الاثنين، 16 سبتمبر 2024

التدليس في قولهم: إن أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف؛ هم العُبيديون الفاطميون الشيعة!

 من جملة التدليس الذي ابتلي به هؤلاء النابتة، لتنفير الناس من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ زعمهم أن أول من أحدث الاحتفال به الدولة العُبيدية الفاطمية الشيعية، وللرد على هذا الزعم نقول:

أولا: هذا رأي من جملة آراء ثلاثة للعلماء والمؤرخين، وقد ذكره المقريزي في [الخطط] والقلقشندي في [صبح الأعشى]، في احتفالات الشيعة، ولم يذكرا أنهم أول من أحدثوه، وإنما استنبط ذلك من كلامهما بعض المعاصرين، والإنصاف العلمي يقتضي ذكر جميع الآراء، والموازنة بينها.
ثانيا: أما الرأي الثاني فهو ما ذكره العلامة المؤرخ أبو شامة في كتابه [الباعث على إنكار البدع والحوادث] من قوله: "إن من أحسن ما ابتُدع في زمانه؛ ما كان يُفعل في مدينة إِرْبِل من الاحتفال بالمولد النبوي، وكان أول من فعل ذلك بالموصل؛ الشيخ عمر بن محمد المَلَّا، أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل".
والشيخ عمر بن محمد الملا؛ إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، وهو مُعين الدين أبو حفص عمر بن محمد بن خضر الإربلي (أو الأردبيلي) الموصلي، المعروف بالمَلاَّء المتوفى سنة 570 هـ.
قال سبط ابن الجوزي: "سمي الملَّاء؛ لأنه كان يملأ تنانير الآجُرّ، ويأخذ الأجرة فيتقوَّت بها، ولا يملك من الدنيا شيئاً".
وهو شيخ الموصل في عهده، ويوصف في الكثير من المصادر التاريخية بالزاهد العابد الصالح!
وله أخبار مع الملك الصالح العادل نور الدين محمود بن زنكي، وقد كان زنكي يحسن الظن بالملَّاء، حتى إنه أوصى أن لا يبرم أحد في الموصل شيئا حتى يُعلموا به الملَّاء!
وكان نور الدين إذا وصل إلى الموصل؛ لا يأكل إلا من الملَّاء، وفي رمضان كان يعد الشيخ الإفطار لنور الدين وهو لا يخرج عن الثريد والرقاق، ويفطر معه كل يوم!
صنف الملَّاء كتابا اسمه "وسيلة المتعبدين في سيرة سيد المرسلين" أو "وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين".
فيرى أبو شامة أن المَلَّاء هو أوّل من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي، وكان يحتفل به سنويا بحضور الشعراء والأمراء في زاويته!
وهو - كما ترى - من الصالحين العابدين الزاهدين، من أهل السنة، ونور الدين بن زنكي الذي كان يحبه ويقربه من أعظم ملوك الإسلام!
وذكر ياسين العمري في [منية الأدباء] أن مرقده "خارج سور الموصل عند المقابر، على طريق الواردين إلى دجلة، ويزار"، كما يوجد في الموصل محلة تدعى محلة (الشيخ عمر) نسبة إلى جامع الشيخ عمر الملا، وقد نُقل رفاته إلى (الجامع النوري) في محرم 1394 هـ / شباط 1974 م على إِثْر إضافة المسجد إلى الطريق!
وأما الرأي الثالث في أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ فهو - فيما ذكر الإمام السيوطي وهو مؤرخ - أن أول من احتفل بالمولد - بشكل كبير ومنظم - هو حاكم إِرْبِل (في شمال العراق حاليًا)؛ الملك المظفَّر أبو سعيد كُوْكَبْرِي بن زين الدين علي بن بُكْتْكِين، من كبار أهل السنة الصلحاء، وأحد الملوك الأمجاد، والكبراء الأجواد، وكانت له آثار حسنة.
