الثلاثاء، 18 ديسمبر 2018

ليس دفاعاً عن الشهيد سيد قطب



مقدمة

هذه السطور ليست دفاعاً عن الشهيد سيد قطب نحسبه كذلك ولا نزكى على الله أحداً وإنما توضيح وتأكيد على حقائق نعلمها جيداً يجب أن نذكرها ولا نسكت عنها.
إننا نتسائل لماذا هذه الهجمة الشديدة على الشهيد وكتاباته؟ وهى تهدا لفترة ثم لا تلبث أن تنشط وينضم لها كل حين بعض الكتاب أو الأفراد ممن يتحركون فى مجال الدعوة الإسلامية، وهم لم يظهروا نصف هذا الغضب على المشروع الصهيونى والمؤامرات والقيم الغربية التى تستهدف أمتنا.
ولمصلحة من يتم ذلك؟ ولماذا تلتقى هذه المواقف مع مواقف أعداء الإسلام من صهاينة وأمريكان؟
ولماذا فى هذا الوقت الذى نحتاج فيه إلى إيقاظ الأمة وحشدها لمقاومة ومواجهة العدوان عليها؟
ويا ليت الحملة كانت تستهدف النقد الموضوعى، وأن تطرح النقاط والمواضيع التى تكلم فيها الشهيد، وتعرض التصور الصحيح المستند للأدلة الشرعية فى تلك الأمور، لكنها استخدمت الأسلوب الإعلامى، وإطلاق الأحكام وإلصاق الصفات بكتابات الشهيد دون تمحيص علمى.
ينبغى على من يحكم على كتابات الشهيد سيد قطب أن يستخدم الأسلوب العلمى المحايد، وأن يتجرد من أى انحياز نفسى يكون متأثراً بموقفه من التيار الذى ينتمى إليه، أو متحاملاً على شخصه وذاته، أو شاعراً بالغيرة منه.
(1/1)

إن أى كاتب إذا أردنا أن نحكم على آرائه أو نستوضحها لا يكتفى بمجرد قراءتنا وفهمنا لبعض ما كتب وإنما يكون هذا من خلال أسلوب علمى محدد يحقق مبدأ " التثبت والتبين".
1. إما ان يكون بمناقشته فيما كتب واستيضاح ما يقصد.
2. وإذا كان غير موجود، فننظر إلى سلوكه وآرائه العملية، لنفهم فى ضوئها مقاصده ومعتقداته.
3. وكذلك أن ننظر فى كلماته كلها ولا نجتزأ منها سطوراً.
4. وإذا كان الكاتب قد سطر آراء ثم رجع عنها بعد ذلك وأعلن عدم رضائه، فلا ينبغى أن نحاسبه عليها بعد ذلك.
مثلما فعل الشهيد عندما أعلن عن عدم رضائه عن كتابه "العدالة الاجتماعية فى الإسلام" وأن به بعض الأخطاء وسيحاول إعادة كتابته وكان هذا الكتاب فى بداية توجهه الإسلامى وقبل التزامه بجماعة الإخوان المسلمين.
5. كذلك علينا ألا نحاسبه فيما فهمه بعض الناس عندما طالعوا كتاباته وإنما ماذا كان يقصد وما هو فهمه؟
إن الشهيد سيد قطب – رحمه الله – من مواليد (9/ 10/ 1906) أى يسبق مولد الإمام الشهيد حسن البنا بأيام قليلة (أقل من شهر) وكان رحمه الله أديباً بليغاً، وناقداً أدبياً متميزاً شهد له بذلك من عاصروه، وقد تميز فى عصر كثر فيه الفطاحل من الأدباء والشعراء.
وقد التزم بجماعة الإخوان المسلمين أواخر عام 1951 واستشهد يوم الاثنين 29/ 8/1966 قبل بزوغ الفجر (صدر الحكم عليه 21/ 8/1966م) ونفذ بعد أسبوع) أى قارب على الخمسة عشر عاماً داخل صفوف الإخوان، قضى منها داخل السجون أكثر من أحد عشر عاماً وتولى بعد عام 1951 مسئولية قسم نشر الدعوة، وهو أحد أهم أقسام الجماعة التى تتعامل مع المجتمع.
فهل كان الشهيد يكفر الناس حكاماً ومحكومين؟ وهل كان يصف هذه المجتمعات بالجاهلية، أى بالكفر والخروج عن الدين؟ وهل كان ينتهج منهج العنف والانعزال؟
إننا إذا طبقنا المنهج العلمى فى الدراسة والتقييم لوصلنا إلى نتيجة قطعية بالنفى لهذه الاتهامات.
(1/2)

لقد كان الخطأ فى حقيقته عند هؤلاء الذين أرادوا أن يفهموا فهماً معيناً ويحملوا باقى كلامه على هذا الفهم رغم أن حياته العملية وأقواله وكتاباته ومن عاشوا بالقرب منه تقطع بابتعاده عن هذه المفاهيم.
أو نجد البعض يقفون عند بعض الألفاظ ذات الدلالة الأدبية ويجردونها عن سياقها ولا ينظرون أن الكاتب كان أديباً ولا يقصد المعنى الذى ذهبوا إله مطلقاً.
ولا يعنينا هنا أن فلاناً من العلماء أو المشاهير أصدر هذه الأحكام والصفات على ما كتبه الشهيد، فالبحث العلمى يقوم على الأدلة والبراهين وعلى القواعد العلمية للتثبت والحكم.
وبالنسبة لما سطره الشهيد من كتابات فإن طبيعته الأدبية وبلاغته كانت ملازمة له.
وهو نفسه عندما كتب الظلال، قال فى مقدمته أنه لا يكتب تفسيراً للقرآن، فهذا له قواعده وأسلوبه ولكن خواطر ومعانى يستشعرها عند معايشته وتلاوته لآيات الذكر الحكيم.
ومن المعروف عن الشهيد أنه كان رجّاعاً، إذا راجعه أحد وناقشه، وكان يعرض ما يكتب قبل طباعته على الكثير من إخوانه ويستمع إلى نصائحهم.
ولكى نفهم ما كتب، نرى أنه لم يخرج عما كتبه من كان قبله من علماء الإسلام فى الأمة، فهذه كتابات ابن القيم وابن تيمية وغيرها كان فيها لفظ الجاهلية والحملة الشديدة عمن انحرفوا عن أحكام الإسلام.
كان مقصده بكلمات الجاهلية: القيم والمفاهيم، وليس الأشخاص أو الناس فى المجتمع، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى ذر رضى الله عنه عندما أخطأ مرة " إنك امرؤٌ فيك جاهلية".
وما ذكره هو من لفظ الحاكمية وضحه فى أماكن أخرى، حيث يقصد بها التأكيد على المرجعية لشرع الله وضرورة تطبيقه، وما ذكره عن انتساب الناس للإسلام بحكم شهادة الميلاد هو كلام عام ذكره غيره من العلماء الذين سبقوه ولم يتهمهم أحد بإدعاء التكفير.
(1/3)

كان رحمه الله يستخدم الكلمات البليغة الأدبية لتوضيح رأيه ولدفاع عن الإسلام، ولم يكن بصدد إصدار أحكام، فهذه لها أصول ولها أهلها من علماء الشريعة، ولم يدع هو ذلك فى يوم من الأيام.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "ليس منا من بات شبعان وجاره جائع" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فهل يجوز أن يفهم منها أحد أن هذا الشخص ليس من المسلمين وأصبح كافرا.
ومثل هذا ورد فى أحاديث أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها حديث "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم "
وبالمثل هل يجوز لأحد أن ينقل سطرا من كلام الشهيد ليخرج منه بحكم التكفير دون الالتفات إلى مقصده، وهل يعنى به حكما شرعيا أم معانى عامة للتوضيح والتحفيز.
كما أن الإمام الشهيد استخدم كلمات مما استخدمها بعده الشهيد سيد قطب، ولم يقل أحد أن الإمام البنا يكفر الناس، لأن مقصده ومنهجه لا يشير إلى ذلك.
ففى رسالة إلى الشباب بعد أن تكلم الإمام البنا عن الأهداف الإسلامية العامة من تكوين الفرد المسلم حتى إقامة الخلافة وأستاذية العالم، تجده يقول " .. إنما نعلن فى وضوح وصراحة أن كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهاج ولا يعمل لتحقيقه لا حظ له فى الإسلام، فليبحث له عن فكرة أخرى يدين بها ويعمل لها " (رسالة إلى الشباب صـ178)
ويقول رحمه الله فى افتتاحية العدد الأول من مجلة النذير عام 1938: " .. فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير فى الطريق لاستعادة حكم الإسلام ومجد الإسلام، سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين" (راجع مذكرات الدعوة والداعية صـ164)
وفى أماكن أخرى أوضح الإمام مفهوم الحرب " وسنقاتلهم بالكلمة .. " ويقول أيضاً فى مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين المحرم 1357 هـ:
(1/4)

" إذا كان الإسلام شيئاً غير السياسة وغير الاجتماع وغير الاقتصاد وغير الثقافة فما هو إذن؟ أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر أم هذه الألفاظ التى هى كما تقول رابعة العدوية: (استغفار يحتاج إلى استغفار) ألهذا أيها الإخوان نزل القرآن نظاماً كاملاً محكماً مفصلاً (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. هذا المعنى المتضائل لفكرة الإسلام وهذه الحدود الضيقة التى حدد بها معنى الإسلام، هى التى حاول خصوم الإسلام أن يحصروا فيها المسلمين وأن يضحكوا عليهم بأن يقولوا لهم لقد تركنا لكم حرية الدين، وأن الدستور ينص على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام " (صـ159 من رسالة فى مؤتمر طلبة الإخوان)
وحول حديثه عن الجهاد، لم يخرج عن قول علماء الأمة عن شرح نوعى الجهاد: " جهاد الدفع" و "جهاد الطلب" أى الغزو فى سبيل الله ولم يدع أنه سيتكلم عن الأحكام الفقهية والشروط الشرعية المتعقلة بذلك وإنما كان يتحدث عن المبدأ والمفهوم.

المناخ والمرحلة التى واجهها الشهيد
كان رحمه الله فى مرحلة من تاريخ الأمة تواجه فيها ضغوطاً كبيرة وهجوماً حاداً شديداً حول القيم الإسلامية – وخاصة فى مجال المرأة – مع غياب لتطبيق الشريعة الإسلامية، وزحف للقيم الغربية على المجتمعات الإسلامية، مما أثر على التصورات والمفاهيم، وكانت قيم الإسلام فى المجتمع تتعرض وقتها للسخرية والاستهزاء من وسائل الإعلام ومن بعض التيارات المختلفة.
فكان يرد على كل ذلك وهو يركز على البناءالنفسى لكى يحدث التوازن فيه، ويرسخ فيه الثبات على هذه القيم الإسلامية مهما كان الواقع من حوله، ولهذا كان حديثه القوى عن الاستعلاء والعزلة الشعورية وعن جاهلية القيم والمفاهيم المنحرفة عن منهج الله، ولم يقصد أن يتكلم عن قضية التكفير وأحكامها الشرعية.
(1/5)

كان كما وصفه المستشار طارق البشرى، كالمدفعية الثقيلة التى ترد على تلك الهجمة من خندق الدفاع والثبات.
كان رحمه الله يواجه محاولة تمييع القيم والمفاهيم الإسلامية واستدراج ا لناس إلى مسميات مضمونها فارغ من قيم الإسلام أو حتى تعارضه فكان يريد أن ينبه الأمة لكى تفطن إلى ذلك ولا تنخدع ولا تضفى الشرعية الإسلامية على مثل تلك الأطروحات.

توضيح بعض كلماته وآرائه
نشير هنا إلى نماذج من بعض آرائه وكتاباته التى إذا وضعناها بجوار الكتابات الأخرى يتضح لنا حقيقة ما يقصد:
أ) ففى كتاب "معالم" الذى اشتهر بأن فيه تلك الرؤية التكفيرية الانعزالية نجده فى آخر صفحات الكتاب يتكلم عن الجاهلية والتعامل معها: " ليس لنا أن نجارى الجاهلية فى شيء من تصوراتها، ولا فى شيء من أوضاعها ولا فى شيء من تقاليدها مهما يشتد ضغطها علينا إن وظيفتنا الأولى هى إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية فى مكان هذه الجاهلية ..
إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة، والتقاليد الاجتماعية الشائعة ضغط ساحق عنيف .. لابد أن نثبت أولاً، ولابد أن نستعلى ثانياً، ولابد أن نرى الجاهلية حقيقة الدرك الذى هى فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرقة للحياة الإسلامية التى نريدها.
ولن يكون هذا بأن نجارى الجاهلية فى بعض الخطوات، كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن وننزوى عنها وننعزل، كلا .. إنما هى المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق فى مودة والاستعلاء بالإيمان فى تواضع .. " (كتاب معالم فى الطريق صـ 176)
ب) ومن أقواله التى نقلت عنه:
" إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة لا إله إلا الله، لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقى وهو التحاكم إلى شريعة الله" (من كتاب أعلام الحركة الإسلامية لعبد الله العقيل صـ 652).
(1/6)

جـ) كان الشهيد يرفض فرض الإسلام من أعلى على الناس، أو يستخدم العنف والقوة داخل المجتمع، وإنما السبيل للالتزام بالإسلام وإقامة الحكم الإسلامى، هو إيقاظ القلوب وتفهيم الناس وبناء القناعات الصحيحة لديهم.
فيقول رحمه الله .. " ولابد إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة، وهى إحياء مدلول العقيدة الإسلامية فى القلوب والعقول، وتربية من يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة تربية إسلامية صحيحة .. وعدم محاولة فرض النظام الإسلامى عن طريق الاستيلاء على الحكم قبل أن تكون القاعدة المسلمة فى المجتمعات هى التى تطلب النظام الإسلامى لأنها عرفته على حقيقته وتريد أن تحكم به .. " (جريدة المسلمون، من مقالة بعنوان لماذا أعدمونى؟ ذكرت كلمات وكتابات له.)
د) وها هو الشهيد يصف المجموعة التى تولى تربيتها عام 65، عندما تم اعتقاله تمهيداً لإعدامه: " لقد اتفقنا على مبدأ عدم استخدام القوة لقلب نظام الحكم وفرض النظام الإسلامى من أعلى، لأن المطالبة بإقامة النظام الإسلامى وتحكيم شريعة الإسلام ليست هى نقطة البدء، وإنما هى نقل المجتمعات ذاتها إلى المفهومات الإسلامية الصحيحة، وتكوين قاعدة إن لم تشمل المجتمع كله، فعلى الأقل تشمل عناصر وقطاعات تملك التوجيه والتأثير فى اتجاه المجتمع كله إلى الرغبة والعمل فى إقامة النظام الإسلامى ". (كتاب شبهات حول الفكر الإسلامى المعاصر – المستشار سالم البهنساوى صـ 237، وكتاب العبقرى العملاق سيد قطب صـ83 للأستاذ إبراهيم منير)
هـ) وعندما سُئل فى التحقيق – وكانت إجاباته من منطلق أنها شهادة للتاريخ حيث كان متأكداً أنه سيصدر عليه الحكم بالإعدام، سأله المحقق: هل ترى أن هناك فرقاً بين المسلم المنتمى لجماعة الإخوان وغير المنتمى لتلك الجماعة؟
كانت إجابته المدونة فى الأوراق:
(1/7)

" الذى يميز الإخوان أن لهم برنامجاً محدداً فى تحقيق الإسلام فيكونون مقدمين فى نظرى على من ليس لهم برنامج محدد .. "
ثم سأله المحقق:
س: فلم التمييز بين أفراد هذه الجماعة وبين المسلمين قاطبة وهم جميعاً أصحاب عقيدة وأهداف وبرنامج؟
أجاب: التمييز – فى رأى – ليس تمييز شخص على شخص، ولكن فقط باعتبار أن الجماعة ذات برنامج وأن كل فرد مرتبط بهذا البرنامج لتحقيق الإسلام عملياً، وهذا هو وجه التمييز فى رأى ".
فلم يكن رحمه الله حتى آخر يوم فى حياته يعتقد أو يظن أن المسلمين أصبحوا داخلين فى نطاق الكفر بل يثبت لهم الإسلام ..
وأيضا يتضح أن الشهيد لم يذهب مطلقا فى رؤيته أن ينتقى مجموعة من الأفراد ينعزل بهم عن المجتمع بحجة أنه جاهلى ليقوم بتربيتهم ثم القفز بهم على السلطة، فها هو يقرر بوضوح أن الطريق هو تربية أفراد المجتمع وتفهيمهم وإقناعهم القيم والتصورات الإسلامية وكيفية الالتزام الصحيح بها، وأن يشمل ذلك جيلا بأكمله، فإن لم يكن المجتمع كله فعلى الأقل نسبة كبيرة فيه تصبح هى الغالبية وتملك التأثير فيه.
وقد كانت رؤيته لمجموعة الشباب فى 65، إنهم خطوة على الطريق ضمن البداية التى يجب أن تستمر وتتسع لتشمل جيلا بأكمله.
س) وفى تعريفه الجاهلية، وكما ذكر بالمعالم: "المجتمع الجاهلى: هو المجتمع الذى لا يُطبق فيه الإسلام ولا تحكمه عقيدته وتصوراته، وقيمه وموازينه وسلوكه ونظامه وشرائعه .. "فى ظلال القرآن جـ 2 صـ37.
وفى موضع أخر يحدد قصده منها: " إنها تعلن العلمانية كمنهج فى التشريع، وحتى الحياة كلها، وبعضها وضع القوانين من عند نفسه تخالف شرع الله، وقال عنها: هذا شرع الله." إ. هـ
فهو هنا يشير إلى حكم عام وليس حكماً على أشخاص أو مجتمع معين، كما أنه يقصد بكلامه من يقول للناس أن هذا شرع الله، وهو متأكد أنه ليس كذلك بل من عند نفسه.
وما ذهب إليه الشهيد هنا، يتطابق مع ما قرره علماء المسلمين.
(1/8)

