قضية الغناء والموسيقى قضية قديمة جديدة، ومن أكثر العلماء المعاصرين الذين كتبوا فيها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وأهم ما كتبه في الموضوع كتابه: (فقه الغناء والموسيقى) لأنه استقصى الموضوع من معظم أطرافه، وناقشه نقاشا مستفيضا، من حيث نقاش أدلة من حرموه، سواء كانت هذه الأدلة من الكتاب أو السنة، وذكر أدلة المجيزين وهو منهم، والضوابط المهمة لذلك، والكتاب مهم جدا لمن يريد أن يقف على الموضوع دينيا، من فقيه يعتبر رائدا لمدرسة الوسطية الإسلامية المعاصرة.
نقاش لأدلة المحرمين للغناء والموسيقى:
ناقش القرضاوي أدلة المحرمين، والتي استندت لآيات وأحاديث، فقد استند المحرمون للغناء والموسيقى إلى خمسة آيات قرآنية هي: قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) لقمان:6. فقد صح عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: أن (لهو الحديث) في الآية هو الغناء. وقوله تعالى في مدح المؤمنين: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه). قالوا: والغناء من اللغو، فوجب الإعراض عنه. وقوله تعالى في سورة الفرقان، وفي وصف عباد الرحمن (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما) الفرقان:72. والآية الرابعة التي يذكرها المانعون للغناء، قوله تعالى في سورة الإسراء في خطاب إبليس لعنه الله: (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا، واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك..) الإسراء:63-64. والآية الخامسة: (أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون، وأنتم سامدون) النجم:59-61.
وقد فند القرضاوي كل هذه الأدلة، وأنها ليست في الغناء والموسيقى، وليست حجة قوية في التحريم، لأنها تفسير لصحابي قال بهذا القول، وأقوال الصحابة ليست حجة ملزمة، لعدة أسباب أهمها: أن الحجة القرآن والسنة، وأن تفسيرات الصحابة هي معينات على فهم النص وليست نصا، كما أن هذه التفسيرات للصحابة خالفها تفسير آخر لصحابة آخرين لم يقولوا بنفس قولهم، كما أن في بعض الآيات ما يدل على أن من يفعل ذلك فقد كفر، كقوله تعالى: (ليضل عن سبيل الله) ولم يقل أحد من الأمة كلها أن الغناء كفر يخرج من الملة، مما يعني أن تفسير الآيات بالغناء لا يسلم من اعتراضات وجيهة وقوية، مفندا هذه الاستدلالات بنقاشات علمية مهمة، انتهى فيها لعدم صحة الاستدلال بهذه النصوص على التحريم.
وأما أدلة المحرمين من السنة النبوي فإن أبرز حديث يذكره المحرمون في هذا المقام هو حديث (المعازف) الذي كثر فيه الكلام، واشتد حوله الخصام. وهو الحديث الذي ذكره البخاري في صحيحه (معلقا) عن هشام بن عمار بسنده إلى أبي عامر أو أبي مالك الأشعري، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف" والمعازف: الملاهي، أو آلات العزف.
والحديث وإن كان في صحيح البخاري، إلا أنه من "المُعَلَّقَات" لا من "المسندات المتصلة" ولذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده، ومع التعليق فقد قالوا: إن سنده ومتنه لم يسلما من الاضطراب، ودلالته على التحريم غير صريحة. والشرع قد شدد في التحريم حتى لا يتوسع الناس فيه، ويحرموا زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق.
وقد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحديث، ووصله بالفعل من تسع طرق، ولكنها جميعا تدور على راو تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد، ألا وهو: هشام بن عمار. وهو ـ وإن كان خطيب دمشق ومقرئها ومحدثها وعالمها، ووثقه ابن معين والعجلي ـ فقد قال عنه أبو داود: حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها.
ورغم ما في ثبوت الحديث من الكلام، ففي دلالته كلام آخر؛ فكلمة "المعازف" لم يُتفق على معناها بالتحديد: ما هو؟ فقد قيل: الملاهي، وهذه كلمة مجملة، وقيل: آلات العزف.
ولو سلمنا بأن معناها: آلات الطرب المعروفة بآلات الموسيقى. فلفظ الحديث المعلق في البخاري غير صريح في إفادة حرمة "المعازف" لأن عبارة "يستحلون" ـ كما ذكر ابن العربي ـ لها معنيان: أحدهما: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن تكون مجازا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور؛ إذ لو كان المقصود بالاستحلال: المعنى الحقيقي، لكان كفرا، فإن استحلال الحرام المقطوع به ـ مثل الخمر والزنى المعبَّر عنه بـ"الحِرِ" ـ كفر بالإجماع.