قال ابن خَلِّكان في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دِحية، من تاريخه المسمى [وَفَيَات الأعيان]: "كان من أعيان العلماء، ومشاهير الفضلاء، قدم من المغرب، فدخل الشام والعراق، واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة، فوجد ملكها المعظَّم، مظفَّر الدين بن زين الدين؛ يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب (التنوير في مولد البشير النذير)، وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار".
فانظر: كيف أن أحد أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء - وهو أبو الخطاب بن دحية؛ أقره على عمله، بل وألَّف له مولدا، وقرأه عليه بنفسه، وأجازه به!
وقال الحافظ الذهبي في ترجمته، في [سِيَر أعلام النبلاء]: "وكان محبا للصدقة، له كل يوم قناطير خبز يفرِّقها، ويكسو في العام خَلْقًا، ويعطيهم دينارا ودينارين، وبنى أربع خَوَانِك للزَّمْنَى والأَضِرَّاء، وكان يأتيهم كل اثنين وخميس، ويسأل كل واحد عن حاله، ويتفقده، ويباسطه، ويمزح معه، وبنى دارا للنساء، ودارا للأيتام، ودارا لِلُّقَطَاء، ورتَّب بها المراضع، وكان يدور على مرضى البيمارستان، وله دار مُضيف ينزلها كل وارد، ويعطى كل ما ينبغي له، وبنى مدرسة للشافعية والحنفية، وكان يمد بها السماط - المائدة - ويحضر السماع كثيرا، لم يكن له لذة في شيء غيره!
وكان يمنع من دخول مُنْكرٍ بلده، وبنى للصوفية رباطين، وكان ينزل إليهم لأجل السماعات، وكان في السنة يَفْتَكُّ أسرى بجملة، ويُخرج سبيلا للحج؛ ويبعث للمجاورين بخمسة آلاف دينار، وأجرى الماء إلى عرفات!
وأما احتفاله بالمولد؛ فيقصر التعبير عنه، كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة، وتُنصب قِباب خشب له ولأمرائه، وتُزيَّن، وفيها جوق المغاني واللعب، وينزل كل يوم العصر، فيقف على كل قبة ويتفرج، ويعمل ذلك أياما، ويُخرج من البقر والإبل والغنم شيئا كثيرا، فتُنحر، وتُطبخ الألوان، ويَعمل عِدَّة خِلَع للصوفية، ويتكلم الوعاظ في الميدان، فينفق أموالا جزيلة، وقد جمع له ابن دحية [كتاب المولد]، فأعطاه ألف دينار.
وكان متواضعا، خَيِّرًا، سُنِّيًّا، يحب الفقهاء والمحدِّثين، وربما أعطى الشعراء، وما نُقل أنه انهزم في حرب، وقد ذكر هذا وأمثاله ابن خَلِّكاَن، واعتذر من التقصير!". انتهى النقل عن الحافظ الذهبي.
وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه المسمى [البداية والنهاية]: "أما صاحب إربل فهو الملك المظفر أبو سعيد كُوْكَبْري بن زين الدين علي بن بُكْتُكِين، أحد الأجواد، والسادات الكبراء، والملوك الأمجاد، له آثار حسنة، وقد عَمَّر الجامع المُظَفَّري بسفح قاسيون .. وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالا هائلا.
وكان - مع ذلك - شهما، شجاعا، فاتكا، بطلا، عاقلا، عالما، عادلا، رحمه الله، وأكرم مثواه.
وقد صنَّف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه: (التنوير في مولد البشير النذير)، فأجازه على ذلك بألف دينار!
وقد طالت مدته في المُلْك، في زمان الدولة الصلَاحية، وقد مات وهو محاصر عكا محمود السيرة والسريرة!
قال السبط - يعني: سبط ابن الجوزي -: "حكى بعض من حضر سِمَاط - مائدة - المظفر، في بعض الموالد، كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى!
قال: "وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم - يعني: الهدايا - ويُطْلق لهم، ويعمل للصوفية سماعا - يعني: الأناشيد والمدائح النبوية - من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم - يعني: يظهر التواجد عند السماع - وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القُرَب والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويَفْتَكُّ من الفرنج في كل سنة خلقًا من الأسارى!
