترجم له في طبقات الشافعية السبكيّ ، ولا ابن الصلاح ، ولا ابن قاضي شهبة ، ولا الإسنوي ، فإدراجه مع فقهاء الشافعية خطأ محض ، والقول بأن كلاً من الشافعية والحنابلة يدعي الهروي لمذهبهم لا مستند له في الواقع ، وهذا من باب التسرع والحكم لأدنى اشتباه .

ولعل منشأ الوهم هو أن السبكي ذكره في طبقات الشافعية استطراداً ، في خلال ترجمته لشيخ الإسلام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله ، إذ يقول: [ وأما المجسمة بمدينة هراة فلما ثارت نفوسهم من هذا اللقب عمدوا  إلى أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري صاحب كتاب ذم الكلام فلقبوه بشيخ الإسلام ، وكان الأنصاري المشار إليه رجلاً كثير العبادة ، محدثاً ، إلا أنه يتظاهر بالتجسيم والتشبيه ، وينال من أهل السنة ...] [[69]] . أهل السنة في كلام السبكي هم الأشاعرة ، وأنت ترى أن السبكي لم يذكر له ترجمة في طبقات الشافعية ، وإنما ذكر هذه النبذة مجرد استطراد .

والهروي هذا عدولدود للإمام أبي الحسن الأشعري والأشاعرة ، وينبغي أن لا يغيب عن ذهن القارئ كلام الهروي الذي تقدم نقله من قبل ، إذ يقول عن الأشاعرة: [ وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي ] [[70]] . فالرجل هذا مبلغه من العلم بالتاريخ ، فلا عجب في أن يكون قوله في الأشاعرة هو بنحوالقول المنسوب لأبي الحسن الكرجي بل أشد منه !!! .

  استدل الباحث على مباينة الحنفية للأشاعرة بأنّ واضع الطحاوية وشارحها كليهما حنفيان !!! فهل وجد الباحث في عقائد الأشاعرة ما يخالف ما في العقيدة الطحاوية؟ ! أو إنّ الواقع هو بخلاف ذلك ؟!! .

لم يذكر الباحث مثالاً واحداً يؤيد قوله .

لكن في العقيدة الطحاوية نصوص تتوافق مع عقائد الأشاعرة وتتعارض مع من يخالفونهم ، منها:

قال الإمام الطحاوي رحمه الله: [ له معنى الربوبية ولا مربوب ، ومعنى الخالق ولا مخلوق][[71]]. وقال: [ تعالى عن الحدود والغايات ، والأركان والأعضاء والأدوات ، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ] [[72]] . وقال: [ ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين ، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين ] [[73]] . وقال :

[ وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد ] [[74]] . فهل تعتقد ـ أيها الباحث ـ أنّ الله تعالى كان ولا مربوب ولا مخلوق سواء في ذلك العرش وغيره ؟؟ وهل تعتقد أنّ الله تعالى منـزه عن الحد ومنزه عن الأعضاء ومنزه عن الجهات؟ ؟ وهل المعترفون من أهل القبلة بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والمصدقون له بكل ما قال وأخبر تسميهم مؤمنين ؟؟ وهل تعتقد أنّ أفعال العباد هي خلق الله وكسب من العباد ؟؟ . هذه من عقائد الطحاوي والأشاعرة ، فهل أنت  ـ أيها الباحث الذي تشيد بالطحاوية ـ  موافق لما جاء في الطحاوية؟ ! أرجو ذلك .

أما ابن أبي العز فقد خرج عما يعتقد معظم علماء المذهب الحنفي ، وانتقل إ لى عقيدة ابن تيمية ، وملأ شرحه للطحاوية بالاقتباس من كلامه ، لذا فإنه لا يمثل الحنفية في العقيدة .

ولست أدري لم يتجاهل الباحث كتب الإمام أبي منصور الماتريدي والعقائد النسفية للإمام نجم الدين أبي حفص عمر بن محمد النسفي المتوفى سنة (537هـ) وشروحها وكتب الملا علي القاري ؟ فهذه الكتب تمثل ما يعتقده جمهور فقهاء الحنفية ، لا شرح الطحاوية لابن أبي العز .

  ذكر الباحث أن أبا يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمهما الله كفّر بشراً المريسي ، ثم قال [ ومعلوم أن أصول الأشاعرة مستمدة من بشر المريسي ] ، وكأنه يوحي للقارئ بأن الأشاعرة ـ في نظر الإمام أبي يوسف والحنفية ـ قريبون من الكفر إن لم يكونوا كفاراً ، بسبب أن أصولهم مستمدة من الرجل الذي كفَّره أبو يوسف !!! . ولم يذكر أصلاً واحداً من كلام بشر المريسي وتوافقه مع كلام الأشاعرة ليوضح لنا أنهم أخذوه منه !!! .

أهذا هو البحث في العقيدة ؟!! أهذا هو حكم الأشاعرة عند أئمة المذهب الحنفي ؟!! أهكذا تطلق الأحكام على الأشاعرة دون حجة ولا برهان ؟!!!.

10ـ ذكر الباحث أن الإمام أحمد رحمه الله بدّع ابن كُلاًّب وأمر بهجره وأنه هو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري ، وكأنه يوحي للقارئ بأن الأشاعرة ـ في نظر الإمام أحمد والحنابلةـ  مبتدعة يجب هجرهم ، ولم يذكر المصدر الذي نقل منه حكم الإمام أحمد على ابن كُلاًّب، ولم يأت بدليل على أنه هو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري .

إذا كان الباحث يريد أن يستدل بهذا على حكم الأشاعرة عند أئمة المذهب الحنبلي وأنه التبديع ووجوب الهجر ؛ فهذا غير كاف ، لأنه كلام لا يقوم على مصدر ولا دليل . وإذا صح ما نقله عن الإمام أحمد في ابن كُلاًّب فهل الإمام أحمد معصوم ؟!! .

والاختلاف بين الأشاعرة وكثير من الحنابلة في بعض مسائل الاعتقاد أمر معلوم ومشهور ، وليس ببعيد أن يقول بعض الحنابلة في الأشاعرة ما يقولون ، فمن أراد إثباته فليجمع الأقوال من مصادرها ، مع ذكر الإحالات على تلك المصادر . لكن مخالفة كثير من الحنابلة لبعض مسائل الاعتقاد التي يقول بها الأشاعرة ليست معياراً للصحة أو عدمها ، والمعيار هو الكتاب والسنة ، فهذا هو الذي أمرنا بالرد إليه عند التنازع .

ومن متعصبة الحنابلة أبو إسماعيل الهروي ، الملقب عند بعضهم بشيخ الإسلام ، وقد تقدم نقل قوله في الإمام أبي الحسن الأشعري !!! فماذا سيكون قوله في الأشاعرة ؟!!! . ولو تنبه الباحث إلى أنه لم يكن شافعياً قط لذكره مع الحنابلة ، لا مع الشافعية .

11ـ  وههنا أمر في غاية الأهمية والخطورة ، هو أن الباحث ينظر إلى الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله نظرة تتجاوز ما ينبغي أن يعطاه العالم من التقدير والتبجيل إلى حد بعيد ، وكأنه يضعه في مقام العصمة والتقديس !!! ، فتراه يكتفي بأن يقول [ بدّع الإمامُ أحمدُ ابنَ  كُلاًّب وأمر بهجره ] ، ولا داعي عنده بعد هذا إلى النظر في حال ابن كُلاًّب وأقواله في العقيدة وعرضها على الكتاب والسنة ليرى مدى التوافق أو التخالف ، ولا داعي عنده بعد هذا إلى النظر في أقوال سائر الأئمة في هذا الرجل !!! ، والقاعدة المقررة عند أهل السنة هي أن الحجة في قول الله تبارك وتعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبعض الناس يرددون [ ما منا من أحد إلا ردّ  ورُدّ عليه إلا صاحب ذلك القبر الشريف صلى الله عليه وسلم ] بألسنتهم ، وأما في الواقع والتطبيق فإنهم يضربون بها عرض الحائط ، وكأنهم رفعوا أئمتهم إلى مقام العصمة ، فإلى الله المشتكى .

12 ـ  ذكر الباحث أن الخليفة العباسي القادر بالله أصدر منشور الاعتقاد القادري وأوضح فيه العقيدة الواجب على الأمة اعتقادها ، وذلك بسبب انتشار مذهب الأشاعرة وإجماع علماء الدولة ـ سيما الحنابلة ـ  على محاربته !!! . فهل أجمع علماء الدولة في خلافة القادر بالله العباسي على محاربة المذهب الأشعري ؟!!! دعوى تحتاج إلى برهان .

ثم هل تعتقد ـ أيها الباحث ـ  العقيدة الواردة في الاعتقاد القادري التي تقول بأنه يجب على الأمة اعتقادها؟ ! أو تعتقد العقيدة الواردة في كلام ابن تيمية؟ ! فإن بينهما تناقضاً في مسألة عقدية هي من أهم الأسس التي ينبني عليها عدد من مسائل الاعتقاد ، فقد جاء في المنشور القادري [ كان ربنا وحده لا شيء معه ] ، بينما يعتقد ابن تيمية أنه كان الله ولم يكن شيء قبله وينكر أنه كان ولا شيء معه ، فعلى أية عقيدة أنت ؟! وما العقيدة الصحيحة التي يجب على المسـلم أن يعتقدها : ما ورد في الاعتقـاد القادري أو ما ورد في كتب ابن تيمية؟؟!!! .

وأما قول الباحث [ أصدر الخليفة القادر منشور الاعتقاد القادري ... سنة (433هـ) ] فهو خطأ منشؤه التسرع ، فإن الخليفة القادر بالله توفي سـنة (422هـ) والذي وقـع سـنة (433هـ) هو أن الخليفة القائم بأمر الله أخرج في هذه السَّنَة [ الاعتقاد القادري ] الذي كتب لأبيه القادر بالله ، فقرئ في الديوان ، فهذا تاريخ قراءته في خلافة القائم ، لا تاريخ كتابته في خلافة القادر .





قال الباحث:

[وليس ذم الأشاعرة وتبديعهم خاصاً بأئمة المذاهب المعتبرين ، بل هو منقول أيضاً عن أئمة السلوك الذين كانوا أقرب إلى السنة واتباع السلف ،... فما ظنك بحكم رجال الجرح والتعديل؟ ! ... وانظر إن شئت ترجمة إمامهم المتأخر الفخر الرازي في الميزان ولسان الميزان] .

ثم قال: [وقد ترجم الحافظ الذهبي رحمه الله في الميزان وغيره للرازي والآمدي بما هما أهله ...] .

