لم يفعله النبيّ r
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله سيّدنا محمد وعلى آله
وأصحابه
هناك مَن يعتبر كل عمل لم يفعله النبيّ r فهو بدعة ضلالة صاحبه في النار
!
ويعترضون بقولهم : إما أنّ النبيّ r ما كان يعلم أن ذلك العمل كان
خيراً ! أو كان يعلم ذلك العمل ولكنه كان يعلم أنه ليس فيه خير ولهذا السبب لم
يعمله ، ولا ثالث لهما !
وهذا لا شك خطأ في الفهم والتصور عظيم !
ترك
النبيّ r للعمل وهو يحبه :
كان النبيّ r كثيراً ما يترك عملاً من الأعمال وهو يحبه ، ويود أن يعمله ولكن كانت هناك أسباب خاصة تمنعه من ذلك
، وهو r ليس كغيره حرا يفعل ما يشاء ، بل هو موضع القدوة ، ومحسوب عليه كل حركة ، وسكنة ، صلى الله عليه وسلم .
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : إن كان
رسول الله r ليدَع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيُفرض عليهم . متفق عليه . ( البخاري ومسلم )
.
وخشيته r ليست من فرض الله تعالى ذلك على الناس ، وإلا لو أراد الله تعالى ذلك لفرضه سواءً فعله r أو لم يفعله ، ولكن خشيته من أن الناس يفرضون ذلك عليهم
بأنفسهم ، وذلك بحجة أن النبيّ القدوة r قد فعله ، وداوم عليه ، إذاً يجب عليهم أن
يفعلوه أيضاً .
وقد أشار النبيّ r إلى ذلك بقوله : فيُفرض عليهم بالمبني للمجهول ،
أو مبني لما لم يسمى فاعله ، فلم يقل r إن الله تبارك وتعالى يفرضه عليهم .
فمن ذلك : عن عائشة
رضي الله عنها أيضاً قالت
( وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا
حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ وَمَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى ثَقُلَ ، عَنِ الصَّلاَةِ
، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاَتِهِ قَاعِدًا - تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ
الْعَصْرِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا ، وَلاَ يُصَلِّيهِمَا
فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ ، وَكَانَ
يُحِبُّ مَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ) صحيح البخاري .
ومن ذلك :
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنِّي لأَقُومُ
فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ
فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ
) صحيح البخاري .
ومنه : عن أبي هريرة t أن النبيّ r قال :
( لولا أن أشق على أمتي أو على الناس
لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ) متفق عليه .
ومنه : عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال :
( أعتم رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة
بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا فقام عمر بن الخطاب
فقال الصلاة قال عطاء قال ابن عباس فخرج نبي الله صلى الله عليه و سلم كأني أنظر إليه
الآن يقطر رأسه ماء واضعا يده على رأسه فقال ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم
أن يصلوها هكذا ) متفق عليه .
ومن ذلك أيضاً : عن
أبي هريرة t قال : قال رسول الله r :
(
لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية ولكن لا أجد حمولة
ولا أجد ما أحملهم عليه ويشق علي أن يتخلفوا عني ولوددت أني
قاتلت في سبيل الله فقتلت ثم أحييت ثم قتلت ثم أحييت ) متفق عليه .
ومنه : عن عائشة رضي
الله عنها أن النبيّ r قال لها :
( يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت
بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا
غربيا فبلغت به أساس إبراهيم ) البخاري .
ومنه : عن عائشة رضي
الله عنها أيضاً أن رسول الله r خرج من
عندها وهو قرير العين ثم رجع وهو كئيب
فقال : دخلت الكعبة فأخاف أن أكون شَقَقْتُ على أمتي . رواه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن خزيمة والحاكم . أنظر فتح
الباري لابن رجب ( 3 / 466 )
وذكره الإمام بدر
العيني رحمه الله فقال : [ قالت عائشة :
دخل عَليّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ حَزِين، فَقلت:
يَا رَسُول الله! خرجت من عِنْدِي وَأَنت قرير الْعين طيب النَّفس، فَمَا بالك؟ فَقَالَ:
إِنِّي دخلت الْكَعْبَة، وودت أَنِّي لم أكن فعلته إِنِّي أَخَاف
أَن أكون قد أَتعبت أمتِي من بعدِي) قلت: الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ
وَصَححهُ، وَالْحَاكِم وَصَححهُ، وَابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ:
هَذَا الدُّخُول فِي حجَّته ] . عمدة
القاري شرح صحيح البخاري ( 9 / 245 ) .
