إنَّ هيبة المنبر ، ومكانته ، العلية خليقة
بأن تقذف فينا روح الحماس، وشعلة التغيير، وجذوة النهوض بوضعية الخطبة التي يُراد لها
البرود والانحطاط ، والخروج عن حاجة الناس ، وأشجانهم وشئونهم .
ولذا على من يوقر المنبر ، ويعرف له حقه
ومقداره ، أن يجدِّد له هيبته ، بصدق التوكل على الله ، وحسن الإخلاص ، وجودة التحضير،
وفضيلة الإعظام والاهتمام .
إنَّ تحلّي الخطيب النبيه (بفضيلة الاهتمام)،
تجعله يحسب للمنبر حسابه، ويحترم عقول جمهوره، ويفيض عليهم بمحاسن القول ، وروائع الموضوعات،
والفوائد والتوجيهات .
... هيبة المنبر...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه
، كما يحب ربنا ويرضى ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعـــد:
فلا يزال منبر الجمعة المنصب الرفيع ، والموطئ
المهيب ، والكلمة المشرقة على جماهير المسلمين ، مع اختلاف تخصصاتهم وثقافاتهم ومستوياتهم
، حيث لا يوجد تجمع دائم ، وشعيرة أخاذة ، يتعين على الجميع شهودها مثل خطبة الجمعة
، التي كلماتها كرفارف الجنات الباسمة ونفحاتها كالسياط اللاذعة ، التي توقظ الكسول
، وتنبه الغافل ، وتجدِّد الإيمان ، وتحيي البصائر ، وتحفز للعمل ، وتشحذ العزائم
.
فللمنبر (حجمه وهيبته) ، وقوته وصرامته
، وأثره وهزته وحسه وحلاوته، ومن نعمة الله تعالى ، أن جعل هذا المنبر نافذة الناس
على الخير ، وإشراقتهم الإيمانية ، التي لا مناص منها ، ولا يمكن تحديدها أو إلغاؤها!
حتى من لا يعرف المحاضرات والدروس ، ولم يشم رائحة العلم، يجد نفسه مضطراً لحضور منارة
الأسبوع المشعة ، والإصغاء لترنماتها العذبة ، وتوجيهاتها الآسرة ، وكل ذلك يدفعنا
لتنمية المنبر والارتقاء بحديثه ودوره التوجيهي ، وأن يكون الخطيب المتحدث ، والمهيمن
بكلمته ، على مستوى المنبر (وحسه التثقيفي) ، الذي يرتقي بالأمة والمستمعين إيمانياً
وأخلاقياً وسلوكياً وفكرياً ، ويخرج من التقليدية الهزيلة ، والنمطية الباردة، والانعزالية
الرتيبة ، والانفصام المكشوف !
إنَّ هيبة المنبر ، ومكانته ، العلية خليقة
بأن تقذف فينا روح الحماس، وشعلة التغيير، وجذوة النهوض بوضعية الخطبة التي يُراد لها
البرود والانحطاط ، والخروج عن حاجة الناس ، وأشجانهم وشئونهم .
ولذا على من يوقر المنبر ، ويعرف له حقه
ومقداره ، أن يجدِّد له هيبته ، بصدق التوكل على الله ، وحسن الإخلاص ، وجودة التحضير،
وفضيلة الإعظام والاهتمام .
إنَّ تحلّي الخطيب النبيه (بفضيلة الاهتمام)،
تجعله يحسب للمنبر حسابه، ويحترم عقول جمهوره، ويفيض عليهم بمحاسن القول ، وروائع الموضوعات،
والفوائد والتوجيهات .
إن شحَّ الخطباء المؤثرين ، وندرة المبدعين
، توجب علينا مراجعة أدائنا الخطابي ، وبلورة نهجنا المنبري ، وغربلة تعاطينا الدعوي
لهذه الوظيفة الجليلة ، والمرتبة الراقية الشريفة !
ليس كل إنسان يحسن الخطابة ! وليس كل عالم
ومثقف يمكن أن يكون خطيباً ! بل ثمة أمور إذا اجتمعت للمتحدث أمكن أن يكون الخطيب المرتقب
، والمتحدث المفوّه ، الذي يجعل من خطبته تربة الغراس اليانعة ، ومناخ الإصلاح والانطلاق،
وربيع الجد والمسارعة.
إننا نحتاج مع صدق الخطيب ، غَيرته الدينية
، وثقافته الفسيحة ، (وفكره اللماح) وحكمته النافذة ، وعالميته الممتدة ، ونبضه المؤثر
، وبيانه الآسر !
وهنا نبعث (برسالة صغيرة) ، متواضعة، تجلّي
(هيبة المنبر) وما ينبغي من التهيؤ له ، والتحلي به ، تجاه تلك الهيبة الممتنعة ، والمكانة
الراسخة ، والمُرتقَى المنيف !
الذي تحاول أطراف مخصوصة تنحيته ، وعزله
عن الناس ، وأشجان الجماهير ، وجعله في (سياق مفقود) عن الأثر والتأثير ، وسوق الناس
إلى العمل والتجدد والفاعلية ، وقد يسهم خطباء مقصرون في توسيع هوّة الانعزال والانفصام
، لتصبح الخطبة جوفاء ، خاوية على عروشها ، وتغدو صوتاً بلا آذان ، وصُراخاً بلا أفئدة
، ومواعظ بلا أصداء ، وكلمات بلا ولوع وتفاعلات !
إنَّ ضعف منبر الجمعة ، نوع من ضعف الدعوة
، وتراخي المتحدث ، وشح الحس البلاغي ، والرضا بالدون والكسل والانهزام .
إن معركة الإسلام مع الكفر والغي والانحراف
يستطيع الخطيب الناجح علاجها واستشعارها من خلال الدقائق المبذولة ، واللحظات المفعمة
زمن الخطبة والموعظة والنصيحة .
وهو ما نحاول أن نقدمه في هذه الرسالة المقتضبَة
والتعليقة الموجزة تحت عنوان (هيبة المنبر)( ) التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن
يوقظ ضمائرنا ، ويحيي قلوبنا لنرتقي بالخطبة وأدائها وفاعليتها لتؤدي دورها الحقيقي
، ومسئولياتها الرهيبة لمن استشعرها بصدق واستحملها بجد وحزم كما قال تعالى : (خُذُوا
مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،، الأربعاء 30/9/1426 هـ - 2/11/2005م
سمعت بعض الخطباء يقول : (إنني رغم مدتي
الطويلة في الخطابة إلا أنني أشعر بتهيّب بالغ له ، وباحترام كبير ، وأخشى نقد الناقدين
، وتعقب المتعقبين ) أو كلمة نحوها .
كذا فليكن الاهتمام والاستعظام لأمر المنبر
! إنه موضع مَهيب ، ومنزل موقَّر ، يشحن المتقي الزكي بنفسية الهم والجد والاهتمام
، فلا يغدو لمسجده إلا وهو خائف وَجِل ، مهتم حريص ، مستعد بصير ، يخشى الخطأ ، ويرتعب
التقصير ، وبقدر الهم يكبر العزم .
ليس الخوف من المنبر هو نقد الناقدين وتهكم
الناقمين فحسب... كلا ! بل هو شرفُ هذه المهنة ، واستعلاؤها في قلوب المسلمين ومدى
جاذبيتها في الأذهان والأبصار (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ) .
إن هيبة منبر الجمعة تكمن في علائه الديني
، وسموه الأدبي ، وإجلال الناس له ، واصطفاء النخبة لأدائه ، وكونه مشعل الأسبوع الوضاء
، وكلمته المتجددة ، وأمانته الناصحة ، وموعظته البليغة ، التي هي بإذكاء الهم أجدر
، وبإيقاد البذل أحكم وأوفر .
وبقدر الجد والهم والاعتبار ، تكون فاعلية
الخطبة وتأخذ حجمها التأثيري والتوجيهي والتربوي في حياة الناس والمتلقين .
إن المساحة واسعة بين خطبة مرقعة هزيلة
، وأخرى منظمة محضرة ، محكمة ، والناس شهود الله في الأرض ! من أحسن فله الحسنى ، ومن
أساء فعليها ، وقد عبر عن مستوى عقله ، وحدّه ، ومدى اهتمامه الشرعي وحسه الإسلامي
، وحِراكه الدعوي، فليستكثر أو ليستقل !
أيها الخطيب المقدام ، ازرع الهيبة في نفسك
من هيبة المنبر ، ومحله الرفيع في قلبك، وتذكر أمانته الخطيرة ، ومسئوليته الجسيمة
، التي تجعلك تتوخى بتوجيهه مكامن الإفادة والإحسان والإتقان ، المخضوبة برياحين الإخلاص
والرهبة والإخبات ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .
مواضع الهيبة في المنبر
(1) الإحساس
الشرعي بأهميته وعلوه ، وأنه من أزكى الطاعات وأعلا المقامات.
(2) مخافة
الزلل فيه ، والتقصير في أدائه ، وخشية التغافل عنه.
(3) إجلال
الجماهير له ، واحترامهم لمرتاديه والمتسنمين ذروته وقامته .
(4) انفصام
العمل عن ثرثرة القول ، وطول المواعظ الغاصة ، والنصائح المتوالية ! وهذه زلة شنيعة
، ومزلق قبيح . قال تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ)
. [الصف: 3] .
(5) صعود
الفضلاء له من الأنبياء وأتباعهم من العلماء المصلحين والمؤثرين ، وليس كل من اشتهاه
ارتقاه !
(6) توالي
التبعات بالكلمات المرصوفة ، والحجج الدامغة على نفسية الخطيب ، لأنه من أكثر الناس
نصحاً ، ومن أوائلهم باستحقاق التبعة ، وإقامة الحجة. قال تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّــــــــاسَ
بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ).
البقرة: 44]
(7) الانبهار
بمجيديه ومتقنيه ، وكثرة ثناء الناس عليهم ، مما يخشى فساد النية ، والتحول إلى مثوى
الغرور والعجب .
(8) كشف
المستوى العلمي والفكري لدى الخطيب ، حيث إنه يعرض عقله كل جمعة ، ويقدم بضاعته كل
أسبوع ، مما يمكن الناس من معرفة قدراته ، والإحاطة بمحاسنه ومساوئه .
(9) محك
اختبار المنطق وسيلانه ، أو تعقده وانقباضه كما قد حصل لغير واحد ، انشلت قدراته الكلامية
، وتعطلت مداركه الفكرية .
كما قد نقل عن بعض أمراء خُراسان واسمه
ثابت قطنه . أنه صعد المنبر فارتج عليه ، فنزل وقال :
فإن لم أكن فيكم خطيباً فإنني
بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيبُ
فقال له الناس :
" لو قلتها على المنبر لكنت أخطب الناس".
أحوال الخطيب اللائقة قبل الخطبة
(1) التهمم
بموعدها ، واستشعار ثقلها ، وماذا سيقدم فيها ؟!
(2) دوام
الفكرة في اختيار موضوعها اللائق زمناً ، والمناسب حدثاً ، والنافع أثراً .
(3) كثرة
الاطلاع الشرعي ، وتوسيع الثقافة المستوعبة لكل نواحي الخطبة ، ومعالم التأثير فيها
.
(4) تقييد
الأفكار السانحة ، والخواطر والأساليب ذات الاتصال بالخطبة ومدى التأثير فيها .
(5) التواصل
الإعلامي عبر صحيفة جيدة ، أو مجلة رصينة لمعرفة آخر الأحداث والأخبار والتحليلات ومع
ظهور (الإنترنت) بات التواصل سهلاً وسريعاً ومفيداً ، وهذه نعمة من الله تعالى (وَإِن
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) .
[النحل : 18]
(6) الاعتبار
بالمواقف والأحداث المشاهدة التي تصلح أن تكون محل حديث يوماً من الأيام .
(7) التزود
الروحي الذي يذلل الصعاب ، ويعده السالك لمثل تلك المواقف ، من ذكر وخير وصدقة ، وسؤال
الله الفتح والقبول والإعانة ، ولو قال أحياناً دعاء دفع الهم والحزن والكرب فحسب ،
لأن مثله كربة في حق الداعية الوَجِل والنصوح المشفق .
الصفات السلوكية للخطيب
(1) تحسين
التدين والانضباط الشرعي ، وتعاهد النفس بالأوراد والقربات .
(2) التخلق
بأخلاق الإسلام من حسن الخلق، والصدق والعفة والأمانة والإحسان والصلة ، ودوام التودد
.
(3) المبادرة
إلى الخيرات ، وأخذ زمام التفاعل تجاه كل مشروع خير ، أو صنيعة معروف (فَاسْتَبِقُوا
الخَيْرَاتِ) (البقرة : 148)
(4) التواضع
والليونة ، وخفض الجناح للمسلمين والتباعد عن كل ما يشين ، أو يسارع بالهجوم أو الاتهام
.
(5) تصديق
القول بالعمل ، وإبراز الاقتداء الحسن والتشبث بالسنن. قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) . [الأحزاب : 23]
(6) التوسط
بين الجفاء والمخالطة ، وإفادة الناس علماً وفقهاً وتوجيهاً وفي الحديث قال صلى الله
عليه وسلم : (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا
يصبر على أذاهم ) .
كيف أعد الموضوع للخطبة ؟
إذا تم اختيار موضوع معين للخطبة فيحسن
ما يلي لإنجاحه وإتمامه :
(1) جمع
النصوص الشرعية حوله ، قرآناً وسنة ومحاولة توزيعها توزيعاً حسناً ، لتقع موقعها من
النفوس .
(2) القراءة
المتعمقة في الموضوع ، وجمع الكتب والدراسات فيه .
(3) فهم
النصوص ، وحسن الاستشهاد بها .
(4) اختيار
الأساليب والجمل العذبة ، الرانّة في الأذهان ، والجاذبة للأبصار .
(5) جمع
ما يُستملح ويُستأنس به ، من القصص والآثار والأشعار المستطابة .
ركائز صياغة الموضوع
(1) براعة
الاستهلال للموضوع ، وافتتاحه بلفظ جذاب كنفي أو أسلوب استفهام ، أو بيت جميل ، أو
قصة مؤثرة .
(2) البدء
بالقضايا الرئيسية في الموضوع من حيث التأكيد والتثبيت أو الحكم .
(3) وضوح
اللغة وجزالة الألفاظ ، مع الابتعاد عن الغريب والوحشي من الكلام ، وتكرار بعض الجمل
المهمة ، للإثارة ولفت الانتباه.
(4) ضرب
الأمثال الملائمة للمطروح .
(5) الاستهداء
بالأثر النبوي في الخطبة من البدء والطول والمحتوى والأداء .
سمات الموضوع
(1) أن
يكون مهماً مفيداً ، يحتاجه الناس كقضايا الإيمان والتوحيد ، وصفات المؤمنين والكافرين
، وما يترتب عليها من ثواب أو عقاب .
(2) أن
يكون واضحاً مقنعاً ، بلا لبس أو غموض .
(3) أن
يكون مؤكداً بالشواهد القرآنية والنبوية، أو المواقف التاريخية المفيدة.
(4) يلامس
دين الناس وحوائجهم ، ويجيب عن أسئلة في نفوسهم .
(5) يتطابق
مع عقولهم وأذواقهم ، لكي يؤدي أثره ويحقق مقاصده .
(6) أن
يمكن الوفاء به في خطبة واحدة ، دون قَسمه أو تجزئته ، بالوقوف على معالمه الرئيسة
، وقضاياه الجوهرية .
الخطبة في القرآن
(1) قال
تعالى : (وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ) [ ص/ الآية 20].
(2) قال
تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)[ إبراهيم/ الآية 4 ].
(3) قال
تعالى: (خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ) [الرحمن / الآية 3-4].
(4) قال
تعالى : (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً
يُصَدِّقُنِي) [القصص / الآية 34 ] .
(5) قال
تعالى : (وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء / الآية
63].
(6) قال
تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَة وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [ النحل / الآية 125].
(7) قال
تعالى : (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مبِينٍ) [الشعراء / الآية 195 ] .
مقاصد الخطبة الأسبوعية
(1) تجديد
الإيمان في حياة الناس ، وانتشالهم من مراتع الحياة الزائفة من خلال مواعظ القرآن ،
ومصابيح الهداية وقصص المرسلين ، ومصارع الظالمين .
(2) تقريب
سبل الثواب لهم ، وتحذيرهم من مسالك الشرور والغواية .
(3) تثبيت
الحقائق وكشف الشبهات .
(4) تعليم
الأحكام الشرعية ، وتقريب الناس لربهم تعالى .
(5) التثقيف
الإسلامي ، والارتقاء بالعقول والمفاهيم .
(6) حل
المشكلات ، وإبطال النحل والمذاهب الفاسدة .
(7) حفز
الجماهير للخيرات وصنائع المعروف (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ). [ البقرة : 148 ] .
(8) بيان
حكمة الوجود ، والتذكير بالدار الآخرة ، وصيرورة الخلائق إليها (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) . [ص:46]
(9) تدعيم
الحس اللغوي والبياني والمحافظة على روح العربية .
الخطبة في السنة النبوية
(1) قال
صلى الله عليه وسلم : (إن طولَ صلاة الرجل وقِصَرَ خطبته مئنة من فقهه) أخرجه مسلم
عن عمار.
(2) (كان
إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه مُنذر جيش يقول صبحكم ومساكم ،
ويقول : أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى( ) هدى محمدٍ ، وشر الأمور
محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة) أخرجه مسلم عن جابر وفي رواية: (من يهدي الله فلا مضل له
ومن يضلل فلا هادي له). وفي رواية : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله ويثني
عليه).
(3) قالت
أم هشام : (ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله يقرؤها كل يوم جمعة على
المنبر إذا خطب الناس).
أخرجه مسلم
(4) (كانت
للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس) .
أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة
(5) (كانت
صلاته قصداً وخطبته قصداً) .
أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة
صفات الخطيب الإلقائية
(1) جهورية
الصوت ، ورفعه حسب الحاجة والموضوع ، وخفضه في أماكن الخفض مع اعتبار الحال وإقبال
الناس وإدبارهم .
(2) الثقة
بالنس والرزانة والتعقل ، والحذر من الاندفاع القاتل ، والتحمس الغاشم .
(3) تخير
الأساليب الحسنة ، والكلمات الجميلة، التي تستميل السامعين، وتلامس مشاعرهم .
(4) استشعار
المعاني المذكورة ، والاندماج في وجدانها والحذر من الانفصال عنها .
(5) تجنب
كلمات الفخر الذاتية ، والتي توحي بتزكية المتحدث وسلامته عما يقارف الناس .
(فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنِ اتَّقَى) [النجم : 32] .
(6) مشاركتهم
فيما يراد تقريره ، أو يبتغي إصلاحه ، أو يقصد دفعه قال مؤمن آل فرعون : (فَمَن يَنصُرُنَا
مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا) [غافر : 29 ] .
(7) ترك
الأساليب التقليدية والكلمات المكرورة التي باتت ممجوجة في الآذان ، سمجة على النفوس
، ومحاولة التجديد والتحديث لتحصل الإفادة وتتم السلاسة والجاذبية .
(8) العناية
بجوامع الكلم ، والجمل القصيرة ، المستوعبة لمعانٍ كثيرة ، فهي أقدر في إيصال المعنى
، وأبرك في ذهن السامع ، وأخصر في كسب الوقت والسيطرة عليه.
(9) عدم
انتهاج التطويل كمسلك دائم ، واعتماد الإيجاز النبوي ، الذي يأسر ويفيد، وينفع ويجيد
، ويستعمل التطويل في الندرة حسب الموضوعات والأحوال .
(10) الارتجال
المنظم ، أبلغ في إيصال الأفكار والمفاهيم لمن وفق له ، (ولا خطيبَ إلا المرتجل) ،
ولا خطبة إلا الارتجال ، ولكن من لا يحسن فليكتب بنفسه الكتابة الدقيقة الرصينة التي
تتسم بالإيجاز ، والابتكار ، والجاذبية ، والغنية بالآثار والنصوص ، والاستهلال البديع
.
المفاضلة بين الارتجال والقراءة
لا يزال الجدل قائماً في أيهما أفضل لممارسة
الخطبة الارتجال أم القراءة من الورقة ؟! ولكلٍ محاسنه ومساوئه ، والمختار بعد التأمل
والتدقيق والتجربة ، أن الارتجال المنظم والمضبوط هو أبلغ وأزكى وأجود ، ومن وسائل
ضبطه الإلمام التام ، والحفظ المتقن ، واستعمال قُصاصة صغيرة تحوي رؤوس الأفكار ، والأدلة
والشواهد والأرقام .
ويمكن تلخيص محاسن الارتجال المنظم فيما
يلي :
(1) جذب
الانتباه واستثارة السامعين ، حيث ثقتهم بالمرتجل أكثر بكثير من القارئ الحامل للأوراق
.
(2) بلوغ
الغاية في التأثير ، وأوقع في قلوب الناس .
(3) ميله
للإيجاز ، إذا تنظم ، بالحفظ والترسيخ ، والإعداد المنضبط.
(4) تحسس
الخطيب لما يقول ، واستطعامه للمعاني والألفاظ التي يقيم بها الحجة على نفسه ، ويرسلها
ممتزجة بدمه وعرقه ، لكأنها تنبع من داخله .
(5) أنه
المسلك النبوي والسلفي عبر التاريخ الإسلامي ، ولم تكن العرب تعرف التحضير والتجميع
! وكان كلامهم يتم بعفوية ، ويقع موقعه من الرصانة والحذق والتأثير .
(6) ذريعة
للبحث والتفتيش ، المورث للحفظ والإتقان وإجادة التحدث في كل محفل ومجمع ، وتلك هي
منية النفوس ، وغاية الحكماء .
(7) اعتياد
الفصاحة والضبط النحوي ، وفك عقد المنطق المنحوس.
(8) صناعة
الثقة بالنفس ، وعدم الارتعاب من الجموع الغفيرة .
(9) توسيع
مدارك الفكر ، والغوص في أغوار المعاني البعيدة .
مساوئ الارتجال المشوش
(1) التطويل
الممل ، الجالب للسآمة ، والمورث للرقاد ، والمجحف للفائدة ، بحيث يخرج المستمع ولا
يدري ما هو الموضوع؟!
(2) تنوع
الموضوعات ! حيث يدخل في موضوع لآخر ، ومن فكرة لأخرى ، حتى تجتمع الأفكار والموضوعات
، فتصبح كالبستان المكتظ بالأشجار الكثيرة، هذا إذا أُحسن الظن به! ولكنها تصبح عند
بعضهم كالغابة الموحشة بمختلف الزروع والأشواك والأعاجيب!
(3) ضعف
التأثير ، وانفصام الخطيب عن سامعيه المؤدي إلى هشاشة الخطبة ، وانحسار الدعوة ، وتبدل
المنبر إلى محطة للمنام والاسترواح والاستجمام ، والله المستعان .
(4) كثرة
اللحون والأخطاء ، حيث حصل التطويل بلا ضبط ولا إعداد ، فينشغل الخطيب بصحة الفكرة
واستقامتها دون صحة اللغة وسلامتها .
(5) الارتفاع
والانخفاض في مستوى الصوت والأداء والتعاطي للموضوع ، الذي يوحي باضطراب الخطيب واهتزاز
ثقته بنفسه .
محاسن القراءة من الورقة
(1) ضبط
الوقت ، وتحديده إلى أمد معين .
(2) صحة
الكلمات لغوياً ، بحيث يتم شكلها وضبطها حتى لمن لم يحسن النحو .
(3) ارتقاء
الأسلوب وجزالته لا سيما لمن يتخير ذلك ، أو يستفيد من خطباء العرب وفصحائهم .
(4) استقامة
الأفكار ، وبلوغها غاياتها دون انقطاع أو نقصان .
(5) وضوح
الموضوع وانضباطه من التشتت والافتراق .
(6) اكتمال
الفائدة غالباً ، ووصول الفكرة المقصودة .
(7) إعداد
مادة علمية ثمينة ، وذخيرة خطابية متناهية .
مساوئ القراءة من الورقة
(1) استدامة
خفض الرأس وعدم النظر إلى المستمعين .
(2) التباعد
أحياناً بين الملقي والفكرة ، بسبب الإطراق لمجرد القراءة وصحة العبارة .
(3) انصراف
الناس عن القارئ المطرق ، لا سيما إذا أطال ، أو كان يستعمل خطب غيره ، وقد أُديت في
جوامع ضخمة ، وبين أعين جموع تختلف زماناً ومكاناً وتثقيفاً .
(4) التربية
على الكسل وعدم التحضير ، لا سيما من يقتفي مواقع الإنترنت ويصور خطب الحرمين ، والمشاهير
! فيصور ويؤدي دون اعتبار واهتمام .
وقد قيل :
وربما صوَّر يوم الجمعةِ
مخلطاً أوراقه في سرعةِ
حتى بلغ من استهانة بعض المصورين ، أن لا
يقرأ الخطبة إلا على أعواد المنبر ، فقد تجمّل بالكسل المميت الذي حمله على عدم مراجعة
التصوير ، ولو قبل صبيحة الجمعة !
سمات الخطيب الشكلية
(1) تحسين
الملبس والهيئة والاستعطار ، بحيث يُرى عليه البهاء والجلالة ، والمقصد تشريف المنبر
لا التباهي والاستعلاء .
وقد صار زي الخطباء في هذه الأعصر لبس الملاءة
أو ما يسمى (المشلح) كنوع من التميز ، وإن كان هذا خلاف السنة كما أفاده ابن القيم
في الهدي النبوي في الخطبة.
ولكن لا يُرى غضاضة في ذلك ، إذا أُحسنت
النية ، وصح المرام ، للأصول الثابتة الدالة على التجمل وتحسين الهيئة كحديث (إن الله
جميل يحب الجمال) وغيره كثير .
(2) بروز
التأثر حين الأداء من رفع الصوت ، واحمرار الوجه وما شاكله ، لا سيما عند تناول الموضوعات
الساخنة ، والقضايا المخيفة .
(3) التقلّل
من الحركات قدر الإمكان حال الخطبة ، لا سيما وأنه خلاف الهدي ، كما نص على ذلك النووي
وغيره ، واعتبر
ـ مثلاًـ لي العنق من البدع المنكرة ، والمعاصرون
مختلفون في ذلك : الأثريون يكرهون مثل ذلك وينكرونه ، ويتهكمون بمن يفعله ، ومن عداهم
من ذوي الاستنباط يرون حسنه ، وأهميته في فاعلية الخطبة وجذب الانتباه .
(4) تحريك
الأصبع حال الدعاء فحسب ، ورفع الأيدي عند الاستسقاء في الجمعة لورود ذلك في الصحيحين
من حديث أنس رضي الله عنه .
(5) الانتصاب
قائماً حال الأداء ، وعدم الميلان، والإتكاء على عصا أو قوس ، كما صح بذلك الحديث ،
ورجع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حمل العصا لمن احتاجها .
والآن يمكن الاستعاضة بمقدمة المنبر عن
العصا للاتكاء والثبوت ، والله تعالى أعلم .
أسس الخطيب الناجح
(1) الاعتماد
على الله ، وسؤاله التوفيق والسداد، والتجرد إخلاصاً وتوجيهاً . (فَاعْبُدِ اللَّهَ
مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ) [الزمر : 2-3 ] .
(2) الإعداد
المتقن ، القائم على طول البحث ، وديمة القراءة ، والتواصل الثقافي .
(3) حسن
الأداء ، والامتزاج الخطابي بين الروح والموضوع .
(4) التهمم
الصادق بالخطبة وأفكارها ، وأسباب تطويرها ، ومعالم التجديد فيها ، واستيقان هيبة المنبر
وجلالته .
(5) ملامسة
حاجات الناس ورغباتهم ومشاعرهم ، وإيجاد الحل الشرعي في كل الشكاوى والملمات .
(6) مدّ
الجسور مع المستمعين من خلال التودد والإشفاق ، والاسترحام الدائم ، والحرص على نفعهم
وإفادتهم .
عيوب الخطبة إجمالاً
(1) ظهورها
في صورة الخطبة المخلطة ، كالتي تنم عن عدم التحضير، ورداءة الاهتمام .
(2) التطويل
الباهض ، التي يضرب السكينة على الناس ، ويخدرهم تخديراً بالغاً .
(3) كونها
مختصرة مبتسرة ، لا تكشف فائدة ولا تحقق هدفاً !
(4) استدامة
التصوير فيها ، وإلقاؤها بالروح المعزولة عن الموضوع والمعاني .
(5) أداؤها
كهيئة المحاضرات الهادئة ، بالصوت الرطيب ، والنبرة الهادئة ، وهذا مفسد لها ، وقاتل
لحيويتها وتأثيرها .
(6) الارتجال
المشوش الذي يغيّب جوهر الموضوع ، ويموج بالإنشاءات ، ويتلاطم بالاستطرادات .
(7) التقليدية
في الأداء ، وترداد الكلمات الشهيرة دون تجديد أو تحديث .
(8) عدم
الكتابة ، وتربية النفس على صناعة الإنشاء والاعتماد على فوائد الآخرين تصويراً ، وقصاً
ولزقاً .
(9) انخفاض
الرأس مطلقاً ، لمن يقرأ من ورقة وعدم النظر إلى المستمعين .
(10) التفكير
فيها صبيحة الجمعة فحسب ، وهذه آفة منتشرة مع الأسف البالغ !
(11) غيابها
عن واقع المسلمين وهمومهم وأشجانهم .
(12) الاستشهاد
بالأحاديث الضعيفة ، بل والموضوعة والشنيعة ، وبناء الخطبة على أساسها .
(13) خلوها
من إشراقة النصوص والأدلة ، وجريانها على الإنشاء الفارغ.
(14) تبدلها
من كونها وسيلة دعوية إلى وظيفة رسمية ، يقتات منها ، وتخدم مقاصد معينة.
أسس البناء الثقافي للخطيب
(1) تعميق
الناحية الشرعية ، والفقهية خصوصاً بدوام التأهيل والتأصيل.
(2) الإطلاع
المتواصل ، والمتلوّن في مجالات شتى وأنماط معرفية أخرى ، ليجمل المنطق ، ويحلو اللسان
، ويستوعب الخطاب .
(3) مطالعة
كتب الخطباء ، والاستفادة من عمالقتهم المجيدين ، والاستماع لصوتياتهم ليتدرب على الإلقاء
، وجودته ومحاذره .
(4) متابعة
المجلات والصحف المناسبة ، للتجدد والتعرف والنقد والتأييد ، والاتصال الحاسوبي الذي
يزخر بالمواقع والمنتديات الفكرية والإخبارية ، والثقافية .
(5) حفظ
الأدلة والنصوص المعدة للاستشهاد وفهمها فهماً صحيحاً ، وحسن سردها ، وتنظيمها .
(6) التدرب
على الارتجال ، ولو بورقة صغيرة، تُكتب فيها رؤوس الأفكار ، ومحاولة حفظ الجمل المستحسنة
والأساليب المنمقة .
روحانية الخطيب
رغم كل ما نقرره من صفات رئيسة للخطيب ،
وعوامل نجاح وإبداع وتثقيف ، إلا أننا لا نهمل بالدرجة الأولى (روحانية الخطيب) ،
(وسياجه الرباني) الذي يفتح له مستغلَق الأفكار ، ومستعجمَ الكلمات ومضايق المواقف
والمصاعب ، وهي تتمثل في ورد مضبوط ، وذكر محفوظ ، واستغفار متتابع ، وعبادة خفية ،
وإخبات دائم ، ولهج بالتوفيق والقبول .
كما قيل :
ودائماً تلوذ بالفتاح
لتحظى بالتوفيق والنجاح
ومن دعاء شعيب عليه السلام : (رَبَّنَا
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ) [
الأعراف : 89 ] .
إن مثل تلك الأوراد والأدعية الخفية جديرة
أن تجعل من الخطبة إشعاعاً يغذي الخطيب وسامعيه ، ويغني المتحدث ومتابعيه، وإنها لتزيد
من إصرار الخطيب وهمته وعزمه ، وتفتح له ينابيع من الحكمة والبيان لم يكن حضّرها من
قبل .
إن لقاء الخطيب كل جمعة بمئات أو آلاف،
جاءوا يسمعون كلمته ويتعظون بموعظته ، كافٍ في إيقاظه وتبصيره بثقل الأمانة ، وعظم
المسئولية ، ووطأة التصدر ، فيعالج نفسه إعداداً وتربية وتحضيراً حتى يخفف البأس ،
ويدفع الملام ، ويتقي الإثم .
قال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) .
[ العنكبوت : 69 ]
ينبغي للخطيب أن يعد من الطاعات ما يهون
عليه لقاءه بالناس ، ويكشف عنه حُجُب العنت والإعراض والمشاق ، وليلح على الله كثيراً
أن يذلل له الصعاب ، ويقيه شر الزلل والتباب .
إن روحانية الخطيب تمحو التجاوزات ، وتستر
العيوب وتفيض مدامع الصدق والإخبات عند ذكر الموت وتلاوة الآيات وسماع البينات ، وتدبر
المواعظ والتهديدات .
ومن روحانيته الصادقة مطابقة قوله لعمله،
وتقرير خطبه لسلوكياته الجميلة ، وتدينه الصادق الذي يجسد تأثيره ، ويوصل رسالته بكل
سلاسة ، وإلا فالحال كما قيل :
لا يُعجبنَّك من خطيب قولُه
حتى يكونَ مع اللسان أصيلا
فالقول مقتضاه العمل ، والخطبة الامتثال،
والنصح المبادرة والسباق ، ومن محاسن كلام أكثم بن صيفي (وأفضل الخطباء أصدقها).
قال تعالى : (هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ) [المائدة : 119] .
وقال عز وجل أيضاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119] .
ثقافة الخطيب
من أهم ركائز الخطيب وتفوقه وبروزه ، هي
دوام اطلاعه الشرعي ، وتواصله المعرفي مع كل مناحي المعرفة ، فيقرأ في الشريعة، وعلوم
الاجتماع والسياسة والإدارة والفلسفات ، ليؤدي دوره بجدارة ، ويحسن مخاطبة الجميع ،
ويتجاوز كل الإشكالات والعوائق التي يمكن أن تواجهه .
ومن ثقافته (نافذته الإعلامية) التي تعرفه
بأحداث الأمة ، وواقع الناس ، عَلَّ خبراً أو حديثاً أو قصة أن تكون مفتاح خطبة ، أو
محل تناول ونقاش ومعالجة .
كثير من الصحف مع ضعفها ، إلا أنها قد تأتي
بظواهر اجتماعية تستحق النقاش ، أو مشكلات تبحث عن حل . والخطيب الحاذق ، هو من يحسن
رصد هذه الظاهرة وحلها شرعياً ، وكشف محاسنها وعيوبها، وإبداء المغالطات الشرعية والفكرية
فيها ، فيما لو ذكرتها الصحيفة على وجه الاستحسان والتلبيس !!
الخطيب المثقف هو القارئ الثَرّ ، والمتفنن
في المعرفة ، ومن يحسن الانتقاء المعرفي ، ليفيد الناس ، ويرتقي بعقولهم واهتماماتهم
، ولا يغفل عما يضفي على ثقافته من حسن السبك وجزالة الكلام ، وروعة الأساليب ، حتى
يحرز الملكة الأدبية ، ويمكن تحصيلها بدوام الاطلاع والتحفظ والإنشاد في (البيان والتبيين)
للجاحظ ، وكثير من كتبه ، وأيضاً (المثل السائر) ، (والأمالي) ، (والامتاع والموآنسة)
، وبعض أعمال المعاصرين ، كالرافعي ، والمنفلوطي ، والعقاد ، والغزالي ، والطنطاوي.