ملاحظات على القائلين بالتحريم:
وبعد أن فند القرضاوي أدلة المحرمين التي استندوا إليها دون عدة ملاحظات مهمة يأخذها على القائلين بتحريم الغناء والموسيقى، وهي:
أولها: إغفالهم للأدلة المبيحة للغناء، سواء كانت من نصوص الشرع، أم من قواعده ومقاصده ـ وقد فصلناها في موضعها ـ واعتمادهم على أدلة أقل ما يقال فيها: إنها لا تثبت على النقد، فليس فيها نص واحد صحيح الثبوت، صريح الدلالة.
كما أن المعاصرين منهم أغفلوا ظروف العصر، وواقع الناس، وتطور حاجاتهم، وعموم البلوى بأمر الغناء والموسيقى، وخصوصا لدى الأمم والشعوب الأوربية، والأمريكية، والأفريقية، وقد جاء الإٍسلام رسالة عامة، لكل العالمين، من شرق وغرب، ومن عجم وعرب.
وثانيتها: أن بعضهم بالغ في التحريم حتى انتهى به إلى درجة (الكبيرة). وهذه مبالغة غير مقبولة في أمر اختلف فيه الفقهاء، حتى قال من قال بكراهته، مجرد كراهته، ومن قال بإباحته، بل من قال باستحسانه واستحبابه.
ومن قال بحرمته، فلا يتصور أن يصل به إلى درجة الكبائر الموبقات، مثل القتل والزنى وشرب الخمر، وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
ومن المبالغات في موضوع الغناء: أن بعض المتحمسين لتحريمه، لم يكتف بأن يجعله من صغائر المحرمات، حتى أدخله في الكبائر! بل هناك من حكم على من استحل الغناء بالكفر، والعياذ بالله!
ولو قيل: إنه حرام، ولكنه من الصغائر، لكان الأمر أهون، فإن الصغائر تكفرها الحسنات مثل الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان وقيامه، والصدقة، ونحوها. وفي الحديث الصحيح: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
أدلة المجيزين للغناء والموسيقى:
بعد تفنيد القرضاوي أدلة المحرمين، بين أنه يكفي الرد بأنه لا دليل على التحريم، فيكون الغناء والموسيقى مباحا بقاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة، ولكنه ذكر نصوصا من القرآن والسنة، من أهمها الآيات التي تتحدث عن حل الطيبات وتحريم الخبائث، وإباحة ما هو من باب الزينة، وأما من السنة النبوية فقد ذكر عدة أدلة من أهمها: حديث عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر دخل عليها، وعندها جاريتان تغنيان بدفين، وتغنيان في أيامهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستتر بثوبه، فنهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله ثوبه، وقال: "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد. قالت عائشة: ولما قدم وفد الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاموا يلعبون في المسجد، فرأيت رسول الله يسترني بردائه، وأنا أنظر إليهم، وهم يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأمه. فاقدروا قدر الجارية حديثة السن، الحريصة على اللهو".
وحديث آخر ذكره الجد ابن تيمية في (المنتقى) باب ضرب النساء بالدف لقدوم الغائب وما في معناه ذكر فيه حديث بريدة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت ـ إن ردك الله سالما ـ أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، قال لها: إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر، فألقت الدف تحت إستها، ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب؛ فدخل أبو بكر وهي تضرب؛ ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب؛ فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف" رواه أحمد والترمذي وصححه.
واستدل بمقاصد الشريعة كذلك التي تدل على إباحة الغناء والموسيقى.
تعقيبات وملاحظات:
كما وضع القرضاوي تعقيبات وملاحظات مهمة بعد بيانه للأدلة التي تدل على جواز الغناء والموسيقى، وهي:
1ـ ليس في تحريم الغناء نص صحيح صريح.
2ـ لا يحرم الله طيبا في الإسلام.
3ـ مراعاة أنواع الناس واتجاههم والفوارق بينهم.
4ـ مراعاة تحسين صورة الإسلام في أعين الآخرين.
5ـ وجوب النظرة الموضوعية بعيدا عن العاطفة والانفعالية.
6ـ مراعاة المخففات في الموضوع، مثل: عموم البلوى، ودخول الموسيقى والغناء في جل حياة الناس.
هل وجد في عصر النبوة والصحابة مغنون أو مغنيات؟
وقد أجاب القرضاوي عن السؤال، بأن من مجموع النصوص والآثار التي وردت في الغناء، أنه وجد مغنون ومغنيات في عهد النبوة والصحابة، وهن كالتالي:
الأولى: ما يتبين مما سبق ذكره من رواية النسائي: أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة: هل تعرفين هذه؟ قالت: لا. قال: إنها قينة بني فلان. تحبين أن تغني لك؟ فغنت لها.