ماذا
نفهم من هذه الأحاديث ؟ :
في هذه الأحاديث الكثيرة المباركة ،
وغيرها حِكَم ، وعِبَر كثيرة ، ولكن الذي يهمنا هنا في موضوعنا هو :
1 – كان النبيّ r يحب أن يعمل كثيراً من الأعمال الصالحة ، ولكنه r كان يتركها ، لا كرهاً لها ، ولا لأنها ليس فيها خير ، ولا لأنه صلى الله عليه وسلم ما
كان يعلمها ، ولكن رحمة وشفقة على أمته أن يثقل عليهم ، ولولا ذلك
لعملها ، ومن ذلك – كما ورد في الأحاديث التي عرضناها - :
أ – كان r أحياناً لا يصلي بعض النوافل في المسجد
، مخافة أن يُثَقِّل على أمته .
ب – كان r يحب أن يُطَوِّل في الصلاة ، ولكنه يترك ذلك ويتجوّز فيها كراهية أن يشق على الأمّ . . .
إلخ
2 – وفي هذه الأحاديث المباركة ردّ
واضح على الذين يقولون للأعمال الصالحة : لو كان فيها خير لفعلها رسول الله r !
ومن فضل الله تعالى أن وصلتنا هذه
الأحاديث المباركة ، وتحدث رسول الله r فيها بوضوح وصراحة ، أنه يحب أعمالاً صالحة
، ولكنه يتركها رحمة وشفقة على أمته ، وإلا لو كان r حراً في تصرفاته وأعماله لعملها !
وكم من أعمال ربما كان r يحبها ، وتركها ، ولم يتحدث عنها ، رحمة ، وشفقة !
كل بدعة ضلالة
كل بدعة
ضلالة :
ما معنى حديث رسول الله r : كل بدعة ضلالة ؟
[ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كان رسول الله r إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته . . . ويقول : (( أما بعد ، فإن خير
الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور مُحدَثاتها ، وكل مُحدثة
بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) رواه مسلم ، وفي رواية غيره زيادة (( وكل ضلالة في النار )) .
وعن العرباض بن سارية t عن النبيّ r أنه قال : (( . . . فإنه من يعشْ
منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ،
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ،
وكل بدعة ضلالة )) أحمد . وأبو داود . والترمذي
، وقال : هذا حديث صحيح . وابن ماجه ، والسنن الكبرى للبيهقي ، وسنن الدارمي ، والمعجم
الكبير للطبراني ، وغيرهم
[ هذان الحديثان الشريفان هما أقوى ما يتمسك به من يحكم على كل المحدثات
الدينية بأنها بدعة ضلالة ، وأن أهلها مبتدعون ضالون من أهل النار ، إذ النص واضح حسب
الظاهر (( كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار )).
لكن هل لهذا النص وجه من الفهم غير هذا الظاهر الذي يبدو لمن يستدل
به على التعميم ؟؟ والجواب : نعم ، والذي يتدبر آيات الكتاب العزيز يدرك
هذا .
دلالة (( كل )) :
كلمة (( كل )) قد تأتي والمراد بها التعميم الشامل فيما دخلت عليه
، ومن ذلك قوله تعالى : { وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
} ، { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ } ، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا } .
وقد تأتي والمراد بها تعميم هو دون التعميم الشامل لكل
ما يصدق عليه اللفظ ، ومن ذلك قوله تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ
بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء} ، { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ
} ، { وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا
مِن كُلِّ شَيء } ، { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا
لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ } .
ففي الآيات الأولى لا تستطيع أن تتصور شيئاً لا يدخل في عموم ما دخل
عليه لفظ (( كل ))
فالله تعالى بكل شيء عليم
، ويستحيل أن تتصور شيئاً لا يدخل في علمه تعالى .
وكل نفس لا بد أن يذيقها
الله تعالى الموت ثم يحييها بعدما أماتها ، ويستحيل أن تتصور أن هناك نفساً من الأنفس
لا يذيقها الله تعالى الموت ، وهكذا .
أما الآيات التالية لها فالعموم ليس بالشامل لكل ما دخل عليه لفظ
(( كل )) من كل وجه ، وتأمل معاني الآيات وما قاله المفسرون فيها :
[ فأما قوله تعالى { فَلَمَّا
نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء} فقد قال الإمام
ابن جرير الطبري في تفسيرها : فإن قال لنا قائل : كيف قيل { فتحنا عليهم أبواب
كل شيء} وقد علمت أن باب الرحمة وباب التوبة لم يفتح لهم وأبواب
أُخَرُ غيره كثيرة ؟!! . قيل [ أي قلنا له في الجواب ] : إن معنى ذلك
على غير الوجه الذي ظننت ، وإنما معنى ذلك : فتحنا عليهم استدراجاً
منا لهم أبواب كل ما كنا سددنا عليهم بابه عند أخذنا إياهم بالبأساء والضراء
، ... ففتْحُ الله عليهم أبواب كل شيء هو تبديله لهم مكان السيئة
التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة،
ومن الضر في الأجسام إلى الصحة والعافية ، وهو فتحُ أبواب كل
شيء كان أغلق بابه عليهم مما جرى ذكره .
وأما قوله تعالى { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ
أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } فقد قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه
الله : وتبييناً لكل ما لقومه وأتباعه إليه الحاجةُ من أمر دينهم
وأما قوله تعالى { وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ
وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيء } فقد قال ابن كثير رحمه الله : وأوتينا من كل
شيء أي مما يحتاج إليه المُلْك .
وأمـا قوله تعالى { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } فقد قال
الإمـام الطبري رحمه الله : وإنما عنى تدمر كل شيء بأمر ربها مما
أرسلت بهلاكه ، لأنها لم تدمر هوداً عليه السلام ومن كان
آمن به . وقال ابن كثير رحمه الله : أي تخرب كل شيء من بلادهم
مما من شأنه الخراب .
فقد بان وظهر أن المراد بقوله تعالى { أَبْوَابَ كُلِّ
شَيء} هو بعض الأبواب ، وأن المراد بقوله تعالى { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ }
هو تفصيل ما يحتاجه قوم موسى من معرفة أمور دينهم ، وأن المراد
بقوله تعالى { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيء } هو ما أعطاه
الله تعالى لسليمان عليه السلام من الأمور التي يحتاج إليها في تدبير أمور الملك
، وأن المراد بقوله تعالى { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّهَا } هو تدمير ما تدمره الريح
، أي هذا المذكور فحسب .
[ وعلى هذا فلا يمكن أن نفهم قوله
صلى الله عليه وسلم (( وكل محدثة بدعة ، وكل
بدعة ضلالة )) على العموم الشامل ، بل نقول : المعنى أن كل محدثة مما لا يندرج
تحت نص من نصوص الكتاب أو السنة ولا يتفق مع مقاصدهما فهو بدعة مذمومة شرعاً
، وكل بدعة بهذا المعنى فهي ضلالة .
فإن قيل : إذا كان لفظ (( كل )) قد يأتي ويراد به
التعميم الشامل ، وقد يأتي ويراد به التعميم الشامل من وجه دون وجه ؛ فلم
لا نحمل هذا اللفظ الوارد في الحديث الشريف على المعنى الأول حيث إنه هو الظاهر ؟
! .
لماذا لا
يحمل على العموم ؟ :
[ فالجواب : أنه إذا حملناه على العموم الشامل بإطلاق فإن هذا يؤدي إلى
مخالفة ما كان عليه الهدي النبوي وإلى الحكم على عدد من كبار أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالبدعة والضلال ، وهذا محال ، وما أدى
إلى المحال فهو باطل .
