سأل فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي
عن أفضل العبادات فأجاب مشكورا :
اختلف العلماء في ذلك اختلافا بعيدا، وتعددت أقوالهم وتباينت.
والقول المرجح عندي ما ذكره الإمام ابن القيم، وهو أن ذلك يختلف من شخص إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن حال إلى آخر.
يقول الإمام ابن القيم في "المدارج":
"ثم أهل مقام "إياك نعبد" لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق. فهم في ذلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها.
قالوا: لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وهو حقيقة التعبد.
قالوا: والأجر على قدر المشقة. ورووا حديثا لا أصل له: "أفضل الأعمال أحمزها" أي أصعبها وأشقها.
وهؤلاء: هم أهل المجاهدات والجور على النفوس.
قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك. إذ طبعها الكسل والمهانة، والإخلاد إلى الأرض. فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.
الصنف الثاني، قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، واطراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها. ثم هؤلاء قسمان: فعوامهم: ظنوا أن هذا غاية، فشمروا إليه وعملوا عليه، ودعوا الناس إليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها.
وخواصهم: رأوا هذا مقصودا لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على الله، وجمع الهمة عليه، وتفريغ القلب لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته. فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله، ودوام ذكره بالقلب واللسان، والاشتغال بمراقبته، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له.
ثم هؤلاء قسمان: فالعارفون المتبعون منهم: إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم. والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من العبادة جمعية القلب على الله. فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه.
وربما يقول قائلهم:
يطالب بالأوراد من كان غافلا فكيف بقلب كل أوقاته ورد؟
ثم هؤلاء أيضا قسمان: منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته. ومنهم من يقوم بها ويترك السنن والنوافل، وتعلم العلم النافع لجمعيته.
وسأل بعض هؤلاء شيخا عارفا، فقال: إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله، فإن قمت وخرجت تفرقت، وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي، فما الأفضل في حقي؟ فقال: إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم، وأجب داعي الله، ثم عد إلى موضعك. وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب، وإجابة الداعي حق الرب. ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل "إياك نعبد".
الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها: ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر. فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل. فتصدوا له وعملوا عليه، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم حيلة" رواه أبو يعلى.
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النفاع متعد إلى الغير. وأين أحدهما من الآخر؟
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"، وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء"، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، والنملة في جحرها".
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم. لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب. ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد، وترك مخالطة الناس. ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله، ونفع عباده، والإحسان إليهم، أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك.
الصنف الرابع، قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار. بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب. وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع. وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد. فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم. فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير. فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال. والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق. والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد. فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته. فهو يعبد الله على وجه واحد.
وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت. فمدار تعبده عليها. فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى. فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره.
فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات.
بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه. فهذا هو المتحقق (إياك نعبد وإياك نستعين) حقا، القائم بهما صدقا، ملبسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حر مجرد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كل محق، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع.
وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس. بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها. فواها له! ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه!! والله المستعان، وعليه التكلان".
ـــــ
* من كتاب " في فقه الأولويات.. دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة الشيخ القرضاوي .