ثم قال: [على أن ابن حجر قال في آخر ترجمة الرازي: أوصى بوصية تدل على أنه حسّن اعتقاده . وهذه العبارة التي قد يفهم منها أنها متعاطفة مع الرازي ضد مهاجميه هي شاهد لما نقول] .

أي: هي شاهد لقوله : إن ابن حجر ليس على مذهب الرازي .

أقول:

1ـ إذا جاء عن بعض أئمة السلوك ذم للأشاعرة فإن هذا لا يعني أن كلهم أو أكثرهم قد ذموا الأشاعرة أو رموهم بالابتداع ، ويكفي في هذا أن الباحث لم يذكر كلمة واحدة عن واحد من أئمة السلوك في ذلك .

والكلمة التي اقتصر عليها الباحث هي أن السيد عبد القادر الجيلاني رحمه الله لما سئل: هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد ابن حنبل ؟ . قال: [ ما كان ولا يكون ] . فهلا ذكر الباحث مسألة واحدة من أصول مسائل الاعتقاد يختلف فيها الأشاعرة مع أحمد ابن حنبل ليثبت أن الأشاعرة مناقضون له وأنهم مذمومون مبدّعون في نظر أئمة السلوك !!! .

  انظر الكلمات الواردة عن أئمة السلوك في الفصل الأول من الرسالة القشيرية لتقف على نبذ من كلامهم في العقيدة ، فمن ذلك:

[ الله هو الواحد ،  لاحدَّ لذاته ، ولا حروف لكلامه ] .

[ كل ما تصور في خيالك فالله بخلاف ذلك ] .

[ الإيمان تصديق القلوب بما وضحه الحق من الغيوب ] .

[ كنت أعتقد شيئاً من حديث الجهة ، فلما جئت بغداد زال ذلك عن قلبي ، فكتبت إلى أصحابنا بمكة: إني أسلمت الآن إسلاماً جديداً ] .

[ كل ما صوره الخيال والأفكار فالله سبحانه بخلافه ] .

[ أثبتَ ذاته ، ونفى مكانه ] .

[ الرحمن لم يزل ، والعرش محدث ] .

[ وله يدان هما صفتان يخلق بهما ما يشاء ، ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ،  لا جهة له ولا مكان ، ولا يحله حادث ، ولا يحمله على الفعل باعث ، ولا يقال أين هو ولا كيف هو؟  ولا يقال لم فعل ما فعل؟ إذ لا علة لأفعاله ،  يرى لا عن مقابلة ] .

فهل قائلوا هذا إلا أشاعرة؟ !!! أو إن الباحث يرفض هؤلاء بحجة أنهم ليسوا [ أقرب إلى السنة وأتباع السلف ] ؟!!! وكأن الحكم لطائفة ـ عنده ـ  بالقرب من السنة واتباع السلف هو لمن وافق مشربه دون احتكام إلى الكتاب والسنة وفهم الصحابة واللغة التي نزل بها الكتاب وجاءت بها السنة !!! .

ومن أئمة السلوك السيد أحمد بن علي بن أحمد الرفاعي المتوفى سنة (578هـ) رحمه الله تعالى ، وهو الذي وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء [21/ 77] بالإمام القدوة العابد الزاهد شـيخ العارفين ، وهو من أكثر الناس حثاً على اتباع السنن النبوية والتمسك بها ، ومن أكثرهم تحذيراً من ابتداع أهل السلوك المتأخرين وشططهم ، وهو أشعري المعتقد ، ومن أقواله عن الله تبارك وتعالى : [ وإنه لمنزه عن الجهة والمكان ] [[75]] . ومن أقوال أهل طريقته: [ مقدس عن التغيير والانتقال ] [[76]] . ومنها: [تنـزيه الله تعالى عن الفوقية والجهة والمكان ، .... كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان] [[77]] .



  يشير الباحث إلى أن رجال الجرح والتعديل لهم كلام في الأشاعرة ، أي إن الأشاعرة مجروحون عند علماء الجرح والتعديل ، ، ويضرب مثلاً بترجمة إمامهم المتأخر فخر الدين الرازي في ميزان الاعتدال للذهبي ولسان الميزان لابن حجر .

قال الذهبي في ترجمة فخر الدين الرازي محمد بن عمر المتوفى سنة (606هـ) : [ رأس في الذكاء والعقليات ، له كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم ، سحر صريح ، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله ، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة ] [[78]] .

وقال ابن حجر: [ وكان يعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها ، حتى قال بعض المغاربة: يورد الشبه نقداً ويحلها نسيئة . وكان سراج الدين الشرمساحي يقول: يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق ، ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غاية ما يكون من الوهاء ] [[79]] .

فأما كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم فقد قال تاج الدين السبكي: [ لم يصح أنه له ، بل قيل إنه مختلق عليه ] [[80]] .

وأما مسألة التشكيكات والشبه فقد أشار إليها هو ـ رحمه لله تعالى ـ في وصيته التي أوصى بها حالة الاحتضار ، قال : [ اعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم ، فكنت أكتب من كل شيء شيئاً لأقف على كميته وكيفيته ، سواء كان حقاً أو باطلاً ، ... ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن ، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله ، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات ،... وأما الكتب التي صنفتها واستكثرت فيها من إيراد السؤالات فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه ، على سبيل التفضل والإنعام ، وإلا فليحذف القول السيء ، فإني ما أردت إلا تكثير البحث وشحذ الخاطر ] [[81]] .

هذا وقد قال ابن حجر : [ والفخر كان من أئمة الأصول ، وكتبه في الأصلين شهيرة سائرة ، وله ما يُـقبل وما يُـرد ] [[82]] . فلله در ابن حجر ما أشد إنصافه .

4ـ نقل الباحث أن ابن حجر قال في لسان الميزان في آخر ترجمة فخر الدين الرازي [ أوصى بوصية تدل على أنه حسّن اعتقاده ] !!!. وقد وقع في قلبي من هذه الكلمة شيء ، واستبعدتها جداً ، لكن ما العمل؟ وليس أمام الباحث من لسان الميزان إلا هذه الطبعة السقيمة المحرفة المشوهة !!! .

ثم ظهرت طبعة حسنة قيمة من اللسان ، محققة على عدة نسخ خطية ، بعناية الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله ، وتبين منها أن تلك الكلمة ليست في شيء من النسخ الخطية ، وأنها مكتوبة في حاشية إحدى النسخ ، فبطل إثبات تلك الكلمة عن الحافظ ابن حجر رحمه الله والاستدلال بها والبناء عليها .

  قال الإمام الذهبي في ترجـمة سـيف الدين الآمـدي علي بن أبي علي المتوفى سـنة (632هـ) : [قد نفي من دمشق لسوء اعتقاده ، وصح عنه أنه كان يترك الصلاة][[83]]. وقال عنه ابن حجر: [تفقه لأحمد ابن حنبل ، ثم تحول شافعياً ،... وكان يظهر منه رقة قلب وسرعة دمعة ...] ثم نقل قول القائل [شككنا هل يصلي؟ فتركناه حتى نام ، وعلمنا على رجله بالحبر ، فبقيت العلامة نحويومين مكانها] [[84]] .

ترى هل كان الآمدي من علماء الأشاعرة لا يصلي؟ ! وهل نفي لسوء اعتقاده؟ ! .

أما مسألة الصلاة فلعله كان به مرض وكان يتيمم ، فبقيت علامة الحبر على رجله يومين ما توضأ خلالهما ، وأما مسألة الاعتقاد فما أكثر ما اختلف الناس في جزئيات مسائل الاعتقاد حتى هجر بعضهم بعضاً ، وبدّع بعضهم بعضاً ، وكفّر بعضهم بعضاً . وقد قال الحافظ ابن كثير ـرحمه الله ـ  في ترجمة الآمدي: [وكان كثير البكاء رقيق القلب ، وقد تكلموا فيه بأشياء ، الله أعلم بصحتها ، والذي يغلب على الظن أنه ليس لغالبها صحة] [[85]] .

   إذا كانت بعض كتب الجرح والتعديل قد ذكرت بعض علماء الأشاعرة بجرح فهذا ليس دليلاً على تجريح الأشاعرة بإطلاق ، ولا على تجريح مذهب الأشاعرة ، إذ لا يخفى على اللبيب العاقل أن في علماء سائر المذاهب مجروحين ، والعمدة في صحة الأقوال وبطلانها هي مدى قربها أو بعدها من الأدلة ، بغض النظر عن القائل وما قيل فيه .

ومثل الذي يسعى في توهين مذهب الأشاعرة بما وقف عليه من تراجم لبعضهم في الميزان واللسان: كمن يدّعي أن مذهب الحنابلة مذهب بدعي مذموم ، وأن أهله مجروحون عند علماء الجرح والتعديل ، مستدلاً بتراجم عدد من فقهاء الحنابلة في الميزان واللسان !!! .

واقرأ إن شئت فيهما تراجم هؤلاء الحنابلة ، ولا تنس أن غيرها كثير:

·  صدقة بن الحسين البغدادي: كان يظهر في فلتات لسانه ما يدل على سوء عقيدته مترجم في الميزان واللسان.

·  عبد العزيز بن الحارث أبو الحسن التميمي المتوفى سنة (371هـ): متهم بالوضع في الحديث مترجم في الميزان واللسان.

·  عبيد الله بن علي البغدادي المشهور بابن المارستانية المتوفى سنة (599هـ) : اتهم بالكذب وتزوير السماع ، وكان يتفلسف مترجم في الميزان واللسان.

·  عبيد الله بن علي بن أبي خازم بن أبي يعلى الفراء المتوفى سنة (580هـ) : أسقط القاضي ابن الدامغاني شهادته ، لما كان يرتكبه من الخلاعة وتناول مالا يجوز مترجم في اللسان.

·  عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري المتوفى سنة (387هـ) : قال ابن حجر : [وقد وقفت لابن بطة على أمر استعظمته واقشعر جلدي منه] . وبين ذلك إذ ذكر حديث [كلم الله تعالى موسى يوم كلمه وعليه جبة صوف وكساء صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي] ، وأشار إلى ضعف سنده ، وإلى رواية ابن بطة لهذا الحديث ، لكن بزيادة منكرة في آخره ، وهي [فقال: من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟ . قال: أنا الله] . وعلق ابن حجر بقوله: [وما أدري ما أقول في ابن بطة بعد هذا؟ ! ... والله أعلم بغيبه] .

