تغيير
الفتوى بتغيير الأزمنة
والأمكنة
والأحوال والأعراف
أن أحكام
الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد، وإقامة اقسط بينهم، وإزالة المظالم
والمفاسد عنهم، وهذا ما ينبغي مراعاته عند تفسير النصوص وتطبيق الأحكام، فلا يجمد
الفقيه على موقف واحد دائم، يتخذه في الفتوى أو التعليم أو التأليف أو التقنين،
وإن تغير الزمان والمكان والعرف والحال، بل ينبغي مراعاة مقاصد الشريعة الكلية
وأهدافها العامة، عند الحكم في الأمور الجزئية الخاصة.
· كلام
ابن القيم في تغير الفتوى:
ومن
ثم قرر المحققون كالعلامة بن القيم وغيره: "أن الفتوى تتغير وتختلف باختلاف
الأزمنة والعوائد، والنيات" وعقد الإمام ابن القيم لذلك فصله الممتع في كتابه
"إعلام الموقعين" وقال في مقدمة هذا الفصل كلمته التي أصبحت مناراً
يهدتي به بعد:
"وهذا فصل عظيم النفع جداً، وقع –بسبب
الجهل به- غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه،
ما يُعلم أن الشريعة الباهرة- التي في أعلى رتب المصالح- لا تأتي به، فإن الشريعة
مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة
كله، ومصالح كلها، وحكمة كلها...
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن
الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من
الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل".
فالشريعة عدل الله بين عبادة ورحمته بين
خلقه وظله في أرضه، وحكمته الدارة عليه وعلى صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم
دلالة وأصدقها، وهي نورة الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون،
وشفاؤه الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على
سواء السبيل[1].
* *
* *
· الأحكام
الثابتة والأحكام المتغيرة:
وليس معنى هذا أن أحكام الشريعة كلها
قابله لتغير الفتوى بها، بتغير الزمان، والمكان والعرف، فمن أحكام الشريعة ما هو
ثابت عام دائم، ولا مجال فيه للتغير والاختلاف مهما دار الفك وتغيرت الظروف
والأحوال.....
وفي هذا يقول ابن القيم نفسه في كتابه
"إغاثة اللهفان"[2]:
الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة
هو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأثمة، كوجوب الواجبات،
وتحريم المحرمات، والحدود المقررة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك فهذا لا يتطرق
إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء
المصلحة له، زماناً، ومكاناً، وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن
الشرع ينوع فيها بحسب المصلحة، بعد أن ذكر ابن القيم جملة من الأمثلة والوقائع
الدالة على ذلك، قال: "وهذا باب واسع. اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام
الثابتة اللازمة التي لا تتغير، بالتعزيزات التابعة للمصالح وجوداً وعدماً".
وهذا الذي قرره المحقق ابن القيم بقوة
ووضح، وقرره –بصورة ما- علماء محققون في المذاهب الأخرى مثل الإمام القرافي
المالكي في كتابه "الإحكام" وكتابه "الفروق"، ومثل العلامة
الحنفي ابن عابدين في رسالته "نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف"
كما بيّنا ذلك في كتابنا "شريعة الإسلام"[3].
* *
* *
· هل
لتغير الفتوى دليل من القرآن؟
هذه
القاعدة الجليلة التي تقرر تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال النيات
والعوائد: هل نجد لها أصلاً ودليلاً من القرآن والسنة؟
أما
السنة، فقد ذكر ابن القيم عدة أمثلة منها، ومن أقوال الصحابة وأفعالهم، وسنفصّل
ذلك فيما بعد.
وأما
القرآن فم يحاول ابن القيم –رحمه الله- أن يستدل به، ولم أر أحداً غيره حاول
الاستدلال به على ذلك أيضاً.
ويلوح
لي أن من يدقق النظر في كتاب الله، يجد فيه أصلاً لهذه القاعدة المهمة، وذلك في
عدد من الآيات التي قال كثير من المفسرين فيها: منسوخة وناسخة.
والتحقيق
أنها ليست منسوخة ولا ناسخة، وإنما لكل منهما مجال تعمل فيه، وقد تمثل إحداهما
جانب العزيمة، والأخرى للندب ولاستحباب، أو إحداهما في حال الضعف، والأخرى في حال
القوة.... وهكذا...
نضرب
لذلك مثلاً قوله تعالى في سورة الأنفال: (يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ
يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ)[4]،
ثم قال: (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ
فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ
وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ)[5]
والمعنى
كما يقول صاحب المنار: "إن أقل حالة للمؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح
المائة منهم على المائتين، والألف على الألفين، وإن هذه الحالة رُخصة بحال الضعف،
كما كان عليه المؤمنون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، وهو وقت غزوة بدر، فقد
كانوا لا يجيدون ما يكفيهم من القوت، ولم يكن لديهم إلا فرص واحد، أو فرسان، وأنهم
خرجوا بقصد لقاء العير، غير مستعدين للحرب، ومع هذا كله كانوا أقل من ثُلث
المشركين الكاملي العُدة والأهبة.
ولما كملت للمؤمنين القوة، كما أمرهم الله
تعالى أن يكونوا في حال العزيمة كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر، وينتصرون
عليهم، وهل تم لهم فتح ممالك الروم والفُرس وغيرهم إلا بذلك؟ وكان القدوة الأولى
في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده ومن بعده".
وذهب بعض المفسرين إلى أن آية العزيمة من
هاتين الآيتين منسوخة بآية الرُخصة التي بعدها، بدليل التصريح بالتخفيف فيها:
(الأن خفف الله عنكم) ولكن الرُخصة لا تنافي العزيمة، ولا سيما وقد عُللت هنا
بوجود الضعف، ونسخ الشيء لا يكون مقترناً بالأمر، وقبل التمكن من العمل به،
والظاهر أن الآيتين نزلتا معاً.
وروى البخاري عن ابن عباس –رضي الله عنه-
قال: "ولما نزلت: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين....) شق ذلك على
المسلمين، حين فرض عليهم ألا يفر أحد من عشرة! فجاء التخفيف، فقال: (الأن خفف الله
عنكم وعم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين....) الحديث".