ص) ويظهر بوضوح أن أقوال الشهيد سيد قطب، عن الجاهلية، وعن الكفر لا تعنى الأفراد، بل تتعلق بجاهلية السلوك والمناهج والقيم والتصورات، وبكفر التشريعات والأحكام المناقضة للإسلام. بل إنه فى المسألة إثبات الإسلام يرى أن النطق باللسان بالشهادتين كافٍ لذلك.
يقول فى الظلال فى تفسير آية {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: الآية94): "يكتفى الإسلام هنا النطق بكلمة اللسان، فلا دليل يناقضها. " إ. هـ أى أنه يقول بإسلام من نطق بالشهادتين دون انتظار لامتحانه.
كما أنه فى حديثه أحياناً يتكلم عن جاهلية العقائد، وفى موضع آخر عن جاهلية السلوك، وهناك فرق كبير بينهما.
ومن أقواله: " أنه فيما يختص بالفرد يكون الاحتكام إلى عقيدته وخلقه، وفيما يختص بالأمة الاحتكام إلى نظام حياتها كلها." إ. هـ.
والشهيد يقر ويعترف بإسلامية الأفراد فى داخل مجتمعاتنا، أما الأنظمة التى توجه حياة الناس والعادات والسلوكيات والمفاهيم والأخلاق فى المجتمع، فهى محل كلامه، وهى التى وردت النصوص الشرعية بوصفها بالجاهلية وبالنفاق وبنفى الإيمان الكامل أحياناً عنها. ... " كتاب العبقرى العملاق سيد قطب صـ 78 للأستاذ إبراهيم منير")
ع) كان يرفض فكرة تجزئة القبول بالاحتكام للإسلام فى جزئية، ورفضهم الاحتكام إليه فى أجزاء أخرى من قضايا المجتمع. وهناك فرق فقهى واضح بين رفض مبدأ القبول بالاحتكام إليه وبين الضعف فى التنفيذ مع وجود القبول والرضى.
كان رحمه الله ينادى بالرؤية الشمولية. ومن أقواله فى ذلك: " والذين يصرخون اليوم طالبين منع المرأة من الانتخاب باسم الإسلام أو منعها من العمل باسم الاسلام، أو إطالة أكمامها وذيلها باسم الإسلام، ليسمحوا لى مع تقديرى لبواعثهم النبيلة أن أقول لهم: إنهم يحيلون الإسلام هزأة وسخرية لأنهم يحصرون المشكلة كلها فى مثل هذه الجزئيات.
(1/9)

إن طاقتهم كلها يجب أن تنصرف إلى تطبيق النظام الإسلامى والشريعة الإسلامية بأن يسيطر على نظام المجتمع وقوانين الدولة، وللتربية الإسلامية بأن تسيطر على المدرسة والبيت والحياة، يجب أن يأخذوا الإسلام جملة وأن يدعوه يؤدى عمله فى الحياة جملة، فهذا هو الأليق لكرامة الإسلام، وكرامة دعاة الإسلام" ... (راجع كتاب العبقرى العملاق صـ 67، للأستاذ إبراهيم منير)
ل) لقد كان الشهيد يواجه مؤامرات شديدة للقضاء على التصور والفهم الإسلامى الصحيح، فكان عليه أن يواجه ذلك وأن يكشف زيغه مهما تستر فى شعارات:
" .. ومن ثم استداروا فى التجارب الجديدة يستفيدون من تجربة أتاتورك: ألا يرفعوا على التجارب الرائدة راية الإلحاد، وإنما يرفعون عليها راية الإسلام، كى لا تصطدم الفطرة كما صدمتها تجربة أتاتورك ثم يجعلون تحت هذه الراية ما يريدون من المستنقعات والقاذورات والإنحلال الخلقى ومن أجهزة التدمير للخامة البشرية بجملتها فى الرقعة الإسلامية. " إ. هـ. الظلال جـ2 صـ211 عن الآية 49 من سورة الأنعام.
فهو هنا يتحدث عن نموذج به الإلحاد والانحراف الكامل عن الإسلام ويزعمون فيه أن هذا هو الإسلام. لهذا لابد أن نفهم عباراته القوية من خلال هذه الرؤية التى أشار إليه ولا نعمم هذا على كل صور الخلل والضعف أو نستنتج مفهوماً لم يقصده أو يذهب إليه.
م) ومن كلماته التى وردت فى مقالاته وكتبه وهو يتحدث عن الخضوع للاستعمار، وغفلة الحكام والسياسيين: " .. ولكن من الحق ألا نصم الشعوب العربية بهذه الوصمة. إن هذه الشعوب لأذكى وأشد حمية من أن ترضى لنفسها بالهوان، ولكنها تلك الحفنة من ساسة الجيل الماضى فى مصر وبعض البلاد العربية تلك الحفنة الرخوة المسنة الضعيفة المتهالكة، المهدورة الأعصاب لا تقدر على الكفاح، ولا تدع الشعوب تكافح، لأن أنانيتها الآثرة تمسكها عن الانسحاب من الميدان وتركه للقادرين". (صـ155 من كتاب العبقرى العملاق).
(1/10)

ويقول أيضاً: " .. لو كان مقدراً لهذا العالم الإسلامى أن يمون لمات فى خلال فترة الاسترخاء والإعياء، وفى إبّان فتوة الاستعمار وقوته، ولكنه لم يمت بل انتفض حياً كالمارد الجبار، يحطم أغلاله وينقض أثقاله ويتحدى الاستعمار الذى شاخ .. " إ. هـ. (فى ظلال القرآن جـ2 صـ940).ويقول: " .. وإن يوم الخلاص لقريب وإن الفجر ليبعث خيوطه، وإن النور يتشقق به الأفق، ولن ينام هذا العالم الإسلامى بعد صحوته ولن يموت هذا العالم الإسلامى بعد بعثه. ولن تموت العقيدة الحية التى قادته فى كفاحه. " إ. هـ (فى ظلال القرآن جـ2 صـ940) فهل هذا كلام من يكفر الشعوب أم من يحرص عليها ويضع أمله فيها، ويعرف مواطن الضعف والقوة.
ن) ومن كلماته عندما تحدث عن الزكاة فى واقع الأمة:
" وقد بهتت صورة الزكاة فى حسِّنا وحسِّ الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التى لم تشهد نظام الإسلام مطبقاً فى عالم الواقع ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيمانى والتربية الإيمانية. " إ. هـ (الظلال سورة البقرة الآية 177)
فالأستاذ سيد وصف الأمة اليوم بالأمة الإسلامية رغم أنه يراها أمة تعيسة ولم تطبق أحكام الإسلام فى واقعها، فلم ينف عنها إسلامها.
ط) أشاع البعض لسوء فهمه أن الشهيد يدعو إلى مقاطعة واعتزال المساجد الحكومية لأنها مساجد جاهلية. .وهذا خطأ والذى يرجع لكتاباته يجد حديثاً لا يؤدى لهذا فهو فى تفسيره للآيات التى تحدثت عن نبى الله موسى (عليه السلام) وما لاقاه بنى إسرائيل من تعذيب ومطاردة لجأوا فيها إلى اتخاذ بيوتهم قبلة، فيقول فى وصف هذه الحالة: " .. وقد يجد المسلمون أنفسهم ذات يوم مطاردين فى المجتمع الجاهلى وقد عمّت الفتنة وتجبّر الطاغوت وفسد الناس، وانتنت البيئة، وهنا يرشدهم الله إلى أمور، منها اعتزال معابد الجاهلية "إ. هـ
(1/11)

فلم يقل رحمه الله أن المساجد الموجودة حالياً بالمجتمع هى معابد جاهلية وأن المسلمين يواجهون فتنة ومطاردة مثل التى واجهها بنى إسرائيل على يد فرعون، فلماذا يلجأ البعض إلى الاستنتاج الخاطئ وإلى التعميم الذى ليس عليه دليل إلا تفسيراً واحداً أن هذا هو رأيهم وقناعتهم الداخلية، وأى عبارات بعد ذلك ستكون الشماعة التى يتسترون وراءها، سواء قالها الشهيد أم قالها غيره.
ظ) كتب فى مقال له بجريدة الإخوان المسلمين عن الدعوة والأمة الإسلامية عام 1953: " .. لقد صحت الأمة الإسلامية بعد طول سبات، ولو كانت إلى فناء وموت ما استيقظت من سبات، ولقد صحت بعد نوم طويل، فليس من سنة الحياة أن تنام من جديد، لقد صحت لتحيا وصحت لتنمو وصحت لتنتفض عنها الأوشاب والأخلاط، وإذا كانت الأمة الإسلامية ما تزال تتعثر، وما تزال تكبو وما تزال تضطرب فتلك هى اختلاجة الحياة الجديدة، لا سكرات الموت ولا صراعات الداء. تلك هى علائم الصحو واليقظة بعد نوم طويل وهمود، والمستقبل لها، والدلائل كلها تشير إلى هذا المستقبل ". إ. هـ (صـ 58 من كتاب العبقرى العملاق).
ى) وعن سلوك الداعية مع المجتمع يقول الشهيد سيد قطب فى الظلال: " ... فالناس فى حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، فى حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء – ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والودّ والرضا ... وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أ. هـ.

شهادات من عاشوا معه والتقوا به
ملف: سيد قطب 5.
jpg
الأستاذ سيد قطب
(الشهادات التى وردت كانت من هؤلاء الأساتذة الكرام الذين عايشوه ولم تكن فردية بل تواترت عبر العديد من الأفراد، ولكن نذكر فقط أسماء من سمعنا منهم مباشرة):
(1/12)

أ) لقد حدثت مناقشات وأسئلة له من كثير من إخوانه عندما أشاع البعض أنه يكفر المجتمع ويصفه بالجاهلية.
حدث هذا ممن كانوا معه فى قفص المحكمة أثناء التحقيقات، وفيمن التقى به داخل مستشفى السجن، بل إن قيادة الإخوان كلفت الأستاذ عمر التلمسانى عندما كان سيلتقى به لسؤاله المباشر عن ذلك وعاد وهو يحمل إجابة واضحة منه، بنفى الشهيد أنه يكفر أحداً أو يقصد بجاهلية المجتمع تكفير الناس ... (شهادة أ. جمعة أمين)
ب) إن كتاباته قبل طباعتها كان يقرأها كبار الإخوان ومنهم الأستاذ الهضيبى وأقروا ما فيها ولم يجدوا فيها ما فهمه البعض واتهمه به ... (شهادة أ. جمعة أمين و د. محمود عزت)
جـ) لقد تواترت عشرات الشهادات ممن عاصروه وسألوه مباشرة، فأكد على رأيه الواضح وأنه لا يكفر أحداً، بل وصف من فهموا ذلك - أى ما فهموه من تكفير المجتمعات – أنهم لم يفهموا وأساءوا الاستخدام فقال: لقد حملت كتبى وآرائى على حمار أعرج ... " (شهادة د. محمد بديع، ود. محمود عزت).
هـ) شهادة الداعية زينب الغزالى، عندما سألته مباشرة عام 1964 عندما زارها فى منزلها عن إشاعة أنه يكفر الناس لأنهم لم يفهموا الإسلام، فاستغرب هذا القول، وبيّن أن فهمهم هذا خاطئ لما كتبه وأنه سيوضح هذا ويرد عليه فى الجزء الثانى من "المعالم" ... (حوار مجلة المجتمع الكويتية 1982م، صـ 85 كتاب العبقرى العملاق)
والأستاذ الهضيبى كان رأيه فى مسألة التكفير واضحاً حاسماً وقد فاصل الإخوان الذين انتهجوا هذا الفكر ورفض بقاءهم فى الجماعة ولم يتهاون فى ذلك قط.
فهذا دليل واضح أن الشهيد كان موقفه واضحاً من مسألة التكفير وأن من اعتنقوا ذلك بحجة ما فهموه من آراء، هم الذين أساءوا الفهم، وأن أصل الفكرة كانت عندهم مسبقاً وكان ذلك فى ظروف يتعرضون فيها للسجن والتعذيب.
و) وكان فضيلة الأستاذ الهضيبى يعتز دائماً بسيد قطب وكان يذكر أنه شهيد الإخوان (شهادة أ. محمد مهدي عاكف و أ. جمعة أمين)
(1/13)

فقد قرأ غيرهم من آلاف الإخوان .. هذه الكتابات ولم يفهموا منها هذا الفهم، فى حين أن عدد الآخرين الذين أشاعوا ذلك على أصابع اليد من الإخوان .. وبالمثل نذكر، وما ذنب الإمام على وابنيه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (رضى الله عنهم) فى نشأة المذاهب المنحرفة والتى نسبت نفسها إليهم بعد ذلك)
ش) أرسل بعض الإخوان فى سجن طره الأخ عبد الرءوف أبوالوفا عندما تناقل بعض الأفراد موضوع التكفير، يخبره بذلك ويستوضحه، فانزعج الأستاذ سيد لهذا الكلام ورد عليه:
" .. إننا لم نكفر الناس، وهذا نقل مشوه، إنما نحن نقول إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة، وعدم تصور مدلولها الصحيح والبعد عن الحياة الإسلامية إلى حال تشبه حال المجتمعات فى الجاهلية، وإنه من أجل هذا لا تكون نقطة البدء فى الحركة هى قضية إقامة النظام الإسلامى، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة والتربية الأخلاقية الإسلامية، فالمسألة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر مما تتعلق بالحكم على الناس" إ. هـ. (من كتاب لماذا أعدمونى؟ وهو عبارة عن تجميع لإفادات الأستاذ سيد عند التحقيق معه قبل الحكم بإعدامه، ومعها بعض الشهادات من إخوانه).
ص) وعندما نقل الأستاذ عبد العزيز عطية والأستاذ عمر التلمسانى إلى مستشفى طره، وهما من أعضاء مكتب الإرشاد وقتها، التقيا بالشهيد للاستفسار عما يشيعه البعض عنه، فنفى ذلك وشرح لهما ما يقصده فاستراحا لذلك وأقراه عليه وأبلغا الإخوان بذلك. .. (صـ79 من كتاب العبقرى العملاق للأستاذ إبراهيم منير)
ض) شهادة أ. عمر التلمساني فى كتابه ذكريات لا مذكرات:
" .. وما أراد الشهيد الأستاذ سيد قطب فى يوم من الأيام أن يكفّر مسلماً. " " .. إن كثرة ترداده "للمتجتمع الجاهلى" لم يقصد بها تكفير المجتمع ولكن تشديد النكير على الظلمة والطغاة والمستغلين والمشككين، وهو أسلوب تعرفه اللغة العربية .. "
(1/14)

" والذين يعرفون الشهيد سيد قطب ودماثه خلقه وجمّ أدبه، وتواضعه ورقة مشاعره، يعرفون أنه لا يكفر أحداً .. "
" .. هذا موجز مقتضب للمبادئ التى قام عليها كتاب معالم فى الطريق وقد كان لى شرف الإطلاع عليه قبل طبعه ونحن فى مستشفى ليمان طرة " إ. هـ (وراجع أيضاً كتاب العبقرى العملاق)
ط) شهادة الأستاذ سيد نزيلي (من قيادات الإخوان فى 65):
" أنه – يقصد الشهيد سيد قطب – لم يتهم عامة المسلمين بالكفر وكان يصلى خلف الإمام العادى، وكان يأكل ذبائح المسلمين، ويؤثر عنه فى سجنه أن سُئل: " هل أنت تكفر عامة المسلمين؟ " فقال: كيف أكفر عامة المسلمين وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وحب الدين متغلغل فى وجدانهم وقلوبهم .. " ثم نادى على سجين من أرباب الإجرام والمعروفين بالشراسة وسوء الخلق، وقال له: يا فلان إذا قابلك رجل ولعن دينك ماذا يكون موقفك؟ فقال هذا السجين: أقتله، فاستشهد سيد قطب بذلك فى أن للإسلام قدسية واحترام فى نفوس حتى الذين يُخيل إلينا أنهم أبعد ما يكونون عن الإسلام بأعمالهم .. " أ. هـ.
ويقول أيضاً الأستاذ سيد نزيلى: " .. نحن الجيل الذى تربى على فكر سيد قطب لم نلحظ هذه الدعاوى التى تتهمه بالتكفير، وهو لم يطلب منا ذلك فى الكتابات التى كان يرسل بها إلينا ويربينا عليها نحن جيل 65، نحن كنا نعيش بإسلامنا بين أهلينا ومجتمعنا ولم يخطر على بالنا أننا متميزون بأى شيء عن غيرنا من المسلمين ".
ويقول: " وسيد قطب لم تكن كتاباته لا نعزال هذه الفئة، بل كان يطلب من الشباب أن يندمجوا مع المجتمع حتى يغيروا هذا المجتمع". إ. هـ.
" .. وقد انتهيت بعد لقائى بإخوانى واستجلاء حقائق الأمور إلى: أننا لم نكفر مسلماً ولم نعلم من الأستاذ سيد قطب أنه يأمرنا بالتكفير أو الانعزال عن المجتمع أو المفاصلة الشعورية التى يفهمها البعض خطأ بمعنى الانعزال ". إ. هـ (صـ78، 88، 89 من كتاب البعقرى العملاق)
(1/15)