إذ مثل هذه المصادر تسهم في تكوين ملكة
الخطيب الأدبية وترزقه موهبة الكتابة ، وقدرة على صناعة الخطب والرسائل ، لا سيما من
يعتمد كتابة خطبه بيده .
أما المرتجل فإنها تسمو به للعلاء ، وتجعل
لخطابه دوياً هائلاً ، ورونقاً جذاباً ، حيث تكبر الشخصية في عيون الناس ، مما يسهم
في التأثير والإقناع ، لا يملك المستمع معه إلا الأدب والإجلال ، وذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء .
براعة الاستهلال
من محاسن ما يُعتنَى به في الخطبة ، المدخل
الجذاب إلى الموضوع ، الذي من خلاله يمكن سحب الحضور واحتواءهم لفكرة الموضوع الأولية،
وهو ما يسميه البلاغيون (براعة الاستهلال) وهو يأخذ صوراً شتى كالأساليب الجميلة والاستفهامات
، والقصص والأمثال والفرضيات والوقائع .
وهو فن لا يحسنه كل أحد ، وقد تجد الخطيب
المبدع والمثقف ولكنه يفوته ، حسن المدخل ، وطراوة المفتح ، وعذوبة المبدأ !! ومما
يعين على فهمه وحذقه ، سعة الثقافة ، ودوام التفكير ، وعرك الذهن بعد تحديد الموضوع
بأيام قبل الجمعة .
ومن ضمن الخواطر المترددة على مشاهير الخطباء
، كلمات تصلح فواتح لموضوعات كثيرة ، فالمتعين حينئذ تقييدها في كراس خاص بالمنبر
.
وتعظم أهمية الاستهلال في التناول للموضوعات
المشهورة المكررة كقضايا الإيمان ، وفضل الصلاة ووجوبها ، وشرائطها ، والزكاة والإنفاق
وحقوق الوالدين والجوار ، وحسن الخلق ، وما شابه ذلك .
وإليك الآن أمثلة من الاستهلال الجيد لموضوعات
مشهورة نحو : بر الوالدين ، يحسن أن استفتح بقصة قصيرة في العقوق ، فيها من الرهبة
والعظة ما يحدث أثرها في الناس .
ويمكن أن أقول : هل رأيتم الشاب الصحيح
الذي أحسن إليه أبوه فجحده ، وأكرمه فعقه ، وآواه فطرده ......
وفي موضوع كالصبر وما يحويه من مواد ضخمة
، وأفكار طويلة عريضة ، يحسن قولي : نصف الإيمان ، وباب التمكين ومفتاح الفرج ، وحلية
الدعاة والمجاهدين ...
أو قول : أوذي نبيٌ من أنبياء ، وضربه قومه
وآذوه فما كان منه إلا أن تذرع بالصبر ، الذي جدد إيمانه ، وقوى بأسه ، وشحذ همته وعزمه
....
الأفكار الشاردة
مهما قلَّ عطاء الخطيب وتعاطيه لمنبر الجمعة
، فإنه تمر عليه أفكار وخواطر حول الجمعة وكيفية تناولها ولو في موضوعات محدودة.
ومثل تلك الأفكار ، ما ينبغي الاستهانة
بها وهي جديرة بأن تحفظ وتُدخَّر لأيام الحاجة وساعات الافتقار ، وذلك في أوراق مخصوصة
نسميها هنا (كراس المنبر).
وهو يحتوي ما يلي :
(1) فهرس
عام لكل ما تشتهي طرقه ، وتوجيه الناس إليه .
(2) خواطر
وسوانح تعرض للإنسان ، فيها الجليل والمهين ، والمستحسن تقييدها بكمالها .
(3) من
تلك الخواطر أفكار في غاية الأهمية ، يصلح كثير منها في الاستهلالات والافتتاحيات المؤثرة
في ترسيخ الخطبة ، وإبراز جودتها .
(4) تنبيهات
الأصحاب والشيوخ وخبراء المنابر وهي على قسمين : قسم يرشد لتناول موضوعات مهملة . وقسم
يقصد التوجيه والتصحيح في الأداء واللغة والتفاعل والاستعمال .
(5) فوائد
الكتب الصغيرة كقصص مهمة ، وأخبار ذات أثر معين ، وشواهد وقصص تاريخية ، يبين مواضعها
في الكتب المقروءة.
(6) تجربتك
الشخصية في تناول موضوع مخصوص ، قبل أن تستفيده من الآخرين بحيث كأنك تقول : كيف سأدخل
إليه ؟!
فمثلاً موضوع كأهمية صلاة الجماعة ، أو
حرمة الزنا والفواحش. كيف أحسن الولوج إليه في ظل شهرتها عند الناس ؟!!
فقائل : أدخلُ بسرد آيات الوجوب أو التحريم
وقائل : يرشد بذكر محاسن التشريع . وآخر : يستحسن البدء بقصة تظهر عظم الثواب ، أو
فداحة الزنا وأضراره ، وإحصاءات الإيدز ونظائرها المرهبة من هذه الفعلة الشنيعة وهلم
جرا .. المهم أن تقيد تجربتك أنت ، وتستفيد من تجارب الأكابر والمبدعين في هذا الباب
.
ولا أبالغ عندما أفيد من تجربتي المتواضعة
هنا ، أنني أهتم وأتهيب الاستهلال، أكثر من اهتمامي باختيار الموضوع ، لأن الموضوعات
غزيرة ، والكتب وسيعة ، والإنترنت بحر لا ساحل له ، ولكن المشكل عندي ، والمربك لتفكيري
، كيف أشرع في الموضوع ؟ وكيف أستطيع من أجزائه المتفرقة ، أن أكسب الناس بضعة دقائق
ليستفيدوا فائدة ، أو يدركوا عنوان الموضوع ومحاسن ما فيه ، لا سيما وأن أكثر العامة
إذا سألتهم بعد يوم من الخطبة ، عماذا تحدَّث خطيبكم هذا الأسبوع ؟!
قال : نسيت ، لا أدري!
وهذا سبب انحطاط كثير من الخطب ، وانعزالها
عن واقع الناس ، واختلالها الفني والذوقي ، وإهمالها للاستهلال المستطاب ، والمفتتح
الجذاب ، والله المستعان .
التقليدية الفاترة
توارث الناس منذ القدم نمطاً معيناً في
الخطابة ، وكان لبعض الفقهاء دور في ترسيخه ، شاركهم كتبة الخطب والمقامات الذين انتشرت
خطبهم في الآفاق وحفظها الناس ، ومن ذلك :
(1) التنصيص
على ذكر ما يسمى أركان الخطبة ، مع إهمال موضوع الخطبة الرئيسي ، ونرى أنه ينبغي الاعتناء
بالأمرين الأركان والموضوع المفيد للناس، وهذه الأركان ليست بشرط على الصحيح ، وإن
كانت هي زينة الخطب ، ومن منافذ التأثير والترقيق ، ومن استدام تركها لا ريب أنه قد
أساء !
(2) لزوم
افتتاحية معينة ، محفوظة من بعض الخطباء ، فيها من الصنعة والتكلف ما فيها بخلاف الصحيح
الثابت (إن الحمد لله
نحمده .... فإنها من أجل الكلمات ، ومن
محاسن الثناءات .
(3) عدم
الانفكاك عن قول (عباد الله) (إخواني في الله) (أقول قولي هذا) وكأنها الوحي المنزل
، ولا يصح غيرها ، ولا يوجد سواها ، حتى استهجنها الناس ، ضاقوا من تكرارها ، ومن التجديد
إهمالها كثيراً أو أحياناً واستعمال ألفاظ حديثة من نحو (معاشر المسلمين) (أيها الإخوة
الكرام) (أيها الفضلاء) (أيها السادة الأعزاء) .
ومن الألفاظ النبوية (أيها الناس) والمقلدة
المتأخرون التزموا خلاف المشروع ، وغفلوا عن هذه العبارة الثابتة .
(4) جعل
الخطبة جامدةً صماء ، ذات سياج معقد ، لا يرى منه أي لمسة أدبية بيانية ، وهي ما تسمى
(بخطب الفقهاء) الذين عباراتهم عبارة علماء ، نائية عن اللطف والرونق والانسيابية ومثل
تلك محدودة التأثير ، شحيحة الجدوى ، ويتحول كثير منها إلى دروس علمية ، وليس خطباً
منبرية .
ومن الأوابد هنا استنكار بعضهم إنشاد الشعر
على المنبر ، وكأنه ليس كلاماً كسائر الكلام ، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح ، ولم يثبت شرعاً،
ولا عقلاً ولا ذوقاً كراهة الشعر والتمثل به في خطبة إذا كان بقدر واعتدال ، فالنبي
صلى الله عليه وسلم يقول (إن من البيان لسحراً) (وإن من الشعر حكمة) والشعر أروع درجات
البيان ، ومن أطايب الحكم والتنبيهات ، يختصر مسافات في التوجيه ، ويوقظ الأسماع ،
ويذكي الهمم ، ويجدد الخطاب ، ويضفي الجمال والمهابة على الحديث والمتحدث لمن أحسن
إنشاده والاستشهاد به في مواضعه اللائقة .
قال الأصمعي : قيل لسعيد بن المسيب : ههنا
قوم نُساك يعيبون إنشاد الشعر ! قال : نسَكوا نُسكاً أعجمياً !
(5) الصنعة
اللفظية القائمة على المحسنات المرصوفة ، المجردة من كلمات التأثير ، ومن حلاوة إشراقات
الآيات ، وطلاوة الآثار النبوية حتى صار كثير منها مقامات أدبية ، ورسائل بيانية ،
وليست خطباً للوعظ والتأثير والإقناع .
من مفاتيح التأثير
أن تشرك الجماهير في تطوير الخطبة وتصحيحها
، وإبداء الموضوعات المناسبة لها، حتى يشعروا بنوع من الاحترام ، وبنباهة الخطيب الباعثة
على تواصله ، وحيويته في أعين مستمعيه ومشاهديه ، وذلك من خلال استعلام رأي الصحبة
والبطانة ، ومقترحات (صندوق التواصل) في الجامع ، وتوزيع الاستبانات أحياناً ، وفتح
لقاءات وحوارات بين الخطباء وجماهيرهم للتصحيح والإصلاح والمراجعة والارتقاء .
ومتى ما تم شيء من ذلك ، أحسَّ الخطيب بتحسنه
وفاعليته ، ودفعه ذلك إلى التحضير المسبق ، والإعداد المتقن ، وانعدام ذلك كله يشعر
بعزلته ، وانعزال حديثه ، الغادي في غير مساره ، والسالك سوى دربه الذي يفيء بلا رسالة
ولا مقصد ولا إنجاز .... والله المستعان .
من وسائل الارتقاء بالمنبر
(1) البناء
الروحي : بديمومة التعبد ، ومزيد الإشفاق والتقوى والخوف من الله تعالى ، والتزود للقاءات
الناس .
(2) الحس
الثقافي : بالتواصل المعرفي قراءة وتدقيقاً وتفنناً ومراجعة للقديم والحديث .
(3) الأثر
النبوي : بتوظيف السنن على النفس إجمالاً ، والحرص على الاقتداء ، وباستكمال السنن
الثابتة في الخطبة وملقيها (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)
[ الأحزاب : 21 ] .
(4) الاهتمام
المعتبر : المورِث لليقظة ، واستعظام شأن الخطبة ، وأنها من أجلِّ المهام ، ومن أصعب
المواجهات .
(5) حسن
التدرب : بكثرة الإلقاء في المساجد النائية ، وفي المنزل وملاحظة النفس في المرآة ،
وقد قيل (رأس الخطابة الطَبْع، وعمودها الدربة) .
(6) حسن
التحضير : وذلك قبل يوم الجمعة بالبحث والتنقيب وتهيئة العناصر والأدلة ، والشواهد
والأخبار ، ومحاسن الأساليب والاستهلالات .
(7) اللمسة
التجديدية : من خلال تنويع الموضوعات وتكوينها والرقي في الأسلوب والاستهلال ، والتباعد
عن التقليدية ، والأساليب المبتذلة .
(8) حسن
الإلقاء : بالتفنن في ذلك رفعاً وخفضاً، وسرعة وهدوء وتوقفاً مع مراعاة السلامة اللغوية
، والجودة الخطابية .
(9) النضج
الفكري : بحسن اختيار الموضوع ، ومراعاة أحوال الناس وترك تجريحهم ، وفتح منافذ لعقولهم
بالتفهم والمشاركة والإبداع .
(10) القوة
الشخصية : المتمثلة في صمود الخطيب ، وصلابته ، وحسن هندامه ، وهدوئه ورزانته ، وقوة
إقناعه .
(11) مواكبة
الأحداث : بحيث لا يصير تاريخياً ماضوياً ، بعيداً عن أشجان المسلمين وأحاسيسهم .
(12) الإصغاء
للنقد : لأن الناقد بصير والمستمع لمّاح ، والحضور عقول غزيرة ، تثري المنبر باقتراحاتها
ونقداتها ، فمهم جداً الانتفاع بذلك كله ، وتربية النفس والآخرين على قبول النقد وأخذ
محاسنه ، وقد تسمعه ممن لا يفقه في الخطابة شيء ، ولم يشم رائحة العلم كما قال بعضهم
:
عجبتُ لأقوام يعيبونَ خطبتي
وما منهمُ في موقفٍ بخطيبِ !
لكن لتتسع صدورنا للجميع ، ولنؤكد لهم أن
المنبر ملك مشاع، ونفع مشترك ، لا سيما وأنهم المعنيون بكل ما يقال ، فتحتم سماع توجيهاتهم
ومآخذهم .
فن اقتناص الموضوعات
أحياناً ينبض الفكر عن تحديد موضوع معين
! فلا شيء بازر ، ولا قضية ملتهبة ! ولا الروح منشرحة ، فما الحل ؟! للخروج من مثل
تلك الأزمة ـ وهي تنتاب بعض أكابر الخطباء إلى صبيحة الجمعة ـ والحل هو القراءة في
كل شيء مما هو أمامك .. كتاب تفسير ، أو سفر حديث ، أو مجلة ثقافية ، أو صحيفة يومية
.
- حيث
تفاجئ بأنك قد تجد خبراً معزولاً ، أو قصة مصغرة تدفعك إلى شيء نبيل ، يصلح أن يكون
محل حديث .
وليحرص الخطيب على أن لا يفرض على نفسه
موضوعاً ، وهو له كاره ، لأن الانشرح النفسي طليعة الإبداع والإفادة ، والناس يتفاوتون
في ذلك .
قد يعرض عليك بعض العامة أحاديث معينة ،
سجلها ولكن هيأ لها نفسك ، واخرج بها عن التناول المكرر ، والطرق المألوف .
- كتب
الثقافة العامة والتاريخ والأشعار والآداب وذات التلون المعرفي ، من أخصب ما يجدِّد
الفكر ، ويذهب هدأته وجموده ، حيث ينتقل إلى معان حسنة ، وأفكار حية ، يصلح بعضها لأن
يكون خطبة .
- مجالسة
العلماء ومناقشتهم ، تورث زخماً من الأفكار والتعليقات ، جديرة بالطرق والتناول .
- اللقاءات
اليومية ، وسير الناس إلى وظائفهم ومعاشاتهم لا تخلو من وقائع وأحداث ، تولد للمتأمل
، الرغبة الحثيثة في البدار والمعالجة ، وقد قيل عن بعض عمالقة القصص أنه يسجل قصته
، من خلال معاينة سير الناس وتنقلاتهم اليومية .
- النماء
الثقافي والحواري من خلال الندوات والمحاضرات والمناظرات، حيث يثري أفكار المشاركين
والمستمعين ، ويضاعف من حجم المخزون الدعوي والفكري لدى المتحدث والملقي .
- التجول
الإلكتروني عبر منتديات الإنترنت ومواقع الخطباء والأخبار والمنتديات والمنابر ، غالباً
ما يُسعف الخطيب ، ويحرك نهمته ، ويبعث نشاطه .
- مشاورة
بعض الشيوخ ، وتلقي مقترحاتهم وإرشادتهم .
مئنة من فقهه
كلما قصرت الخطبة ، وطالت الصلاة ، زادك
قناعةً برجاحة عقل الخطيب ، ونباهته الفقهية ، وأنه استطاع إيصال رسالته في وقت وجيز،
وبدون إيغال ولا ثرثرة .
قد يكون الموضوع جميلاً ، والخطيب محكم
الأداء ، ولكن الطول الباهض ، قاتل للموضوع ، وأثره ، وحلاوته ويورث السآمة، وينفر
الجماهير ، ويجعلهم يقررون الانتقال إلى مسجد آخر ، وأنت أحوج ما تكون إلى دعم الناس
، ومحبتهم ، وتضامنهم .
واشتهر قولهم : (خير الكلام ما قلَّ ودلَّ)
فهو القليل الدليل ، الحامل في طياته منابع الخير ، ومنافع الرشاد ، وقد قلت في نظم
الهدي النبوي في الخطبة :
يقصّر الخطبة والبيانا
ويطنب
الصلاة والقرآنا
ويكثر الذكر مع الجوامعِ
لأنها
مظنة المنافعِ
ومن مقولات الأمين العباسي (عليكم بالإيجاز
، فإن له إفهاماً ، وللإطالة استبهاماً)، ومما يساعد على تقصير الخطبة ، والانعتاق
من الطول الذي يبتلى به بعض الخطباء ، ويصبح ديدناً لهم ، لا يكاد ينفك عنهم :
1- الاهتمام
الشديد بالوقت ، دخولاً وخروجاً ، وسؤال بعض الخواص ، هل حصلت إطالة أم لا ؟!