وهذه الرواية لا تدل على النسخ الأصولي
الذي زعمه بعضهم –وهو رفع الحكم الذي تضمنته الآية الأولى، وانتهاء العمل به إلى
الأبد- فقد تبين أن الآية الأولى عزيمة، أو مقيدة بحال القوة، والثانية رُخصة بحال
الضعف.
ومعنى هذا أن الآية الثانية تشرع لحالة
معينة، غير الحالة التي جاءت لها الآية الأولى، وهذا أصل لتغير الفتوى بتغير
الأحوال.
ومثل ذلك آيات الصبر، والصفح، والعفو،
والإعراض عن المشركين ونحو ذلك، مما قال كثير من المفسرين: نسختها آية السيف.
فالحق: أن لهذه الآيات وقتها ومجالها، ولآية السيف وقتها ومجالها كذلك، ولهذا
يجعلها السيوطي من قسم المنسأ، لا من قسم المنسوخ.
قال الإمام السيوطي في "الإتقان"
في النوع الثاني والأربعين من علوم القرآن وهو ما يتعلق بناسخه ومنسوخه:
"النسخ أقسام...." وذكر الأول والثاني منها ثم قال: "وثالثهما: ما
أمر به لسبب ثم يزول كالأمر –حين الضعف والقلة- بالصبر والصفح (أي مع الأعداء
المحاربين) ثم نسخ بإيجاب القتال".
قال: وهذا في الحقيقة ليس نسخاً، بل هو
من قسم "المنسأ" كما قال تعالى: (أَوْ
نُنسِهَا)[6]:
فالمنسأ الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر
على الأذى.
قال: وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن
الآية في ذلك منسوخة بآية السيف وليس كذلك، بل هي من "المنسأ" بمعنى: أن
كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما، لعله تقتضي الحكم، بل ينتقل بانتقال تلك
العلّة، إلى حكم آخر وليس بنسخ، إنما النسخ: الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله[7].
* *
* * *
·
أصل تغير الفتوى من
السنة:
الناظر في السنة
النبوية يجد لهذه القاعدة –تغير الفتوى- أصلاً فيها، ودليلاً عليها، في أكثر من
شاهد ومثال. وقد نبه على ذلك الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"[8]
بالإشارة إلى الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة: "أن رجلاً سأل النبي
صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم، فرخص له، وآتاه آخر فسأله، فنهاه، فإذا
الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه شاب".
وهذا
الحديث ضعيف السند لا يعتمد عليه في إثبات هذه القاعدة المهمة إلا أن لهذا الحديث
شاهداً بشد أزره، رواه الإمام أحمد في مسنده، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب، فقال: يا رسول الله، أقبل
وأنا صائم؟ قال: نعم. فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد
علمت نظر بعضكم إلى بعض. إن الشيخ يملك نفسه"[9].
على أن الاستدلال لهذه القاعدة الجليلة
لا يتوقف على هذا الحديث، أو ذاك، فهناك أحاديث صحاح يمكن الاستدلال بها، مثل:
حديث سلمة بن الأكوع، عند البخاري، وغيره. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"من ضحى منكم، فلا يصبحن بعد ثلاثة، ويبقى في بيته منه شيء".
فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول
الله، نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: "كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك
العام كان بالناس جهد (أي شدة وأزمة) فأردت أن تعينا فيها".
وفي
بعض الأحاديث: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت" يعني القوم الذين
وفدوا على المدينة من خارجها.
ومعنى
هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام في
حالة معينة، ولعلة طارئة، وهو وجود ضيوف وافدين على المدينة في هذه المناسبة
الطيبة، فيجب أن يوفر لهم ما يوجبه كرم الضيافة، وسماحة الأخوة من لحم الضحايا،
فما انتهى هذا الظرف العارض، وزالت هذه العلة الطارئة، زال الحكم الذي أفتى به
الرسول تبعاً لها، فإن المعلول يدور مع علته وجوداً وعدماً، وغير النبي الكريم
فتواه من المنع إلى الإباحة، ولهذا صرح في أحاديثه بإباحة الإدخار بعد ذلك قائلاً:
"كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي، فكلوا وأطعموا، وادخروا" كما في
الصحيح.
فهذا
مثل واضح لتغير الفتوى بتغير الأحوال.
وأكثر
الفقهاء على اعتبار هذه الإباحة نسخاً للنهي المتقدم، ويذكرن هذا الحديث مثلاً من
أمثلة النسخ، كحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها".
والتحقيق
أنه ليس من باب النسخ، بل من باب النفي الحكم لانتفاء علته، كما أشار إلى ذلك
الإمام "الشافعي" – رضي الله عنه- في آخر "باب العلل في
الحديث" من كتابه "الرسالة" حيث ربط النهي عن الادخار بالدافة.
ووضح
ذلك الإمام "القرطبي" في تفسيره، منكراً أن يكون من النسخ قائلاً:
"بل هو حكم ارتفع لارتفاع علته، لا
لأنه منسوخ، وفرق بين رفع الحكم بالنسخ، ورفعه لارتفاع علته. فالمرفوع بالنسخ لا يحكم
به أبداًن والمرفوع لارتفاع علته يعود بعود العلة، فلو تقدم على أهل بلدة ناس
محتاجون في زمان الأضاحي، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا
الضحايا، لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث، كما فعل النبي صلى الله عليه
وسلم"[10].
وقد
فهم الراشدون من الصحابة هذه المعنى، فجاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي
الله عنه- أنه صلى بالناس في يوم العيد، ثم خطبهم فنهاهم عن الادخار فوق ثلاث،
مذكراً إياهم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ما جعل القائلين بالنسخ هنا
يحارون في موقف علي، فقال بعضهم: لعله لم يبلغه النسخ، ولكن الإمام أحمد روي ما
يدل على أنه بلغته الإباحة والرخصة.
فالراجح
إذن أنه قال ذلك في وقت كان بالناس جهد وحاجة، وبهذا جزم ابن حزم كما في فتح
الباري.
قال
الحافظ: والتقييد بالثلاث واقعة حال، وإلا فلو لم تسد الحاجة إلا بتفرقة الجميع
لزم –على هذا التقدير- عدم الإمساك ولو لليلة واحدة[11].
والشاهد
هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حال لمنع ادخار لحوم الأضاحي، ثم غير
فتواه من المنع إلى الإباحة، لما تغيرت الظروف، وهو دليل بين على صحة القاعدة التي
قررها ابن القيم –رحمه الله-.