وهذا يعني أن ابن بطة ربما وضع هذه الزيادة وأدرجها في الحديث ، وهي موافقة لمشربه الذي فيه ميل للتجسيم والتشبيه ، وقد روى ابن الجوزي الحنبلي هذا الحديث بهذه الزيادة في الموضوعات ، وعلق بقوله: [هذا لا يصح ، وكلام الله لايشبه كلام المخلوقين] . وروى ابن بطة معجم الصحابة للبغوي وهو لم يسمعه منه ، إنما كان أخذ نسخة وحك اسم صاحبها وكتب عليها اسمه وانظر ترجمة ابن بطة في الميزان واللسان .

·  الحسن بن أحمد بن عبد الله ابن البناء: كان يتصرف في الأصول بالتغيير والحك مترجم في اللسان .



فهل يصح ـ يا ذوي الحجى ـ  أن يطعن طاعن في الحنابلة والمذهب الحنبلي بمثل هذه التراجم وغيرها؟ !!! حاشاهم من ذلك ، فتنبه أيها الأخ الباحث وأصلح منهجك .





قال الباحث:

[وههنا حقيقة كبرى أثبتها علماء الأشعرية الكبار بأنفسهم ، كالجويني وابنه أبي المعالي والرازي والغزالي وغيرهم ، وهي حقيقة إعلان حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إلى مذهب السلف ، .... وإذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شيء رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ وإلى أي عقيدة رجعوا ؟ ] .



أقول:

1ـ لم يذكر الباحث نقلاً واحداً عن عالم من علماء الأشاعرة يعلن فيها حيرته !!! أو توبته!!! أو رجوعه عن شيء معين كان يعتقده إلى مذهب السلف !!! فكيف يمكن أن تصح الدعوى؟ ! .

ومن المعلوم أنه لا بد في مثل هذا من نقل الرواية ونقدها سنداً ومتناً قبل ابتناء أي حكم أو استنتاج عليها ، إذ لا بد من معرفة اتصال السند أو انقطاعه ، بالإضافة إلى عدالة الرواة الذين وردت أسماؤهم في ذلك السند وضبطهم أو انخرام العدالة أو الضبط فيهم أو في واحد منهم ، كما لا بد من معرفة انسجام تلك الرواية مع واقع حال الذي رويت عنه ، وذلك كما تقدم عن الرواية التي تعزو لابن تيمية ـ رحمه الله ـ  أنه قال [واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا] ، فإذا علمنا أن في سندها راوياً مجهولاً كان هذا من وجوه نقد السند ، وإذا علمنا أن كتب ابن تيمية طافحة بالرد على من يقول مثل هذا القول كان هذا وجهاً من وجوه نقد المتن ، وبهما أو بأحدهما تسقط الرواية وتنزل من مرتبة القبول إلى الرد .

  رويت الحيرة في الدين عن أحد علماء الأشاعرة وهو عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي ، وقد تقدم نقل الحكاية التي رواها ابن تيمية في ذلك ونقد سندها [[86]] . مما يدل على أنها مختلقة مكذوبة .

  ورويت الحيرة ـ  لا في أصل الدين بل في إحدى مسائل الصفات ـ  عن إمام الحرمين رحمه الله ، وهو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسـف الجويني ، المتوفى سـنة (478هـ) .

وقد رويت الحكاية من طريق الحافظ أبي العلاء العطار الهمذاني الحسن بن أحمد بن الحسن المتوفى سنة (569هـ) ، عن الشيخ الصوفي أبي جعفر الهمذاني محمد بن الحسن بن محمد المتوفى سنة  (531هـ) ، أنه قال : سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] [[87]]. فقال: كان الله ولا عرش . وجعل يتخبط ، فقلت: هل عندك للضرورات من حيلة ؟ . فقال: ما معنى هذه الإشارة؟ . قلت: ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة ـ يقصد الفوق ـ ,  فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟ ! . وبكيت ، وبكى الخلق ، فضرب بكمه على السرير ، وصاح بالحيرة ، ومزق ما كان عليه ، وصارت قيامة في المسجد ، ونزل يقول: يا حبيبي ، الحيرة الحيرة ، والدهشة الدهشة [[88]] . وفي الطريق الآخر أنه قال فيما بعد: حيرني الهمذاني .

هذا وقد نقد تاج الدين السبكي هذه الحكاية من حيث المتن وقال: أو كان الإمام عاجزاً أن يقول له: إن العارف لا يحدث نفسه بفوقية الجسمية . ثم قال: بل نقول: لا يقول عارف يا رباه إلا وقد غابت عنه الجهات [[89]] .

أي إن الأشاعرة يقولون بعلوِّ الله تعالى وفوقيته ، لكنها ليست فوقية الأجسام التي يقول بها من يعتقد أن من على رأس الجبل أقرب إلى الله تعالى ممن في قعر الوادي ، وإذا كان ذلك كذلك ؛ أفكان إمام الحرمين عاجزاً عن أن يجيب هذا السائل بأن هذا القصد القلبي الضروري يتجه إلى الله تبارك وتعالى في علوه وفوقيته المطلقة التي هي ليست فوقية الأجسام والجهات المكانية؟ ! فلا تعارض بين ما أثبته الدليل العقلي والنقلي من أن الله تعالى كان ولا عرش وبين العلوِّ والفوقية المطلقة .

ولعل جانباً أو جوانب من الخلل قد تطرقت إلى هذه الحكاية ، والله أعلم بحقيقتها .

  ورويت الحيرة في مسألة من أهم مسائل الاعتقاد عن الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله ، وهي مسألة حدوث الأجسام ، فأهل الإيمان لا يشكون في أن الأجسام حادثة ، وأن الله تبارك وتعالى هو الذي أحدثها وأوجدها بعد العدم ، وأن القول بقدمها كفر مخرج من الملة ، وأن الذي يشك ويرتاب في هذا لأن الأدلة عنده متعادلة من الجانبين: هو كافر خارج من الملة .

وقد جاء الاتهام بالتعريض إلى الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله ، وبما يشبه التصريح إلى الإمام الرازي رحمه الله .

قال ابن تيمية ـ سامحه الله ـ : [وقد قيل إن الأشعري في آخر عمره أقرَّ بتكافؤ الأدلة ، واعتبر ذلك بالرازي ، فإنه في هذه وهي مسألة حدوث الأجسام يذكر أدلة الطائفتين ، ويصرح في آخر كتبه وآخر عمره وهو كتاب المطالب العالية بتكافؤ الأدلة وأن المسألة من محارات العقول ،  ولهذا كان الغالب على أتباعهم الشك والارتياب في الإسـلام] [[90]] .

والذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي في هذه المسألة في هذا الكتاب هو أنه فصَّل دلائل الفلاسفة فيها ، واستقصى في تقرير الوجوه المستخرجة من اعتبار حال الفاعلية والمؤثّرية والدلائل المستنبطة من صفة القدرة والإرادة والحركة والسكون وغير ذلك ، كل ذلك على مذهب أصحاب القدم منهم وعلى مذهب أصحاب الحدوث ، وختم هذه المباحث بقوله: [وههنا آخر الكلام في هذا البحث المهيب والمطلوب الهائل] [[91]] . ولم يصرح بتكافؤ الأدلة وأن هذه المسألة من محارات العقول!!! .

وكأنه ـ رحمه الله ـ يبين في ذلك الفصل ما عند الفلاسفة من الاستدلال والاستدلال المضاد دون أن يذكر قوله هو، ثم يذكر قوله معرباً ومفصحاً عنه بعد ذلك إذ يقول بعد قليل: [فإذا تأملنا في السموات وفي الكواكب وفي أحوال العناصر الأربعة وفي أحوال الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان ولا سيما الإنسان ؛ وجدنا من الحكم القاهرة والدلائل الباهرة ما غرقت العقول فيها وحارت الألباب في وصفها ، لاجرم كانت هذه الاعتبارات بالدلالة على وجود الفاعل المختار الحكيم الرحيم أولى ، ومتى ثبت القول بالفاعل المختار فقد ثبت القول بحدوث العالم لا محالة] [[92]] .

فهل يصح أن ينسب للإمام فخر الدين الرازي رحمه الله أنه يقول بتكافؤ الأدلة في مسألة حدوث الأجسام وأن هذه المسألة من محارات العقول؟ !!! .

  أما التوبة والرجوع إلى مذهب السلف فمن المعلوم المشهور أن إمام الأشاعرة أبا الحسن الأشعري رحمه الله كان في أول أمره على مذهب المعتزلة ثم تاب منه ورجع إلى مذهب السلف .

لكن الأشاعرة الذين هم على مذهب أبي الحسن الأشعري لا أعلم أن أحدهم تاب ورجع إلى مذهب السلف من عقيدة كان يعتقدها ، لأنهم يعتقدون أن عقائدهم هي ما كان يعتقده السلف .

  أشـار البـاحث إلى أبي محمد الجويني وهو عبد الله بن يوسـف المتوفـى سـنة (438هـ) ، وهو والد إمام الحرمين .

لقد رجع أبو محمد الجويني رحمه الله عن تأويل النصوص الواردة في إثبات الاستواء والفوقية ونحوها إلى ترك التأويل وإلى إمرارها كما جاءت مع تمام التنزيه ونفي سمات الحدوث ، وكلاهما قولان عند الأشاعرة ، فلم يخرج بذلك عن كونه أشعرياً .

فهل قال إن الله جسم؟ ! وهل قال إن لله مكاناً؟ ! أو إنه يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان؟! وهل قال إن فوقية الله تعالى هي فوقية الأجسام؟ ! وهل قال إن الله تعالى إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه وأن هذا على ظاهره وأنه راجع إلى الذات؟ ! وهل أنكر أن الله تعالى كان ولم يكن شيء غيره؟ ! وهل سكت عن ذلك أو صرح بنقيضه؟ !!! .

روي عنه أنه قال رحمه الله: [الحمد لله الذي كان ولا مكان] [[93]] ، [له العلو والاستواء ، لا تحصره الأجسام ، ولا تصوره الأوهام] [[94]] ، [فإذا أشرنا إليه تقع الإشارة عليه كما يليق به ، لا كما نتوهمه في الفوقية المنسوبة إلى الأجسام] [[95]] ، [واستواؤه على عرشه معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق ، بل كما يليق بعظمته] [[96]] ، [هو سبحانه علي بالذات ، وهو كما كان قبل خلق الأكوان] [[97]] .

فإذا وقع الاتفاق على ترك التأويل وإمرار النصوص كما جاءت لكن مع نفي سمات الحدوث ومشابهة الحوادث والمخلوقات فقد ارتفع الخلاف ، ولا يبقى اختلاف بعده سوى اختلاف اللفظ والتعبير .