ظ) شهادة العالم الجليل الشيخ محمد عبد الله الخطيب، حيث ذكر أنه زار الأستاذ سيداً فى الفترة القصيرة التى خرج فيها من السجن عام 64، وأنه زاره فى بيته يوم جمعة، فوجده عائداً من صلاة الجمعة مصلياً وراء إمام المسجد، وحكى لى أحد الإخوان أنه رأى الأستاذ سيداً يصلى خلف أحد المسجونين الجنائيين فى فترة محبسه. " إ. هـ
فهل يعقل أن الأستاذ يحكم بالكفر على عموم الأفراد والمجتمعات ثم يصلى وراءهم؟. (صـ 94 من كتاب العبقرى العملاق).
ك) شهادة الأستاذ إبراهيم منير، والأستاذ أحمد كنزى (من شعبة عابدين بالقاهرة) حيث أنهما وهما فى السجن عام 1963، وصل إليهم من بعض الإخوان أن الأستاذ سيد يقوم بوضع كتاب عليه اتفاق من الجماعة هو معالم فى الطريق وأن على الإخوان جميعاً خارج السجون قراءته .. وعندما اشتد المرض على الشهيد سيد قطب تم نقله إلى مستشفى القصر العينى، فتحايلنا على زيارته كل يوم جمعة أسبوعياً تقريباً لنسمع منه ونستفسر، ولم نسمع منه على الإطلاق انه يعنى بالجاهلية تكفير الناس، ولم نسمع منه قولاً بكفر الحكام، ولم نسمع منه أن العزلة الشعورية عن الناس تعنى مقاطعتهم والعيش فى الكهوف والجبال وتجنب العمل فى وظائف المجتمع ولكنه كان يركز على إحياء معانى الإيمان فى قلوب الأمة، ويعنى بالجاهلية جاهلية السلوك وليست جاهلية الاعتقاد .. وهذه شهادة بما علمت القى بها الله عز وجل: أنى لم أسمع منه خلاف ما قلت. " أ. هـ (صـ7 كتاب العبقرى العملاق للأستاذ إبراهيم منير)
ويقول أيضاً الأستاذ إبراهيم منير:
" صرح الشهيد أكثر من مرة وفى أكثر من موضع أن من رغب فى معرفة " .. إننا دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم. " (صـ 81 العبقرى العملاق)
(1/16)

ع) بل إن شقيقه الأستاذ محمد قطب يؤكد أنه سمعه اكثر من مرة يقول: " .. نحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس فضلاً عن كوننا دعوة ولسنا دولة، دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم.) صـ 80 كتاب العبقرى العملاق)
ل) أشاعوا عنه أنه يدعو إلى المرحلية فى الأخذ بالأحكام الشرعية، وأننا فى المرحلة المكية فنأخذ حكمها الشرعى من حيث وجوب الهجرة وعدم إلزامية الأحكام التى وردت بعد ذلك .. الخ وهذا لم يذهب إليه الشهيد من قريب أو بعيد، فهو لم يكن يتكلم عن المرحلية فى الأحكام الشرعية، وعندما سُئل هل نحن فى المجتمع المكى أم المجتمع المدنى، أجاب: " نحن فى سنة كذا وقد كمل الإسلام ولن ينقص." أ. هـ
وأما حديثه عن المرحلية فكان متعلقاً بالحركة الجهادية ووسائل الدعوة (من شهادة أ. صبرى عرفة - أحد قيادات 65)

مقالة الشيخ د. جاسم مهلهل الياسين
وهذه مقتطفات من مقالة الشيخ جاسم، يوضح فيها أن كلام الشهيد سيد قطب عن الجاهلية أحياناً يقصد به جاهلية السلوك والعمل، وأحياناً جاهلية الاعتقاد.
لقد عرّف الشهيد سيد قطب بوضوح أن المجتمعات الجاهلية، هى المجتمعات الغربية أو العلمانية التى تعتنقها كمبدأ أو تقوم على العقيدة الغربية غير الإسلامية فى المعتقد والتصور فضلاً عن السلوك والعمل، ثم تقدمها لنا كنموذج للعمل به كعقيدة، ولا مانع لديها من لصق بعض الأسماء والعناوين أو جزئية من السلوكيات الإسلامية عليها.
لكنه بالنسبة للأفراد فى هذه المجتمعات التى وصفها بالجاهلية لم يقصد الحكم عليهم بالجاهلية أو أنهم أصبحوا كافرين فكلٌ حسب ما يدين به ويعتقده.
كما ان مقصده فى الحاكمية هو ردّ أصل التشريع والمرجعية لله وأحكامه وليس منع الاجتهاد البشرى فى استنباط الأحكام واستخراج القوانين وممارسة السلطة ومواجهة المستجدات.
(1/17)

يقول الشيخ جاسم: " الأستاذ سيد قطب – يرحمه الله – رجل أديب له من أساليب البلاغة أطناب وتصوير قد يتسبب فى إيقاع ما ليس مقصوداً فى قلب القارئ، فيستدل بعبارته على غير وجهه، ولكن يجب أن يرد كلام الرجل بعضه إلى بعض حتى تتضح الصورة "
ويقول العالم الجليل الأستاذ أبو الحسن الندوى حينما سمع إعدام سيد قطب، وهى شهادة لها وزنها لأنها صادرة من عالم الهند الشهير: " إنها خسارة فادحة للدعوة الإسلامية، والعلم والأدب، والنقد ومأساة علمية ضخمة إن سيداً من أولئك الأفذاذ الذين يسعد بهم العالم الإسلامى، وهو فى الطراز الأول من صفوة الدعاة ورجال الفكر والأدب الذين تحظى بهم الأمم بعد فترات طويلة".
للشيخ سيد قطب منهج فكرى متميز فى الدفاع عن الإسلام، حيث تطور فكره من الدفاع إلى:
1 - بيان حقائق الإسلام،
2 - دراسة أحوال الأمة ومحاولة النهوض بها،
3 - كسر الانبهار بالحضارة الغربية،
4 - وبيان عوارها فى جميع المجالات،
5 - والتصدى للغزو الفكرى والتيارات المعاصرة.
وفى رد فضيلة الشيخ على بعض الشبهات يقول: " اقتطع من طعن فى سيد قطب جزءاً من كلامه فى الظلال فى عدة مواضع ومنها قوله: " إن الذين يفكرون فى النظام الإسلامى اليوم وتشكيلاته – أو يكتبون – يدخلون فى متاهة، ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامى وأحكامه الفقهية المدونة، فى فراغ .. يحاولون تطبيقها فى هذا المجتمع الجاهلى القائم بتركيبته المنحرفة، وهذا المجتمع الجاهلى الحاضر يعتبر بالقياس إلى النظام الإسلامى وأحكامه الفقهية فراغاً لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام ولا ان تطبق فيه هذه الأحكام. إن تركيبه العضوى مناقض للمجتمع المسلم " أ. هـ من الظلال.
وللرد على ذلك نقول مستعينين بالله تعالى: للجاهلية أكثر من معنى وأكثر من مجال فى اللغة والشرع، ففى اللغة جاءت مادة جهل على ثلاثة معان:
الأول: وهو خلو النفس من العلم.
الثانى: اعتقاد الشيء بخلاف ماهو عليه.
(1/18)

والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً.
أما الجاهلية فى الشرع، فيقصد بها:
أ - الجاهلية فى جانب العقيدة والوحدانية، ويدخل فى هذا النوع من اعتمد منهجاً فى الحكم مقابل إنكاره منهج الله تعالى وهو عالم بالتحريم، وهذا الفهم حدده الله تعالى فى قوله {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]
ب - جاهلية ممارسة الحياة اليومية: كما ورد فى القرآن عن نهى نساء النبى صلى الله عليه وسلم عن أعمال الجاهلية: قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب 33]، فلم يزعم أحد ان من فعلت ذلك تُعدّ كافرة لأن الجاهلية المنهى عنها هنا جاهلية العمل – الممارسة – وليست جاهلية الاعتقاد.
ت - جاهلية المعصية: كقول النبى صلى الله عليه وسلم لأبى ذر " إنك إمرؤ فيك جاهلية"
ولم يقل أحد: إن أبا ذر رضى الله عنه قد كفر بهذا. فلو كانت الجاهلية هنا هى الكفر لحكم بردّته وطلب أستتابته رضى الله عنه.
وهذان الأخيران لا يكفر أصحابهما، فالجاهلية بالمعنيين الأخيرين ليس بكافر، وإنما هو عاص لأوامر إلهية محددة، بكلمة أخرى: مسلم عاص.
(1/19)

والحق أن لفظ "الجاهلية" ولفظ "جهل" ومشتقاته قد ورد فى القرآن الكريم فى مواضع كثيرة واختلفت معانيهما من موضع لآخر، وقد وردتا على لسان النبى صلى الله عليه وسلم ولم يقصد بهما الخروج من الملة أو الكفر الأكبر، وإنما قصد بهما كفر النعمة لقوله صلى الله عليه وسلم " إنى رأيت الجنة – أو أريت الجنة – فتناولت عنقوداً ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء" قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن" قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير و يكفرن الإحسان، ولو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط"
ولا يمكن لعاقل أن يقول: إن النبى صلى الله عليه وسلم قال بتكفير النساء إن غضبن من أزواجهن او انكرن حسن العشرة.
إذن فلماذا حُمل كلام سيد قطب على الكفر الصريح مع أنه قول محتمل، وإن ظهر فيه تكفير فكان بضوابطه الشرعية؟.
وبعد هذا التوضيح لمصطلح الجاهلية، لنعد إلى الشيخ سيد قطب واستعمالاته لهذا المصطلح ومقصوده منه، يقول رحمه الله – فى كتابه "معالم فى الطريق" مانصه: " إن العالم يعيش اليوم كله فى جاهلية من ناحية الأصل الذى تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، جاهلية لا تخفف منها شيئاً هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادى الفائق.
هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله فى الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية .. وهى الحاكمية .. إنها تسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أرباباً ".
(1/20)

وهذه التعبيرات واضحة فى انه لا يقصد بها أفراد المسلمين، بل يقصد المصدر الذى يقنن للحياة. وفى موضع آخر يعرّف الشيخ سيد قطب المجتمع الجاهلى ويبين مقصوده منه – وهذا التعريف يندرج تحته كل ذكر لهذا المصطلح يأتى فى كتاباته، فيقول:" إن المجتمع الجاهلى هوكل مجتمع غير المجتمع المسلم، وإذا أردنا التحديد الموضوعى قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده، متمثلة هذه العبودية فى التصور الاعتقادى، وفى الشعائر التعبدية، وفى الشرائع القانونية.
وبهذا التعريف الموضوعى تدخل فى إطار "المجتمع الجاهلى" جميع المجتمعات القائمة اليوم فى الأرض فعلاً، تدخل فيه المجتمعات الشيوعية فى المجتمعات الوثنية، والمجتمعات اليهودية والنصرانية فى أرجاء الأرض جميعاً، وأخيراً يدخل فى إطار المجتمع الجاهلى تلك المجتمعات التى تزعم لنفسها أنها "مسلمة" أ. هـ. ثم يبين مقصوده من هذه المجتمعات فيقول: " وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة "علمانيته" وعدم علاقته بالدين أصلاً. وبعضها يعلن أنه "يحترم الدين" ولكنه يخرج الدين من نظامه الاجتماعى أصلاً ".فهذا النص من كلام الشيخ سيد يؤيد أنه لا يصف بالكفر إلا المجتمعات التى يتبنى نظام الحكم فيها المناهج اللادينية المناهضة للإسلام، ويحمل الشعب على هذه العقيدة الفاسدة، ولهذا فالحكم على المجتمع إنما يراد به الحكم على هذه المناهج وعلى الأنظمة التى تفرضها، وليس حكماً على الشعب".وخلاصة القول: إن الشيخ سيد – يرحمه الله – قد حدد مقصده من الجاهلية بقوله " إنها تعنى العلمانية كمنهج فى التشريع وفى الحياة كلها، وتعنى كذلك كل ما وضعه البعض من قوانين من عند نفسه تخالف شرع الله وقال هذا شرع الله " أ. هـ.
(1/21)

كما نضيف لما ذكره الشيخ الدكتور جاسم، ما قاله الأستاذ سيد فى شرحه لآية سورة البقرة {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {(276)}} [البقرة 276]
يعلق على ختام الآية {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}: " وهذا التعقيب هنا قاطع فى اعتبار من يصرون على التعامل الربوى – بعد تحريمه – من الكفار الآثمين الذين لا يحبهم الله. وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
" فالإسلام ليس كلمة باللسان، إنما هو نظام حياة ومنهج عمل، وإنكار جزء منه كإنكار الكل .. وليس فى حرمة الربا شبهة وليس فى اعتباره حلالاً وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم والعياذ بالله" الظلال ج1 ـ 328
فالأستاذ سيد يتكلم هنا عمن يتعامل بالربا وهو يستحله فيتكلم عن الاستحلال والإصرار عليه، نرى ذلك فى كلماته " الذين يحلون ما حرم الله "، " يصرون على التعامل الربوى " ..
كما يتحدث عن الإنكار الكلى إو الإنكار الجزئى لشريعة الله سبحانه وتعالى، ومن ثم يطلق الأستاذ سيد الحكم الوارد فى الآية على أمثال هؤلاء.
وهو هنا موافق لرأى العلماء من أهل السنة، لأن إنكار معلوم من الدين بالضرورة أو استحلال ما حرم الله وإنكار حرمته يكون صاحبه كافراً.
وقد بين الإمام الطحاوى عدم التكفير بالذنب إلا بالاستحلال، فيقول " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله" شرح العقيدة الطحاوية صـ 316.
وبهذا يتضح من خلال كلمات الأستاذ سيد عندما يتكلم عن مثل ذلك فى كتاباته أنه يقصد الجحود والإنكار أو الاستحلال مع العلم بالحرمة والإصرار على ذلك.
(1/22)

كما أنه فى منهجه يتكلم عن الحكم العام دون تعين الفاعل أو تحديده أو إسقاط الحكم على شخص بعينه يشير إليه، وقد قال رحمه الله صراحة: " إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة التحاكم إلى شريعة الله " (من أعلام الحركة الإسلامية لعبد اله العقيل ص، 652) وقد أجمل علماء الأزهر الأشياء التى تكون سبباً فى الكفر، وهو يتفق مع ما ذهب إليه الأستاذ سيد: وذلك فى "بيان للناس من الأزهر الشريف" الذى صدر عنهم .. ومما ذكروه فى هذا البيان: "الجحود والإنكار لعقائد الإسلام أو لما هو معلوم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة وحرمة القتل، ومثل استباحة محرم مجمع على تحريمه كالزنا والربا، وتحريم حلال أجمع على حله كتناول الطيبات .. كمشركى العرب الذين حرموا وحللوا ما لم ينزل الله به سلطاناً .. ثم ذكر العلماء أن الجحود أمر باطنى، ولذا فنحن لا نعرفه إلا بما يدل عليه ومن ذلك الإقرار باللسان أو الكتابة أو الإشارة الواضحة" (أنظر: بيان للناس من الأزهر الشريف 1/ 144 – 145)، (وراجع كتاب عقيدة سيد قطب للدكتور السيد عبد المقصود العاصى صـ 361 – 367)

سلوكه العملى مع المجتمع
قد تواترت عشرات الشهادات من الإخوان الذين عايشوه، ومن غيرهم، بشأن سلوكه العملى مع المجتمع الذى ادعى البعض أنه يكفره كان الشهيد يعيش مع الناس بصدر رحب وسماحة فائقة ومودة وحب يشع من كلماته وقلبه.
فى السجن كان هذا أسلوبه حيث مع ضغوطه وطول سنواته يسقط أى قناع أو تمثيل.
تؤكد الشهادات على أسلوبه مع المساجين الجنائيين وكيف كانوا يلجئون إليه فى حل مشاكلهم حتى أن مأمور السجن الذى كان فيه كان يلجأ إليه فى ذلك أو يحيلهم عليه .. (شهادة أ. طلعت الشناوي)
وحتى مع سجانيه الذين آذوه، كان رقيقاً مهذباً معهم، فهذا يطلب منه المساعدة المالية، وذاك يسأله النصيحة.
(1/23)

وحتى مع الذين اقتادوه لتنفيذ حكم الإعدام، لم يؤثر عنه كلمة نابية لأحد منهم أو معاملة فظة أو مقاطعة واستعلاء عليهم بل قابلهم بابتسامة هادئة ونفس مطمئنة.
كان رحمه الله يصلى الصلوات والجمعة فى مسجد السجن خلف الشيخ الأزهرى المعين من قبل الحكومة ولا يجد غضاضة فى ذلك، وكان الشيخ يدعو للحاكم بالبقاء (شهادة د. محمد بديع –ر اجع كتاب العبقرى العملاق للأستاذ إبراهيم منير)
فكيف يستقيم هذا مع إدعاء أنه يكفر:
يحكى أحد الإخوان أنه زاره فى بيته عام 1964 فوجد عنده زوج وزوجة وكانت الزوجة تلبس لباساً عادياً ليس مطابقاً للحجاب وكان يصلح بينهما ويساعد فى حل مشكلتهما حتى لا يحدث طلاق.
وعندما سأله أحد الإخوان عن فتاة يتزوجها، لم يقل له لا تتزوج من هذا المجتمع الجاهلى.
وعندما تكلم معه بعض الإخوان عن التوتر الطائفى فى صعيد مصر (والشهيد من مواليد إحدى قرى محافظة أسيوط) بين المسلمين والمسيحيين كان رحمه الله رافضاً لهذا التوتر داعيا ومؤكدا لوجوب حسن العلاقة معهم رافضا لأى إيذاء لهم (من شهادة د. محمد بديع)
ولم يقتصر وفاء ورقة مشاعر الشهيد على صلته بالبشر، بل تعداه إلى علاقته بكل ما حوله حتى الحيوانات، فلقد ألف نزلاء ليمان طرة، قطاً أعور تتقزز الأبدان لرؤيته، كان يأوى بالقرب من الأستاذ سيد قطب، يخصص له قسماً من طعامه، وكان يقول: " ليس من الوفاء أن نجافيه ونضيعه فى هرمه بعد طول صحبته لنا" (صـ 55 العبقرى العملاق)
فهذه الشهادات واضحة تماماً فى تأكيد رفضه للانعزال أو الإحساس بالكبر واحتقار الآخرين مهما كان فسادهم.

