لم يرد ذكر للخنثى في القرآن ولا في المرفوع من السنة الصحيحة،
وإنما ورد ذكره في بعض الآثار، ففي سنن البيهقي عن الحسن بن كثير سمع أباه، قال: شهدت
علياً رضي الله عنه في خنثى قال انظروا مسيل البول فورثوه منه. وفي رواية: فقال علي
رضي الله عنه: إن بال من مجرى الذكر فهو غلام وإن من مجرى الفرج فهو جارية.
وفي سنن الدارمي عن علي قال: يورث من قبل مباله.
والخنثى إذا اتضحت ذكورته أو أنوثته، فإنه يعامل على أساس
ما اتضح من ذلك، وأما إذا لم يتبين حاله، ولم يعرف ما إذا كان ذكراً أو أنثى، فإنه
حينئذ يسمى بالخنثى المشكل، ويعامل بالأحوط من الأحكام، فمع الرجال يعتبر امرأة ومع
النساء يعتبر رجلاً .
ااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
لما شاء الله تعالى أن يكون خلق الأحياء قائمًا على طبيعة
التناسل، جعل المخلوقات نوعين ذكرًا وأنثى، وبثّ منهما خلقا كثيرًا حتى تستمر الحياة
خلفًا بعد سلف، وما دامت الأرض مخلوقة لعمارة النوع البشري بنوعيه الذكر والأنثى لم
يجعل الله تعالى بينهما نوعًا ثالثا. لذا فإن الخنثى لا يخرج من أحد الجنسين الذكر
أو الأنثى، فلا يمكن اعتباره كنوع جامع للوصفين لما بينهما من مغايرة خُلُقية على سبيل
المضادة.
والعارفون لمـَّا عاينوا حقيقة الخنثى قالوا هو نوعان، نوع
له آلتا الذكر والأنثى معا، والثاني ليس له آلة أصلا، إنما به ثُقب يقضي به حاجته.
وأصل التسمية من الخُنْثُ وهو اللين وكل ما كان في معناه، يقال: خَنِثَ الرجل خَنَثا
فهو خَنِثٌ، وتَخَنَّثَ وانْخَنَثَ، تَثَنَّى وتَكَسَّرَ، والأنثى خَنِثَةٌ، وخَنَّثْتُ
الشيء فَتَخَنَّثَ أي عَطَّفْتُه فَتَعَطَّف، والمُخَنَّثُ من ذلك ِللِينِه وتَكَسُّره
وهو الانْخِنَاث، ويقال للمُخَنَّثِ خُنَاثَةُ وخُنَيْثةُ، وامرأة خُنُثٌ ومِخْنَاثٌ،
ويقال للذكر: يا خُنَثُ وللأنثى: يا خَنَاثِ. والذي يُفهم من ذلك أن الخنثى في عرف
كلام الناس موضوع للدلالة على الشخص الذي انعطفت خِلقتُه إلى الجنسين معا الذكر والأنثى
لما له من الآلتين، أو للدلالة على الشخص الذي تكسَّرت خِلقته لانعدام بروز الآلتين
معا عنده. والفقهاء إزاء هذا النوع الأخير تحيَّر أكثرُهم في معرفة جنسه لانعدام الدليل،
فنعتوه بالخنثى المُشْكِل، على غرار النوع الذي يكون فيه الخنثى مشتملا على آلتي الذكورة
والأنوثة، فقد بينت السُنة النبوية كيفية معالجة وضعه فقهيا في حالة ما إذا كانت إحدى
الآلتين معطلة والأخرى مستعملة، فيُنَسب جِنْسُه إلى المستعملة دون المعطلة، كمن كان
يبول بذكره دون فرجه، فيُنعت بالذكورة على أنه رجل، أو كان يبول بفرجه دون ذكره فيُنعت
بالأنوثة على أنه أنثى. أما في حالة ما إذا كانت كلتا الآلتين مستعملتين فإن الأمر
أشكل على الفقهاء، وهو ما يسمى عندهم في كتب الفقه الخنثى المشكل.
أولا: الخنثى المشكل وإشكالية التكليف الفقهي عند فقهاء الحنفية.
إذا أطلق اسم الخنثى بلا إضافة كلمة المشكل فإنه يعني عند
الفقهاء الخنثى الواضح، وهو الشخص الذي تم تحديد نوعه، وألحق بأحد الجنسين الذكر أو
الأنثى، فيكون له من الأحكام ما للجنس المُلحق به. وفي بعض الكتب الفقهية نقف عند باب
موضوع للخنثى المشكل فقط، أما الواضح فقد تجلى نوعه، فلم تكن الحاجة ماسة لعقد باب
مستقل لأحكامه كما هي للخنثى المشكل. والذي رفع الإشكال عن الخنثى وجعله واضحًا مَبَالُه، والذي يدل على ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سُئل
عن مولود ولد له فرج وذكر من أين يُوَرَّث؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يورَّث من حيث يبول".