السنة من حيث
كونها تشريعاً ، وغير تشريع !
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على رسول الله سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه
تقسيم السنة إلى : سنة تشريعية وسنة غير تشريعية
!
[
السنة . . . ما صدر عن رسول الله r ، غير القرآن من قول ، أو فعل
، أو تقرير ، وهذا الذي صدر عنه : منه
ما لا يكون مصدراً للتشريع ، ومنه ما يكون مصدراً للتشريع
العام أو الخاصّ .
أ – ما لا يكون مصدراً للتشريع :
وهو ما صدر عن رسول الله r ، باعتباره بشراً وإنساناً
كالأكل والشرب ، والقيام والقعود ، والنوم والمشي ، واللبس ، والتزاور ، والمساومة
في البيع والشراء .
ومن هذا القبيل ما صدر عنه r وكان سبيله سبيل التجارب ، والعادة
الشخصية ، أو الاجتماعية ، كالذي ورد في شؤون الزراعة والطبّ
، أو كان سبيلُه التدبيرَ الإنسانيَّ في شؤون الحياة ، كتوزيع الجيوش
على المواقع الحربية ، وتنظيم الصفوف في الموقعة الواحدة ، واختيار أماكن النزول ،
وما إلى ذلك .
فكلُّ ما نقل من هذا ، ليس شرعاً يتعلَّق به طلب الفعل أو الترك
، وإنما هو من الشؤون البشرية ، التي ليس مسلكُ الرسول فيها تشريعاً ،
ولا مصدرَ تشريع .
ومع هذا ، فقد كان من الصحابة من يقتفي أثر الرسول r ويحرص على متابعته في ذلك ، كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما :
فإنه كان يتتبع مثلَ هذه الأفعال والتصرفات ، ويقتدي بالرسول فيها ، وهذا مسلكٌ
عَليٌّ ، ومنهجٌ سامٍ ، لا يقدر عليه إلا ذو حظٍّ عظيم .
ب – ما يكون مصدراً للتشريع العامِّ أو الخاصِّ :
فالتشريع العام : ما
يصدر عن الرسول r ، على وجه التبليغ بصفة أنه رسول
، كأن يبيِّنُ مجملاً في الكتاب ، أو يخصِّص عامّاً ، أو يقيد مطلقاً ، أو يبين
شأناً في العبادات ، أو الحلال والحرام ، أو العقائد والأخلاق ، وما إلى ذلك .
فهذا تشريعٌ عامٌّ أبداً ، يجتنب المكلف ما كان منهيّاً عنه
ويفعل ما كان مأموراً به ، لا يتوقف في ذلك على شيء سوى العلم به ، والوصول إليه .
والتشريع الخاص نوعان : خاصٌّ بالذات ، وخاصٌّ بالوصف .
فالخاص بالذات :
أفعاله r ، أو تصرفاته ، التي دلَّ الدليل على
أنها من خصوصياته ، كتزوجه بأكثر من أربع
، وكون زوجاتِه أمَّهاتٍ للمؤمنين
، لا يحلُّ لأحدٍ أن يتزوجهن بعده ، وكشهادة خزيمة له وحده ، وكوصال الصيام في رمضان ، وهذا القسم خاصٌّ بذات الرسول r
، لا يشاركه فيه
أحدٌ من الأمة ، ولا يقتدى به فيه .
والخاصُّ بالوصف : ما يصدر
عنه r بوصف الإمامة والرياسة العامة ، مثل : صرف أموال بيت المال في جهاتها ،
وجمعها من محالِّها ، وتولية القضاة والولاة ، وعقد المعاهدات ، فهذا ليس
تشريعاً عامّاً ، بل هو خاصٌّ بمن اتَّصف بالوصف الذي انبت عليه
هذه التصرُّفات ؛ فلا يجوز الإقدام عليها لكلِّ أحدٍ من تلقاء نفسه ، بحجة
أن النبيّ r فعله أو طلبه .