   وأشار الباحث إلى ولد أبي محمد الجويني وهو أبو المعالي إمام الحرمين ، وما قاله يشبه ما روي عن والده رحمهما الله .

قال إمام الحرمين: [اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة ،... فرأى بعضهم تأويلها ، ... وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى ، ... فحق على ذي الدين أن يعتقد تنـزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب][[98]]. فقف عند قوله [وتفويض معانيها] وقوله [أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين] .

ويبدو أنه رجع عن الاستدلالات الكلامية التي مشى على الاشتغال بها وتدوينها في كتابه [الشامل] ونحوه ، بعد ما تبين له أن معظمها لا يعطي الجزم واليقين ، لأنه من باب إجراء العقل في أبعد من مداه وأقصى من مضماره .

ولذا فإنه يقول: [لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام] . ويقول: [يا أصحابنا ، لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به] [[99]] .

ويقول: [قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفاً،... وغصت في الذي نهى عنه أهل الاسلام ، كل ذلك في طلب الحق ، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد ، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق: عليكم بدين العجائز ، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز ويختمَ عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الاخلاص "لا إله إلا الله" فالويل لابن الجويني] [[100]]. وقال في مرضه: [اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور] [[101]] .

فرحمة الله تعالى على هذا الإمام الكبير ، وليت الأشاعرة من بعده قبلوا نصيحته فتركوا الاستدلالات الكلامية وأقبلوا على مزيد من الاشتغال بالأدلة العقلية والنقلية ، إذاً لكانوا قد أسدوا لأنفسهم وللمسلمين خيرا كثيراً ، ولجنبوا الأمة شراً مستطيراً .

وأما قوله في مرضه [اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة] أو [يخالف فيها السلف]: فلعل مراده أي إذا رأيتم في كلامي ما يخالف السنة أو قول السلف بيقين فأنا أرجع عنه ، وخذوا بالسنة وقول السلف ودعوا قولي ، ومن المستبعد جداً أن يكون مراده أن عنده عقائد مخالفة للسنة أو لِمَا عليه السلف وأنه رجع عنها ، لأنه لو كان كذلك لبينها للتحذير منها ، ولما استجاز السكوت عنها بإبهامها ، فهذا من أولى وأهم ما يوجبه عليه واجب النصح للمسلمين .

  وأما قول الباحث [إذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شيء رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ وإلى أي عقيدة رجعوا؟ ] : فاعلم أنهم رجعوا عن الاشتغال بعلم الكلام ، وتحسروا على الوقت الذي أضاعوه فيه ، ولو أن أحدهم رجع عن عقيدة كان يعتقدها لحذر من العقيدة السابقة وأرشد إلى العقيدة اللاحقة ، وهذا من أوجب الواجبات ، وأنت تجد في كلامهم التحذير من علم الكلام والنهي عن الاشتغال به ، ولا تجد التحذير من عقائد الأشاعرة ولا من الأخذ عن شيوخهم ولا النهي عن قراءة كتبهم .

والذي لا يعرف مذهب الأشاعرة ويعرض عن قراءة كتبهم بتفهم وإمعان ؛ يتخيل أنهم مخالفون للكتاب والسنة ، وأن كبار أئمتهم قد رجعوا عن عقائد الأشاعرة ، وهذا خيال من قائله ، لا يقوم على دليل ، ولا يستند إلى برهان ، لأنهم كانوا يرون أولاً وآخراً أن عقائدهم هي القائمة على أسس من الكتاب والسنة ، وأنها هي التي تربط بين دلالة العقل والنقل على وجه التوافق والتعاضد .

وأرى أن كل هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً ، سواء رجعوا أو لم يرجعوا ، والذي يريد أن يبحث في عقائد الأشاعرة ؛ فإن الواجب الذي يفرضه عليه المنهج العلمي هو عرض عقائدهم من خلال كتبهم ثم محاكمتها من خلال الأدلة العقلية القطعية والأدلة النقلية الثابتة ، وأما غير هذا فأخشى أن يكون من التشغيب الذي لا فائدة فيه .

هذا وقد قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كلمة لو جعلها الباحث وموافقوه ومخالفوه نصب أعينهم لكفتهم ، فقد قال: [ولو قال الإمام أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول صلى الله عليه وسلم لم نقبله] [[102]] .



قال الباحث:

[دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم دعوى عارية عن الدليل يكذبها الواقع التاريخي ، وكُتب الأشاعرة نفسها عند تعريف مذهبي السلف والخلف تقول إن مذهب السلف هو مذهب القرون الثلاثة ، وبعضها يقول إنه مذهب القرون الخمسة] .

ثم قال: [الذي يدخل في الإسلام حديثاً هل تستطيع أي فرقة أن تقول إنه معتزلي أو أشعري؟ ! أما نحن فبمجرد إسلامه يصبح واحداً منا] .



أقول:

1ـ أما دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم فقد قال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله: [الشافعية والمالكية والحنفية ... أشعريون ، هذه عبارة ابن عبد السلام شيخ الشافعية ، وابن الحاجب شيخ المالكية ، والحصيري شيخ الحنفية] [[103]] . وهؤلاء أدرى بأهل مذاهبهم ، وفي هذا من الدليل كفاية .

والمقصود بكلمة [أشعريون] هنا هو أنهم في المسائل الكبرى في العقيدة إما أشاعرة وإما موافقون للأشاعرة ، ومن أهم ذلك أنهم ينفون عن الله تعالى الجسمية ولوازم الجسمية .

  أما الحنابلة ففيهم الموافقون لما عليه الجمهور ، وفيهم المخالفون لهم ، وإليك ما يقوله الإمام ابن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة (597هـ) ، قال رحمه الله: [ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح ، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله ابن حامد ، وصاحبه القاضي ، وابن الزاغوني ، فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب ، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام ، فحملوا الصفات على مقتضى الحس ، ... ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل ، حتى قالوا صفة ذات ، ... وقد تبعهم خلق من العوام ، ... وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهب شيناً قبيحاً لا يغسل إلى يوم القيامة] [[104]] . والخطاب في قوله [بعض أئمتكم] أي يا معشر الحنابلة . وأبو محمد التميمي هو رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز ، المتوفى سنة (488هـ) ، وهو من الحنابلة ، لكنه غير متفق مع ما سطره أبو عبد الله الحسن بن حامد والقاضي أبو يعلى محمد بن الحسين ابن الفراء وعلي بن عبيد الله ابن الزاغوني .

وربما كان من أسباب ابتعاد كثير من الحنابلة عن عقائد جمهور الأمة هو مزيد التعلق بكل ما يعزى للإمام أحمد مع تساهلهم في دراسة أسانيد تلك الأقوال المروية عنه ، خذ على سبيل المثال الرسالة التي رواها ابن أبي يعلى بسنده عن أحمد بن جعفر بن يعقوب الإصطخري عن الإمام أحمد ، ففيها عبارات موهمة ينبو عنها القلب ويستنكرها،منها وصف الله جل وعلا بأنه [يتحرك][[105]]، والمعلق على الطبعة القديمة لا يعلق بشيء ، وكذا المعلق على الطبعة الجديدة ، رغم أن هذا لم يجد ترجمة لبعض رجال السند ، لكنه لا يهتم بهذا ، بل لعلك تجد عند بعض الحنابلة في كتب العقيدة أن الله تعالى [يتحرك] !!! ، وأن هذا هو قول [السلف]!!! ، وأن من لم يعتقد ذلك فهو [جهمي معطل] !!! وكأنهم يجعلون الكلمة التي رويت عن الإمام أحمد جزءاً من عقيدة [السلف] بمجرد أنها رويت عنه ولو كان في سندها  إليه راو مجهول !!! فتأمل واعجب . هذا مع قولهم إنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ويسكتون عما سكت عنه !!! . لكنّ الإمام الذهبي رحمه الله ذكر إحدى الرسائل المنقولة عن أبي عبد الله أحمد ابن حنبل وأثنى عليها ، ثم قال: [وأما غيرها من الرسائل المنسوبة إليه كرسالة الإصطخري ففيها نظر] [[106]] . وقال: [لا كرسالة الإصطخري ، ولا كالرد على الجهمية الموضوع على أبي عبد الله] [[107]] .

  قال أبو ذر الهروي عبد بن أحمد بن محمد ، المتوفى سنة (434هـ) ، وهو يتحدث عن إمام الأشاعرة في عصره القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني: [كل بلد دخلته من بلاد خراسان وغيرها لايشار فيها إلى أحد من أهل السنة  إلا من كان على مذهبه وطريقه][[108]] .

وهذه النبذة مع ماسبق عن العز بن عبد السلام شيخ الشافعية وابن الحاجب شيخ المالكية والحصيري شيخ الحنفية كافية إن شاء الله في إثبات دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم.

  أما قول الأشاعرة بأن مذهب السلف هو مذهب القرون الثلاثة أو الخمسة فهذا لا يعني أن أولئك كانوا على غير ما عليه الأشاعرة ، لأن ذلك هو فيما يسمى آيات وأحاديث الصفات ، وللأشاعرة فيها قولان: الأول هو إمرارها كما جاءت بلا كيف ولا معنى وأنها لا تفسر مع نفي سمات الحدوث ، والثاني هو تأويلها على وجه يدل عليه استعمال العرب لمثل هذا الكلام على نحوذلك الوجه مما يتفق مع تنزيه الباري جل وعلا ، فإذا كان أهل القرون الخمسة الأولى أو جلهم على القول الأول فالأشاعرة لا ينكرونه ، بل ويقولون به ، وهو أحد القولين السائغين عندهم ، بل هو الأرجح عند كثير من محققيهم .

وشتان بين قولِ السلف وقولِ من يتوهمون أنهم على مذهب السلف ، فأولئك يقولون مثلاً في حديث [ ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ] إنه يُروى كما جاء ولا يُفسر ، وهؤلاء يقولون ينزل ربنا أي يتحرك وينتقل إذا شاء !!! فتعالى الله عما يقولون وعما يفسرون من المتشابه على المعاني الحسية .