وأشهر
من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب عن السؤال الواحد بأجوبة مختلفة،
وذلك لاختلاف أحوال السائلين، فهو يجيب كل واحد بما يناسب حاله، ويعالج قصوره أو
تقصيره.
فقد
وجدنا من يسأله عن وصية جامعة فيقول له: "لا تغضب"، وآخر يقول له:
"قل: آمنت بالله ثم استقم"، وآخر يقول له: "كف عليك لسانك".
وهكذا
يعطي كل إنسان من الدواء ما يرى أنه أشفى لمرضه، وأصلح لأمره.
ومن
هذا ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: "جهاد في
سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"[12]
فجعل الجهاد في سبيل الله أضل الأعمال بعد الإيمان.
وفي هذا المعنى جاءت أحاديث شتى تجيب
السائلين بأن الجهاد لا يعدله عمل آخر، إلا من استطاع أن يصوم الدهر فلا يفطر،
ويقوم الليل فلا ينام!
ولكن
البخاري نفسه روى عن عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله،
نرى الجهاد أفضل العمل! قال: "كلن أفضل الجهاد حج مبرور"[13]
تروى كلمة: "لكُن" بضم الكاف وهو الأكثر، على أنها خطاب للنسوة،وبكسرها
مع مد اللام، على أنها للاستدراك، والمراد واحد، وهو أن الجهاد إن كان أفضل العمل،
فذلك في حق الرجال، أما النساء فأفضل جهاد لهن الحج المبرور.
فهنا
تغيرت فتواه وجوابه صلى الله عليه وسلم لما كان السائل امرأة، إذ الأصل في حمل
السلاح أن يكون للرجال.
وهذا
كله –وغيره كثير- أصل في تغير الجواب أو الفتوى بتغير أحوال السائلين، فكيف إذا
تغير الزمان والمكان؟
*
* * *
·
هدي الصحابة في تغير
الفتوى:
والناظر في هدي
الصحابة وسنة الراشدين –رضي الله عنهم- يجدهم أفقه الناس في استعمال هذه القاعدة-
قاعدة تغير الفتوى بتغير موجباتها- ولذلك أمثلة عديدة يجدها من يطلبها في مظانها.
نذكر شيئاً منها هنا:
· تغير
فتواهم في عقوبة شارب الخمر:
فمما
تغيرت به فتواهم بتغير الزمن والحال عقوبة شارب الخمر، فإنه لم يكن فيها في زمن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حد مقدر وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزير.
روى
البخاري عن عتبه بن الحارث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بنعيمان أو ابن
النعيمان، وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، بالجريد والنعال،
وكنت فيمن ضربه"[14].
وروي أيضاً عن أبي هريرة قال: "أُتي
النبي صلى الله عليه وسلم برجل شربن قال: اضربوه. قال أبو هريرة: فمنا الضارب
بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فما انصرف قال بعض القوم أخزاك الله! قال: لا
تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان"![15].
وأخرج عبد الرازق في مصنفه عن معمر وابن
جريج: "سئل ابن شهاب: كم جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ قال: لم
يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض فيها حداً، كان يأمر من حضره أن يضربوه
بأيديهم ونعالهم، حتى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا"[16].
وروي
أيضاً نحو ذلك عن عبيد بن عمر من كبار التابعين وسيأتي بعد.
بل ورد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يضرب شارب الخمر أصلاً في بعض المواقف، وذلك فيما أخرجه أبو داود والنسائي بسند
قوي –كما في الفتح- عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى عليه وسلم لم يوقت في
الخمر حدا. قال ابن عباس: وشرب رجل فسكر، فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فيما حاذى دار العباس، انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي صلى الله
عليه وسلم فضحك، ولم يأمر فيه بشيء"[17].
وأخرج الطبري من وجه آخر عن ابن عباس:
"ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيراً، ولقد غزا تبوك،
فغشى حجرته من الليل سكران، فقال، ليقم إيه رجل، فيأخذه بيده حتى يرده إلى
رحلة"[18].
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم تساهل
في أول الأمر لقرب عهدهم من إباحة الخمر، متى إذا استقر التشريع ضرب وجلد، وإن لم
يوقت حداً، بل جلد الأربعين، ودون الأربعين،وفوق الأربعين، كما يبدو ذلك من مجموع
الروايات.
ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر –رضي الله
عنه- قرر العقوبة أربعين، على طريق النظر،كما قال الشاطي[19]
فقد روى البيهقي عن ابن عباس: أن الشراب كانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم هذا! فتوخى لهم نحواً مما
كانوا يضربون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر –رضي الله عنه= يجلدهم
أربعين حتى توفى[20].
وهذا
يدل على أن تقديره للضرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تقدير تقريبي، كما جاء
في حديث أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب نحواً من أربعين"، وكلمة
"نحواً" تدل على التقريب لا على التحديد.
وروى
عبد الرازق عن أبي سعيد الخدري: أن أبا بكر ضرب في الخمر بالنعلين أربعين[21]،
والضرب بالنعلين ليس جنس ضرب الحدود المقدرة.
فلما
كان عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- شاور الناس في جلد الخمر، وقال: إن الناس قد
شربوها، واجترأوا عليها! فقال علي: إن السكران إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى (أي
قذف الأبرياء) فاجعله حد الفرية (أي القذف) فجعله عمر حد الفرية ثمانين[22].
ومنى
هذا: أنهم أقاموا السبب مقام المسبب، أو المظنة مقام الحكمة، فرأوا الشرب إلى
الافتراء، الذي تقضيه كثرة الهذيان.
وجاء
في سبب هذه المشاورة من عمر: "أن خالد بن الوليد كتب إليه:إن الناس قد
انهمكوا في الشرب وحاقروا العقوبة"[23].
وروى
مسلم والنسائي: "أن عبد الرحمن بن عوف قال لعمر حين استشارهم: أخف الحدود
ثمانون، فأمر به عمر"[24].
وفي مرسل عبيد بن عمير –عند عبد الرازق-
قال: "كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه، فكان ذلك على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وبعض إمارة عمر، ثم خشى يغتال الرجل،
فجعله أربعين صوتاً، فما رآهم لا يتناهون، جعله ستين، فما رآهم لا يتناهون، جعله
ثمانين، ثم قال: هذا أدنى الحدود"[25].