صموده وثباته على دعوته
ملف:
Qutb3.jpg
الأستاذ سيد قطب
ومما تميز به رحمه الله، الثبات الشديد على دعوته والوفاء ببيعته وقد تعرض لصنوف التعذيب والضغط ومحاولات الاستدراج والإغواء، فرفض كل ذلك.
(1/24)

لقد عُرض عليه أكثر من مرة – وهو فى السجن – أن يكتب ورقة اعتذار لجمال عبد الناصر ليتم الإفراج عنه فرفض ذلك، واستخدموا أخته للضغط عليه بعد صدور حكم الإعدام لكى يفعل ذلك مقابل حياته، فرفض، بل وعند تنفيذ الحكم عُرض عليه ذلك فأبى، واعتبر رحمه الله أن تضحيته بنفسه هذه، أصغر وأقل مما يجب عليه تجاه دعوته.
عُرض عليه فى عام 1964 بعد الإفراج الصحى – نتيجة وساطة الرئيس العراقى عبد السلام عارف – أن يعمل فى العراق مستشاراً لوزارة التربية، فرفض مفضلاً البقاء فى مصر حاملاً للدعوة وهو يعرف ما سيناله أو يتعرض له.
ذهبوا إليه لكى يكتب مقالات فى إحدى الصحف الرسمية، مقابل المال، وبحجة الرد على الشيوعيين فرفض أن يستخدم من قبلهم لتحقيق أهداف لهم ... (راجع كتاب العبقرى العملاق للأستاذ إبراهيم منير)
وبعد قيام الثورة عام 1952، حاولوا استمالته تارة بالإغراء وتارة بالتهديد، لينحاز إليهم ضد قيادة الإخوان، فرفض ذلك بوضوح، ضارباً المثل فى الثبات والالتزام بالدعوة، رغم أن بعض الإخوان ممن كانوا أسبق منه استدرجوا وسقطوا فى هذه الزحلوقة.
كان قد بلغ به التعذيب إلى حد لم يعد قادرًا معه على النهوض فكانوا يحملونه إلى المحكمة العسكرية التى تنظر فى قضيته، وقد كشف عن صدره وظهره أمام المحكمة فظهر آثار الضرب الشديد بالسياط ونزفت رئتيه الكثير من الدماء، وربطوه فى كرسى لمدة 4 أيام دون طعام ودون السماح له بالنوم حتى يكون فى المحكمة فاقداً للتركيز وقتلوا ابن أخته (نفيسة قطب) وهو – رفعت بكر – أمامه وهم يعذبونه ... (راجع كتاب العبقرى العملاق صـ 44).
رغم مرضه الشديد فى السجن وما حدث له من تعذيب حتى أوشك على الموت كان الشهيد يقول لإخوانه .. " إذا حورب الدين فليس لأحد رخصة، وإذا حوربت الشريعة فلا يجوز لأحد أن يترخص، ثم العلماء أيضاً لا يجوز لهم أن يترخصوا بحال من الأحوال. " ... (صـ 30 كتاب العبقرى العملاق).
(1/25)

رجاه بعض إخوانه فى السجن ألا يطبع كتاب المعالم، حفاظاً على حياته حيث سيتربص به الشيوعيون، فرفض بإباء قائلاً: لابد أن يتم البلاغ وقد سأله إخوانه لماذا كنت صريحاً كل الصراحة فى المحكمة التى تملك عنقك؟ فقال: لأن التورية لا تجوز فى العقيدة ولأنه ليس للقائد ان يأخذ الرخص ... " صـ 5 كتاب العبقرى العملاق)
عندما كان فى زيارة للأردن عام 1953، طلب أن يتصل بالقاهرة وذلك لشوقه لسماع صوت الوالد المرشد، كما قال هو.
وقبل إعدامه بيوم أوصى أخته حميدة قطب فى الزيارة: " إن رأيت الوالد المرشد فبلغيه عنى السلام وقولى له: لقد تحمل سيد أقصى ما يستطيع حتى لا يصل فضيلتك أدنى سوء " أ. هـ.
حيث كان الجلادون يشتدون فى تعذيبه ليتكلم بأى شيء يدين الأستاذ الهضيبى ... (صـ 55 من كتاب العبقرى العملاق)
عرض عليه مجلس قيادة الثورة منصب وزير المعارف، ولكنه اعتذر، ورجوه أن يتولى منصب المدير العام للإذاعة فاعتذر.
ساوموه على أقل من مجرد الاعتذار، ولو بالمداهنة، بكتابة ولو برقية تهنئة لعبد الناصر فى أى مناسبة من المناسبات الكثيرة، فرفض فى إباء وشمم ... (ص 33 من كتاب العبقرى العملاق).
بعد خروجه من السجن طالبته الضرائب بمبلغ أربعون ألف جنيه، كضرائب مستحقة نظير كتبه، ثم بعدها ذهب إليه أحد كبار رجال المباحث وعرض عليه العمل كوكيل وزارة مع إعفائه من الضرائب المستحقة عليه، فاعتذر له من عدم قبول ذلك.
وعرضوا عليه إنشاء مجلة إسلامية يتولى رئاسة تحريرها، تابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامى التى كان يرأسها فى حينها أنور السادات، وكانوا يقصدون جره للعمل ومشاركتهم فيه والعمل تحت رايتهم فرفض كل ذلك لأنه كان يعرف مقصدهم ويقرأ ما وراء السطور ... (راجع كتاب العبقرى العملاق، ص ـ 33).
(1/26)

عندما علمت أخواته البنات بأن فضيلة المرشد كلفه بقيادة مجموعة الشباب عام 1964، أشفقوا عليه من الاعتقال مجدداً وهو فى مثل حالته الصحية، فرجاه بعضهن أن يعتذر للأستاذ المرشد، فكان رده حاسماً لهن: " لم أكن لأراجع الأستاذ المرشد فى تكليف كلفنى إياه ... " (صـ 36 من كتاب العبقرى العملاق)
وعندما أرسلوا أخته لتطالبه بالاعتذار نظير منع تنفيذ حكم الإعدام، كان رده عليها وعلى غيرها: عن أى شيء أعتذر؟ عن العمل مع الله؟ وقال للضابط الذى رجاه ذلك أيضاً: إن أصبع السبابة الذى يشهد لله بالوحدانية فى الصلاة ليرفض أن يكتب حرفاً يقر به حكم طاغية".
" لماذا استرحم؟ إن سجنت بحق فأنا أقبل حكم الحق، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل " ... (صـ 41 العبقرالعملاق).
انتمى الأستاذ سيد لدعوة الإخوان المسلمين سنة 1951، وكان يعبر عن هذا بأعمق تعبير قائلاً: " ولدت سنة 1951 م) ... (صـ14 كتاب العبقرى العملاق).
نقرأ كلماته فى محاضر التحقيق فى 1965، فنجد النفسية القوية والهدوء الواثق وكيف يحول صفحات التحقيق إلى توضيح لدعوته وتوجيه للأمة ولمن يعملون للإسلام، ويواجه الحكم عليه بابتسامة هادئة وبشهادة فى سبيل الله تمنى أن ينالها.
كان الشهيد رحمه الله شديد الالتزام بمنهج الإخوان منبهراً بالإمام الشهيد، رغم أنه لم يلتق به، وكتب فيه مقالة عن عبقرية البناء. وكان شديد الاعتزاز والاحترام لقيادة الإخوان متمثلة فى مرشدهم الأستاذ الهضيبى يخاطبه ويذكره دائماً بالأستاذ الوالد.
وقد استأذنه فى توليه قيادة وتربية مجموعة الشباب عام 1965، وغياب هذه المعلومة عن بعض الإخوان، (وقد أكدها فضيلة الأستاذ الهضيبى نفسه وغيره من الثقات من الإخوان) جعلت هذا البعض يظن غير ذلك.
(1/27)

وقبل أن يساق الشهيد لتنفيذ حكم الإعدام فيه – وقد فهم ذلك – حتى طرق باب أحد الزنازين وأبلغ الأخ فيها أن يبلغ الأستاذ الوالد أنه على العهد باق وأنه يجدد بيعته وأنه لم يكفر أحداً (وكان هذا الأخ هو الأستاذ مأمون الهضيبى) (راجع كتاب العبقرى العملاق – وشهادة أ. جمعة أمين)
كان يقول لإخوانه داخل السجن، لقد اختط الإمام الشهيد حسن البنا نهراً واسعاً وطريقاً واضحة للحركة والدعوة الإسلامية وعلى كل من يأتى بعده أن يصب فى ذلك النهر وأن يدعمه، لا أن يشتق أو يختط له مساراً آخر (شهادة أ. طلعت الشناوى وقد التقى بالشهيد وحاوره داخل السجن)
رؤيته بالنسبة للإصلاح الجزئى
على المستوى الفردى كان رحمه الله، يقوم بذلك من حل للمشاكل وإعانة للآخرين فى المجتمع، بل ويشجع على ذلك.
أما بالنسبة للجماعة فكان يرى ألا تشغل نفسها بتقديم برامج الإصلاح للمجتمع وتفاصيلها فى رؤية الإسلام أو ننشغل بالرد على من يسأل عن رأى الإسلام وكيف يحل هذه المشاكل، لأنهم من وجهة نظره يسألون ليس للتطبيق وإنما للمجادلة، وحتى لا تضيع الجماعة وقتها لأن الأولوية عندها فى تفهيم الناس وتربيتهم على أصل العقيدة ولأن المجتمع غير جاهز لتطبيق ما سيعرض عليه، وكان هذا الفهم عنده متأثراً بأن أغلب الجماعة داخل السجن لسنوات طويلة ولا منفذ لديها بالمجتمع والذى تحاول فيه الدولة إقصاؤهم عنه.
وتعتبر هذه النقطة الفرعية فى كلمات الشهيد هى التى اختلف فيها مع منهج الإمام البنا، ولو تغيرت الظروف التى أحاطت به أو راجعه أحد فيها لذهب إلى غير ذلك، حيث أن دعوة الإخوان تجمع بين رؤية الإصلاح الكلى الشامل، وبين منهجية الإصلاح الجزئى، وأنه رغم أن الحكومة لا تستجيب لمطالب الإصلاح وبرامجه المقدمة من الجماعة إلا أنها ستواصل ذلك توضيحاً للإسلام وإبلاغاً للدعوة وإقامة للحجة وتفاعلاً مع الأحداث والمواقف.
(1/28)

وأما بشأن ترقيع المجتمع الجاهلى بما فيه من أفكار وقيم جاهلية منحرفة عن قيم الإسلام، فهذا كان الشهيد سيد قطب يرفضه بوضوح، وكان يقصد بهذا أن نأتي إلى القيم المنحرفة عن الإسلام فنضيف إليها جزئية من قيم الإسلام، ثم نقبل بها بعد هذا الترقيع كحلٍّ وسط؛ لكي نلتقي معها في منتصف الطريق، وما ذهب إليه الشهيد بهذا المعنى هو من بديهيات الإسلام.
وما حدث من لبس عند البعض في هذا الشأن كان بخصوص كلمة "المجتمع" وعدم التبيُّن في أنه هل يقصد بها الناس وأحوالهم أم القيم والأفكار والمبادئ؟
ولم يمنع الشهيد الاستفادة الفعلية من شتى العلوم والحكمة من أي جهة؛ ما دامت ستوظَّف لصالح الأمة وتصطبغ بصبغتها الإسلامية وتكون داعمةً لها.

شهادات لبعض العلماء (وهى نماذج كعينة فقط)
1) من أقوال الأستاذ حسن الهضيبي عن الشهيد سيد قطب عندما انضم إلى الإخوان: " إن سيد قطب هو الأمل المرتجى لهذه الدعوة إن شاء الله " (صـ149 كتاب العبقرى العملاق)
2) شهادة عبد الله بن جبرين عن حسن البنا وسيد قطب (فى 26/ 2/1417 هـ)
" إن سيد قطب وحسن البنا من علماء المسلمين ومن أهل الدعوة وقد نفع الله بهما وهدى بدعوتهما خلقاً كثيراً ولهما جهود لا تنكر ولأجل ذلك شفع الشيخ عبد العزيز بن باز فى سيد قطب عندما قُرر عليه القتل، وتلطف فى الشفاعة فلم يقبل شفاعته الرئيس جمال عليه من الله ما يستحقه .. ولما قتل كل منهما أطلق على كل واحد أنه شهيد لأنه قتل ظلماً. وشهد بذلك الخاص والعام ونشر ذلك فى الصحف والكتب بدون إنكار ثم تلقى العلماء كتبهما ونفع الله فيها " (صـ 115كتاب العبقرى العملاق) 3) ردّ فضيلة العالم المحقق بكر أبو زيد على الاتهامات (أو الافتراءات) التى ساقها الشيخ ربيع بن هادى مدخلى بإدعائه أن الأستاذ سيد قطب يذهب إلى فكرة وحدة الوجود، وينادى بخلق القرآن، ويرى أن للبشر حقاً فى التشريع مع الله، وهى اتهامات لا أصل لها.
(1/29)

ففى الظلال فى تفسير سورة البقرة آية 116، 117، يقول الأستاذ سيد:" ومن هنا تنتفى من التفكير الإسلامى الصحيح فكرة وحدة الوجود. " إ. هـ. وفى كتابه مقومات التصور الإسلامى رداً شافياً على القائلين بوحدة الوجود.
ويقول فضيلة العالم بكر أبو زيد فى شهادته عندما طالع كتب الأستاذ سيد: " فوجدت فى كتبه خيراً كثيراً وإيماناً مشرقاً وحقاً أبلجاً وتشريحاً فاضحاً لمخططات العداء للإسلام". أ. هـ.4) نذكر هنا ما قاله الشيخ الألبانى فى حق الأستاذ سيد قطب: " إن كتابات قطب عليها نور وعلم ويكفى أنه قتله أعداء الإسلام. " إ. هـ
أما بعد: هل الدفاع عن العلماء المجاهدين وإنزالهم منازلهم أمر منكر خارج عن الدين أم هو من هدى الإسلام وأدبه.
وأين هى مظاهر التقديس المزعومة؟ لو سألت أحداً من الإخوان أين قبر الإمام الشهيد أو الشهيد سيد قطب لما أجابك غالبيتهم، وكم منهم يزوروه، لما وجد إجابة من أحد، وأين هذه العصمة ونحن نقول كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأين هذه الموالد والطقوس التى يقيمونها فى ذكراهم او حتى الهتاف بأسمائهم مثلما يفعل غيرهم.
أما إذا دافع الإخوان عن علماء الإسلام وشهداءهم، وإذا ذكّروا الناس بمواقف الدعوة والتضحية وبكلمات الخير والنور، يكون ذلك تقديساً منهم؟ أم انه التحامل والافتراء؟
- وقد يسأل البعض هل نحن بحاجة إلى مثل كتابات الشهيد سيد قطب فى هذه المرحلة الآن؟ الإجابة القاطعة تكون بنعم حيث ما زالت الأئمة تواجه حملة شرسة ضد قيم الإسلام، وتواجه محاولات من قوى عالمية للسيطرة عليها واحتوائها، وفى ظل عولمة الإعلام ووصوله بكل الأفكار والشبهات إلى الجميع تقريباً يصبح التحصين ضدها والقوة فى الدفاع عن قيم وأحكام الإسلام والتميز بها أمراً لازماً وهو ما تقدمه كتابات الشهيد وغيره من العلماء المجاهدين وبالتالى يجب الاستفادة من كتابات الشهيد فى ظل الضوابط التى أشرنا إليها.
(1/30)

