شبهة ارضاع الكبير
السؤال: شيخنا بخصوص ارضاع الكبير والشبهات والطعن من الاعداء والمنافقين على ان الشريعة تبيح للمرأة ان ترضع الرجال من ثديها ليصيروا محرما لها ! فما حكم ارضاع الكبير عند العلماء وما ردهم على هذه الشبهات ؟جزاكم الله خيرا
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فقد كثرت في هذا العصر اثارة الشبهات حول الاسلام، وحول القران الكريم وحول السُّنة النبوية ورواتها من الصحابة الكرام ومن مصنفيها ورجالها وحَمَلتها، وهذه الشبهات تُثار من اعداء الاسلام ومن المنافقين، ومع الاسف يرددها كذلك بعض جهلة المسلمين ومن المخدوعين بالحضارة الغربية المزيفة.
ومن المعلوم أن إثارة الشبهات حول الإسلام ليست وليدة اليوم، وإنما بدأت في عصر النبوة، وكان الهدف من الشبهات صد الناس عن الدخول في الإسلام، أما اليوم فقد صار الهدف منها تشكيك المسلمين بإسلامهم وإخراجهم منه، وتشككهم في العقيدة الصحيحة، وزعزعة الثوابت الشرعية في نفوسهم، وهذه الشبهات التي تثار مدعومة بالمال والاعلام من دول وحكومات ومنظمات ومؤسسات عالمية وافراد !
ومن هذه الشبهات هي مسألة ارضاع الكبير لإثبات الحرمية من الرضاعة، وهي مسالة فقهية خلافية، وليست كما يروج لها الاعداء .
وقد اختلف العلماء في حكم إرضاع الكبير هل تثبت به الحُرمة أو لا؟ على ثلاثة أقوال :
القول الأول :إن إرضاع الكبير لا يوجب الحُرمة مطلقاﹰ ، وأنه لا يحرم من الرضاع إلاَّ ما كان في الصغر. وان حكم ارضاع سالم مولى ابي حذيفة من لبن زوجته خاص بسالم ولا يتعداه إلى غيره ، فهي حالة لن تتكرر لتحريم سببها وهو التبني ، والحكم يدور مع العلة وجودا او عدما لن يحتاج إلى الحكم لانعدام حصول العلة بتحريم التبني.
وهذا هو قول: جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وروي ذلك عن أُمراء المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، ومن الصحابة عبد اﷲ بن مسعود، وعبد اﷲ بن عباس، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وجابر بن عبد اﷲ ، وسائر أمهات المؤمنين- رضي اﷲ عنهم أجمعين – واصحاب الحديث وهو مذهب الائمة الاربعة المتبوعين المرضيين.
واستدلوا بادلة كثيرة منها بما يأتي:
1- قوله تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [البقرة:233 ].
وجه الدلالة : أن اﷲ عز وجل جعل تمام الرضاع في الحولين فدل على أنه لا حكم للرضاع بعد الحولين.
وقوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان:14 ]. وقوله تعالى: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا }.[الاحقاف:15 ].
وجه الدلالة من الآيتين : بأن أقل مدة الحمل ستة أشهر فبقي مدة الفصال حولين ، ولا رضاع بعد الفصال.
2-وبحديث ام المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- في صحيح مسلم ان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: ((انْظُرْنَ إِخْوَانَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ)). والمعنى: أنظرن ما سبب هذه الأخوة فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حيث تسد الرضاعة المجاعة.
قال الامام ابن القيم في زاد المعاد [5/589 ]: (أن لفظة –المجاعة- إنما تدل على رضاعة الصغير ، فهي تثبت رضاعة المجاعة وتنفي غيرها ، ومعلوم يقيناﹰ أنه إنما أراد مجاعة اللبن لا مجاعة الخبز واللحم).
3-وبحديث ام المؤمنين ام سلمة -رضي ﷲ عنها –قالت : قال رسول اﷲ-صلى الله عليه وسلم-: ((لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الفِطَامِ)) ، وقال الامام الترمذي بعد أن روى هذا الحديث : (هذا حديث حسن صحيح ،والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلاَّ ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئاﹰ).
4- بحديث عبد اﷲ بن مسعود –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : ((لا يُحَرَّمُ من الرضاع إلا ما أنبت اللّحمَ وأنْشَر العَظْم )). رواه ابو داود والامام أحمد. وقد فسّر النبي –صلى الله عليه وسلم- الرضاع المحرم بكونه دافعاﹰ للجوع منبتاﹰ للّحم منشزاﹰ للعظم فاتقاﹰ للأمعاء وهذا وصف رضاع الصغير لا الكبير لأن إرضاعه لا ينبت اللحم ولا ينشر العظم.[ينظر زاد المعاد لابن القيم 5/580 ].
القول الثاني :إن إرضاع الكبير يوجب الحرمة مطلقاﹰ كرضاع الصغير .
وهذا هو قول : أم المؤمنين عائشة –رضي اﷲ عنها -، والامام الليث بن سعد في المشهور عنه ، وعطاء بن أبي رباح . وهو قول ابن حزم الظاهري.
واحتجوا بالحديث الصحيح الذي رواه الامام مسلم وغيره وهذا لفظ ابي داود ؛ عن عائشة وأُمِّ سلمة – رضي الله عنهن-: (أن أبا حُذيفة بنَ عُتْبةَ بنِ ربيعة بنِ عبد شمسٍ كان تبنَّى سالماً وأنكحه ابنةَ أخيه هندَ بنتَ الوليد ابنِ عُتبة بن رَبيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصارِ، كما تبنَّى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - زيداً - وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناسُ إليه ووُرِّث ميراثَه، حتى أنزلَ الله عز وجل في ذلك {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إلي قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فَرُدُّوا إلى آبائهم، فمن لم يُعلَم له أبٌ كان مولًى وأخاً في الدين - فجاءت سهلةُ بنتُ سهيل بنِ عمرو القُرشيّ ثم العامِريّ، وهي امرأةُ أبي حُذيفة، فقالت: يا رسولَ اللهَ، إنا كُنا نرى سالماً ولداً، وكان يأوي معي ومَعَ أبي حذيفة في بيتٍ واحدٍ، ويراني فُضُلاً، وقد أنزلَ الله فيهم ما قد عَلِمتَ، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلم -: "أرضعِيه" فأرضعته خمسَ رضعاتٍ، فكان بمنزلة وَلَدِها مِن الرَّضاعة).
واجاب عنه الجمهور: بانه حكم خاص بسالم دون من عداه فهي واقعة حال، واستدلوا: بما رواه الأمام مسلم في صحيحه ، وغيره من حديث زينب بنت أبي سلمة : أن أمها أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تقول: )أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينَا).
وذهب بعض العلماء الى ان رضاع الكبير حكم منسوخ ، قال الامام الجصاص في احكام القران [3/68 ]: )وما كان منسوخا فالعمل به ساقط ، وقد ثبت عندنا وعند الشافعي نسخ رضاع الكبير فسقط حكمه).
القول الثالث: التفصيل في الحكم ؛وهو أن إرضاع الكبير يوجب الحرمة إذا دعت إليه الحاجة عند وجود المشقة في الإحتجاب عنه وعدم الإستغناء عن دخوله على النساء ، كحال سالم مع سهلة امرأة أبي حذيفة وإلا فلا يوجب التحريم وان لا يكون الرضاع مباشرا ،بل بواسطة اداة، لان المرأة قبل الرضاع أجنبية عن المرتضع.
وهذا هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية والامام ابن القيم، والامام الصنعاني، والامام الشوكاني.
ويجاب عليهم : ان حالة سالم مولى أبي حذيفة نادرة لن تتكرر ولن تنطبق على أحد بعده، وإنها واقعة عين لا يقاس عليها إلا مثلها، لان سالما هذا كان قد تبناه صغيرا أبو حذيفة ( قبل تحريم التبني )؛ فكان يعامل معاملة الابن من النسب من حيث دخوله و اختلاطه بأهل البيت كواحد منهم، ومثلها لا يقع ،لان التبني من بعد حالة سالم قد منع وحُرم.
قال الشيخ العلامة ابن عثيمين -رحمه اﷲ تعالى- في الشرح الممتع على زاد المستقنع [13/435 ]: )ليس مطلق الحاجة بل الحاجة الموازية لقصة سالم، والحاجة الموازية لقصة سالم غير ممكنة ؛ لأن التبني أبطل ، فلما انتفت الحال انتفى الحكم(.
وذهب الجمهور ايضا الى ان الرضاع الذي تثبت به الحُرمة؛ أي الرضاع الذي يكون به الطفل ابنًا للمرأة التي أرضعته من الرضاعة هو وصول اللبن إلى جوف هذا الطفل وهو رضيع، بما يوازي خمْسَ رضعاتٍ مشبعاتٍ، وليس بمجرد التقام الثدي.