  وأما قول الباحث إن من يدخل في الإسلام حديثا فبمجرد إسلامه يصبح واحداً منهم فهو قول تغني حكايته عن الاستدلال لرده ، فهل الذي يدخل في الإسلام حديثاً يعتقد ـ  بمجرد دخوله الإسلام وقبل أن يلقى أحداً من المعتزلة أو الأشاعرة أو غيرهم ـ أن من على رأس الجبل أقربُ إلى الله ممن في قعر الوادي ، وأن الله تعالى يدنى العبد يوم القيامة حتى يمس بعضه ، وأنه تعالى يتحرك إذا شاء ، وأنه تعالى قاعد على العرش وقد أخلى مكانا يقعد فيه محمداً صلى الله عليه وسلم معه عليه يوم القيامة ؟؟!!! أو إنه عندما يدخل في الإسلام لايعلم إلا ما يعلمه المعلم فلا هو قبل ذلك من هؤلاء ولا من هؤلاء ؟ !!! فتنبه .

قال الباحث:

[يجب التنبه إلى التفريق بين متكلمي الأشاعرة كالرازي والآمدي والشهرستاني والبغدادي والإيجي ونحوهم وبين من تأثر بمذهبهم عن حسن نية واجتهاد أو متابعة خاطئة أو... ، ومن هذا القسم الحافظ ابن حجر رحمه الله ، ... والحافظ في الفتح قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح ، وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم ، فمثلا خالفهم في الإيمان ،.... كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة ،... ولو قيل إن الحافظ رحمه الله كان متذبذباً في عقيدته لكان ذلك أقرب إلى الصواب] .



أقول:

  يؤكد الباحث على التفريق بين الأشاعرة المتكلمين وبين من تأثر بمذهبهم لسبب من الأسباب كالحافظ ابن حجر رحمه الله ، وعلى أن ابن حجر ليس أشعرياً ، وأنه قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح ، وأنه خالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم ، وإذا كان قول الأشاعرة على وفق ما يتصوره ويصوره الباحث وينسبه إليهم ؛ فلا شك في أن ابن حجر ليس أشعرياً ، ولكن لكي يكون حكم الباحث صحيحاً فإن عليه أن يورد أقوال الأشاعرة من كتبهم وأقوال ابن حجر من كتبه ويبين المناقضة بينهما ، ولكنه بعيد كل البعد عن هذا وذاك ، فما قيمة الدعاوى اذا لم تكن مبنية على المنهج العلمي السليم ؟؟ !! .

  إن كان ابن حجر قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح في بعض المسائل فهذا لايكفي دليلاً على أن ابن حجر ليس أشعرياً بإطلاق ، بل يكون دليلاً على أنه ليس مقلداًً للأشاعرة في كل شيء ، ولا حرج ولا عيب في هذا لا عليهم ولا عليه ، بل هذا هو شأن العالم الذي يناقش أقوال سابقيه بما ظهر له من الأدلة .

وكم من فقيه شافعي نقد من سبقه من الفقهاء الشافعيين في بعض المسائل ، وكم من فقيه حنفي أو مالكي أو حنبلي ، بل كم من صوفي نقد من سبقه من الصوفيين ، أفيكون بذلك غير صوفي ؟! .

هذا ولم يذكر الباحث نص كلام ابن حجر الذي ينقد فيه الأشاعرة باسمهم الصريح ليتبين وجه النقد ومدى ذلك النقد ومن الذي وجه إليه ذلك النقد؟؟ أهو كل الأشاعرة؟ أو جمهورهم؟ أو بعضهم؟!! وليته ذكر مثالاً واحداً  أو مثالين ، فهذا أقرب إلى المنهج العلمي من الإبهام والإطلاق .

  ذكر الباحث أن ابن حجر خالف الأشاعرة فيما هو من خصائص مذهبهم ، ومن ذلك أنه خالفهم في الإيمان ، وأحال الباحث إلى الجزء والصفحة من فتح الباري ، ولكن الموجود في ذلك الموضع لا يخالف ما قاله الأشاعرة .

قال ابن حجر: [والإيمان لغة التصديق ، وشرعاً تصديق الرسول فيما جاء به عن ربه ، وهذا القدر متفق عليه ، ثم وقع الاختلاف: هل يشترط مع ذلك مزيد أمر من جهة إبداء هذا التصديق باللسان المعبر عما في القلب إذ التصديق من أفعال القلوب؟ أو من جهة العمل بما صدق به من ذلك كفعل المأمورات وترك المنهيات؟ ... فالسلف قالوا هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان ، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله ، والمرجئة قالوا هو اعتقاد ونطق فقط ، والكرامية قالوا هو نطق فقط ، والمعتزلة قالوا هو العمل والنطق والاعتقاد ، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته والسلف جعلوها شرطاً في كماله] [[109]] .

ومما ينبغي التنبيه عليه ـ وإن كان لا يغيب عن فطنة الفطن ـ هو أن ابن حجر لم يذكر قولاً للأشاعرة في مسالة الإيمان ، وما ذاك إلا لأنه يعتقد أن قولهم لا يخرج عن قول السلف ، إذ تفسير الأشاعرة للإيمان بالتصديق والاعتقاد لا يعني أنهم يطرحون قول اللسان وعمل الجوارح ، وإنما يعني أن الإيمان الذي يخرج به المرء من الكفر إلى الحد الأدنى من الإيمان هو التصديق والاعتقاد ، وأما القول والعمل فهما من ثمار الإيمان ، وهما شرط في كمال الإيمان لا في صحته.

فهل خالف ابن حجر الأشاعرة في الإيمان؟ !!! فتأمل ـ أيها القارئ المنصف ـ واعجب!.

  ذكر الباحث أن ابن حجر يخالف الأشاعرة في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة ، والواقع خلاف ذلك ، وبيانه أن البخاري رحمه الله قال في صحيحه [باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام] ، فبيّن ابن حجر رحمه الله أن البخاري أتى بلفظة الفرائض بعد الأذان والصلاة والصوم من باب عطف العام على الخاص ، ثم نقل عن الكرماني أنه قال [ليعلم أنما هو في العمليات لا في الاعتقاديات] ، وأقره على ذلك ، إذ لم يتعقبه بشيء [[110]] .

فهل خالف ابن حجر الأشاعرة في أن أحاديث الآحاد حجة في الأحكام والفرائض لا في العقائد ؟!!! فتأمل ـ أيها القارىء المنصف ـ واعجب !.

  يميل الباحث إلى أن ابن حجر ـ رحمه الله ـ كان متذبذباً في عقيدته وأن هذا القول أقرب الى الصواب !!!. يقول الباحث هذا وهو لم يذكر عن ابن حجر كلمة واحدة ومناقضتها لآية قرآنية أو حديث نبوي صحيح ، فهل هذا هو المنهج العلمي المرتكز على الكتاب والسنة؟ !!! ولمصلحة من هذا؟ !!! .

6ـ بعد أن يصف الباحث ابن حجر ـ رحمه الله ـ  بأنه كان متذبذبا في عقيدته يصف البربهاري ـ رحمه الله وغفر له ـ  بأنه [إمام السنة في عصره] !!! . ـ وهو الحسن بن علي بن خلف المتوفى سنة (329هـ) ـ .

والبربهاري هذا لم يكن يجلس مجلساً إلا ويذكر فيه أن الله عزَّ وجل يُقعد محمداً صلى الله عليه وسلم معه على العرش [[111]] !!! .

ومما ينبغي أن يعلم أن هذه عقيدة نصرانية ضالة ، يقول بها النصارى في حق عيسى عليه السلام ، فتسربت إلى بعض جهلة المسلمين ، فنقلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم . وفي الإنجيل المحرف الذي بأيدي النصارى هذا النص: [وبعدما كلمهم الرب يسوع رفع إلى السماء وجلس عن يمين الله] [[112]] .

فالبربهاري ومن يقول بقوله هم  ـ  في نظر الباحث ـ  أئمة السنة !!! وليسوا متذبذبين في العقيدة !!! ولست أدري هل الباحث على عقيدته ؟ ! .

والباحث يثني على عثمان بن سعيد الدارمي وماكتب في العقيدة ، وهو القائل في وصف الله سبحانه: [ولو قد شاء لاستقرَّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات السبع والأرضين السبع؟ !] [[113]] . وهذا ـ في نظر الباحث ـ  من أئمة السنة وليس متذبذباً في عقيدته !!! .

هذا بعض ما سطره الباحث في مقدمات بحثه ، وأنتقل معه الآن إلى استعراض بعض ما يقوله في المواضيع الخمسة عشر التي يرى أنها هي أبواب العقيدة ، وأن مذهب الأشاعرة فيها مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة في أربعة عشر موضوعاً منها .



قال الباحث:

[رأيت من واجبي أن أسهم بتفصيل مذهب الأشاعرة في كل أبواب العقيدة ، ليتضح أنهم على منهج فكري مستقل في كل الأبواب والأصول ، ويختلفون مع أهل السنة والجماعة من أول مصدر التلقي حتى آخر السمعيات، ماعدا قضية واحدة فقط] !!!.



ثم ذكر الباحث ما فهمه من أقوال الأشاعرة في أبواب العقيدة ، حيث استعرض خمسة عشر موضوعاً ، وادعى أن مذهب الأشاعرة مخالف لمذهب أهل السنة فيها مخالفة تامة ، سوى الموضوع الرابع عشر ، حيث المخالفة فيه ليست بتامة .

ولا بد من استعراض شيء من كلام الباحث وتبيين بعض ما فيه .





الموضوع الأول :          مصدر التلقي



قال الباحث:

[ مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل ، وقد صرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي وشراح الجوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض ] .

والمراد بالنقل: نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة .

أقول:

  أول كلامه يصرّح بأن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل ، فيدل بظاهره على أن النقل لا يعد عندهم مصدراً للتلقي ، وآخر كلامه يصرح بأنهم يقدمون العقل على النقل عند التعارض ، وهذا يدل بظاهره على أن النقل عندهم مصدر من مصادر التلقي إلا أنهم يقدمون العقل عليه ، وهذا تناقض. فكان ينبغي للباحث أن يصون عبارته عن ذلك .

  إن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل والنقل ، وكتب العقيدة عندهم تحتج بالأدلة العقلية والأدلة النقلية ، وانظر على سبيل المثال كتاب الإنصاف للباقلاني ، فإنه مشحون بالأدلة العقلية والأدلة النقلية الكثيرة كثرة واضحة ظاهرة .

  كتبهم تقدم الأدلة العقلية على الأدلة النقلية في مجال الاستدلال في العقائد في باب العقليات ، وذلك لأن المراد هو الرد على المخالفين، كالدهريين والثنوية وأهل التثليث والمشركين والمجسمة ونحوهم ، فهل تحتج على هؤلاء بآيات القرآن الكريم قبل أن تقيم الأدلة العقلية على الإيمان بالله تعالى وأن القرآن كلام الله؟ !!وهل تحتج عليهم بنصوص السنة النبوية قبل أن تقيم الأدلة العقلية على الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !!!.