بشأن توليه القيادة وتوجيه مجموعة 65
هل كان قيامه رحمه الله بالإشراف على تربية وتنظيم وتوجيه شباب الدعوة فى 65، يعتبر خطأ حركياً وخارج عن سياسة الجماعة، أو سبب لها ضرراً وانتكاسة؟
إن من يقول هذا الكلام لم يفهم دعوة الإخوان، ولم يعرف قواعد الإسلام ومبادئه فمقياس الخطأ والصواب أو الضرر والفائدة لا يكون بالهوى الشخصى وإنما بالرجوع لأحكام الشرع ومبادئ الدعوة إلى الله. إن العمل والدعوة للإسلام فى مناخ مناوئ له فريضة لازمة، وسيكون له تضحيات كالقابض على الجمر، وأن هذا هو واجب الدعاة وورثة الأنبياء مهما لاقوا من أذى.
فما قام به الشهيد ومن معه من شباب هو أداءٌ لواجب الدعوة وللأهداف التى آمنوا بها وبايعوا عليها. إن قبوله قيادة الشباب فى هذه الفترة، وهو حديث الخروج من السجن يعانى من الحالة الصحية وضيق المورد المالى، وذلك كى يربيهم على الإسلام ويبعد بهم عن طريق العنف والانتقام – وقد أفادوا جميعاً بذلك كان هذا يمثل قمة فى الثبات والتضحية وكسرًا لحاجز الخوف.
كما أن حركتهم هذه - وإن لم تشمل جميع الإخوان- حيث كانت فى بدايتها إلا أنها كانت فى إطار المؤسسية وتحت علم قيادة الجماعة وموافقتها وما شهادة بعض أفراد الجماعة بعكس ذلك، إما لعدم علمه أو لخلطه فى الأمر بين منع القيادة أى تجمعات للشباب تنتهج منهج العنف أوتسعى لرفع السلاح، وبين تأييدها للقيام بالتربية وحمل الدعوة.
كما أن قيام هذه الفئة المؤمنة وإقدامها على الحركة بالدعوة والتجميع والتربية، وأمامهم مناخ السجون والاعتقالات والتعذيب من نظام طاغٍ لا يعرف قانوناً، كان فى ذاته يشكل انتصاراً معنوياً للإيمان والعقيدة التى ارتفعت وتسامت فوق كل ذلك وتجاوزت الخوف مما سيحدث لها من بطش.
(1/31)

كما أن هذه الحركة المباركة لشباب 65، كانت رداً عملياً على بطش النظام وأنه لم يستطع أن يخضع الجماعة أو يرعب أبناءها أو يوقف مسار دعوتها، وكانت صوتاً معارضاً قوياً لهذا النظام فى حين سكت الجميع وخضعوا له مما أحرق كبد النظام غيظاً، فكان بحق مفخرة فى تاريخ دعوة الإخوان المسلمين – ونذكر عندما ذهب أحد الإخوان للأستاذ الهضيبى وقتها – يشتكى من حركة هذا الشباب بالدعوة والتجمع قال له أوليس قعودك عن الدعوة والعمل لها إضراراً لها (من شهادة الدكتور محمد بديع)

هل الشهيد يمثل مشروعا مستقلا أو موازياً؟
لم يقصد الأستاذ سيد قطب بكتاباته أن يقدم مشروعا مستقلا أو موازيا، وإنما كان ملتزما بالمشروع الإسلامى، والمنهج الدعوى الذى أرسى معالمه الإمام البنا، فقد ركز بأسلوبه على بعض المحاور خاصة فى مجال تميز القيم والمفاهيم الإسلامية فى مواجهة القيم الغربية، مما كان يناسب الظروف الضاغطة التى أحاطت بالدعوة فى تلك الفترة ومازالت، فكان كما قال يصب بجهده وفكره فى دعم هذا المشروع.
لم يكن الشهيد صاحب رؤية خاصة به أو تيار فكرى مخالف لمنهج الإمام الشهيد العملى والفكرى، بل كان ملتزماً حريصاً على ذلك الانتماء وتلك البيعة، وبالتالى فإن إطلاق اسمه ونسبته لمجموعة من الأفكار والأطروحات تدور حول التكفير والانعزال والتشدد والعنف لهو مخالف للحقيقة مجانب للصواب، واعتداء على فكر الشهيد رحمه الله لم يكن ليرضى به حياً أو ميتاً.
وإن ظهور لفظ "القطبيين" كان ضمن الحملة ضد التيار الإسلامى لتشويه صورته ووراءه دوافع أمنية تحاول أن تزرع الخلل فى صفوف الدعوة.
(1/32)

إن من يدعون ذلك لا يستندون إلى أى أصل أو دليل إلا التوهم والظن لفكرة نشأت فى عقولهم هم. فهذه أقواله وكلماته منذ التزم بالدعوة حتى آخر يوم فى حياته تعلن الالتزام بدعوة الإخوان والتمسك ببيعته، ولم يكتب حرفا أو يصرح بكلمة أنه صاحب مشروع آخر مستقل .. وهذه شهادات من عاشوا معه واختلطوا به تقطع بغير ذلك التوهم.
بل إن التحليل العلمى لكتاباته تشير إلى أنها ليست مشروعا وإنما توضيح وتأصيل لقيم ومناهج ومواقف تخدم القضية الإسلامية وتعمق المشروع الإسلامى الأساسى.
إن أى مشروع لابد أن يحدد فيه بوضوح منطلقاته وأهدافه ومراحله ووسائله الأساسية، وذلك حتى نستطيع أن نقول ونشير إليه كمشروع مثلما فعل الإمام الشهيد وكتب ووضح، فهل هذا موجود فيما كتبه الشهيد سيد قطب، وهل فيما كتب استقلالا فى الرؤية، أو مخالفة فى التصور عما دعا إليه الإمام الشهيد، حتى نقول وندعى أن له مشروعا مستقلا.

خاتمة
نعيد الإشارة أن دعوة الإخوان ومنهجها وكذلك الشهيد سيد قطب وعطاءه وفكره، ليست بحاجة إلى رد أو دفاع ولكنها تذكرة ووقفة مع معانى الحق، ونحن لا نرفع أحداً إلى مرتبة القداسة، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم وميزان الأمر هو أحكام الشرع وقواعده.
لقد شهدت كتابت الشهيد انتشاراً واسعاً وتأثر بها كثير من أفراد وحركات التيار الإسلامى وحركات المقاومة ضد الاستعمار.
لهذا كان أعداء الإسلام حريصين أن يحدثوا الهزيمة النفسية وترسيخ قيمهم الغربية داخل الشخصية المسلمة، ليتمكنوا من السيطرة عليها من داخلها ثم السيطرة على أرض الواقع وميدان المعركة.
(1/33)

لقد وجدوا أن كتابات الشهيد تتميز بالرفض الشديد لهذه القيم التى يحملها المشروع الغربى والمفاصلة الكاملة معه كما أن محاولتهم للقضاء على الإسلام المقاوم الذى يتصدى لهيمنتهم شملت أن يضربوا جذور هذا الفكر وأن يضربوا معنى الجهاد، ويغيروا مدلوله لتضعف المقاومة وتخضع الشعوب لسلطانهم وسيطرتهم، إننا جميعا يوم القيامة سنقف بين يدى الله الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، لتظهر الحقائق ويحاسب كل فرد على موقفه وكلماته وعمله.
والله يهدى إلى سواء السبيل؛
(1/34)


موقف الاخوان المسلمين من البدع و البيعة


#شبهات_وردود

الموقف من البدع و البيعة

محتويات
١ مقدمة
٢ الذكر وأحكامه .. الشرعي والبدعى منه
٣ شبهة الأناشيد
٤ شبهة الملابس
٥ شبهة التصوير الفوتوغرافي
٦ شبهة البيعة للمرشد
٧ إقرأ المزيد
مقدمة


يقولون: الجماعة تساهلت في البدع الإضافية مثل: التزام المأثورات، والذكر الجماعي، والصيام الجماعي، ونحو ذلك، والبدع الإضافية هي ما له أصل في الشرع ولكن التزمت في هيئة معينة أو وقت معين لم يرد الشرع بخصوصه.
وهذه لا شك أنها أخف من البدع الحقيقية، وهل تدخل في مسمى البدع المنهي عنها في قوله صلي الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" أو لا تدخل في ذلك ؟ محل خلاف بين أهل العلم، فبعض العلماء يري أنها لا تدخل في البدع المنهي عنها، ويستدل لذلك بقول عمر بن الخطاب: "نعمت البدعة هذه" ، وبإجماع الصحابة علي كتابة المصحف وتدوينه، وكذلك بكتابة العلم والرحلة فيه، ولاشك أن الانتقال في طلب العلم والحديث عبادة، ومع ذلك فإنما فعله الصحابة و التابعون وتابعوا التابعين، ولم يكن في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم.
وأما الذكر الجماعي فقد ثبت تشريعه بالنص، ومن ذلك قوله صلي الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدراسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"، وكذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض، فإذا رأوا حلقة من حلق الذكر حفوهم بأجنحتهم وتنادوا أن هذه طلبتكم" ، وفي هذا الحديث أنهم إذا ارتفعوا إلى ربهم سألهم وهو أعلم، فيخبرون أن هؤلاء الملأ كانوا يذكرونه ويسبحونه ويحمدونه ويهللونه، ويسألونه الجنة ويستعيذونه من النار، وكل هذا ذكر جماعي. وكذلك الصيام الجماعي فلاشك أن الجماعة الذين يراد تقارب وجهات نظرهم، وتقارب مستواهم فيما يتعلق بالتكوين والتربية وفي الإيمان يحتاجون إلف أن يتنافسوا في الخير، ويساعد بعضهم بعضأ، وقد كان كثير من السلف يتعاونون على هذا، فقد ثبت عن أيوب السخستياني أنه اجتمع مع عمرو بن عبيد قبل أن يفتن فطافا حتى أصبحا، فلما كان من العام القادم اجتمعا فطاف أيوب حتى أصبح، وتكلم عمرو حتى أصبح، ونظير هذا كثير.
وقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم يوجه بعض الأسئلة إلي أصحابه، من ذلك أنه قال: "من أصبح صائما اليوم ؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال: من اتبع جنازة؟ قال أبو بكر: أنا... إلى اخر الحديث" ، وهو تنبيه علي أهمية هذه المنافسة، وكذلك قول معاذ: "تعالوا بنا نؤمن ساعة".

الذكر وأحكامه .. الشرعي والبدعى منه

هذا وقد رد فضيلة الشيخ البنا علي ذلك في فتاواه بجريدة الإخوان فقال: الذكر قربة إلى الله تبارك وتعالي بنص الآيات والأحاديث الكثيرة المعلومة للخاص والعام، أما كيفيته فقد أشارت إليها الآية الكريمة:" واذكر ربك تضرعا وخيفة ودون الجهر بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين " (الأعراف: 205)، وهو مطلوب علي كل حال، كما قال تعالي:" يأ أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا " (الأحزاب: 41 - 42)، وكما قال تعالي  :" فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " (النساء: 103).
وكل صيغة فيها ثناء علي الله تبارك وتعالى وترديد لاسمه الكريم، وتذكر لآلائه ونعمه وشكر له عليها فهي ذكر.. فالاستغفار ذكر والتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة علي الرسول (صلي الله علية وسلم) كلها من أنواع الذكر.
فالاستغفار ذكر، والتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة علي الرسول (صلي الله علية وسلم) كلها من أنواع الذكر.
بقيت الكيفية التي يذكر بها أبناء الطريق الآن من الاجتماع للذكر والاهتزاز فيه وغير ذلك، فهذه الكيفية إن صحبها محرم كالدف أو الشبابة أو وجود نساء كما يقع أحيانا، أو كانت في موضع لا يليق فيه الذكر، أو كانت الأسماء التي يذكرون بها غير صحيحة أو كان المقصود من الاجتماع الرياء والتفاخر وتزيين ليالي الأفراح بمنظر الذاكرين والتلهي بمشاهدتهم والتفرج برؤيتهم أو أخذ الأجر علي الذكر، أو الحصول علي الطعام والمغانم الدنيوية، فذلك كله حرام لا يقره الدين ولا يوافق عليه، ولم يكن علي عهد النبي (صلي الله علية وسلم) ولا أصحابه، ولا ثواب فيه ولا بركة، وهو منكر شرعي يجب الإنكار عليه والإقلاع عنه.
وإن كان الاجتماع للذكر في مكان مناسب كمسجد أو منزل وكان الذكر بألفاظ صحيحة ولا محرم فيه مع الخشوع وحضور القلب، والاشتغال بالله تبارك وتعالى ، والتأدب في حضرته والاعتدال في الصوت، بحيث يكون كما قال تعالي:" ودون الجهر من القول " (الأعراف:255)، مع مراعاة آداب الذكر التي قال فيها الشيوخ كثيرا، واختصره بعضهم في عشرين أدبا قبله وفي أثنائه وبعده، وكانت الغاية طاعة الله وحده، وتذكير الناس به، إذا كان كذلك فلا بأس بالاجتماع علي طاعة الله تبارك وتعالي والتقرب إليه بذكره.
نعم.. إن هذه الكيفية لم تكن علي عهد النبي (صلي الله علية وسلم) كل واحد يذكر
الله لنفسه واجتماعهم إنما كان علي مدارسة الحديث والعلم، ولكن لما قصرت الهمم، وكلت العزائم عن الطاعة، وكان الاجتماع منشطا علي العبادة والذكر، ولاسيما الاجتماع مطلوب في كثير من العبادات، ووردت في فضله أحاديث كثيرة، وفيه بركة عظيمة، لما كان الأمر كذلك، أوصي الشيوخ بالاجتماع علي الذكر، وهي وصية حسنة متقبلة، وعمل مشكور إن شاء الله تعالي، مادام قد خلا من المحرمات وروعيت فيه الآداب.
وهذا ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله (صلي الله علية وسلم)، فقد روي معاوية - رضي الله عنه -:"أن رسول الله (صلي الله علية وسلم) خرج علي حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم، قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده علي ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: الله ما أجلسكم إلا هذا، قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة" .
وروي أبو هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله (صلي الله علية وسلم): "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تناد؟ا: هلموا إلي حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلي السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم –وهو أعلم بهم -: ما يقول عبادي ؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك، ويحمدونك ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني ؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني ؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا، قال: فيقول: فما يسألون ؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون ؟ قال: يتعوذون من النار، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، لال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد منها مخافة، قال: فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقي جليسهم" (هذه رواية البخاري)
ورواية مسلم قال: ”إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بجنهم وبين السماء والدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل -وهو أعلم -: من أين جئتم ؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في ا لأرض، يسبحونك ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك، قال: فماذا يسألوني ؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي ؟ قالوا: لا يا رب، قال: وكيف لو رأوا جنتي ؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومما يستجير وني ؟ قم من: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري ؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري ؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: يقولون: ربنا، فيهم فلان، عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقئ بهم جليسهم"أخرجه الترمذي نحو رواية مسلم عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري - بالشك - وفي ألفاظه تغيير وتقديم وتأخير.
أرسل أحد السائلين رسالة إلى الشيخ البنا تعليقا على ما سبق، يذكر كل طريقة يذكر لم ترد هيئتها عن السلف. رضوان الله عليهم. ويعد ذلك من البدع المحرمة المنهي عنها، فأجابه الأستاذ البنا بما يلي:
أخي السيد: فلان
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
وبعد فما أجمل أن تتلاقى نفوس المسلمين وأقلامهم حول البحث عن الحقيقة وتجليتها للأمة في صفاء وإنصاف وإخلاص ليس لها من دافع إلا حب الحق ومناصرته، ومرحبا يا أخي بمساجلتك ومناصحتك، وليس أحب إلى نفسي من أن يتبين لي الصواب فأعود إليه مطمئن النفس مثلج الصدر، لأني أعتقد أن كل مخلوق يؤخذ من كلامه ويترك إلا الرسل المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم، فأدلي إليك بوجهة نظري علي هذه القاعدة راجيا أن تقنع بها نفسك أنت الاخر، لا أقولها اتهاما ولكن تذكيرا، فاسمع يا أخي:
أولاً: كل خطابك الكريم دائر حول التنفير من البدعة وبيان سوء أثرها في العقائد والعبادات وإيراد النصوص والأمثلة علي ذلك، وأنا معك في أن البدع والمبتدعين في النار، وكان لهم في الإسلام بل في كل دين أسوأ الآثار، وفي الأخذ بالسنة والسير علي نهجها الواضح هو أفضل منار يهتدي به المسلمون، ولكني أحب أن يلاحظ أن هذا البحث، بحث البدعة والسنة، من أعضل البحوث في أحكام الإسلام لا يقطع فيه ببادئ الرأي، بل لابد من نظر دقيق وإحكام تام في القواعد والتطبيق، وكم زلت فيه أقدام الفحول من السابقين واللاحقين.
ما تعريف البدعة الدقيق المضبوط ؟ وما أنواعها؟ وما حكم ما له أصل في الدين وأدي بكيفية لم ينص عليها؟ وما حكم فعل تركه النبي (صلي الله علية وسلم) وما الفرق الواضح بين البدعة الحقيقية والمصالح المرسلة؟ وهل لا يتغير حكم البدعة باختلاف ا
لظروف والمقتضيات ؟ كل هذه أبحاث تتناول البدعة والسنة، خاض فيها العلماء وتشعبت آراؤهم فيها تشعباً لابد أنك تعلمه وتحس ثقل وطأته، كما يحسه كل من عالج هذا الموضوع علاجا صحيحا، وبعد هذا فهل يكفي الاتفاق علي تحديد هذه الموازين لحسم الخلاف بين الناس في الحكم علي ما يحدث من الأمور؟ إن في كله لا يكفي فإن أنظار الناس تختلف في التطبيق أكثر مما تختلف في وضع القواعد والأصول. رأيت يا أخي كيف أن هذا البحث مضلة الأقوام، ومزلة العقول والأفهام، والناس فيه بين مفرط ومفرط، اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل، والتسديد في القول والعمل. لقد قرأت كثيرا عن البدعة وقرأت ما كتب الشاطبي وابن الحاج وغيرهما، ولكن كل ذلك لم يلهم نفسي الطمأنينة إلى الحكم علي كثير مما يسميه الناس بدعا بهذه البدعية المطلقة وبهذا الوعيد الشديد، ولعلي أوفق في الأعداد القادمة إلى استيعاب هذه البحوث والكتابة عنها بما يزيل اللبس ويكشف الغموض -إن شاء الله تعالي.
وختام هذه النقطة أن أقول لأخي إن موضوعنا ليس تحرير أحكام البدعة من حيث هي، فإننا نكاد نكون متفقين في هذه الناحية، ولكن موضوعنا هو الحكم علي عمل خاص بالبدعية، فمن ثبت له وصف البدعية المحرمة ترتب علي ذلك ما ذكرتم في خطابكم، وهذا ما سأعرض له في النقطة الثانية.
ثانياً: لم يعرض الأخ –أيد الله به الحق - في خطابه إلى بيان وجه البدعية المحرمة في الذكر المقيد بالشروط التي ذكرتها في الفتوى إلا من حيث أنه لم يعمل به في عهد النبي مجلا!- ولا في عهد الخلفاء الراشدين وسلفنا الصالح، وهذا القدر نحن متفقان عليه فقد قلته في الفتوى بالنص تقريبا، ولكن أليست السنة تثبت بالقول كما تثبت بالعمل ؟ والجواب: نعم، لأن تعريف السنة عندهم فعل النبي (صلي الله علية وسلم) أو قوله أو تقريره، وألسنا قد أمرنا بالذكر في قول الله تعالي: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا" (أ لأحزاب: 41 – 42)، والجواب: نعم، وأليس الحق تبارك وتعالى قد أطلق لنا الكيفية في قوله تعالى : " فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " (النساء: 103).
والمعلوم من ذلك أي علي كل حاله من حالاتكم، والجواب: نعم، و أليس قد ندبنا الرسول (صلي الله علية وسلم) إلى الاجتماع علي الذكر والتحلق له في مثل قوله (صلي الله علية وسلم): "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله ؟ قال: حلق الذكر"، وفي مثل قوله (صلي الله علية وسلم): "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفورا لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات"، وفي مثل قوله (صلي الله علية وسلم): "لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة" ، والجواب: نعم..
وقد تقول: إن الذكر هنا معناه العلم، فأقول لك إن الذكر معني عام يشمل العلم وغيره، وقد ورد في بعض الأحاديث بمعني العلم، وفي غيرها بمعني التسبيح والتحميد، وفي غيرها بمعناه المطلق فقصره علي العلم تحكم، إذا تبين هذا كان الذى س الذي أعنيه ذكرا مأمورا به علي كيفية لا ينكرها الشرع ولا ينطبق عليه وصف البدعية المحرمة، وهو ما ورد في فتواك، وأرجو أن أكون بذلك قد وفقت.
ثالثاً: بقيت مسألة مهمة أحب أن تكون مسك الختام، وحبذا لو انضمت أصوات الفضلاء فيها إلى صوت هذا الضيف إذن لوجدت الأمة سبيلا مفيدا إلى الرجوع إلي هدي الدين الحنيف، هذه المسألة هي أنني أحب دائما أن يكون سبيلنا في الرجوع إلى السنة المطهرة، بحيث نوجه معظم العناية إلى دعوة الناس إلي السنة، ولا نسلك معهم سبل الجدل في إقناعهم بوجه الحق في محدثاتهم، وقد سبقني إلى ذلك بعض السلف فقال: "لا تجادلوا أهل المحدثات في محدثاتهم فإنهم قد أعدوا لكل سؤال جوابا، ولكن سلوهم عن السنة فإنهم لا يعرفونها، وبذلك نسد باب ندل والخلاف الذي لا يفتح علينا إلا كان سببا في دمارها، وتشعب أمرها، وفساد عقائدها"، وعلي هذه القاعدة الأخيرة، أقول لك إنه مما لا خلاف عليه أن أفضل أحوال الذكر ما كان عليه سلفنا الصالحون - رضوان الله عليهم -أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده .
رد السائل على الشيخ البنا:
ثم أرسل السائل برسالة أخرى تعليقا علي حديث الشيخ البنا، بنصوص عامة ومطلقة تنهي عن البدعة، ثم اتبع ذلك بصيغ مأثورة عن كيفية الذكر وردت عن السلف الصالح وهي الجلوس للذكر، أو الحلق، وأيد ذلك بحديث عن معاوية، وأنس، ثم تساءل فقال: هل غاب عن الشرع الحكيم تحديد صيغ الذكر، مثل تحديد الصلاة والصيام ؟
فأجابه الشيخ البنا. رحمه الله – بما يلي:
أخي الفاضل.. أيد الله به الحق..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أما بعد فقد قرأت خطابك وأحب قبل أن أعرض لإجابتك عنه، أن أعلن لك ولقراء جريدة الإخوان المسلمين كبير سروري وعظيم فرحي بمظهرين رائعين تجليا في خطابك:
أم
ا أولهما: فدقة بحثك في موضوع كسل عنه الباحثون من المتخصصين به فما بالك بالمستفيدين، وهي أمنية في النفس منذ القدم أن يلهم الله شباب الإسلام وبنيه أن يعنوا بالدراسة الدينية ويطلعوا علي البحوث الإسلامية ويتصلوا بأحكام الدين اتصالا قويا يفقههم فيها ويبصرهم بأسرارها: "ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
وأما ثانيهما: فهو شعورك بالتبعة الملقاة علي عاتق كل مسلم أن يصدع لكلمة الحق وينادي بأحكام الله، ولا يخشى في ذلك لومه لائم، ولا تلهيه المجاملة الكاذبة عن تأييد رأي يري فيه موافقة شريعة الله تبارك وتعالي علي حين ضعف هذا الشعور في نفوس المسؤولين ا لأول وكل مسؤول، ولو أن في المسلمين كثيرين ينصرفون إلي دراسة الدين ويصدعون بما يعتقدون أنه الحي في هذه الدراسة لكانت الحال الآن غير ما نراهم عليه، فالله نسأل لنا جميعا الهداية والتوفيق، ولا أشكرك فذلك واجب، ولكن أسأل الله أن يجعلك ممن أراد بهم الخير ففقهم في دينه.
وأعود بعد بيان هذه العاطفة التي أوحاها الوجدان الصادق إلى خطابك فأجيبك عن بعض ما غمض من نقاطه تبياناً لما أري أنه الحق، فاسمع أيها الأخ العزيز:
أولاً : عرضت للبدعة من حيث تحريمها وتحليلها، وليس ذلك محل خلاف بيننا، ولكن الخلاف بيننا حول البدعة في حقيقتها، وفي تطبيق ما يشبه أن محدث علي هذه الحقيقة، وإذن فلا داعي لطول القول في هذه النقطة، لأنه أمر له مجال آخر.
ثانياً: عرضت للإجابة عن أسئلتي في خطابي السابق، واستغربت أن أرئ ذلك لبساً أو غموضاً، أخذت تجيب عن كل سؤال منها فاعلم – يا عزيزي –أن الأمر أكبر من هذا، ولو كانت المسألة قاصرة علي مثل هذا الجواب لإرتاحت الضمائر، وانتهي الخلاف، وكثير من طلاب الحق المخلصين وقفوا أمام هذه البحوث وقفة المتمكن المتثبت حتى انفلق لهم صبح اليقين وأثلج الله صدورهم بمعرفة الحق فلا تعجل بالحكم، وبعض أجوبتك فيه سداد وتقريب، وبعضها فيها إيجاز وغموض، وبعضها فيه قصور يتضح أمام الاستيعاب، ولعل لك العذر في ذلك، فقد اعتذرت بما يقبل في صدر خطابك ولعلي أوفق إلى بحث هذه الموضوعات بحثا وافيا في الأعداد القادمة إن شاء الله تعالي، وقل" أن أترك هذه النقطة ألفتك إلي أمرين أري لهما من الفائدة ما يستوجب ا لذكر:
أ- التثبث في الفتوى وطول الأناة في الحكم: وأذكر أن عبدالله بن مسعود- وهو من أحبار هذه الأمة وأعلامها – سئل عن المتوفى عنها رجل قبل الدخول ولم يسم لها مهرا، فطلب إلى السائل أن يتركه حتى يجتهد شهرا، ثم أفتى بعد ذلك في حادثة معروفة، ولا أخالك إلا جد عليم بتحرج السلف الصالح في تقرير الأحكام.
ب -أن تنزه قلمك: وهو نزيه بحمد الله عن كل ما يشبه أن يكون لفظا جافيا أو وصفا نابيا أو عبارة جارحة، فلا لزوم لذكر العقل الضعيف، والبصر الكفيف، وسحائب الهوى في بحث شأن ديني بين أخوين كل منهما يطلب الحق للحق، وأذكر يا أخي محنة الأمة في كتابها الذين ولعوا بالمهاترة وبرعوا في الإقذاع حتى ضجت منهم الآداب الإسلامية العفيفة، ولا أشبه ما ورد في كتابك بهذا، ولكني أحب أن نتحامى كل ما يمت إلى هذه الناحية بصلة أو يشبه ألغ يكون منها قريبا.
ثالثا: عرضت أخي بعد ذلك إلي كيفية الذكر علي عهد السلف الصالح -رضي الله عنهم - وروي في ذلك حديث معاوية، وحديث أنس، ولنا أمام هذين الحديثين الشريفين وأمثالهما وقفة نستجلي فيها أمور عدة:
أولها: هل الكيفية التي وردت فيها محدودة يمكن تطبيقها تمام التطبيق ألان ؟ كيف كانوا يتحلقون ؟ وكيف كانوا يلفظون أفرادى أم جماعة؟ وما الألفاظ والصيغ التي كانوا يعظمون بها آلاء الله ويصلون بها علي نبيه (صلي الله علية وسلم) ويسألونه بها لأخرتهم ودنياهم ؟ كل هذه كيفيات لم يحددها الحديثان بل أطلقاها إطلاقا، وهو كما ترى مانع من التطبيق، وعلي فرض أن ذلك كله محدد فهل عمل هؤلاء الصحابة الكرام أمام حكم عبادة مطلق يحدد إطلاقها مع العلم بأن الصحابة - رضي الله عنهم -كانوا أنفسهم يختلفون في هذه الكيفيات، لست متعنتا يا أخي ولكني أري أن هذه نقاط تستحق التفكير، وقد بنيت علي ذلك حكمك علي الذكر بالطرق المعروفة، وأحب أن تفرق بين الذكر بالطرق المعروفة، وبين الذكر الذي رأيته جائزا في الفتيا، ولما كان الدليل السابق غير واضح في الدلالة كان بناء هذا الحكم عليه فيه نظر.
رابعاً: تساءلت كيف غاب عن الشارع الحكيم أن يشرع لنا أحوال الذكر كما شرع لنا القيام والركوع والسجود في الصلاة.. الخ ؟ وهذا أمر مهم أحب أن يلاحظه الأخ، وقد يكون فيه حسم الخلاف إن شاء الله تعالى ، وقد يكون مقياسا صالحاً يتضح لنا علي ضوئه كثير من مشتبهات الأحكام:
هذا الأمر هو أن العبادات تنقسم إلى نوعين:
1 - نوع حدده الشارع وقتاً وزماناً ومكاناً وكيفيةً وحكماً، ومثاله الحج مثلاً، وصلاة الجمعة مثلاً.
2 -ونوع أطلقه كالصدقة النافلة، فأنت فيها مخير في المقدار وفي الوقت بحسب وسعك، وظرفك، وكالدعاء مثلا فيه مخير ما لم يخالف هذا التخيير حكماً شرعياً ورد به النص.
نعم إن المأثور أفضل من غيره، ولكن هل يقول أحد إن الدعاء بغير المأثور وفي كل وقت غير جائز، والذكر من هذا القسم أمر به الشارع وأطلقه فأنت فيه مخير ما لم يخالف هذا التخيير حكماً شرعياً، ولإيضاح هذه النقطة أضرب لك هذين المثالين:
أ -رجل تعود أن يتصدق كل يوم لقرش في وقت محدد يقصد بذلك وجه الله تبارك وتعالى ، وامتثال أمره في الصدقة، أتراه مبتدعا؟ وهل يشترط لجواز مثل هذا العمل أن يكون قد عمل مثله السلف الصالح.
2 -رجل تعود صباح كل يوم ومساءه أن يدعو الله تبارك وتعالي بصيغة كهذه مثلا: "اللهم فرج كربتي، واغفر ذنبي، واجعلني عندك من المقبولين، وارزقني اتباع سنة نبيك (صلي الله علية وسلم) " ، أتري هذا الرجل مبتدعا؟
وهل يشترط لجواز مثل هذا العمل آن يكون وارداً مأثوراً ؟ أظنك معي في أن عموم الأمر بالدعاء والصدقة يجعل عمل هذين عبادة لا غبار عليها، وإذا تقرر هذا فاعلم - يا عزيزي -أن تقييد العبادة المطلقة هو البدعة، فما ورد مقيداً فالدين أن يؤتي به علي وجهه وما ورد مطلقاً بقي علي إطلاقه، فكل كيفية تدخل تحت هذا العموم ولا تتعارض مع الأحكام الشرعية جائزة.
وأخيرا أحب أن أقول لك إن الجائز لذاته قد يكون محرما لغيره سدا للذريعة إذا اتخذ وسيلة لمحرم وخير الحالات ما وافق السنة المطهرة واتباع المأثور أول وأسلم.. والله أسأل أن يلهمنا وإياك التوفيق والتسديد..
وسلام الله عليك ورحمته وبركاته.

شبهة الأناشيد

ينقمون علي الجماعة أنها في الأنشطة تعود بعض أفرادها علي سماع الأناشيد التي يقوم بها بعض الفرق من الأولاد الصغار غالبا.
والواقع أن الأناشيد في العمل سنة من سنن الرسول (صلي الله علية وسلم) ثابتة عنه، فقد ثبت عنه أنه يردد مع أصحابه النشيد في بناء المسجد وكذلك في حفر الخندق، وكان يقول:
هذا الحمال لا حمال خبير
هذا أعز ربنا وأطهر
وكذلك في إنشاده يوم حنين:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبدالمطلب
وكذلك قوله:
هل أنت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وكذلك كان أصحابه يرددون:
نحن الذين بايعوا محمدا
علي الجهاد ما بقينا أبدا
فكان يجيبهم( صلي الله علية وسلم) بقوله:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكذلك ثبت عنه (صلي الله علية وسلم) أنه في حديث خيبر أنه أمر أصحابه يحرك الإبل بالحداء فانتدب لذلك عامر بن الأكوع فأنشد قولة ابن رواحة:
تاالله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
إن الذين قد بغوا علينا
إن يسألونا خطة أبينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
وفي صحيح البخاري أن النبي (صلي الله علية وسلم) كان ينشده فيقول: أبينا يرفع بها صوته.
وأمر أنجشة بالحداء، وكان صوته جميلا حتى حرك الإبل، حتى قال (صلي الله علية وسلم): "رفقا بالقوارير" يقصد النساء، فكان النساء نساء رسول الله (صلي الله علية وسلم) يسمعن نشيده، وابن الأكوع جميل الصوت أيضا، حتى لقد أثر صوته في البهائم والإبل، هذا يدل علي أن صوت النشيد من دون آلة مباح حتى للأجنبية أن تسمعه وهو أصل لمشروعية النشيد في العمل وتحريك النفوس به وأيضا هو بديل صالح عن الأغاني المحرمة التي لا تفيد وتضر.