2- ضبط
الموضوع ، وتحديده في عناصر معينة ، لا تطيش ولا تتكاثر ومن جيد ذلك الانطلاق في الخطبة
عبر آية قرآنية ، أو نص نبوي أو مقولة مأثورة ، يدار في فلكها بلا تشعبات وخروقات
.
3- ترك
الارتجال المشوش ، الذي لا يحده ورقة ولا فكر ، فهو من وسائل التطويل .
4- كتابة
الخطبة في ورقات محدودة ، وتربية النفس على الإيجاز حال الارتجال لما يحاكي وضع الخطبة
المكتوبة .
الخطبة الاستعلائية
حينما تباشر الخطابة بنظرة استعلائية ،
وفوقية متفاخرة بالعلم والصلاح والزكاة ، وممتلئة بازدراء الآخرين واستنقاصهم وإلقاء
التهم بهم ولو على وجه ساذج بسيط ، تنقلب عكساً على صاحبها وتبوء بالفشل، وتفصل الخطيب
عن جمهوره وشعبيته ، وتعرضه للذعات النقد، وسهام التصحيح والتعقيب .
والمسلك المحمود : ترك رتبة الفوقية ، وشحن
الروح بالإشفاق والتواضع ، ومحبة الآخرين ، ودرج النفس في قافلة المقصرين ، وغبراء
المساكين ، قال صلى الله عليه وسلم : (اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني
في زمرة المساكين) .
ومن صور تلك الاستعلائية الرديئة :
(1) الظهور
دائماً في مظهر الناقد اللاذع ، المقبح لكثير من المخالفات بلا روية وحكمة.
(2) استعمال
ضمائر التكلم بكثرة ، قلت ، رأيت، أنشأنا ، وقررنا.
(3) عزل
النفس عن مواضع النقد والتقصير والتكاسل ، في علاج الأخطاء ، وتسوية المشكلات .
(4) استعمال
لغة التهديد والمعاتبة والملامة المطلقة ، التي توحي بتزكية النفس وتنزه المتحدث ،
وأنه القاضي الصارم ، لا الداعية الراحم ، حيث يتحول الداعية إلى الله تعالى إلى مفتش
مجتث ، ومنقب متتبع ، يمارس دور الوصاية على الناس ، وأنه المسئول عن تحركاتهم وتجاوزاتهم
.
وهذا ينافي رحمانية الدعاة ، وشفقتهم ،
وما ينبغي أن يكونوا عليه من حسن التزكية والأدب والتواضع والاندماج والانسيابية .
مصادر الخطبة
(1) القرآن الكريم حفظاً وتلاوة ، وتفهماً
وتدبراً ، واسترشاداً ، فإذا تم لك أكثر ذلك، فبثه في الناس ، وأحسن عرضه للجمهور ،
وانقلهم من مجرد حبه وتلاوته إلى العمل به وتدبره ، واستنهاجه في الحياة .
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص : 29] .
قال الحسن البصري رحمه الله ونِعم ما قال
: (نزل القرآن ليعمل به ويتدبر ، فاتخذوا تلاوته عملاً).
إياكَ وخلوَ الخطبة من آيات موقظة ، ودلائل
بينة ، فإنها حيئذ ، البتراء في لونها وشكلها ومحتواها والقرآن مادة ثرية ، وذخائر
وعظية للخطبة ، فلا تنسَ من من وقت لآخر، أن تنطلق من (ظل آية) أو (عبرة قرآنية) أو
(قصة دعوية) أو (درس تاريخي) أو (خلق نبيل أو (عادة مستحسنة) أو (عرف قبيح) أو (موقف
نبوي) وكل ذلك وأشباهه تجده في هذا الكتاب العزيز الذي غصَّ بدرر الحكم والفوائد، وامتلأ
بأنوار العبر والفرائد (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)
[محمد:24] .
ومن خلال غزارة القرآن الموضوعية ومعارفه
الثقافية والحكمية يستطيع جمهرة من الخطباء صناعة (موسوعة قرآنية) فذة ، تكون زاد الخطب
وينابيع أحاديثه وتوجيهاته وقد خطَت موسوعة (نضرة النعيم) خطوات جلَّى في ذلك ، وإن
كانت في جوانب محدودة ، لكنها مرجع ثمين ، ومستودع متين ، جزى الله معدّيها خيرا .
(2) السنة النبوية من خلال مراجع مشهورة
كرياض الصالحين ومشكاة المصابيح ، والترغيب والترهيب . وطالب العلم الجيد، لا يغيب
عن ذهنه ضرورة مراجعة الصحيحين كثيراً ، والتحفظ وكثرة الاستنباط منها.
والخطيب الفقيه ، من يجعل من (حديث صغير)
عنوان خطبة ، يجري في معانيه ، ويغوص في درره ومغازيه . والسنة النبوية لا تقل عن القرآن
ثراء وتنوعاً وأزاهير معرفية! خليقة بالطرق والتقرير والاستنباط ومنها الطويل الجميل
، الذي قراءته بكماله ، هو خطبة مؤثرة، ودرس محكَم ، وحديث متكامل، نحو حديث الأخدود
، أو قصة إبراهيم وهاجر ، أو قصة الإفك ، أو قصة كعب بن مالك ، أو حديث سمرة في الرؤيا
، وحديث الدجال ، وكلها ثابتة في الصحاح .
وفي سياق (الخطب الحديثية) على الخطيب ملاحظة
صحة الحديث والرجوع إلى مراجع محققة ، حكم عليها المحققون نحو صحيح الجامع وضعيفه ،
والسلسلة الصحيحة والضعيفة للألباني .
وصحيح الترغيب والترهيب له أيضاً ، فهذه
تعين المتخصص وغيره على الاحتجاج بالصحيح ، وطرح ما عداه .
ولقد مللنا من خطباء يرددون الضعاف ، ويستملحون
المنكرات ، دون اهتمام أو مراجعة ، هل الحديث صحيح أم لا ؟! وقد قيل:
واعجب من الخطيب ذي الضعافِ
من يشدو بالموضوع والسخافِ
وهذا في رأيي الشخصي ، تقصير مثير للاشتئمزاز
، لأن الكتب دانية ومواقع الإنترنت رحبة ، وسؤال المختصين متاح ! فلماذا التكاسل حيئنذ
؟!!
إن ثمة خطباء بتقصيرهم ، يسهمون في نشر
الأحاديث الضعيفة وتنحية الأحاديث الصحيحة !!
وبعضهم إذا انتُقد ، جادل وأكد صحة الحديث
مكابرةً وعناداً ، وبعض الفقهاء لا يريد أن يتعلم فن البحث عن الصحاح ، وهجر الضعاف
، ويرى أن تخريجه على رؤوس المنابر كافٍ في رفع التبعة عن المتحدث أو كون الحديث في
كتاب مشهور كالترمذي من الأمهات، أو مرجع كالترغيب والترهيب دليل صحته وقبوله ، وقد
سمعت خطيباً يجادل عن حديث سلمان في استقبال رمضان وأنه صحيح بحجة إخراج ابن خزيمة
له ، وشواهد الصحة عليه ، وقد أخرجه ابن خزيمة والبيهقي، مع أن في إسناده علي بن زيد
بن جُدعان ، وهو منكر الحديث ، ويتجاهل الأخبار الصحيحة المتكاثرة في فضل رمضان!
(3) السيرة النبوية الشريفة الملتهبة بالصبر
والعظات ومنها ما قصه القرآن ، وأخرجته الكتب المعتمدة وحوى من رقائق المواعظ ، ولطائف
القصص ومباهج الأرواح، ما يبهر ويدهش !
فلابد حينئذ من الدنو منها ، وتكرارها المستديم
، ومحاولة التفقه فيها .
وقد قال تعالى : (فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف : 176] .
وقال تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ) [يوسف : 111] .
ومن محاسن المراجع في ذلك (سيرة ابن هشام)
، (والرحيق المختوم) وما كتبه (مهدي رزق الله) و(منير الغضبان) و(الشيخ سلمان العودة)
و(إبراهيم العلي) وأمثالهم جزاهم الله خيرا .
وينبغي جعل مرجع خاص يطالعه الخطيب مرات
وأخرى ويحشيه ويعلق عليه ، ويديم التدبر والتفقه فيه .
ومن فوائدها على الداعية والخطيب :
1- ضبط
المسار الدعوي ، والتحرك الفكري .
2- موسوعة
تثقيفية ، وتربوية غاصة بالدروس والعظات .
3- سلوة
الدعاة ، ومعين لتصبيرهم وتثبيتهم .
4- تبيان
للمنهج العملي للإسلام .
5- مؤئل
استخراج الأخلاق والآداب والتي هي خليقة بالنشر والتفعيل والتطبيق .
6- بيان
كيفية التعامل مع المواقف والأزمات .
(4) الإرث السلفي والتاريخي للصحابة وأتباعهم
بإحسان ، لا سيما وأنهم من فهم الإسلام على حقيقته ، وأخذه بحزم وقوة ، ونشره في الآفاق
بفقه وحكمة ، وكانت أخلاقهم وسلوكياتهم ، معبِّرة عن روح الإسلام، وفهم مقاصده وتشريعاته
.
فمثل ذلك الإرث جدير بالتوقف معه ، وفهمه
، وتعلمه ، والإفادة منه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (خير القرون قرني ثم الذين
يلونهم ثم الذين يلونهم) ولما رأى نصارى الشام صحابة رسول الله قالوا : (ما كان الذين
صحبوا المسيح بأفضلَ من هؤلاء) .
(5) الثقافة العامة التي تفرض على الخطيب
التنقل في مجالاتها ، وتسهم في دعم القضايا الشرعية ، نحو قضايا الفكر ، والسياسة، والاجتماع ، وقضايا العصر ومستجداته ، التي توسع
نطاق فكر الخطيب، وتعمقه لإدراك فقه الدعوة
، وفن مخاطبة الآخرين .
ومن الثقافة (رصد الواقع الإسلامي) ، ومتابعة
الوضع الإخباري ، الذي يزود الخطيب بمعرفة آخر الأحداث (والتحليلات الدقيقة) والقراءات
المفيدة .
(6) الكتب المنبرية التي تحتوي على تجارب
الخطباء ، الذين أسهموا في التأليف الخطابي ، ونشروا ما أنتجوه في سنوات الخطابة والإفادة
، ولا تخلو من فائدة غالباً ، والنابه من ينتقي منها .
ومن الكتب الصادرة في المنبر : (الضياء
اللامع) للعلامة ابن عثيمين ، و(شعاع من المحراب) للدكتور سليمان العودة ، و(وميض من
الحرم) للشيخ سعود الشريم ، و(المسك والعنبر) للشيخ عائض القرني و(توجيهات وذكرى) للشيخ
صالح بن حميد ، وصوت المنبر للشيخ صالح الونيان .
وغيرها كثير ، وليس المقصود الإحصاء، وإنما
التمثيل فحسب ، ومن الصوتيات المشهورة أشرطة الشيخ عبد الحميد كشك ، والشيخ أحمد القطان
وبعض خطباء الحرمين، بحيث يمكن من خلالها تنمية الحس الخطابي لدى الخطيب ، لا سيما
لدى محدودي القراءة والخبرة والاهتمام.
(7) الكتب الموسوعية المتقنة التي تحوي
أكثر جزئيات الموضوع ، وإنما ينقصه حسن الصياغة والترتيب والتنظيم والتقريب .
ومن الكتب المرشحة في ذلك ، وأعدها موسوعية
: كتاب موسوعة (نضرة النعيم) التي أعدها أكثر من ثلاثين أستاذاً ، وهي ثروة معرفية
شائقة في جانب الأخلاق والسلوك ، وقد شُحنت بالآيات والآثار والفوائد، وهي مخدومة توثيقاً
، وتخريجاً ، وتحقيقاً .
وكتاب آخر اسمه (صلاح الأمة في علو الهمة)
للدكتور سيد العفاني يصف أحوال السلف في الخيرات ويكشف أحوال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ويرصد طبقات الناس في الأعمال الجليلة بدءاً بالسلف ومروراً بأبطال الإسلام
وانتهاء إلى المعاصرين وأفذاذهم .
وهو ماتع نفيس ، ولا يستغني عنه الخطيب
، وكل كتب الشيخ سيد في غاية الجودة والنفاسة ، وفيها مواضع خصبة للخطابة ، وتثري الحياة
المنبرية ، وترتقي بحسها الإيماني والتربوي والسلوكي ، وقد أطريته بمنظومة علمية ،
تجاوزت المائة بيت، وقعتها عليه صدقاً وإجلالاً ، وتعبيراً عن السعادة العائدة بعد
قراءته ، وأهديتها له على جهده وعطائه.
(8) ذخائره المحفوظة من كلمات الأوائل ،
وخطب المَصاقِع( ) المشاهير التي ارتقت بلاغةَ ، وزهت فصاحةً ! فإنه إذا حفظها (اتسع
له المجال في الكلام ، وسهلت عليه مستورات النثر ، وذللت له صعاب المعاني، وفاض على
لسانه في وقت الحاجة ما يكمن في ذلك بين ضلوعه) . (صبح الأعشى 1/271)
(9) الرسائل القصيرة ، التي تؤلف في موضوعات
مخصوصة ، وتُصاغ بقلم علمي أدبي ، وتكون (زبدة مختارة) من عدة كتب ، كمن ألف في فضل
التوحيد ، وصفة الجنة ، وصفات المتقين ، وشروط لا إله إلا الله ، وحقوق الوالدين ،
وصلة الرحم ونظائرها ، لكن يُحذر فيها من أمرين : الأول ضحالة أسلوب بعضها ، والثاني
: احتواؤها على واهيات وموضوعات، فإذا سلمت هذين الأمرين ، حسُنت وطابت .
منتدى الخطباء
ما أجمل التقاء الخطباء في ندوة حوارية
! يناقشون أداءهم ويراجعون موضوعاتهم ، ويجددون معانيهم وأفكارهم ، حيث يملك أحدهم
ما لا يملكه الآخر ، حساً ، وفكراً ، وانتقاداً ، وتطويراً .
واجتماعهم لُحمة دينية ، وغَيرة دعوية ،
و(جلسة تشاورية)، ومطارحة فكرية ، تعود بالمنافع السارة ، والمصالح البهية ، التي تقدر
تعاون أهل الإيمان وتوافقهم وتعاضدهم . وقد قال تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى) [المائدة : 2] .
ومن الحيوي لهذا المنتدى التحاجج بعلم،
والتكلم بحكمة ، والتلطف في الخطاب ، والتقييد لكل صغيرة وكبيرة ، وإفادة مبتدئي المنبر
، وناشيئ الدعوة الذين لم ترسخ أقدامهم على عتبات المنبر ، ولم يتجاوزوا المرحلة التأهيلية
بعد .
لأنه بلا ريب أن مستوى الحضور متفاوت ،
وعقولهم متباينة ، وإفادة بعضهم لبعض متعين ، وقد قال مالك رحمه الله (من بركة الحديث
إفادة بعضهم بعضاً) ، (المدخل إلى السنة ص 351) ، وعن وكيع رحمه الله (أول بركة الحديث
إعارة الكتب) (أدب الإملاء ص 174) .
والإشعاعة النبوية تقول : (من استطاع منكم
أن ينفع أخاه فليفعل) أخرجه مسلم في صحيحه .
ومن فوائد هذا المنتدى :
1- تقوية
الأواصر الأخوية والفكرية .
2- التشاور
والتناصح ، وتقويم الأداء .
3- التعلم
الشرعي ، والتنوير المنبري .
4- إدراك
الواقع العملي ، وفقه المستجدات والنوازل .
5- تبادل
الخطب المتينة والمتميزة ، وتقديمها للنشر بعد التصحيح والتنقيح .
6- رفع
مستوى الحس النقدي لدى الدعاة ، وإصغاء بعضهم لبعض ، بلا تداهن ولا مجاملات .
7- تعزيز
مكانة المنبر وهيبته ، لا سيما عند من يهينه ويبتذله .
8- الانتهاء
من الخطب المتوالية ، عبر السنين، إلى إجراءات عملية ، وتحركات إصلاحية، بما يعني تحويل
الكلمات إلى سلوكيات ، وتصديق الأقوال بأعمال ، وقدوات مضيئة ينتفع بها الأجيال ، وهو
ثمرة العلم الزاكية، وقطاف النصيحة التي تكلل بالصدق والنجاح والمسئولية .
والله الموفق
الخطيب اللحان
ونقصد باللحن هنا الخطأ النحوي ، الذي يعكر
الكلمة ، ويفسد الذوق ويصم الآذان ، وليس اللحن الذي هو الصوت والطرب كما هو مشهور
.
والخطيب اللحان مسيء لنفسه ، مفسد لموضوعه
، خارق لجده وتأثيره ، ومنفر للناس !
قال يونس بن حبيب (ليس لعيّ مروّة ، ولا
لتارك الإعراب بهاء ، وإن حكَّ بيا فوخه عَنَان السماء) ، واليافوخ : وسط الهامة (البيان
والتبيين 1/55).
وقيل للحسن : (إن إمامنا يلحن ، فقال :
أخّروه) .
وإنما يأتي اللحن وتبديل منطق الكلام من
ضعف بناء الخطيب النحوي ، واستهانته بقواعد اللغة العربية ، وولوجه مزاهر الحديث دون
إصلاح منطق ، وتقويم لسان !! وسببه الارتجال المشوش ، والانهماك في الفكرة وتجاهل عقول
السامعين ، حتى يصبح ذلك عادةً ذميمة فيه ، لا يلوي على غيرها ، ولا يطمع في إصلاحها
، فيغدو اللحن مستكثراً معه فيكون (متحدثاً لُحَنةً) يخطئ في الدقيقة الواحدة عشرات
اللحونات، وهذا شيء شنيع لا يسوغ السكوت عنه . وقد تساهل الناس في العصور المتأخرة
، لا سيما أهل زماننا في النحو وحذقه وضبطه ، وجوزوا للحانين صعود المنابر ، وتسنم
المناصب العلية ، الذي يتحدث فيه بعضهم ، فتكون ألحانه ، أكثر من صواباته وهذا أمر
فريّ ، وداء عري، يُسئ للدعوة والمنابر ، وأرباب العلم والثقافة !!
والله يقول في القرآن الكريم : (بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء : 195] وأي إبانة يحملها الخطيب اللحان ؟!!
والمتعين علينا كخطباء ، تعلم النحو وضبطه
، ومجاهدة النفس في ذلك ، ولو مع الصعوبة والكِبَر ، والفرص كثيرة للعلم والمعالجة
، المهم الجد وبذل الوقت والبدء بالمختصرات .
وقد جاء عن ابن المبارك (اللحن في الكلام
كالجدري في الوجه) .
والخطيب الكثير اللحن يقدم لك الفاكهة الرطيبة
في طبق متسخ ! هل يأكلها الناس ؟!
ومع ذمنا للحن ، لا ندعي سلامة النفس منه
، بل يقع فيه حتى أفاضل العلماء ، وبصراء المتحدثين ، ولكن يجب التقلل منه ، وأن تقع
في كل عشرين كلمة ، وليس في كل ثلاث كلمات .
ومن الضروري في امتحان الخطباء ، وبعد امتحانهم سلوكياً وفقهياً (امتحانهم نحوياً)، والإصغاء لقولهم
ومنطقهم ، حتى لا يقدم إلا المستحق ولا يصح إلا الصحيح .
وما أجملَ ما أنشده أبو العباس المبرِّد
:
النحوُ يبسُطُ من لسان الألكَن
والمرء تُكرمه إذا لم يلحنِ
وإذا أردتَ من العلوم أجلَّها
فأجلُّها علم مقيم الألسـنِ
والآثار التي يتركها اللحان على خطبته ،
وعلى أسماع الناس وأذواقهم ومستوى الدعوة، والمناخ العام ، جديرة أن تدفعه إلى التعلم،
أو ترك المنبر للفاضل والمتقن ، لأنها وسيلة الجناح ، كثيرة الأتراح ليس هذا موضع تفصيلها
.
وهو متمانع مع ما ينبغي في فصاحة الخطبة
، وبلاغتها التي لا تظهر مع اللحن والخطأ .
قال بعضهم :
خطباءُ حين يقوم قائلهم
بيضُ الوجوه مَصاقِع لُْسُ
أي بلغاء فصحاء .
جاذبية الخطبة
لما كانت الخطبة حلقة وصل بين المتحدث ومستمعيه
، ونافذة الأسبوع وينبوع الهداية المتجددة ، وشرط صحة الصلاة ، حرَص كثير من الخطباء
على لونها الفني ، وانضباطها الفقهي الذي يجعلها شرعية صحيحة تبرأ بها الذمة ، وتناسوا
جاذبيتها الباعثة على العمل والمبادرة والفاعلية . كم من الخطب تُلقَى هذه الأيام ؟!
وكم من مفوه ومثقف يزمجر كل أسبوع ، ويصدح كل حين؟! ولكن الآثار محدودة ، والنتائج
ضيئلة.
إن مهارة الخطيب الكلامية ونضجه الفقهي
، لا يوفر له ضمان الجاذبية وإيصال الرسالة من الزمجرة الأسبوعية ، والصراخ الشهري
فحسب ، بل لابد أن يكون في الحسبان صلاح الحال ، والدعوة بالقدوة الحسنة ، وتلطف الخطاب
، وترك التعيير والتهديد ، والظهور بمظهر التواضع والإشفاق (واخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِـينَ)
[الحجر : 88 ] .
وملاحظة إقبالهم نفسياً وعقلياً وتلمس جراحهم
وشئونهم ، ولا سيما والحضور زاخر، وكل يلتمس ما يلين به قلبه ، وتبسم به روحه ، ويحل
له مشكلته .
فالمثقف يريد الموضوعات الفكرية والتربوية
، والعامي يشتهي إيمانيات ، وما يغذي به خيره وصلاحه ، وفي العامة التاجر الراغب في
نقد المتلاعبين بحقوق الناس ، والعامل الذي يغشه كفلاؤه ، وصاحب المظلمة الذي يصطلى
بحرها ، ويتصور انتشار الطغيان والفساد في الأرض .
وثمة شريحة تأتي مضطرة للحضور ، وليس عندها
نية الإصغاء التام ، وقد أهمتهم دنياهم ، وأنكتهم جراحهم ، فتأمل مثل ذلك من فقاهة
الخطيب ، حيث ينوِّع الأحاديث ، ويراعي جميع الطبقات ، ويخفف أحياناً ، ولا يطيل ويميل
، ويقرأ إقبال الناس وإدبارهم ، وفرحهم وحزنهم ، وقربهم وتباعدهم ، قال سهل بن هارون
(سياسة البلاغة أشد من البلاغة) ولا ينسى أن يجعل من مواعظه جسوراً لنفعهم وخدمتهم
والتودد إليهم ، فنحن دعاة ، وليس قضاة ، وأقارب وليس أباعد .
قال تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)
[البقرة: 83] .
وكلما كانت الخطبة المبنية ، في سياق أدبي
لطيف محبَّب جذبت ، وكانت لافتة ، مع استصحاب قوة الانسجام بين ملقيها ومعانيها ، وصدق
إيمانه بما يقول ويدعو الناس إليه .
قال مالك بن دينار رحمه الله :
(إن العالم إذا لم يعمل بعلمه ، زلت موعظته
عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا) (الحلية 6/288) .
وأولى معاني الإيمان والإقتناع بالقول هو
العمل والمبادرة ، وحسن السمت والهدي ، وإلا كان العمل مهيناً والتأثير محدوداً !
الوعي الجماهيري
ربما أفلح عدد من الخطباء في صناعة الوعي
الشرعي لدى الحاضرين ، وزاد عليه وعيهم أخلاقياً ، ووعيهم اجتماعياً وهذا شيء حسن وجميل
.
ولكن قد يهمل ، ويتساهل في صناعة (الوعي
الفكري) لديهم ، فإنهم في أزمة حضارية ، وأمام تسلط دولي ، وحرب ضروس تتناول مجالات
شتى في الحياة ، وأنه يُراد لهذه الأمة التقهقر والتخلف ، ومزيد التباب والانحطاط ،
وأن تكون مرتعاً لكل الجرائم الفكرية ، والأسقام الأخلاقية، التي تشعرهم بالانهزام
والمهانة ، والرضى بالدون واليسير، فيتحطم شموخها الديني ، ويتقاعس شبابها وتتبخر طاقاتها
، وتلهو قاماتها، ويشتغل مثقفوها بالقضايا الهامشية ، والمسائل العلمية التي لا تحسِّن
حالاً ، ولا تغير واقعاً ، ولا تدفع بهم للرقي الثقافي على مستوى العلوم الشرعية فضلاً
عن العلوم الحياتية ، والفنون المستجدة ! وتبيت خطبة الجمعة جارية في سياق التنمية
الروحية ، والتطوير الشرعي ، دون أن تكون ذات دوافع فكرية لكشف البعد الحضاري للأمة
، وأنها أمة القيادة ، وموطن الريادة، وأنها المرتقبة لتخليص الإنسان ، وانتشاله من
عبودية الشهوات ، وسيطرة القيم المادية عليه . قال تعالى : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ) [ آل عمران : 110 ] .
فلابد للخطيب مهما تعذر بأعذار سائغة أو
غيرها ، أن يجدِّد الوعي الفكري في حياة الأمة ، وأن يصنع (بارقة الأمل) ، ويُهيأ رايات
البذل والعمل ، ويشعل روح المبادرة الذاتية ، في حس كل مسلم يصغي لخطابه، وأن المرامَ
من الخطبة ، ليس مجرد تحسين الصلاة أو بذل الصدقات ، بل المراد تحسين الصلاة في كل
أرجاء المعمورة ، وإيصال الصدقات إلى كل مناطق العالم الإسلامي المتضرر، حيث يتولد
الشعور الأممي ، وترتقي الصلاة بمحاسنها التي تورث تزكية النفس ، وكفها عن كثير من
الأدران والمساوئ البشرية .
ومن وعي الخطيب ، تنويع الموضوعات، ومراعاة
الطبقات وأن يجعل للخطاب العقلي والمسار الفكري شيئاً من حديثه ، ليبني العقل، ويصحح
المفاهيم ، ويخطو بالمستمعين خطوات جوهرية ، لخدمة دينهم وأمتهم .
ومن غير ذلك لن تتجاوز الأمة نقطتها ، ولن
تتحرر من رقها ، وستبقى في ضعفها وانكماشها ..
والله المستعان ،،
تحديث الموضوع
ثمة موضوعات تقليدية ذات أهمية كبرى، اتسعت
جوانبها في الحياة ، وصار لها آثار إيجابية وعكسية ، ليس من الحكمة والدقة تناولها
من رؤية محدودة ، أو تصور قديم ، بل لابد من تحديثها بفهم الآثار المعاصرة ، وما ورد
عليها من تغيرات ، وارتباطات .
فمن يتحدث ـ مثلاً ـ عن (الشفاء بالقرآن)،
ما ينبغي أن يهمل تردي البشرية روحياً ، واتساع مجالات الطب النفسي في المجتمعات المنحرفة
عن المنهج ، والمفلسة إيمانياً ، وتأييد ذلك بأحجام المنتحرين سنوياً ، لا لمصيبة ،
ولا أزمة ، سوى (أزمة الروح) ، وفقدان حلاوة الإيمان ، وسر تأثير القرآن .
ومن يتناول موضوعاً جليلاً كالنكاح وفضائله
يعتبر مقصراً إذا ناقشه بعيداً عن مصائر الأمم التي سرحت لشهواتها العنان ، وابتليت
بالأسقام التي لم تكن في أسلافهم من الإيدز والهربز ، وما يجليها من إحصاءات فاتكة
وأرقام خطيرة ، تزيد من الحس الشرعي تجاه الفواحش، وانضمام الطب الحديث كبرهان جديد
على ذلك .
ومن يتحدث عن الحجاب وحكمه ، وأنه خلق الفضيلة
، ليس له أن يتجاهل مملكة السفور الفضائية ، وآثار الاختلاط وما تصنعه وسائل الإعلام
من ترويج أحوال الغرب الاجتماعية والانعكاسات الخطيرة لذلك كله .
لابد أن يكون الموضوع مفيداً ذا نبرة تحديثية
، حتى يصيب غايته، وإنه لمن الجهل بمكان أن يتحدث بعضهم عن الصور الربوية من رؤية تراثية
، ناسياً التطورات المالية الراهنة والمعاملات الربوية الجديدة التي أنست أسلافها
!!
أحاديث مُلِحة
لكل مسجد ظروفه ، ولكل خطيب ثقافته ، ومساره
الفكري الذي يوجهه ويرشده لمكامن الحديث ، وأفنان الموضوعات! لكن من خلال تأمل الحالة
الراهنة للأمة ، وواقعية العالم الإسلامي نرى أنه من الحيوي جعل ما يلي في أولويات
الموضوعات المطروحة :
(1) حكمة
الوجود ، والمعنى الحقيقي للحياة ، وضرورة تجديد الإيمان في حياة الفرد ، الذي يجعله
يدرك سر الخلق والإيجاد ، ويقاوم مادية الحياة الجارفة ، وجاهليتها الشوهاء .
(2) صناعة
التفاؤل ، وكل معاني البهجة والضياء والسرور في حياة المسلم سواء كان على مستواه الشخصي
والمعيشي أو المستوى الأممي المنحط الذي يبدو فيه الإسلام وقد ضعف أهله ، وتأخر به
حاملوه، وصاروا من أوهن الأمم وأخسرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
(3) المشكلة
المعيشية : كالفقر ، والبطالة ، والتخلف ، وما يتعلق بها إيجاباً وسلباً كقضايا التعليم
والصحة وآفات البيئة والتنمية .
(4) الطغيان
الشهواني الذي يستغل المرأة ومفاتنها ، ليروج رسالته اللاأخلاقية ، أو التي تهدف لمسخ
الجيل وتحلله الديني والسلوكي، مستغلاً أرقى معالم التقنية الحديثة ، فيعالج ذلك بالطرائق
المناسبة وإيجاد الحلول ومن أهمها التركيز على ارتقاء المسلم روحياً ، وإن خوفه ومراقبته
لله هي ضمان حفظ الفرد وسلامة المجتمع ، وسرد الخواتم البشعة لأرباب الشهوات والتحلل
وعبدة المال ورموز ما يسمى بالوسط الفني .
(5) الوقت
المبذول ، والساعات المستهلكة في حياة الناس دون جدوى أو اعتبار ، ومحاولة تثمين الوقت
والزمن في حس المسلم ، وكيفية استثماره وأن عمارته بالخيرات بابة الفلاح ، وعنوان التقدم
والنجاح في الحياة . قال تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [ العصر
: 1-2 ].
(6) ضرورة
تربية الجيل ، وتمحيصهم أخلاقياً وسلوكياً ، والحرص على حفز هممهم وعزائمهم وانتشالهم
من براثن الهوى والكسل والهزيمة . قال تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً)
[التحريم:6].
(7) كشف
الواقع المهين للأمة ، والحرب الذي تخاض ضدها وأنها مستهدفة في دينها وأوطانها وثرواتها
، وتعبئتها إيمانياً وفكرياً وعسكرياً واجتماعياً لمقاومة كل التحديات.. كما قال تعالى
:
(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ
مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال:60]
وثمة آيات قرآنية يمكن أن تكون مدخل الحديث
وروحه ولبه نحو قوله تعالى :
• (فَلاَ
تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ) [ مريم : 84 ]
• (فَلاَ
تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران : 175] .
• (وَلَن
تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة
: 120]
• (وَإِن
كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ) [إبراهيم : 46] .
• (وَلاَ
تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ
لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم : 42] .
وللإصلاح وحفز التفاعل يتحدث من خلال :
• (وَجَاهِدْهُم
بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) [الفرقان : 52].
• (فَمَا
وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ) [ آل عمران : 146 ] .
• (أَلاَ
إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [ البقرة : 214 ].
• (وَجَاءَ
رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى) [القصص : 20] .
• (وَلاَ
تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]
.
(8) تجديد
معاني الوحدة الإيمانية وأن الميزان الإسلام ، وليس الحد أو اللون أو الجنس .. قال
تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [ التوبة
: 71 ] .
وقال تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَ) [ المائدة : 55 ] .
وتجسيد هذا المعنى الحقيقي لأهل الإسلام،
بكسر الحدود التي ضربها الاستعمار وأذنابه ، حتى قال الشاعر مصوراً غربة العربي في
وطنه :
أمشي على ورقِ الخريطة خائفاً
فعلى الخريطة كلنا أغرابُ
وخريطة الوطـن الكبير فضيحةٌ
فحواجز ومخافر وكــلابُ
لابد لخطيب الشرق أن يتحدث بكل حس أممي
، يجعله يوسع معاني الإخوة بالمغاربة وأشباههم ، وإن لم يرهم ، أو اختلفت ألوانهم وعاداتهم
، ما دام أنهم مسلمون .
قال تعالى : (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)
[الحجرات : 10 ] .
وأنشد الدعاة الأمميون :
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ
عددتُ أرجاءه من لب أوطانِ
ويحرص الاستعمار الجديد أن يعزل كل وطن
عن الآخر ، وأن يفك ما يسمى بالتكتلات السياسية والاستراتيجية والقومية ، فضلاً عن
تدميره وحرصه الدفين ، على فك الوحدة الإسلامية ، وشلِّ معاني الإخاء الإيماني . والله
المستعان ،،
(9) تأجيج
الدور الفردي والجماعي للحاضرين، وإن الإسلام قول وعمل ، وجد وبدل ، وأمر ونهي ، ونصح
وإشفاق ، لا سيما عند حصول التقلص السلوكي ، والاجتياج المادي ، المسهم في ارتفاع درجة
المناكر والمخالفات مما يحتم على الجميع ، التناوب في أداء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ، ليكتمل الخير ، وتتم السيطرة على الشر .
قال تعالى : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)
[ آل عمران : 110 ] وقال صلى الله عليه وسلم
: (والكلمة الطيبة صدقة).
أسباب نفور الناس عن الخطبة
(1) إذا
باتت طويلة ، فضفاضة ، تستهلك وقتهم، وتُفرض عليهم !
(2) النبرة
التهديدية والتجريحية ، تحمل كثيرين على التأخر كثيراً، أو الانتقال إلى جامع آخر
.
(3) تأخر
الخطيب المستديم ، وينصح أن يكون الدخول مع وقت صلاة الظهر أي عند زوال الشمس ، هذا
أعدل الأوقات ، وأنسب لأكثر الناس ، إذ قبله يعد تبكيراً يفوت كثيرين من الفائدة، وبعده
يعتبر تأخيراً يشق على الناس ، ولو حمل مئات المنافع والفوائد .
(4) تكرار
الموضوعات وعدم التلون والتنويع ، واستحسار الخطيب عن البحث والتنويع والتجديد ، وفي
تنوع موضوعات القرآن واختلافها ، موعظة للخطيب والداعية ، أن ينوع درسه ، ويجدد أسلوبه
، ويغير مساره، حتى ينفع ويؤثر ويسلب الألباب .
(5) الخطبة
المعزولة عن حياتهم وشجونهم ، لا يعيرون لها اهتماماً ولا اعتباراً ، ويفكرون في استبدالها
بغيرها ، وهي خلاف الهدي النبوي .
(6) الأداء
البارد المهين الذي لا يعبر عن روح عزة الإسلام ولا ينسجم مع شمَم العقيدة ـ في صورة
رخوة مستكينة ـ هي أليق ببعض المحاضرات العامة ، وليس المنابر الخطابية .
(7) الحديث
الفوقي ، الذي يوحي باستعلاء الخطيب على الناس، وتميزه ،وسبقه العلمي والفكري ! ومثله
لا يزهد الناس فحسب، بل يكرههم لصنفٍ من الدعاة كهؤلاء ، وهو من أقبح المسالك ، وأردأ
الأحوال والسمات.
وقد قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله
أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخرَ أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد) . كما في صحيح
مسلم .
(8) الارتجال
المشوش الذي ينقلك من بحر لآخر ، ومن إقليم إلى قطر ومن فرع إلى أصل ، حتى تستهلك وقتاً
لا حد له وموضوعات لا حصر لها ، وفوائد لا أثر لها !
(9) شعورهم
بضعف الخطيب ، وقصوره اللغوي والشرعي والإلقائي ، وأنهم أقدر منه على هذه الوظيفة ،
لو أُتيح لهم .
(10) تحول
الخطبة إلى درس علمي ، أو محاضرة محشوة بالأرقام والإحصاءات والانقطاعات التي لا تحمل
سمت الخطابة ، وإنما هي أليق لشيء آخر !
(11) محاكاة
الخطيب لآخرين ، المحاكاة السمجة والتقليد المزيف ، الذي يقلل من هيبته ، ويمحو شخصيته
، ويجعله أصداء لآخرين ، ومتسلقاً على جهود من جَدَّ وأنتج، وتعلمَّ وأتقن .
(12) تجاهل
الخطيب لأحداث الأمة الكبرى ، (ومشكلاتها الجلى) ، التي يهم السامعون فهمها ، وتناولها
، ومعرفة انطباع الخطيب فيها، انطلاقاً من وحدة المسلمين وإخوتهم الدينية ، ورابطتهم
الفكرية .
ألفاظ تقادمت فمجتها الأسماع
1- قول
(عباد الله) كل جمعة ، ليس مرة ، بل مرات ، وكأنه لا يوجد نداء غيرها نحو : أيها الناس
، إخوة الإسلام ، أيها الإخوة الكرام وما شاكله ، وربما شاهدت خطيباً قد التزم هذه
أو غيرها أكثر من عقد من الزمان، وهذا شيء عجيب !
2- (أقول
قولي هذا ...) في ختام الخطبة الأولى، ولم تثبت ، لكن تناقلها الناس ، واعتقدوا تأكدها
في الخطبة ، والمشروع ختم الخطبة بالاستغفار كما ذكر ابن القيم في الهدى ، وليس على
وجه الإلزام .
3- من
الأدعية المكررة كل جمعة ، ولا يكاد يسلم منه خطيب (اللهم أعز الإسلام والمسلمين) وكأنه
لا يوجد سواه وليس في السنة ما يغني عنه، حتى أشعر السامعين بهزيمة الأمة ، وفشو المذلة
فيها وأنه لا قابلية لاستنفاذها وتحريرها .
وعند الترمذي دعاء ثابت صحيح (اللهم أعنا
ولا تعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، وانصرنا على
من بغى علينا ...) وغيره كثير ، ولو قال دعاء العز بن عبد السلام أحياناً فهو حسن
(اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً ، يعز فيه أهل طاعتك ...)
4- الافتتاحية
دائماً يقول (الحمد لله على
إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه
.... الخ ، وهذا ليس بجيد ، مع إهمال خطبة
الحاجة الثابتة، وهي أليق بمثل مناسبة الجمعة ، وهي تقال في كل حاجة ، وليست في النكاح
فحسب وقد جعلها بعضهم للجمعة كما صنع النسائي والبيهقي في سننهما ، والأكثر قيدوها
بالنكاح ولا وجه للتخصيص.
الانشراح النفسي
من أهم عوامل النجاح والإبداع ، أن تأتي
للموضوع وأنت منشرح النفس ، مسرور الخاطر ، فسيح الصدر ، وهذا سيجعلك أكثر احتراماً
للمنبر ، وتقديراً لعقول الناس .
وقد يكون من المستحسن للخطيب ألا يُكره
نفسَه على موضوع معين ، وأن يُجمَّ نفسه أحياناً عند التكدر بإنابة غيره من الفضلاء
لأداء الواجب ، لأن النفس تقبل وتدبر ، والقلب يحتاج إلى ترويح وانشراح ، والحياة غزيرة
المشكلات والأرزاء .
ومما يسهم في انشراح النفس واستعدادها الدعوي
:
(1) تحسين
الطاعة ، ودوام التبتل والمناجاة.
(2) الإحسان
إلى الناس ، وصنائع المعروف، وللصدقة سر كبير يدركه أهلها ، (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ
اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص : 77]
(3) الانقباض
، ولو يومين قبل الخطبة ليتم الاستعداد .
(4) تصحيح
النية ، ومجاهدة النفس تزكية وتنقية ، (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس:9] .
(5) محبة
الخير للخلق ، والتواضع معهم وملاينتهم وتقديرهم ، حيث يشرح الفؤاد، ويفتح مغاليق الصدور
، ومن لانت كلمته وجبت محبته .
(6) الحذر
من الذنوب لا سيما آفات اللسان ، والتحلي بالصمت الرزين (فليقل خيراً أو ليصمت) .
(7) سؤال
الله تعالى شرح الصدر ، وذهاب الغم والهم ، وأن ييسر أسباب الفتح والفرج (مَا يَفْتَحِ
اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا). [ فاطر : 2 ] .
مستوى الخطاب
ثمة مسافة كبيرة وشاقة بين خطاب الصفوة
، وخطاب العامة ، فمن كان خطيب عامة لا يصلح أن يكون خطيب صفوة ، وخطيب الصفوة يستطيع
النزول إلى مستوى العوام .
المهم أن يقدر الخطيب النابه كل موقف بحسبه
، وأن يراعي وضعية الجامع وموضعه، والمكان الذي ينتمي إليه .
وبعض القضايا صالحة في حياة الأمة لا تصلح
أن تكون ميدان حديث عند العوام ، (وجوامع المناطق النائية) لا تعرف أشياء كثيرة عن
مشكلات المدينة !
فالحذر الحذر من الزج بمشكلات المدينة وتعقداتها
إلى العامة .
وكذلك جوامع الأسواق من المفيد والجيد ،
تربيتهم إيمانياً وسلوكياً، وتعليم قوانين البيع والشراء ، وأدب السماحة ، ومحرمات
التعامل التجاري وفتح صناديق البذل والسخاء في نفوسهم .
وعند استشراء منكر من المنكرات ، في جهة
معينة ، ليس من الحسن نقله في قرية أخرى ، بالتغليظ والتهديد والاتهام ، لكأن الحضور
هم من يقارف ذلك ! والسبب جهل الخطيب بحاجة هؤلاء وتخصص أولئك بذاك!!
ومن الضروري جداً أنك إذا دُعيت إلى جامع
، أن تسأل عن موقعه ، وجمهوره ، وإقليمه ، ومشكلاتهم ، حتى لا تخلط الملح بالعسل، وتصب
الزيت في الماء وتجعل عباس في دباس كما يقال !
وإذا حُدد لك العنوان من أهل الجامع ، فالتزم
وكفاك الله مؤونة البحث، وهيبة الإحراج والانزلاق .
ومن المناسبات في الطرح أن لا تضخم العثرات
، أو تقزم الكبائر والمعضلات ، وأن يكون الدليل الشرعي رائدنا ، والحكمة الدعوية بغيتنا
حيث يعطى كل شيء قدره ، ويُقام له حقه وحظه .
وليس أحسن من الغطاء الشرعي في التحذير
من شيء ، أو الترغيب في فضيلة ، بلا مبالغات أو التورط في محذورات .
ومن المناسب في فقه الخطاب مراعاة مستوى
(ثقافة الحضور) ومقدار استيعابهم ، فلا يُحدَّث العوام بالقضايا المصيرية والفلسفية
التي تتجاوز حدود فهومهم ، وفي القرآن (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [ النحل : 125
] .
وقد قال علي رضي الله عنه (حدِّثوا الناس
بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله)؟! وفي مقدمة مسلم عن ابن مسعود (ما أنت محدث
قوماً حديثاً ، لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة) !
قد تنقلب الخطبة الرائعة الوفية إلى نوع
من المعاني المغلوطة والأفكار المقلوبة ، التي تحدث أمراً عكسياً على نفوس الحاضرين
.
كالذي يتحدث عن الأسماء والصفات ، وهو مبحث
عقائدي شائك أمام عامة يصفون الله بصفات الجمال والجلال والعظمة ! فلا داعي لذكره والتنقيب
فيه .
ويجب عند العامة تحاشي التفاصح المبالغ
فيه ، وغرائب الكلمات التي لا تستعمل إلا أمام النخبة من المثقفين ! ولا يعني ذلك تجويز
استعمال العامية وانخفاض اللغة ! كلا ولكن يرسل الكلام إرسالاً دون مبالغة وتفاصح وتقعر
، أما الحديث بالعامية فمذموم في الخطبة ، لرداءتها واعوجاجها ، بل يجب أن تكون الخطبة
فصيحة بليغة كما أفاده النووي في المجموع . (4/358)
والخطبة بالعامية لا تقل شناعة عن الخطيب
اللحان ، فهي آفة لسانية ، مكدرة للدعوة ، مزرية بالمتحدث ، مفسدة للذوق اللغوي .
ويغلب على خطاب النخبة الخطاب العقلي، والرقمي
الذي يدقق ويقرر ، ويحلل الظواهر ، ويقدم الرؤى المرشحة في ذلك ، ويميل للتقلل العاطفي
.
أما من دونهم ، فيجنح الخطاب إلى الإيغال
العاطفي والتعبئة الروحانية والأدبية ، حتى تزكو الأنفس ، وتُهرع للحسنات وتسلم
الآفات . ويعتمد التقليل من الخطاب العقلي
إلى حد ما . وهذه هي الحكمة المنشودة ، والتفقه الذكي الألمعي (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَّشْرَبَهُمْ) [البقرة :60].
ومن فقه الخطاب أن لا يكلف الناس ما لا
يطيقون ! فليس من الحكمة نسبة كل الأخطاء والمخالفات ، المتراكمة عبر قرون والتقهقر
الحضاري والهزيمة النفسية إلى جموع الحاضرين ، دون توازن وإنصاف ، ومحاولة التقدير
العقلي المحكم ، ومن المستقبح هنا تحدث بعضهم في مساجد الأسواق المهنية عن مثل ذلك
، وصب قضايا دولية موجعة ، وطرح مسائل فكرية عميقة إلى أناس يحضرون متأخرين ، وجل اهتمامهم
لقمة العيش وراحة البال !
خطب المناسبات
خطبة الجمعة ذات مناسبة أسبوعية ، وهي عيد
متجدد ولكن لما تكررت ، أُعطيت حجماً واسعاً من التثقيف والتنقيح والانتقاد .
أما ما عداها كخطب العيدين والاستسقاء والكسوف
فلها هديها الثابت ، ومسارها الصحيح .
لكن المتعين ذكره هنا ، الحرص على إصابة
السنة فيها ، واجتناب الأحاديث الضعيفة والموضوعة في ذلك ، إذ لا يزال بعضهم يردد في
الأعياد والاستقساء منكرات الأخبار ، وواهي الآثار ، التي هي آفة الخطب، وأزمة الكلمات
والتوجيهات .
وفي الصحيح غنية عن الضعيف ، لمن فكَّر
، وبحث ، ودقَّق وابتغى الفائدة والإتقان .
ويعاب على بعضها التطويل الممل ، والإطناب
الصاخب ، وكأنه يسرد فهرس العام، وحصاد المرحلة .
ومن خطب المناسبات ما يتعلق بموسم الحج
ورمضان ، والسنن الفاضلة ، ويعتقد كثير من الخطباء أنه يجب تخصيص خطبة لكل سنة يأتي
زمانها ، حتى إني رأيت بعض إخواننا الخطباء يتململ كيف يتناولها، وقد كرر كثيراً ،
وللإجابة : رمضان والحج موضوعاتها خصبة، وتفريعاتها كثيرة ، أما بالنسبة للسنن ، فليس
صحيحاً ذكرها كل وقت، لأن منها ما ذاع وانتشر ويكفي ذكرها ذكراً محدوداً ، وليس تخصيص
خطبة بطولها ومعانيها .
أخطب الناس
من يأسرهم بحديثه ، ويسلبهم بصدقه ، ويجمعهم
بروحانيته، ويقنعهم بطرحه ، ويغنيهم بفضله وعلمه ، ويراعي فهومهم ويلاحظ انتباهم وانصرافهم
.
وهو قليل نادر ، لكن بالصدق والجد ، تذلل
الصعاب وتتحطم المشاق .
وقد كان قبل الإسلام ، أخطب الناس : سحبان
وائل الباهلي ، وهو القائل :
لقد علم القومُ اليمانونَ أنني
إذا قلتُ أما بعد أني خطيبها
وضربوا في الأمثال لمن أحسن وأتقن : (أخطب
من سحبان وائل).
فابتغ في ذلك مقاصد المعاني ، وأرقى المباني
، وتحلَّ بالجد والصبر ودوام التنقل والتحديد ، مشعلاً همتك ، وحافزاً عزيمتك ، حتى
تكون ممن حمل الخطبة بجد ، وأخذها بقوها ، وحلاها بمحبة الله ، والنصح له ولدينه وعامة
المسلمين ، وإلا فدع وتنازل .
قل لمرجي معالي الأمور
بغير اجتهاد رجوتَ المحالا
وفقك الله ، وألهمك الجد والصدق والتفوق.
آمين
خطيب السنة
لقب عُرف به الإمام ابن قتيبة رحمه الله
، صاحب أدب الكاتب وعيون الأخبار ، وغريب الحديث .
كما عرف الجاحظ بأنه خطيب المعتزلة (الفتاوى
17/392) ونعني به في العصور الحالية من يوظف السنن على نفسه وأهل بيته، ويلتزم الهدي
الخطابي النبوي جيئة وذهاباً ، قولاً ونصحاً ، وترغيباً وترهيباً وإيجازاً وتطويلاً
، غير مسف ولا متكبر ، ولا غال ولا متحجر ، يغرس الإيمان غرساً ، ويرص أصوله رصاً ،
دون سجع متكلف ، ولا تقعر متعجرف ، ولا تعالم متفلسف ، وإنما يقتصد اقتصاداً ويفيد
إفاداً ، ولا يغرب إغراباً، حيث يفي بالمقصود ويصيب المحمود ، دون تزايد أو نقصان ،
أو إبخاس بالإنسان والإيضاح ، فهو من ترفّ له المصاطب وتهتز له المنابر ، وتسر به الجموع
والمجامع.
كما قيل في بعضهم :
تُضيء له المنابرُ حين يرقىَ
عليها مثلَ ضوء الزِبرقانِ
والزبرقان : هو القمر .
فكن خطيب السنة والجماعة ، لا خطيب البدعة
والفرقة والشناعة . (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها
بالنواجذ) .
صناعة خطيب
لو تأمل المتأمل ، وانتبه النبيه في حلقته
، ومدرسته وجامعته ، أن في الأفق ما يلوح ، وفي المزاهر ما يلمع ، وفي الألسن ما يرنّ
ويطيب، بحيث يصلح أن يكون الخطيبَ المرتقب ، والمتحدث النبَّار( ) ، الذي يبدو من نعومته
خطيباً ، ومن صباه لسناً أريبا ، فيصنعه الإمام ، ويهيئه المعلم ، ويقذف في قلبه نور
الإيمان ، وينابيع الحكمة ، ويحلي لسانه بنوادر الخطب ، ولوامع الأشعار ، ليزدانَ عذوبةً
وسهولة ، ويفوقَ رجاحةً وفخامة .
يصنعه للمستقبل ، وينيبه عند النوائب والشواغل
! فلقد أوتينا نعمة، وامتن الباري بمنةٍ ورحمة ، وذا هو الخطيب خِلقه وفِطرة ، فهو
(خطيب النفس) كما قالوا فقيه النفس .
وما أخلَقه بقول القائل :
إذا وُلد المولودُ منا تهلَّلت
له الأرضُ واهتزت إليه المنابرُ
فأعد لك خلَفاً ، وانشر عبَقاً ، وابقِ
فضلاً وذخراً وإياك وسداد الفراغ بمسودات الأوراق، ورَدْم الخروق ، بالقاصي والمخروق
!
العصف المنبري
لهيبته في قلوب أهله ، يشتت أذهانهم ، ويعصف
بهمومهم ويشيب رؤوسهم ، وقد قيل لعبد الملك بن مروان (عَجِل عليك الشيب
يا أميرِ المؤمنين ! فقال : كيف لا يعجل
عليَّ ، وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين ، أو قال : شيبني صعودُ
المنابر والخوف من اللحن) (جمهرة خطب العرب3/360) .
وذا هو العصف المنبري الذي يكدر الخاطر
، ويشيب له المفرق ، ويرق له الجسم، ويكبر به الهم !
ولكن عند أهله النُجُب ، وحملته الغُيُر
، الذي يتخذونه عبادة لا ريادة ، ويرأسونه استحقاقاً لا استرزاقاً ، ويؤدونه بعناية
لا طمعاً وجباية. والسلام .
الخطيب القراء
كل من يعرض عقله على الناس أو يوزع فكره
في الخلائق لابد له من موارد يرتادها ، ومن منابع يرتشف منها حتى لا تفرغ الجعبة، ولا
يجدب المتجر ، ويكون التكرار ويصاب بالإفلاس !
ومن أكثر الناس قراءةً ، المتحدثون والعلماء
، وملقو الدروس وأرباب الندوات والمناظرات ، فهم في تزايد ثقافي ، وفي تنامٍ معرفي
.
والخطيب صنف من أولئك ، جدير بالتزود المعرفي
، وبالاطلاع المتواصل ، وقد قال بعض المفكرين : (الخطيب الجيد قارئ جيد) .
فهو جيد في إطلاعه الفسيح ، وجيد في انتقائه
العذب ، وجيد في تحصيل معارفه ورغائبه ، وجيد في استثمار أوقاته ، وجيد في اقتناص موضوعاته
.
ويقبح أن يحض الناس على العلم ، ويتلو
(اقرأ) وهو من أقلهم قراءة ، وأدناهم معرفة .
ومن روائع كَلِم بعض الفضلاء : (من خدم
المحابر خدمته المنابر) ليستيقن هذا الخطيب ونظراؤه ، أنه بخدماته المنبرية وجهوده
القرائية ، ستلين له المصاعب المنبرية وتكسر الحواجز الخطابية ، وينتبه أثناء القراءة
، أن يكون سريعاً ، لبيباً ، متذوقاً ، ويراعي ما يلي:
1- تخصيص
ساعات معينة للقراءة اليومية ، مهما كانت الظروف والأشغال .
2- تنويع
القراءة ، وتنقلها في معارف عديدة .
3- تقييد
الأفكار اللافتة ، والتنبيهات الرائعة ، والأبيات الرائقة ، ليتم حفظها، ويصلح الاستشهاد
ببعضها .
4- تعميق
الجانب الشرعي ، واسترواح مكملات التثقف ومتممات المعرفة.
5- جرد
المطولات ، واستخلاص المباحث الرصينة منها التي تحسن خطباً ، وتطيب أحاديثَ ومواعظ
.
6- رصد
الكتب الجديدة ، لا سيما ما يتعلق بثقافة الخطيب وتزويده ، وتجارب المتحدثين والملقين
.
7- تحفظ
الأساليب الجميلة ، والكلمات الجزلة ، لا سيما ما يشيع في كتب اللغة والأدب ، فإنها
تزيد المنطق ، وتشنف الأسماع ، وتأسر الأفئدة .
عزل الخطيب
إنما يعزل الخطيب تقصيرهُ الشرعي ، وتأزمه
الخلقي ، وحماسه اللامحسوب ، وانقباضه المستكين ، وإثارته البلبلة ، وحديثه العامي
، وفكره المريخي ، ولحونه المتكاثرة .
(لما قيل للحسن : إن إمامنا يلحن ! قال
: أخروه) .
ومثل هذه المنزلة الشريفة لا يؤمها من قل
فقهه ، وانحرف سلوكه وفاحت رائحته .
وأقل ما يواجهه الناس به هجرانه ، والتباعد
عن سماعه والإصغاء له ، وهذا ما نعنيه هنا بعزله ، فهو وإن لم ينعزل حساً فقد انعزل
معنى وصار ممن أساء وقصّر ! فإن لم يصلح نفسه ، ويراجع منهجه فالتراجع راحة ، والاستتار
منجاة ، وإلا فالنقاد بصراء ، والألسن جارحة ، والعيون ناكئة ، والجزاء من جنس العمل
، ولا يظلم ربك أحداً .
فطِنٌ بكل مصيبةٍ في مالهِ
وإذا يُصاب بدينه لم يشعرِ
من آفات الإلقاء
(1) التزام
الورقة على كل حال ، واتساعها بشكل ملفت للنظر.
(2) استعمال
ألفاظ عامية ، أو كلمات مستهلكة تشمئز منها النفوس ، وتورث انطباعاً كئيباً لدى الحضور
.
(3) التفاصح
الغالي ، والتفاخر البعيد ، الذي يحول دون الفهم والإدراك .
(4) التمايل
والانهزاز غير المنضبط أثناء الأداء .
(5) ارتفاع
الصوت عن الحد المحمود ، أو انخفاضه عن المطلوب، فالأول مزعج، والآخر مفقود .
(6) تكرار
الجمل لغير حاجة ، وهذا ينتاب كثيراً المرتجل غير المنظم .
(7) فصل
الجمل عن بعضها ، والوقفات غير الصحيحة .
(8) كثرة
الكحة والسعال والتي توحي بسقم الخطيب ، وكان حسناً لو أناب غيره ، وما أتلف نفسه ،
وألقمها المواجع !
(9) عدم
وضوح الصوت ، أو ارتخائه ، أو هدوئه نحو ما يكون في المحاضرات العادية .
على مستوى الحدث
أضحى قولهم : (فلان على مستوى الحدث) كلمة
مدح وإطراء تنبيء عن حذقه ، وجودته ، وإتقانه لمهمته .
وفي (الحياة الخطابية) ، لما كان منبر الجمعة
من الشعائر الظاهرة، واستقُصد الإسلام ورسالته ، وشُن ضده ما يسمى بالحرب على الإرهاب
صار أحسن من يعبر عن الإسلام ، وعن دعوته وعلاقته بالأمم العلماء ، ومنهم الخطباء الذين
يصعدون بمئات الألوف كل جمعة ، وصارت وسائل الأنباء ترصد خطبهم ، وتحلل كلماتهم وتعجب
من تجمعاتهم .
فتوجب ارتقاء الخطيب شرعياً ، وفكرياً ،
وثقافياً حتى يكون على أتم دراية ، وأحسن مواكبة لكل ما يمس عقيدته ، أو يجادل في تعاليم
دينه .
وإلا كيف يواجه الزحف الثقافي والعسكري
، ويقاوم الفلسفات العالمية ، وهو منطوٍ على نفسه ، قليل البضاعة ، شحيح المحاكة بعيد
الصلات بالتحليلات والمنتديات!!
اعتقد أن مثل ذلك يحرق ورقه ، ويقتل جهده
، ويقلل من أثره وفاعليته .
ومثل هذه الأحداث الصِلاب ، التي تجتاج
أمتنا ، كافية أن تجعل الخطيب المقتدر على مستوى الحدث ، وأن تشارك في صياغة خطاب حضاري
للإسلام ، وتسهم في بلورة موقف سوي من الملمات الجِسام والأحداث الكبرى التي اضطربت
فيها فئات من النخب ، فضلاً عن عوام المسلمين .
وفي (الاستمساك النصي) ، والفقه الشرعي
الدقيق مخارج ومنافذ لكل باحث عن الحق ، متحرٍ في طلبه ، إذا الحق أبلج ، والباطل لجلج
والقرآن أمنة الضلال ، والسنة سفينة النجاة ، مَنْ ركبها نجا ، ومن تخلف عنها هلك ،
ولكن لنكن على مستوى الحدث ، وأن نقول الحق ، أينما كنا لا نخشى في الله لومة لائم
، يقول تعالى :
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ
وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً)
[الأحزاب : 39] .
وفي صحيح البخاري معلقاً بصيغة الجزم قال
أبو ذر رضي الله عنه : (لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثم ظننت أني
أُنفذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها) .
وفي هبوط الخطيب عن مستوى الحدث ، استكانة
منبرية غير محمودة ، قد تجر إلى تغييب الحق ، وبروز الباطل ، وتؤدي بالمتحدث إلى مستنقع
الإذلال والاسترزاق ، وهو ما تخوفه واستشنعه أبو إسحاق الالبيري لما قال :
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس لعظما
ولم ابتذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيت لكن لأُخدما
مسلك للارتجال
من طالت به السنين في المنبر ، وهو لا يزال
يحمل أوراقه ، ليحاول وهو مستجمع لثقافته ، وآلة النصح أن يقلل حجم الأوراق ، فيدنو
عددها ، ويتناقص حجمها ، فإذا كان يحمل أربع ورقات ليجعلها ثلاثاً ، ثم بعد زمن ورقتين
، وليقلص مساحتها ، ويجعلها من الحجم الصغير ، بحيث لا يراه إلا من هو قريب منه .
وليحاول إكمال الجمل من حفظه ، وليكثر النظر
للناس دون الورقة وبالإمكان التمرن على ما يلي :
(1) سرد
افتتاحية الحمد والثناء من الذهن ، دون الالتجاء للأوراق .
(2) الآيات
والنصوص يحاول ذكرها من حفظه .
(3) الصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء المتكرر ، ليقله من محفوظه ، فهو بهذا يحيط بثلث
الخطبة تقريباً من ذهنه .
(4) ليبدأ
الخطيب ، بالموضوعات السهلة ، كالصلاة والأخلاق وبعض أمور التوحيد التي يحسن ضبطها
.
(5) ليحاول
تطبيق ذلك حفظاً في الدار ، قبل مجيئه إلى المنبر عدة مرات.
(6) يتجاوز
كل حدود الذعر والخوف والتردد بالتوكل على الله تعالى والعزيمة الصادقة.
(7) يجسّد هذه التجارب في الجوامع النائية ، حيث لا
عليم يلحظ ، ولا بصير ينتقد، ويكرر الخطبة في أكثر من جامع ، حتى يمتلك الدربة الأولية
، ويؤسس الشجاعة المنبرية .
إضاءات منبرية
• "
إن استطعت أن تجذب الناس خمس دقائق فأنت مبدع ".
• "
من خدم المحابر خدمته المنابر " .
• "
إنما يُهَز المنبر باللوعة وصدق المخبر ".
• "
كم من خطبة جميلة أفسدها طولها الواسع" .
• "
الخطيب من يلامس جراح الناس ، ويغذي أرواحهم ويرتقي بمفاهيمهم " .
• "
الخطيب اللحان ، يقدم فاكهة في طبق متسخ " .
• "لا
خطيب إلا المرتجل ، ولا خطبة إلا الارتجال".
• "
إن علو المنبر من علو الخطيب علماً وفضلاً وخلقاً " .
• "
إن المنبر أمانة ، قتلها الجهالة ، ودفنها الاسترزاق " .
• "
بالمنابر الحية تنظم الشعوب ، ويقوي إصرارها " .
• "
ثقة الجماهير في المنابر من ثقتهم بالإسلام ، فلا تفسدها بالإهمال " .
• "
قارئ محضر خير من مرتجل مشوش ".
• "
عالج ضعف الصوت ، بحسن التحضير والإشفاق " .
• "
قد استشرف الناس لمقامك ، فلا تقتلهم بانهزامك " .
الخطبة والمأساة
تتلون مآسي الناس ، وجراحهم على المستوى
الشخصي ، ويحب كل واحد أن يجد أحياناً بلسماً في خطبة تطفئ لوعة المأساة ، أو تخفف
حرارة النكبة .
وعلى مستوى الأمة الكبرى ، تعظم المأساة
، وتشتد الأزمة ، فلقد أصبحت أمتنا العظيمة مسرحاً لأحداث الشرق والغرب ، وحرص أعداؤها
على زرعها بالقلاقل والبلابل ، فإن المكر شديد ، والعدو عتيد كما قال تعالى :
(وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الجِبَالُ) .
[ إبراهيم : 46 ]
وفي خضم ذلك تطمح الجماهير إلى سماع توجيه
سديد ، وموقف شرعي ، وحفز للهمم تجاه الظلم الفادح ، أو المجاعة المروعة ، أو الحرب
الجائرة ، ويرون أنه من ضعف الخطيب تجاهله لمثل ذلك ، لأنه لم يكن على مستوى الحدث
، ولم يهتم بأمر المسلمين ، ولم يلامس الجراح!
ولكثرة جراح المسلمين وشجونهم ، التهبت
المنابر ، ونشطت الخطب الفكرية ، ذات البعد السياسي والصراعي والأممي ، وهذا حسن ابتداءً
، ويؤجر عليه صاحبه لكننا ندعو (للاعتدال) ، ونرشد إلى ما يلي:
(1) التوسط
في تناوله القضايا المصيرية والأممية ، ومحاولة ربطها بقضايا الإيمان ، وفداحة الخطايا
المرتبكة ، وأن المصائب ثمرات الذنوب والتجاوزات . قال تعالى : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى : 30] .
(2) الحذر
من تحول الخطبة إلى منبر سياسي، وسرد للأخبار العالمية ، والأحداث والتصادمات على حساب
الوعي الشرعي ، والتزرد الإيماني والخلقي ، والخروج عن الهدي المشهور .
(3) لا
تنسينا المآسي الكبرى ، مأساة الفقر الجاثم ، والبطالة المتفشية ، والجهالة القائمة،
وفرداً استطعمَ الظلم الأكبر ، والمخادعة الخسيسة والغش التجاري ، الذي ينال أفراداً
من الأمة ، فاقدر لكل أمر قدره ، والبس لكل حالة لبوسها ، بلا ميل ولا إجحاف .
(4) تنوع
التوجيه المنبري ، وملامسته لكل الأطياف هو المسلك المستحسن ، والشكل المختار ، بحيث
لا ينأى الخطيب ، فيبتعد ولا يقرب فيمل ويضاق به !
(5) ربط
الخطبة بالواقع لا تعني الانهماك فيه، ونسيان قضايا الإيمان وأصول الإسلام ، ومحاسن
الآداب والشيم .
(6) من
علاج المأساة صناعة الأمل ، وبث روح السعادة ومنائر الضياء في المستمعين، والتفاؤل
كثيراً ، لتهيأ الأنفس ، وتصح العقول ، وتتحرك الجهود ، وربَّ قولٍ أنفذ من صول .
(7) عدم
تحميل الناس أكبر من طاقاتهم ، والحرص على تنمية العمل الفردي ، (والمسارعة الشخصية)
، فرب عامل يعيش بأقل من دولار يومياً يضيق بمثل ذلك ، ويرى ما هو فيه شغلاً عن الشغل
الأكبر الذي تتحمس له !!
(8) إن
تداعينا لإصلاح أمة كبرى ، وسيعة الجراح تبدأ من إصلاحنا لأنفسنا ، وتربية الجيل على
الفحص الذاتي ، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ) [ الرعد : 11 ] .
مع تأميننا لحقوقهم وتحسين أرزاقهم وفي
ذلك من خصوبة الإعداد وتأهيل الأرواح ، وقضاء الحقوق ما لا يخفى .
وليس من الحكمة إشغالهم بقضايا كبرى ، ومحنٍ
طامة ، وهم لم يتجاوزا مشاكلهم الشخصية ، ويلقون دوماً عنَت المعيشة ، وضيق الحريات!
فالاقتصاد هنا ، خير مسلك وأعدله .
والله الموفق .
هموم الفقه والدعوة
الفقه الإسلامي واسع الأرجاء ، متعدد المسائل
، كثير الأبحاث والفوائد ، والدعوة بوضعها التراثي ، وهمومها الحالية كالبحر الزاخر
الذي يتفاوت موجه من مكان لآخر ، قوةً وضعفاً .
وبعض الخطباء يستطيب ذكر كل شيء ويتناوله
من خلال المنبر ، وهذا متعذر ، وإذا بولغ منه أخرج المنبر عن وظيفته ! وليس المنبر
مستودع الفقه الثر ، ولا مخزون الدعوة المترامية ، بل يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق
، والقصدَ تبلغوا .
خطبة المنبر ساعة أسبوعية ، من المهم استغلالها
في مهمات القضايا ، وملحات المسائل عبر الحشد القرآني ، والزخم الحديثي من الآثار والشواهد
بالإيضاح والتقرير ، وحسن الربط والتحليل .
وهي بمقدارها الزمني القصير ، لا يمكن أن
تستوعب كل شئون الفكر الإسلامي ، أو الإتيان على غالبه بل لابد من منافذ أخرى ، تدعم
العملية التثقيفية ، وتلامس كل شئون المسلم وهموم الدعوة ومن ذلك الدروس والمحاضرات
، والقراءة عقب الصلوات والمؤلفات المنشورة .
وينصح كل خطيب جيد ، بإنشاء درس لبعض القضايا
الفقهية والعقائدية والدعوية ، التي لا تصلح للمنبر ، ولا يستطيع المنبر تغطيتها بسبب
ضيق وقته ، وتسارع الأحداث والقضايا .
ونرى هنا أن من الخطأ اعتقاد صلاحية المنبر
لكل القضايا ، أو أنه محتوى كل الأفكار والهموم والأطروحات !
إن المنبر (إشعاعة إيمانية) ، ولفتة تربوية
وتبصرة دعوية وتزكية روحية ، تفيض على الناس لطائف ومزاهر وإشراقات ، لكن لا يحيط بكل
شيء ، وفي الينابيع الأخرى ما يمكن التزود والارتواء من خلاله بحيث تصبح القضية تكاملية
.
كل يؤدي دوره ، ويأخذ من الآخر ما ينسجم
معه ، بلا مبالغة أو نقصان ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
معالم الخطبة النبوية
الرسول صلى الله عليه وسلم أخطب الخطباء
وأفصح الفصحاء فلقد جمله الله بمحاسن البيان ، وآتاه جوامع الكلم ، واختُصرَ الكلام
له اختصاراً ، وأوتي معه قدره وابتكاراً. ولخطبه الجليلة الشريفة معالم مهمة يجب الاقتداء
بها :
1- الإيجاز
البليغ ، وعدم التطويل إلا أحياناً وله أسبابه وظروفه .
2- البدء
بالتحميد والثناء ، والصلاة على نفسه صلى الله عليه وسلم والتشهد .
3- الوضوح
والبيان ، دون غموض أو تلبيس .
4- الإثراء
القرآني في الخطبة ، بحيث يضفي فيها القرآن جمالاً بمواعظه وقصصه وأسراره ، والصحابية
لم تأخذ ( ق ) إلا من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة قراءتها .
5- الترسل
في الكلمات والجمل ، حيث يحصيها المحصي ، ويعدها العاد.
6- قول
(أما بعد) بعد الحمد لله والثناء .
7- ارتفاع
الصوت وجلاؤه ، وجهوريته بلا كلل أو إزعاج .
8- التفاعل
الشكلي بإحمرار العينين ، واشتداد الغضب ، والنذارة الشديدة لا سيما موضوعات التخويف
والشدائد .
9- الأداء
قائماً (وتركوك قائماً) وفوائده :
أ- بروز
الخطيب للناس ، وارتفاع مكانته في عيون المشاهدين .
ب- إنعاش
صوته وتجليه .
ج- إعزاز
المنبر بإرتقائه وتعاليه وإظهار هيبته.
د- تفعيل
أثر الخطبة .
ه- شحن
الخطيب نفسياً لتعظم كلمته ، وتقوى حجته .
10- إنكار
المنكر ونصح من يلزمه النصح ، وتعليم الجاهل أثناء الخطبة .
11- محتواها
(على حمد الله والثناء عليه بألائه وأوصاف كماله ومحامده وتعليم قواعد الإسلام ، وذكر
الجنة والنار ، والميعاد ، والأمر بتقوى الله ...) . (زاد المعاد 1/188) .
12- يراعي
أحوال الناس وحاجاتهم (وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته ، فإذا رأى منهم ذا فاقة
وحاجة أمرهم بالصدقة ، وحض عليها) (زاد المعاد 1/189) ، (يخطب في كل وقت بما تقضتيه
حاجة المخاطبين ومصلحتهم) (زاد المعاد 1/428) .
(ويعلم أصحابه قواعد الإسلام وشرائعه)
(زاد المعاد 1/427)
(وهي تقرير لأصول الإيمان من الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله ولقائه بذكر الجنة والنار) (زاد المعاد 1/423)
13- تطويل
الصلاة وتقصير الخطبة .
14- تخير
الكلمات الجوامع ، والأساليب المختصرة المفهومة .
15- تحريك
السبابة عند الذكر والدعاء .
الخطبة بسورة ( ق )
لم تُحدَّد سورة أنه كان يخطب بها صلى الله
عليه وسلم ، وتلقَّفها الناس منه كهذه السورة الجليلة ، التي اكتسبت عظمتها من كونها
قرآناً مجيداً ، واحتوت موضوعات جليلة فيستحسن شرعاً قراءتها وترقيق الناس بها .
ولو شرحها متأملاً دروسها ، ورابطاً أسرارها
بواقعنا التاريخي لكان حسناً .
وقد تأملت هذه السورة فرأيت فيها من الموضوعات
ما يلي :
(1) ابتداء
الخلق والبعث وتعزيزه بحجج عقلية .
(2) عظمة
القرآن وفضله ومجادته .
(3) النشور
والمعاد .
(4) موقف
الكافرين والمكذبين من النذارة النبوية .
(5) القدرة
الربانية في بناء السماء وزينتها ، وامتداد الأرض وإنباتها.
(6) الامتنان
بنزول المطر ، وأثره في حياة الجنات والبساتين .
(7) تسخير
الأرزاق كالنباتات لبني آدم .
(8) ذكر
تكذيب الأمم السابقة كقوم نوح والرس وثمود وفرعون وأشباههم .
(9) علم
الله تعالى وإحاطته بالإنسان ، وتوكيل الملائكة بمراقبته ، وتسجيل حركاته وسكناته
.
(10) خطورة
اللسان ، وما قد يتلفظ به العبد دون مبالاة .
(11) وصف
الموت وشدة سكرته التي لا مهرَب منها ولا مناص .
(12) النفخ
في الصور ، وحشر الناس يوم القيامة بأعمالها .
(13) خطورة
التغافل عن اليوم الآخر .
(14) شهادة
الملائكة على ابن آدم يوم القيامة .
(15) ذكر
جهنم وبيان صفة ساكنيها .
(16) إعذار
الله إلى الخلائق بإرسال الرسل وإنزال الكتب .
(17) ذكر
الجنة ، وبيان صفة أهلها ، وخلودهم وسلامتهم ، وامتيازهم بالمزيد من الثواب ورؤية الباري
تبارك وتعالى .
(18) إهلاك
الله وتدميره للمكذبين الباطشين .
(19) بيان
خلق السموات والأرض في ستة أيام دون تعب أو نصب.
(20) ضرورة
الصبر على أذية المشركين .
(21) فضيلة
الاعتبار بمصارع الظالمين .
(22) أن
السمع والقلب آلتا التبصر والتأمل .
(23) الاستعانة
بالصلاة تجاه ما يحصل من أذى وتكذيب .
(24) وصف
أهوال القيامة ، وما فيه من عبر وعظات .
(25) سرعة
الناس في انبعاثهم من قبورهم ، وإجتماعهم للمقاصة والحساب.
(26) إن
الداعية ناصح ، ومبلغ ، لا مُكرِه ولا جبار .
(27) التذكير
بالقرآن ، وأنه موعظة الناس ، وهداية الخلائق ، لا سيما أهل الخوف والوجل من عذاب الله
ونقمته .
(28) قيام
الليل ، وأثره في حياة الداعية إلى الله.
(29) بيان
ذكر الله والتسبيح عقب الصلاة .
(30) فضل
الإنابة وخشية الله تعالى .
(31) إغواء
الشيطان لبني آدم وتبرؤه منه يوم القيامة .
(32) عدل
الله وامتناع ظلمه لعباده ، أو أن يؤاخذ أحد بجريرة الآخر.
فسورة تحتوي كل هذه الموضوعات ، والمعالم
، جديرة بالطرق والتناول ، وديمومة التفقه والتدبر لها .
وقد ذهب بعض شيوخنا إلى استحسان قراءتها
مجردة ، بلا تعليق وتبيين ، أو قراءة بعضها لا سيما لمن أوتي صوتاً حسنا .
وارتأى آخرون التفقه فيها ، وإبراز فوائدها
ليصح فهمها ، ويصدق تدبرها ، وهو مقصد القرآن ، قال تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [ محمد : 24 ] وكلا المسلكين حسن .
وبتنوع السورة ، وتكاثر موضوعاتها (يرتسم
منهج الخطبة) ، وأنه لون من التنوع الشرعي الذي يشمل ألوان الاعتقاد والسلوك ، ودلائل
القدرة ، وقصص المكذبين ، وأثر القرآن وأحوال الموت والقيامة ، ووصف الجنة والنار ،
والخلق والبعث والنشور وزاد الداعية وصبره وعدل الباري تعالى وإنعامه على بني آدم بصنوف
الخيرات والأرزاق .
كل هذه الموضوعات توحي بشمولية المنبر لقضايا
كثيرة ، وتلامس معارف شتى ، ويغرف من كل بحر ، ويقطف من كل زهرة ، مع التفاوت في كل
ذلك ، وتباين حجم القضايا والأفكار .
لكننا نؤكد هنا على أهمية نشر القرآن وتبليغه
عبر الخطبة التي تهتم بالآيات البينات، والموضوعات الشيقات ، قراءة وإرشاداً وتدبراً
وتفهيماً .
وفي الخطبة بالقرآن فوائد منها :
1- تقريب
القرآن للأمة ، وتجديد مكانته في نفوسهم .
2- وسيلة
لتدبره وتفهمه ، إذا انضاف إلى القراءة تبيان وتجلية.
3- تحقيق
معنى الموعظة وإذكائها ، إذ لا موعظة أزكى من كتاب الله تعالى ، قال تعالى : (وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا) [الشورى:52] .
4- إحياء
معاني الإيمان في حياة الناس ، والقرآن أجلُّ مقوماتها .
5- رفع
مستوى الخطبة من الإنشاء البشري ، إلى الخطاب الرباني الحكيم.
فقاهة الخطيب
ليست الخطبة سردا للمعلومات ، ولا نشراً
للعظات ، ولا صراخاً وضجيجاً وعويلاً فحسب ، بل إنها إلى ذلك نوع من العلم والموعظة
التي توشّى بالفقه ، والحكمة ، وحسن التناول .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم الموجز البليغ
(مئنة من فقهه) إشارة إلى تفقه الخطيب وعقلانيته في التعامل المنبري .
ويمكن أن نوجز فقاهة الخطيب فيما يلي :
(1) إيجاز
الخطبة ، وترك المطولات والمسهبات ، واعتقاد انعكاسها سلباً وضرراً على الجماهير المتدفقة
، ولو تمتعت بالجودة والإتقان .
(2) مراعاة
نفسية الناس ومدى إقبالهم وتفاعلهم، والحذر من تجريحهم والإساءة إليهم .
وقد قال صلى الله عليه وسلم على أعواد منبره
(لينتهين أقوام عن ودْعهم الجمعات).
فلم يعين أحداً ، ولم يخاطب شخصاً بعينه
!!
(3) عدم
تحديثهم بما لا يعرفون ولا يعقلون ، لئلا يوقعهم في الحرج أو يجرهم للانفلات .
(4) علاج
المشكلات الاجتماعية والمناكر ، بكل حكمة وروية .
(5) العزوف
عما قد يثيرهم تجاه المتحدث من انتقاد ، أو شبهة ، أو احتجاج كتضخيم الصغائر ، واستعمال
التهويل والمبالغات ، التي تنقلب عكساً على صاحبها ، وتضعف مكانته عند الناس ، لأن
مقتل الرجل بين كفيه ، فليحذر غاية الحذر .
(6) طرح
ما ينفعهم ويتلاءم مع مصالحهم دنيا وآخرة ويعود عليهم بالنفع وحسن العاقبة .
(7) ضبط
حدة الجماهير ، وتحركاتهم غير المحسوبة ، وإيجاد المسارات المناسبة للأفراد والجماعات
.
(8) عدم
الاغترار بالحشود المجتمعة ، وتوقع أنها لا تزال تحتاج المزيد من التربية ، والصقل
، والتأهيل ، وأن يتوقع أن هذا الحشد الجارف صورة من إفلاس الأمة خطابياً ، وأن مثله
يعد امتحاناً له ، لكي يجدد نيته ، ويراجع طويته ، ويفعّل تلك المواعظ إلى أعمال وممارسات
ومشاريع ملموسة ، وسؤال الله التوفيق والإخلاص في كل ذلك .
الجهاد الخطابي
إن توجه الألوف المؤلفة إلى الجوامع كل
أسبوع مشعر بما لهذه الشعيرة من عظمة في حياة المسلمين ، وهذا يتعين على الخطيب الجاد
، مضاعفة الجهد واستشعار أنه في (جهاد فكري) ووعظي أمام خصوم الإسلام ، مثيري الشبه
والاتهامات ، وتجاه الانفلات الأخلاقي السافر ، وانتشار الجرائم المتنوعة ، وركود دورة
الإيمان ، وتقلص الطاقات ، وفشو صور الهزيمة والفساد والتخلف في أنحاء الأمة.
قال تعالى : (فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ
وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) الفرقان:52] .
إن الجهاد الكبير الممارس في الخطابة ،
قوامه العلم وحسن التفقه ، والاستعداد الروحي والفكري ، وتحسس المسئولية الملقاة على
العاتق ، وأنها أثقل بكثير من مجرد نقل علم ، أو تبليغ خير ، يُقرأ في دقائق سريعة،
كلا .. ولكن الجهاد الخطابي والكفاح المنبري ، يوحي بأن المسئولية عظمى ، والأمانة
كبرى، والواجب شديد ، والكلمة ثقيلة ، والأمة متطلعة ...
حيث تهفو النفوس ، وتشخص الأبصار إلى منابر
المسلمين ، لتسمع ما يقرره الخطباء، وما يشدو به الدعاة والعلماء ، وما يبثونه كل جمعة
.
وكل ذلك يؤكد خطورة المنبر ، ومدى عمقه
في نفوس الأنام ، مما هو سبيل لإشعال الحس الخطابي ، والوقود الجهادي في نفسية الخطيب
، لكي يعطي المنبر مقامه ، ويقدم له حقه وإجلاله .
(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ
فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ) [الحج : 32] .
ومنبر الجمعة من أعظم شعائر الإسلام ، التي
لها من الجلالة والهيبة والرسوخ ، والتوهج ، ما يجعله كبيراً في حياة الداعية إلى الله
، وكل متحدث يرتقيه ليوجه الناس ، ويرقّق قلوبهم ، ويصحح مفاهيمهم .
لهذا فالخطيب الواعي ، يستشعر جهاده الخطابي
وأنه في معترك ساخن مع معالم الفساد المنتشرة وبؤر الانحراف ، وبراثن الفكر الأعمى
والمتطرف ، التي أسهم الانفجار الإعلامي في تغذيتها وتأجيجها في حياة الجيل ، كما قال
تعالى مبيناً كثرة هذا الخبث والضلال (قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ
أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ) [ المائدة : 100 ] .
والمنبر كلمة طيبة في عالم تفشى فيه الغي
والخبث والشذوذ ، فوجب الاستيقاظ والتنبه والمواجهة بكل عزة وحزم وصدق وتوكل .
وكثرة الشرور ما ينبغي أن تكون وسيلة للتراخي
والانهزام بل يجب أن تكون حافزاً للعمل والتحدي والمواجهة والصبر والتصدي، كما قال
تعالى : (َفاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ
يُوقِنُونَ) [الروم: 60] .
أرشيف المنبر
كل مخزونك الخطابي ، وتركتك الوعظية، لا
تزهد فيها ، ولو انحط مستواها ، أو ضعفت صياغتها ! بل احفظها ، واجعلها مخبأة عندك
في ملف خاص يعرف (بأرشيف المنبر) ، تسترشد بذكرياتها ، وتنتفع بعبرها ، وتعالج أخطاءها
وترصد تطورك الدعوي ، وتدرجك الخطابي ، وفيها فوائد لا تنقضي ، ليس المجال هنا تعدادها
ولكن نشير إلى أهميتها .
بعد سنين ، وسنين ... تجد أنه تكون عندك
مقدار ثر من خطبك التي تعدها بعلمك ، و(تسجلها بأنفاسك) ، وتعيش محاسنها ومآخذها ...
ولا يمكن أن تتنازل عنها ، أو تساوم فيها،
لأنها عصارة ذهنية ، ذات انتماء عاطفي ونفسي وتكشف مرحلة تاريخية من حياتك الدعوية
والعلمية .
ومع طول الخبرة ، واستدامة التعلم ، والتصحيح
والتنقيح ، لا يضير نشرها بعد عرضها على (عقول النابهين) ، وسؤال الله فيها التوفيق
والقبول ، لا سيما وأن الساحة لا تزال خالية من موسوعة الخطباء ، ومن الكتب الزاخرة
التي تمد الخطباء بالموضوعات المحررة ، والمواد الثرة ، وغالب المنشور ، تجارب منبرية
تتفاوت قوة وضعفاً ، وكثرة وقلة، وهي مع تفاوتها وقلتها لا تتلاءم مع عبادة تطل على
الناس كل أسبوع، لتفيض على قلوبهم ، وتحيي بصائرهم وتوجههم لخيري الدنيا والآخرة .
اللهم ارزقنا الألسن الصادقة ، والقلوب
الخاشعة ، والأعين الدامعة ، والبصائر
الحية ...
ربنا عليك توكلنا وإليك آنبنا وإليك المصير
...
ويسعدني أن أختم هنا بمنظومة المنبر .
تأليف :أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي -إمام وخطيب جامع الملك فهد بمحايل عسير
تأليف :أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي -إمام وخطيب جامع الملك فهد بمحايل عسير
مراجع للاستفادة
1- المتحدث
الجيد للدكتور / عبد الكريم بكار
2- فن
الإلقاء الرائع للدكتور / طارق السويدان
3- الشامل
في فقه الخطيب للدكتور / سعود الشريم
4- خمسون
وصية للشيخ / أمير المدري
5- الفوائد
المجتمعة للشيخ / محمد صبحي حلاق
6- فن
الخطابة للشيخ / علي محفوظ
7- الخطابة
للشيخ / محمد أبو زهرة
8- خطبة
الجمعة رؤية تصحيحة مقالات للدكتور / سلمان العودة
9- الخطابة
وميادينها للدكتور محمود رسلان .
مواقع إلكترونية مفيدة
1- موقع
المنبر .
2- ملتقى
أهل الحديث .
3- شبكة
صيد الفوائد .
4- موقع
الإسلام اليوم .
5- موقع
طريق الدعوة .
6- موقع
طريق الإسلام .
7- الشبكة
الإسلامية .
8- مواقع
العلماء والمشايخ والمشاهير .
إصدارات المؤلف
1- طلائع
السلوان في مواعظ رمضان .
2- نسمات
من أم القرى (1) .
3- تنبيهات
الأكابر .
4- المنسك
الوافر بنظم حديث جابر .
5- أزمة
الفهم .
6- وقفات
بهية من حياة ابن تيمية .
7- اللؤلؤ
المنظوم في تقريب العلوم .
8- لوعة
على شوقي .
9- من
أوابد الأشياخ .
10- صنوف
الجهلة .
11- بين
الأذانين .
12- الدرس
الرمضاني .
=============================
=============================
الى المعلم الى الخطيب ... وفقكم الله
أنت مادة الهدم في المجتمعات وأنت مادة البناء والعمران فاختر لنفسك
أيها الخطيب اتق الله واعط المنبر حقه وتكلم للناس بما يهمهم من واقع أمرهم
خوفهم ربهم خوفهم من هذا الذي يحدث فينا وماسببه
لامطر من السماء وقد كثرة الزلازل ...
أيها الخطيب تأتيك الناس من غير أن تتعب نفسك بدعوة لحضورهم لا بكلام ولا بمال
يكفيك المؤذن الأمر بقوله الله أكبر حي على الصلاة حي على الفلاح
تأتيك الناس لتسمع منك ماينفعهم في دينهم ودنياهم
فيرجع الناس منك وقد أجرت أجرا عظيما
فتعليم الناس الخير شراكة في أجرهم
وقد يرجع الناس وقد زاد وزرك بسبب سوء اختيارك الموضوع
وطريقة طرحك ... فمن أراد أن تزيد حسناته ويغفر الله له سيئاته
فليتكلم للناس ماينفعهم في دينهم ودنياهم
أيها المعلم أيها المدرس يامن تقف أمام الطلاب تكلم وانصح وحذِّر وأنذر
خوّفهم ربهم وأن ينتبهوا بالحال الذي يحيط بهم
يا أيها الخطيب اللبيب يا أيها المعلم الحبيب
لاتكونوا سببا في الشر وزيادته بل كونوا سببا في تغيير الحال الى أحسن الحال