الثلاثاء، 11 يونيو 2019

أقوال العلماء في جلسة الاستراحة في الصلاة - وهل كان رسول الله ﷺ يفعلها في صلاته دوما ؟! وهل تشرع وراء إمام لا يفعلها ؟!


بسم الله الرحمن الرحيم
         الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
صورة ذات صلة

         أما بعد
         فهذه رسالة متواضعة من سلسلة ( كلاكما محسن ) لم أرد بها تكريس وترسيخ الخلاف والإختلاف ، بل أردت بها محاولة لإنهاء التفرق والتشدد والتعصب في الأمور الإجتهادية الإختلافية التي أراد الشارع التوسع فيها والتنوع ، ليسع الجميع وتظللهم رحمة الله تعالى الوارفة كلٌ حسب إستطاعته وطاقته ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )([1]) ليصبح الجميع إخوة متحابين ، يعبدون الله تعالى بما شرع ، وعلى ضوء إجتهادات العلماء والأئمة الذين أجاز لهم الشارع أن يجتهدوا في فهم النصوص وتطبيقها ، وأمر الناس بسؤالهم واتباعهم بقوله تعالــى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُوُن ) ([2]) وقوله تعالى : (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ([3])
          فبينت فيها – ما وسعني ذلك – أن كلا الرأيين محترم  ومشروع وله دليله المعتبر ، فليأخذ كلٌ ما يرتاح له من إجتهادات الأئمة ولا ينكر على من يخالفه ما دام كلا الرأيين مؤسس ومبني على أدلته المحترمة المشروعة .
         فهي جمع وترتيب للنصوص والأدلة والأقوال ، وكذلك بعض الإضافات والتعليقات منا ، ومناقشة بعض الأقوال .
         وقد عزوت كل قول إلى قائله ، وأشرت إلى المصادر ، ونقلت بعض الأقوال من غير أن أشير إلى ذلك أو أذكر صاحبها ، حيث رأيت ذلك أفضل ، وذلك لأن بعض الناس ينظر إلى مَن قال لا إلى ما قيل !
         فما كان فيها من حق وصواب فمن فضل الله تعالى ، وما كان غير ذلك فمني ومن الشيطان .
         نسأل الله تعالى أن يغفر لنا خطايانا ، ويتوب علينا إنه هو التواب الرحيم .



        الفقير إلى عفو ربه
                                              عبد الكريم علي


أدلة من يذهب إلى ( جلسة الإستراحة )

         1/ قال الإمام البخاري في صحيحه تحت عنوان ( باب من استوى قاعدا في وتر من صلاته ثم نهض ) :
] حدثنا محمد بن الصباح ... عن أبي قلابة قال أخبرنا مالك بن الحويرث أنه رأى النبيّ r يصلي ، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا [ ([4])   

         2/ وقال الإمام البخاري في صحيحه أيضا ، تحت عنوان ( باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة ) :
] حدثنا مُعلّى بن أسد ... عن أبي قلابة قال جاءنا مالك بن الحويرث فصلى بنا في مسجدنا هذا فقال : إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة ، ولكن أريد أن أريكم كيف رأيت النبيّ r يصلي . قال أيوب : فقلت لأبي قلابة فكيف كانت صلاته ؟ قال مثل صلاة شيخنا هذا – يعني عمرو بن سلمة – قال أيوب : وكان ذلك الشيخ يتم التكبير ، وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام [ ([5])

         3/ قال الشيخ الألباني :
] ثم يستوي قاعدا ( على رجله اليسرى معتدلا حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ) البخاري وأبو داود . وهذا الجلوس يُعرف عند الفقهاء بجلسة الإستراحة . وقد قال به الشافعي وعن أحمد نحوه كما في ( التحقيق ) ( 111/1 ) وهو الأحرى به لما عُرف به من الحرص على إتباع السنة التي لا معارض لها .
وقد قال إبن هانيء في ( مسائله ) عن الإمام أحمد ( مخطوطة المكتب الإسلامي ص 42 ) : ( رأيت أبا عبد الله ( يعني الإمام أحمد ) ربما يتوكأ على يديه إذا قام في الركعة الأخيرة وربما استوى جالسا ثم ينهض ) وهو إختيار الإمام إسحاق بن راهويه فقد قال في ( مسائل المروزي ) ( 1 / 147 / 2 ) : ( مضت السنة من النبيّ r أن يعتمد على يديه ، ويقوم ، شيخا كان أم شابا ) وانظر ( الإرواء ) ( 2 / 82 – 83 ) [ ([6]) 

         4 / قال الإمام النووي :
] واعلم أنه ينبغي أن يواضب على هذه الجلسة لصحة الأحاديث فيها وعدم المعارض الصحيح لها ، ولا تغتر بكثرة المتساهلين بتركها فقد قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  ) وقال تعالى : (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ    ) [ ([7])

         5 / قال الحافظ إبن حجر العسقلاني في شرحه للحديث رقم ( 1 ) :
] وفيه مشروعية جلسة الإستراحة ، وأخذ بها الشافعي وطائفة من أهل الحديث . وعن أحمد روايتان ، وذكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بها ... [ ([8])

         6 / وقال الإمام الصنعاني :
 ] وأخرج أبو داود من حديث أبي حميد في صفة صلاته r ، وفيه ( ثم أهوى ساجدا ثم ثنى رجليه وقعد حتى رجع كل عضو إلى موضعه ثم نهض ) وقد ذكرت هذه القعدة في بعض ألفاظه رواية حديث المسيء صلاته .
         وفي الحديث دليل على شرعية هذه القعدة بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى والثالثة ثم ينهض لأداء الركعة الثانية أو الرابعة وتسمى جلسة الإستراحة [ ([9])

         7 / أما حديث المسيء صلاته الذي أشار إليه الصنعاني فهو الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة t : ] أن رجلا دخل المسجد ورسول الله r جالس في ناحية المسجد ، فصلى ثم جاء فسلم عليه ، فقال له رسول الله r ، وعليك السلام ، إرجع فصلِّ ، فإنك لم تصلِّ . فرجع فصلى ثم جاء فسلم ، فقال : وعليك السلام ، فارجع فصلِّ ، فإنك لم تصلِّ ، فقال في الثانية أو في التي بعدها علمني يا رسول الله . فقال : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبّر ، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها [ ([10])



إستفسار !

         إن الأدلة والأقوال التي ذكرناها لتدل – في نظر أصحابها – على أن جلسة الإستراحة هي سنة من  سنن الصلاة
         ولكن الغريب في هذه المسألة أن يذهب كبار الصحابة وأئمة الفقه والعلم منهم إلى عدم إستحبابها ، حيث لم يفعلوها بل تركوها ولم يلتفتوا إليها !
         منهم : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير . . . وغيرهم y ! !
         وكذلك ذهب كـبار أئمة الفقه بعدهم إلى عدم سنيتها ! منهم : مالك بن أنس ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي حنيفة وأصحابه . . . وغيرهم رحمهم الله ! !

         قال الحافظ إبن حجر العسقلاني :
] ولإبن أبي شيبة عن إبن مسعود أنه كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه ولم يجلس ، ونحوه عن علي وعمر وابن عمر وابن الزبير . ومن طريق الشعبي : كان عمر وعلي وأصحاب رسول الله r ينهضون في الصلاة على صدور أقدامهم ، وعن النعمان بن أبي عياش : أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله r فكان أحدهم إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة نهض كما هو ولم يجلس [ ([11])
         وقال الإمام إبن قدامة المقدسي :
] واختلفت الرواية عن أحمد ، هل يجلس للإستراحة ؟ فروي عنه : لا يجلس . وهو إختيار الخرقي . وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس ، وبه يقول مالك والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي . وقال أحمد : أكثر الأحاديث على هذا ، وذكر عن عمر وعلي وعبد الله . وقال النعمان بن أبي عياش : أدركت غير واحد من أصحاب النبيّ r يفعل ذلك أي لا يجلس . قال الترمذي : وعليه العمل عند أهل العلم . وقال أبو الزناد : ( تلك السنة ) [ ([12])

         وقال الإمام البدر العيني :
] وفي التمهيد : إختلف الفقهاء في النهوض عن السجود إلى القيام ، فقال مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه : ينهض على صدور قدميه ولا يجلس . وروي ذلك عن إبن مسعود وابن عمر وابن عباس . وقال النعمان بن أبي عياش : أدركت غير واحد من أصحاب النبيّr يفعل ذلك ( يقصد أنه لا يجلس ) . وقال أبو الزناد : ذلك السنة ، وبه قال أحمد وابن راهويه ، وقال أحمد : أكثر الأحاديث على هذا ، قال الأثرم : رأيت أحمد ينهض بعد السجود على صدور قدميه ولا يجلس قبل أن ينهض . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال ( كان رسول الله r ينهض في الصلاة على رؤوس قدميه ) ثم قال : والعمل عليه عند أهل العلم
         وأخرج إبن أبي شيبة في مصنفه عن عبد الله بن مسعود أنه كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه ولم يجلس ، وأخرج نحوه عن علي وابن عمر وابن الزبير وابن عباس نحو ذلك ، وأخرج أيضا عن عمر t [ ([13])

         وقال الحافظ إبن حجر أيضا :
] ولم يستحبها الأكثر [ ([14])

         وقال الشيخ الألباني :
] ( فائدة ) روى إبن أبي شيبة في ( المصنف ) ( 1 / 157 ) عن جماعة من السلف منهم إبن مسعود وعلي وابن عمر وغيرهم بأسانيد صحيحة أنهم كانوا ينهضون في الصلاة على صدور أقدامهم [ ([15])

         والإستفسار هنا هو : إذا كان الأمر كذلك ، فكيف نوفق بين أمرين متناقضين كهذا الذي نقف عليه ؟

         الأمر الأول : مخالفة كبار الصحابة وأئمتهم لسنة واضحة من سنن الصلاة التي فعلها رسول الله  ، وحرص عليها وأمر بها ؟
         وكذلك متابعة كبار الأئمة من بعدهم على تركها والتساهل فيها ؟
        
         الأمر الثاني : وصف قرنهم بخير القرون ، والفخر والإعتزاز بالإنتساب إليهم ، والدعوة إلى طريقهم ، وإلى فهم الكتاب والسنة على منهجهم وطريقتهم ؟

         علما بأن الذين تركوا هذه الهيئة هم كبار الصحابة وأئمة الفقه والفتوى ، الذين تربوا على يدي رسول الله r .
         وكذلك الأئمة الذين تابعوهم ، هم من السلف الذين ندعو الناس إلى إتباعهم والإقتداء بهم !

         فما المخرج من هذا التناقض ؟
         والجواب هو : أنه ليس هناك أي تناقض ، بل إن كان هناك شيء فهو : خطأ في الفهم والإستنباط ليس إلا !

         فالأمر الأول – والذي هو مخالفة كبار أصحاب النبيّ r والأئمة من السلف من بعدهم لسنة رسول الله r وإهمالها والتساهل فيها – لا وجود لها في الحقيقة والواقع .
         والذين يُستنبط ويُفهم من أقوالهم ذلك ، هم المخطئون ، لا شك في ذلك ، ولهم – إن شاء الله – أجر واحد في إجتهادهم   هذا !
         فالصحابة – لاسيما كبار علمائهم وأئمتهم – وكذلك الأئمة من بعدهم ، لا يخالفون ولا يهملون سنة رسول الله  ، ولا يتساهلون فيها ، وكيف يحدث ذلك وهم خيار الرجال الذين إختارهم الله سبحانه لصحبة نبيّه r .
         فهُم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة لمن بعدهم ، والمسلمون يفتخرون بالإنتساب إليهم ، ويرونهم قمة في الإيمان والتقوى والعمل الصالح ، وخير أتباع لكتاب الله وسنة رسوله r ورضي الله عنهم وأرضاهم .
         قال الشيخ الألباني :
] فيجب على الدعاة السلفيين بخاصة أن يبينوا لهؤلاء أن الدعوة السلفية تتميز على سائر الدعوات بأنها تفهم الكتاب والسنة ، على ما كان عليه سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم ، كما جاء في الحديث المتوارث عن النبيّ r القائل :  ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )
         فنحن نضم إلى الكتاب والسنة منهج السلف الصالح ، وهذه الضميمة ليست محدثا كما قد يتوهم كثير من الناس وإنما هو المنصوص عليه بالكتاب والسنة ، أما الكتاب فقوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )
         وأما السنة فهناك حديثان مشهوران ، أحدهما حديث الفرقة الناجية وهو معروف ولا حاجة لسوقه بلفظه وإنما نسوق منه ما هو موضع الشاهد ، وهو قوله عليه السلام حينما سئل عن الفرقة الناجية فأجاب r : هي التي ما أنا عليه وأصحابي .
         والحديث الآخر حديث حديث الخلفاء الراشدين وقوله عليه السلام في حديث العرباض بن سارية . . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي . إلى آخره . ففي هذا الحديث بيان سبيل المؤمنين الذي ذكر في الآية السابقة ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ) .
         فإذاً الدعاة يجب أن يدندنوا حول هذه الضميمة المميزة لدعوة الحق والمظهرة للفرقة الناجية على الفرق الأخرى وهي أنهم يكونون على ما كان عليه السلف الصالح [ !([16])
         فكيف حدث هنا أن ترك إثنان من الخلفاء الراشدين – عمر وعلي – والبقية من السلف الصالح ، هيئة تعتبر من سنة رسول الله r وهي جلسة الإستراحة ، ونحن مأمورون باتباعهم وأن نكون على ما كانوا عليه ؟ !

         فهنا إتهام صريح لهم بأحد أمرين ، حيث لابد من  أحدهما :
1-   إما أن نتهم دينهم وتقواهم ، فنحكم عليهم – ضمنا – بقلة الدين والتقوى ، والتساهل في تنفيذ أوامر رسول الله r وسنته وعدم تطبيقها !
2-   أو أن نتهم علمهم وفقههم ، ونحكم عليهم – ضمنا – بالجهل وعدم معرفة لسنن رسول الله r ، وهم في ذلك دون غيرهم ممن لم يصحب رسول الله r كصحبتهم ، أو ممن عاش بعدهم بعدة قرون !

وهذا ما يجعلنا نفقد الثقة بهم ، ونتراجع عن إتخاذهم قدوة وأسوة لنا ، ومن ثم دعوة الناس إلى إتباعهم واتخاذ مسلكهم نهجا في الحياة ! !
وكلا الأمرين باطل لا شك في ذلك !

يقول الشيخ الألباني في معرض تضعيفه لحديث النهي عن السفر يوم الجمعة ، بعد نقله الأثر المروي عن عمر بن الخطاب t في سنن البيقي :
] فهذا الأثر مما يضعف هذا الحديث وكذا المذكور قبله إذ الأصل أنه لا يخفى على أمير المؤمنين عمر لو كان صحيحا [ ! ! ([17])
         وقال أيضا في معرض طعنه في أحاديث السبحة : 
] الثاني : إن ذكر الحصى في القصة منكر . ويؤيد هذا إنكار عبد الله بن مسعود t على الذين رآهم يعدون الحصى ، وقد جاء ذلك عنه من طرق سبق أحدها ولو كان ذلك مما أقره r لما خفي على إبن مسعود إن شاء الله ، وقد تلقى هذا الإنكار منه بعض من تخرج من مدرسته ألا وهو إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه الكوفي . . . [ ([18]) .

         فهنا نرى الشيخ الألباني عن كبار الصحابة – وهو محق في ذلك – ومنهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ، ويمدح علمهم ، ويجعلهم سندا لتقوية موقفه في رد الأحاديث المتعارضة أو قبولها . فيقول لو كان هذا الأمر ثابتا عن رسول الله r لما خفي على هؤلاء الصحابة الكبار .
         بل إنه قد جعل عمل كبار الصحابة من المرجحات بين الأمور المتعارضة ، فإذا كان هناك أمرين متعارضين ، وعمل بأحدهما كبار الصحابة فهو يأخذ به ويجعله أقوى وأرجح من معارضه !
         قال في السلسلة الصحيحة ( 1 / 407 ) :
] وثمة أسباب أخرى تؤكد الترجيح المذكور :
أولا : . . .
ثانيا : عمل كبار الصحابة به كأبي بكر وابن مسعود وزيد بن ثابت كما تقدم وغيرهم . فذلك من المرجحات المعروفة في علم الأصول [  !

وقال الشيخ أيضا في الصحيحة ( 1 / 406 ) عن موضوع الركوع دون الصف :
] . . . ثم كيف يعقل أن يكون ذلك منهيا وقد فعله كبار الصحابة ، كما تقدم في الحديث الذي قبله ؟ !
         فلذلك فإننا نقطع أن هذا الأمر الأول لا يدخل في قوله r : ( لا تعد ) [  !

         والإستفسار هنا أيضا هو : إذا كان عمل كبار الصحابة من المرجحات ، وأنه لا يخفى عليهم سنة رسول الله r فكيف خالف هنا خليفتين راشدين وعبد الله بن مسعود والبحر عبد الله بن عباس والفقيه عبد الله بن عمر وغيرهم لحديث يدل على سنية جلسة الإستراحة ، وأن رسول الله r قد فعلها لإنها سنة من سنن الصلاة ؟

         فهنا إذاً إحتمالين لا ثالث لهما بعد أن عرفنا عدالة الصحابة وعلمهم وفقههم :
1-   إما أن الحديث غير صحيح .
وهذا الإحتمال بعيد جدا لأن الحديث رواه البخاري في صحيحه وغيره في سننهم بأسانيد صحيحة ، والذين لم يذهبوا إليه لم يطعنوا فيه ولم يضعفوه .

2-   أو أن دلالته ، وما استنبط منه خطأ غير صحيح ، وأن جلسة الإستراحة المذكورة فيها لم يفعلها رسول الله r لأنها سنة من سنن الصلاة ، بل فعلها لعلة وأسباب خاصة به r .

وهذا الإحتمال الثاني هو تفسير ما ذهب إليه كبار الصحابة  والأئمة الذين لم يعتبروا جلسة الإستراحة سنة من سنن الصلاة !
فما هو تفسير الأحاديث التي تذكر جلسة الإستراحة ؟ وكيف نفهمها ؟

هذا ما سنحاول أن نبينه – بتوفيق الله تعالى – فيما يلي .















مناقشة أدلة ( جلسة الإستراحة )

إن مخالفة كل أولئك الأئمة والعلماء ؛ من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، لتلك الأدلة يدعونا إلى مناقشتها وتبيان الأمر منها :

حديث مالك بن الحويرث

الحديث الأول والثاني اللذان رواهما الإمام البخاري في صحيحه ، مداره على الصحابي الجليل مالك بن الحويرث t .
هذا الصحابي الجليل رأى رسول الله في أواخر حياته r وبقي معه عشرون يوما وليلة فقط !

أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن مالك بن الحويرث t قال :
] أتينا إلى النبيّ r ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة ، وكان رسول الله r رحيما رفيقا ، فلما ظن أنا قد إشتهينا أهلنا – أو قد إشتقنا – سألنا عمن تركنا بعدنا . فأخبرناه ، قال : إرجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ، ومروهم . وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها – وصلوا كما رأيتموني أصلي – فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم [ ([19])

وكان مالك بن الحويرث t من بني ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة . ([20])
قال الحافظ إبن حجر العسقلاني :
] وكان قدوم وفد بني ليث فيما ذكره إبن سعد بأسانيد متعددة أن واثلة الليثي قدم على رسول الله r وهو يتجهز لتبوك [ ([21])

         وغزوة تبوك كانت في شهر سنة تسع من الهجرة قبل حجة الوداع بلا خلاف . ([22])
         أي قبل وفاة رسول الله r بعام ، فقد لبث r بالمدينة عشرا ، ثم توفي . ([23])

         فثبت من هذا أن مالك بن الحويرث t قد قدم على رسول الله r مع قومه في أواخر حياته r - وبالتحديد قبل عام من وفاته r حين كان يتجهز لتبوك والتي كانت في سنة تسع من الهجرة – وحينها كان رسول الله r قد أسن فبدّن وضعف !

         فكان r يحتاج إلى جلسة الإستراحة في صلاته !
        
         عن حفصة زوج النبيّ r أنها رضي الله عنها قالت :
] ما رأيت رسول الله r صلى في سبحته قاعدا حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي في سبحته قاعدا . . . [ ([24])

         قال الإمام مسلم بعد روايته لهذا الحديث :
] وحدثني أبو الطاهر وحرملة قالا أخبرنا إبن وهب أخبرني يونس ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حُميد قالا أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا مَعمّر جميعا عن الزهري بهذا الإسناد مثله غير أنهما قالا بعام واحد أو إثنين [ ([25])

         وعن عائشة رضي الله عنها :
] أنها لم تر رسول الله r يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسنّ فكان يقرأ قاعدا ، حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع [ ([26])
        
         وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت :
] والذي نفسي بيده ما مات رسول الله r حتى كان أكثر صلاته قاعدا إلا المكتوبة . . . [ ([27])
         وعن عائشة رضي الله عنها قالت :
] إن النبيّ r لم يمت حتى كان يصلي كثيرا من صلاته وهو جالس [ ([28])
         وعن عبد الله بن شقيق قال :
] قلت لعائشة : هل كان النبيّ r يصلي وهو قاعد ؟ قالت : نعم بعدما حطمه الناس [ ([29])
         قال الإمام النووي :
] قولها ( قعد بعدما حطمه الناس ) قال الراوي : في تفسيره يقال : حطم فلانا أهله إذا كبر فيهم ، كأنه لما حمله من أمورهم وأثقالهم والإعتناء بمصالحهم صيّروه شيخا محطوما . والحطم الشيء اليابس [ ([30])

         وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت :
] والذي ذهب به ما تركها حتى لقي الله ، وما لقي الله تعالى حتى ثقل عن الصلاة وكان يصلي كثيرا من صلاته قاعدا تعني الركعتين بعد العصر . . . [ ([31])
         وأخرج مسلم عنها أيضا رضي الله عنها قالت :
] لما بدّن رسول الله r وثقل كان أكثر صلاته جالسا [ ([32])
         وعن هلال بن يساف قال :
 ] قدمت الرقة ، فقال لي بعض أصحابي : هل لك في رجل من أصحاب  ؟ قال : قلت : غنيمة ، فدفعنا إلى واصبة ، قلت لصاحبي : نبدأ فننظر إلى دله ، فإذا عليه قلنسوة لاطئة ، ذات أذنين ، وبرنس خز أغبر ، وإذا هو معتمد على عصا في صلاته ، فقلنا]  له [ بعد أن سلمنا ؟ قال : حدثتني أم قيس بنت محصن : ( أن رسول الله  لما أسنّ ، وحمل اللحم إتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه ) [ ([33])

         فمجيء الصحابي الشاب مالك بن الحويرث t إلى رسول الله  كان في هذا الزمان ، حيث دفع السن وضعف البدن والتحطم رسول الله وألجأه إلى صلاته النوافل قاعداً ، وإلى جلسة الإستراحة .

         والصحابة الذين كانوا يعيشون مع رسول الله  في المدينة – والذين لم يجلسوا جلسة الإستراحة – كانوا يعلمون حال رسول الله r البدنية ، وسبب جلوسه r هذه الجلسة ، إضافة إلى التوجيهات النبوية الشريفة لهم في هذا المجال ، مما جعلهم يستيقنون أن هذه الجلسة ليست من سنن الصلاة المطلوبة فعلها من كل الناس ، بل هي رخصة يفعلها مَن كان في تعب ومرض وثقل البدن .

توجيهات النبيّ  التي توحي إلى عدم سنية جلسة الإستراحة

1-   حث النبيّ  أصحابه على الصلاة قياماً مع تحمل 
المشقة ، وتشجيعهم على ذلك .

         عن عمران بن حصين t - وكان مبسوراً – قال :       ]  سألت رسول الله  عن صلاة الرجل قاعداً فقال إن صلى قائماً فهو أفضل ومَن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ومَن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد [ ([34])

        
قال الحافظ إبن حجر العسقلاني :
] قوله ( عن صلاة الرجل قاعدا ) قال الخطابي : . . . إن المراد بحديث عمران المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة ، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم ترغيباً له في القيام مع جواز قعوده . إنتهى . وهو حمل متجه ، ويؤيده صنيع البخاري حيث أدخل في الباب حديثي عائشة وأنس وهما في صلاة المفترض قطعا ، وكأنه أراد أن تكون الترجمة شاملة لأحكام المصلي قاعدا . ويتلقى ذلك من الأحاديث التي أوردها في الباب .
         فمن صلى فرضا قاعدا وكان يشق عليه القيام أجزأه وكان هو ومن صلى قائما سواء كما دل عليه حديث أنس وعائشة فلو تحامل هذا المعذور وتكلف القيام ولو شق عليه كان أفضل لمزيد أجر تكلف القيام ، فلا يمتنع أن يكون أجره على ذلك نظير أجره على أصل الصلاة ، فيصح أن أجر القاعد على النصف من أجر القائم ، ومن صلى النفل قاعدا مع القدرة على القيام أجزأه وكان أجره على النصف من أجر القائم بغير إشكال . . . ولا يلزم من إقتصار العلماء المذكورين في حمل الحديث المذكور على صلاة النافلة أن لا ترد الصورة التي ذكرها الخطابي ، وقد ورد في الحديث ما يشهد لها ، فعند أحمد من طريق إبن جريج عن إبن شهاب عن أنس قال ( قدم النبيّ r المدينة وهي محمة ، فحمى الناس ، فدخل النبيّ r المسجد والناس يصلون من قعود فقال : صلاة القاعد نصف صلاة القائم ) رجاله ثقات . وعند النسائي متابع له من وجه آخر وهو في المعذور فيحمل على من تكلف القيام مع مشقته عليه كما بحثه الخطابي [ ([35])

         وأخرج الإمام مالك في موطأه عن عبد الله بن عمرو بن العاص t قال :
] لما قدمنا المدينة نالنا وباء من وعكها شديد فخرج رسول الله r على الناس وهم يصلون في سبحتهم قعوداً فقال رسول الله r صلاة القاعد مثل نصف صلاة القائم [ ([36]) .

         قال الإمام أبو الوليد الباجي في شرحه لهذا الحديث :
] وقوله r صلاة القاعد مثل نصف صلاة القائم تنشيطا لهم على القيام وندب لهم إلى فضله وتذكير لهم لئلا يجتزوا بالقعود مع القدرة على القيام لما فيهم من ألم الوعك وشدة المرض [ ([37])

         والمقصود أن جلسة الإستراحة ليست هي غاية في ذاتها بل هي – كما يظهر من إسمها – وسيلة للإستراحة من تعب أو ضعف أو شيخوخة ، وتهيئة للقيام للركعة الأخرى . وذلك للذين لا يستطيعون أن يقوموا رأساً من السجود إلى القيام .
         أما الذين لا يحتاجون إليها فالسنة تشجعهم على إظهار القوة كما ظهر مما سبق .


2-   نهي النبيّ r أصحابه عن تقليده في صلاته النوافل قاعداً وهم أصحاء أقوياء .



عن عبد الله بن عمرو t قال :
] رأيت النبيّ r يصلي جالساً فقلت : حُدِّثتُ أنك قلت : إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم ، وأنت تصلي قاعداً ؟ قال : أجل ولكني لستُ كأحدٍ منكم [ ! ! ([38])

         قال الإمام الآبادي :
] ( ولكني لست كأحد منكم ) : قال النووي : هو عند أصحابنا من خصائص النبيّ r فجعلت نافلته قاعدا مع القدرة على القيام كنافلته قائما تشريفا له كما خص بأشياء معروفة في كتب أصحابنا وغيرهم .
         وقال القاضي عياض : معناه أن النبيّ r لحقه مشقة من القيام لحطم الناس وللسن فكان أجره تاما بخلاف غيره من لا عذر له . هذا كلامه وهو ضعيف أو باطل لأن غيره r إن كان معذورا فثوابه أيضا كامل وإن كان قادرا على القيام فليس هو كالمعذور فلا يبقى فيه تخصيص ، فلا يحسن على هذا التقدير لست كأحد منكم وإطلاق هذا القول ، فالصواب ما قاله أصحابنا إن نافلته r قاعدا مع القدرة على القيام ثوابها كثوابه قائما وهو من الخصائص والله أعلم . انتهى .
         قال المنذري : وأخرجه مسلم والنسائي . [ ([39])

3-   إخبار النبيّr أصحابه بضعف بدنه صراحة ،
وتحذيرهم من مسابقته – في صلاته معهم – في الركوع والسجود والقيام . .

         عن أبي موسى الأشعري t قال : قال رسول الله  :   ] إني قد بدّنتُ فإذا ركعتُ فاركعوا ، وإذا رفعتُ فارفعوا ، وإذا سجدتُ فاسجدوا ، ولا ألفين رجلا يسبقني إلى الركوع ولا إلى السجود [
         قال الشيخ الألباني عن حديث أبي موسى هذا :
] قلت : رجاله ثقات غير دارم هذا ، فهو مجهول ؛ وإن وثقه إبن حبان . لكن الحديث صحيح ، فقد جاء مفرقا في أحاديث ، منها حديث معاوية مرفوعا :
( إني قد بدّنتُ . فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ، فإني مهما أسبقكم حين أركع تدركوني حين أرفع ، ومهما أسبقكم حين أسجد تدركوني حين أرفع )
أخرجه الدارمي وغيره بسند حسن ، وهو مخرج في ( صحيح أبي داود ) ( 630 ) .
         ومنها حديث أنس بن مالك مرفوعا :
( أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالإنصراف . . ) رواه مسلم وغيره ، وهو مخرج أيضا في ( صحيح أبي داود ) ( 635 ) [ ([40])

         جاء في شرح الحديث للسيوطي وآخرين ( ص 68 ) :
] إني قد بدّنت بتشديد الدال أي : كبرت وثقل بدني من الضعف . قوله : إني قد بدنت ، قال أبو عبيد : هكذا روي في الحديث بالتخفيف وإنما هو بالتشديد أي : كبرت وأسننت ، والتخفيف من البدانة وهي كثرة اللحم ولم يكن r سمينا [ .

         قال إبن عبد البر عن حديث معاوية t :
] كذا قال بدُنت بالضم ومعناه عند أهل اللغة أنه حمل اللحم وثقل كذا فسره أبو عبيد . قال : وأما مَن قال : إني قد بدَّنت بفتح الدال وتشديدها فيعني أنه أسن وضعف بأخذ السن منه . حدثني عبيد بن محمد قال . . . قال لي إبن أبي أويس : قال إبراهيم بن سعد :
هذا الذي يروى قد بدّنت ، فقلت : ما الحجة فيه ؟ قال : قول الشاعر :
قامت تريك بدنا مكنونا      كعرقي البيض إستمات لينا
وخلت أن الشيب والتبدينا    والنأي مما يذهل القرينا [ ([41])

         قال أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري :
] قال أهل العلم والمعرفة بالرواية : الصواب أني قد بدّنت . وقولهم : إني قد بدُنت ، الدال مضمومة إنما معناه : كثر لحمي ، ولم يكن النبيّ r بهذه الصفة . ومعنى قوله بدَّنت بالفتح وتشديد الدال أي : كبرت وأسننت ، واستشهدوا عليه بقول الشاعر :
  وكنت خلت الشيب والتبدينا     والهم مما يذهل القرينا
         قالوا : ومما يدل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها أنه r كان يصلي بعض صلاته بالليل وهو جالس ، وذلك بعدما حطمته السن . ويرويه بعضهم : بعد ما حمل اللحم ، والأول أكثر . وأخبرني علي بن الحسين بي إسماعيل حدثنا . . . عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : أكان النبيّ  يصلي جالسا ؟ قالت : نعم بعد ما حطمته السن .
         قلت أنا : فهذا يدل على بدّنت بالتشديد ، يقال : بدّن يبدّن تبدينا إذا أسن . وبدن يبدُن بدونا إذا حمل اللحم . والبدن الشيخ المسن . قال الأسود بن يعفر :
        
أم ما بكاء البدن الأشيب  [ ([42])

تساؤل !

        إن أصحاب النبيّ r ، الذين عاشوا حياتهم معه ، كانوا أعلم بأحواله ممن جاء فعاش معه r عشرين يوما وليلة فقط ثم رجع إلى أهله .
         ونحن نعلم أن الذين يذهبون إلى سنية جلسة الإستراحة ، قد إستندوا في ذلك على حديث مالك بن الحويرث t بالدرجة الأساس ، فهو العمدة والأصل الأول والقوي في هذه المسألة ، لا سيما وقد ورد ذلك في صحيح البخاري ! !

         ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : هل من المعقول والمنطق أن نرجح فهم وفقه مالك بن الحويرث t الذي تشرف برؤية رسول الله r عشرين يوما وليلة فقط .
         نرجح فهمه وفقهه لسنة رسول الله r على فهم وفقه مَن كانوا مع رسول الله r من بداية النبوة والدعوة إلى أن إلتحق رسول الله r بالرفيق الأعلى ؟ !
         هل لنا أن نرجح فهمه وفقهه للسنة على فهم وفقه عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير . . . وغيرهم ؟ !




قياس الأولى !

         إن الصحابي الجليل أنس بن مالك t ، قد خدم النبيّ r عشر سنوات ، ليل نهار ، وفي الحضر والسفر كما روى ذلك عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، حيث أخرجا عنه أنه قال :
] قدم رسول الله r المدينة ليس له خادم فأخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله r فقال : يا رسول الله إن أنساً غلام كيس فليخدمك . قال : فخدمته في السفر والحضر . . . [ ([43]) .

         وأخرج البخاري أيضا في صحيحه ( 5 / 1982 ) عن إبن شهاب قال : أخبرني أنس بن مالك t :
] أنه كان إبن عشر سنين مقدم رسول الله r المدينة فكان أمهاتي يواظبنني على خدمة النبيّ r فخدمته عشر سنين وتوفي رسول الله r وأنا إبن عشرين سنة فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ([44]) وكان أول ما أنزل . . . [ الحديث .
        
         وأخرج مسلم في صحيحه ( 4 / 1804 ) عن أنس t قال :
] خدمت رسول الله r عشر سنين . . . [ وفي رواية له : تسع سنين .
        
         قال الإمام النووي :
] وأما قوله تسع سنين وفي أكثر الروايات عشر سنين فمعناه أنها تسع سنين وأشهر فإن النبيّ r أقام بالمدينة عشر سنين تحديدا لا تزيد ولا تنقص ، وخدمه أنس في أثناء السنة الأولى ، ففي رواية التسع لم يحسب الكسر بل إعتبر السنين الكوامل ، وفي رواية العشر حسبها سنة كاملة وكلاهما صحيح . . . [ ([45]) .
         وقال الحافظ إبن حجر العسقلاني :
] فعلى هذا تكون مدة خدمة أنس تسع سنين وأشهرا فألغى الكسر مرة وجبره أخرى . . . [ ([46]) .

موقف مشابه . . بل أهون !

         فهذا الصحابي الجليل أنس بن مالك t وقد عاش مع رسول الله في داخل بيته r وخارجه ، وفي السفر والحضر ، قرابة عشر سنوات ؛ من ضغره وهو صبي إبن عشر سنوات ، إلى أن بلغ أوج الشباب وهو إبن عشرين سنة .

         هذا الصحابي الجليل قد جاءت رواية صحيحة عنه :
] أنه دخل مسجدا قد صلوا فيه ، فأمر رجلا فأذن بهم وأقام فصلى بهم جماعة [ .
         قال الشيخ الألباني عن هذا الأثر :
   ] قلت : قد علقه البخاري ، ووصله البيهقي بسند صحيح عنه [ ([47])

         وهناك رواية أخرى غير صريح الدلالة ، عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود t ، أنه جاء مع تلميذين من تلاميذه إلى المسجد  فرأى الناس قد صلوا فرجع إلى البيت معهما ، ثم صلى بهما ([48]) .
مع كل هذا رأينا الشيخ الألباني قد حكم بعدم صحة أو صواب عمل الصحابي أنس بن مالك ، حيث قال :
] وقد يستدل به بعضهم على جواز تعدد صلاة الجماعة في المسجد الواحد ، ولا حجة فيه لأمرين :
الأول : أنه موقوف .
الثاني : أنه قد خالفه من الصحابة من هو أفقه منه ، وهو عبد الله بن مسعود t . . . [ ([49]) ! !

         فلماذا يرد الشيخ الألباني هنا عمل الصحابي أنس بن مالك t ، ويعتبره إجتهادا منه غير صحيح ، ومن ثم لا يعمل به إعتمادا على أن هناك مَن هو أفقه منه يخالفه ؟ ! ([50])
         ولا يرد إجتهاد الصحابي مالك بن الحويرث t في إعتباره جلسة الإستراحة سنة من سنن الصلاة مع أن هناك مَن هم أفقه منه ، وأعلم ، وأكثر عددا يخالفونه ؟ !
         علما بأن مالك بن الحويرث t عاش مع النبيّ r عشرين يوما وليلة فقط ، والذين يخالفونه عاشوا حياتهم مع رسول الله  !
         بينما عاش أنس بن مالك t - الذي يعتبر عمله إجتهادا منه ومردود – عشر سنوات مع رسول الله r في السفر والحضر ! !
         ثم إن وجود مخالفة من عبد الله بن مسعود لأنس بن مالك رضي الله عنهما في هذه المسألة هو محض إجتهاد من الذي يعتبرها مخالفة ! !
         بخلاف موقف مالك بن الحويرث مع مخالفيه من كبار الصحابة !
         فهذا هو التفسير الصحيح لحديث مالك بن الحويرث t .

الأحاديث والأقوال التي تساند وتقوي هذا التفسير

         وهناك أحاديث وأقوال تساير هذا التفسير ، وتثبت أركانه

حديث أبي هريرة

         أولا / روى الترمذي عن أبي هريرة t قال :
] كان النبيّ r ينهض في الصلاة على صدور قدميه [ .
         وفي سنده خالد بن إياس وصالح مولى التوأمة ] قال الترمذي : خالد بن إياس ويقال إبن إلياس ضعيف عند أهل الحديث . وكذا أعله إبن عدي به قال : وهو مع ضعفه يكتب حديثه ، قال إبن القطان : والذي أعل به خالد موجود في صالح وهو الإختلاط [ ([51]) .
         ] قال الحافظ في التقريب : خالد بن إلياس بن صخر بن أبي الجهم بن حذيفة أبو الهيثم العدوي المدني إمام المسجد النبوي متروك الحديث من السابعة .
         وقال الذهبي في الميزان : قال البخاري : ليس بشيء . وقال أحمد والنسائي : متروك . . .
         صالح مولى التوأمة ، قال الحافظ : صدوق إختلط بآخره قال إبن عدي : لا بأس به برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج من الرابعة [ ([52]) .
         فسند هذا الحديث ضعيف .
         وهذا مما زاد من تمسك الذين ذهبوا إلى جلسة الإستراحة بها ؛ حينما قارنوا بين حديث أبي هريرة هذا وبين حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنهما .
         فالأول كما هو واضح في سنده مَن هو ضعيف ، أما الثاني فقد أخرجه البخاري في صحيحه !

تقوية هذا الحديث

         ولكن يقوي حديث أبي هريرة t هذا جملة أمور :

         أ – قول الترمذي : حديث أبي هريرة عليه العمل عند أهل العلم .
        
قال إبن الهمام :
] وقول الترمذي : العمل عليه عند أهل العلم يقتضي قوة أصله وإن ضعف خصوص هذا الطريق وهو كذلك .
         أخرج إبن أبي شيبة عن إبن مسعود أنه كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه ولم يجلس . وأخرج نحوه عن علي وكذا عن إبن عمر وابن الزبير ، وكذا عن عمر ، وأخرج عن الشعبي قال : كان عمر وعلي وأصحاب النبيّ r ينهضون في في الصلاة على صدور أقدامهم ، وأخرج عن النعمان بن أبي عياش : أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله r فكان إذا رفع أحدهم رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة نهض كما هو ولم يجلس .
         وأخرج عبد الرزاق عن إبن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وأخرجه البيهقي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى إبن مسعود فذكر معناه .
         فقد إتفق أكابر الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله r وأشد إقتفاءً لأثره وألزم لصحبته من مالك بن الحويرث t على خلاف ما قال فوجب تقديمه ، ولذا كان العمل عليه عند أهل العلم كما سمعته من قول الترمذي [ ([53]) .

         إن قول الإمام إبن الهمام : ( وقول الترمذي : العمل عليه عند أهل العلم يقتضي قوة أصله وإن ضعف خصوص هذا الطريق ) معقول ومنطقي جداً ، إذ كيف يذهب كبار الصحابة وأهل العلم والأئمة من السلف الصالح إلى أمر مستندهم فيه حديث ضعيف فيه رجال ضعفاء ؟ !
         إذ لو كان الأمر كذلك لكنا نحن أفضل من السلف لأننا حينذاك أعلم بالسنة منهم ! !

         وقد سار على هدي هذا المنطق الأئمة والعلماء .
         قال الشيخ الألباني عن حديث :
] وبالجملة فهذه طرق كثيرة أشار إليها النووي في ( أربعينه ) ثم قال : ( يقوي بعضها بعضاً ) . وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به . وقول أبي داود : إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف ) [ ([54]) .

         أي إن الحديث الذي تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به أو دار الفقه عليه فهو غير ضعيف وإن كان سنده ضعيفاً ، وطرقه كلها ضعيفة ! !
         فليس شرطاً أن نعرف نحن أبناء هذا العصر كل السنن بطرقها الصحيحة . فبما أن الله سبحانه قد تكفل بحفظها فإنها لا تضيع أبداً ، وكيف تضيع بين خير القرون وعند الخلفاء الراشدين ؟ !
         فلماذا إذن كانوا خير القرون ؟ !
         فـ ] تعهُّد الله الأكرم بحفظ الذكر ، لم يقتصر على القرآن على أهمية ذلك وضرورته على المستويات الدينية والثقافية والحضارية ، وإنما إمتد التعهد بالحفظ أيضا إلى البيان ، ذلك أن حفظ البيان ( التفسير والتطبيق والتنزيل على الواقع ) ، لا يقل أهمية وضرورة عن حفظ القرآن ، من حيث حماية مدلولات النص من التحريف ، والتأويل ، والإنتحال ، والغلو ، قال تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ([55]) .
         فالبيان النبوي المعصوم ، أو ما صح من البيان المأثور الذي توفرت له ضوابط النقل والتوثيق ، من فهوم وتطبيقات القرون المشهود لها بالخيرية ، هو الذي يشكل المرجعية الشرعية ، والمعيارية لفهم آيات القرآن الكريم في كل زمان ومكان . . . [ ([56]) .

         فالصحابة رضوان الله عليهم لا سيما كبارهم إذا عملوا عملاً معيناً ، فإما أن هذا العمل سنة أكيدة من سنن رسول الله r ، وإن لم يصلنا بطرق صحيحة ، أو أنه ليس فيه بأس ، إذ لو كان فيه بأساً لما فعله أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام .

         فهناك عوامل أخرى تثبت أركان الحديث غير السند .

         قال الشيخ الألباني في تعليقه على حديث حكَم هو بضعف إسناده :
] قال المحقق السندي . . . : قلت : لكن كون الحديث من أوجز الكلمات وأجمعها للحكمة يدل على قربه للثبوت فليتأمل .
         قلت ( الشيخ الألباني ) : والحديث وإن كان إسناده ضعيفا فإنه لا يدل على ضعفه وعدم ثبوته في نفسه لإحتمال  أن له إسنادا حسنا أو صحيحا أو أن له شواهد يدل مجموعها على ثبوته ، والواقع أن هذا الحديث كذلك فإن له شواهد تدل على أن له أصلا  فقد روي من حديث إبن عمر عند الضياء المقدسي في ( الأحاديث المختارة ) ومن حديث سعد بن أبي وقاص عند الحاكم ( 4 / 326 – 327 ) وصححه ووافقه الذهبي [ ([57]) .
وقال الحافظ إبن تيمية :
] فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة ، أو إماما معينا ؛ فهو مخطيء خطأ فاحشا قبيحا .
         ولا يقولن قائل : إن الأحاديث قد دونت وجمعت ، فخفاؤها – والحال هذه – بعيد لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد إنقراض الأئمة المتبوعين رحمهم الله .
         ومع هذا فلا يجوز أن يدعي إنحصار حديث رسول الله  في دواوين معينة .
         ثم لو فرض إنحصار حديث رسول الله r ، فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم . ولا يكاد ذلك يحصل لأحد بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة ، وهو لا يحيط بما فيها .
         بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير لأن مما بلغهم – وصح عندهم – قد لا يبلغنا إلا عن مجهول أو بإسناد منقطع ، أو لا يبلغنا بالكلية . فلقد كانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين ، وهذا أمر لا يشك فيه مَن علم القضية [ ([58]) .

        

الخلاصة :
         إن حديث أبي هريرة t له أصل قوي وذلك لأنه عليه العمل عند أهل العلم وكبار الصحابة .

         ب – إن حديث أبي هريرة t هذا لا يتناقض مع حديث مالك بن الحويرث t ولا يتعارض ، إلا إذا قلنا أنهما يرويان صفة لصلاة النبيّ r قد شاهداها في زمان واحد فيحكيانها ، عند ذلك فقط يتعارضان ، وعلينا حينئذ بالموازنة والترجيح بينهما ، فنختار الأرجح والأقوى والأصح إسنادا .
         أما إذا حللنا المسألة وفسرناها ؛ بأنهما يرويان ما شاهدا من صفة للصلاة في زمانين مختلفين ، وذلك إستنادا إلى مواقف وفهم وفقه كبار الصحابة وعلمائهم فعند ذلك نحكم بعدم التعارض والتناقض ، ومن ثم فلا داعي للموازنة والترجيح وإهمال أحد الحديثين الذي عليه العمل عند أهل العلم ! !

         بل إن الحديثين ليتساندان في توضيح الصورة ، وحكاية سيرة وسنة رسول الله r بشكل أوضح ؛ حيث إن حديث أبي هريرة t يصف صلاة النبيّ r أيام الصحة والقوة . بينما حديث مالك بن الحويرث t يصف أيام ضعف البدن والشيخوخة والتحطيم .
         وهذا التحليل لابد منه وذلك جمعا بين الأخبار ، ودفاعا عن علم وتقوى كبار الصحابة رضوان الله عليهم ، وإلا فعلينا أن نهمل بعض الأحاديث ، ونتهم الصحابة إما في علمهم أو تقواهم ، إذ كيف لم يعلموا أو كيف تركوا سنة للصلاة ثابتة من سنن رسول الله r ؟ !


         ج – ويشهد لحديث أبي هريرة t حديث وائل بن حجر t حيث قال :
] إن النبيّ r لما سجد وقعت ركبتاه إلى الأرض قبل أن يقع كفاه ، فلما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه ، وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه [ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي .
         وقد سبق التحقيق في هذا الحديث ، وثبتت صحته . ([59])
         وقال الحافظ إبن القيم :
] وقد صححه إبن خزيمة وأبو حاتم بن حبان والحاكم [ ([60]) .


         قال الآبادي في شرحه لهذا الحديث :
] ( وإذا نهض ) : أي قام ( نهض على ركبتيه واعتمد على  فخذه ) : أي إعتمد بيده على فخذه يستعين بذلك على النهوض .
         قال الحافظ الزين العراقي : ورواية أبي داود ، هذه موافقة لما قبلها لأنه إذا رفع يديه تعين نهوضه على ركبتيه إذ لم يبق ما يعتمد عليه غيرهما . انتهى .
         قلت : قد ثبت الإعتماد على الأرض حين النهوض في صحيح البخاري ، وقد عرفت أن طريق محمد بن جحادة منقطعة . وأما طريق همام عن شقيق فمرسلة . قال المنذري : وكليب بن شهاب والد عاصم حديثه عن النبيّ r مرسل فإنه لم يدركه [ ([61])


تعقيب على قول الآبادي

1-   إن الأساس الأول الذي إعتمد عليه الآبادي في رده
لحديث وائل بن حجر t ، هو معارضته للحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه ، وهو يقصد حديث مالك بن الحويرث t .
         وليس هو وحده وقف هذا الموقف ، بل عامة العلماء الذين ذهبوا إلى سنية جلسة الإستراحة – إن لم نقل كلهم – وقفوا هذا الموقف .
         فهُم يقارنون بين حديثين : حديث ورد في صحيح البخاري ، وآخر خارج الصحيح وفي سنده خلل ، فيوازنون بينهما فيرجحون حديث البخاري الذي هو أصح وأقوى .

         قال الآبادي عن حديث أبي هريرة t الذي رواه  الترمذي :
] وهو أيضا ضعيف فلا يصلح لمعارضة حديث مالك بن الحويرث الذي عند البخاري [ ([62])  .

         وقال المباركفوري :
] والحاصل أن حديث مالك بن الحويرث حجة قوية لمن قال بسنية جلسة الإستراحة وهو الحق ، والأعذار التي ذكرها الحنفية وغيرهم لا يليق أن يلتفت إليها [ ([63]) .
        

وقال عن حديث أبي هريرة t :
] والحديث قد إستدل به مَن لم يقل بسنية جلسة الإستراحة لكن الحديث ضعيف لا يقوم بمثله الحجة فإن في سنده خالد بن إياس وهو متروك كما عرفت وأيضا فيه صالح مولى التوأمة وكان قد إختلط بآخرة كما عرفت [ ([64]) .
         وقال الحافظ إبن حجر العسقلاني :
] حديث جلسة الإستراحة أخرجه البخاري عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبيّ r إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا . . . فالحديث حجة في الإقتداء به في ذلك [ ([65]) .

         كما هو واضح ، المقارنة بين حديث رواه البخاري في صحيحه ، وحديث هو خارج الصحيح ، قد جعلت هؤلاء العلماء يتخذون هذا الموقف !

         ولكنهم لو وضعوا كل حديث في موضعه لما إضطروا إلى هذه الموازنة والترجيح ؛ حديث وائل بن حجر وأبي هريرة وغيرهما رضي الله عنهم في حالة القوة والصحة . وحديث مالك بن الحويرث t في حالة ضعف البدن والسن والتحطيم .
         وهذا ما ذهب إليه الأئمة والعلماء الذين لم يعتبروا جلسة الإستراحة سنة من سنن الصلاة .

        

قال الحافظ إبن حجر العسقلاني :
] وتمسك مَن لم يقل باستحبابها ( يقصد جلسة الإستراحة ) بقوله ( لا تبادروني بالقيام والقعود فإني قد بدّنت ) فدل على أنه كان يفعلها لهذا السبب ، فلا يشرع إلا في مَن إتفق له نحو ذلك [ ([66]) .

         وقال الإمام إبن قدامة المقدسي :
] وحديث مالك محمول على أنه كان من النبيّ r لمشقة القيام عليه لضعفه وكبره فإنه قال عليه السلام إني قد بدّنت فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود . ( مسألة ) قال : إلا أن يشق ذلك عليه فيعتمد الأرض ، يعني إذا شق عليه النهوض على الصفة التي ذكرناها فلا بأس باعتماده على الأرض بيديه لا نعلم أحداً خالف في هذا . وقد دل عليه حديث مالك بن الحويرث وقول لعليّ t أن يكون شيخاً كبيراً ومشقة ذلك تكون لكبر أو ضعف أو مرض أو سمن ونحوه [ ([67]) .

         وقال الإمام إبن الهمام :
] والتوفيق أولى فيحمل ما رواه على حالة الكبر ولذا روي أنه قال : لا تبادروني في ركوع ولا سجود فإني مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني إذا سجدت إني قد بدّنت [ ([68]) .

        

وقال الإمام الكاساني :
] وما رواه الشافعي ( يقصد حديث مالك بن الحويرث ) محمول على حالة الضعف حتى كان يقول لأصحابه لا تبادروني بالركوع والسجود فإني قد بدّنت أي كبرت وأسننت فاختار أيسر   الأمرين [ ([69]) .

         وقال الإمام السرخسي :
] وتأويل حديثهم أنه فعل لأجل العذر بسبب الكبر كما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال إني إمرؤ قد بدّنت فلا تبادروني بركوع ولا سجود [ ([70]) .

         وقال إبن نجيم :
] وقال أبو إسحاق : إن كان ضعيفا جلس لأنه يحتاج إلى الإستراحة وإن كان قويا لم يجلس لأنه لا يحتاج إلى الإستراحة وحمل القولين على هذين الحالين [ ([71]) .

         وقال الإمام الآبادي :
] قال إبن رسلان . . . وعلى تقدير صحة هذه الرواية فهي محمولة على أنه r فعل ذلك في آخر عمره عند كبره وضعفه وهذا فيه جمع بين الأخبار أو محمول على أنه فعله مرة لبيان الجواز . إنتهى كلام إبن رسلان رحمه الله بلفظه [ ([72]) .

         وقال الإمام الطحاوي :
] فلما جاء هذا الحديث على ما ذكرنا وخالف الحديث الأول إحتمل أن يكون مافعله رسول الله r في الحديث الأول لعلة كانت به فقعد من أجلها لا لأن ذلك من سنة الصلاة كما قد كان إبن عمر رضي الله تعالى عنهما يتربع بالصلاة فلما سئل عن ذلك قال إن رجليّ لا تحملاني فكذلك يحتمل أن يكون ما فعل رسول الله r من ذلك القعود كان لعلة أصابته حتى لا يضاد ذلك ما روي عنه في الحديث الآخر ولا يخالفه وهذا أولى بنا من حمل ما روي عنه على التضاد والتنافي [ ([73]) .

         وقال الإمام أبو المحاسن :
] وحديث مالك يحتمل أن يكون ما ذكر فيه مما رأى النبيّ r كان فعله لعلة كانت به r حينئذ لا لأن ذلك من سنة صلاته ، يدل عليه قلة مقام مالك عنده فإنه قال : أتيت النبيّ في أناس ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيما رفيقا فلما ظن أن قد إشتهينا أهلنا واشتقنا . . . [ الحديث ([74]) .

         وقال الإمام البهوتي :
] وأجيب : بأنه كان في آخر عمره عند كِبَرِهِ جمعا بين     الأخبار [ ([75]) .



         2 – لم يحسب الإمام الآبادي ، هو ولا مَن يضاهيه في موقفه ، أي حساب لمخالفة كبار الصحابة وعلمائهم لما يذهبون إليه ، وكأنهم هم أعلم بسنة رسول الله  من عمر وعليّ وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير . . . وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ! !
         بل صرّح بذلك بعضهم ؛ فقد أخرج البيهقي في سننه آثاراً صحيحة عن إبن مسعود t تؤكد عدم جلوسه جلسة الإستراحة فقال :
] هو عن إبن مسعود صحيح ومتابعة السنة أولى [ ! ! ([76])

         وقال الإمام الآبادي :
] نعم روي عن جماعة من الصحابة أنهم ينهضون في الصلاة على صدور قدميه أخرج عنهم إبن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما والبيهقي في سننه لكن هذا كله موقوف فكيف يترك المرفوع بالموقوف [ ! ! ([77]) .

         وقال المباركفوري :
] والجواب عنه أن البيهقي قال في السنن الكبرى بعد ذكر هذا الأثر وهو عن إبن مسعود صحيح ومتابعة السنة أولى .      إنتهى [ ([78]) .
         فكيف يُترك المرفوع بالموقوف ؟ ! ومتابعة السنة   أولى ! !
         هذه أقوال نعرف صلاح أصحابها وتقواهم وعلمهم ، ونعرف صدق نياتهم وطيب غاياتهم ، وإلا فإنها تتضمن جرحاً وطعنا لكبار الصحابة ، إما في علمهم أو في تقواهم .
         ولكن كما قال الأئمة والعلماء لازم المذهب ليس بمذهب . ونحن لا نقول هنا يترك المرفوع بالموقوف . بل نقول : يفسر ويؤول المرفوع بالموقوف .
         وقلنا : هنا . لأنه كثيرا ما يختلف الصحابة بينهم في الأمور الإجتهادية فيكون الترجيح للأصح والأقوى ، حسب ما يكون عنده من أدلة الكتاب والسنة ، وحسب شروط الموازنة والترجيح ، والتي هي أكثر من مائة شرط كما يقول العلماء !
         أما هنا فهناك شبه إجماع بين كبار الصحابة بعدم العمل بحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنهم أجمعين .
         فلا يصلح أن نقول هنا : إنه لا يترك المرفوع بالموقوف ! بل الأصلح والأصح أن نقول : يؤول المرفوع بالموقوف !
         وإلا فما هو السر في مخالفة هؤلاء الصحابة الكبار لحديث مالك بن الحويرث ؟ !


حديث أبي حميد الساعدي

         ثانياً / أخرج أبو داود في سننه عن عباس – أو عياش – بن سهل الساعدي ، أنه كان في مجلس فيه أبوه ، وكان من أصحاب النبيّ r ، وفي المجلس أبو هريرة وأبو حميد الساعدي وأبو أسيد ، بهذا الخبر يزيد أو ينقص ، قال فيه : ثم رفع رأسه – يعني من الركوع – فقال : سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ، ورفع يديه ثم قال : الله أكبر ، فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه وصدور قدميه وهو ساجد ، ثم كبر فجلس فتورك ونصب قدمه الأخرى ، ثم كبر فسجد ثم كبر فقام ولم يتورك ثم ساق الحديث ، قال : ثم جلس بعد الركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض للقيام قام بتكبيرة ، ثم ركع الركعتين الأخريين ولم يذكر التورك في التشهد .([79])
         هذا الحديث أخرجه أيضا أبو جعفر الطحاوي فقال :
] حدثني به غير واحد من أصحابنا رحمهم الله . . . عن عياش بن سهل الساعدي وكان في مجلس فيه أبوه وكان من أصحاب رسول الله  وفي المجلس أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعدي والأنصار رضي الله تعالى عنهم أنهم تذاكروا الصلاة فقال أبو حميد أنا أعلمكم بصلاة رسول الله r إتبعت ذلك من رسول الله  قالوا فأرنا فقام يصلي وهم ينظرون فكبر ورفع يديه في أول التكبير ثم ذكر حديثا طويلا ذكر فيه أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى قام ولم يتورك . ([80])
         ثم قال عن هذا الحديث :
] فيه حكاية أبي حميد ما حكى بحضرة أصحاب رسول الله  فلم ينكر ذلك عليه أحد منهم فدل ذلك أن ما عندهم في ذلك غير مخالف لما حكاه لهم [ ([81]) .

         وأجيب عن حديث أبي داود هذا بأن أبا داود رواه بإسناد آخر صحيح ، والترمذي بإثبات جلسة الإستراحة وقال الترمذي :
حسن صحيح ، والمثبت مقدم على النافي . ([82])

         والسند الآخر الذي ذكره المباركفوري هو :
] حدثنا أحمد بن حنبل ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ح وثنا مسدد ثنا يحيى وهذا حديث أحمد قال أخبرنا عبد الحميد يعني بن جعفر أخبرني محمد بن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله r منهم أبو قتادة قال أبو حميد أنا أعلمكم بصلاة رسول الله r قالوا فلِمَ فوالله ما كنتَ بأكثرنا له تبعا ولا أقدمنا له صحبة قال بلى قالوا فأعرض قال . . . ثم يقول الله أكبر ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد ويسجد ثم يقول الله أكبر ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك . . . ثم يصنع ذلك في بقية صلاته حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقة الأيسر قالوا صدقت هكذا كان يصلي r [ ([83]) .

         وحديث الترمذي الذي ذكره المباركفوري هو نفس حديث عبد الحميد بن جعفر .
         وعبد الحميد بن جعفر ثقة ، أخرج له البخاري في التعاليق وهو من رجال مسلم والأربعة . قال أحمد : ثقة ليس به بأس كان يحيى بن سعيد يضعفه ، وكان يرى القدر . وقال إبن أبي خيثمة عن إبن معين : كان يحيى بن سعيد يوثقه وكان الثوري يضعفه ، قلت : ما تقول أنت فيه ؟ قال : ليس بحديثه بأس وهو صالح . . . وقال أبو حاتم : محله الصدق . وقال النسائي : ليس به بأس . وقال إبن عدي : أرجو أنه لا بأس به وهو ممن يكتب حديثه . وذكره إبن حبان في الثقات . وقال إبن سعد : كان ثقة كثير الحديث . ووثقه إبن نمير . وقال إبن حبان : ربما أخطأ وقال الساجي : ثقة صدوق ضعفه الثوري لذلك . وقال النسائي في كتاب الضعفاء : ليس بقوي قال أحمد : سمعت يحيى بن سعيد يقول : كان سفيان يضعفه من أجل القدر . ([84])
         وقال الحافظ في ( التقريب ) ( 1 / 333 ) : ( صدوق رمي بالقدر وربما وهم من السادسة . . . خت م 4  ) .
         وقال الذهبي : ثقة غمزه الثوري للقدر . ([85])

         وقال إبن حبان :
] قال أبو حاتم رضي الله تعالى عنه عبد الحميد رضي الله تعالى عنه أحد الثقات المتقنين قد سبرت أخباره فلم أره إنفرد بحديث منكر لم يشارك فيه وقد وافق فليح بن سليمان وعيسى بن عبد الله بن مالك عن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي حميد عبد الحميد بن جعفر في هذا الخبر [ ([86]) .

         وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في معرض رده لأحاديث رفع اليدين في الركوع والرفع منه ، مناقشاً في ذلك لحجج مَن يذهب إلى ذلك :
] وأما حديث عبد الحميد بن جعفر فإنهم يضعفون عبد الحميد فلا يقيمون به حجة فكيف يحتجون به في مثل هذا . . . [ ([87]) .
         وقال في موضع آخر :
] فإن ذكروا في ذلك ضعف العطاف بن خالد قيل لهم وأنتم تضعفون عبد الحميد أكثر من تضعيفكم للعطاف [ ثم قال :
] وليس أحد يجعل هذا الحديث سماعا لمحمد بن عمرو من أبي حميد إلا عبد الحميد وهو عندكم أضعف [ ([88]) .

         هذه خلاصة ما قيل في عبد الحميد بن جعفر الذي في سند حديث ابي داود الذي يذكر جلسة الإستراحة .
         فقد وثقه الأئمة ولكن في أقوال بعضهم ما يشم منه رائحة الغمز والتضعيف ، منها :
·       قول إبن عدي : أرجو أنه لا بأس به وهو ممن يكتب حديثه .
·       وقول النسائي في ( الضعفاء ) : ليس بقوي .
·       وقول إبن حبان : ربما أخطأ .
·       وقول الحافظ إبن حجر : وربما وهم .
·       وقول الإمام الطحاوي : فإنهم يضعفون عبد الحميد فلا يقيمون به حجة . وقوله أيضا : وهو عندكم أضعف .

أما السند الأول لحديث أبي داود الذي ينفي فيه جلسة
الإستراحة ففيه عيسى بن عبد الله بن مالك .

         قال إبن المديني : مجهول لم يرو عنه غير محمد بن إسحاق .
         وهذا غير صحيح ، وذلك لأنه قد روى عنه أخوه محمد وابن إسحاق والحسن بن الحر وفليح بن سليمان وابن لهيعة وعتبة بن أبي حكيم . ([89])
         وذكره إبن حبان في الثقات .
         وقال الذهبي في ( الكاشف ) ( 2 / 110 ) : وثِّق .
         وقال إبن أبي حاتم :
] روى عنه محمد بن إسحاق والحسن بن الحر وابن لهيعة سمعت أبي يقول ذلك [ ([90]) .
         وقال الحافظ في ( التقريب ) ( 1 / 493 ) : مقبول من السادسة .
         وقال علي بن حكيم الأودي :
سمعت شريكا يثني على عبد الله بن عيسى ،  وقال في رواية : كان رجل صدق وكان يعلم العجم محتسبا .
         وقال سفيان بن عيينة : حدثنا عمارة بن القعقاع بن أخي بن شبرمة وعبد الله بن عيسى بن أخي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وكانوا يقولون هما أفضل من عميهما .
         وقال غيره : ثلاثة هم أفضل من عمومتهم فذكرهما .

         وهذا ولم نر الأئمة والعلماء الذين تحدثوا عن هذا الموضوع ، مَن يذهب إلى التوازن والترجيح بين سندي حديث أبي حميد الساعدي ، مما يدل على أن السندين صحيحين عندهم ولا ترجيح لأحدهما على الآخر .
         ولا سيما المباركفوري الذي يذهب بشدة إلى تثبيت جلسة الإستراحة لم يذكر أي طعن في سند عيسى بن عبد الله ، مما يدل على أنه لا غبار عليه عنده ، إذ لو كان هناك ضعف لبيّنه في هذا المعترك .
         أنظر إلى قول الحافظ إبن حجر :
] لكن سياق الليث فيه حكاية أبي حميد لصفة الصلاة بالقول ، وكذا في رواية كل مَن رواه عن محمد بن عمرو بن حلحلة ، ونحوه رواية عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء ووافقهما فليح عن عباس بن سهل ، وخالف الجميع عيسى بن عبد الله عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عباس فحكى أن أبا حميد وصفها بالفعل ولفظه عند الطحاوي وابن حبان ( قالوا فأرنا ، فقام يصلي وهم ينظرون ، فبدأ فكبر ) الحديث .     ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون وصفها مرة بالقول ومرة بالفعل ، وهذا يؤيد ما جمعنا به أولاً ، فإن عيسى المذكور هو الذي زاد عباس بن سهل بين محمد بن عمرو بن عطاء وأبي حميد ، فكأن محمداً شهد هو وعباس حكاية أبي حميد بالقول فحملها عنه مَن تقدم ذكره ، وكأن عباساً شهدها وحده بالفعل فسمع ذلك منه محمد بن عطاء فحدث بها كذلك ، وقد وافق عيسى أيضا عنه عطاف بن خالد لكنه أبهم عباس بن سهل أخرجه الطحاوي أيضا ، ويقوي ذلك أن إبن خزيمة أخرج من طريق إبن إسحاق أن عباس بن سهل حدثه فساق الحديث بصفة الفعل أيضاً          والله أعلم [ ([91]) .

         ها قد رأينا كيف لم يتعرض الحافظ إبن حجر لسند عيسى بن عبد الله بأي طعن أو جرح أو تضعيف ، بل إلتجأ إلى الجمع بين الروايتين ، مما يدل على أنه سند صحيح عنده لا شك فيه .

         وقال المباركفوري :
] ومنها حديث أبي حميد الساعدي فيه ثم كبر فسجد ثم كبر فقام ولم يتورك . رواه أبو داود . وأجيب عنه بأن أبا داود رواه بإسناد آخر صحيح والترمذي بإثبات جلسة الإستراحة وقال الترمذي حسن صحيح وقد تقدم لفظهما والمثبت مقدم على  النافي [ ([92]) .
         وقال أيضا :
] ولم تتفق الروايات عن أبي حميد على نفي هذه الجلسة بل أخرجه أبو داود من وجه آخر بإثباتها كذا في الفتح [ ([93]) .

         والمقصود أن الحافظ إبن حجر والمباركفوري لم يتعرضا بأي جرح أو طعن لسند عيسى بن عبد الله – وهما في حالة المقارنة بين السندين – فهو إذن سند صحيح عندهما لا غبار عليه !
         بقي الآن الجمع والتوفيق بين السندين وذلك لأن كلاً منهما ينفي الآخر ، إذ أن أحدهما يثبت جلسة الإستراحة والآخر ينفيها ، فكيف يكون التوفيق بينهما ؟

        

قال المباركفوري في ذلك :
] والمثبت مقدم على النافي [ ([94]) .
         وهذه القاعدة لا يصلح إستخدامها ها هنا ، فإنها تصلح فيما إذا روى صحابيان حديثين كل منهما يعارض الآخر ، كأن يقول أحدهما رأيت رسول الله  يفعل كذا ، وقال الآخر ما فعل رسول الله r كذا ، في نفس الزمان والمكان .
         فهنا نقول المثبت مقدم على النافي ، لأن النافي لم ير رسول الله r يفعل كذا لأسباب عديدة ، فينفي علمه ورؤيته ، ولا يستطيع أن ينفي علم غيره ورؤيته .
         أما موضوعنا فليس كذلك ، فهو حديث واحد عن صحابي واحد روي بسندين كلاهما صحيح ، ولم يطعن أحد فيهما أو أحدهما .
         فإما أن ندّعي الإضطراب هنا فيرتفع السندان ولا نعمل بالحديث ، أو أن نحاول التوفيق بين السندين من غير هذا الطريق
         ثم إن قاعدة المثبت مقدم على النافي لا يؤخذ هكذا مطلقاً من غير قيد أو شرط ، وليس هي محل إتفاق بين الأئمة والعلماء بل إختلفوا إلى مذاهب :
] ( المذهب الأول ) أنهما متساويان ، فلا يرجح أحدهما على الآخر بمجرد كونه نفياً أو إثباتاً ، وإليه ذهب جماعة من الأصوليين ، ومنهم القاضي عبد الجبار ، وعيسى بن أبان ، وغيرهم .
         واستدلوا على ذلك بأن مقتضى الحجية من عدالة ، وضبط ، وعقل الراوي ، وصحة الحديث ثابت في كل من الخبرين النافي والمثبت ، فلا يوجد مرجح لأحدهما ، إذ هو المفروض ، فلا يقدم أحدهما على الآخر .
         ( المذهب الثاني ) إن الدليل النافي مرجح ومقدم على المثبت ، وإليه ذهب بعض العلماء من الحنفية ، والحنابلة ، وعليه نص الإمام أحمد ، وجمهور الشافعية ، وفيهم الآمدي وغيره .
         واستدلوا على ذلك بأدلة منها : أن النافي لو قدرنا تقدمه على المثبت كانت فائدته التأكيد ، ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التأسيس ، والتأسيس أولى من التأكيد .
         ( المذهب الثالث ) إن المثبت مقدم على النافي ، وإليه ذهب أبو الحسن الكرخي ، وقال الحامي : إنه مذهب الشافعي ، ونسبه إمام الحرمين إلى الجمهور . . .
         ومن الجدير بالذكر هو أن إمام الحرمين الجويني الشافعي بعد أن قرر أن الجمهور يقررون تقديم الإثبات على النفي ، قرر أنه لا يحكم بتقديم المثبت على النفي مطلقاً ، بل يحتاج إلى تفصيل . وخلاصة ذلك هو : أن النصين المتعارضين إن كان أحدهما نفياً والآخر إثباتاً ، كأن يروي أحدهما أن الرسول r     ( نكح ميمونة وكان حلالا – والآخر يروي – ولم يكن في   الحل ) فهذان متعارضان لا يقدم أحدهما على الآخر بمجرد كونه ذاكراً له بصيغة النفي أو بصيغة الإثبات . وذلك لأن كلا منهما مثبت حكماً غير الحكم الأول .
         وأما إذا نقل أحدهما قولاً أو فعلاً عن النبيّ r والثاني نقل أنه لم يقله أو لم يفعله وذلك مثل ما ورد ( أن النبيّ r صلى ورفع يديه عند النزول إلى الركوع والرفع منه ) ، ورد : ( . . . ولم يرفع يديه فيها ) ، وما ورد ( أنه r قرأ الفاتحة في الصلاة ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وورد أنه r ( قرأ الفاتحة وبدأ فيها ببسم الله الرحمن الرحيم ) إلى غير ذلك ، ففي مثل هذه الحالة يقدم الإثبات على المنفي ، لأن الغفلة تتطرق إلى المصغي المستمع وإن كان الذهول عن بعض ما يجري أقرب من تحمل شيء لم تجر ذكره [ ([95]) .
         وقال الإمام النووي في ( المجموع ) ( 5 / 264 – 265 ) ، إذ قد تناول هناك الإختلاف في جواز الصلاة على الشهيد ، فذكر حجج المجيزين ، ومنها روايات مرسلة ( . . أن النبيّ r صلى على قتلى أُحد ، وصلى على حمزة صلوات ) ، ثم ذكر حجج المانعين ، ومنها ما رواه البخاري عن جابر أن    ( النبيّ r أمر في قتلى أُحد بدفنهم بدمائهم ولم يصلِّ عليهم ولم يغسّلوا ) ثم قال : فإن قيل ما ذكرتموه من حديث جابر لا يُحتج به لأنه نفي  وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من رواية الإثبات ، فأجاب أصحابنا بأن شهادة النفي إنما تُرد إذا لم يحط بها علم الشاهد ولم تكن محصورة ، أما ما أحاط به علمه وكان محصورا فيقبل بالإتفاق ، وهذه قصة معينة أحاط بها جابر وغيره علما [ ([96]) .

         إذن فليس كل تعارض بين إثبات ونفي يقال فيه : المثبت مقدم على النافي . ولا سيما في حديثنا هذا ، إذ لا نستطيع أن نقول في التوفيق بينهما : أنهما حادثتان وقعتا في زمنين مختلفين فشاهد صحابي فعلاً في زمن معين ، وشاهد آخر فعلاً مغايراً في زمن آخر .
         ولا نستطيع أيضا أن نقول : إنهما كانا صحابيان ؛ أحدهما كان متنبها يقضا يرقب صلاة رسول الله r ، والآخر لم يكن كذلك ففاته ما شاهده الأول . وذلك لأن السندين هما لحديث واحد عن صحابي واحد وهو أبو حميد الساعدي t .
         والأصوب – في نظرنا – والأرجح في التوفيق بين السندين أن يقال :
         إن الحديث المثبت يحتمل أن يكون قد وقع فيه وهْم من قبل بعض الرواة ، في تكرار بعض الجمل فيه وهو ( ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ثم . . . ) ، وذلك لأن فيه كثيراً من كلمة ( ثم ) . فربما وقع الوهم في ذلك .
         والراوي الذي يُظن أنه قد وهَم هو عبد الحميد بن جعفر حيث رأينا بعض الأئمة وصفوه بالوهم والضعف  ([97]) .

         قلنا ذلك لأن السند الآخر يقول فيه الصحابي أبو حميد الساعدي ، صريحا واضحا لا لبس فيه ولا شك : ( فقام ولم يتورك ) .

         وهناك بعض ألفاظ الحديث يقوّي هذا الإحتمال وهو :    ] ثم يقول الله أكبر ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك [ ([98]) .
         وفي رواية إبن حبان : ] ثم يقوم فيصنع في الأخرى مثل ذلك [ ([99]) .
         ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك : أي ركعتان متشابهتان تماماً لا فرق بينهما في أي شيء ؛ الركعة الثانية مثل الركعة الأولى بالضبط . والظاهر والواضح من هذا السياق أنه لا يقصد التشهد ، وإلا فجلسة التشهد ليست مثل جلسة الإستراحة ؛ فكان عليه أن يقول : فيتأخر في جلسة التشهد ، ويجلس أكثر ، بدليل أن الإمام الطحاوي عندما ردّ على القائلين بجلسة الإستراحة بقوله :
] ثم النظر من بعد هذا يوافق ما روى أبو حميد رضي الله تعالى عنه وذلك أنا رأينا الرجل إذا خرج في صلاته من حال إلى حال إستأنف ذكراً من ذلك أنا رأيناه إذا أراد الركوع كبّر وخر راكعاً وإذا رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده وإذا خر من القيام إلى السجود فقال الله أكبر وإذا رفع رأسه من السجود قال الله أكبر . وإذا عاد إلى السجود فعل ذلك أيضا وإذا رفع رأسه لم يكبر من بعد رفعه رأسه إلى أن يستوي قائماً غير تكبيرة واحدة فدل ذلك أنه ليس بين سجوده وقيامه جلوس ولو كان بينهما جلوس لاحتاج أن يكون تكبيرة بعد رفعه رأسه من السجود للدخول في ذلك الجلوس ولاحتاج إلى تكبير آخر إذا نهض للقيام فلما لم يؤمر بذلك ثبت أن لا قعود بين الرفع من السجدة الأخيرة والقيام إلى الركعة التي بعدها ليكون حكم ذلك وحكم سائر الصلوات مؤتلفاً غير مختلف فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمة الله عليهم أجمعين [ ([100]) .

         عندما قال الإمام الطحاوي هذا القول ، ردّوا عليه بقولهم : ] إنها جلسة خفيفة جداً إستغنى فيها بالتكبير المشروع للقيام فإنها من جملة النهوض إلى القيام [ ([101]) .
         ونحن نعلم أن جلسة التشهد ليست خفيفة جداً . قال الحافظ إبن حجر : ] لا خلاف في أن ألفاظ التشهد في الأولى كالتي في الأخيرة ، إلا ما روى الزهري عن سالم قال : وكان إبن عمر لا يسلم في التشهد الأول ، كان يرى ذلك نسخاً لصلاته قال الزهري : فأما أنا فأسلم ، يعني قوله ( السلام عليك أيها النبيّ – إلى – الصالحين ) هكذا أخرجه عبد الرزاق [ ([102]) .

         وقد قال رسول الله r - كما أخرج البخاري في صحيحه  
] فإذا صلى أحدكم فليقل : التحيات لله والصلوات والطيبات ، والسلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين – فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض – وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله [ ([103]) .
         قال الإمام البخاري : ] باب الدعاء قبل السلام . حدثنا أبو اليمان . . . عن عائشة زوج النبيّ r . . . ( أن رسول الله r كان يدعو في الصلاة : اللهم إني إعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات . اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم . . . [ ([104])

         والمقصود أن جلستي التشهد ليستا خفيفتين جداً حتى يصدق عليهما وعلى جلسة الإستراحة قوله : ] ثم يصنع في الأخرى  مثل ذلك [ ، أو رواية البيهقي عن عقبة بن عامر :  ]   ثم صنع ذلك أربع ركعات  [ ([105]) .
         فظهر بذلك أن السياق يتحدث عن ركعة واحدة كاملة من غير جلسة التشهد بدليل رواية عيسى بن عبد الله التي أخرجها أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه : ] ثم كبر فسجد ثم كبر فقام ولم يتورك ثم عاد فركع الركعة الأخرى فكبر كذلك ثم جلس بعد الركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض للقيام قام بتكبير ثم ركع الركعتين الأخريين . . . [ ([106]) .

         فكيف يصح أن يقال كل تلك الأدعية والكلمات في التشهد : ( التحيات لله والصلوات . . . ) إلى الشهادتين ،  ثم الصلاة على النبيّ r ، ثم ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر . . . ) إلى المأثم والمغرم ، وغيرها .
         وجلسة الإستراحة لا يقال فيها شيء ، بل يكبر تكبيرة واحدة ويرفع رأسه ويجلس ، ثم يقوم .
         كيف يصح أن يقال أنهما مثل بعض ؟ ! ( ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك ) ؟ ورواية البيهقي صريحة في ذلك وأوضح من غيرها : ( ثم يصنع ذلك أربع ركعات ) ؟ ؟ .
         ثم كيف يصح أن تكون الجلسة من جملة القيام ، مع أن الذي لا شك فيه عند مَن يذهب إلى جلسة الإستراحة ، أن المصلي يرفع رأسه من السجدة الثانية فيقعد ، ثم يقوم من القعدة وليس من السجود ، أي هناك القعدة من السجود ، ثم القيام من القعود . فهما حركتان وليست حركة واحدة .

         أما قولهم : ( فإنها من جملة النهوض إلى القيام ) أي جلسة الإستراحة ، وبالتالي لا يحتاج إلى تكبير ، فهو محض إجتهاد لا دليل عليه ، بينما هناك أحاديث صحيحة تنص على أن رسول الله r كان يكبر في كل رفع وخفض .
         أخرج البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال : ] صلى مع عليّ t بالبصرة فقال : ذكّرنا هذا الرجل صلاةً كنا نصليها مع رسول الله r فذكر أنه كان يكبّر كلما رفع وكلما وضع [ ([107]) .
         وأخرج أيضاً عن أبي سلمة عن أبي هريرة t ] أنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع ، فإذا انصرف قال : إني لأشبهكم صلاةً برسول الله r [ ([108]) .
         وأخرج أيضاً عن عكرمة قال : ] رأيت رجلاً عند المقام يكبر في كل خفض ، وإذا قام وإذا وضع . فأخبرت إبن عباس رضي الله عنهما قال : أوَ ليس تلك صلاة النبيّ r لا أُمَّ         لك [ ([109])
         وأخرج أيضاً عن أبي هريرة t : ] كان رسول الله r إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ، ثم يكبر حين يركع ، ثم يقول : سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ، ثم يقول وهو قائم : ربنا لك الحمد – قال عبد الله بن صالح عن الليث : ولك الحمد – ثم يكبر حين يهوي ، ثم يكبر حين يرفع رأسه ، ثم يكبر حين يسجد ، ثم يكبر حين يرفع رأسه ، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد         الجلوس      [ ([110]) .
         فنحن نرى أنه ليست هناك حركة لا ذكر معها ، فكيف إستثنيت جلسة الإستراحة من دون ذلك كله ؟
         وإذا كانت هي سنة من سنن الصلاة ، فلماذا كانت هذه السنة – من دون كل السنن – بدون ذكر ؟

         قال الإمام الطحاوي :
] ثم النظر يشهد له أيضا وذلك أنا رأينا الدخول في الصلاة يكون بالتكبير ثم الخروج من الركوع والسجود يكونان بتكبير وكذلك القيام من القعود يكون أيضا بتكبير فكان ما ذكرنا من تغير الأحوال من حال إلى حال قد أجمع أن فيه تكبيراً فكان النظر على ذلك أن يكون تغير الأحوال أيضا من القيام إلى الركوع وإلى السجود فيه أيضا تكبير قياساً على ما ذكرنا من ذلك وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى [ ([111]) .
         ومن كل ذلك نعرف ضعف قول المباركفوري حيث قال بأن ] جلسة الإستراحة جلسة خفيفة جدا ولذلك لم يشرع فيها ذكر فهي ليست بجلسة مستقلة بل هي من جملة النهوض إلى       القيام [ ([112]) .
         وقولهم : ( إنها جلسة خفيفة جدا ) أين دليله ؟
         بل إن الأدلة التي إعتمدوا عليها تثبت عكس ما يقولون ولا سيما المباركفوري ، الذي ذكر حديث أبي داود والترمذي في ترجيحه لرواية عبد الحميد بن جعفر على رواية عيسى بن عبد الله .
         وهذا نص حديث الترمذي الذي جاء فيه :
] . . . ثم أهوى إلى الأرض ساجداً ثم قال الله أكبر ثم جافى عَضَدَيه عن إبطيه وفتح أصابع رجليه ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ثم اعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلاً ([113])
ثم أهوى ساجدا ثم قال الله أكبر ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ([114]) ثم نهض . . . [ ([115]) .

         فهل هناك – من  هذا الحديث – أي فرق بين الجلسة بين السجدتين ، وبين جلسة الإستراحة ؟ ففي كل منهما ( اعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ) .
         بل إن في رواية أبي داود عن أحمد والتي فيها جلسة الإستراحة . تذكر الجلسة بين السجدتين ولا تذكر فيها ( حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ) بل تذكر فقط ( فيقعد عليها ) مع أن الطمأنينة فيها واجبة .
         أما جلسة الإستراحة فتذكر فيها ذلك أي ( حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ) ، ويقولون هي جلسة خفيفة لا تحتاج إلى ذكر !ّ
         والظاهر للمتأمل في هذه الرواية أن جلسة الإستراحة فيها أطول من الجلسة بين السجدتين ! !
         قال الإمام الشوكاني :
] قوله : ( ثم ثنى رجله وقعد عليها ) وهذه تسمى قعدة الإستراحة وسيأتي الكلام فيها . قوله ( حتى يرجع كل عظم في موضعه ) فيه فضيلة الطمأنينة في هذه الجلسة [ ([116]) ! !
         فإذا كانت الطمأنينة فضيلة فيها فكيف يقال هي جلسة خفيفة جدا لا تحتاج إلى ذكر ؟
         وقد أخرج البيهقي في سننه عن البراء بن عازب t قال : ] رمقت محمدا r في الصلاة فوجدت قيامه وركعته واعتداله بعد الركوع فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته بين التسليم والإنصراف قريبا من السواء لفظ حديث مسدد رواه مسلم في الصحيح عن أبي كامل وحامد بن عمرو إلا أنه قال في متنه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته وجلسته ما بين التسليم والإنصراف قريبا من     السواء [ ([117]) .
         ولفظ البخاري عن البراء : ] كان سجود النبيّ r وركوعه وقعوده بين السجدتين قريباً من السواء [ ([118])
         وأخرج البخاري في صحيحه أيضا عن ثابت عن أنس t قال : ( إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبيّ r يصلي بنا – قال ثابت : ] كان أنس يصنع شيئاًَ لم أركم تصنعونه – كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسيَ ، وبين السجدتين ([119]) حتى يقول القائل قد نسيَ [ ([120]) .
         وقد قال الإمام المباركفوري بنفسه : ] قوله قريباً من السواء فيه إشعار بأن فيها تفاوتاً لكنه لم يعينه وهو دال على الطمأنينة  في الإعتدال وبين السجدتين لما علم من عادته من تطويل الركوع والسجود  [ ([121]) .
         فإذا كانت الطمأنينة واجبة في الجلسة بين السجدتين ، وقد جاء وصف الجلسة بين السجدتين ، مع وصف جلسة الإستراحة – في رواية الترمذي – متساوياً حتى في الصيغة ، فما الذي فرّق بينهما فجعل الطمأنينة واجبة في الأولى ، وغير واجبة في الثانية ، ووصفها بأنها جلسة خفيفة جدا لا تحتاج إلى ذكر ؟ !

         فهناك – في هذه الحالة – إحتمالين :
-        إما أن الطمأنينة واجبة أيضا في جلسة الإستراحة ، حالها حال الجلسة بين السجدتين – ولم يقل بهذا أحد – ومن ثم فهي ليست جلسة خفيفة جداً لا تحتاج إلى ذكر .
-        أو قد وقع وهْم في ذكر جملة ( اعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ) مرتين .
وذلك لأن في هذه الحالة هي ليست جلسة خفيفة جدا ،
حيث يذكر الحديث عنها الإعتدال حتى يرجع كل عظم في موضعه ، فكيف يكون الإعتدال ورجوع كل عظم في موضعه جلسة خفيفة جداً ؟
         إذاً فهذه الجملة – التي تفيد جلسة الإستراحة – في هذا الحديث زائدة ، قد وهم الراوي في تكرارها ، وهذا ما نقول به .
        
ثم من إحصاء الذكر في الصلاة يتبين أنه ليست هناك جلسة للإستراحة .
         أخرج البخاري في صحيحه عن عكرمة قال : ] صليت خلف شيخ بمكة ، فكبّر ثنتين وعشرين تكبيرة ، فقلت لإبن عباس إنه أحمق ، فقال : ثكلتك أمك ، سنة أبي القاسم [ ([122])  .
         قال المباركفوري :
] قيل يستفاد منه ترك جلسة الإستراحة وإلا لكانت التكبيرات أربعاً وعشرين مرة لأنه قد ثبت أن النبيّ r كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود .
         وأجيب عنه بأن جلسة الإستراحة جلسة خفيفة جداً ولذلك لم يشرع فيها ذكر فهي ليست بجلسة مستقلة بل هي من جملة النهوض إلى القيام . . . [ ([123]) .





حديث أبي مالك الأشعري

         ويساند الترجيح المذكور ، ويقوي سند عيسى بن عبد الله ما رواه الإمام أحمد في مسنده : ] عن أبي مالك الأشعري t أنه جمع قومه فقال : يا معشر الأشعريين إجتمعوا واجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلمكم صلاة النبيّ r صلى لنا بالمدينة الحديث وفيه ثم كبّر وخر ساجداً ثم كبّر فرفع رأسه ثم كبّر فسجد ثم كبّر فانتهض قائماً  . . . فلما قضى صلاته أقبل إلى قومه بوجهه فقال إحفظوا تكبيري وتعلموا ركوعي وسجودي فإنها صلاة رسول الله r التي كان يصلي لنا كذا الساعة من النهار . .      . [ ([124]) .
         ذكره الإمام المباركفوري أيضا وقال :
] قيل قوله ثم كبر فسجد ثم كبر فانتهض قائماً يدل على نفي جلسة الإستراحة . وأجيب عنه بأن في إسناده شهر بن حوشب قال الحافظ في التقريب كثير الإرسال والأوهام انتهى .
         ثم هذا الحديث ليس بصريح بنفي جلسة الإستراحة ولو سلم فهو إنما يدل على نفي وجوبها لا على نفي سنيتها ثم حديث مالك بن الحويرث أقوى وأصح وأثبت من هذا      الحديث [ ([125]) .





شهر بن حوشب

         أما عن شهر بن حوشب الذي في سند حديث أبي مالك الأشعري والذي ذكره المباركفوري ، فقد إختلف فيه الأئمة بين مجرح وموثق .
         أخرج له البخاري في الأدب المفرد ، ومسلم في صحيحه والأربعة في سننهم .
         قال حرب بن إسماعيل عن أحمد : ما أحسن حديثه ووثقه ، وأظنه قال : كندي وروى عن أسماء أحاديث حساناً .
         قيل لإبن المديني : ترضى حديث شهر ؟ فقال : أنا أحدث عنه وكان عبد الرحمن يحدث عنه ، وأنا لا أدَع حديث الرجل إلا أن يجتمعا عليه يحيى وعبد الرحمن على تركه .
         وقال أبو طالب عن أحمد : عبد الحميد بن بهرام أحاديثه مقاربة هي أحاديث شهر كان يحفظها كأنه يقرأ سورة من القرآن
         وقال عثمان الدارمي : بلغني أن أحمد كان يثني على شهر .
         وقال الترمذي عن البخاري : شهر حسن الحديث وقوى أمره .
         وقال إبن أبي خيثمة ومعاوية بن صالح عن إبن معين : ثقة .
         وقال عباس الدوري عن إبن معين : ثبت .
         وقال العجلي : شامي تابعي ثقة.
         وقال يعقوب بن شيبة : ثقة على أن بعضهم قد طعن فيه .
         وقال يعقوب بن سفيان : وشهر وإن قال إبن عون تركوه فهو ثقة .
         وقال أبو زرعة : لا بأس به .
         وقال أبو جعفر الطبري : كان فقيهاً قارئاً عالماً .
         وقال أبو بكر البزار : لا نعلم أحداً ترك الرواية عنه غير شعبة .
         وقال الدار قطني : يخرج حديثه . ([126])  
         هؤلاء الأئمة وثقوه ، ونحن نغض الطرف عن توثيقهم هذا كله ، لأن هناك مَن جرحه ، ونذكر فقط قول الشيخ الألباني فيه فقد قال :
] لكن شهر بن حوشب فيه ضعف لسوء حفظه ، فيستشهد      به [ ([127]) .
         وقال الشيخ أيضاً عن سند فيه شهر بن حوشب :
 ] وهذا سند حسن لا بأس به في الشواهد ، وسنان وشهر ضعف معروف لكنهما غير متهمان [ ([128]) .
         فحديث شهر بن حوشب : ( ثم كبّر فانتهض قائماً ) سنده – على رأي الشيخ الألباني – حسن لا بأس به في الشواهد ، وهو وإن كان فيه ضعف لكنه غير متهم فيستشهد به .
         ولقد ذكر الإمام المنذري بعض حديث أبي مالك الأشعري t ، هذا الذي في سنده شهر بن حوشب ثم قال : رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم وقال : صحيح الإسناد . ([129])
         وقال الهيثمي : ] ورجاله وثقوا [ ([130])


         إذن فرواية عيسى بن عبد الله ( فقام ولم يتورك ) في حديث أبي حميد الساعدي هي أرجح من رواية عبد الحميد بن جعفر .
         والعجيب هنا هو قول الشيخ الألباني حيث يقول :
] روى البخاري في ( صحيحه ) ( 1 / 241 ) عنه r : ( أنه كان إذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام ) . . . وهذه الجلسة هي المعروفة بجلسة الإستراحة وهي سنة ، وقد رواها بضعة عشر صحابياً عند أبي داود وغيره بسند صحيح ، فلا إلتفات إلى مَن أنكر إستحبابها وزعم أنه r إنما فعلها لحاجة أو شيخوخة ! [ ([131]) .

         والعجب هو مما يلي :
1-   قوله : وقد رواها بضعة عشر صحابياً عند أبي داود وغيره بسند صحيح .
فقد يظن بعض الناس – إستناداً إلى قول الشيخ الألباني هذا – أن هناك بضعة عشر حديثاً رواها بضعة عشر صحابياً بأسانيد صحيحة عند أبي داود وغيره تثبت جلسة الإستراحة ، وبالتالي فهو حديث متواتر وصل إلى أعلى مراتب الحديث ، فهو قطعي الثبوت !
علماً بأن الذي يقصده الشيخ هو حديث واحد والذي قد
رواه صحابي واحد – وهو أبو حميد الساعدي – بإسنادين متعارضين !
         والحديث – على فرض ثبوت صحته – لا يخرج عن دائرة حديث الآحاد ، التي يحتمل الخطأ والصواب ، خلافاً للأحاديث المتواترة التي لا تقبل ذلك !
2-   قوله : فلا إلتفات إلى مَن أنكر إستحبابها  وزعم أنه
r  إنما فعلها لحاجة أو شيخوخة .
         أ – إن الذين أنكروا إستحبابها هُم – كما ذكرنا – عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير . . . وغيرهم .
         وكذلك مالك بن أنس ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي حنيفة وأصحابه . . . وغيرهم .
         فإذا كان لا إلتفات إلى أقوال كل هؤلاء الأئمة من الصحابة وغيرهم فإلى مَن يلتفت المسلم إذن ؟ يعني هل نحن أعلم بالسنة منهم كل هؤلاء جميعا ؟

         ب – وأي دليل في هذا الحديث إستنبطه الشيخ حتى يقول قوله هذا ؟ هل فيه أنه r لم يجلس هذه الجلسة لحاجة أو شيخوخة ؟
         غاية ما في هذا الحديث أنه r كان إذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام ، وهذا هو حديث مالك بن الحويرث ، والذي لم ينكره أحد ، وإنما أثبتوه وأوّلوهُ بأنه فعلها رسول الله r لحاجة أو شيخوخة .
         وهل إن الصحابة الذين كانوا في ذلك المجلس ، أعلم من أولئك الصحابة الذين أنكروا إستحباب جلسة الإستراحة ، حتى يقول الشيخ ذلك ؟
         أبو أسيد وسهل الساعدي وأبو هريرة وأبو قتادة و أبو حميد الساعدي وبعض الأنصار أعلم أم عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم جميعا ؟ ؟ !
         وما مصلحة مَن أنكر إستحباب جلسة الإستراحة ؟

         ولماذا هذا التشديد والإصرار في رد أقوال أولئك الأئمة الذين يقومون بالتوفيق بين سنة رسول الله r ، وبين موقف كبار أصحابه ووزرائه ، ليخرجوا لنا بتفسير منطقي جميل وقوي في الجمع بين تلك الآثار والسنن ؟ ؟ !
         أليس أولئك الصحابة الكبار والأئمة من بعدهم من  السلف ؟ بل من أئمة وكبار السلف ؟
         فلماذا نحرص على إثبات مخالفتهم لسنة رسول الله r ، أو إثبات جهلهم لسنة رسول الله r ؟ ؟
         هل هذا هو إتباعهم ؟ ! ودعوة إلى إتباعهم ؟ !


حديث المسيء صلاته

         ثالثاً / أخرج البخاري في صحيحه قال :
] . . . عن أبي هريرة أن رجلاً دخل المسجد يصلي ورسول الله في ناحية المسجد ، فجاء فسلم عليه ، فقال له : إرجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ . فرجع فصلى ثم سلم فقال وعليك ، إرجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ . قال في الثالثة فأعلِمني ، قال : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فكبّر واقرأ بما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تستوي قائماً ، ثم افعل في صلاتك كلها [ ([132]) .


         هذا حديث صحيح صريح ، يدل على أن جلسة الإستراحة ليست من سنن الصلاة ، وليس ذلك لأنها لم تُذكر فيه ، فقد يعترض المخالف فيقول : إن هذا الحديث قد إقتصر على بيان الواجبات دون السنن ، حيث أن السنن لم تذكر فيه مثل وضع اليد اليمنى على اليسرى والتعوذ ودعاء الإفتتاح وتكبيرات الإنتقالات وتسبيحات الركوع والسجود و . . . الخ .
         فهل يعتبر كل ذلك ليس من سنن الصلاة لأنه لم يذكر  فيه ؟
         قال الإمام النووي :
] وليعلم أولاً أنه محمول على بيان الواجبات دون السنن [ ([133]) .
         وقال الإمام الشوكاني :
] وقد علم أن النبيّ r إقتصر على ذكر الفرائض في حديث المسيء ] ([134]) .
         ونحن لم نستدل على عدم سنيتها بعدم ذكرها في الحديث بل دليلنا هو قول النبيّ r في آخر السجدة الثانية : [ ثم ارفع حتى تستوي قائماً ] .
         فلو كانت جلسة الإستراحة بهذه المكانة التي يهتم بها مَن يذهب إليها لكان – على أقل تقدير – يسكت عنها النبيّ r ، لا أن يأمر بخلافها ؟ !
         كما نرى أن النبيّ r هنا – وهو في معرض بيان – يأمر بخلاف جلسة الإستراحة ( ثم ارفع حتى تستوي قائماً ) !
         وهذا الموضوع هنا ليس كبقية المواضيع من السنن والهيئات التي سكت عنها النبيّ r ، وثبتت سنيتها بأحاديث أخرى خارج هذا الحديث .
         وذلك لأن النبيّ r لم يسكت عنها – كما ذكرنا – بل تحدث عنها وبيّن أن الواجب هو الرفع من السجود إلى القيام ، وليس إلى الجلوس ! !
         وأن هذا الذي علّمه النبيّ r للمسيء صلاته هو ما كان يفعله r ويداوم عليه !
         قال الإمام الشوكاني في شرحه لحديث مالك بن الحويرث t : ( أن النبيّ r قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) رواه أحمد والبخاري . . .
         قال :[ الحديث يدل على وجوب جميع ما ثبت عنه r في الصلاة من الأقوال والأفعال ، ويؤكد الوجوب كونها بياناً لمجمل قوله ( أقيموا الصلاة ) وهو أمر قرآني يفيد الوجوب وبيان المجمل الواجب واجب كما تقرر في الأصول إلا أنه ثبت أنه r إقتصر في تعليم المسيء صلاته على بعض ما كان يفعله ويداوم عليه فعلمنا بذلك أنه لا وجوب لما خرج عنه من الأقوال والأفعال لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول بالإجماع . . . ] ([135]) .
         وموضع الشاهد هو أن النبيّ r علّم المسيء صلاته بعض ما كان هو يفعله ويداوم عليه r ، ومن ضمن ذلك ( الرفع من السجود إلى القيام ) !


حديث أبي داود

         أما عن قول الشيخ الألباني بأن حديث جلسة الإستراحة قد رواه أبو داود ، فنقول :
1-   ذكر أبو داود في ( باب النهوض في الفرد ) نفس حديث البخاري ، والذي مداره على الصحابي مالك بن الحويرث t . وقد سبق الحديث عنه .
2-   أما الحديث الذي أشار إليه الشيخ ( أي حديث أبي حميد الساعدي ) فقد ذكره أبو داود في ( باب إفتتاح الصلاة ) ، ولم يذكره في ( باب النهوض في    الفرد ) والذي ذكر تحته ثلاث روايات عن نفس الصحابي ( مالك بن الحويرث ) تثبت جلسة الإستراحة !  
       فلماذا لم يذكر أبو داود الحديث الذي أشار إليه الشيخ في   ( باب النهوض في الفرد ) وإنما ذكره في ( باب إفتتاح      الصلاة ) ؟ هل لأنه لم يفهم منه ، ولم يستنبط منه جلسة الإستراحة ؟ ؟
3-   والإمام الطحاوي أيضا لم يستنبط من حديث أبي حميد جلسة الإستراحة ، بل قال : [ ليس في حديث أبي حميد جلسة الإستراحة ] ([136]) .
4-   وأخرج البخاري حديث أبي حميد الساعدي t ولم يذكر فيه جلسة الإستراحة . ([137])
5-   ذكر أبو داود – بعد الحديث الذي أشار إليه الشيخ – وجهاً آخر له ، ولم يذكر فيه جلسة الإستراحة ، بل ينفيها صراحة كما سبق ذكره . حيث قال : [ فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه وصدور قدميه وهو ساجد ، ثم كبّر فجلس فتورك ونصب قدمه الأخرى ، ثم كبّر فسجد ، ثم كبّر فقام ولم يتورك ] ([138]) .
وقد قال الحافظ إبن حجر :
 [ ولم تتفق الروايات عن أبي حميد على نفي هذه الجلسة كما يفهمه صنيع الطحاوي بل أخرجه أبو داود أيضا من وجه آخر عنه بإثباتها ] ([139]) .
         نقول : حتى لو ذكرت جلسة الإستراحة في حديث أبي حميد فتحمل على ما حملت عليه حديث مالك بن الحويرث t ، وذلك جمعاً بين الأخبار .


  

الشافعي وجلسة الإستراحة

         أما عن قول الشيخ الألباني : ( وقد قال به الشافعي ) فقد قال الإمام الشوكاني : [ وقد ذهب إلى ذلك الشافعي في المشهور عنه ]([140]) .
         والغريب أن الإمام الصنعاني يقول عكس ذلك ، حيث قال : [ وقد ذهب إلى القول بشرعيتها الشافعي في أحد قوليه وهو غير المشهور عنه .
         المشهور عنه وهو رأي الهادوية والحنفية ومالك وأحمد وإسحاق أنه لا يشرع القعود مستدلين بحديث وائل بن حجر في صفة صلاته r بلفظ ( فكان إذا رفع رأسه من السجدتين إستوى قائماً ) أخرجه البزار من حديث النعمان ابن أبي عياش ( أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله r فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس ) ] ([141])

         وقال أبو قدامة المقدسي : [ وهو أحد قولي          الشافعي ] ([142])


  

الإمام أحمد وجلسة الإستراحة

         أما عن قول الشيخ الألباني : [ وعن أحمد نحوه كما في   ( التحقيق ) ( 111 / 1 ) ] .
         فقد كان الإمام أحمد يذهب أولاًً إلى عدم إستحباب جلسة الإستراحة ، ثم رجع إلى القول بها لما سمع حديث مالك بن الحويرث .
         وأن كل مَن ذهب إلى جلسة الإستراحة معتمده الأساس هو حديث مالك بن الحويرث . وقد نوقش حديث مالك t .

         أما قول الشيخ : [ وهو الأحرى به ، لما عُرف به من الحرص على اتباع السنة التي لا معارض لها ] . نقول :
1-   إن أئمة السلف الصالح كلهم كانوا حريصون على إتباع السنة ولا سيما التي لا معارض لها . فليست هذه صفة خاصة بالإمام أحمد وحده رحمهم الله جميعاً .
2-   إن القول أن جلسة الإستراحة سنة لا معارض لها قول غير صحيح كما تبين ذلك سابقاً .

أما قول الشيخ : [ وقد قال ابن هانيء في ( مسائله ) عن
( الإمام أحمد ) : ( رأيت أبا عبد الله - أي الإمام أحمد – ربما يتوكأ على يديه إذا قام في الركعة الأخيرة ، وربما استوى جالساً ثم ينهض ) ] .
فهذا لا يدل على أرجحية جلسة الإستراحة عند الإمام أحمد أبداً ، بل هو واضح جداً في أنه رحمه الله كان يرى الرأيين ، فأحياناً يقوم من السجدة الأخيرة معتمداً على يديه مباشرة من غير أن يجلس جلسة الإستراحة ، وأحياناً أخرى كان يجلس ثم ينهض .
ثم إن قيام الإمام أحمد من السجدة الأخيرة مباشرة من غير جلسة الإستراحة معتمداً على يديه ، قد ورد ذلك عن إبن عمر رضي الله عنهما ، فقد [ روى عبد الرزاق عن إبن عمر أنه كان يقوم إذا رفع رأسه من السجدة ، معتمداً على يديه قبل أن يرفعهما ] ([143]) .
ولربما كان الإمام أحمد في جلوسه جلسة الإستراحة ، له أسبابه الخاصة ، من تعب أو مرض أو ضعف ، فيفعل ما كان يفعله رسول الله r في تلك الحالة .
أما عندما يكون صحيحا أو نشطاً فلا يجلس ، بل يقوم مباشرة إقتداءً بالنبيّ r في ذلك .
قلنا هذا تفسيراً لقول إبن هانيء في ( مسائله ) .


الإمام إسحاق بن راهويه وجلسة الإستراحة

أما قول الشيخ الألباني : [ وهو إختيار الإمام إسحاق بن راهويه فقد قال في ( مسائل المروزي ) ( 1 / 147 / 2 )           ( مضت السنة من النبيّ r أن يعتمد على يديه ، ويقوم شيخاً كان أو شاباً ) ] .
فلا يدل هذا القول على جلسة الإستراحة ، أو أنه قول غير صحيح ، وذلك لأن الإمام إسحاق بن راهويه هو من الذين يرون عدم مشروعية جلسة الإستراحة . ذكر ذلك عنه الأئمة من غير أي شك ! ([144]) .
وقول الإمام إسحاق هذا ليطابق ما ذكرناه عن إبن عمر رضي الله عنهما ، وما ذكره الشيخ عن الإمام أحمد من مسائل إبن هانيء في شطره الأول .
ومعنى قوله هو : أنه يرى أن رسول الله r كان يعتمد على يديه إذا نهض من السجدة الأخيرة ، لا على ركبتيه .
وليس فيه أنه r كان يجلس ثم ينهض .


حديث المسيء صلاته وجلسة الإستراحة

         أما عن حديث المسيء صلاته الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة r ، فقد قال الإمام البخاري عقبه :
[ وقال أبو أسامة في الأخير ( حتى تستوي قائماً ) ] ([145]) .
     أي بدل قوله ( حتى تطمئن جالساً ) .

     قال الحافظ إبن حجر العسقلاني :
[ قوله ( وقال أبو أسامة في الأخير : حتى تستوي قائماً ) وصل المصنف – يقصد البخاري – رواية أبي أسامة هذه في كتابه الأيمان والنذور كما سيأتي .
     وقد بيّنت في صفة الصلاة النكتة في إقتصار البخاري على هذه اللفظة من هذا الحديث وحاصله أنه وقع هنا في الأخير ( ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ) فأراد البخاري أن يبيّن أن راويها خولف فذكر رواية أبي أسامة مشيراً إلى ترجيحها .
     وأجاب الداودي عن أصل الإشكال بأن الجالس قد يسمى قائماً لقوله تعالى : ( ما دمت عليه قائماً ) .
     وتعقبه إبن التين بأن التعليم إنما وقع لبيان ركعة واحدة والذي يليها هو القيام . يعني فيكون قوله حتى تستوي قائماً هو المعتمد .
     وفيه نظر لأن الداودي عرف ذلك وجعل القيام محمولاً على الجلوس واستدل بالآية ، والإشكال إنما وقع في قوله في الرواية الأخرى ( حتى تطمئن جالساً ) وجلسة الإستراحة على تقدير أن تكون مرادة لا تشرع الطمأنينة فيها ، فلذلك إحتاج الداودي إلى تأويله لكن الشاهد أتى به عكس المراد ، والمحتاج إليه هنا أن يأتي بشاهد يدل على أن القيام قد يسمى جلوساً .


     وفي الجملة المعتمد الترجيح كما أشار إليه البخاري وصرح به البيهقي ، وجوّز بعضهم أن يكون المراد به التشهد والله  أعلم ] ([146]) .
     أي إن الإمام البخاري رجح رواية ( حتى تستوي قائماً ) على رواية ( حتى تستوي جالساً ) ، وكذلك الحافظ إبن حجر والإمام البيهقي !
    

     وقال الحافظ إبن حجر العسقلاني أيضاً :
[ ( تنبيه ) : وقع في رواية إبن نمير في الإستئذان بعد ذكر السجود الثاني ( ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ) وقد قال بعضهم : هذا يدل على إيجاب جلسة الإستراحة ولم يقل به أحد ، وأشار البخاري إلى أن هذه اللفظة وَهْم ، فإنه عقبه بأن قال ( قال أبو أسامة في الأخير حتى تستوي قائماً ) ويمكن أن يحمل إن كان محفوظاً على الجلوس للتشهد ، ويقويه رواية إسحاق المذكورة قريباً ، وكلام البخاري ظاهر في أن أبا أسامة خالف إبن نمير ، لكن رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة كما قال إبن نمير بلفظ ( ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم اقعد حتى تطمئن قاعداً ، ثم افعل ذلك في كل ركعة ) .
     وأخرجه البيهقي من طريقه وقال : كذا قال إسحاق بن راهويه عن أبي أسامة والصحيح رواية عبيد الله بن سعيد أبي قدامة ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ ( ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تستوي قائماً ) ثم ساقه من طريق يوسف بن موسى كذلك ] ([147]) .








التابعين وجلسة الإستراحة

     أخرج الإمام البخاري في صحيحه حديث مالك بن الحويرث t في باب ( المكث بين السجدتين ) فجاء فيه :
[ . . . قال أيوب : كان يفعل شيئاً لم أرهم يفعلونه ، كان يقعد في الثالثة و الرابعة ] ([148]) .
     قال الحافظ إبن حجر في شرحه لهذا الحديث :
[ والمراد منه بيان جلسة الإستراحة ] ([149]) .
     فقوله ( لم أرهم يفعلونه ) – وهو يقصد جلسة الإستراحة – يدل على قلة من ذهبوا إليها .

     و [ قال أبو قلابة ورأيت شيخنا عمرو بن سلمة يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى والثالثة التي لا يقعد فيها إستوى قاعداً ثم         قام .. ] ([150]) .
     ولهذا قال الترمذي : وعليه العمل عند أهل العلم . ([151])
أي لا يجلسون جلسة الإستراحة .
     قال الإمام الطحاوي :
[ . . . وفي حديث مالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه في كلام أيوب أن ما كان عمرو بن سلمة يفعل من ذلك لم يكن يرى الناس يفعلونه وهو فقد رأى جماعة من جملة التابعين فذلك حجة في دفع ما روي عن أبي قلابة عن مالك أن يكون سنة . . . ] ([152]) .

أقوال أهل العلم

1-   قال الإمام أبو قدامة المقدسي :
[ واختلفت الرواية عن أحمد هل يجلس للإستراحة فروي عنه لا يجلس وهو إختيار الخرقي ، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس ، وبه يقول مالك والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي .
     وقال أحمد : أكثر الأحاديث على هذا وذكر عن عمر وعلي وعبد الله ، وقال النعمان إبن أبي عياش : أدركت غير واحد من أصحاب النبيّ r يفعل ذلك أي لا يجلسون . قال الترمذي : وعليه العمل عند أهل العلم . وقال أبو الزناد : تلك السنة .        ( والرواية الثانية ) أنه يجلس ، إختارها الخلال وهو أحد قولي الشافعي .
     قال الخلال : رجع أبو عبد الله إلى هذا يعني ترك قوله بترك الجلوس لما روى مالك بن الحويرث أن النبيّ r كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض ، متفق عليه . وذكره أيضاً أبو حميد في صفة صلاة رسول الله r وهو حديث حسن صحيح فيتعين العمل به والمصير إليه .
     وقيل إن كان المصلي ضعيفاً جلس للإستراحة لحاجته إلى الجلوس ، وإن كان قوياً لم يجلس لغناه عنه .
     وحمل جلوس النبيّ r على أنه كان في آخره عمره عند كبره وضعفه ، وهذا فيه جمع بين الأخبار وتوسط بين      القوانين ] ([153]) .

     2 – وقال الإمام البدر العيني :
[ ( أي حديث مالك بن الحويرث ) دليل على شرعية جلسة الإستراحة ، وقال الطحاوي ليس في حديث أبي حميد جلسة الإستراحة وساقه بلفظ ( فقام ولم يتورك ) وأخرجه أبو داود كذلك .
     قال الطحاوي : فلما تخالفا الحديثان إحتمل أن يكون ما فعله في حديث مالك لعلة كانت به فقعد من أجلها لا لأن ذلك من سنة الصلاة .
     وقال أيضاً : لو كانت هذه الجلسة مقصودة لشرع لها ذكر مخصوص .
     وقال الكرماني : الأصل عدم العلة . ولأن هذه الجلسة للإستراحة والصلاة غير موضوعة لتلك .
     وقال بعضهم : إن مالك بن الحويرث هو راوي حديث        ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فحكاياته لصفات صلاة النبيّ r داخلة تحت هذا الأمر .
     ( قلت ) هذا لا ينافي وجود العلة لأجل هذه الجلسة . وبقولنا قال مالك وأحمد وفي التمهيد : إختلف الفقهاء في النهوض عن السجود إلى القيام فقال مالك و . . . ] ([154]) . إلخ ما سبق      نقله ([155]).
     3 – قال الإمام الصنعاني :
[ ويُجاب عن الكل بأنه لا منافاة إذ مَن فعلها سنة ومَن تركها كذلك ] ([156]) .

     4 – وقال الإمام أبو المحاسن :
[ هذه مسألة إختلف فيها فطائفة تأمر المصلي بهذه الجلسة منهم الشافعي ومَن سواهم من الكوفيين وفقهاء الحجاز لا يعرفون هذه الجلسة ولا يأمرون بها ] ([157]) .

     5 – وأخيراً قال الإمام إبن القيم :
[ ثم كان r ينهض على صدور قدميه وركبتيه معتمداً على فخذيه كما ذكر عنه وائل بن حجر وأبو هريرة لا يعتمد على الأرض بيديه ، وقد ذكر عنه مالك بن الحويرث أنه كان لا ينهض حتى يستوي جالساً . وهذه هي التي تسمى جلسة الإستراحة .
     واختلف الفقهاء فيها : هل هي من سنن الصلاة فيستحب لكل أحد أن يفعلها أو ليست من السنن وإنما يفعلها من إحتاج إليها على قولين هما روايتان عن أحمد رحمه الله . قال الخلال رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الإستراحة .
     وقال أخبرني يوسف بن موسى أن أبا أمامة سئل عن النهوض فقال على صدور القدمين على حديث رفاعة ، وفي حديث إبن عجلان ما يدل على أنه كان ينهض على صدور قدميه وقد روي عن عدة من أصحاب النبيّ r ، وسائر مَن وصف صلاته r لم يذكر هذه الجلسة ، وإنما ذكرت في حديث أبي حميد ومالك بن الحويرث ولو كان هديه r فعلها دائماً لذكرها كل واصف لصلاته r ، ومجرد فعله r لنا لا يدل على أنها من سنن الصلاة إلا إذا علم أنه فعلها سنة يُقتدى به فيها ، وأما إذا قدر أنه فعلها للحاجة لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة .
     فهذا من تحقيق المناط في هذه المسألة ] ([158]) .