  الاستدلال في كتب العقيدة عند الأشاعرة يكون بالأدلة العقلية والنقلية على وجه التعاضد ، فكل منهما يؤيد الآخر ، فالعقل الصحيح والنقل الثابت الصريح لا يتعارضان ، ولا تجد في كتبهم ولو مرة واحدة أنهم قالوا لقد تعارض في هذه المسألة الحكم العقلي مع حكم النص النقلي القطعي الثبوت والدلالة ، فضلا عن أن يقولوا ذلك ويقدموا العقل على النقل ، ومن ادّعى غير ذلك فليأت بالدليل. ولا بد من التنبيه إلى الفرق الكبير بين [حكم النص النقلي] وبين [ظواهر ألفاظ النص النقلي] .

5 ـ  ويحسن هنا أن أذكر مثالاً للاستدلال ـ عند الأشاعرة ـ  بالأدلة العقلية والنقلية على وجه التعاضد ، ففي تفسير قول الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] [[114]] يقول الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله عن هذه الآية : إشارة إلى كمال علمه سبحانه ، والطريقُ إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمعَ ، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، بل الطريق إليه ليس إلا الدليلَ العقليَّ ، وذلك هو أن نقول: إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة ، والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالماً ، فلما كان دليل كونه تعالى عالماً هو ما ذكرنا ؛ فحين ادعى كونه عالماً بكل المعلومات بقوله [إنَّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء] ؛ أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك ، وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة ، والتركيب الغريب ، وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، فبعضها عظام ، وبعضها غضاريف ، وبعضها شرايين ، وبعضها أوردة ، وبعضها عضلات ، ثم إنه ضم بعضها إلى بعض ، على التركيب الأحسن ، والتأليف الأكمل ، وذلك يدل على كمال قدرته ،… ويدل على كونه عالماً ، من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم [[115]] .

  إذا وجدنا علماء الأشاعرة يقولون إن العقل مقدم على النقل فما معنى هذا الكلام؟

هذا يعني أنه إذا افترضنا وقوع تعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي فإننا لا نستطيع تقديم النقل ، لأن النصوص النقلية قد عرفنا أصل صحتها بالأدلة العقلية ، وتقديم النص النقلي على قضية عقلية قطعية هو طعن بالعقل ، والطعن بأحكام العقل القطعية طعن بالعقل والنقل معاً .

ولكن هل يعني تقديم العقل إنكار النقل ؟؟ وللجواب لا بد من تقسيم النصوص النقلية من حيث طريق وصولها إلينا ومن حيث قوة الدلالة إلى أربعة أقسـام :

القسـم الأول : قطعي الورود قطعي الدلالة ، وهو نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة الدالةُ على المعنى المُسـْتَدَلِّ بها عليه دلالة واضحة بيِّنة قطعية.

القسـم الثاني : قطعي الورود ظنيُّ الدلالة ، وهو نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة الدالة على المعنى المستدَل بها عليه دلالة ظهرت ولاحت للمستدِل ولكنها غير قطعية .

القسـم الثالث : ظني الورود قطعي الدلالة ، وهو نصوص السنة التي وصلتنا بطريق آحادي ودلت على المعنى المستدَل بها عليه دلالة واضحة بينة قطعية.

القسـم الرابع : ظني الورود ظني الدلالة ، وهو نصوص السنة التي وصلتنا بطريق آحادي ودلت على المعنى المستدَل بها عليه دلالة ظهرت ولاحت للمستدِل ولكنها غير قطعية .

والجواب بعد فهم هذا التقسـيم : أنه يستحيل وقوع التعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي إذا كان قطعي الورود قطعي الدلالة ، وهو القسـم الأول ، لأن الحقائق تتآلف ولا تتخالف .

ويُتصور وقوعُ التعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي قطعي الورود ظني الدلالة وهو القسـم الثاني ، وفي هذه الحالة لا بد من تأويل النص ، أي تفسيره بما لا يتعارض مع القضايا العقلية القطعية ، وبيان أن ذلك الظاهر الذي ظهر ولاح للمستدِل غير مراد قطعاً.

ومثال ذلك أن الله الخالق العظيم الذي ليس كمثله شيء يستحيل أن يحل في شيء من مخلوقاته ، وهذه قضية عقلية قطعية ، وقد يظهر لبعض من لم يفهموا هذه القضية الاستدلالُ ببعض ما يظهر ويلوح لأذهانهم الكاسدة من نصوص القرآن الكريم ، فيحتجون مثلا بقوله تعالى [وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ] [[116]] وبقوله تعالى [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] [[117]] على مذهب الحلوليين ، وهنا لا بد من تأويل النص ، أي تفسيره بما لا يتعارض مع القضايا العقلية القطعية ، ولا بد من بيان أن ذلك الظاهر غير مراد قطعاً، فيقال مثلا: إن معيّة الله تعالى أي كونه مع المخلوقات ليست كمعيّـة المخلوقات بعضهم مع بعض ، بل الله جل جلاله معهم معية تليق به ، أو معهم بعلمه مثلا ، وكذا قرب الله تعالى إلى عبده وكونه أقرب إليه من حبل الوريد ليس كقرب المخلوقات بعضهم من بعض ، بل الله جل جلاله قريب إلى عبده قرباً يليق به ، أو قريب إليه بالهيمنة والقدرة مثلاً .

ويُتصور وقوع التعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي ظني الورود قطعي الدلالة ، وهو القسـم الثالث، وإن ورد شـيء من ذلك فلا بد من حمل النص على أنه خطأ من بعض الرواة .

وكذا يتصور وقوع التعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي ظني الورود ظني الدلالة ، وهو القسـم الرابع ، وإذا ورد شـيء من ذلك فيؤول ، وقد يحمل على أنه خطأ من بعض الرواة .

7 ـ  الإيجي هو أحد الذين قالوا بتقديم العقل على النقل من الأشاعرة ، فما مثال ذلك من كلامه؟

تحدث الإيجي عن الذين وصفوا الله تعالى بأنه جسم ، وبين أقوال المجسمين تجسيما حقيقيا ، وأشار إلى استدلالاتهم وإلى الجواب عنها :

قال رحمه الله: [والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة ، فقيل: من لحم ودم ، وقيل: نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه ، ومنهم من يقول: إنه على صورة إنسان ، فقيل: شاب أمرد جعد قطط ، وقيل: شيخ أشمط الرأس واللحية ، تعالى الله عن قول المبطلين][[118]].

وقال في حديثه عن استدلالات أولئك المبطلين: احتجوا بالظواهر الموهمة للتجسيم من الآيات والأحاديث ، نحوقوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] [[119]] [ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً][[120]]... وحديث النزول ، والجواب: أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات ، ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن، فتؤول الظواهر ، إما إجمالاً ويفوض تفصيلها إلى الله ... ، وإما تفصيلاً ... [[121]]

فانظر ـ هداك الله ورعاك ـ إلى التعارض بين تنـزيه الله الذي ليس كمثله شيء وبين الظاهر الذي لاح للمجسمة من بعض الآيات والأحاديث ، وتأمل جواب الإيجي الذي يقول بتقديم العقل على النقل عند التعارض ، وجوابه يقرر ما يلي:

أ ـ  إن ما لاح للمجسمة من الاستدلال بهذه النصوص هو استدلال بما ظهر لهم من معانيها ، فهو مجرد [ظواهر] ، أي إن ألفاظ النصوص لا تدل على التجسيم دلالة قطعية .

ب ـ  تنـزيه الله تعالى عن التجسيم أمر مقطوع به .

ج ـ  إذا تعارض دليلان فيجب العمل بكليهما على قدر الإمكان.

د ـ  الواجب هنا هو تنزيه الله تعالى عن الجسمية ولوازمها وتأويلُ تلك الظواهر، إما تأويلاً إجماليا بصرف اللفظ عن المعنى المتبادر لمدعي التجسيم وتفويضُ المعنى التفصيلي إلى الله ، وإما بتأويل النصوص تأويلا تفصيليا بحسب سياق النص.

ولا بد ههنا من تقرير حقيقة هامة: وهي أنك قد تختلف مع الإيجي في دلالة ظواهر ألفاظ النصوص ، وفي التأويل الإجمالي أو التفصيلي ، ولكنك لا تستطيع بحال من الأحوال أن تقول إنه يقدم العقل على النقل بالمعنى المتبادر إلى الذهن عند هذا الإطلاق ، كما لا تستطيع بحال من الأحوال أن تقول إن مصدر تلقي العقيدة عنده هو العقل بعيداً عن النقل ، بل مصدر العقيدة عنده هو العقل المؤيد بالنقل ، ومن زعم غير ذلك فليأت بالدليل .

8 ـ  وأخيراً فلا تعجل ـ أيها الأخ الباحث ، واعلم أن ابن تيمية رحمه الله يقر مبدأ التفريق بين الدليل النقلي الذي لم يعارضه دليل عقلي وبين ما عارضه دليل عقلي أو نقلي آخر ، واستمع إليه إذ يقول في معرض استدلاله على أمر من أمور العقيدة: [والسمع قد دل عليه ، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي ، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم] [[122]] .

9 ـ  قال الإمام الغزالي رحمه الله عن علم التوحيد الذي ينظر في ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الأنبياء وأحوال يوم القيامة: [وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولاً بآيات الله تعالى من القرآن ، ثم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية][[123]] .



قال الباحث:

وضع الرازي في أساس التقديس القانون الكلي للمذهب في ذلك فقال: [اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك ... لم يبق إلا أن يُقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية: إما أن يقال إنها غير صحيحة ، أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها ، ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل ، وإن لم نجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى].

وعلق الباحث على قول الرازي [إما أن يقال إنها غير صحيحة] بقوله: [يلاحظ أن الدلائل النقلية تشمل نصوص الكتاب والسنة معاً ، فكيف يقال إنها غير صحيحة دون تفريق بينهما؟ مع أن مجرد إطلاقها على السنة وحدها في غاية الخطورة] .

وعلق على قول الرازي [اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات] بقوله: [هل وصلت قيمة نصوص الوحي إلى حد أن الاشتغال بتأويلها الذي هو تحريف لها يعتبر تبرعا وإحسانا؟ !] .



أقول:

1ـ خلاصة كلام الرازي هي: الجزم والقطع بما تقتضيه الدلائل العقلية القطعية ، وتقديمها على الأدلة النقلية التي يشعر ظاهرها بخلاف ذلك .

ولا بد من التمييز بين الدلائل العقلية التي ما تزال تدور بين الأخذ والرد ، وبين الدلائل العقلية التي تجاوزت تلك المرحلة وبلغت درجة اليقين ، فالأولى ظنية ، ولا يتصور عند الأشاعرة بحث اختلافها مع النقل ، فهي مردودة في باب العقائد ومرفوضة قطعاً ، والثانية قطعية ، وهذه هي التي بحثوا في موضوع اتفاقها أو اختلافها مع النقل .

كما لا بد من التمييز بين الأدلة النقلية الظنية الورود  أو الدلالة  أو كليهما  وبين الأدلة النقلية القطعية الورود والدلالة ، فالأولى ظنية ، وهذه هي التي بحثوا في موضوع اتفاقها أو اختلافها مع العقل ، والثانية قطعية ، ويستحيل عند الأشاعرة أن يكون بعضها مخالفاً لبعض الدلائل العقلية القطعية .

وتأمل في قول الرازي عندما ذكر الدلائل العقلية كيف قيدها بكونها قطعية ، وعندما ذكر الأدلة النقلية قال: [يشعر ظاهرها بخلاف ذلك] .

  الأدلة النقلية التي تشعر ظواهرها بمخالفة الدلائل العقلية القطعية قد تكون نصوصا من القرآن الكريم أو السنة النبوية ، وما يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون من المتواتر أو الآحادي ، والآحادي قد يكون صحيح السند أو ضعيفاً  أو تالفاً .

وقول الرازي عن الدلائل النقلية [إما أن يقال إنها غير صحيحة]: فهذا لا يتعلق بالقرآن الكريم قطعاً ، ولا بالسنة المتواترة ، وكلام الرازي يتعلق بالأحاديث الآحادية ، سواء أكان سندها صحيحاً عند من صحح السند أو ضعيفاً أو تالفاً .

ثم إنه لا إشكال في أن الضعيف والتالف غير صحيح ، لكن الآحادي إذا صح سنده فهل يجوز أن يقال إنه ليس بصحيح المتن إذا خالف الأدلة القطعية العقلية؟

لا بد ههنا من مراعاة أمرين: أحدهما النظر فيمن صحح السند ، فكثير من الذين يحكمون للسند بالصحة يتبين للناقد بعد التبصر في أحكام دراسة الأسانيد أنهم متساهلون في التصحيح ، ثانيهما النظر في الأدلة العقلية ، إذ لا بد أن تكون قطعية يقينية .

فإذا أورد أحد العلماء حديثاً في باب العقائد مشيراً إلى صحته أو ساكتاً عنه ومعتمداً عليه ثم تبين ضعف سنده فلا إشكال في رده ، وأنه لا ينهض للمعارضة بينه وبين الدليل العقلي ، وإذا كان ما سمي بالدليل العقلي ليس دليلاً عقلياً حقيقياً ولا يعدوكونه ظناً من الظنون ؛ فهذا كذلك لا إشكال في رده ، وأنه لا ينهض للمعارضة بينه وبين الدليل النقلي .

أما إذا كان سند الحديث صحيحاً وخالف مدلوله دليلاً عقلياً قطعياً فهذا هو ميدان البحث في التعارض الواقع بينهما ، وهنا يقول الأشاعرة إنه لا بد من تقديم العقل على النقل . ولكن الذي ينبغي التأكيد عليه هنا هو أننا إذا تجنبنا منهج التساهل في دراسة الأسانيد فقد لا نجد مثالا لهذه الحالة ،وإن عثر على شيء من ذلك فلا يعدو كونه من أندر النادر.

3ـ واعلم أنَّ هذا لا نزاع فيه عند أهل العلم ، وابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول بهذا ، واستمع إليه إذ يقول  : [ إذا قيل تعارض دليلان سواء كانا سمعيين أو عقليين أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً ؛ فالواجب أن يقال : لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً ، فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما سواء كانا عقليين أو سمعيين أو أحدهما عقلياً والآخر سمعياً ، وهذا متفق عليه بين العقلاء ، ... وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء ، سواء كان هو السمعيَّ أو العقلي، فإن الظن لا يرفع اليقين ، وأما إن كانا جميعاً ظنيين فإنه يُصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المُقّدَّمَ سواء كان سمعياً أو عقلياً ] [[124]] .

4 ـ ظن الباحث أن الدلائل النقلية إذا كانت صحيحة فإنها لا تستحق عند الرازي الاشتغال بتأويلها إلا على سبيل التبرع ، ولذلك فإنه راح يلمزه بما يعني أنه لا يقدر نصوص الوحي حق قدرها.

وإنما أُتي الباحث من حيث عدم التأني في تفهم العبارات ، فإن الرازي لم يقل إن الاشتغال بتأويلها هو من باب التبرع ، ولكنه ألمح إلى أنه يكفينا مع رد ظواهرها المخالفة للدلائل العقلية القطعية أن نفوض العلم بها إلى الله تعالى ، وهذا تأويل إجمالي ، ويمكننا أن نشتغل بذكر التأويلات التفصيلية على سبيل التبرع . فلم نسيت أيها الباحث قول الرازي: [بذكر تلك التأويلات على التفصيل ؟؟!!!] .

5 ـ  وقبل أن أغادر مسألة اتهام الأشاعرة بأنهم يقدمون العقل على النقل لا بد من بيان اتفاق الأمة الإسلامية على أصل المسألة ، فالمسلمون يعتقدون أنه يستحيل قطعاً أن يأتي في كتاب الله تعالى أو في كلام أحد من رسله ما يصادم العقل ، وقد قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم [لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] [[125]] ، وقال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ] [[126]] ، ولا يقول بجواز أن يأتي في كلام الله تعالى أو في كلام أحد من رسله ما يصادم العقل إلا من كان على شاكلة النصارى الذين ينادون: أطفئ سراج عقلك واتبعني .

واستمع إلى ابن تيمية رحمه الله إذ يقول عن النصارى: [ولا يميزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات ، وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول] [[127]] .

لكن ما الحكم فيما لو نقل عن أحد من رسل الله صلوات ربي وسلامه عليهم ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع؟ إما أن النقل غير صحيح فهو مما لا تثبت نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يصح النقل ويكونَ للمنقول معنى غير المعنى الذي تبادر إلى ذهن قارئ النص ، وهنا يكون الواجب عليه هو تأويل النص بصرفه عن ذلك المعنى الذي تبادر إلى ذهنه بادي الرأي إلى معنى سليم لا يصادم العقل ، وهذا هو ما يعنيه الأشاعرة . واستمع إلى ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: [ولو فرض على سبيل التقدير أن العقل الصريح الذي لا يكذب ناقض بعض الأخبار للزم أحد الأمرين: إما تكذيب الناقل أو تأويل المنقول ، لكن ـ ولله الحمد ـ  هذا لم يقع ، ولا ينبغي أن يقع قط][[128]] .

6 ـ ومما يثير الاستغراب والدهشة أن ابن تيمية نقل نقلاً غريباً يخالف ما تقدم ، فقال : [... ذكر الرازي في أول كتابه "نهاية العقول" أن الاستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال... ، إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع ] [[129]] . وهذا ليس موجوداً في كلام الإمام الرازي ـ رحمه الله ـ ، إذ لم يجده محقق الكتاب في أول "نهاية العقول" ، بل ولا بعد تصفحه لكثير من صفحات مخطوطة الكتاب ، ولعله مما كتبه ابن تيمية من حفظه وهو في حالة انفعالية ، فوقع في هذا الخطأ الفاحش ، إذ نسب للإمام الرازي قولاً كفرياً وهو بريء منه؟؟؟ . [[130]] .



قال الباحث:

يقول السنوسي: [وقعتْ في الكتاب والسنة ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر] . ويقول السنوسي: [أصول الكفر ستة ... التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية] .



أقول:

1ـ قال الله تعالى في كتابه العظيم: [فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا] [[131]] ، وقال تعالى: [نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ] [[132]] ، وقال تعالى: [فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسـِينَاكُمْ] [[133]]، فهل من صفـات الله تعالى النسـيان؟ ‍! تعـالى اللهُ عن ذلك علواً كبيـراً .

أو ليست هذه النصوص مصروفة عن ظواهرها؟ ! أو ليست واجبة التأويل؟ ! أو ليس الذي يصف ربه تعالى بالنسيان يكون كافراً ؟ ! .

هذا ونحوه هو ما يعنيه الأشاعرة من وقوع ظواهر من اعتقدها على ظاهرها فقد كفر .

2 ـ  وقال الله تبارك وتعالى: [وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى] [[134]] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون] ، فهل يصح نفي صفة الموت وصفة الحياة بإطلاق عن الكافر في جهنم؟ وهل يصح أن يقال عنه إنه ليس بميت ولا حي؟ وهل تفهم هذه الآية حسب ظواهر ألفاظها؟ ؟ أم إنك ستفسرها بتقييد الحياة المنفية هنا مستعيناً بالسياق؟ ؟ واستمع إلى الحافظ ابن كثير رحمه الله يفسر الآية الكريمة فيقول: [أي لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه] .

3 ـ وقال الله تبارك وتعالى [سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ] [[135]] ، فهل يصح فهم الآية على أَنَّ الله جل وعلا يكون مشغولاً قبل ذلك ثم يتفرغ لحساب الثقلين ، أم إنك ستفسرها بأنها وعيدٌ  بمحاسبتهم وأنه لا يشغله شيء عن شيء؟ ؟ واستمع إلى الحافظ ابن كثير رحمه الله يقول في معرض تفسيره للآية الكريمة: [وهو معروف في كلام العرب ، يقال لأتفرغن لك ، وما به شغل ، يقول لآخذنك على غرتك] .

4 ـ  روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني؟ ! . قال: يا رب ، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ ! . قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ ! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ ! ...] [[136]] . فهل من صفات الله تعالى المرض؟ !!! وهل يمرض مرضاً يليق به؟ !!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

فهذا النص ـ  عند الأشاعرة ـ  مصروف عن ظاهره المفهوم من الألفاظ ، ويجب فهمه في ضوء سياقه وتتمته ، وهي قوله تعالى في الحديث القدسي [أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ ! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده] .