وعن عليّ بن أبي طالب في الخنثى قال:"يُوَرَّث من قِبَلِ مَبالِه". وهذا
الحكم أول ما جرى أيام الجاهلية، حيث يروى أن قاضيا فيهم رُفعت إليه حالة خنثى كيف
يُورَّث، فجعل يقول هو رجل هو امرأة، فاستبعد قومه ذلك فتحيَّر، ودخل بيته فجعل يتقلب
على فراشه ولا يأخذه نوم لصعوبة النازلة، وكانت له بُنيّة أخبرها بذلك فقالت دع الحال
وابتغ المَبَال، فخرج إلى قومه وحكم بذلك فاستحسنوا ذلك منه. والذي فهمه الفقهاء من
هذا أن الرواية أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون سنة تقريرية رافعة لإشكال
الخنثى فيورَّث من حيث يبول، ولا يقتصر الأمر على الميراث فقط بل الرواية تنص على كيفية
تحديد جنس الخنثى أكثر من مجرد كونه يرث من قبل مَبَاله، فإذا ثبت كونه يبول من ذكره
فهو ذكر تُلحق به أحكام الذكورة كلها، وإن ثبت كونه يبول بفرجه فإنه يعتبر أنثى أمام
الفقه فتلحق به أحكام الأنثى.
والإمام أبو حنيفة كان يرى الخنثى ذكرًا إذا كان يبول من
مَبال الرجال، وإلا فإنه أنثى إذا كان يبول من مَبال النساء، أما إن كان يبول منهما
جميعا فالحكم للأسبق منهما، ولا شك أن أبا حنيفة اطلع في ذلك على رواية سعيد بن المسيب
لما سُئل عن شخص له خلق المرأة وخلق الرجل كيف يورث، فقال من أيهما بال ورث، فقيل أرأيت
إن كان يبول منهما جميعا، فقال يُنظر من أيِّهما يخرج البول أسرع فعلى ذلك يورث".
وهذا الذي انتهى إليه هو المذهب الذي عوّل عليه الحنفية في ترتيب الأحكام الفقهية للخنثى،
إلا إذا استوى المبالان في السبق عندها توقف أبو حنيفة لانعدام الدليل على ذلك فقال:
لا علم لي بذلك. أما صاحباه فقالا يورث بأكثرهما بولا، لأن الترجيح يكون بالكثرة كما
يكون بالسبق، إذ لا مزاحمة بين القليل والكثير، كما لا مزاحمة بين اللاحق والسابق.
وأبو حنيفة أبى ذلك لوجهين أحدهما: أن كثرة البول تدل على سعة المخرج ولا معتبر لذلك،
فمخرج بول النساء أوسع من مخرج بول الرجال، والثاني: أن الكثرة والقلة تظهر في البول
لا في المبال، والآلة الفصل المبال دون البول، وباعتبار السبق يأخذ السابق اسم المبال
قبل أن يأخذ الآخر ذلك الاسم، وأما إذا خرج منهما جميعا فقد أخذا اسم المبال في وقت
واحد على صفة واحدة. ثم إن أبا حنيفة استقبح الترجيح بالكثرة، فعلى ما يحكى عنه أن
أبا يوسف قال: الخنثى في هذه الحالة يورث من أكثرهما بولا فرد عليه: يا أبا يوسف وهل
رأيت قاضيا يكيل البول بالأواني، فاستبعد ذلك لما فيه من القبح، وتوقف عن الجواب، وقال
لا أدري، وهذا من علامة فقه الرجل وورعه أن لا يخبط في الجواب، كذا قال صاحباه: إذا
استوى المخرجان في المقدار لا علم لنا بذلك، ومن جاء بعدهما من الحنفية اجتهدوا في
ذلك، وقالوا الخنثى لا يخلو إذا بلغ هذه المعالم التي وصفها شيوخنا أن يكون مشكلا،
لكن يزول إشكاله لا محالة بعد البلوغ بظهور علامات فيه تكون فاصلة بين الجنسين الذكورة
والأنوثة، قال علاء الدين الكاساني:"وأما بيان ما يعرف به أنه ذكر أو أنثى فإنما
يعرف ذلك بالعلامة، وعلامة الذكورة بعد البلوغ نبات اللحية، وإمكان الوصول إلى النساء،
وعلامة الأنوثة في الكبر نهود ثديين كثديي المرأة، ونزول اللبن في ثدييه، والحيض والحبل،
وإمكان الوصول إليه من فرجها، لأن كل واحد مما ذكرنا يختص بالذكورة والأنوثة، فكانت
علامة صالحة للفصل بين الذكر والأنثى، وأما العلامة في حالة الصغر فالمبال..".