وهذا يدل على أنه
وافق عبد الرحمن في أن الثمانين أخف الحدود، أي الحدود المذكورة في القرآن، فهو
أنف من حدّي الزنا والسرقة.
وقد
روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: "كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وإمره أبي بكر، وصدراً من عمر، فنقوم بأيدينا ونعالنا، وأرديتنا
حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين".[26]
والمراد
بآخر إمرته: وسطها،كما يدل عليه قوله: "وصدراً من خلافة عمر"، وقد روي
النسائي الحديث نفسه بلفظ[27]:
"حتى إذا كان وسط إمارة عمر فجلد فيها أربعين، حتى إذا عتوا"...إلخ[28].
أما
عثمان فجلد ثمانين وأربعين، وعلي ورد عنه الأمران، قال: كل سُنة. ومعاوية أثبت
الجلد ثمانين[29].
والذي
يعنينا مما ذكرناه هنا: أن الصحابة –رضي الله عنهم- لم يثبت لديهم أن النبي صلى
الله عليه وسلم وقت الخمر حداً معيناً، ولو ثبت لهم ذلك لم يحتاجوا إلى المشاورة
فيه، وإلى استعمال الرأي، بالقياس على القاذف أو أخف الحدود، وغير ذلك من
الاعتبارات.
وإذا
لم يثبت لديهم نص ملزم، فقد تغير حكمهم، واختلفت فتواهم بتغير الزمن، واختلاف
الأحوال، كما نجد ذلك واضحاً في خلافة عمر، الذي جلد أربعين ثم ستين، ثم ثمانين،
كلما رأى الناس لا يتناهون ولا يزدجرون.
بل
ورد أن عليا –رضي الله عنه- زاد في العقوبة على ثمانين في بعض الأحوال، فقد روي أن
النجاشي الحارثي الشاعر قد شرب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثم حبسه فأخرجه من
الغد، فضربه عشرين،ثم قال له: "إنما جلدتك العشرين لجرأتك على الله، وإفطارك
في رمضان"[30].
هذا،
مع ما ورد عن علي في روايات أخرى، أنه استحب ألا يزيد في الجلد على أربعين.
وجاء
عن عمر أنه زاد النفي على الضرب في مثل هذه الحالة، لما فيها من انتهاك حُرمة
الشهر الكريم، فقد أُتي بشيخ شرب في رمضان فقال: للمنخرين... للمنخرين (أي كبه
الله للمنخرين) أفي شهر رمضان، وولداننا صيام؟! فضربه ثمانين، ثم سيّره إلى الشام[31].
وهذا يدل على أن العقوبة تختلف باختلاف
حال المجرم، ومقدار عتوه، واشتهاره بالفجور، وتكرر الجريمة منه مرّة، وعدم ارتداعه
بالعقوبة، فمثل هذا يشد عليه، بخلاف من لم يُشتهر بفسق ولا فجور.
ولهذا
جاء في بعض الروايات: أن عمر كان إذا أُتى بالرجل الضعيف تكون منه الزلّة، جلده
أربعين[32]،
أي بخلاف الفاجر المصرّ على الكبيرة.
وهذا
ما جعل عمر بن عبد العزيز يقول: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من
فجور".
والعجيب،
أن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- الذب أشار على عمر بجلد الشارب ثمانين، لأن
الشرب مظنة الافتراء والقذف، رجع عما أشار به على عمر، ورأي بعد ذلك أن يكتفي
بأربعين، كما جاءت لذلك الروايات، وإن ضعّفها البعض وردّها.
ولا
حاجة إلى ردها فيما أرى، فما دامت العقوبة غير مقدرة نصاً، فهي متروكة لأولي الأمر
واجتهادهم، فلعل عليا –رضي الله عنه- رأي الناس قد ارتدعوا في زمنه، بعد تغليظ
العقوبة في حقهم، فرأى العودة إلى التخفيف، كما كان عليه الحال في عهد
النبوة، وخلافة أبي بكر.
وفي
الصحيحين عن علي –رضي الله عنه- أنه قال: "كنت لأقيم حداً على أحد فيموت،
وأجد في نفسي شيئاً، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته –أي دفعت ديته لأهله- وذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه" يعني: لم يقدر فيه حداً معلوماً.
ولهذا
حكى الطبري وابن المنذر وغيرهما عن طائفة من أهل العلم: أن الخمر لا حد فيها،
وإنما فيها التعزير، بدليل الأحاديث الصحيحة التي سكتت عن تعيين عدد الضرب، وما
جاء عن ابن عباس وابن شهاب من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقتصر في ضرب
الشارب على ما يليق بحاله.
وقال
الإمام الشوكاني في متن "الدرر البيهية" : "من شرب مسكراً –مكلفاً
مختاراً- جلد على ما يراه الإمام: إما أربعين جلدة، أو أقل أو أكثر، ولو
بالنعال".
وأكد
ذلك شارحه السيد صديق حسن خان في "الروضة الندية" أخذاً من مجموع
الأحاديث الواردة في الباب قائلاً: فيكون على هذا من جملة أنواع التعزيز.[34]
والظاهر
من صنيع الإمام البخاري في صحيحه: أن هذا هو مذهبه أيضاً، كما ذكر الحافظ ابن حجر.
قال:فإنه لم يترجم بالعدد أصلاً، ولا أخرج هنا في العدد الصريح شيئاً مرفوعاً.[35]
والمقصود
من كل ما ذكرناه هنا: هو بيان تغير فتوى الصحابة –رضي الله عنهم- في عقوبة شارب
الخمر من عصر لعصر، ومن حال لحال، حيث لم يلزمهم نص بحد معين عن الله ورسوله. وهو
يؤكد ما قلناه من وجوب تغير الفتوى بتغير موجباتها.
* *
* * *
· تغير
فتوى الصحابة في زكاة الفطر:
ومثل آخر نضربه لتغير
الفتوى بتغير موجباتها في زمن الصحابة –رضي الله عنهم- ونأخذه هذه المر من باب
الزكاة.
فقد فرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، صاعاً من طعام من تمر، أو زبيب، أو شعير، أو أقط،
كما صحت بذلك الأحاديث.
ولكن صح عن عدد من الصحابة أنهم رأوا في زمنهم
نصف صاع من قمح، يعدل صاعاً من تمر أو شعير، فأرجوا نصف صاع من القمح زكاة فطرهم.
قال بن المنذر: لا نعلم في القمح خبراً ثابتاً
عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة ذلك الوقت إلا
الشيء اليسير منه. فما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من
الشعير.[36]
ثم روى ابن المنذر عن
عثمان، وعلي، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وابن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر:
أنهم رأوا في زكاة الفطر نصف صاع من قمح.
وروى الجماعة عن أبي
سعيد الخدري قال :كنا نخرج زكاة الفطر إذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب،أو صاعاً من
أقط، فم نزل على ذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة فقال: إني لأري مدين (أي نصف
صاع) من سمراء الشام (يعني القمح) تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناي بذلك.
هؤلاء هم الصحابة
الذي ذكرهم ابن المنذر وغيره، وكذلك معاوية ومن وافقه، أجازوا إخراج نصف صاع من
القمح، مع أن المنصوص عليه، والمعمول به، منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
هو صاع، ولكنهم لما لاحظوا في زمنهم غلاء ثمن القمح بالنسبة لأثمان الأطعمة
الأخرى، مثل الشعير والتمر، رأوا إخراج نصف الصاع من القمح، من باب المعادلة في
القيمة.
* *
* *
· تغير
فتوى عمر في زكاة الخيل:
ومثل ذلك موقف عمر من
زكاة الخيل....
فقد روى الإمام أحمد
والطبراني: أن أناساً من أهل الشام جاءوا عمر فقالوا: إنا أصبنا أموالاً: خيلاً،
ورقيقاً، نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور. قال: ما فعله أصحابي قبلي فأفعله.
واستشار أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم فقال علي: هو حسن، إن لم تكن جزية راتبة يؤخذون بها من بعدك.[37]
وأخرج عبد الرازق
والبيهقي عن يعلى بن أمية قال: ابتاع عبد الرحمن –أخو يعلى- من رجل من أهل اليمن
فرساً أنثى، بمائة قلوص (ناقة شابة) فندم البائع، ولحق بعمر، فقال: غصبني يعلى
وأخوه فرساً لي! فكتب عمر إلى يعلى: أن الحق بي، فأتاه، فأخبره الخبر، فقال: إن
الخيل لتبلغ هذا عندكم؟ ما علمت أن فرساً يبلغ هذا! فنأخذ من كل أربعين شاه، ولا
نأخذ من الخيل شيئاً؟ خذ من كل فرس ديناراً، فضرب على الخيل ديناراً ديناراً.[38]
ولم تذكر الروايات أن
هذه القصة بعد تلك، ولكن هذا هو المعقول المناسب، فعمر في القصة الأولى كان
متردداً أن يفعل شيئاً لم يفعله الرسول، ولا أبو بكر قبله، ولهذا أستشار الصحابه،
وأشار عليه علي برأيه.
وأما في هذه القصة،
فالظاهر أنه لم يستشر أحداً، بل كانت القضية واضحة أمام فكره تمام الوضوح، وكون
فيها رأيه بعد ما رأى وسمع، وأمر واليه أن يأخذ من كل فرس ديناراً،[39]
فهنا غير عمر فتواه في زكاة الخيل، بتغير الزمان والحال، ولم يجمد على ما انتهى
إليه الرأي في القصة الأولى، فإن الاجتهاد يتغير ملابساته.
وقد أفتى مرة بفتوتين
مختلفتين في قضية واحده، في زمنين مختلفين، فما سئل في ذلك قال: ذلك على ما علمنا،
وهذا على ما نعلم.
* * * *
·
فتوى عمر في المؤلفة
قلوبهم:
ومن ذلك ما رآه عمر في وقف إعطاء الزكاة
لم عرفوا في العهد النبوي، وعهد أبي بكر باسم "المؤلفة قلوبهم" وقال: إن
الله أعز الإسلام، وأغنى عنهم!
وليس هذا نسخاً لما جاء في القرآن
الكريم، والسنة النبوية، ولا إسقاطاً فهذا السهم إلى الأبد، كما فهم ذلك بعض
الأئمة، بل الصواب: أن السهم باق لم يلحقه نسخ، إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وكيف
ينسخ عمر والصحابة معه ما ثبت بالقرآن والسنة، وظل النبي صلى الله عليه وسلم يعمل
به إلى آخر حياته، وعمل به أبو بكر من بعده؟
كل
ما فعله عمر، أنه لم ير حاجة إلى التأليف في عهده، ومنع أناساً اسمرأوا الأخذ من
الزكاة تحت عنوان التأليف.
وتقرير
الحاجة إلى التأليف أو عدمها، واختيار الأشخاص أو الفئات التي تتألف قلوبها، من حق
الإمام بمشورة أهل الرأي من حوله، وهو أمر تتغير فيه الفتوى من زمان إلى زمان، ومن
حال إلى حال.[40]
* * * *
· فتوى
عمر في طلاق الثلاث:
ومن ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية
من إلزامه –رضي الله عنه- للمطلق ثلاثاً بكلمة واحدة، بالطلاق، وهو يعلم أنها
واحدة، ولكن لما رأي إكثار الناس منه، رأى عقوبتهم بإلزامهم به، ووافقه على ذلك
رعيته من الصحابة، وقد أشار هو إلى ذلك فقال: "إن الناس قد استعجلوا في شيء
كانت لهم فيه أناة، فو أنا أمضيناه عليهم"؟ فأمضاه عليهم ليقلوا منه، فإنهم إذا
علموا أن أحدهم إذا أوقع الثلاث جملة وقعت، وأنه لا سبيل له إلى المرأة، أملك عن
ذلك.[41]
فكان
الإلزام به عقوبه، لمصلحة رآها، ولم يكن يخفى عليه أن الثلاث كانت في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، تجعل واحدة، بل مضى على ذلك صدر خلافته، حتى أكثر
الناس من ذلك، وهو اتخاذهم لآيات الله هزواً، كما في المسند وسنن النسائي وغيرها
من حديث محمود بن لبيد: فلما أكثر الناس من ذلك عاقبهم به، ثم إنه ندم على ذلك قبل
موته، كما ذكره الإسماعيلي في مسند عمر.
*
* *
تغير
الفتوى في قسمة الأرض المفتوحة:-
ومما تغيرت فيه الفتوى في زمن الصحابة ، قضية قسمة الأرض، التي
يفتحها المسلمون عنوة،على الفاتحين المقاتلين، وما حدث فيها من خلاف في زمن عمر –
رضي الله عنه-.
فقد رأي بلال ومعه بعض الصحابة : أن
تُقسم أرض الشام بعد فتحها، على من فتحوها بسيوفهم، محتجين بأن النبي صلى الله
عليه وسلم قسم أرض خيبر بعد فتحها، وهو موافق لعموم قوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ
أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ)[42]
ويفهم منها أن أربعة أخماسها للفاتحين ،
وفي بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم قسم نصف خيبر، ووقف نصفها لنوائبه.
ولكن عمر، ومعه جماعة من فقهاء الصحابة
مثل علي ومعاذ – رضي الله عنهم – رأوا عدم تقسيمها وإبقائها في أيدي أربابها، على
أن يدفعوا عنها خراجاً يكون لمصلحة جميع المسلمين في حاضرهم، وذخراً للأجيال التي
تأتي بعدهم، وعبر الفقهاء عن ذلك بوقفها على كافة المسلمين.
وهكذا فعل عمر في سواد العراق وغيره،
واستمر عليه من بعدهم الخلفاء.
وأما قسمة النبي صلى الله عليه وسلم
خيبر، فقد ورد أنه قسم نصفها فقط، ووقف نصفها لنوائبه، على أنهم قالوا: "إنها
كانت في بدء الإسلام، وشدة الحاجة فكانت المصلحة فيه، وقد تعينت المصلحة فيما بعد
ذلك في وقف الأرض، فكان ذلك هو الجواب.
وقد قال عمر: " لولا أخر الناس (أي
الأجيال المستقبلة) لقسمت الأرض، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر" فقط
وقف الأرض، مع علمه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فدل على أن فعله ذاك صلى الله
عليه وسلم لم يكن متعيناً.[43]
وهذا إنما يكون فيما يبني على المصلحة، ويتصرف فيه النبي صلى الله عليه وسلم
بمقتضى الإمامة رياسة الدولة، على أن من المعروف أن مجرد فعل النبي صلى الله عليه
وسلم لشيء إنما يدل على المشروعية فقط، ولا يدل بنفسه على الوجوب، ولهذا وسع عمر
ومن معه مخالفته.
والذي يقرأ مناقشات عمر، ومن وافقه مثل
علي ومعاذ – رضي الله عنهم جميعاً- واستدلالاتهم بما في وقفها على المسلمين من
المصالح، وما في قسمتها على أفراد الفاتحين من مفاسد، يتأكد له بمقدار فقه الصحابة
لدينهم، إيمانهم أن شريعتهم لا تجيء بحكم
أو مبدأ ينافي مصلحة الأمة.[44]
*
* *
· فتوى
عمر في باب المجاعة:
ومثل
أخر من الفقه العمري، الذي يتمثل فيه تغير الفتوى بتغير الأوضاع والأحوال وهو ما
فعله في عام المجاعة، الذي يعرف بـ" عام الرمادة"، فقد أصدر فيه حكمين
في غاية الأهمية:
الأول:
تأخير جباية زكاة الماشية- من إبل، وغنم، وبقر- حتى يزول القحط، وينزل المطر،
ويتوافر المرعى، فقد ذكر ابو عبيد عن ابن ابي دياب قال: " إن عمر أخر الصدقة
عام الرمادة، فلما أحيا الناس (أي نزل عليه الحيا وهو المطر) بعثني، فقال، إعقل
فيهم عقالين، فاقسم فيهم عقالاً، وأتني بالأخير"[45]
والسنة: القحط والجدب.
وذكر ابن القيم عن السعدي وسنده إلى عمر
قال: " لا تقطع اليد في عذق، ولا عام سنة".
قال السعدي: " سألت أحمد بن حنبل
عن هذا الحديث فقال: "العذق النخلة، وعام سنة : المجاعة، فقلت لأحمد: تقول
به؟ فقال: أي لعمري. قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا إذا حملته الحاجة
إلى ذلك، والناس في مجاعة وشدة.
قال السعدي: وهذا على نحو قضية عمر في
غلمان حاطب، وذكر بسنده: " أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من
مزينة، فإتي بهم عمر، فأقروا، فأرسل إلى عبدالرحمن بن حاطب، فجاء، فقال له: إن
غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة، واقروا على أنفسهم، ثم قال عمر: يا كثير بن
الصلت، اذهب فأقطع أيديهم، فلما ولّى ردهم عمر، ثم قال: أما والله لولا أني أعلم
أنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت
أيديهم، وإيم الله! إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك- الخطاب لعبد الرحمن بن حاطب –
ثم قال: بكم أريدت منك ناقتك؟ قال بأربع مائة. قال عمر: أذهب فأعطه ثماني
مائة".
قال الإمام ابن القيم: وذهب أحمد إلى
موافقة عمر في الفصلين جميعاً. (يعني : درء الحد، ومضاعفة الغُرم).
قال: وقد وافق أحمد على سقوط القطع في
المجاعة (الأوزاعي).
وهذا محض القياس، ومقتضى قواعد الشرع،
فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة، غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم
السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له، إما
بالثمن أو مجاناً، على الخلاف في ذلك.
والصحيح: وجوب بذله مجاناً، لوجوب
المواساة وإحياء النفوس، مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج.
وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج،
وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء، لا سيما وهو مأذون له، في
مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون،
ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن
لا يحجب عليه فدرئ.
ومعنى هذا: أن عمر لم يسقط الحد بعد
وجوبه، بل هو لم يجب أصلاً لوجود الشبهة التي أوجبت درأه.
* * *
· جمع
القرآن وكتابته في المصاحف:
ومن الأمور الجليلة الخطر، البعيدة
الأثر: ما حدث في عهد الصحابة من جمع القرآن وتدوينه فيعقد أبي بكر، على خلاف ما
كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم كتابة المصاحف في عهد عثمان،
وإحراقه ما سواها، على خلاف ما كان عليه الحال في عهد الشيخين: أبي بكر وعمر – رضي
الله عنهم أجمعين-.
فقط كان القرآن في العهد النبي محفوظاً
في صدور الرجال، ومكتوباً في صحف ومواد بدائية متفرقة، على ما يليق بحال القوم في
ذلك العهد: من جريد، ولخاف [47]،
وعظام، وخزف.. وغير ذلك. لقلة القراطيس عندهم.
فلما استحر القتل بقراء القرآن يوم
اليمامة – في حروب الردة- في زمن الصديق- رضي الله عنه – قتل منهم في ذلك اليوم –
فيما قيل – سبعمائة، أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر – رض الله عنهما – بجمع
القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء، كأبي، وابن مسعود، وزيد، وقد توقف الصديق في
أول الأمر، وقال لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: هو والله خير! قال أبو بكر: فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت
الذي رأي عمر، وأرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت ليكلفه مهمة جمع القرآن وتدوينه، فقط
كان كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن زيداً توقف في الأمر، كما
توقف فيه الصديق من قبل، وقال له عمر: كيف تفعلان شيئاًَ لم يفعله رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ . فقال أبو بكر: هو والله خير! قال زيد: فلم أزل أراجعه حتى شرح
الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، وقام زيد بمهمته على خير وجه، وجمع
القرآن من صدور الحفظة، ومن المواد المتفرقة التي كتب فيها، وكتبه في صحف، بقيت
عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر – أم
المؤمنين-[48]
.
فلم تكن هذه الصحف للقراءة إذن، وإنما
هي نسخة رسمية تحفظ وتصان ، ليرجع إليها عند اقتضاء الحاجة.
وكان هذا – ولا شك- من الأعمال العظيمة
، والضرورية للإسلام والمسلمين، وفق الله إليه هؤلاء الصحابة الأجلاء ، ليحفظ به
كتابه المجيد، تحقيقاً لوعده سبحانه: (إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[49]
وإنما لم يفعله أن النبي صلى الله عليه
وسلم لأن القرآن كان ينزل عليه منجماً ، حسب الوقائع، فكان لا يزال – ما دام حياً –
يتوقع نزول جديد منه، أما في عهد الصحابة فقد ثبت اكتمال القرآن، وانقطع الوحي،
وزال المانع الذي كان في العهد النبوي، ووجد المقتضي لكتابته مجموعاً مرتباً، فلما
تغير الزمن والحال، تغير الموقف أو تغيرت الفتوى.
وفي عهد الخليفة الثالث عثمان – رضي
الله عنه – طرأ وضع جديد، اقتضى موقفاً آخر جديداً أيضاً.
ذلك أن الناس اختلفوا في القراءات بسبب
تفرق الصحابة في البلدان واشتد الأمر في ذلك، وعظم اختلافهم وتشبثهم، ووقع بين أهل
الشام والعراق ما ذكره حذيفه – رضي الله عنه – وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة
"أرمينية" فقرأت كل طائفة بما روي لها –أي من الأحرف السبعة، التي رخص
لهم في القراءة بها- فاختلفوا وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض، والبراء منه،
وتلاعنوا، فأشفق حذيفة مما رأى منهم، فلما قدم المدينة –فيما ذكر البخاري
والترمذي- دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته، فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك.
قال: فيماذا؟ قال: في كتاب الله. إني حضرت هذه الغزوة وجمعت أناساً من العراق
والشام والحجاز، فوصف له ما تقدم، وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم، كما
اختلفت اليهود والنصارى.
ورأى عثمان أن يجمع القرآن في مصاحف،
يبعث بها إلى الأمصار، ليرجع الناس إليها،وبذلك يدرأ عن المسلمين شر الخلاف
والفتنة.
وبد جمع الصحابة –رضي الله عنهم- وفيهم
علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- وطلب منهم الرأي، فقالوا: الرأي عندك يا أمير
المؤمنين. قال الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان
من بعدكم أشد اختلافاً! قالوا: الرأي رأيك يا أمير المؤمنين. فأرسل عثمان إلى
حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلتها إليه،
فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن
هشام، فنسخوها في المصحف، ورد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما
نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق.[50]
قال الإمام القرطبي: "وكان هذا من
عثمان –رضي الله عنه- بعد أن جمع المهاجرين والأنصار، وجله أهل الإسلام، وشاورهم
في ذلك، فاتفقوا على جمعه، بما صح وثبت من القراءات المشهورة عن النبي صلى الله
عليه وسلم وإطراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان رأياً سديداً موفقاً –رحمة الله
عليه وعليهم أجمعين-".[51]
وقد واجه هذا العمل –كتابة المصاحف وتحريق ما
سواها- إنكاراً من بعض الناس، شأن كل عمل جديد، مخالف لما ألفوه من قبل، مما جعل
علياً –كرم الله وجهه- يقوم مقام الدفاع عن عثمان، مثنياً على عمله. روى عنه سويد
بن غفله أنه قال: "يا معشر الناس، اتقوا الله! وإياكم والغلو في عثمان
وقولكم: حراق المصاحف! فوالله، ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم".
وعن عمر بن سعيد قال: قال علي بن أبي
طالب –رضي الله عنه-: "لو كنت الوالي وقت عثمان، لفعلت في المصاحف مثل الذي
فعل عثمان".[52]
إن عثمان لم يخالف من قبله شهوة للخلاف،
ولكن الزمن تغير عن زمن الشيخين، وظهرت بوادر خلاف يوشك أن ينقلب إلى فتنة وشر
مستطير، فكانت عثمان بموافقة الصحابة لتفادي ذلك، كتابة المصاحف، وجمع الناس
عليها، وإتلاف ما عداها لقد تغيرت الفتوى بتغير الزمن والحال.
* * *
· تغير
فتوى ابن عباس في توبة القاتل وغيرها:
ومن الأمثلة الجيدة
لتغير الفتوى بتغير الحال: ما جاء عن ابن عباس في توبة القاتل، فقد روى ابن أبي
شيبة بسنده[53]:
"أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمناً توبة؟ قال: لا. إلى النار!
فلما ذهب، قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، فما بال هذا اليوم؟ قال: إني أحسبه
مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً، فبعثوا في أثره، فوجدوه كذلك".
رأى ابن عباس في عيني هذا الرجل الحقد
والغضب، والتوثب للقتل، وإنما يريد فتوى، تفتح له باب التوبة، بعد أن يرتكب
جريمته، فقمعه، وسد عليه الطريق، حتى لا يتورط في هذه الكبيرة الموبقة، ولو رأى في
عينيه صورة امرئ نادم على ما فعل، لفتح له باب الأمل.