ومن الغريب تعليق ابن تيمية رحمه الله على هذا الحديث إذ يقول: [وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يَجُع ، ولكن مرض عبده وجاع عبده ، فجعل جوعَه جوعَه ومرضَه مرضَه ، مفسراً ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ، ولو عدته لوجدتني عنده ، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل] [[137]] . فقد نفى ابن تيمية رحمه الله المرض عن الله تبارك وتعالى ، وفسر الحديث على الوجه الصحيح الذي جاء في الحديث نفسه ، لكنه سمى ذلك تفسيراً ، وأبى من تسميته تأويلاً ، وكأن نقطة الخلاف هي في التسمية !!! ويقول لك الأشاعرة: سمِّه ما شئت ، ولكن تفسيرك لكلمة [مرضتُ] بقولك [لم يمرض ولكن مرض عبده] هو صرف للمعنى المفهوم من ظاهر لفظة [مرضتُ] ، وحيث إن صرف اللفظ عن المعنى المفهوم من ظاهره إلى معنى آخر لم يكن بالهوى وإنما لدليل دل عليه ؛ فهذا هو الذي نطلق عليه اسم [التأويل] .

5 ـ وقال الله تعالى في الحديث القدسي [يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخيط إذا أدخل البحر] [[138]] ، فهل يصح لك أن تفهم من كلمات هذا الحديث الشـريف أن ما عند الله جل وعلا ينقص إذا أعطى كل واحد سؤله بمقدار ما ينقص ماء البحر إذا أدخلت فيه الإبرة ؟! حتى ولو كان ذلك القدر ضئيلاً جداً ؟!!! أو إن الواجب هو أن نفهم هذا الحديث الشـريف حسب سياقه ؟ ! بمعنى أن الله تعالى لا ينقص ما عنده أدنى قدر من النقص ، وأن التشبيه الوارد في الحديث لا يراد به سوى التقريب لبعض أذهان المخاطبين .

6 _ وعلى كل حال فإن الأشاعرة يأخذون بظواهر النصوص ولا يعدلون عنها إلا لدليل يدل على صرف معنى اللفظ ، وهو ما عبر عنه الإمام البيهقي رحمه الله تعالى إذ قال: [والقرآن على ظاهره ، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة] . وقال: [فلا وجه لترك الظاهر إلا بمثله أو بما هو أقوى منه] [[139]] .

7 ـ  وإذا كنت مستغرباً من موقف الأشاعرة حيث يفسرون النص أحياناً على غير ظاهره؛ فانظر في كلام الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله حيث يفعل الشيء ذاته ، ولكن لا تنس أنهم لا يتركون الظاهر إلا لدليل .

قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الآية إذا كانت عامة؟ فقال: تفسيرها بالسنة ، بالحديث ، إذا كانت الآية ظاهرة فينظر ما جاءت به السنة ، هي دليل على ظاهر الآية ، مثل قوله تعالى [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ] [[140]] ، فلو كانت الآية على ظاهرها ورث كل من وقع عليه اسم ولد ، فلما جاءت السنة أن لا يرث مسلم كافراً ولا كافر مسلماً وأنه لا يرث قاتل ولا عبد مكاتب ، هي دليل على ما أراد الله من ذلك [[141]] .

وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: فمن لم يأت بطواف الزيارة ورمي الجمار وما يجب عليه فليس حجه بتام ، وإنما قوله [الحج عرفة] إذا جاء بهذه الأشياء يشبه قوله صلى الله عليه وسلم [من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها] ، فلو كان على ظاهر هذا الكلام كان قد كملت صلاته إذا أدرك ركعة . ثم قال: قال أبي: ومن احتج فزعم أن الحج عرفة فلو كان على ظاهر الكلام: وقف بعرفة ورجع إلى أهله ووطئ أهله وأصاب الصيد [[142]] .

وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم [أمرت بقرية تأكل القرى]: تفسيره  ـ والله أعلم ـ  بفتح القرى ، فتحت مكة بالمدينة ، وما حول المدينة بها ، لا أنها تأكلها أكلا إنما تفتح القرى بالمدينة [[143]] .

وقد أشار الإمام أحمد رحمه الله إلى تفسير عدد من النصوص على غير ظاهرها ، فمن ذلك حديث [من غشَّنا فليس منا] وحديث [من حمل السلاح علينا فليس منا] ، قال أحمد: على التأكيد والتشديد [[144]] . ومن ذلك حديث [ثلاث من كن فيه فهو منافق] ، قال أحمد: هذا على التغليظ[[145]] .

8 ـ  واستمع إلى الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين كيف فهم من بعض الظواهر القرآنية شيئاً ، ثم خشي أن لا يكون ما فهمه من الآيات الكريمة هو المعنى المراد منها فراح يؤولها . قال رحمه الله: بقي أن يقال: إذا صح ما ذكر من إنزال المركبة الفضائية على سطح القمر فهل بالإمكان إنزال إنسان على سطحه؟ فالجواب أن ظاهر القرآن عدم إمكان ذلك ، وأن بني آدم لا يحيون إلا في الأرض ، يقول الله تعالى [فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ][[146]] ،.. ونحو هذه الآية قوله تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] [[147]]، . فالواجب أن نأخذ بهذا الظاهر . ثم قال: [ولو فرض أن أحداً من بني آدم تمكن من النـزول على سطح القمر وثبت ذلك ثبوتاً قطعياً أمكن حمل الآية على أن المراد بالحياة المذكورة: الحياة المستقرة الجماعية ، كحياة الإنسان على الأرض] [[148]] .

9 ـ فإذا وجدنا عند الأشاعرة أن من أصول الكفر التمسكَ في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية ؛ فلنعلم أن هذا لصدِّ تخرُّصات الزنادقة الذين يريدون زعزعة عقائد عوام المسـلمين ، محتجين بمثل قـوله تعالى [ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ] [[149]] ، وبنحو ذلك من النصوص التي يريدون فهمها من ظواهـر الألفاظ المقطوعة عن سـياقها ، أما فهم النص في ضوء سـياقه بصرفه عما يظهر من معاني مفرداته فهذا أمر متفق عليه ، ويكفينا في هذا الباب ما تقدم عن الإمـام أحمد ابن حنبل ـ رحمه الله ـ .

10ـ  ذكر السنوسي في كتابه المقدمات أن [من أصول الكفر والبدع التمسك في عقائد الإيمان بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير تفصيل بين ما يستحيل ظاهره منها وما لا يستحيل] . ثم قال في الشرح : أما الكفر فكأخذ الثنوية القائلين بألوهية النور والظلمة من قوله تعالى [اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] [[150]] وأن النور أحد الإلهين واسمه الله ، ولم ينظروا إلى استحالة كون النور إلهاً لأنه متغير حادث [[151]] .

فانظر ـ رعاك الله ـ  كيف فسَّر السنوسي كلامه وتأمل المثال الذي ذكره ، والمرء أدرى بمرامي قوله ومقاصد نفسه .



قال الباحث:

[صَّرح متكلموالأشاعرة أن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشر عوارض...] .



أقول:

  المعروف عند الأشاعرة وغيرهم أن نصوص الكتاب والسنة بعضها قطعي الدلالة وبعضها ظني الدلالة ، فنقـلُ الباحث بأنهم صرحوا بأن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة غير صحيح بهذا الإطلاق .

ومن الآيات القرآنية الكريمة القطعية الدلالة قوله تعالى [ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ][[152]] ، [لَوْ  كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا] [[153]] ، [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ  كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً] [[154]] , [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ][[155]] ، [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ][[156]] ، وغيرها كثير ، فهل قال أحد من الأشاعرة إن دلالتها ظنية؟ !! .

2ـ عزا الباحث إلى متكلمي الأشاعرة أن نصوص الكتاب والسنة لا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشرة عوارض ، ومنها الإضمار والتخصيص والنقل والاشتراك … والمعارض العقلي.

لا بد من تدبر القول لفهم معناه ، فما معنى هذا الكلام؟

معناه أن النصوص لا تفهم بمجرد فهم معاني المفردات والتراكيب، بل هناك شيء آخر لا بد منه ، وهو فَهم الأساليب .

فمثلا قال الله تعالى في قصة عاد: [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ] [[157]] فهل دمرت الريح كل شيء؟ .

قد يأتي من يدعي أنه يحمل راية الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة ويقول: نعم ، إن الريح التي أرسلت على عاد حملت إليهم العذاب الأليم ، ودمرت كل شيء ، ومن لم يعتقد هذا فهو كافر ، وأقل ما يقال فيه إنه مبتدع ضال مضل لا يؤمن بأن نصوص الكتاب والسنة تفيد اليقين!!! .

فيقال له: على رسلك  ـ عافاك الله ـ  ففي الآية إضمار .

فيقول: وما الإضمار؟ ! ، لا إضمار في النصوص ، وعندنا كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وفيهما الهدى .

فيقال له : بلى ، إن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نرضى عنهما بديلاً ، ولكن في قوله تعالى [تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ]  إضمار ، والتقدير: تدمر كل شيء قابل للتدمير بالريح ، لا كل شيء على الإطلاق.

فيقول: وما الدليل على ذلك؟ .

فيقال له : إن الريح دمرتهم ودمرت مواشيهم وزروعهم ، ولم تدمر مساكنهم ، بدليل قوله تعالى [فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ] [[158]] ، أي إن المساكن بقيت ولم تدمر. فتفكر وتدبر .

3 ـ  هذا وقد أوّل الإمام أحمد رحمه الله قول الله عز وجل [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ][[159]] بقوله: كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هلك ، والجنة والنار خلقتا للبقاء[[160]] .

4 ـ ولُيعلم أن بعض الأشاعرة قال عن الدلائل النقلية [في إفادتها اليقينَ في العقليات نظر] ، ومعناه أن النصوص  ـ منفردة ـ  لا تفيد اليقين في العقليات ، بل لا بد من تضافرها مع الدلالة العقلية .

  ممن رد على القائلين بأن الدلائل النقلية لا تفيد اليقين: الإمام الرازي ، حيث يقول: [اختلف العقلاء في أن التمسك بالدلائل النقلية هل يفيد اليقين أو لا؟ فقال قوم: إنه لا يفيد اليقين البتة] . ثم قال : [واعلم أن هذا الكلام على إطلاقه ليس بصحيح ، لأنه ربما اقترن بالدلائل النقلية أمور عرف وجودها بالأخبار المتواترة وتلك الأمور تنفي هذه الاحتمالات ، وعلى هذا التقدير تكون الدلائل السمعية المقرونة بتلك القرائن الثابتة بالأخبار المتواترة مفيدة لليقين] [[161]] .

ويقول تاج الدين السبكي الذي وصفه الباحث بالأشعري المتعصب: والحق أن الأدلة النقلية قد تفيد اليقين بانضمام تواتر أو غيره [[162]] .