شبهة الملابس

إن بعض الاخوة وبالأخص إذا كانوا في السفر يلبسون الملابس الغربية وكذلك كثير من الناس يعتنون بالشكل والمظاهر.
والواقع أن لبس الملابس الغربية الآن ليسر فيه أي حرج من الناحية الشرعية، فإن رسول الله (صلي الله علية وسلم) لم يرو عنه أنه خيط له ثوب ولا نسج له، وإنما كان يلبس ملابس الكفار التي ينتزعها منهم بالسلاح أو يأخذها منهم جزية، ولذلك ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله (صلي الله علية وسلم) في غزوة تبوك كانت عليه جبة رومية ضيقة، والروم في ذلك الوقت كانوا كلهم من المشركين من أهل الكتاب، فإذن كان الرسول مجي!و يلبس ملابس الكفار وكذلك أصحابه، وليس في ذلك تشبه بهم، والمنهي عنه من ناحية التشبه هو لبس ثوب الدين، وثوب الدين بالنسبة للنصارى هو الزنار الذي يشده علي وسطه، وكذلك القبعة بالنسبة لليهود، فهذه الملابس الدينية هي التي لا يحل للمسلم أن يلبسها، وإذا فعلها يكون ذلك تشبها بالكفار، مثل لبس الصليب، وهو إن قصد به التشبه كفر بالله تعالى ، وإن لم يقصد فإنه يكون محرما شنيعا، ويعزر صاحبه، أما مجرد لبس هذه الملابس التي لا يرختص بدين فهو راجع إلي الحسن والقبح، فإذا كانت حسنة تتوافر فيها المعايير المطلوبة في لبس الرجل، وهي ألا يكون حريرا، ولا ذهبا، وألا تكون متجاوزة للكعبين بقصد الخيلاء، وألا تكون محددة للعورة، ولا فيها تشبه بالنساء، ولا تدخل في ملابس الدين بالنسبة للكفار، هذه المعايير الستة إذا اجتمعت فحينئذ يكون اللباس شرعيا مباحا، بل قد تكون إذا كانت جميلة مظهرا محمودا، ومدعاة لاستجابة المدعوين، ولهذا يقول الله تعالى :" قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " (الأعراف: 32). أما العناية بالشكل والمظهر: فأمر محمود شرعا، مرغوب فيه، لذلك كان الرسول (صل
ي الله علية وسلم) يعتني بمظهره، ومن ذلك خصال الفطرة التي حث عليها، كقلم الأظافر، وقص الشارب، وكذلك الإدهان والتطيب، وكان الرسول (صلي الله علية وسلم) يحب الطيب حبا شديدا، وكان لمج!نر يعتني بملابسه ويعتني بنظافتها، ويعتني بنظافة كل أموره حتى المسجد، لما رأي النخامة فيه اشتد غضبه واحمرت عيناه، وقام إليها وحكها بأظافره حتى أزالها، وأرسل إلي طيب وطيب موضعها، والعناية بالمظهر مدعاة لتقبل المدعوين وللدخول إلى المجتمع والتغلغل فيه، فإن البذاذة والتقلل بحيث يكون الشخص سمجا عند من يخاطبه ليس مقصدا شرعيا، بل المقصد الشرعي أن يكون الشخص الذي يقصد له التأثير في الآخرين مقبولا لديهم بشكله، ولذلك ذكر العلماء في آداب اللباس أن العلماء وأئمة المساجد والمؤذنين والقضاة ينبغي أن يكون لهم زي يميزهم.
فهؤلاء يندب لهم حسن اللباس، ولاشك أن الدعاة ممن يخالطون الناس فينبغي لهم تحسين الهيئة لمخالطة الناس، ولذلك ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما رأي حلة سيراء تباع علي باب المسجد فخاطب رسول الله (صلي الله علية وسلم): لو نشتريها لك حتى تلقي فيها الوفود، وكذلك جاء في صحيح البخاري أن رسول الله (صلي الله علية وسلم) كان يصلي في خميصة لما فرغ خلعها، وقال:”احملوا هذه إلي أبي جهم وأتوني بانبجانيته فإني نظرت في علمها في صلاتي فكادت تفتني عن صلاتي” .
فإذن: هذا يدل علي أن حسن المظهر إذا كان وفق الضوابط الشرعية المذكورة محمود ومرغوب فيه شرعا، بل هو من إبداء آثار النعم علي العبد، والله تعالى يحب إذا أنعم علي عبده أن يري عليه آثار نعمه،”إن الله يحب أن يري أثار نعمه على عباده”.

شبهة التصوير الفوتوغرافي

يقولون إن بعض أفراد الجماعة يعتنون بجمع الصور، وكذلك بتصوير بعض المشاهد، وتصوير بعض الحفلات، وتصوير بعض الأنشطة، وقد حذر الرسول (صلي الله علية وسلم) ونفر من التصوير.
والجواب عن هذه الشبهة أن التصوير الفوتوغرافي مباح ولا يدخل في معني التصوير الذي جاء في الأحاديث والنهي عنه والتنفير منه، فإن الألفاظ اللغوية لا تحمل إلا علي مسمياتها عند العرب، ولذلك فإن هذا التصوير لم يكن في عهد رسول (صلي الله علية وسلم) ولا في عهد الصدر الأول كله، ولا يمكن أن يحمل التصوير الموجود في كلامهم علي هذا التصوير الذي لم يعرفوه، وهذا من الاشتراك في الاسم الذي لا يقتضي الشبه في الحكم، ومجرد أن الناس يطلقون علي هذا تصويراً لا يقتضي دخوله في المنهي عنه ولا في دلالة النصوص التي ورد فيها تحريم التصوير والنهي عنه والتحذير منه، والتصوير الفوتوغرافي لا تتحقق فيه العلل المذكورة في التصوير الذي كان في عهد الرسول (صلي الله علية وسلم)، فليس مضاهاة لخلق الله تعالى بل هو نفس الخلق علي هيئته مثل الصورة في المرآة، ولا يمنع شرعا لأنه لا دليل علي منعه والأصل في الأشياء الإباحة، وكونه قد يؤدي إلي بعض الذرائع المسدودة مثل تعميم الصور وتعليقها في البيوت أو جعلها في البراويز المكبرة ونحو هذا، لا يقتضي إطلاق تحريمه، بل تمنع تلك الذرائع فقط.
فالصور الأخرى التي لا تكون معظمة ولا تكون في البراويز وإنما تقصد للذكري لأمر معين، لحفز الهمم علي بعض الأنشطة فهذا لا يمكن تحريمه، وأدلة الشرع متوافرة علي أن الوسائل إذا حققت المقاصد ولم يكن فيها محظور شرعي بعينها ولم يرد نهي بخصوصها أنها تبقي علي أصل الإباحة والجواز، والصور الفوتوغرافية نظير النظر في المرآة والنظر في الماء، وقد كان لرسول الله مرآة ينظر فيها، فلو كان التصوير الفوتوغرافي مثل التصوير الآخر لما نظر الرسول (صلي الله علية وسلم) في المرآة، إذ لا فرق بين النظر في المرآة والتصوير الفوتوغرافي، إلا في تثبيت الصورة فقط،
نكتفي بهذا القدر من الشبهات العملية.
هذا.. وقد رجع المعترضون عن هذه الشبهة، وفعلوا ما أنكروه بالأمس، وظهروا في التلفاز والسينما والبرامج، ونشرات ا لأخبار، وما أظنهم اليوم إلا نادمين علي التعجل في الإفتاء ولوم الآخرين بدون علم أو معرفة.. وكان بعض هؤلاء قد نسف التلفاز في بلده، وعطل البث التليفزيوني، ثم تراجع عن ذلك اليوم ولكن علي استحياء وما أظنه إلا سيتراجع في أمور كثيرة تسرع في الحكم عليها، والرجوع إلى الحق لاشك فضيلة، وهو خير من التمادي في الباطل والاستكبار المذموم.