فإذا تبينت عندهم تلك العلامات وميزته فإنه يلحق بأي الجنسين تشبَّه فلم يعد الخنثى
مشكلا بل واضحا، فتجري عليه أحكام الذكورة إن بدت عليه علامات الذكر، أو أحكام الأنوثة
إن بدت عليه علامات الأنثى. وإن استنفذت العلامات كلها أو تعارضت فإن الحنفية في هذه
الحالة ـ لندورها ـ يلحقون الخنثى بالذي لا آلة له أصلا، ويسمونه الخنثى المشكل، ولم
يقولوا ما لم يُعلم تذكيره ولا تأنيثه الأصل فيه التذكير، بل توقفوا في هذه الحالة.
ثانيا: الخنثى وإشكالية التكليف الفقهي عند فقهاء المالكية.
لم يُحفظ عن الإمام مالك في نازلة الخنثى شيء، وما نُقل عنه
أن الخنثى ذَكر زاده الله فرجا فكلام منسوب إليه، وقد صحَّ عن تلميذه ابن القاسم أنه
كان يقول: لم يكن أحدٌ يجترئ أن يسأل مالكا عن الخنثى المشكل. وكذا ابن المنذر قال:
ولا أحفظ عن مالك فيه شيئا. لذا فإن الإمام مالك لم يبث في النازلة نظرًا إلى أنه لم
يُسأل عنها، وأكثر الذين قالوا قد بث فيها هم من المتأخرين، حيث نظروا إلى مسألة الخنثى
انطلاقا من حديث ابن عباس، فيحكم له بمخرج البول في نكاحه وميراثه وشهادته وغير ذلك
من الأحكام الفقهية، فإن كان يبول من ذكره أُلحق بالذكور، وإن كان يبول من فرجه ألحق
بالإناث، أما إن بال من المحلين معًا اعتبر الأسبق والأكثر، قال العقباني:"ويستدل
بالبول قبل غيره لعموم الاستدلال به في الصغير والكبير ولدوام وجوده... فلو بال من
المحلين اعتبر الأكثر والأسبق". وهذا
قول جمهور المالكية، ولم أعلم من خالفهم في هذا، فينظر إلى مباله، فإن بال من آلة الذكورة
فهو ذكر، وإن بال من آلة الأنوثة فهو أنثى، وإن بال منهما جميعا نظر إلى أيّهما أكثر
فله الحكم، فإن تكافأت أموره فهو مشكل في حال الصغر، فينظر في كبره وبلوغه، فإن نبتت
له لحية فهو رجل؛ لأن اللحية علامة الذكر، وإن لم ينبت له لحية وخرج ثدي فهو امرأة،
فإن لم ينبتا أو نبتا جميعا نظر، فإن حاض من فرجه فهو امرأة، وإن احتلم من ذكره فهو
ذكر، فإن احتلم وحاض، أو لم يكن من ذلك شيء فهو مشكل. وهذا هو الذي عليه جمهور المالكية
إلا قليلا منهم قالوا لا وجود للمشكل إذ قد تظهر علامة تزيل إشكاله، والقاضي إسماعيل
من أصحاب هذا الرأي وزاد عليه الحسن البصري من التابعين بقوله: لم يكن الله عز وجل
ليضيق على عبد من عبيده حتى لا يدري أذكر هو أم أنثى.
ثالثا: الخنثى المشكل
وإشكالية التكليف الفقهي عند فقهاء الشافعية.
لم يخرج الشافعية عن هذا، بل أضافوا إليه أنه إذا أشكل الخنثى
حاله قبل البلوغ فلا يُرجى انتظار بلوغه حتى لا يخرج عن أحكام الفقه، بل المذهب فيه
أنه إما رجل وإما امرأة وليس نوعا ثالثاً، والطريق إلى معرفة ذلك قبل البلوغ من أوجه،
منها البول وقد مرّ سياقه، فإن كان يبول بالآلتين جميعاً نظر في الخروج والانقطاع والقدر
، فإن كانا ينقطعان معاً ويتقدم أحدهما في الابتداء فهو للمتقدم، وإن استويا في التقدم
وتأخر انقطاع أحدهما فهو للمتأخر، وإن تقدم أحدهما وتأخر الآخر فهو للسابق على أصح
الوجهين، وإن استويا في الابتداء والانقطاع وكان أحدهما أكثر وزناً فوجهان، أحدهما
يحكم بأكثرهما وهو مذهب الشافعي، والثاني لا دلالة فيه. أما عند البلوغ فيعتمد المني
أو الحيض قبل باقي العلامات الأخرى في وقتهما، فإن أمنى بذكره فرجل، أو بفرجه أو حاض
فامرأة بشرط تكرره، فإن أمنى منهما فوجهان أحدهما لا دلالة، والأصح أنه إن أمنى منهما
بصفة مني الرجال فرجل، أو بصفة مني النساء فامرأة، فإن أمنى من أحدهما بصفة ومن الآخر
بالصفة الأخرى فلا دلالة، ولو تعارض بول وحيض، فبال من ذكر الرجل وحاض من فرج المرأة
فوجهان، أصحهما لا دلالة للتعارض فيكون مشكل، والثاني يقدم البول لأنه دائم متكرر،
وقيل بل يُقدَّم الحيض لكونه مختصًا بالنساء والمني مشترك. ثم الولادة تفيد القطع بالأنوثة
وهي مقدمة على جميع العلامات المعارضة لها باتفاق العلماء، لأن دلالتها قطعية وباقي
العلامات ظنية. ومن الشافعية من قال مجرد الحمل معتبر في ذلك لنقطع بأنوثة الخنثى،
كما ذهب أكثرهم إلى أن نبات اللحية ونهود الثدي لا دلالة فيهما لأن ذلك قد يختلف، ولأنه
لا خلاف أن عدم اللحية في وقته لا يدل للأنوثة، ولا عدم النهود في وقته للذكورة، فلو
جاز الاستدلال بوجوده عملاً بالغالب لجاز بعدمه عملاً بالغالب. أما عدد الأضلاع ففيه
وجهان أحدهما يُعتبر، فإن كانت أضلاعه من الجانب الأيسر ناقصة ضلعاً فهو رجل، وإن تساوت
من الجانبين فامرأة، وقد أنكر ذلك أبو المعالي الجويني فقال: "هذا الذي قيل من تفاوت الأضلاع
لست أفهمه، ولا أدري فرقاً بين الرجال والنساء"، إضافة أنه لا أصل له في الشرع
ولا في كتب التشريح كما قال الغزالي في كتابه الوسيط. ومن العلامات أيضا شهوته وميله
إلى النساء أو إلى الرجال، فإن قال أشتهي النساء، ويميل طبعي إليهن حكم بأنه رجل، وإن
قال أميل إلى الرجال حكم بأنه امرأة، لأن الله تعالى أجرى العادة بميل الرجل إلى المرأة
والمرأة إلى الرجل، وإن قال أميل إليهما ميلاً واحداً، أو لا أميل إلى واحد منهما فهو
مشكل. وقال الشافعية جميعا إنما نراجعه في ميله وشهوته، ونقبل في ذلك قوله إذا عجزنا
عن العلامات السابقة، فأما مع واحدة منها فلا نقبل قوله، لأن العلامة حسية، وميله خفي،
ولأن الميل إنما يظهر بعد البلوغ هذا هو المذهب الصحيح المشهور. وقيل وجه آخر أنه يقبل
قول الصبي المميز في هذا كالتخيير بين الأبوين في الحضانة، وهذا ليس بشيء عندهم؛ لأن
تخييره بين الأبوين تخيير لا تتعلق به أحكام بخلاف تخيير الخنثى فإنه يتعلق به حقوق
كثيرة في النفس والمال والعبادات، وهو اختيار لازم لا يجوز الرجوع عنه على غرار التخيير
في الحضانة إلا إذا كذَّبه الحس بأن يخبر أنه رجل ثم يلد بطل قوله، ويحكم بأنه امرأة.
فإذا انعدمت في الخنثى هذه العلامات فهو مشكل.
رابعا: الخنثى المشكل وإشكالية التكليف الفقهي عند فقهاء
الحنابلة.
الحنابلة كباقي الفقهاء قالوا إن الخنثى إما مشكل أو واضح،
ويمكن رفع إشكاله قبل البلوغ بالنظر إلى مباله، فإن كان يبول من ذكره فهو ذكر، وإن
من فرجه فهو أنثى. قال في ذلك عبد الله بن قدامة: "جاء في الأثر يُورَّث الخنثى
من حيث يبول، ولأنها أعم علاماته لأنها توجد في الصغير والكبير، وقد أجرى الله العادة
أن الذكر يبول من ذكره والأنثى من فرجها فاعتبر ذلك، فإن بال من حيث يبول الرجل فهو
ذكر، وإن بال من حيث تبول المرأة فله حكم المرأة، فإن بال منهما اعتبر بأسبقهما، فإن
خرجا في حال واحدة اعتبر أكثرهما، لأن الأكثر أقوى في الدلالة، فإن استويا فهو مشكل".
بهذا يكون المعتبر في ذلك الأسبق منهما بولا فيحكم للخنثى من خلاله بالذكورة أو الأنوثة،
ولا مزية لأقل المبالين بولا لأنه خلقة زائدة، وهو مذهب الإمام أحمد تبعا لعلي بن أبي
طالب، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، وأهل الكوفة. فإن استوى مبال الآلتين
معا ولم يسبق أحدهما الآخر فإن الإمام أحمد نصَّ على أكثرهما بولا اعتمادا على ما نقله
إسحاق بن إبراهيم عنه أنه كان يقول: يرث من المكان الذي ينزل منه أكثر. وقال ابن حمدان
قدرًا وعددًا، لأن الكثرة مزية لإحدى العلامتين فيعتبر بها كالسبق، فإن استوى المحلان
في قدر ما يخرج من كل واحد منهما من البول فالخنثى في هذه الحالة مشكل قبل البلوغ،
لعدم تمييزه بشيء مما تقدّم.
أما بعد بلوغ الخنثى فثمة علامات اعتمدها الحنابلة كباقي
الفقهاء كخروج المني وظهور الحيض، ونبات اللحية وبروز الثديين، نص عليه الإمام أحمد
في رواية الميموني وإن تعذر ذلك فالخنثى عندهم مشكل لا علامة فيه على ذكوريته أو أنوثيته
لالتباس أمره، وهذا معنى قولهم لا يكون المشكل أبًا ولا أمًّا لانعدام ذكوريته أو أنوثيته.
وأقوى العلامات المعتمدة عندهم خروج المني من الذكر، فهو إمارة على كونه رجلا، وإن
خرج من فرجه أو حاض فهو إمارة على كونه امرأة، و لقد شدد الحنابلة على من اعتبر المني
غير كفيل برفع إشكال الخنثى، لجواز أن يكون أحد الفرجين الذي خرج منه ذلك خلقة زائدة،
فقالوا إذا كان خروج البول من أحد الفرجين دليلا على كونه رجلا أو امرأة، فخروج المني
والحيض أولى، ولأن خروج مني الرجل من المرأة والحيض من الرجل مستحيل، كما أنكروا على
من اعتمد على الأضلاع في تمييز جنس الخنثى بحجة أن أضلاع المرأة أكثر من أضلاع الرجل
بضلع، فقالوا: "فلو صح هذا لما أشكل حاله، ولما احتج إلى مراعاة المبال".
خاتمة:
بهذا يمكن القول بأن الفقهاء على اختلاف مذاهبهم وضعوا علامات
موحدة يتم بها الحسم في تحديد جنس الخنثى المشكل ذكر هو أم أنثى، كالنظر إلى المبال
على اختلاف بينهم في القدر والكثرة، والنظر إلى دليل البلوغ من مني وحيض، مع اعتبار
الأوصاف الظاهرية من لحية وثدي، والأوصاف المعنوية من ميل وشهوة. إلا أنهم عند انعدام
هذه الأوصاف أو تكافئها عند الخنثى تحيَّر أكثرهم في تحديد نوع الخنثى فألحقوه بالخنثى
المشكل الذي لا آلة له أصلا، وبهذا ضاعت على هذا الأخير جملة من الأحكام الفقهية. والفقهاء
ـ قديما ـ اتجاه ما بذلوه من اجتهاد في استنباط تلك العلامات لا شك أنهم مأجورون، فبلغهم
من العلم وقتها لم يصل حدا كما في زماننا، لذا فإن فقهاء اليوم مطالبون بالنظر في حال
الخنثى المشكل بعين الاجتهاد القائم على ما توصل إليه العلم الطبي في هذا المجال الذي
بوسعه معرفة جنس الخنثى انطلاقا مما قدمته أبحاثهم العلمية، حتى نرفع عن الخنثى إشكاله،
ويصير واضحا في نظر الفقه الإسلامي.
اااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
"كتاب الخنثى"
"الكلام" فيه يقع في مواضع: في تفسير الخنثى, وفي
بيان ما يعرف به أنه ذكر, أو أنثى, وفي بيان حكم الخنثى المشكل. "أما الأول"
فالخنثى من له آلة الرجال والنساء, والشخص الواحد لا يكون ذكرا وأنثى حقيقة, فإما أن
يكون ذكرا, وإما أن يكون أنثى.
"فصل": وأما بيان ما يعرف به أنه ذكر, أو أنثى,
فإنما يعرف ذلك بالعلامة, وعلامة الذكورة بعد البلوغ نبات اللحية, وإمكان الوصول إلى
النساء وعلامة الأنوثة في الكبر نهود ثديين كثديي المرأة ونزول اللبن في ثدييه والحيض
والحبل, وإمكان الوصول إليها من فرجها؛ لأن كل واحد مما ذكرنا يختص بالذكورة والأنوثة
فكانت علامة صالحة للفصل بين الذكر والأنثى. وأما العلامة في حالة الصغر فالمبال, لقوله
عليه الصلاة والسلام "الخنثى من حيث يبول", فإن كان يبول من مبال الذكور
فهو ذكر, وإن كان يبول من مبال النساء فهو أنثى
وإن كان يبول منهما جميعا يحكم السبق؛ لأن سبق البول من أحدهما يدل على أنه
هو المخرج الأصلي وأن الخروج من الآخر بطريق الانحراف عنه. وإن كان لا يسبق
ج / 7 ص -328-
أحدهما الآخر فتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه. وقال: هو خنثى مشكل, وهذا من كمال
فقه أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن التوقف عند عدم الدليل واجب. وقال أبو يوسف ومحمد:
تحكم الكثرة؛ لأنها في الدلالة على المخرج الأصلي كالسبق فيجوز تحكيمه. ووجه قول أبي
حنيفة عليه الرحمة أن كثرة البول وقلته لسعة المحل وضيقه فلا يصلح للفصل بين الذكورة
والأنوثة, بخلاف السبق, وحكي أنه لما بلغ أبا حنيفة قول أبي يوسف في تحكيم الكثرة لم
يرض به, وقال: هل رأيت حاكما يزن البول, فإن استويا توقفا أيضا, وقالا هو خنثى مشكل,
والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": وأما حكم الخنثى المشكل فله في الشرع أحكام:
حكم الختان وحكم الغسل بعد الموت وحكم الميراث ونحو ذلك من الأحكام. أما حكم الختان
فلا يجوز للرجل أن يختنه لاحتمال أنه أنثى ولا يحل له النظر إلى عورتها ولا يحل لامرأة
أجنبية أن تختنه لاحتمال أنه رجل فلا يحل لها النظر إلى عورته فيجب الاحتياط في ذلك
وذلك أن يشتري له من ماله جارية تختنه إن كان له مال؛ لأنه إن كان أنثى فالأنثى تختن
بالأنثى عند الحاجة, وإن كان ذكرا فتختنه أمته لأنه يباح لها النظر إلى فرج مولاها,
وإن لم يكن له مال يشتري له الإمام من مال بيت المال جارية ختانة فإذا ختنته باعها
ورد ثمنها إلى بيت المال؛ لأن الختان من سنة الإسلام وهذا من مصالح المسلمين فيقام
من بيت مالهم عند الحاجة والضرورة, ثم تباع ويرد ثمنها إلى بيت المال لاندفاع الحاجة
والضرورة, وقيل: يزوجه الإمام امرأة ختانة؛ لأنه إن كان ذكرا فللمرأة أن تختن زوجها,
وإن كان أنثى فالمرأة تختن المرأة عند الحاجة.
وأما حكم غسله بعد الموت فلا يحل للرجل أن يغسله لاحتمال
أن يكون أنثى ولا يحل للمرأة أن تغسله لاحتمال أنه ذكر ولكنه ييمم, كان الميمم رجلا,
أو امرأة, غير أنه إن كان ذا رحم محرم منه يممه من غير خرقة, وإن كان أجنبيا يممه بالخرقة
ويكف بصره عن ذراعيه. وأما حكم الوقوف في الصفوف في الصلاة فإنه يقف بعد صف الرجال
والصبيان قبل صف النساء احتياطا على ما ذكرنا في كتاب الصلاة. وأما حكم إمامته في الصلاة
أيضا فقد مر فلا يؤم الرجال لاحتمال أنه أنثى ويؤم النساء.
وأما حكم وضع الجنائز على الترتيب فتقدم جنازته على جنازة
النساء وتؤخر عن جنازة الرجال والصبيان على ما مر في كتاب الصلاة لجواز أنه ذكر فيسلك
مسلك الاحتياط في ذلك كله.
وأما حكم الغنائم فلا يعطى سهما ولكن يرضخ له كأنه امرأة؛
لأن في استحقاق الزيادة شكا, فلا يثبت بالشك. وأما حكم الميراث فقد اختلف العلماء فيه
قال أصحابنا رحمهم الله يعطى له أقل الأنصباء وهو نصيب الأنثى إلا أن يكون أسوأ أحواله
أن يجعل ذكرا فحينئذ يجعل ذكرا حكما, وبيان هذا في مسائل: إذا مات رجل وترك ابنا معروفا
وولدا خنثى فعند أصحابنا رحمهم الله تعالى يقسم المال بينهم أثلاثا للابن المعروف الثلثان
وللخنثى الثلث ويجعل الخنثى هاهنا أنثى كأنه ترك ابنا وبنتا, ولو ترك ولدا خنثى وعصبة
فالنصف للخنثى والباقي للعصبة ويجعل الخنثى أنثى كأنه ترك بنتا وعصبة, ولو ترك أختا
لأب وأم وخنثى لأب, وعصبة فللأخت للأب والأم النصف, والخنثى لأب السدس تكملة الثلثين,
والباقي للعصبة, ويجعل الخنثى أيضا هاهنا أنثى كأنه ترك أختا لأب وأم, وأختا لأب, وعصبة.
فإن تركت زوجا وأختا لأب, وأم وخنثى لأب فللزوج النصف وللأخت للأب والأم النصف ولا
شيء للخنثى ويجعل هاهنا ذكرا؛ لأن هذا أسوأ أحواله؛ لأنا لو جعلناه أنثى لأصاب السدس
وتعول الفريضة, ولو جعلناه ذكرا لا يصيب شيئا كأنها تركت زوجا وأختا لأب وأم وأخا لأب
وهذا الذي ذكرنا قول أصحابنا رحمهم الله تعالى. وقال الشعبي رحمه الله يعطى نصف ميراث
الذكر ونصف ميراث الأنثى؛ لأنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى فيعطى له نصف
ميراث الرجال ونصف ميراث النساء "والصحيح" قول أصحابنا رحمهم الله تعالى؛
لأن الأقل ثابت بيقين, وفي الأكثر شك؛ لأنه إن كان ذكرا فله الأكثر, وإن كان أنثى فلها
الأقل فكان استحقاق الأقل ثابتا بيقين وفي استحقاق الأكثر شك فلا يثبت الاستحقاق مع
الشك على الأصل المعهود في غير الثابت بيقين أنه لا يثبت بالشك, ولأن سبب استحقاق كل
المال ثابت للابن المعروف وهو ذكر فيه وإنما ينتقص حقه بمزاحمة الآخر فإذا احتمل أنه
ذكر واحتمل أنه أنثى وقع الشك في سقوط حقه عن الزيادة على الثلث فلا يسقط بالشك على
الأصل المعهود في
ج / 7 ص -329-
الثابت بيقين أنه لا يسقط بالشك. واختلف أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في تفسير
قول الشعبي رحمه الله وتخريجه فيما إذا ترك ابنا معروفا وولدا خنثى فقال أبو يوسف على
قياس قوله: يقسم المال على سبعة: أربعة أسهم منها للابن المعروف, وثلاثة للخنثى. وقال
محمد رحمه الله تعالى على قياس قوله: يقسم المال على اثني عشر سهما: سبعة منها للابن
المعروف, وخمسة للخنثى, وجه تفسير محمد وتخريجه لقول الشعبي أن للخنثى في حال سهما
وهو أن يكون ذكرا وللابن المعروف سهم, وله في حال ثلثا سهم وهو أن يكون أنثى وللابن
المعروف سهم وثلث سهم فيعطى نصف ما يستحقه في حالين؛ لأنه لا يستحق على حالة واحدة
من الذكورة والأنوثة لاستحالة أن يكون الشخص الواحد ذكرا وأنثى وليست إحدى الحالتين
أولى من الأخرى فيعطى نصف ما يستحقه في الحالتين وهو خمسة أسداس سهم وانكسر الحساب
بالأسداس فيصير كل سهم ستة فيصير جميع المال اثني عشر سهما للخنثى منها خمسة وللابن
المعروف سبعة, أو يقال إذا جعلنا جميع المال اثني عشر سهما فالخنثى يستحق في حال ستة
من اثني عشر وهي أن يكون ذكرا وفي حال أربعة من اثني عشر وهي أن يكون أنثى فالأربعة
ثابتة بيقين, وسهمان يثبتان في حال ولا يثبتان في حال وليست إحدى الحالتين أولى من
الأخرى فينصف. وذلك سهم فذلك خمسة أسهم للخنثى. وأما الابن المعروف فالستة من الاثني
عشر ثابتة بيقين وسهمان يثبتان في حال ولا يثبتان في حال فينصف وذلك سهم فذلك سبعة
أسهم للابن المعروف, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وجه" قول أبي يوسف وتخريجه
لقول الشعبي أنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى, فإن كان ذكرا فله نصيب ابن
وهو سهم, وللابن المعروف سهم, وإن كان أنثى فله نصيب بنت وهو نصف سهم وللابن المعروف
سهم فله في حال سهم تام وفي حال نصف سهم, وإنما يستحق على حالة واحدة وليست إحداهما
بأولى من الأخرى فيعطى نصف ما يستحقه في حالتين وذلك ثلاثة أرباع سهم, وللابن المعروف
سهم تام فيكون الميراث بينهما على سبعة أسهم للابن المعروف أربعة وللخنثى ثلاثة, والله
سبحانه وتعالى أعلم. "ووجدت" في شرح مسائل المجرد المنسوب إلى الإمام إسماعيل
بن عبد الله البيهقي رضي الله عنه الذي اختصر المبسوط والجامعين والزيادات في مجلدة
واحدة وشرحه بكتاب لقبه الشامل بابا في الخنثى فأحببت أن ألحقه بهذا الفصل وهو ليس
من أصل الشيخ وهو باب الخنثى. "قال" ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم "يورث الخنثى من حيث يبول" وهو مذهبنا, الخنثى المشكل
معتبر بالنساء في حق بعض الأحكام إذا كان الاحتياط في الإلحاق بهن, وبالرجال إذا كان
الاحتياط فيه, فحكمه في الصلاة حكم المرأة في القعود والستر, وفي الوقوف بجنب الرجال
في إفساد صلاة الرجل, ويقوم خلف الرجال وقدام النساء ولا يلبس الحرير إلحاقا بالرجال,
وفي القصاص فيما دون النفس مثل المرأة, ولو مات يمم بالصعيد ولا يغسله رجل ولا امرأة
ويسجى قبره ويدخل قبره ذو رحم محرم منه. فإن قبله رجل بشهوة لم يتزوج بأمه, ولو زوجه
أبوه امرأة يؤجل كالعنين سنة ولا حد على قاذفه اعتبارا بالمجبوب والرتقاء, وفي الكل
يعتبر الاحتياط قال: "كل عبد لي حر" وقال: "كل أمة" لم يعتق الخنثى
المشكل؛ لأن الملك ثابت فلا يزول بالشك, ولو قال القولين جميعا عتق لما عرف.
"وقوله" أنا ذكر, أو أنثى لا يقبل؛ لأنه متهم ويشتري امرأة بأن يشتري له
أمة من ماله للخدمة, فإن لم يكن له مال فمن بيت المال؛ لأنه من مصالح أهل الإسلام.
"مات" وأقام رجل البينة إنها كانت امرأته وكانت تبول من مبال النساء, وامرأة
أنه كان زوجها وكان يبول من مبال الرجال لم يقض لأحدهما إلا إن ذكرت إحدى البينتين
وقتا أقدم فيقضى له وفي حبسه في الدعاوى, ولا يفرض له في الديوان؛ لأنه حق الرجل المقاتل,
فإن شهد القتال يرضخ له؛ لأن الرضخ نوع إعانة. وإن أسر لم يقتل, ولا يدخل في قسامة
ولا تؤخذ منه الجزية؛ لأن هذا من أحكام الرجال أوصى رجل لما في بطن فلانة بألف درهم
إن كان غلاما, وبخمسمائة إن كانت جارية وكان مشكلا لم يزد على خمسمائة عند أبي حنيفة
عليه الرحمة وعندهما رحمهما الله له نصف الألف والخمسمائة, قال: وخروج اللحية دليل
أنه رجل, والثدي على مثال ثدي المرأة مع عدم اللحية والحيض دليل كونه امرأة. زوج خنثى
ج / 7 ص -330-
من خنثى مشكلان على أن أحدهما رجل والآخر امرأة صح الوقف في النكاح حتى تتبين,
فإن ماتا قبل البيان لم يتوارثا لما مر شهد شهود على خنثى أنه غلام, وشهود أنه جارية,
والمطلوب ميراث, قضيت بشهادة الغلام؛ لأنها أكثر إثباتا, فإن كان المدعى مهرا قضيت
بكونها جارية, وإن كان المقيم لا يطلب شيئا لم تسمع البينة, والله سبحانه وتعالى أعلم.
اااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا