الثلاثاء، 17 أبريل 2018

الانتخابات في العراق في ضوء السياسة الشرعية ؟


في السطور التالية ..
اورد لكم مقالا تأصيليا حول موضوع الانتخابات كتبه الدكتور طه الزيدي عضو المجمع الفقهي العراقي مشكورا 
--------------------------------------------
الانتخابات في العراق في ضوء السياسة الشرعية 
الحمد لله الذي له الأمر والحكم، والصلاة والسلام على رسول الله المقدم في أولي العزم، والمبعوث رحمة للأمم، وعلى آله وصحبه أولي السبق والحزم، أما بعد:
فإنّ التغيير السياسي الايجابي نحو الأقرب إلى الصلاح والأبعد عن الفساد مطلب شرعي، ومقصد معتبر لحفظ الضروريات العامة والخاصة، وقد شرع الإسلام وسائل عدة للتداول السلمي للسلطة، ووظف الفقه الإسلامي إجراءات سياسية عملية متجددة ومتطورة لا تخالف أصول الشريعة أو مقاصدها الكلية؛ لتحقيق التغيير وتصحيح المسار السياسي، والاعتداد بهذه الوسيلة أو تلك الأداة أو ذلك الإجراء، يتأثر بحالة المسلمين تمكينا واستضعافا، ونوع الحكم وطبيعة القوى الدولية، ولعل من أهم الوسائل النافعة والإجراءات المحققة للتغيير ما يكون منطلقها من الداخل على مستوى النفس أو المجتمع، يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (سورة الرعد: 11).
ومع تنوع وسائل التغيير السياسي وأساليب تداول السلطة وتأثرها بتطور الأنظمة وحركة المجتمعات إلا أن الشريعة الإسلامية أكدت على الالتزام بالمبادئ العامة التي قررتها لبناء منظومة السياسة الشرعية، ولم تغفل أبدا عن وجوب مراعاة ثلاثة أمور عظيمة، تتعلق بعناصر التغيير السياسي الايجابي والتداول السلمي، وهي:
1- أهلية من يتصدر للتغيير: بأن يكون جامعا لمعاني الشخصية القيادية المتمثلة بقوة الشخصية والأمانة والعدالة والخبرة العلمية والعملية، والتمكن فلا يخضع لضغوط تؤثر على ثباته على مواقفه وتصرفاته المشروعة والمنضبطة، قال الله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) (سورة يوسف)، وقوله تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (سورة القصص: 26)، وقوله تعالى: (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (سورة البقرة: 247)، فتحقق الأهلية فيمن يتصدر يغني عن طبيعة آلية الاختيار.
2- مشروعية المقصد من التغيير أو ايجابيته: ويتجلى في تحقيق مصالح العباد بجلب المنافع أو تكميلها، ودفع المفاسد أو تقليلها، وان تكون حقيقية غير متوهمة، عامة غير خاصة، كلية وليست جزئية ضيقة، أو حزبية قاصرة، قال الله تعالى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (سورة هود: 88).
3- انضباط وسيلة التغيير وأداة تصحيح المسار السياسي: فلا يكون شرّها في غالب الظن أكبر، وفساد استخدامها اشدّ، ومآلها إلى حال أسوء، وأن تكون متاحة، لا يتعسر استعمالها ولا يصعب تطبيقها؛ لأنه إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.
وبناء على قاعدة "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، فإن توصيف الحال السياسي للعراق: أنه بلد مستضعف تكالبت عليه قوى الشر وأجندات التطرف فقوضت سيادته، ينخر فيه الفساد، وأنهكه تفرق أبنائه وتشرذم مكوناته، وأوهنه تقويض هويته ونهب ثرواته، وأثخن جراحاته أنّ أكثر من تولى زمام أمره وتصدر مشهده السياسي الإمعة النفعيون الذين يستمدون من سياسة الإقصاء أو الخضوع قوة نفوذهم أو ديمومة بقائهم بعيدا عن سيادة العراق واستقراره أو الحرص على مصالح العراقيين.
وقد برزت خلال الحقبة السابقة مشاريع إصلاح ووسائل تغيير متنوعة الأساليب، ولكنها نجحت مرحليا وفشلت بالوصول إلى مرحلة الاستقرار والبناء والتعايش السلمي والمشروع الجامع المتكامل.
كما أنّ عملية الانتخاب لأجل اختيار الأنسب معهودة في الشرع لتحقيق التداول السلمي للسلطة، وتنظيم إدارة الحكم في البلاد، واحترام إرادة الشعب في التغيير عبر عملية سياسية قائمة عليها، وهي وإن لم تستكمل أدوات استقلالها وإتقانها التام، تمثل إحدى أدوات التغيير المعاصرة، ووسائله السلمية المتاحة، وخيارا واقعيا ممكنا ومتدرجا في تحقيق المصالح العليا لأبناء الشعب العراقي كافة وممهدا للحكم الرشيد.
وتأصيلا من النصوص المقيدة للتكليف بالاستطاعة كقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (سورة التغابن: 16)، والداعية لما فيه خير كقوله عليه الصلاة والسلام في يوم الحديبية: (وَاللَّهِ لَا يَدْعُونِي الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرْمَةً، وَلَا يَدْعُونِي فِيهَا إِلَى صِلَةٍ إِلَّا أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا» أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه وأصله في الصحيحين، وتحقيقا لمقاصد الشريعة في حفظ الضروريات، ومراعاة للواقع وعدم التعالي عليه وإسقاطه عند الاستنباط، واعتبارا للمآلات والأخذ بالنتائج المتوقعة، وتفريعا عن القواعد الفقهية المعتبرة: "الضرر يزال، والضرر الأشد يزال بارتكاب الضرر الأخف، وأن الميسور لا يسقط بالمعسور، وأن ما لا يدرك كله لا يترك جله"، وإعمالا لأصول السياسة الشرعية، نقرر الآتي: 
أولاً: إنّ عملية الانتخابات في العراق في ظل الظروف الراهنة، وسيلة معتبرة ومتاحة وممكنة لتحقيق المصالح العامة وتصحيح المسار السياسي ولو تدريجيا، والمشاركة فيها تكون من باب الأخذ بالرخصة لأجل دفع ضرر أو جلب منفعة، مع مراعاة ضوابط اعتبارها. 
ثانياً: إنّ التصويت مثلما أنّه حقّ شرعي ودستوري يندرج ضمن الحقوق السياسية للمواطن، إلا أن على صاحبه واجبات تتجلى في استشعار المسؤولية الشرعية والوطنية عند ممارسة هذا الحق لأنه يمثل شهادة لمن يصوت له.
ثالثاً: من الواجبات المتعلقة بحق التصويت أن يمنح صوته لمن له أهلية سياسية وشخصية قيادية تجمع القوة والأمانة والعدالة والاستقامة، والعلم والخبرة والتخطيط الواعي، وامتلاك إرادة الإصلاح والعزم على التغيير نحو الأفضل.
رابعاً: لا ينبغي التصويت لمن ثبت فساده وضعفه وخضوعه لأجندات فئوية ضيقة، أو خارجية أسهمت في تدمير البلد ونهب ثرواته، أو ثبت طغيانه واستبداده مما أدى إلى تقويض سيادته وتمزيق النسيج الاجتماعي وتهديد السلم الأهلي.
خامساً: ليس كل جديد يتمتع بأهلية سياسية قادرة على التغيير الايجابي، ولذا ينبغي عدم الانسياق وراء توصيفات لا تثبت أمام المعايير الحقيقية لهذه الأهلية، ولا بدّ من التحري عمن يغلب على الظن قدرته السياسية على التغيير الايجابي.
سادساً: إنّ اعتماد نظام القوائم الانتخابية يؤدي إلى اختلاط الصالح بالطالح، والحكم فيها للأغلب، فكل قائمة يغلب فيها المفسدون وغير المؤهلين لتحقيق التغيير الايجابي لا ينبغي التصويت لها؛ لما يغلب على الظن ذهاب الأصوات إلى المفسد فيها، الذي استغل نفوذه أو المال السياسي ليضمن الفوز والتصدر في القائمة. 
سابعاً: لا يجوز بيع بطاقات الناخب؛ لأنه تهاون في الشهادة وإضاعة للأمانة وتفريط بالمسؤولية، ويفتح بابا للرشوة والغش والتزوير، وهو إعانة على الإثم وزيادة في الفساد وتقوية للمفسدين، وتمكينا للمشاريع الهدامة، فكل ناخب ثبت بيعه لبطاقته من اجل منفعة مادية بغض النظر عن مدى أهلية من اشتراها ينبغي على الجهات المعنية إسقاط حقه في التصويت، وكل مرشح ثبت بيقين قيامه بشراء بطاقات الناخبين ينبغي إسقاط حقه في الترشيح أو التشهير به؛ لأنه عنصر فساد يقوض مقصد التغيير الايجابي المرجو من عملية الانتخابات، ومن بان فساده تيقن افساده. 
ثامناً: ضرورة الأخذ بكل الإجراءات الاحترازية المهنية المعتمدة دوليا التي تضمن نزاهة عملية الانتخابات في مراحلها كافة أو على الأقل تقلل التلاعب بنتائجها، وعلى الجهات المعنية مراعاة ذلك. 
تاسعاً: إنّ للإعلام دوره المؤثر في تشكيل رأي عام واع يسعى إلى تحقيق التغيير السياسي الايجابي، وفي تصحيح المسار الانتخابي، ولكن الخداع الإعلامي، والابتزاز الذي تمارسه أكثر وسائل الاتصال من أجل شيطنة الخصوم وتزيين صورة المفسد، هو سلوك محظور شرعا وقانونا، ويتنافى مع شرف المهنة، بل هو عامل إفساد وهدم أو بيئة مغذية له. 
عاشراً: إنّ الأولوية المستقبلية في التمتع بحق المساءلة والنقد السياسي لمن يسعون جادين إلى المشاركة أو المساهمة في التغيير السياسي الايجابي وهي مسؤولية تبعية، ويغلب على من سواهم التهوين أو التهويل فيكون ابعد عن الإنصاف، وأرغب بالحلول المستوردة، وأقرب إلى الاتكالية أو الشخصانية الانعزالية أو المثالية الخيالية.
اللهم هذا مبلغنا من العلم، و(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (سورة البقرة:286).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، 
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.