شبهة البيعة للمرشد



الأستاذ محمد مهدي عاكف "المرشد العام السابق" يبايع الدكتور محمد بديع "المرشد العام الحالى"
كثير من الناس ينتقد البيعة للمرشد، ويري أن البيعة ينبغي أن تكون للحاكم فقط، وألا تتجاوز حدود ذلك.
ونقول: إن البيعة كانت معهودة منذ القدم وكانت معروفة في عهد الرسالات السابقة، وكان أصحاب الأنبياء يبايعونهم إما علي النصرة والحماية، وإما علي إعلاء كلمة الله تعالي، وتشير إلى هذا آية سورة الصف في قوله تعالى : " كما قال عيس ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين" (الصف:14).
وقد ورد في ذلك بعض الأحاديث عن رسول الله (صلي الله علية وسلم)، أما في شرعنا فإن رسول الله (ص) قد بايع الناس في مواقف متعددة واختلفت طرق البيعات اختلافا كثيرا، فمن أشهر البيعات السابقة علي الهجرة بيعة الأنصار ليلة العقبة، وقد بايعوه علي نحو بيعة النساء المذكورة في سورة الممتحنة في قوله تعالى : " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك علي أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرفن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم" ( الممتحنة، 12).
ثم بايع الرسول (صلي الله علية وسلم) بعدها الأنصار بيعة أخرى حين قدم المدينة وآخي بين المهاجرين والأنصار، وآخن بين المهاجرين أنفسهم، وتلك البيعة كتب فيها كتاب، أمر الرسول بر!ص بكتابته ولم يرد كثير من تفاصيل الأمور فيها، ثم بايعهم بيعة أخرى عندما أراد غزوة بدر فبايعوه علي القتال، وكانوا قبل ذلك إنما بايعوه علي الحماية، مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم، ثم من أشهر البيعات بعد هذا بيعة الرضوان التي بايع عليها أصحابه بالحديبية تحت الشجرة، وهذه البيعة التي خلدها الله تعالى في سورة الفتح في قوله: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " (الفتح: 18)، وكانت بيعة علي الموت حب ما جزم به كثير من أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم) الذين بايعوه عليها، وقد أنكر ذلك ابن عمر وذهب إلي أنها فقط كانت علي القتال وألا يفروا عنه، ومعني ذلك أن ابن عمر أنكر من قال بايعناه علي الموت بزعم أن القائل لذلك أنهم سيبذلون أنفسهم حتى الموت، والمقصود أنهم لا يفرون عنه، وهذه هي البجعة علي الموت لأن الشخص إذا كان سيصبر مهما كلفه ذلك الأمر فمعناه أن سيستعد للموت وسيبذل نفسه في سبيل المبايع، وهذه البيعة هي التي أكدها الله في كتابه في قوله:" إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم" (الفتح: 10). وقد روي عن الرسول” بيعات غير هذه، من ذلك أنه بايع أبا بكر وتسعة من أصحابه آخرين بيعة خاصة، وهي ألا يسألوا أحدا شيئا، وكان أبو بكر وهو خليفة إذا سقطت عصاه لم يكن يأمر أحدا أن يناوله إياها بل ينزل إليها حتى يأخذها، لأنه بايع رسول الله (صلي الله علية وسلم) علي ألا يسأل أحدا شيئا.
وكذلك بايعه بعض أصحابه الذين أسلموا بدون قتال بايعوه بيعة خاصة من ذلك بيعة عمرو بن العاص التي هي في صحيح البخاري بايعه علي أن يغفر له ما تقدم من ذنبه، فقال له: "أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، والهجرة تجب ما قبلها". وكذلك بيعة خالد بن الوليد، ومن ذلك بيعة جرير بن عبدالله التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما أنه قال: " بايعني رسول الله (صلي الله علية وسلم) علي إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فشرط علي والنصح لكل مسلم "، وكذلك بيعة ضمام بن ثعلبة الذي جاء من قبل نجد فقال بعد أن التزم ما علمه رسول الله (صلي الله علية وسلم) فقال: "وأنا رسول من ورائي" فكانت البيعة لنفسه وللذين أرسلوه بطريق النيابه.
وكذلك بايع النجاشي جعفر بن أبي طالب لرسول الله إلى بالنيابة عنه، وكتب إليه كتابا بذلك.
ومثل ذلك كثير من البيعات التي تكون منوعة فكل هذا التنوع يدلنا علي أن البيعة ليست ثابتة علي منهج موحد وأنها قابلة للتغيير بحسب الحال ،، بيعة النساء تختلف عن البيعة علي القتال، وتختلف عن البيعة علن الموت وهكذا.
فهذا التطور يدلنا علي أن البيعة ليست مثبتة علي وضع واحد لا يتغير، وأنها تتطور مع المصلحة، وإذا نظرنا إلي المصلحة المتوخاة من البيعة فإننا نعلم أنها رباط وعهد بين الشخصين، وأيضا يكون الحق المترتب عليها من السمع والطاعة والامتثال والالتزام بالأوامر يكون حقا ناشئا عن عقد، وهذا أثبت الحقوق وأوثقها، فإن الحقوق تنقسم إلى قسمين: حقوق غير ناشئة عن عقد، وهذه وإن كانت موكدة مثل حقوق الله علي عباده بأن يعبده ولا يشركوا به شيئا، ومثل حقوق الوالدين في برهما والسمع لهما وطاعتهما والدعاء لهما ونصيحتهما.
إلا أن القسم الثاني من الحقوق وهو الناشئ عن عقد أيضا تتعلق بمروءة الشخص، فإذا لم يف بها فإنه قد أخل بمروءته والتزامه، وكان كمن لا ذمة له ولا عقد، وهذه العقود منها مثلا عقد النكاح الذي سماه الله تعالى ميثاقا غليظا، وكذلك عقد البيع، وعقد الشركة، وعقد الحلف، التي فسر بها زيد بن أسلم - رحمه الله تعالى - قوله تعالي: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " (المائدة: 1).
فعلي هذا فإن تنوع البيعة يكون ناشئا عن المصلحة، فإذا كان المقصود بها الرباط الروحي الذي يربط المبايع والمبايع فكان ذلك مدعاة لعلاقة دنيوية سببها عقد، مع أن النسب غير موجود بين المبايع والمبايع، وإنما جاء الربط بسبب هذه البيعة والالتزام كان لذلك تسمي صفقة اليمين كما في قوله : "أيما رجل بايع أميرا فأعطاه سويداء قلبه وصفقة يمينه لا يبايعه إلا علي عرض من الدنيا إن عطاه رضي وإن منعه سخط، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله” ، أو كما قال الرسول في ا
لحديث المعروف. فهذا يدل علي أن المقصود بالبيعة هو الرباط الروحي أساسا، ولهذا قال أعطاه سويداء قلبه، فالمقصود محبة وطاعة، وكذلك قوله صفقة يمينه تدل علي أن المقصود هنا انعقد حتى يكون الحق بين الطرفين ناشئا عن عقد، وعلي هذا فقد كان بعض الناس يشترط بعض الشروط فيه، وهذه الشروط تشترط في بعض الأحيان علي المبايع وتشترط على المبايع، فمثلا لما طالب يزيد بن معاوية أهل المدينة بالبيعة له في واقعة الحرة، شرط علي كل من يبايع له أن يبايع أنه يطيع لأمير المؤمنين، معناه أنه مطيع طاعة التابع إلا علي بن عبدالله بن العباس فقد قام أخواله بنو الحارث بن كعب فقالوا بل يبايع علي أنه ابن عم أمير المؤمنين، فبايع علي أنه ابن عم أمير المؤمنين.
وعلي هذا فإن تطور البيعة إذا أمر طبيعي وللنظر إلي واقعة البيعة عبر التاريخ، فلما مات رسول الله (صلي الله علية وسلم) ونقله الله إلي دار الكرامة لم يأمر ببيعة أحد من الصحابة ولا عهد بها لأحد بعده، فاتفق أن الأنصار قد اجتمعوا ورأوا أنه لا يمكن أن يترك الناس هملا دون إمام، وحاولوا أن ينصبوا إماما يبايعونه، فرشحوا لذلك سعد بن عبادة بن دليم، واجتمعوا لبيعته في سقيفة بني ساعدة، فكانت المبادرة لهم ولم تكن لقريش في ذلك الوقت مبادرة إلا بعض الآراء الفردية، فمثلا كان أبو سفيان بن حرب يميل إلى أن يبايع علي بن أبي طالب، وقال هذا لجبر خاطر بني هاشم وفيه إصلاح لقريش وهو أولى الناس بهذا لقرابته وصهارته وخالفه المهاجرون السابقون الأولون فلم يروا أن يبايعوا قبل دفن رسول الله (صلي الله علية وسلم) فلم يتفقوا علي أحد، وفي هذا يقول أحد شعراء قريش:
حمدا لمن هو بالثناء خليق
ذهب اللجاج وبويع الصديق
كنا نقول لها علي والرضا
عمرو أولاهم بتلك عتيق
فكانوا يرشحون هؤلاء الأشخاص الثلاثة: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأبا بكر الصديق، فلما علم المهاجرون بأن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لبيعة سعد، انطلق إليهم ثلاثة من المهاجرين هم أبو بكر، وعمر، وعبيدة بن الجراح، فكلموهم بالكلام المشهور المعروف، ثم اتفق رأي الجميع أن يبايعوا أبا بكر الصديق، وقالوا رضيك رسول الله (صلي الله علية وسلم) لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟.. فانعقدت البيعة له وبايعه المهاجرون أيضا، ثم بايعه عموم الناس في المسجد ولم يتخلف عنه إلا نفر قليل من أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم)، فلم يبايعه سعد بن عبادة لما كان في السقيفة وتأخر علي بن أبي طالب شهرا ولم يبايعه، ومع ذلك فقد استمرت إمامته منذ دفن رسول الله (صلي الله علية وسلم)، ولم يضره أن بعض الأفراد لم يبايعوه فانعقدت البيعة عليهم ببيعة الجميع.
ولما حضرت أبا بكر الوفاة عهد بالأمر إلى عمر، وكتب له كتابا بذلك وبايع الناس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بيعة المسجد، ثم لما جرح عمر وحضره الموت عهد بالأمر إلي أهل الشورى الستة الذين توفى رسول الله (صلي الله علية وسلم) وهو عنهم راض، وعلي أن يختاروا أحدهم للخلافة وهم أول الناس بذلك، وهم الذين يدور عليهم الأمر، فتنازل ثلاثة لثلاثة وتنازل الثالث للاثنين بشرط أن يجعل الاختيار له وهو عبدالرحمن بن عوف، فاختار بيعة عثمان، وبقيت البيعة بعده لعلي، ثم لما قتل عثمان كانت البيعة من عهد عمر لعلي بن أبي طالب، بسبب تنازل إخوانه، ثم بعد علي كانت ستعود لبقية الستة فلم يكن أحد منهم حيا وقت قتل علي بن أبي طالب غير سعد بن أبي وقاص، فكان اللازم أن يبايع سعد، ولكن قدر الله وما شاء فعل، فتجدد نوع آخر من البيعة وبايع معاوية الناس علي شروط شرطها عليهم وأيمان يقسمونها، وكذلك كما ذكرنا طالب يزيد الناس علي بيعة أخرى ، فتطور الأسلوب عبر التاريخ.
وهكذا كانت تشترط الأيمان بالطلاق والعتاق، مع أن الرسول (صلي الله علية وسلم) نهي عن الحلف بهما وقال:”من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت”، وقال:”من حلف له بالله فليرض”، ومع هذا فقد جاء الملك العاض وأجبر الناس علي هذه الأيمان، وأفتي بعض العلماء بعدم لزوم هذه الأيمان، ورأي أن ذلك من الإكراه، ومن هؤلاء العلماء الإمام مالك أبو عبدالله رحمه الله تعالى .
وكل هذه التطورات عبر التاريخ في أسلوب البيعه وفي متضمنها وطريقتها، بالإضافة إلي بعض التطورات التي طويناها ولم نشر إليها، مثل تفريق الرسول (صلي الله علية وسلم) بين أصحابه في البيعة،كذلك في بيعة النساء فقد اختلفت الأساليب، فروي أنه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ثم يغمس النساء أيديهن في ذلك الإناء، وروي أن عمر كان يبايع الناس بالنيابة عنه، وروي أنه كان يبايعهن من وراء ردائه، وكل هذه الأحاديث فيها مطعن لأهل العلم، والثابت عنه (صلي الله علية وسلم) أنه كان يبايعهن بالكلام، ولم يكن يبايعهن بصفقة اليد، ولذلك قال:”إني لا أصافح النساء، وإنما مقال لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة"، فهذه التطورات في البيعة كلها ترشدنا إلي أن البيعة ليست ثابتة علي منهج محدد فهي تدور مع المصلحة حيث دارت.
ولاشك أن كون القائد أو الأمير واحدا هو الأصل وهو
المطلوب الشرعي والموافق للمقصد في عدم التنازع وعدم التشاكس، ولكن اقتضت الضرورة قيام بيعات أخرى ، وأصل البيعة هي العهد علي الطاعة في المعروف شرعا. والأصل أن الإمام إذا أعطي بيعة قام بمصالح المسلمين وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر لأنه لابد من سلطة تتحمل عبء الدعوة إلي الله تعالى لتبليغها إلي آفاق الأرض، لابد من سلطة مؤمنة مجاهدة، ترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين لتحقيق منهج الله في الأرض وإقراره في الحياة الإنسانية ومباشرة تنفيذه في الداخل والخارج.
والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقرار الخير بين الناس. تكليف شديد وليس بالأمر الهين أو اليسير، إذا نظرنا إلى طبيعته وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم وأهوائهم ومصالحهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبرياء الآخر، وفيهم الجبار الغاشم، وفيهم الحاكم المتسلط وفيهم الهابط والمنافق الذي يكره الجد، وفيهم المسترخي الذي يكره الصعود، وفيهم المنحل الذي يكره الفضيلة، وفيهم الظالم الذي يمقت العدل، وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة. وهؤلاء وأولئك يحتاجون إلى تكاتف ورعاية حتى تستطيع الدعوة أن تطوعهم للخير ويستطيع الدعاة أن يجدوا منهم آذانا صاغية وقلوبا مفتوحة تنقلهم نقلة كريمة إلى منهج الله وهديه. إن إقامة هذه السلطة ضرورة من ضرورات قيام المنهج ذاته، فمنهج الله في الأرض لا يقوم بمجرد الوعظ والإرشاد والبيان فقط وإن كان هذا يمثل شطرا من الدعوة أما الشطر الباقي فهو قيام سلطة وقيادة تحمل منهج الله في الأرض، وتقوم به وتبلغه للناس بما ترسمه من الوسائل والخطط وبما تنظمه من إمكانات وتدربه من دعاة وتبثه من إعلام، ثم تحيط كل ذلك بسياج وحماية ورعاية كما تقوم تلك السلطة بصيانة تقاليد الجماعة وحمايتها من أن يعبث بها كل ذي هوي وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة.
علي هذا قامت الجماعة الأول في المدينة، واستمرت به الدعوة الإسلامية بعد ذلك في العصور الإسلامية المجيدة، حيث كانت يتنفس في رحابها هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية، المعروف فيها هو الخير والفضيلة والعدل، والسيادة فيها لأوامر الله، والمنكر فيها هو الشر والرذيلة والباطل والظلم، عمل الخير فيها أيسر من عمل الشر، والحق فيها أقوي من الباطل والعدل أنفع من الظلم، فاعل الخير فيها يجد علي الخير أعوانا وصانع الشر يجد مقاومة وخذلانا.
للمحسن فيها أجر إحسانه، وللمسيء فيها جزاء بطلانه، تعطي للرجال منازلهم وللأبطال أماكنهم، ولأهل الحق درجاتهم، لا يضيع فيها أجر المحسنين أو ثواب العاملين، أو جزاء المخلصين، لهدا طوف الإسلام في أرجاء الأرض وشرق وغرب ودخل الناس في دين الله أفواجا.
ولكن إذا لم تكن هناك سلطة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر أو منعت السلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هل يستكين الناس، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فريضة لازمة؟
وهل ينتظرون سلطان ؟
وهل يشترط للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذن الإمام أو الحاكم ؟
قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لأحاد المسلمين ولا يشترط له إذن الإمام أو الحاكم.
قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم علي التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية إذن من الإمام .
قال الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في ذلك: واستمرار عادات السلف علي الحسبة علي الولاة أي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قاطع بإجماعهم علي الاستغناء عن التفويض أو الإذن في ذلك، بل كان من أمر بمعروف فإن كان الوالي راضيا به فذاك، وإن كان ساخطا له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه فكيف يحتاج إلي إذنه في الإنكار عليه ويدل علي ذلك عادة السلف وما روي عنهم في الإنكار علي الأئمة”.
رأي الإمام محمد عبده في وجوب إقامة جماعة للدعوة إلى الله:
قال الإمام محمد عبده - رحمه الله -: الدعوة في الصدر الأول قد تيسر بغير تعليم صناعي ولا تأليف جمعيات معينة، أما في هذا الزمان فإنه يتوقف فهم الدين علي التعلم الصناعي، وتتوقف الدعوة إليه، والأمر بما جاء به من المعروف وما حظره من المنكر علي تعليم خاص وتأليف جمعيات خاصة تقوم بهذا العمل، ولا ينتشر الدين ولا يحفظ علي وجهه إلا بهذا كما تقدم التنويه به في قوله تعالى :"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير”، (السورة).
فالمراد التنويه به، فالمراد بالأمة التي ذ قيمها الأمة لذلك ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالجمعية. قال الأستاذ الإمام: ومن أعمال هذه الأمة الأخذ علي أيدي الظالمين، فإن الظلم أقبح المنكر، والظالم لا يكون قويا ولذلك اشترط في الناهين عن المنكر أن يكونوا أمة، لأن الأمة لا تخالف ولا تغلب كما تقدم، فهي التي تقوم عوج الحكومة والمعروف أن الحكومة الإسلامية مبنية علي أصل الشورى، وهذا صحيح والآية أدل دليل عليه ودلالتها أق وي من قوله تعالى : " وأمرهم شورى بينهم " (الشوري: 38)، لأن هذا وصف خبري لحال طائفة مخصوصة أكثر ما يدل عليه أن هذا الشيء ممدوح في نفسه محمود عند الله تعالي، وأقوي من دلالة قوله: " وشاورهم في الأمر" (آل عمران: 159)، فإن أمر الرئيس بالمشاورة يقتضي وجوبه عليه ولكن إذا لم يكن هناك ضامن يضمن امتثاله للأمر فماذا يكون إذا هو تركه ؟ وأما هذه الآية فإنها تفرض أن يكون في الناس جماعة متحدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عام في الحكام والمحكومين، ولا معروف أعرف من العدل ولا منكر أنكر من الظلم، وقد ورد في الحديث " لابد أن يأطروهم علي الحق أطرا".
ثم يقول الأستاذ الإمام محمد عبده –رحمه الله تعالي-: ما مثاله مع شيء من التفصيل: إذا كان كل فرد من أفراد المسلمين مكلفا الدعوة إلن الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقتضى الوجه الأول في تفسير الآية، فهم مكلفون بمقتضى هذا الوجه الثاني أن يختاروا أمة منهم تقوم بهذا العمل لأجل أن تتقنه وتقدر علي تنفيذه إن لم يوجد ذلك بطبعه كما كان في زمن الصحابة، فإقامة هذه الأمة الخاصة فرض عين يجب علي كل مكلف أن يشترك فيه مع الآخرين، ولا مشقة في هذا علينا، فإنه يتيسر لأهل كل قرية أن يجتمعوا ويختاروا منهم من يرونه أهلا لهذا العمل، وعبارة الأستاذ: ويختاروا واحدا منهم أو أكثر، كأنه يريد بالواحد أن ينضم إلى من يختار من سائر القرى والبلاد لأجل الضرب في الأرض للدعوة إلى الإسلام في غير بلاده، أو لإقامة بعض الفرائض والشعائر، أو إزالة بعض المنكرات من بلد آخر من بلاد المسلمين، وإلا فالواجب علي أهل القرية أن يختاروا جماعة يصح أن يطلق عليهم لفظ ”الأمة" ويعملوا ما تعمله بالاتحاد والقوة ليتولوا إقامة هذه الفريضة فيها، كما يجب ذلك في كل مجتمع إسلامي سواء كان في الحواضر أو البوادي، فإن معني الأمة يدخل فيه معني الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها علي اختلاف وظائفهم وأعمالهم - حتى في إقامة هذه الفريضة عند تشعب الأعمال فيها -كأنهم شخص واحد كما هو ظاهر وصرح به الأستاذ في هذا المقام.
قال: وهذه الأمة يدخل في عملها الأمور العامة التي هي من شأن الحكام وأمور العلم وطرق إفادته ونشره، وتقرير ا لأحكام وأمور العامة الشخصية، ويشترط فيها العلم بذلك، ولذلك جعلت أمة، وفي معني الأمة القوة والاتحاد، وهذه الأمور لا تتم إلا بالقوة ؟الاتحاد، فالأمة المتحدة لا تقهر ولا تغلب من الأفراد، ولا تعتذر بالضف يوما ما، فشرك ما عهد إليها، وهو ما لو ترك لتسرب الفساد إلى مجموع المسلمين .
إلي أن قال: ثم إن كون القائمين بالأمر والنهي أمة يستلزم أن يكون لا رياسة تدبرها، لأن أمر الجماعة بغير رياسة يكون مختلا معتلا، فكل كون لا رياسة فيه فاسد، فالرأس هو مركز تدبير البدن وتصريف الأعضاء في أعمالها، وكذلك يكون رئيس هذه الأمة مصدر النظام وتوزيع الأعمال علي العاملين، فمنهم من يوجهون إلى دعوة غير المسلمين إلي الإسلام، ومنهم من يوجهون إلى إرشاد المسلمين في بلادهم، ومقام الرياسة يختار بالمشاورة لكل عمل، ولكل بلاد من يكونون أكفاء للقيام بالواجب فيها، لتكون أعمالهم مؤدية إلى مقصد الأمة العام، فإن معني الأمة أن يكون للأفراد الذين تتكون منهم وحدة في القصد من أعمالهم وسيرهم فإذا اختلفت المقاصد فسد العمل باختلاف الآراء وتنكيث القوي، ولذلك جاء بجد هذه الآية النهى عن التفرق والاختلاف.
إذن فالتعاهد علي الدعوة وعلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبيعة عليه لازمة، لقوله تعالى :" وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " (المائدة: 2)، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. هذا وقد أخذ الرسول (صلي الله علية وسلم) بيعات كثيرة علي الإسلام وعلي البر والتقوى منها:
1 - البيعة علي السمع والطاعة.
2 - البيعة ألا ننازع الأمر أهله.
3-البيعة علي قول الحق.
4 - البيعة علي القول بالعدل.
5 - البيعة علي الأثرة.
6-البيعة علي النصح لكل مسلم.
7-البيعة علي عدم الفرار.
8-البيعة علي الموت.
9 -البيعة علي الجهاد.
10 -البيعة علي الهجرة.
11 -البيعة فيما أحب الإنسان وكره.
12 -البيعة علي ألا ننوح.
13 -البيعة فيما يستطيعه الإنسان من الخير.
14 -البيعة علي الإسلام.
15 -البيعة علي الطاعة.
16 - البيعة علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذه البيعات روتها كتب السنة الصحاح مثل البخاري ومسلم وابن ماجة والنسائي والإمام أحمد..
عن جابر بن عبدالله قال في البيعة: فقلنا يا رسول الله علام نبايعك قال: تبايعوني على السمع والطاعة فى النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومه لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت يثرب فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة.. فقمنا نبايعه فاخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين، فقال رويدا يا أهل يثرب: إتا لم نضرب إليه أكباد المطى إلا ونحن نعلم أنه رسول الله إن إخراجه اليوم مفارت العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مشتكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافة فخذوه و أجركم على الله عز وجل، لم أما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر عند اسه، قالوا، يا أسعد بن زرارة أمط عنا يدك فو الله لانذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلا رجلا يأخذ علينا بشرطة العباس ويعطينا على ذلك الجنه . أخبرنا الحسن بن أحمد قال: حدثنا أبو الربيع قال أنبأنا حماد قال حدثنا أيوب عن محمد عن أم عطية قالت: "أخذ علينا رسول الله البيعة على أن لا ننوح" .
بايع رسول الله (صلي الله علية وسلم) النسوة علي أن يتخلين عن النوح المحرم، وهذا شيء كان يكفي فيه الأمر، ولكنه حصلت فيه بيعة.
البيعة على النصح لكل مسلم:
أخرج أحمد عن جرير قال: بايعنا رسول الله (صلي الله علية وسلم)، علي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
وهكذا وردت الأحاديث الكثيرة في كثير من البجعات ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الإسلام، وتحمل التبعات الجسام في سبيل ذلك، ومنها الجهاد.
ولما كان الإسلام قد جعل التخلف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبيرة وترك فريضة، ولم يجعل في هذا إذنا لأحد ولا للسلطة كما ذكرنا، فإن إقامة أحكام الإسلام وإعادة وحدة المسلمين فريضة علي كل مسلم، ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا بتعاون المسلمين، وإقامة جماعة، ولهذا قال "من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية".
وقد أورد الشاطبي في الاعتصام أن الجماعة هنا إما جماعة أهل الإسلام، أو جماعه الإمام وأهل الحل والعقد، أو جماعة المجتهدين. ولما كانت القاعدة، أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فقد انتهي الإمام حسن البنا إلى أن إعادة الخلافة والوحدة الإسلامية، وحكم الإسلام لا سبيل له إلا عن طريق إقامة جماعة وتعاون من الجميع، حتى تكون عصبة للحق وسندا للدفاع عنه وتحقيقه في الأمة، ولهذا يقول عمر بن الخطاب ذاكرا فضل الجماعة في الإسلام: " لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بطاعة، ولا طاعة إلا ببيعة ".
فإذا كانت البيعة في المعروف وعلي نصرة الإسلام وإقامة حدوده أفلا يكون هذا هو صلب الإسلام وصلب دعوته، وهو الحق الذي لا مريه فيه في هذا الزمان وغيره.