ومن هذا النوع ما يصدر عنه r بوصف القضاء ،
فإنه كما كان رسولاً ورئيساً عامّاً ، كان قاضياً
، يفصل في الدعاوى والخصومات .
وما صدر عنه بهذا الوصف ليس تشريعاً عامّاً ؛ حتى يجوز
لأي إنسان أن يقدم عليه بناءً على قضائه ، بل على المكلف أن يتقيد في
ذلك بقضاء القاضي ، فمن كان له على آخر حقٌّ ، وجحده ، وله عليه بينة ، فليس
له أن يأخذه بنفسه ، بناءً على أن رسول الله r حكم بالبينة ،
بل إنه يتقيد بحكم الحاكم
وعدم الاتِّفاق في بعض الوقائع والقضايا على
الجهة التي صدر عنها تصرف رسول الله r ، أو خفاء هذه الجهة ، قد
أوقع الفقهاء في خلافٍ في طبيعة الحكم .
من ذلك قول النبيّ r : (( من أحيا أرضاً
ميتة فهي له )). صحيح البخاري
فاختلف العلماء في الجهة
التي صدر عنها هذا الحديث ، فذهب أبو حنيفة إلى أنه صدر عنه
باعتبار إمامته ، فلا يكون حكماً عامّاً ، ولا
يجوز لأحد إحياء الأرض الموات التي ليس لأحد حقٌّ فيها إلا بإذن الإمام
.
وذهب الجمهور إلى أن ذلك صدر منه بطريق التبليغ
والفتوى ، فهو حكمٌ عامٌّ ، وعلى هذا : لكلِّ أحد أن
يحيي الأرض الموات ، وتكون له ، أذن الإمام ، أو لم يأذن .
ومن ذلك ما روي أنَّ رسول الله r ، قال لهند بنت عتبة رضي الله عنها – لما
قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني – : (( خذي من ماله
بالمعروف ، ما يكفيك ويكفي بنيك )) صحيح مسلم .
فأفاد هذا الحديث أنَّ رسول الله r أباح لهند أن تأخذَ من مال زوجها بدون علمه
، وهذا قدر متفق عليه بين الفقهاء ، إلا أنهم اختلفوا في تكييف الواقعة
، واعتبارها من باب الفتوى أو القضاء .
فبعض الفقهاء – ومنهم
الإمام الشافعي – اعتبرها من قبيل الإفتاء ؛ فيجوز
لكلِّ امرأة أشبه حالُها حالَ هند أن تأخذ من مال زوجها بدون علمه وإذنه
ما يكفيها ويكفي بنيها بالمعروف ، ليس هذا فحسب بل قالوا أيضاً : يجوز لكلِّ
من ظفر بحقِّه أن يأخذه بغير علم خصمه ، وبعضهم ذهب إلى أن هذا
الإذن كان قضاءً منه r ؛ فلا يجوز لامرأة أخرى أن
تأخذ من مال زوجها مثلما أجيز لهند إلا بحكم الحاكم ، ولا
يجوز أيضاً لأحد أن يأخذ حقَّه من غريمه إلا بقضاء قاضٍ
]
تشجيع النبيّ r للأعمال الصالحة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على رسول الله سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه
على هدي الآيات المباركة ، والأحاديث
النبوية الشريفة تعلّم الصحابة وتفقهوا ، فذهبوا يعملون
من الصالحات ، ما لا نص خاص صريح فيه ، والنبيّ r يحثُّهم ، ويُشجِّعهم بصورة غير مباشرة !
فتربَّوا ، تربية عالية ، سامية ،
وأُشرِبوا روح الإسلام ، ولبّه ، فاجتهدوا في الصالحات ! منها – على سبيل المثال –
:
1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنَ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا
وَكَذَا؟» قَالَ رَجُلٌ مَنِ الْقَوْمِ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ:
«عَجِبْتُ لَهَا، فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ» قَالَ ابْنُ
عُمَرَ: « فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ» صحيح مسلم
هذا حثٌّ ، وتشجيع
للصالحات ؟ !
[ الظاهر من سياق الرواية أن ذلك الصحابي
لم يكن قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً في جعل هذا الذكر في استفتاح
الصلاة ، ولو كان ذلك عن أمره وتعليمه لما عجب لذلك ، وإنما
كان ذلك عن اجتهاد من ذلك الصحابي ، ومحل الشاهد أن النبي صلى الله عليه
وسلم أقره على ذلك الاجتهاد ، ولو كان من المحظور على المرء المسلم
أن يأتي بشيء في العبادة دون دليل خاص لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ،
ولقال له كيف تفعل في الصلاة شيئاً قبل أن آذن لك فيه ؟ ! ]
ونلاحظ أنه اجتهاد في العبادة
؛ الصلاة !
2 - و( عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا
جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: «أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ
بِالْكَلِمَاتِ؟» فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ
بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا» فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ
حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ
عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا» ) صحيح مسلم.
هل هناك أفضل من هذا الحثّ ، والتشجيع ؟
!
و( عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ : كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي
وَرَاءَ النَّبِيِّ : فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ ، قَالَ
: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ : رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمْدُ ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ
، قَالَ : مَنِ الْمُتَكَلِّمُ ؟ قَالَ : أَنَا ، قَالَ
: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا ، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا
أَوَّلُ ) صحيح البخاري .
جواز
إحداث ذكر في الصلاة !
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ،
رحمه الله :
[
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِحْدَاثِ ذِكْرٍ فِي
الصَّلَاةِ غَيْرِ مَأْثُورٍ إِذا كَانَ غير مُخَالف للمأثور ]
قال الحافظ ابن
رجب الحنبلي ، رحمه الله :
[ وقد دل الحديث
على فضل هذا الذكر في الصلاة، وأن المأموم يشرع له الزيادة على
التحميد بالثناء على الله عز وجل، كما هو قول الشافعي وأحمد - في رواية - ]
3 - وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ
، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ
فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَىِّ
فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ
هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ
شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ وَسَعَيْنَا
لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْقِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ
فَلَمْ تُضِيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً
فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ
وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ
عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ
الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمُ اقْسِمُوا فَقَالَ الَّذِي رَقَى
لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرَ لَهُ
الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ
صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ
، ثُمَّ قَالَ - قَدْ أَصَبْتُمُ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ
سَهْمًا فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ r . متفق عليه .
4 - وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ ، وَكَانَ يَقْرَأُ
لأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِ فَيَخْتِمُ بِ - {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَلَمَّا رَجَعُوا
ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَلُوهُ لأَىِّ شَيْءٍ
يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا
أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبِرُوهُ
أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ . متفق عليه .
وهذا الحديث ظاهر في أن
أمير السـرية كان يختم القراءة في الصلاة بـ { قل هو اللهُ أحد } اجتهاداً منه
، لأنه صفة الرحمن جل وعلا ، فكان جزاؤه أن يحبه الله تعالى لحبه إياها
.
عن أنس بن مالك: كان رجل
من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما استفتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما
يقرأ به افتتح {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة
أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه
السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها إما أن تدعها وتقرأ
بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم
تركتكم. وكان يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبروه الخبر. فقال (( يا فلان، ما يمنعك
أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟
)) قال: إني أحبها قال: (( حبك إياها أدخلك
الجنة )) .
5 - وعَنْ عَبْدِ اللهِ
بْنِ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلى
الله عليه وسلم لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَك
.
وكان عبد
الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، يزيد فيها !
عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ
وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ
بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَزِيدُ فِيهَا: " لَبَّيْكَ
لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ
وَالْعَمَلُ. صحيح مسلم
كان
النبيّ r لا يزيد على هذه الكلمات !