والثانية: (أرنب) وقد ترجم لها الحافظ ابن حجر في (الإصابة في تمييز الصحابة) حيث قال: (أرنب) المدنية المغنية... روينا ـ في الجزء الثالث من أمالي المحاملي،رواية الأصبهانيين من طريق ابن جريج:أخبرني أبو الأصبع:أن جميلة المغنية أخبرته أنها سألت جابر بن عبد الله عن الغناء،فقال:نكح بعض الأنصار بعض أهل عائشة،فأهدتها إلى قباء،فقال النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم:أهديت عروسك؟قالت:نعم.قال:فأرسلت معها بغناء،فإن الأنصار يحبونه؟ قالت: لا. قال: فأدركيها بأرنب: امرأة كانت تغني بالمدينة.ومعنى هذا: أن هذه المرأة كانت معروفة لدى الرسول صلى الله عليه وسلم.
والثالثة: حمامة. ذكرها في الإصابة أيضا. قال: (حمامة) المغنية من جواري الأنصار. ذكرت في حديث عائشة: لما دخل أبو بكر عليها، في يوم عيد، وعندها جاريتان تغنيان سمى منهما (حمامة) في رواية فليح لابن أبي الدنيا عن هشام عن أبيه عن عائشة.
والرابعة: (سيرين) جارية حسان بن ثابت شاعر الرسول المعروف، وقد ترجم لها ابن حجر في (الإصابة) كذلك، وقال: إنها أم ولد حسان. وأن أمير القبط أهدى لرسول الله جاريتين أختين، إحداهما: (مارية) التي تسراها الرسول الكريم وولدت له ابنه إبراهيم، والثانية (سيرين) أعطاها حسانا فولدت له ابنه عبد الرحمن.
موقف القرضاوي من الغناء المشتمل على عري:
ولقد أشاع بعض الناس عني أني أبيح الغناء بإطلاق، فهذا محض افتراء، وما قلت ذلك قط، لا مشافهة ولا تحريرا.
ومن قرأ ما كتبته من قديم في كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) أو ما كتبته في كتابي (فتاوى معاصرة) أو ما كتبته في فصل (اللهو والفنون) من كتابي (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده) وكذلك في رسالة (الإسلام والفن) من رسائل ترشيد الصحوة الإسلامية.. من قرأ ذلك كله، فسيرى بوضوح أني لم أطلق الإباحة يوما ما، بل قيدت الإباحة بقيود، وضبطتها بضوابط، من حيث الكم، ومن حيث الكيف، ومن حيث المضمون، ومن حيث الشكل والأداء. ومن حيث ما يصحب الغناء من أمور قد تنقله من الحل إلى الحرمة، ومن الجواز إلى المنع.
وبهذا أعلن من أول الأمر أن الغناء بصورته التي يقدم بها اليوم في معظم التليفزيونات العربية والقنوات الفضائية، مما يصحبه من رقص وخلاعة وصور مثيرة لفتيات مائلات مميلات، كاسيات عاريات، أو عاريات غير كاسيات، أصبحت ملازمة للأغنية الحديثة.. الغناء بهذه الصورة قد غدا في عداد المحرمات بيقين، لا لذاته، ولكن لما يصحبه من هذه المثيرات والمضلات. فقد تحول الغناء من شيء يسمع إلى شيء يرى، وبعبارة أخرى: تحول من غناء إلى رقص خليع.
قيود وضوابط لا بد من مراعاتها:
وقد وضع القرضاوي ضوابط وقيود مهمة في قضية سماع الغناء والموسيقى، وهي:
1ـ سلامة مضمون الغناء من المخالفة الشرعية.
2ـ سلامة طريقة الأداء من التكسر والإغراء.
3ـ عدم اقتران الغناء بمحرم.
4ـ تجنب الإسراف في السماع.
لا إنكار في المسائل الاجتهادية:
وختم القرضاوي كتابه بمبحث مهم، وهو أن قضية مختلف فيها كقضية الغناء والموسيقى، على من يقتنع برأي فيها ألا ينكر على المخالف له، فكل دليله، ويكفي النقاش العلمي الهادئ، هذا فضلا عن أن يكون عنيفا في تناوله للمخالف. وقد دلل القرضاوي على ذلك بنقول مهمة من التراث عن ابن رجب وابن تيمية ابن القيم والسيوطي وغيرهم.