وحالة رَضاع سالِم مولى أبي حذيفة-رضي الله عنهما- ليس من ثديها مباشرة بل حلبت سهلة بنت سهيل-رضي الله عنها- اللبن في إناء وشربه سالم حتى صارت أمًّا له من الرضاع.
وهذه الحالة كانت خاصةً بسالم كما نصَّ على ذلك أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ومَن بعدهن من العلماء من التابعين والعلماء.
قال الإمام ابن عبد البر القرطبي المالكي في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد [8 /257 ] : (إرضاع الكبير كما ذكر: يحلب له اللبن ويسقاه، وأما أن تلقمه المرأة ثديها كما تصنع بالطفل فلا؛ لأن ذلك لا يحل عند جماعة العلماء، وقد أجمع فقهاء الأمصار على التحريم بما يشربه الغلام الرضيع من لبن المرأة وإن لم يمصه من ثديها..).
فقد روى ابن سعد في الطبقات الكبير [10/257 ]: (كَانَ يَحْلُبُ فِي مِسْعَطٍ أَوْ إِنَاءٍ قَدْرَ رَضْعَةٍ فَيَشْرَبُهُ سَالِمٌ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ، وَكَانَ بَعْدُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَهِيَ حَاسِرٌ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللهِ لِسَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ).
وقال الامام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث [1/437 ] ): فأراد رسول الله -صلى الله عليه و سلم - بمحلها عنده، وما أحب من ائتلافهما، ونفي الوحشة عنهما ـ أن يزيل عن أبي حذيفة هذه الكراهة، ويطيب نفسه بدخوله، فقال لها: أرضعيه ـ ولم يرد: ضعي ثديك في فيه، كما يفعل بالأطفال، ولكن أراد: احلبي له من لبنك شيئا، ثم ادفعيه إليه ليشربه، ليس يجوز غير هذا، لأنه لا يحل لسالم أن ينظر إلى ثدييها، إلى أن يقع الرضاع، فكيف يبيح له ما لا يحل له وما لا يؤمن معه من الشهوة؟)
وقد ذُكر في الحديث ان سبب ذهاب سهلة بنت سهيل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هي أنها كانت ترى الكراهة أي (الضيق) في وجه أبي حذيفة من دخول سالم إلى بيتهما، فهل سيقبل أبو حذيفة بالتقام سالم لثدي زوجته، وهو الذي كان يتضايق من مجرد دخوله إلى البيت ؟ وكذلك فإنه لا يجوز لسالم أن يرى ثدي سهلة حتى وهي أمه من الرضاع فكيف جاز له أن يرى ثديها قبل هذا التحريم ؟!
الخلاصة والمفتى به:
هو ما رجحه جمهور العلماء سلفا وخلفا من أن رضاع الكبير لا تثبت به محرمية مطلقاً، وأنه لا يحرم من الرضاع إلاَّ ما كان في الصغر، وأن واقعة سالم – رضي الله عنه – واقعة عين خاصة به دون سواه ، فهي حالة لن تتكرر لتحريم سببها وهو التبني، والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، ولن يحتاج إلى الحكم لانعدام حصول العلة بتحريم التبني، وبالتالي فإن من يقول بأن رضاع الكبير يُحرم كالنسب فهو قول مرجوح ومردود بالاحاديث الصحيحة وبأقوال جمهور العلماء سلفا وخلفا.
ومن المعلوم أن العلماء قد اجمعوا على أنه لا يجوز أن يرى ويمس ثدي المرأة من الرجال غير زوجها، وإلا فإن التعسف والقول بالرضاعة المباشرة فيه نكارة شديدة
ذلك أن حذيفة-رضي الله عنه- كان يغار من دخول مولاه سالم على زوجته، فكيف يأمرها النبي-صلى الله عليه وسلم- بأمرٍ يغار منه المرء أشد من غيرته من الدخول، ألا وهو الرضاعة؟! .
وبالإضافة الى ذلك فانه لا يشترط عند الجمهور التقام الثدي في الرضاع المعتبر والذي تثبت به حرمة النكاح، إذ اعتبروا وصول اللبن إلى الحلق بأي طريق كان مثل صب اللبن في الفم من غير التقام الثدي، وشربه رضاعا .والله تعالى اعلم
د. ضياء الدين عبدالله الصالح