قال الحافظ ابن حجر ، رحمه الله ، :
[
وَقَالَ فِي آخِرِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ زَادَ مُسْلِمٌ
مِنْ هَذَا الْوَجْه قَالَ بن عُمَرَ كَانَ عُمَرُ يُهِلُّ بِهَذَا وَيَزِيدُ
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ
إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ وَهَذَا الْقَدْرُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ أَيْضا عِنْده عَن
نَافِع عَن بن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِيهَا فَذَكَرَ نَحْوَهُ
فَعرف أَن بن عمر اقتدي فِي ذَلِك بِأَبِيهِ
وَأخرج بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ
كَانَتْ تَلْبِيَةُ عُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرْفُوعِ وَزَادَ
لَبَّيْكَ مَرْغُوبًا وَمَرْهُوبًا إِلَيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ
.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا وَرَدَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ أَن أخرجه من حَدِيث بن عمر وبن مَسْعُودٍ
وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ
جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لَا بَأْسَ
أَنْ يَزِيدَ فِيهَا مِنَ الذِّكْرِ لِلَّهِ مَا أَحَبَّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة
يَعْنِي الَّذِي أخرجه النَّسَائِيّ وبن ماجة وَصَححهُ بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ قَالَ
كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّيْكَ
إِلَهَ الْحق لبيْك وَبِزِيَادَة بن عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ
وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مَا وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن
يزِيد عَن بن مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ
قَدْ كَانَ يُلَبِّي بِغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا تقدم عَن عمر وبن عُمَرَ وَرَوَى
سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
لَبَّيْكَ غَفَّارَ الذُّنُوبِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجِّ
حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ
اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ إِلَخْ .
قَالَ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ وَلَزِمَ
تَلْبِيَتُهُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ
مِنْهُ مُسْلِمٌ
قَالَ وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ
مِنَ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ فَلَا
يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ ذَا الْمَعَارِجِ وَذَا
الْفَوَاضِلِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى التَّلْبِيَةِ
الْمَرْفُوعَةِ أَفْضَلُ لِمُدَاوَمَتِهِ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا
وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ
وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَبِه صرح
أَشهب وَحكى بن عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ الْكَرَاهَةَ قَالَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ .
فهل
إستأذن الصحابة رسول الله r في هذه الأعمال قبل أن يعملوها ؟ !
وهذه الزيادات على تلبية النبيّ r ؛ التي جاء بها الناس من عند أنفسهم ، هي زيادات
في العبادة ؛ وهي الحج ! والتي قَبْلها كانت في الصلاة !
وهما ركنان من أركان الإسلام ، أعني : الصلاة والحج ! !
موضع
الشاهد
وموضع الشاهد من هذه الأحاديث هو : أن الصحابة ، رضوان الله عليهم ،
كانوا يعملون أعمالاً صالحة ، من غير أن يكون فيها نص خاص من القرآن ، ومن
السنة ، بل على العكس ، كانت هناك سنة ، وعهد منه r ! فزادوا على ذلك باجتهاداتهم ، قبل إقرار النبيّ r ذلك ! !
تنبيه على
عدم الخروج عن الموضوع !
هذا هو لب موضوعنا ! فلا يخرج عنه
أحد فيقول : لقد أقرّهم النبي r ، فأصبحت هذه الزيادات سنة ، بإقرار النبيّ r ! !
فنحن نتحدث عن تربية ، وفهم ، وفقه
الصحابة ، رضي الله عنهم ، في عمل الصالحات ، قبل إقرار النبيّ r ! !
بل نتيجة تربية
القرآن ، والنبيّ r ، للصحابة ، رضي الله عنهم ، أصبحت أعمالهم
الصالحة الإجتهادية - التي لا تخالف نصا ً، وهدياً عاماً ، أو قاعدة شرعية ، وتخدم
إحدى المصالح الضرورية – أصبحت جزءاً من سنة النبيّ r !
فالسنة في إصطلاح
الأصوليين هو : ما صدر عن النبيّ r ، غير القرآن ، من قول ، أو فعل ،
أو تقرير ، فهي بهذا الإعتبار دليل من أدلة الأحكام ، ومصدر
من مصادر التشريع .
السنة التقريرية !
[ وهي سكوت النبيّ r عن إنكار قول ، أو فعل صدر في حضرته
، أو في غيبته ، وعلم به .
فهذا السكوت يدل على جواز الفعل ،
وإباحته ، لأن الرسول r لا يسكت عن باطل ، أو منكر .