وقد روى سعيد بن منصور عن سفيان قال:
كان أهل العلم إذا سئلوا عن القاتل فقالوا: لا توبة له، وإذا ابتلى رجل (أي قتل
بالفعل) قالوا له: تب.[54]
وكثير من الفقهاء يسير على هذا النهج –الذي
سنه ابن عباس- في كافة المسائل. أي التفرقة بين من ابتلي بالفعل ووقع فيه، فيرخصون
له، ويسهلون عليه، ما وجد للرخصة والتسهيل سبيل، وبين من لم يقع الفعل فيشددون
عليه.
مثل
ذلك: من حلف بالطلاق ألا يفعل شيئاً ثم فعله، فناك من يفتي بمذهب من يفتى بمذهب من
لا يوقع الطلاق أصلاً، كما هو مذهب بعض السلف، أو من يجعله يميناً فيه كفارة،
واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وأن كان حلف ولم يفعل، وليس به حاجة
إلى الفعل، أفتى بمذهب الجمهور.... هكذا...
* * *
· تغير
الفتوى في عهد التابعين ومن بعدهم:
وفي عهد التابعين بإحسان، نجد أمثلة
عديدة لتغير الفتوى. مثل ما روي عنهم أنهم أجازوا تسعير السلع، دفعاً للضرر عن
الجمهور، لتغير أحوال الناس عما كانت عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه.
ومن ذلك ما روي أن عمر بن عبد العزيز
كان يقضي –وهو أمير في المدينة- بشاهد واحد ويمين، فلما كان في الشام، لم يقبل إلا
شاهدين، لما رأى من تغير الناس هناك عما عرفه من أهل المدينة.
وهو القائل كلمته المشهورة: "تحدث
للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور".
ومن ذلك ما ذكر: أن أبا حنيفة كان يجيز
القضاء بشهادة مستور الحال في عهده –عهد أتباع التابعين- اكتفاءً بالعدالة
الظاهرة، وفي عهد صاحبيه –أبي يوسف ومحمد- منعا ذلك الكذب بين الناس.[55]
ويقول علماء الحنفية في مثل هذا النوع
من الخلاف بين الإمام وصاحبيه: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان!!.
وقد خالف المتأخرون من علماء المذهب
الحنفي ما نص عليه أئمتهم، والمتقدمون منهم في مسائل عديدة، بناء على تغير الزمان
والحال، وألف في ذلك علامة المتأخرين منهم الشيخ ابن عابدين في ذلك رسالته الشهيرة
"نشر العرف" وذكر في هذه الرسالة: "أن كثيراً من الأحكام تختلف
باختلاف الزمان لتغير عُرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو
بقي الحكم على ما كان عليه أو لاًن للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد
الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، ولهذا نرى مشايخ
المذهب خالفوا ما نصل عليه المجتهد (إمام المذهب) في مواضع كثيرة، بناها على ما كان
في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به، أخذاً من قواعد
مذهبه".[56]
وفي المذهب المالكي نجد ما كتبه العلامة
شهاب الدين القرافي في كتابيه "الفروق" و "الأحكام في تميز الفتاوى
من الأحكام" منبهاً على وجوب تغير الحكم إذا كان مبنياً على عادة تغيرت، أو
عرف لم يعد قائماً.
ومن الأمثلة التي تُذكر هنا ما حُكي عن
الشيخ الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني (المتوفي سنة 386 هـ) وصاحب
"الرسالة" المشهورة في فقه المالكية، والتي شرحها أكثر من واحد من جلة
علماء المذاهب.
فقد رووا عنه أن حائطاً انهدم من داره،
وكان يخاف على نفسه من بعض الفئات، فاتخذ كلباً للحراسة، وربطه في الدار فلما قيل
له: إن مالكاً يكره ذلك، قال لمن كلمه: لو أدرك مالك زمانك لأتخذ أسداً ضارياً!!.[57]
وفي كل مذهب نجد مثل هذه المواقف –على
تفاوت بينها- مما يدلنا على مقدار السعة والمرونة التي أودعها الله هذه الشريعة،
وجعلها بذلك صالحة لكل زمان ومكان.
[1]
إعلام الموقعين: جـ 3 ص 14- 15.
[3]
انظر كتابنا: شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان.
[7]
الإتقان جـ 2 ص 21 ط. الحلبي.
[9]
حديث رقم (7054) قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح،
هذا مع أن فيه ابن لهيعة، وقد وثقه الشيخ رحمه الله في مثل هذا المقام.
[10]
تفسير الفرطبي: جـ 12 ص 47، 48.
[11]
فتح الباري، جـ 12 ص 120 – 125 ط . الحلبي.
[13]
المصدر السابق.
[14]
كتاب الحدود من صحيح البخاري، باب: الضرب بالجريد والنعال.
[15]
كتاب الحدود من صحيح البخاري، باب: الضرب بالجريد والنعال.
[16]المصنف: جـ 7 ص 377.
[17]
فتح الباري 1 جـ 15 ص 77 ط. الحلبي.
[18]
المصدر السابق.
[20]
السنن الكبرى: جـ 8 ص 320.
[21]
المصنف لعبد الرازق: جـ 7 ص 379.
[22]
رواه عبد الرازق: جـ 7 ص 378. وانظر السنن الكبرى جـ 8 ص 321،
والفتح جـ 15 ص 73- 74,
[23]
رواه أبو داود والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أزهر – كما في
الفتح المذكور.
[24]
الفتح: جـ 15، ص 67.
[25]
المصنف:جـ 7 ص 377- 378.
[27]
الفتح: جـ 15 ص 73.
[28]
سنن الدارفطني: جـ 3 ص 157- 158، والفتح جـ 15 ص 64- 77.
[29]
رواه الدارقطني وغيره.
[40]
انظر كتابنا: "فقه الزكاة" جـ 2 ص 598- 608 حيث حققنا
بقاء المؤلفة قلوبهم، وفندنا القول بنسخه، وبينا فقه عمر في المسألة.
[41]
الطرق الحكمية لابن القيم: ص 16- 17 مطبعة السنة المحمدية، راجع
في الموضوع ص 33 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ط. الرياض، وجـ 3 من إعلام الموقعين ص
41، وجـ 1 من إغاثة اللهفان ص 300 وما بعدها.