حتى قيل: إن جملة من استفكَّه من أيديهم ستون ألف أسير!
قالت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب - وكان قد زوَّجه إياها أخوها صلاح الدين، لمَّا كان معه على عَكَّا -: كان قميصه لا يساوي خمسة دراهم، فعاتبته بذلك، فقال: لبسي ثوبا بخمسة، وأتصدق بالباقي؛ خير من أن ألبس ثوبا مثمنا، وأدع الفقير المسكين!
وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى دار الضيافة في كل سنة مائة ألف دينار، وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار، سوى صدقات السر، رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بقلعة إربل، وأوصى أن يحمل إلى مكة، فلم يتفق، فدفن بمشهد علي". انتهى النقل عن الحافظ ابن كثير.
فانظر إلى هذا الملك، الصالح، الخيِّر، المجاهد، الساعي في مصالح المسلمين، وكيف اتفق على صلاحه والثناء عليه جماعة المؤرخين، وهو من أهل السنة باتفاق، ومن توفيق الله أنه مات وهو مجاهد في سبيل الله، فرضي الله عنه جزاء تعظيمه لمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم!
وبهذا يتبين لك حجم التدليس في زعمهم أن أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف هم العبيديون الفاطميون الشيعة!
وقد حاول العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي مصر الأسبق؛ أن يجمع بين القولين في كتابه [أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام]، فقال: "نعم، قال السيوطي وغيره إن الأمير كوكبري هو أول من أحدثه، لكن ذلك مردود بما تقدم، ويمكن الجمع بين القولين بأن الأمير كوكبري هو أول من أقامه من أهل السنة، أو أول من أقامه بتلك الصفة التي ذكرها المؤرخون .. ومن ذلك تعلم أن مظفر الدين إنما أحدث المولد النبوي في مدينة إربل؛ فلا ينافي ما ذكرناه من أن أول من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون من قبل ذلك؛ فإن دولة الفاطميين انقرضت بموت العاضد بالله أبي محمد عبدالله بن الحافظ بن المستنصر، في يوم الاثنين، عاشر محرم سنة سبع وستين وخمسمائة، وما كانت الموالد تُعرَف في دولة الإسلام من قبل الفاطميين".
فقد أشار الشيخ المطيعي إلى عدة احتمالات يزول بها الإشكال في أول من أحدث الاحتفال، وهي أن الملك المظفر صاحب إربل هو أول من أحدثه من أهل السنة، أو على تلك الصفة العظيمة، أو في العراق.
وكذلك يقال: إن أول من أحدثه من أهل السنة مطلقا الشيخ الصالح عمر المَلَّا في الموصل، ثم نقله عنه الملك المظفر صاحب إربل في شمالي العراق، لكن على صفة عظيمة، واهتمام بالغ!
والحاصل: أن الأولية هنا ليست مطلقة، بل نسبية، وعلى كل حال؛ فهذه المسألة التشغيبية؛ لا قيمة لها، وليست ذات بال، مع قيام أدلة أخرى على مشروعية الاحتفال، وتواتر علماء الإسلام من أهل السنة عليه، في كل عصر ومصر، في مصر والشام والعراق وفلسطين والمغرب والأندلس، وغيرها من أقطار الإسلام وعواصمه الكبرى، ومعلوم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن الفعل إذا أقره العلماء، وأفتى به الفقهاء، وعملوا به؛ خرج من دائرة البدعة إلى دائرة السنة، ومن دائرة الحرمة إلى دائرة الحل، وبالله التوفيق.

الترك ليس دليلا ليكون دليلا على التحريم !

ناقشة هادئة في مسألة الاحتفال بالمولد النبوي الترك ليس دليلا ليكون دليلا على التحريم !

عمدة ما يستدل به المانعون ما أسموه دليل الترك، ومعناه أن الصحابة تركوا الاحتفال ولم يفعلوه؛ فلا يجوز لنا فعله، وهو كلام غير مسلَّم؛ لأن الترك ليس دليلا أصلا، فضلا عن أن يكون دليلا على التحريم، وحين عرَّف اهل الحديث السُّنَّة ذكروا أنها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته، ولم يذكروا الترك، بل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قسم شريعته إلى أمر ونهي، فقال: "ما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، ولم يقل: وما تركته!
وعلى هذا فما تركه النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة رضي الله عنهم؛ لا يفيد أنه حرام إذا فعلناه، ما لم يصحبه دليل يفيد التحريم؛ فالترك بمجرده لا يفيد حكما؛ سوى أن الأمر المتروك يجوز تركه، لكنه لا يدل على حرمة فعله، ما لم يصحبه دليل آخر!
وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم أشياء ولم تكن حراما، كتركه أكل الضب؛ لأنه لم يكن من عادة قومه، ومع هذا لم يحرمه، وكتركه صلاة التراويح خشية أن تفرض على المسلمين، ولم يحرمها، بل هي سنة، وكتركه إعادة بناء الكعبة على ما بناها عليه إبراهيم؛ لأن قومه كانوا حديثي عهد بجاهلية، وهكذا في متروكات كثيرة، تدل بمجموعها على أن مجرد الترك لا يفيد تحريم الفعل؛ لأنه لا بد للحرام من دليل غير مجرد الترك، والله تعالى يقول: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم)، فالمسكوت عنه ليس حراما، ولا واجبا، بل هو مباح، عفو من الله، فلنقبل من الله عافيته، ولا نتكلف البحث في المتروك والمسكوت عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء - رحمة بكم من غير نسيان -؛ فلا تبحثوا عنها".
وعليه فمسألة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف مما تركه الصحابة رضي الله عنهم؛ لعدم وجود الداعي إليه؛ لشدة تعلقهم بالجناب النبوي الشريف، ورؤيتهم إياه في كل حين، وهذا لا يدل على أنهم رأوا الاحتفال به حراما؛ لأن هذا الأمر لم يكن معهودا لديهم، حتى رأى المسلمون في عصور لاحقة - والعلماء متوافرون لا ينكرون - أن يجعلوا من يوم مولده صلى الله عليه وسلم احتفالا يظهرون فيه الفرح والسرور بيوم مولده الشريف، ويتقربون فيه إلى الله تعالى بأنواع الطاعات والقربات من تلاوة القرآن والحديث والسيرة ودروس العلم وقراءة المولد الشريف والمدائح النبوية والإكثار من الصلاة والسلام عليه وإطعام الطعام ومد الولائم توسعة على المسلمين، كما وسع الله عليهم ببعثة خاتم المرسلين، وتذكيرا لهم بهذه النعمة العظيمة، فاجتمع في هذا الاحتفال أنواع شتى من العبادات والقربات، كل واحدة منها مشروعة برأسها، فكيف إذا انضمت إلى غيرها؟!
ومما يدل على عناية علماء الإسلام بأمر المولد؛ أنه قلَّ عالمٌ من العلماء أو حافظٌ من الحفاظ إلا ألَّف مولدا للنبي صلى الله عليه عليه وسلم!
وقد فعل المسلمون أشياء لم تكن موجودة في زمن الصحابة، بل فعلها الصحابة أنفسهم، كجمع القرآن في المصحف، ولم يقل أحد إنهم ابتدعوا في دينهم، سواء سمي ذلك بدعة حسنة، أو مصلحة مرسلة!
فلو قلنا: إن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم من باب المصالح المرسلة - يعني المطلقة التي تتجدد بحسب حاجة الناس إليها - ولم يشهد لها الشرع باعتبار ولا بإلغاء؛ لم نبعد عن المقصود، والمصالح المرسلة دليل شرعي قال به المالكية والحنابلة، وقيده الحنفية والشافعية بشروط، منها اندراجه تحت أصل شرعي كلي، وهو هنا مندرج تحت أصول كثيرة لا أصل واحد، كما بينه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر مستدلا له بصيام يوم عاشوراء احتفالا بنجاة موسى وقومه من فرعون، وزاده بسطا وإيضاحا الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالته (حسن المقصد في عمل المولد)!
ونحن في عصر المادة التي عصفت بالقلوب والأرواح، وأحالت حياة الناس إلى ما يشبه حياة الآلة؛ نحتاج إلى مثل هذه المناسبات لإنعاش القلوب والأرواح، والتذكير بمجد الإسلام، وإعادة الأمل والثقة إلى قلوب المسلمين من جديد، فيكون عمل المولد مشروعا لتحقيق هذه المقاصد المشروعة، وكذلك الاحتفال بسائر ذكريات الإسلام المجيدة كالهجرة وليلة الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان!
وعلى فرض كون الاحتفال بالمولد بدعة؛ فهي بدعة حسنة، فنعمت البدعة هي!
ودونك أقوال بعض كبار الأئمة تشهد بأنه ليس كل ما أُحدث يكون بدعة مذمومة!
قال ناصر السنة، ومجدد القرن الثاني، الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه - كما رواه عنه البيهقي في مناقبه -:
"المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أُحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا؛ فهذه البدعة الضلالة.
والثاني: ما أحدث من الخير، لا خلاف فيه لواحد من هذا؛ فهذه محدثة غير مذمومة".
ورواه الحافظ أبو نعيم عنه في (الحلية) بلفظ:
"البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان (نعمت البدعة هي)".
وقال حجة الإسلام، ومجدد القرن الخامس، الإمام أبو حامد الغزالي في (الإحياء) تأسيسا على كلام الإمام الشافعي:
"وما يقال: إنه أُبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليس كل ما أبدع منهيا، بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع، مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب!".
وقال مجدد القرن السابع، الإمام العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام):
"البدعة منقسمة إلى واجبة، ومحرّمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة".
ثم قال:
"والطريق في ذلك أن تُعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة".
وقال الإمام النووى فى (شرحه على صحيح مسلم):
"قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) هذا عامٌّ مخصوص، والمراد غالب البدع.
قال أهل اللُّغة: هي كلّ شيء عمل عَلَى غير مثال سابق.
قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرَّمة، ومكروهة، ومباحة.
فمن الواجبة نظم أدلَّة المتكلّمين للرَّدّ عَلَى الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك.
ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والرُّبُط وغير ذلك.
ومن المباح التّبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك.
والحرام والمكروه ظاهران..
فإذا عرف ما ذكرته علم أنَّ الحديث من العامّ المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيّد ما قلناه قول عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في التّـَراويح (نعمت البدعة)، ولا يمنع من كون الحديث عامًّا مخصوصًا قوله (كُلُّ بِدْعَةٍ) مؤكّدًا بـ كلّ، بل يدخله التَّخصيص مع ذلك كقوله تعالى (تُدَمّرُ كُلَّ شَىءٍ) [الأحقاف ءاية 25]".
وقال أيضا في (شرحه على صحيح مسلم):
"قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا…) إلى ءاخره، فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات..
وفي هذا الحديث تخصيص قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة".
وقال أمير المؤمنين في الحديث، الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في (الفتح):
"قوله: قال عمر: (نعم البدعة) في بعض الروايات (نعمت البدعة) بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة، فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة".
وقال أيضا في (الفتح):
"وكل ما لم يكن في زمنه [صلى الله عليه وسلم] يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون بخلاف ذلك".
وقال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في (عمدة القاري):
"والبدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم البدعة على نوعين: إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع؛ فهي بدعة حسنة، وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع؛ فهي بدعة مستقبحة".
وقال الإمام القرطبي المالكي في تفسيره المسمى: (الجامع لأحكام القرآن):
"كل بدعة صدرت من مخلوق؛ فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أو لا، فإن كان لها أصل؛ كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض رسوله عليه، فهي في حيز المدح! وإن لم يكن مثاله موجودا، كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه!".
هذه شذرات يسيرة مما عليه جمهور علماء الأمة من تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، ومحمودة ومذمومة، خلافا لابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن تابعهما، ولسنا ننكر اجتهادهم، ولكننا ننكر اعتبار اجتهادهم هو الحق المطلق الذي لا شك فيه، واجتهاد جماهير علماء الأمة هو الباطل المطلق الذي لا شك فيه!
فهل بعد هذا كله يشك عاقل في مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، واعتباره من البدع المحمودة على أقل تقدير، إن لم يكن من السنن المشروعة، بل من المقاصد الشرعية الواجبة في هذا الزمان الذي اغترب فيه الإسلام!
بقلم: أد/ محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف
مسألة التَرْك (مهمة جداً) :
يستدل كثير من سلفية اليوم على عدم جواز أمور كثيرة يقوم بها المسلمون بحجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها هو وأصحابه رضي الله عنهم،
فهل ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأمر يدل على عدم جواز فعله؟
إن موضوع هذا السؤال ألَّفَ فيه الشيخ العلامة السيد عبد الله بن الصديق الغماري رسالة سماها: «حسن التفهم والدرك لمسألة الترك»، وقد افتتحها بأبيات جميلة حيث قال:
الترك ليس بحجة في شرعنا .:. لا يقتضي منعا ولا إيجابا
فمن ابتغى حظرًا بتـرك نبينا .:. ورآه حكمًا صادقًا وصوابا
قد ضل عن نهج الأدلـة كلها .:. بل أخطأ الحكم الصحيح وخاب
لا حظر يمكن إلا إن نهي أتى .:. متوعــدا لمخالفيه عذابا
أو ذم فعل مؤذن بعقـوبة .:. أو لفظ تحـريم يواكــب عابا
ولقد اتفق علماء المسلمين سلفًا وخلفًا شرقًا وغربًا على أن الترك ليس مسلكًا للاستدلال بمفرده، فكان مسلكهم لإثبات حكم شرعي بالوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو الحرمة هو:
1- ورود نص من القرآن.
2- ورود نص من السنة.
3- الإجماع على الحكم.
4- القياس.
واختلفوا في مسالك أخرى لإثبات الحكم الشرعي منها:
1- قول الصحابي.
2- سد الذريعة.
3- عمل أهل المدينة.
4- الحديث المرسل.
5- الاستحسان.
6- الحديث الضعيف، وغير ذلك من المسالك التي اعتبرها العلماء، والتي ليس بينها الترك.
فالترك لا يفيد حكمًا شرعيًّا بمفرده، وهذا محل اتفاق بين المسلمين، وهناك من الشواهد والآثار على أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من تركه صلى الله عليه وسلم التحريم ولا حتى الكراهة، وذلك ما فهمه الفقهاء عبر العصور.
وقد رد ابن حزم في المُحلي على احتجاج المالكية والحنفية على كراهة صلاة الركعتين قبل المغرب بسبب ما ذَكَرُوا عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يصلونها، حيث قال ما نصه:
«وهذا لا شيء أول ذلك أنه منقطع لأن إبراهيم لم يدرك أحدًا ممن ذكرناه ولا ولد إلا بعد قتل عثمان بسنين، ثم لو صح لما كانت فيه حجة لأنه ليس فيه أنهم رضي الله عنهم نهوا عنهما ولا أنهم كرهوهما، ونحن لا نخالفهم في أن ترك جميع التطوع مباح» .
فلم يتوقف كثيرًا ابن حزم أمام ترك الصحابة لصلاة الركعتين ، وقال : إن تركهم تلك الصلاة لا شيء طالما أنهم لم يصرحوا بكراهتها ولم ينقلوا ذلك.
وهذا مسلكه مع ترك الصحابة لعبادة، وكان ذلك عين موقفه من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبادة أصلها مشروع فما صام عليه الصلاة والسلام قط شهرًا كاملًا غير رمضان، وليس هذا بموجب كراهية صوم شهر كامل تطوعًا ،
فلقد فهم من ترك النبي صلى الله عليه وسلم صيام شهر كامل غير رمضان، ما لا يدل على حرمة ولا كراهة صيام شهر كامل غير رمضان، حتى وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله.