بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد الله رب العالمين ، والصلاة
والسلام على رسول الله محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وعلى مَن اتّبع
هداه ، إلى يوم الدّين .
أما بعد .
فإنّه ليشرّفني – وأنا لا أرتقي إلى هذا المقام – أن أكون درعاً لردّ بعض
السهام المصوّبه نحو عملاق الفكر الإسلامي
في هذا العصر ، وشهيد الإسلام ، الأستاذ الكبير سيّد قطب ، رحمه الله تعالى .
إنّي وإن كنتُ لا أصلح أن أكون خادماً للشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ،
ولكنّي كما قال الشاعر أبو
ذؤيب الهذلي ([1]) ، رحمه الله :
أسير خلف ركاب النجب ذا عرج مؤملا كشف ما لا قيت من عوج
فإن لحقت بهم من بعدما سبقوا فكم لرب الورى في ذاك من فرج
و إن بقيت بظهر الأرض منقطعا فما على عرج في ذاك من حرج
أسأل الله تعالى ، بفضله وكرمه ورحمته ، أن يحشرني مع سيّد قطب ، رحمه الله
، تحت راية رسول الله r .
ويعلم الله تعالى ، أنّي أحبّ سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ، وأعلم مدى
المؤامرة ضدّه لتشويه سمعته واسمه ، وهو الذي أيقظ المسلمين الأذكياء ، وفضح
الفاسدين والطغاة الجبّارين المتألهين ، وبيّن جمال وقوة وحقيقة الإسلام العظيم
بكتاباته ، وأعماله وحياته .
ولقد رأيت – قبل سنوات عدة – فيما يرى النائم ؛ أني كنت في قرية ، وكان يوم
الجمعة ، ولم يبق لصلاة الجمعة إلا القليل ([2]) ، وقالوا : إنّ رسول الله r يخطب خطبة الجمعة هنا .
وقبل أن أدخل المسجد ، الذي من
المنتظر أن يخطب فيه النبيّ r ، رأيت على يسار المسجد
بعض الناس ينظرون إلى تحت ؛ حيث كان كمكان نزهة وسياحة ، قالوا : إنّ سيّد قطب هنا
، وأنا أيضاً مددت عنقي لأراه ، فما رأيته ، فقال واحد وهو واقف بجنبي : لماذا لا تنزل إليه ؟
فنزلت ، فرأيت سيّد قطب ، رحمه الله ، وعلى رأسه غطاء يغطي بعضاً من وجهه ،
فاقتربت منه ، ونظرت إليه من تحت عسى أن أرى وجهه ، فلما رأى ذلك مني ، تبسّم وكشف
وجهه ،
فسألته : هل أنت سيّد القطب ([3])
؟ فتبسّم وقال : إن شاء الله .
ثم سرنا معاً وهو يحدّثني عن عجائب مخلوقات الله تعالى ، وبينما نحن نسير
فإذا بإمرأة سافرة ، على وجهها نقاب ،
أرادت أن تخرج من حقيبتها اليدوية مسدساً ، لتقتل سيّد قطب .
فلما رأيت ذلك ، أوعزت لسيد قطب بالهرب ، ليتخلص من شرّ تلك المرأة .
فركض سيّد قطب ، والمرأة خلفه وبيدها المسدس لتقتل سيّد ، وأنا جعلت نفسي
بين سيّد قطب ، وبين تلك المرأة حتى لا
تقتل سيّد قطب ، رحمه الله . ثم استيقظت .
ومن ذلك اليوم ، وأنا في داخلي عندما أتذكّر هذه الرؤيا ، يطوف في خلدي طيف
خفيف الظلّ ؛ وهو أنّي سأدفع الشبهات ، عن الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى .
ولقد آن الأوان أن يتحقق ذلك – بإذن الله تعالى ، قبل أن أغادر هذه الدنيا
، عسى أن يكون هذا الدفاع ، مبرراً للقياه في الآخرة إن شاء الله تعالى .
أسأل الله تعالى ، العليّ العظيم ، أن يتقبّل عملي هذا ، ويجعله في ميزان
حسناتي ، يوم ألقاه سبحانه .
فإن كان ما قلته وكتبته حقّاً وصواباً ، فهذا من محض فضل الله تعالى وكرمه
، وإن كان خطأ وباطلاً فمن نفسي الأمّارة بالسوء ، ومن الشيطان ، أستغفر الله
تعالى ، منه ، وأتوب إليه ، وأسأله العفو والغفران .
حارث
همام عبد الله
السبت 18 / شعبان / 1441 هـ
11 / نيسان / 2020 م
تمهيد
مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا
كان فـي نيتي – منذ فتـرة طويلة – أن أبيّن الشبهات ، والهذيان الذي هذى به
البعض ، وهرف بما لا يعرف ، وتطاول على
مقام سيّد قطب ، رحمه الله تعالى .
حتى يعلم هو – قبل غيره – كيف فضح نفسه بنقده للعملاق سيد قطب ، وكيف بيّن
للعالمين – ذاك الطاعن – أنّه لا يفهم كلام العظماء ، ولم يفهم الإسلام العظيم –
أصلاً – كما هو ! !
وهذا جزاء مَن يحارب أولياء الله تعالى ، ومَن يطعن فيهم ، ويجعل نفسه في
خندق أعدائهم :
يقول الله تعالى ، في الحديث القدسي : (
مَنْ عَادَى لِي
وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ ) ([4])
.
[ أي أعمل به ما يعمله العدوّ المحارب من الإيذاء ونحوه ،
فالمراد لازمه وفيه تهديد شديد لأن من حاربه أهلكه ] ([5])
.
[ الْمُرَادُ
بِوَلِيِّ اللَّهِ الْعَالِمُ بِاللَّهِ الْمُوَاظِبُ عَلَى طَاعَتِهِ الْمُخْلِصُ
فِي عِبَادَتِهِ
وَقَدِ
اسْتُشْكِلَ وُجُودُ أَحَدٍ يُعَادِيهِ لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ إِنَّمَا تَقَعُ
مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَمَنْ شَأْنِ الْوَلِيِّ الْحِلْمُ وَالصَّفْحُ عَمَّنْ
يَجْهَلُ عَلَيْهِ
وَأُجِيبَ
بِأَنَّ الْمُعَادَاةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمُعَامَلَةِ
الدُّنْيَوِيَّةِ مَثَلًا
بَلْ
قَدْ تَقَعُ عَنْ بُغْضٍ يَنْشَـأُ عَنِ التَّعَصُّبِ كَالرَّافِضِـيِّ فِـي
بُغْضِهِ لِأَبِـي بَكْرٍ وَالْمُبْتَدِعِ فِي بُغْضِهِ لِلسُّنِّيِّ ] ([6]) .
وهذا الحديث القدسي [ يَقْتَضِي الزَّجْرَ عَنْ
مُعَادَاةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِمُوَالَاتِهِمْ
وَمُوَالَاةِ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ لَا تَتَأَتَّى
إِلَّا بِغَايَةِ التَّوَاضُعِ ] ([7])
.
فالويل ثم الويل ، لمن يحارب أوليـاء الله تعالـى ،
مندفعـاً ومنطلقاً من تعصّب ذميم ، يشارك أعداء الله تعالى ، في محاربته لأوليائه
سبحانه ، وهو يظن أنه ينصر الإسلام بذلك !
فلنكن صرحاء
وأنا سأكون صريحاً جداً – هنا – لأنّني أقدّس ديني ،
وأحترم نفسي والأذكياء ، ولست في مقام التعامل ، بل في مقام التقييم وبيان الحق
والحقيقة ؛ ليحيى مَن حيّ عن بيّنة ، ويهلك مَن يهلك عن بيّنة .
فالمجاملة وعدم البوح بالحقيقة – خشية عدم جرح مشاعر
الغافل ، والساهي ، والتائه ، والشارد – قد ضرّ ويضرّ كثيراً ، وأدّى إلى تضليل
كثير من الناس وخداعهم ، فضلاً عن السكوت كثيراً عن الجرح والطعن في الأئمة الكبار
، والتطاول على مقاماتهم الرفيعة !
فالله سبحانه وتعالى ، قد علّمنا – في مجال التقييم –
بالصراحة التامّة ، وعدم المجاملة والمواربة ([8])
.
فيقول سبحانه –
على سبيل المثال – حول الكافرين – في مقام التقييم :
( قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لَا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلَا أَنَا
عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) ([9])
.
فأنتم – أيها الكافرون – لكم دينكم الخاص ، وديني لا
يشبه دينكم ، فلا أنتم تعبدون الله ربّ العالمين ؛ الذي أنا أوحّده وأعبده ، ولا
أنا أعبد الأهواء والأصنام والطواغيت التي تعبدونها .
فطريقكم غير طريقي ؛ فأنتم في وادٍ ، وأنا في واد !
قال سيّد قطب ، رحمه الله تعالى :
[ لكم دينكم ولي دين . . أنا هنا وأنتم هناك ، ولا معبر ولا
جسر ولا طريق ! ! !
مفاصلة كاملة شاملة ، وتميز واضح دقيق
. .
ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح
معالم الإختلاف الجوهري الكامل ، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق .
الإختلاف في جوهر الاعتقاد ، وأصل التصور ، وحقيقة المنهج ، وطبيعة الطريق .
إن التوحيد منهج ، والشرك منهج آخر
. . ولا يلتقيان . . التوحيد منهج يتجه بالإنسان - مع الوجود كله - إلى الله وحده لا
شريك له .
ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان
عقيدته وشريعته ، وقيمه وموازينه ، وآدابه وأخلاقه ، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود
.
هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي
الله ، الله وحده بلا شريك . ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس . غير متلبسة
بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية . . وهي تسير . .
وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية
. وضرورية للمدعوين . .
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان
، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها .
وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على
الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف .
أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة
أصلا . ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى !
واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح
بالفاسد فيها ، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول
تعديل الجانب الفاسد . . وهذا الإغراء في منتهى الخطورة !
إن الجاهلية جاهلية ، والإسلام إسلام
. والفارق بينهما بعيد .
والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها
إلى الإسلام بجملته . هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل
ما فيه .
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية
وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية : تصورا ومنهجا وعملا . الانعزال الذي لا يسمح
بالالتقاء في منتصف الطريق .
والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل
أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام .
لا ترقيع . ولا أنصاف حلول . ولا التقاء
في منتصف الطريق . . مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام ، أو ادعت هذا العنوان !
وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو
حجر الأساس . شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء . لهم دينهم وله دينه ، لهم طريقهم وله
طريقه .
لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم
. ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو ، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير !
وإلا فهي البراءة الكاملة ، والمفاصلة
التامة ، والحسم الصريح . . لكم دينكم ولي دين . . ] ([10])
.
ويقول تعالى : (
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) ([11])
.
فإنّ الذين يؤلّهون عيسى ابن مريم ، عليه السلام ،
ويعتبرونه هو الله تعالى ، لا شك أنّهم كفروا بهذا الإعتقاد السقيم ، وهم ليسوا
بمؤمنين ، وليس دينهم هو ديني !
ويقول عزّ وجلّ : ( لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ
إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ([12])
.
فالنصارى الذين يعتبرون الله ثالث ثلاثة – تعالى الله
عمّا يقولون علوّاً كبيرا – لا ريب أنّهم كفروا بهذا الإيمان القبيح ، ولئن لم
يتركوا هذا المعتقد السخيف ، فسوف يعذّبهم الله تعالى ، عذاباً موجعاً !
الدعوة والتعامل
ذلك كان في مجال التقييم .
أما في مجال
الدعوة والتعامل ، فيختلف الوضع . وليس هذا الأسلوب بخداعٍ ولا كذب ولا تضليل ،
ولا جبن .
بل هو الحكمة التي أمرنا الله تعالى بها في دعوة الناس ؛
لأن النفوس معقدة ، ملتوية ، أمّارة بالسوء ، جموحة ، تحتاج للحكمة لإذعانها ،
ورجوعها وإخضاعها ، وكبح جماحها ، ورضوخها للحق
!
يقول الله تعالى – على سبيل المثال :
( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ ) ([13])
.
فلم يأمر الله تعالى – هنا – أن يُقال للكافر الجاحد :
إنّك تتخبّط في دياجير الضلالِ الواضح !
لأنّ نفسه الأمّارة بالسوء – هنا في مجال التعامل
والدعوة – سوف تأخذها العزة بالإثم ، فتتمرّد تكبّراً وجموحا !
بل دعاه إلى التفكير ، وجعل له الإحتمال بالتساوي ؛
فلابد أن يكون أحد الطرفين على هدىً ، والآخر في ضلالٍ مبين .
لأنّه من المستحيل أن يكون الطرفان على الحقّ والهدى ،
وهما متناقضان ، متعاكسان تماماً .
قال الشهيد سيد قطب ، رحمه الله تعالى ، في تفسيره للآية
الكريمة ، وما بعدها : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى
أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) :
[ وهذه غاية النصفة والإعتدال والأدب في الجدال . أن يقول رسول
الله - صلى الله عليه وسلم – للمشركين :
إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى ، والآخر
لا بد أن يكون على ضلال .
ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال
. ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم ، والرغبة في الجدال والمحال
!
فإنما هو هاد ومعلم ، يبتغي هداهم وإرشادهم
لا إذلالهم وإفحامهم ، لمجرد الإذلال والإفحام !
الجدل على هذا النحو المهذب الموحي
أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام ، المستكبرين على
الإذعان والاستسلام ،
وأجدر بأن يثير التدبر الهادئ والاقتناع
العميق . وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة . .
ومنه كذلك الإيقاع الثالث ، الذي يقف
كل قلب أمام عمله وتبعته ، في أدب كذلك وقصد وإنصاف :
قل : لا تسألون عما أجرمنا ، ولا نسأل
عما تعملون . .
ولعل هذا كان ردا على اتهام المشركين
بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه هم المخطئون الجارمون ! وقد كانوا يسمونهم
: " الصابئين " أي المرتدين عن دين الآباء والأجداد .
وذلك كما يقع من أهل الباطل أن يتهموا
أهل الحق بالضلال ! في تبجح وفي غير ما استحياء !
قل : لا تسألون عما أجرمنا ، ولا نسأل
عما تعملون . .
فلكل عمله . ولكل تبعته ولكل جزاؤه
. . وعلى كل أن يتدبر موقفه ، ويرى إن كان يقوده إلى فلاح أو إلى بوار .
وبهذه اللمسة يوقظهم إلى التأمل والتدبر
والتفكر . وهذه هي الخطوة الأولى في رؤية وجه الحق . ثم في الاقتناع. ] ([14])
.
وانظر إلى لطف التعامل : لا تسألون عما أجرمنا ، ولا نسأل عما تعملون !
أمر الله تعالى ، رسوله r ، أن
يخاطبهم – في باب التعامل – بغاية اللطف ، بحيث أسند إحتمال الإجرام إلى النبيّ
وصحبه ، ولم يصف أعمال الكفار بذلك ، وهي في غاية الإجرام والكفر ، لأن المسألة هي
التعامل ، وليس تقييماً !
وضع النقاط على الحروف
وأنا سأكون صريحاً – كما ذكرت – بلا مجاملة ، وسأحاول
وضع النقاط على الحروف .
وذلك لتوضيح وبيان الحقائق بلا غبش ولاغموض .
ويعلم الله تعالى ، أني لا أفعل ذلك لغرض الطعن ، وإشفاء
غليل النفس ، واحتقار المسلمين !
لأنّ مسألتنا عويصة ومعقّدة ومشبّكة ، لا تتّضح ولا تظهر
إلّا بجرح البعض – عرضاً لا مقصوداً .
وبيان كل حقيقة مختلف فيها ، لابد وأن يُجرح فيها البعض –
من غير قصد .
وذلك لأنّ هذا الجرح – في بيان الحقيقة ؛ للتخلّص من
الموبقات – يشبه الجرح في عملية جراحية ،
يقـوم الطبيب – بمبضعه ومشرحته – في جسد المريض ، وقطع
بضعة فاسدة منه ؛ للتخلص منها ، وإنقاذ بقية جسد المريض ، ليبقى سالماً معافى !
وفي هذه العملية لابد وأن صاحبه يتألم ويتوجّع !
والغريب في الأمر : أنّ المسلم – في هذه الحالة – لا
يشعر بأية إهانة لشخصه ، بل يشكر الطبيب ، ويزداد حبّـاً له ، علمـاً أنـه جرحه
وقطع جزءاً منه ، وفصله عن جسده وألقاه ، وجعله طريح الفراش لفترة زمنية قد تطول !
هذا في إبعاد أذية عن جسده الفاني – في هذه الدنيا –
التي تحيل إلى تراب !
أمّا في تذكير المسلم بالموبقات التي تنخر في روحه – كما
في موضوعنا – والتـي تدخل القبر معه ، وتصاحبه فـي الحساب يـوم القيامة ، وتؤدي به
إلى نقص حسـناته ، إن لم تؤدي بـه إلـى النـار ، فتراه أسداً حصوراً ، لا يقبل
الضيم – يحسبه كذلك – بل يحسب دفاعه وهجومه ، وردّ تلك التصحيحات ، لله تعالى ،
ومن أجل الإسلام العظيم !
وذلك لأنّ النفس حرون ، لا تخضع ولا تعترف بخطئها بسهولة
، فتحاول المدافعة ، والبراءة من التلبّس بالأخطاء ، وتظن كلّ إقامة لإعوجاجها طعن
وشتم لها !
( بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
. وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) ([15])
.
وهذا من النكبات ، والخذلان الذي يصيب البعض .
فإن لم يراجع نفسه ويتوب ، ويؤوب إلى الحق ، فسوف يكون
مصيره وبيلاً !
بل عليه أن يتعاون – في طلب الحق ، والسيطرة على نفسه –
ليصل إلى برّ الأمان ، وينجو بنفسه من الخطيئة في الدنيا ، والعذاب في الآخرة !
وذلك كمن ضاع منه شيء ثمين ، فإذا وجده له غيره ، وجب
عليه شكره واستقبال ذلك بالفرح والسرور ، لا أن ينسى ضالته الثمينة ، ويتفرّغ لطعن
وشتم مَن أسدى له ذلك الخير !
فهل بينه وبين الحقّ عداوة ؛ فيصرّ على أن لا يرجع إليه
ولا يعود ؟ !
ومن شروط وعلامات طلب الحق ، وإرادة رضا الله تعالى في
عمله ، هو ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي ، رحمه الله تعالى ، حيث قال :
[ السادس : أن
يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من
يعاونه
ويرى
رفيقه معيناً لا خصماً ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق كما لو أخذ طريقاً في
طلب ضالته فنبهه صاحبه على ضالته في طريق آخر فإنه كان يشكره ولا يذمه ويكرمه
ويفرح به
فهكذا
كانت مشاورات الصحابة رضي الله عنهم حتى أن إمرأة ردت على عمر رضي الله عنه ونبهته
على الحق وهو في خطبته على ملأ من الناس فقال أصابت إمرأة وأخطأ رجل
وسأل
رجل علياً رضي الله عنه فأجابه فقال ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كذا كذا فقال
أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم
واستدرك
ابن مسعود على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما فقال أبو موسى لا تسألوني عن شيء
وهذا الحبر بين أظهركم
وذلك
لما سئل أبو موسى عن رجل قاتل في سبيل الله فقتل فقال هو في الجنة وكان أمير الكوفة فقام ابن مسعود فقال أعده على
الأمير فلعله لم يفهم فأعادوا عليه فأعاد الجواب فقال ابن مسعود وأنا أقول إن قتل
فأصاب الحق فهو في الجنة فقال أبو موسى الحق ما قال
وهكذا
يكون إنصاف طلب الحق
ولو
ذكر مثل هذا الآن لأقل فقيه لأنكره واستبعده وقال لا يحتاج إلى أن يقال أصاب الحق
فإن ذلك معلوم لكل أحد
فانظر
إلى مناظري زمانك اليوم كيف يَسْوَدّ وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه
وكيف
يخجل به وكيف يجهد في مجاحدته بأقصى قدرته وكيف يذم من أفحمه طول عمره ثم لا يستحي
من تشبيه نفسه بالصحابة رضي الله عنهم في تعاونهم على النظر في الحق ] ([16])
.
إختلاط الحابل بالنابل
هناك أمران مختلفان ، بينهما فرق كبير وواضح ، وهما :
التقييم والتعامل
فالتقييم شيء – كما ذكرنا – والتعامل شيءٌ آخر .
ولا يُبنى التعامل – في الإسلام – على التقييم أبداً .
وهذا ما يجهله خصوم الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى .
فقد اختلط عليهم الحابل بالنابل ، فبنوا التعامل على
التقييم ، فضلّوا وأضلّوا ، وأربكوا المسلمين العوام بفهمهم السـاذج السقيـم ،
وأسدلوا على أعين أتباعهم غشاوة ثخينة ، حرّموهم بها من رؤية الإسلام الناصع بوضوح
!
فجعلوا – بسبب هذه الرؤية المغوّشة – أولياء الله تعالى
وأحباءه ، من أعدائه سبحانه ، فقاموا – بناء على هذا – بمحاربتهم ، والتخندق مع
أعداء الله تعالى ، ضدّهم بغباوة لا يُحسدون عليها !
والمشكلة العويصة هنـا هي : أنّهم لا يُراجعون معلوماتهم
التي أُمليت وتُملى عليهم ، ولا ينصتون لمنطق الحقّ ، بسبب تعصّبهم وتحزّبهم ، وهم
لا يدرون أنّهم حزبٌ متعصّب ؛ من الأحزاب المفرّقة المتفرقة !
ويعتبرون خصومهم من الفِرَق ، أمّا هم فليسوا بفرقة .
علماً أنّ الحديث الضعيف – فلنقل المختلف فيه بين
المحدّثين – الذي يعتمدون عليه في تضليل
الأمة ، ورميهم بالفِرَق ، يقول :
( إفترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على
اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة
، قيل : من هي يا رسول الله ؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي . وفي بعض
الروايات : هي الجماعة ) ([17]) .
فبحسب استدلالهم ، وتضليلهم : أمة الإسلام ستفترق على
ثلاث وسبعين فرقة ؛ يقول : ( فرقة ) ، أي :
كلّ واحدة منهم فرقة ! فهُم أيضاً فرقة من الفِرَق .
أما أنهم على الحق ، وغيرهم على الباطل ، فهذه دعوى
تحتاج إلى برهان :
وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرُّ لهم وِصالاً
ولو عَلِمتْ بما يحكيهِ عنها لشقّتْ
صدرَها وأتتْ وبالا…
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر
له بذاك
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى فأما من
بكى فيذوب وجداً وينطق بالهوى
من قد تباكى . . . ! !
حديث افتراق
الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة
وقبل بيان معنى التقييم والتعامل ،
والفرق بينهما ، نودّ أن نعرف درجة الحديث الذي وضعوا كلّ ثقلهم عليه ، واستندوا
عليه في تضليلهم للأمة الإسلامية – بما فيهم خير الدعاة والأئمة وأفضلهم .
وكأنه هو حديث متواترٌ ، لاشك في
صحته ، وأنه صادر – بلا ريب – من رسول الله r ، فمن ردّه ولم يأخذ به ، ولم يعترف بصحة
صدوره عن رسول الله r ، فهو قد ردّ على رسول الله r ، وخالفه وعصاه r !
[ أما حديث افتراق الأمة إلى فرق فوق
السبعين كلها في النار إلا واحدة ،
ففيه كلام كثير في ثبوته وفي دلالته
.
أ - فأول ما ينبغي أن يعلم هنا أن الحديث
لم يرد في أي من الصحيحين ، برغم أهمية موضوعه ، دلالة على أنه لم يصح على شرط واحد
منهما
وما يقال من أنهما لم يستوعبا الصحيح
، فهذا مسلم ، ولكنهما حرصا أن لا يدعا بابا مهما من أبواب العلم إلا ورويا فيه شيئا
ولو حديثا واحدا .
ب - إن بعض روايات الحديث لم تذكر أن
الفرق كلها في النار إلا واحدة ، وإنما ذكرت الإفتراق وعدد الفرق فقط . وهذا هو حديث
أبي هريرة الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وفيه يقول :
" افترقت اليهود على إحدى ـ أو
اثنتين ـ وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى ـ أو اثنتين ـ وسبعين فرقة ، وتفترق
أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " .
والحديث ـ وإن قال فيه الترمذي : حسن
صحيح ، وصححه ابن حبان والحاكم ـ مداره على محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي ،
ومن قرأ ترجمته في " تهذيب التهذيب " ، علم أن الرجل متكلم فيه من قبل حفظه
، وإن أحدا لم يوثقه بإطلاق وكل ما ذكروه أنهم رجحوه على من هو أضعف منه .
ولهذا لم يزد الحافظ في التقريب على
أن قال : صدوق له أوهام .
والصدق وحده في هذا المقام لا يكفي
ما لم ينضم إليه الضبط ، فكيف إذا كان معه أوهام ؟ ؟ !
ومعلوم أن الترمذي وابن حبان والحاكم
من المتساهلين في التصحيح ، وقد وصف الحاكم بأنه واسع الخطو في شرط التصحيح .
وهو هنا صحح الحديث على شرط مسلم ،
باعتبار أن محمد بن عمرو احتج به مسلم ، ورده الذهبي بأنه لم يحتج به منفردا ، بل بانضمامه
إلى غيره .
على أن هذا الحديث من رواية أبي هريرة
ليس فيه زيادة : أن الفرق " كلها في النار إلا واحدة " وهي التي تدور حولها
المعركة .
وقد روي الحديث بهذه الزيادة من طريق
عدد من الصحابة : عبد الله بن عمرو ، ومعاوية ، وعوف بن مالك وأنس ، وكلها ضعيفة الإسناد
، وإنما قووها بانضمام بعضها إلى بعض .
والذي أراه أن التقوية بكثرة الطرق
ليست على إطلاقها ، فكم من حديث له طرق عدة ضعفوه ، كما يبدو ذلك في كتب التخريج ،
والعلل ، وغيرها !
وإنما يؤخذ بها فيما لا معارض له ،
ولا إشكال في معناه .
وهنا إشكال أي إشكال في الحكم بافتراق
الأمة أكثر مما افترق اليهود والنصارى من ناحية ،
وبأن هذه الفرق كلها هالكة وفي النار
إلا واحدة منها .
وهو يفتح بابا لأن تدعى كل فرقة أنها
الناجية ، وأن غيرها هو الهالك ، وفي هذا ما فيه من تمزيق للأمة وطعن بعضها في بعض
، مما يضعفها جميعا ، ويقوي عدوها عليها ، ويغريه بها .
ولهذا طعن العلامة ابن الوزير في الحديث
عامة ، وفي هذه الزيادة خاصة ، لما تؤدي إليه من تضليل الأمة بعضها لبعض ، بل تكفيرها
بعضها لبعض .
قال رحمه الله في " العواصم "
وهو يتحدث عن فضل هذه الأمة ، والحذر من التورط في تكفير أحد منها ،
قال : وإياك والاغترار بـ " كلها
هالكة إلا واحدة " فإنها زيادة فاسدة ، غير صحيحة القاعدة ، ولا يؤمن أن تكون
من دسيس الملاحدة .
قال : وعن ابن حزم : إنها موضوعة ،
عير موقوفة ولا مرفوعة ،
وكذلك جميع ما ورد في ذم القدرية والمرجئة
والأشعرية ، فإنها أحاديث ضعيفة غير قوية .
ج - إن من العلماء قديما وحديثا من
رد الحديث من ناحية سنده ، ومنهم من رده من ناحية متنه ومعناه .
فهذا أبو محمد بن حزم ، يرد على من
يكفر الآخرين بسبب الخلاف في الإعتقاديات بأشياء يوردونها .
وذكر من هذه الأشياء التي يحتجون بها
في التكفير حديثين يعزونهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هما :
1 . " القدرية والمرجئة مجوس هذه
الأمة " .
2 . " تفترق هذه الأمة على بضع
وسبعين فرقة ، كلها في النار حاشا واحدة ، فهي في الجنة " .
قال أبو محمد : هذان حديثان لا يصحان
أصلا من طريق الإسناد ، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد ، فكيف من لا
يقول به ؟
وهذا الإمام اليمني المجتهد ، ناصر
السنة ، الذي جمع بين المعقول والمنقول ، محمد بن إبراهيم الوزير يقول في كتابه
" العواصم والقواصم " أثناء سرده للأحاديث التي رواها معاوية رضي الله عنه
، فكان منها
( الحديث الثامن ) : حديث افتراق الأمة
إلى نيف وسبعين فرقة ، كلها في النار ، إلا فرقة واحدة ،
قال : وفي سنده ناصبي ، فلم يصح عنه
، وروى الترمذي مثله من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقال : حديث غريب .
ذكره في الإيمان من طريق الإفريقي واسمه
عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عنه .
وروى ابن ماجه مثله عن عوف بن مالك
، وأنس .
قال : وليس فيها شيء على شرط الصحيح
، ولذلك لم يخرج الشيخان شيئا منها .
وصحح الترمذي منها حديث أبي هريرة من طريق محمد بن
عمرو بن علقمة ، وليس فيه " كلها في النار إلا فرقة واحدة " وعن ابن حزم
: أن هذه الزيادة موضوعة ذكر ذلك صاحب " البدر المنير " .
وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله
تعالى في سورة الأنعام ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) ، وقد ورد في الحديث
المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " وستفترق هذه الأمة على ثلاث
وسبعين فرقة ، كلها في النار ، إلا واحدة " ولم يزد على ذلك فلم يصفه بصحة ولا
حسن ، رغم أنه أطال تفسير الآية بذكر الأحاديث والآثار المناسبة له .
وذكر الإمام الشوكاني قول ابن كثير
في الحديث ثم قال :
قلت : أما زيادة " كلها في النار
إلا واحدة " فقد ضعفها جماعة من المحدثين ، بل قال ابن حزم : إنها موضوعة .
على أن الحديث ـ وإن حسنه بعض العلماء
كالحافظ ابن حجر ، أو صححه بعضهم كشيخ الإسلام ابن تيمية بتعدد طرقه ـ لا يدل على أن
هذا الافتراق بهذه الصورة وهذا العدد ، أمر مؤبد ودائم إلى أن تقوم الساعة ، ويكفي
لصدق الحديث أن يوجد هذا في وقت من الأوقات .
فقد توجد بعض هذه الفرق ، ثم يغلب الحق
باطلها ، فتنقرض ولا تعود أبدا .
وهذا ما حدث بالفعل لكثير من الفرق
المنحرفة ، فقد هلك بعضها ، ولم يعد لها وجود .
ثم إن الحديث يدل على أن هذه الفرق
كلها جزء من أمته صلى الله عليه وسلم أعني أمة الإجابة المنسوبة إليه ، بدليل قوله
: " تفترق أمتي "
ومعنى هذا أنها ـ برغم بدعتها ـ لم
تخرج عن الملة ، ولم تفصل من جسم الأمة المسلمة .
وكونها ( في النار ) لا يعني الخلود
فيها كما يخلد الكفار ، بل يدخلونها كما يدخلها عصاة الموحدين .
وقد يشفع لهم شفيع مطاع من الأنبياء
أو الملائكة أو آحاد المؤمنين وقد يكون لهم من الحسنات الماحية أو المحن والمصائب المكفرة
، ما يدرأ عنهم العذاب .
وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه ، ولا
سيما إذا كانوا قد بذلوا وسعهم في معرفة الحق ، ولكنهم لم يوفقوا وأخطئوا الطريق ،
وقد وضع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه ] ([18])
.
ويُضاف إلى ضعف أسانيد هذه الأحاديث ، واختلاف المحدّثين
حولها ؛ أي : لم تثبت هذه الأحاديث بدون إشكالات عليها ، ولم يتّفق المحدّثون على
تصحيحها ، يُضاف إلى ذلك : أنها تخالف القرآن الكريم من ناحية معانيها !
فالله سبحانه وتعالى يقول : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) .
[ يُخْبِرُ
تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ
فَقَالَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } .
قَـالَ
الْبُخَـارِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ
مَيْسَرة ، عَنْ أَبِـي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَالَ : خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ ] ([19])
.
بينما هذه الأحاديث تقول : كنتم شرّ أمّة أخرجت للناس ،
واليهود والنصارى أفضل منكم ، وخير منكم !
فاليهود إفترقت على إحدى وسبعين فرقة .
والنصارى إفترقت على اثنتين وسبعين فرقة .
بينما أمّة محمد افترقت على ثلاث وسبعين فرقة ، فهي شرّ
الأمم !
أيريدون إثبات أفضلية اليهود والنصارى على الإسلام ،
بإلحاحهم على تصحيح هذا الحديث ؟ !
أم أنّهم موجّهون من حيث لا يدرون ؟ !
التقييم والتعامل
نقصد بالتقييم : وزن الأمر ، وتقييمه ، وإعطائه الوصف المناسب والمطابق له
، وبيان حاله ، وهل هو حق أم باطل ، أو صواب أم خطأ ؛ لتتضح حقيقته ، وتتبيّن .
فيكون المرء على بيّنة من أمره ، فلا تختلط عليه الأمور ، ولا يتخبّط خبط
عشواء ، ويعلم الصواب من الخطأ ، والحق من الباطل
.
( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) ([20])
.
[ أي : نوضحهـا
ونبينهـا ، ونميز بين طريـق الهدى من الضلال ، والغي والرشاد ، ليهتدي بذلك
المهتدون ، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه .
{ وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } الموصلة إلى سخط الله وعذابه ، فإن سبيل المجرمين إذا
استبانت واتضحت ، أمكن اجتنابها ، والبعد منها ، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة ،
فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل ] ([21])
.
أمّا التعامل ، فنقصد به : كيفية التعامل مع المقابل ، من الودّ والبر،
واللين ، أو الخشونة ، والإقبال إليه ، أو الإعراض عنه .
فهذا التعامل لا يُبنى على التقييم .
بمعنى : لا يلزم – إن كان الإنسان الذي أتعامل معه ، على خطأ وباطل – أن
يكون تعاملي معه – دائماً – بالخشونة والإعراض .
وأنه إن كان على صواب وحق ، أن يكون تعاملي معه – دائماً – بالإقبال واللين
!
فالتعامل لا يُبنى على التقييم .
بل التعامل يُبنى على الحكمة ، والمصلحة الحقيقية – بعيدة عن حظوظ النفس
وهواها – المتوخاة منها .
مثال للتقييم وعدم بناء التعامل عليه
ولتوضيح الفرق بين التقييم والتعامل ، يقول الله تعالى :
( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ .
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا )
([22]) .
فال الحافظ إبن كثير ، رحمه الله :
[ أَيْ : إِنْ
حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا ،
فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذَلِكَ ، وَلَا يمنعنَّك ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُصَاحِبَهُمَا
فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ] ([23])
.
[ ما الفرق
بين ( إحساناً ) و ( حُسناً ) ؟ الفرق أن الإحسان مصدر أحسن ، وأحسن حدث ، تقول :
أحسن فلان إحساناً .
أما
حُسناً فمن الحسن وهو المصدر الأصيل لهذه المادة كما تقول : فلان عادل ، فوصفته بالعدل
، فإنْ أردتَ أنْ تبالغ في هذا الوصف تقول : فلان عَدْل أي : في ذاته ، لا مجرد
وَصْف له.
إذن :
فحُسْناً آكد في الوصف من إحساناً ، فلماذا جاءت في هذه الآية بالذات : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً
. . . } [ العنكبوت :
8 ]
قالوا
: لأن هذه الآية تتعرض لمسألة صعبة تمسُّ قمة العقيدة ، فسوف يطلب الوالدان من
الابن أنْ يشرك بالله .
لذلك
احتاج الأمر أنْ نوصي الابن بالحُسْن في ذاته ، وفي أسمى توكيداته فلم يقُلْ هنا (
إحْسَاناً ) إنما قال ( حُسْناً ) حتى لا يظن أن دعوتهما إياه إلى الشرك مبرر
لإهانتهما ، أو التخلي عنهما ؛ لذلك يُعلِّمنا ربنا :
{ فَلاَ
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً } ] ([24])
.
[ ولما أمر
بالقيام بحقه ، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد ، أمر بالقيام بحق
الوالدين فقال : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ }
أي :
عهدنا إليه ، وجعلناه وصية عنده ، سنسأله عن القيام بها ، وهل حفظها أم لا ؟
فوصيناه
{ بِوَالِدَيْهِ } وقلنا له : { اشْكُرْ لِي } بالقيام بعبوديتي ، وأداء حقوقي ،
وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي .
{ وَلِوَالِدَيْكَ
} بالإحسان إليهما بالقول اللين ، والكلام اللطيف ، والفعل الجميل ، والتواضع لهما
، وإكرامهما وإجلالهما ، والقيام بمئونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه ،
بالقول والفعل .
فوصيناه
بهذه الوصية ، وأخبرناه أن { إِلَيَّ الْمَصِيرُ }
أي :
سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك ، وكلفك بهذه الحقوق ، فيسألك : هل قمت بها ،
فيثيبك الثواب الجزيل ؟ أم ضيعتها ، فيعاقبك العقاب الوبيل ؟ .
ثـم
ذكر السبب الموجب لبر الوالدين فـي الأم ، فقال : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا
عَلَى وَهْنٍ } أي : مشقة علـى مشقة ، فلا تزال تلاقي المشاق ، من حين يكون نطفة ،
من الوحم ، والمرض ، والضعف ، والثقل ، وتغير الحال ، ثم وجع الولادة ، ذلك الوجع
الشديد .
ثم { فِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ } وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها ، أفما يحسن بمن تحمل على
ولده هذه الشدائد ، مع شدة الحب ، أن يؤكد على ولده ، ويوصي إليه بتمام الإحسان
إليه ؟
{ وَإِنْ
جَاهَدَاكَ } أي : اجتهد والداك { عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما ، لأن حق الله ،
مقدم على حق كل أحد ، و " لا طاعة لمخلوق ، في معصية الخالق "
ولم
يقل : " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما " بل قال :
{ فَلا تُطِعْهُمَا } أي : بالشرك ،
وأما
برهما ، فاستمر عليه ، ولهذا قال : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا }
أي : صحبة إحسان إليهما بالمعروف ، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي ، فلا
تتبعهما ] ([25]) .
فالتقييم – في هذه الآية الكريمة : أنّ الوالدين مشركين ، ليس هذا فحسب ،
بل يجاهدان ولدهما – جهاداً – أن يشرك هو
أيضاً ، فيصبح مثلهما !
فالوالدان كافران مشركان ، غاليان في الشرك غلواً ، جعلهما يناضلان أن يشرك
ولدهما أيضاً .
هذا من ناحية التقييم .
أما من ناحية التعامل : فقد أمر الله تعالى ، ولدهما بمصاحبتهما في الدنيا
بالمعروف والإحسان .
فتعاملهما لا يُبنى على تقييمهما !
التقييم والتعامل مع اليهود والنصارى
ويقول الله تعالى ، عن أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) :
( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) ([26])
.
[ قَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ : يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } وَلَيْسَتِ
الْيَهُودُ - يَا مُحَمَّدُ - وَلَا النَّصَارَى بِرَاضِيَةٍ عَنْكَ أَبَدًا ،
فَدَعْ طَلَبَ مَا يُرْضِيهِمْ وَيُوَافِقُهُمْ ، وَأَقْبِلْ عَلَى طَلَبِ رِضَا
اللَّهِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ ] ([27])
.
ويقول تعالى : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الْيَهُودَ ) ([28])
.
[ العداوة
: بغض نفسي تجعل صاحبها بعيداً ممن يعاديه فلا يصله بخير ، ولا يقربه بمودة ، وقد
تحمله على إرادة الشر بالعدو . . .
أمـا
اليهود فلمـا توارثوه خَلفـاً عن سلف من إنكار الحق . والوقوف في وجه دعاته ،
إضافة إلى أن أملهم في إعادة مجدهم ودولتهم يتعارض مع الدعوة الإسلامية ] ([29])
[ يقول تعالى
في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين ، وإلى ولايتهم ومحبتهم ، وأبعدهم من ذلك :
{ لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
} فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين ، وأكثرهم
سعيا في إيصال الضرر إليهم ، وذلك لشدة بغضهم لهم ، بغيا وحسدا وعنادا وكفرا ] ([30])
.
فهذا
من ناحية التقييم ؛ حيث أخبر الله تعالى ، نبيّه r
أنّ اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتّبع ملّتهم ، فليعلم هذا جيّداً ، وليقطع
أمله وطمعه في ذلك ، ويرتاح ولا يذهب نفسه حسراتٍ عليهم !
ويقول
الله تعالى :
( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ
حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ([31])
.
[ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْعُلَمَاءُ فِي
قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ }
هَلْ يَعُمُّ كُلَّ كِتَابِيَّةٍ عَفِيفَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً
؟
حَكَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ ، مِمَّنْ فَسَّرَ الْمُحْصَنَةَ بِالْعَفِيفَةِ
.
وَقِيلَ
: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هَاهُنَا الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقِيلَ
: الْمُرَادُ بِذَلِكَ : الذِّمِّيَّاتُ دُونَ الْحَرْبِيَّاتِ ؛ لِقَوْلِهِ : { قَاتِلُوا
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التَّوْبَةِ
: 29 ]
وَقَدْ
كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَرَى التَّزْوِيجَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ ،
وَيَقُولُ : لَا أَعْلَمَ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ : إِنَّ رَبَّهَا
عِيسَى ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَّ } الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 221 ] .
وَقَالَ
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ
سُلَيْمَانَ الْمُؤَدِّبُ ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ - يَعْنِي
المُزَنِيّ- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَمِيع ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ
الْغِفَارِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : {
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قَالَ : فَحَجَزَ النَّاسُ
عَنْهُنَّ حَتَّى نَزَلَتِ الَّتِي بَعْدَهَا : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فَنَكَحَ النَّاسُ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ
الْكِتَابِ.
وَقَدْ
تَزَوَّجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ نِسَاءِ النَّصَارَى وَلَمْ يَرَوْا
بِذَلِكَ بَأْسًا ، أَخْذًا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ] ([32])
.
[ أي : في هذا اليوم
الذي أكمل الله تعالى لكم فيه الدين أحل لكم ما سألتم عنه وهو سائر الطيبات ،
وكذا
طعام الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى خاصة فطعامهم ، أي :
ذبائحهم حل لكم ، وطعامكم حل لهم ،
أي :
لا بأس أن تطعموهم من طعامكم فإن ذلك جائز لكم ولهم .
وأحل
لكم أيضاً نكاح المحصنات ، أي : العفائف من المؤمنات ، والمحصنات من نساء الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم وهن العفائف من اليهوديات والنصرانيات ،
على
شرط إتيانهن أجورهن ، أي : مهورهن حال كونكم محصنين ، أي: عاقدين عليهن عقدة
النكاح المتوقفة على المهر والولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول ] ([33])
.
ذاك كان من باب
التقييم ، والموقف هنا موقف التعامل ، وهما مختلفان ، فلا يجوز أبداً خلط الأمور ،
وبناء التعامل على التقييم .
بمعنى : لا يجوز
أن يتّخذ منهم موقف الشدّة والقسوة ، والحقد والبغضاء – بناء على موقفهم هم منّا ،
اللهم إلّا في حال الحرب ، وفي ساحات الوغى .
ولا يجوز ضرب
الآيات القرآنية بعضها في بعض – نتيجة الخلط وعدم الفهم !
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) ([34])
.
فهمٌ سديدٌ في
القمة !
ولزيادة بيان هذا
الموضوع – الفرق بين التقييم والتعامل – ولتخبط خصوم سيّد قطب ، رحمه الله ، فيه .
سننقل كلام رائع
للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي – يبيّن مدى غبش الصورة لدى أولئك في هذا الجانب –
كمثال – وإلّا فهُم في كلّ الجوانب التي ينتقدون فيها الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله
– وفي انتقادهم للقرضاوي – يتخبّطون خبط عشواء ، ويضربون بعض النصوص ببعض ، لعدم
وضوح الرؤية عندهم !
يقول العلّامة
يوسف القرضاوي :
[ إن القرآن الكريم قد وضع دستور العلاقة بين
المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة ، وقد نزلت في شأن
المشركين الوثنيين ،
فقال تعالى :
" لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن
تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " (الممتحنة : 8 – 9 )
ففرقت الآيتان بين
المسالمين للمسلمين والمحاربين لهم .
فالأولون ( المسالمون
) شرعت الآية الكريمة برهم والاقساط إليهم ،
والقسط يعني :
العدل ، والبر يعني : الإحسان والفضل ، وهو فوق العدل ،
العدل : أن تأخذ
حقك ، والبر : أن تتنازل عن بعض حقك .
العدل أو القسط :
أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه .
والبر : أن تزيده
على حقه فضلا وإحسانا .
وأما الآخرون
الذين نهت الآية الأخرى عن موالاتهم ، فهم الذين عادوا المسلمين وقاتلوهم ،
وأخرجوهم من أوطانهم بغير حق ، إلا أن يقولوا : ربنا الله ، كما فعلت قريش ومشركو
مكة بالرسول وأصحابه .
وقد اختار القرآن
للتعامل مع المسالمين كلمة ( البر ) حين قال : " أن تبروهم " وهي الكلمة
المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى ، وهو ( بر الوالدين ) .
وقد روى الشيخان
عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول
الله ، إن أمي قدمت علي وهي مشركة ، وهي راغبة ( أي في صلتها والإهداء إليها )
أفأصلها ؟
قال : " صلي
أمك " ([35])
.
هذا وهي مشركة ،
ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف من موقفه من المشركين الوثنيين .
حتى إن القرآن
أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم ،
بمعنى : أن يأكل
من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم ،
كما قال تعالى في
سورة المائدة : " وَطَعَامُكُمْ
حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ " ( المائدة : 5 ) ،
ومن لوازم هذا الزواج وثمراته : وجود المودة بين
الزوجين ([36])
،
كما قال تعالى :
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً " ( الروم:21 ) .
وكيف لا يود الرجل
زوجته وربة بيته وشريكة عمره ، وأم أولاده ؟
وقد قال تعالى في
بيان علاقة الأزواج بعضهم ببعض : " هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ " ( البقرة :187) ،
ومن لوازم هذا الزواج وثمراته : المصاهرة بين
الأسرتين ، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر ، كما أشار القرآن
بقوله :
" وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ
نَسَبًا وَصِهْرًا " ( الفرقان : 54 ) .
ومن لوازم ذلك :
وجود الأمومة ومالها من حقوق مؤكدة على ولدها في الإسلام ،
فهل من البر والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة
مثل هذا العيد الكبير [ يقصد
مناسبة : عيد المسيح ] عندها ولا يهنئها به ؟
وما موقفه من
أقاربه من جهة أمه ، مثل الجد والجدة ، والخال والخالة ، وأولاد الأخوال والخالات ،
وهؤلاء لهم حقوق
الأرحام وذوي القربى ، وقد قال تعالى : " وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " ( الأنفال :75 ) ، وقال تعالى : " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى " ( النحل : 91 ) .
فإذا كان حق
الأمومة والقرابة يفرض على المسلم والمسلمة صلة الأم والأقارب بما يبين حسن خلق المسلم
، ورحابة صدره ، ووفاءه لأرحامه ،
فإن الحقوق الأخرى
توجب على المسلم أن يظهر بمظهر الإنسان ذي الخلق الحسن ،
وقد أوصى الرسول
الكريم أباذر بقوله : " اتق الله حيثما كنت ، واتبع السيئة الحسنة تمحها ،
وخالق الناس بخلق حسن " . هكذا : " خالق الناس " ولم يقل : خالق
المسلمين بخلق حسن .
كمـا حث النبـيّ
صلـى الله عليه وسلم على ( الرفق ) في التعامل مع غير المسلمين ،
وحذر من ( العنف )
والخشونة في ذلك .
ولما دخل بعض
اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولووا ألسنتهم بالتحية ، وقالوا : ( السام )
عليك يا محمد ، ومعنى ( السام ) : الهلاك والموت ،
وسمعتهم عائشة ،
فقالت : وعليكم السام واللعنة يا أعداء الله ،
فلامها النبي صلى
الله عليه وسلم على ذلك ، فقالت : ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله ؟
فقال :" سمعت
، وقلت : وعليكم " ، ( يعني: الموت يجري عليكم كما يجري علي ) يا عائشة : "
الله يحب الرفق في الأمر كله " ([37]) .
وتتأكد مشروعية
تهنئة القوم بهذه المناسبة إذا كانوا . . . يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده
الإسلامية ،
فقد أمرنا أن
نجازي الحسنة بالحسنة ، وأن نرد التحية بأحسن منها ، أو بمثلها على الأقل ،
كما قال تعالى :
" وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا " ( النساء : 86 ) .
ولا يحسن بالمسلم
أن يكون أقل كرما ، وأدنى حظا من حسن الخلق من غيره ،
والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر حظا ،
والأكمل خلقا ،
كما جاء في الحديث
" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا " ،
وكما قال عليه
الصلاة والسلام : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " .
وقد روي أن نصراني
قال : السلام عليكم ، فقال ابن عباس : وعليكم السلام ورحمة الله .
فقـال بعض أصحـابه
: تقول له : ورحمة الله ؟ ! فقال : أو ليس في رحمة الله يعيش ؟ !
ويتأكد هـذا إذا
أردنـا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه ، ونحبب إليهم المسلمين ، فهذا لا
يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم .
وقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم ، حسن الخلق ، كريم العشرة ، مع المشركين من قريش ، طوال العهد
المكي ، مع إيذائهم له ، وتكالبهم عليه ، وعلى أصحابه .
حتى أنهم - لثقتهم
به عليه الصلاة والسلام - كانوا يودعون عنده ودائعهم التي يخافون عليها ، حتى أنه
صلى الله عليه وسلم ، حين هاجر إلى المدينة ، ترك عليا رضي الله عنه ، وأمره برد
الودائع إلى أصحابها .
أنا أعلم أن شيخ
الإسلام ابن تيمية قد شدد في مسألة أعياد المشركين وأهل الكتاب والمشاركة فيها ،
وذلك في كتابه القيم ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم ) .
وأنا معه في
مقاومة احتفال المسلمين بأعياد المشركين وأهل الكتاب ، كما نرى بعض المسلمين
يحتفلون بـ ( الكريسماس ) كما يحتفلون بعيد الفطر ، وعيد الأضحى ، وربما أكثر ،
وهذا ما لا يجوز ،
فنحن لنا أعيادنا ، وهم لهم أعيادهم ،
ولكن لا أرى بأسا
من تهنئة القوم بأعيادهم لمن كان بينه وبينهم صلة قرابة أو جوار أو زمالة ، أو غير
ذلك من العلاقات الاجتماعية ، التي تقتضي المودة وحسن الصلة ، التي يقرها العرف السليم
.
ولا يخفى أن شيخ
الإسلام قد أفتى في هذه القضية في ضوء أحوال زمنه ،
ولو عاش رضي الله
عنه في زمننا ورأى تشابك العلاقات بين الناس بعضهم وبعض ، وتقارب العالم حتى غدا
كأنه قرية صغرى ،
ورأى حاجة
المسلمين إلى التعامل مع غير المسلمين ، وأنهم أصبحوا أساتذة للمسلمين – للأسف -
في كثير من العلوم والصناعات ،
ورأى حاجة الدعوة
الإسلامية إلى الاقتراب من القوم ، وإظهار المسلم بصورة الرفق لا العنف ، والتبشير
لا التنفير ،
ورأى أن تهنئة
المسلم جاره أو زميله ، وأستاذه في هذه المناسبة لا تحمل أي رضا من المسلم عن
عقيدة المسيحي ، أو إقراره على كفره الذي يعتقده المسلم ،
بل لو رأى أن
المسيحي نفسه لم يعد يحتفل بهذه الأعياد على أنها عمل ديني يتقرب به إلى الله ، بل
إنه أصبح - في الأعم الأغلب - عرفا وعادة وطنية أو قومية تعودها الناس ليستمتعوا
فيها بالإجازة والطعام والشراب والهدايا المتبادلة بين الأهل والأصدقاء .
لو عاش ابن تيمية
إلى زمننا ورأى هذا كله ، لغير رأيه ([38])
- والله أعلم - أو خفف من شدته ، فقد كان رضي الله عنه يراعي الزمان والمكان
والحال في فتواه ] ([39])
.
وما له علاقة
بالتعامل ، ما رواه أنس بن مالك t : أن غلامًا
يهوديًّا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فمرض ،
فأتاه النبي صلى
الله عليه وسلم يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : " أسلم " . فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه ، فقال : أطع أبا
القاسم . فأسلم ،
فخرج النبي صلى
الله عليه وسلم من عنده وهو يقول : " الحمد لله الذي أنقذه بي من النار "
([40])
.
وهذا عبد الله بن
عمرو ذبح شاة ، فقال : أهديتم لجاري اليهودي ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : " ما زال جبريل يوصيني بالجار ، حتى ظننت أنه سيورثه " ([41]) .
وقد رُوِي عن الشعبي أنه قال لليهودي : عليك
السلام ورحمة الله ؛ فقيل له تقول ليهودي : ورحمة الله ؟ فقال : أليس في رحمة الله
يعيش ([42])
.
الفصل الأول
سيد قطب وتكفير الناس
1 - الكذب الكبير والبهتان العظيم
، الذي يصدر من خصوم سيّد قطب ، رحمه الله ‘ قبل كل شيء ، هو اتّهامه بتكفير
المسلمين !
ولا شك أنّ السبب والأساس الرئيس لهذا التقوّل ، هو : الجهل بالإسلام ،
وتدني مستوى الفهم - من قِبَل المسلمين الذين لم يرتقوا
إلى مستوى الشهيد ، لا فكراً ولا فهماً
- وإلّا فهو مكيدة ومؤامرة خبيثة ،
من قِبَل أعداء الإسلام ، الذين يتستّرون
خلف أولئك المسلمين الجاهلين !
وهذه المكيدة والمؤامرة من خصوم الإسلام ، هي لضرب الإسلام ، وإبعاد
المسلمين عن الفهم الراقي الصحيح الحقيقي للإسلام ، والذي بيّنه الشهيد سيّد قطب
في كتاباته !
ولهذا يقومون بمحاولة تشويه صورة سيّد قطب ، رحمه الله ، واختلاق
الإفتراءات والأكاذيب والشبهات حوله ،
بغية أن لا يستيقظ المسلمون من سباتهم ، ولا يتنبهون من غفلتهم !
وحتى يعملوا ذلك بهدوء ، ولا ينكشف
أمرهم ، فهم يتسترون خلف مشايخ مسلمين أصحاب ألقاب فخمة رنّانة طنّانة .
وسبب الفهم السقيم
هذا ، لأولئك الشيوخ ، هو أنّهم لم يفرّقوا بين المجتمع كنظام ، وبين الشعب كأفراد
، فظنّوا أن الإثنين سواء !
وقد فرح خصوم
الإسلام بهذا الفهم الخاطيء – ولاسيما هو صادر عن مسلمين شيوخ ، أصحاب تلك الألقاب
الفخمة في الدّين .
وارتاحوا هم في محاربة الإسلام الحقيقي – الذي
يوضّحه الشهيد سيّد قطب – طالما يقوم بها هؤلاء الشيوخ ، ويقوم بها أتباعهم –
أيضاً – من المسلمين ، من غير أن يشعروا !
المجتمع
الإسلامي والشعب المسلم
كثير مـن الناس –
ولاسيمـا خصوم سيّد قطب من المسلمين – لا يفرّقون بين المجتمع كنظام ، وبين الشعب
كأفراد ، فيظنون أنّ الإثنين سواء !
فإذا قيل : هذا
المجتمع غير إسلامي ، ظنّوا أنّ هذا الكلام هو تكفير للناس ، والحكم على الأفراد ،
وإخراجهم من الإسلام !
وهـذا خطـأ ،
وجهـلٌ كبيرمن قِبَلهم ، وهو تضليل للناس – مِن قِبَل خصوم الإسلام – وخلط للأوراق
!
فالمجتمع شيء ،
والشعب شيء آخر .
ولماذا – إذن –
هما مصطلحان متغايران ، إذا لم يكن هناك فرق بينهما ؟ !
يُقصد بالمجتمع :
النظام الذي يُطبّق على الشعب .
ويُقصد بالشعب :
أفراد المجتمع .
فكما أن هناك فرقٌ
واضح بين ذات الإنسان ، وبين أعماله !
وكذلك هناك فرقٌ
كبير بين المجتمع كنظام ، وبين أفراد الشعب .
ولتوضيح ذلك أكثر
، نضرب مثالاً :
هنـاك رجلٌ سكّير
، يلعب الميسر ، ويقتل الأبرياء ، ويظلم
الناس ، ويسرق أموالهم ، و . . . و . . .
إلخ .
ومع كلّ هذه الموبقات فهو لا يصلّي ، ولا يصوم ، ولا يزكّي أمواله ، ولا
يذكر الله تعالى ، ولا . . . ولا . . . إلخ .
ولكنّه – مع كلّ هذا – فهو يؤمن
بالله تعالى ، ويؤمن برسول الله ؛ أنّه رسول من عند الله تعالى ، ويؤمن باليوم
الآخر ؛ يوم القيامة ، ويؤمن بالقرآن ، .
. . إلخ . ولكنّه لا يستطيع السيطرة على نفسه الأمّارة بالسوء ، فاتّبع – لذلك –
هواه .
فلا نستطيع أن نحكم على هذا الرجل بالكفر ، طالما أنّه يؤمن بالله ، ورسوله
، واليوم الآخر ، والقرآن و . . . و . . . إلخ .
ولكنّنا نستطيع بكل قوّة ، ووضوح ، وصراحة ، أن نقول عن هذا الرجل : إنّ
أخلاقه ، وتصرفاته ، وتعامله ، وحياته كلّها غير إسلامي ، ولا يمتّ إلى الإسلام
بأية صلة !
فهل كلامنا هذا خطأ ، ويُعتبر تكفير لهذا الرجل ورميه بالكفر والخروج من الإسلام ؟ !
وهل يُلام ويُتّهم مَن حكم عليه هذا الحكم ؛ بأنه كفّره وأخرجه من الملة ؟
!
وهل هم – خصوم سيّد – يعتبرون أخلاق ، وتصرفات ، وحياة ذلك العربيد ، حياة
إسلامية ؛ أمر بها الكتاب والسنة ؟ !
وكذلك نستطيع أن نقول عن نظام – غير مستمدّ من الإسلام – يُراد تطبيقه على
الناس الذين يعيشون في ذلك المجتمع .
نستطيع بكل أريحية أن نقول : إنّ هذا النطام ، نظام جاهلي .
والناس الذين ارتضوا هذا النظام ، ويعيشون ، وحياتهم كلها تسير على ضوئه ،
هم في جاهلية ، ويعيشون في جاهلية .
فسيّد قطب ، رحمه الله تعالى ، يصف المجتمع ، والأفراد ، الذين يستمدّون
قِيَمهم ، وأفكارهم ، ونظام حياتهم من غير الإسلام ، يصفهم بالجاهلية .
وهذا الوصف
للأنظمة والأعمال بالجاهلية ، لا يعني أن أصحابها كفّار ، كما نرى النبيّ r
يصف بعض الأعمال بالجاهلية ، بل وبالكفر ، ويقسم r على بعض
الأعمال ، أن أصحابها لا إيمان لهم ولا دين .
ولم يفهم أحد عـن
هذه الأحاديث ؛ أنه تكفير من النبيّ r
، لأصحابها ، حاشا الخوارج !
شريعة الله حاكمة ليس بالحدود وحدها ([43])
مما له علاقة بموضوعنا هنا ، هو :
أنّ كثيراً من الناس عندما يسمعون : المطالبة بتطبيق الشريعة ، ويسمعون ادّعاء بعض
الحكومات ، بأنّهم يطبّقون الشريعة الإسلامية
فعلى ضوء هذا يظنون أنّ شريعة الله هي فقط الحدود ، وقطع يد السارق الضعيف
، وجلد الزاني الضعيف ، وما إلى ذلك !
لا شك أنّ هذا الظنّ ، هو تقزيم
للإسلام العظيم ، وتصغيره ، وتشويه معالمه ، بجعله فقط الحدود والعقوبات !
فهل إذا نفّذت أمريكا ، أو بريطانيا
، أو فرنسا – مثلاً .
هل إذا نفّذوا حد قطع يدّ السارق ،
أو جلد الزاني – مثلاً – سيصبحون بذلك مجتمعات إسلامية ؟ !
فإذا كانت الشريعة الإسلامية ، هي :
الحدود فقط ، فمعنى ذلك أن تلك المجتمعات أصبحت إسلامية بمجرّد تطبيقها لتلك
الحدود !
وهذا لا يقول به إلّا مَن لا يعرف
ما يقول !
تعريف الشريعة :
[ تُعرّف الشريعة
في الإصطلاح بأنّها : ما شرعه الله سُبحانه لعِباده من الأحكامِ التي جاء بها نبيٌّ
من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،
سواءً كانت هذه الأحكام أحكاماً إعتقاديّةً أو أحكاماً
عمليّةً ليُؤمنوا بها فتكون سعادتهم في الدنيا والآخرة ،
وبِإضافة لفظ الإسلام
إلى الشريعة كان مَعنى الشريعة الإسلاميّة :
ما نَزل به الوَحي
على مُحمّد صلى الله عليه وسلّم من الأحكام التي تُصلِح أحوال الناس فـي الدنيا والآخرة
سواءً في ذلك الأحكام العقائديّة ، أو الأحكام العمليّة ، أو الأخلاق ] ([44])
.
الفرق بين الشريعة
والفقه
[ هناك
مجموعة من الفروق بين الشريعة والفقه تتمثّل بالآتي ([45])
:
* لفظ الشريعة أعمّ وأشمل من لفظ الفقه ؛ فالشريعة تشمل
جميع الأحكام التي هي: الأحكام العقائديّة ، والأحكام الأخلاقيّة ، والأحكام
العمليّة ،
أمّا لفظ الفقه فهو يَشمل الأحكام العمليّة فقط .
تُعدّ الشريعة
هي الأحكام التي أنزلها الله سبحانه عزّ وجلّ على رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم
في القرآن الكريم أو في السنّة النبوية ؛
أي إنّ الشريعة الإسلامية قائمةٌ على الوحي ،
* أمّا الفقه فأحكامه تنقسم لقسمين :
أ - أحكام
مستفادة من النص دون بحث مثل :
قول الله سبحانه : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ
وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي
فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ
الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا
قَدْ سَلَفۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ([46])
فالآية واضحةٌ وصريحةٌ في المُحرّمات من النساء فلا
يُحتاج إلى بحثٍ واجتهادٍ في مَعرفتهنّ .
ب - أحكام
مُستفادة من النص يَستنبطها ويَستخرجها الباحث من خلال استقرائِه للنّصوص الشرعية ،
وهذا القسم من الأحكام أكثر من القسم الأوّل ، وذلك
بحُكم كَثرة الحوادِث والمُستجدّات ] ([47])
.
كصرح من عدة
طوابق
نستطيع أن نصوّر
الشريعة – للتوضيح – كبناية من عدة طوابق :
1 – قاعدة وأساس
البناية والصرح الكبير ، هو العقيدة والإيمان .
فالمجتمع الإسلامي
الذي يُراد إنشاؤه ، هو الذي أساسه العقيدة الإسلامية ؛ أي : يجب أن يُربّى الشعب
على العقيدة والإيمان .
يجب أن ينشأ الفرد
في المجتمع ، وهو أن يكون :
أ - عميق الإيمان
بالله تعالى ، ومعرفته بصفاته العليا .
ب - يؤمن بمحمّدٍ rكنبيٍّ ؛ أرسله
الله تعالى بآخر رسالة ؛ رحمة للعالمين .
ج – أن يؤمن
إيماناً عميقاً باليوم الآخر ؛ يوم الحساب والجزاء على كلّ ما اقترفت يدا الإنسان
.
د – يؤمن
بالملائكة والجنّ ، وعالم الغيب ؛ من القيامة والبعث للحساب ، والجنة والنّار ، و
. . . و . . . إلخ
أي : يؤمن بالقرآن
الكريم ، المنزّل على رسول الله محمد r
جملة وتفصيلاً .
2 – الطابق الأول
من البناية ، يتمثّل في الإبتعاد عن الرذايل ، والإتّصاف بالأخلاق الكريمة .
أي : التخلية عن
الصفات الذميمة ؛ مثل : الكذب ، والغدر ، والفسق والفجور ، والتهتك ، والتبذل ،
والجبن ، والأثرة والأنانية ، والهلع والجزع ، وعمل السيئات ، و . . . و . . . إلخ .
والتحلية بالصفات الحميدة ؛ مثل : الصدق ،
والوفاء ، والعفة ، والشجاعة ، والنخوة ، والنجدة ، والإيثار ، والصبر ، وعمل
الصالحات ، و . . . و . . . إلخ .
3 – الطـابق
الثـاني من البناية ، يتمثّل في الشعائر التعبّدية والأذكار ، مثل الصلاة ،
والزكاة ، والصيام ، والحج ، وذكر اسم الله تعالى ، والصلاة على رسول الله r
4 – الطابق الثالث
من البناية ، يتمثّل في المعاملات وأحكامها ؛ المعاملات المالية ، والجنائية ،
والقضائية ، والأحوال الشخصية ، وما إلى ذلك .
5 – الطـابق
الرابـع من البناية ، يتمثّل في الحدود والعقوبات ؛ ومنها : حد السرقة ، والقتل ،
والزنا ، و . . . و . . . إلخ .
أي : إنّ الدولة
التي تجعل كلّ إمكانياته وطاقاته ، في سبيل إنشاء مجتمع ؛ يؤمن شعبه بالله تعالى
وبصفاته ، ويوقّره ويتّقيه ، ويُتّصف بالأخلاق الحميدة ، ويحرص على العبادات
ويحافظ عليها .
وقوانينها
وأنظمتها ، وجيشها ، وشرطتها ، تكون سياجاً لتلك القِيَم ، ومحافظاً عليها .
وكلّ ذلك حسب منهج
القرآن ؛ أوامر الله تعالى ، ونواهيه ، وحسب سنّة النبيّ r
حينذاك نستطيع أن
نقول : أن هذا المجتمع هو المجتمع الإسلامي !
وليس معنى هذا :
أن هذا المجتمع يخلو من المعاصي والموبقات ، وأنّ أفراد الشعب كلّهم ملائكة
معصومون .
لا ، ولكنّ
الغالبية العظمى منهم ، قد ربّتهم الدولة على تلك القِيَم والمباديء العظيمة ، وتسـخر
جميع إمكانياته في هذا الإتجاه ، وتحرص على حراسة مباديء الإسلام !
أي : يجب على
الدولة أن تربّي أولادها وشعبها ، بحيث تنشأ تلك البناية بكل طوابقها التي ذكرناها
. عند ذاك تكون تلك الدولة ؛ دولة إسلامية !
أي : يجب عليها
تسخير كافة إمكانياتها وطاقاتها ، من أجل الوصول إلى ذلك الهدف النبيل ؛ من
الإعلام ؛ سواء كان مرئياً ، أومقروءاً ، أو مسموعاً .
وكذلك المدارس ،
والمعاهد ، والجامعات ، والمنظمات المختلفة ، والجمعيات بكافة أنواعها ، والجيش ، والشرطة
، والقوانين ، بحيث لا تتعارض أي جهاز من تلك الأجهزة مع مباديء الإسلام وشريعته .
هذا هو المجتمع
الذي يطبّق الشريعة ! وليس ذاك الذي ينفّذ بعض الحدود والعقوبات فقط ، وعلى
الضعفاء ، ويترك الكبراء والأقوياء ، ينفردون بأكل السحت العظيم ، ويعيثون في
الأرض فساداً ، من غير محاسبة ‘ ثمّ يدّعي ويزعم أنّه مجتمع إسلامي !
فإذا رأيت مَن
يحكم على مجتمع ، وهو لا توجد فيه تلك البناية بأساسها وطوابقها الأربعة ، ولا
توجّه الدولة طاقاتها وامكانياتها وتسخرها ، في سبيل إنشاء تلك البناية ، وتقوم
بتعهدها والمحافظة عليها .
إذا رأيت مَن يحكم
على ذلك المجتمع بأنه مجتمع إسلامي ، فاعلم أنه لم يفهم الإسلام ، ولم يفهم القرآن
ولا السُنّة ، وإن زعم ذلك !
أصل الأخطاء
والشبهات
نحن بدايـة لا
نقول إنّ الشهيد سيّد قطب ، رحمـه الله تعالى ، هو معصوم كالأنبياء ، فحاله كحال
غيره من خصومه الشيوخ ؛ أصحاب الألقاب الطنّانة الرنّانة ، فهم أيضاً غير معصومين
، على الرغم من الهالات التي أحاطوها بهم ، والألقاب التي أطلقوها عليهم !
ولكنّنا نقول مع
هذا أيضاً : لا يرتقي خصوم الشهيد إلى مستواه ، لا في الفهم ، ولا في الفطنة
والذكاء ، وكلّ انتقاداتهم – جميعها بلا استثناء – خطأ من قِبَلهم ، وعدم فهم
للإسلام بقرآنه وسنّة نبيّه r
! ([48])
وعدم معصومية
الشهيد ، ليس معناه أنّه ارتكب ما يرميه به خصومه ، بل إنّ انتقادات أولئك الشيوخ
له – ولاسيما في الأمور العظام – تعتبر فضيحة لأولئك الشيوخ علـى رؤوس الأشهاد ؛
وكأنهم ينادون بأعلى أصواتهم : أنّنا لا نفهم الكلام ، ومن قَبل ذلك ، لم نفهم
الإسلام ، كما سيتبيّن ذلك ، إن شاء الله تعالى !
البشرية
ارتدّت وعادت إلى الجاهلية
يستدلّ أحدهم
بقولٍ للشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ، على تكفيره للناس .
وهو – طبعاً – لا يدعو لسيّد قطب بالرحمة ، بل
يقول : تجاوز الله عنه !
وكأنّ الشهيد
ارتكب عظيمة ، لا يستحق الرحمة وقال قولاً زوراً منكراً ! !
وقول الشهيد ،
الذي يستدل به ذلك الخصم ، هو :
( البشرية عـادت إلى الجاهلية وارتدت عن لا إله إلا الله
، فأعطت لهؤلاء العباد « الذين شرعوا السياسة والنظام والتقاليد والعادات والأزياء
والأعياد » خصائص الألوهية ، ولم تعد توحّد الله وتخلص له الولاء ،
البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن
في مشارق الأرض ومغاربها لا إله إلا الله بلا مدلول ولا واقع ، وهؤلاء أِثقل إثماً
وأشد عذاباً يوم القيام لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعدما تبين لهم الهدى ،
ومن بعد أن كانوا في دين الله ) .
هنـا استخدم
الشهيد مصطلحين ، ورمى بهما الناس – والأصح رمى بهما المجتمع – وهما : الجاهلية ،
والردّة .
1 – لو رجعت إلى
بيان الفرق بين المجتمع والشعب ، لتبيّن لك ما يقوله سيّد ، رحمه الله : ( السياسة
والنظام والتقاليد والعادات والأزياء والأعياد ) .
فهل تلك الأمور –
بين الناس – مأخوذة من الكتاب والسنّة ؟ !
هل السياسة التي
تسير عليها كافة المجتمعات ، التي يعيش فيها المسلمون ، هي سياسة إسلامية ، يرضاها
الله تعالى ، ويرضاها رسوله r
؟ !
وهل الأنظمة التي
تسير على ضوئها جميع المجتمعات ، التي يعيش فيها المسلمون ، هي أنظمة إسلامية ؛
مسستمدة من الكتاب والسنة ؟ !
أم هل أنّ العادات
والتقاليد ، والأزياء ، والأعياد ؛ التي تُفرض على المسلمين ، هي إسلامية ؛ مأخوذة
من القرآن الكريم ، ومن أحاديث رسول الله r ؟ !
وهل هذه الأمور
تتعلّق بذوات الأفراد ، أم تتعلق بأعمالهم
، وتتعلق بأنظمة وتوجّهات الدولة ؟
2 – هل كلمة : الجاهلية
، والردّة ، تعني – دائماً – الكفر والخروج من ملّة الإسلام ، والخروج
من الدّين ؟
الجاهلية
لنرَ هل كلمة (
الجاهلية ) ومشتقاتها ، تعني التكفير ، ورمي صاحبه بالكفر ، الذي يُخرج من الملّة
، ويخلّده في النار ؟ !
أ – يقول الله
تعالى : ( قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ([49])
.
قال الإمام إبن
جرير الطبري ، رحمه الله : [ وقوله : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم )
، نهيٌ من الله تعالى ذكرهُ نبيه نوحًا أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها
عنه وعن غيره من البشر .
يقول له تعالى ذكره : إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب
إهلاكي ابنك الذي أهلكته ، فلا تسألن بعدها عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي
، وليس لك به علم
" إني أعظك
أن تكون من الجاهلين " في مسألتك إياي عن ذلك .
* * *
وكان ابن زيد يقول في قوله : ( إني أعظك أن تكون من الجاهلين
) ، ما : -
18249- حدثني به يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن
زيد في قوله : ( إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) ، أنْ تبلغ
الجهالة بك أن لا أفي لك بوعد وعدتك ، حتى تسألني ما ليس لك به علم ] ([50])
.
لقد فعل سيّدنا نوح ، عليه السلام – هنا – وهو من أولي
العزم ، عملاً ؛ هو من عمل الجاهلين – حاشاه – ولم يكن يعلم أنّ عمله هذا من عمل
الجاهلين .
والله سبحانه وتعالى ، قد علّمه ذلك ، ونهاه سبحانه
عنه !
ولا يستغربنّ أحد ذلك ؛ فالأنبياء – عليهم السلام – قد
يحدث منهم شيء ، من هذا القبيل !
فلقد سأل سيّدنا
موسى عليه السلام – وهو من أولي العزم كذلك – ربّه أمراً لا يكون ، ولا يجوز – وهو
لا يعلم – حيث قال ، كما ذكره الله تعالى : (
قَالَ
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) ([51])
. فقال الله تعالى ، له : ( لَنْ تَرَانِي ) ([52])
.
فقد نهى الله تعالى – هنا – سيّدنا نوحاً أن يكون من الجاهلين
.
أي : أنّ هذا الأمر ؛ وهو سؤالك نجاة إبنك ، وتظنّ أنّي
وعدتّك بنجاته ، ومجرّد إحتمال ظنّك أنّي أخلفت وعدي .
مجرّد إحتمال وظن ، يطوف بالخيال ، بأنّ الله تعالى يخلف
وعده ، أو ينسى وعوده سبحانه ، مجرد هذا الخيال وهذا الأمر ، هو من أمر وصفات
الجاهلين ، وإنّي أنصحك وأحذّرك أن تكون منهم !
فهل وصف هذا الأمر من الله تعالى ، لسيّدنا نوح عليه
السلام ، بالجاهلية ، يُعتبر تكفيراً له ، وإخراجه من الدّين ؟ !
تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى
ب – يقول الله تعالى : ( وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ ([53])
الْأُولَى ) ([54])
.
قال الحافظ إبن كثير ، رحمه الله تعالى ، في تفسيره لهذه
الآية الكريمة :
[ قَالَ مُجَاهِدٌ
: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ ، فَذَلِكَ
تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ
وَقَالَ
قَتَادَةُ : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } يَقُولُ :
إِذَا خَرَجْتُنَّ مِنْ بُيُوتِكُنَّ - وَكَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةٌ وَتَكَسُّرٌ
وتغنُّج - فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ
مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى }
وَالتَّبَرُّجُ
: أَنَّهَــا تُلْقِـي الْخِمَـارَ عَلَـى رَأْسِهَـا ، وَلَا تَشُـدُّهُ
فَيُوَارِي قَلَائِـدَهَـا وَقُرْطَهَــا وَعُنُقَهَــا ، وَيَبْدُو ذَلِــكَ
كُلُّهُ مِنْهَــا ، وَذَلــِكَ التَّبَرُّجُ ، ثُــمَّ عُمَّتْ نِسَاءُ
الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّبَرُّجِ ] ([55])
.
[ أي لا
تتبرجن مثل تبرج النساء في الجاهلية الأولى . والتبرج : التبختر ، وإظهار الزينة
والمحاسن ] ([56])
.
وقال الشيخ السعدي ، رحمه الله :
[ أي : لا
تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات ، كعادة أهل الجاهلية الأولى ، الذين لا علم
عندهم ولا دين ، فكل هذا دفع للشر وأسبابه ] ([57])
.
ألا تتبرّج كثيرات من النساء المسلمات في عصرنا ؟ ألا
تبدو قلائدهنّ وأقراطهنّ وأعناقهنّ ؟
ألا يتبخّرنَ ، ويُظهرنَ زينتهنَ ومحاسنهنّ ، ويخرجنَ
متجملات ، متطيّبات ؟
أوَلن ترقص بعض النساء – في الملاهي – شبه عارية ، وهن
يزعمن الإيمان بالله تعالى ، والإيمان برسوله r ؟ !
ألا نستطيع أن نقول في هذه الحالة : أنّهنّ يتبرّجنَ
تبرّج الجاهلية الأولى ؟
هل إذا قلنا ذلك ،
يعني : أنّنا كفّرناهنّ ، وأخرجناهنّ من ملة الإسلام ؟
أم أنّنـا نعنـي :
أنّهـنّ لا يلتزمن بشريعة الإسلام ، ولم يجعلن الإسلام منهج حياتهنّ ، بل يتّبعنَ
العادات والتقاليد الجاهلية ، حالهنّ حال السكّير العربيد الذي ذكرناه سابقاً ؟ !
ما الفرق بين هذا
الحكم على المتبرّجات من نساء المسلمين ، وبين الحكم على الدول والمجتمعات التي لا
تهتدي بهدي القرآن والسنة ؟
لماذا الحكم في
الحال الأول ليس بتكفير ، أما في الحال الثاني فهو تكفير ؟ !
ومعنى الكلام –
وهو موجّه بالدرجة الأولى لنساء النبيّ r : إذا خرجتن من البيت استرن زينتكنّ ومحاسنكنّ
، وتقيّدنَ – في ذلك – بشريعة الإسلام ، ولا تتّبعنَ عادات وتقاليد الكفار ؛ التي
كانت لا تراعي الدّين ، بل تأمر بكشف العورات والفسوق والمجون !
إِنَّكَ
امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ
ج – قـال رسول
الله r
لأبـي ذرّ الغفاري t
: ( يَـا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ
جَاهِلِيَّةٌ ([58])
) ([59])
.
وذلك كما روى
الشيخان – البخاري وسلم – ( عَنِ
المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ ، قَالَ : لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ ،
وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ،
فَقَالَ : إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ
بِأُمِّهِ ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
« يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ؟ إِنَّكَ
امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ
تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا
يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا
يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ » ) ([60])
.
قال الإمام النووي ، رحمه الله ، في شرحه لهذا الحديث :
[ أَيْ هَذَا
التَّعْيِيرُ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيكَ خُلُقٌ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ
وَيَنْبَغِي
لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ فَفِيهِ النَّهْيُ
عَنِ التَّعْيِيرِ وَتَنْقِيصِ
الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَأَنَّهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ ]
([61])
.
وقال الحافظ إبن
حجر العسقلاني ، رحمه الله ، في شرحه لهذا الحديث :
[ أَيْ خَصْلَةٌ
جَاهِلِيَّةٌ مَعَ أَنَّ مَنْزِلَةَ أَبِي ذَرٍّ مِنَ الْإِيمَانِ فِي الذُّرْوَةِ
الْعَالِيَةِ وَإِنَّمَا وَبَّخَهُ بِذَلِكَ عَلَى عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ تَحْذِيرًا
لَهُ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِ ذَلِكَ
لِأَنَّهُ
وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعُذْرِ لَكِنْ وُقُوعُ ذَلِكَ
مِنْ مِثْلِهِ يُسْتَعْظَمُ أَكْثَرَ مِمَّنْ هُوَ دُونَه ] ([62])
.
وقال ، رحمه الله
، أيضاً :
[ وَالْجَاهِلِيَّةُ
مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا هُنَا الْجَهْلُ
أَيْ إِنَّ فِيكَ جَهْلًا
وَقَوْلُهُ
قُلْتُ عَلَى سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ أَيْ هَلْ فِيَّ جَاهِلِيَّةٍ
أَوْ جَهْلٍ وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ] ([63])
.
وقال ، رحمه الله
:
[ فَبَيَّنَ لَهُ
كَوْنَ هَذِهِ الْخَصْلَةِ مَذْمُومَةً شَرْعًا ] ([64])
.
فهل قول النبيّ r
، لأبي ذر t
: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، يعني :
تكفيرٌ له ؟ !
لا شك هذا الكلام
ليس تكفير له .
بل هو نصيحة ،
وتعليم ، وتذكير من النبيّ r
، لصاحبه أبي ذرّ t
، وكأنه r
يقول له :
إنّ تقييم الناس
حسب ألوانهم ، وتفضيل بعضهم على بعض بسبب ذلك ، هو من قِيَم الجاهلية ؛ أهل الضلال
والكفر . وبالتالي هو غير صحيح ، بل هو باطل .
إنّما القِيَم
الحقيقية ؛ التي أوحاها الله تعالى إليّ ، هي : أنّ الناس كلّهم إخوة ؛ من أب
واحدٍ ، وأمٍّ واحدة ( آدم وحواء ) ، لا يتفاضلون فيما بينهم باللون ، ولا باللسان
، ولا بالعشيرة ، ولا بالقوم ، ولا بالوطن ، ولا بما شابه ذلك .
بل هم يتفاضلون
فيما بينهم بالتقوى ؛ فمن اتّقى الله تعالى ، أكثر فهو أفضل ، مهما كان لونه ، أو
لسانه ، أو عشيرته ، أو قومه ، أو وطنه ، . . .
و وجود هذه الصفة
الجاهلية وبقائها ، في الصحابيّ الجليل أبي ذرّ ، لا يجعله كافراً !
جُلّ ما تفعله هذه
الصفة الجاهلية فيه ، هو وجود نقص من بعض القِيَم والمباديء الإسلامية ، التي
ينبغي أن يتّصف بها .
والمقصود : أنّ
الإتّصاف ، ووصف البعض بالجاهلية ، لا يعني : تكفيره وإخراجه من ملّة الإسلام .
بل معناه : أنّ
المتّصف بالجاهلية : يسير في حياته حسب النُظم ، والقِيَم ، والأحكام ، والعادات ،
والتقاليد الجاهلية وأهل الضلال والكفر .
والمفروض في
المسلم أن يكون منهج حياته ، ومبادئه ، وقِيَمه ، وأخلاقه ، وعاداته وتقاليده
مأخذوذة من الكتاب والسنة .
ولمــاذا نرى
البعض ، يرمـون كبـار الأئمة والدعاة بتشبههم بالكفار - وذلك بسبب ما يلبسون من
الملابس - ولا يتّهمهم أحد بأنّ هذا تكفير لهم وإخراجهم من ملّة الإسلام ؟ ! ([65]) .
خِلاَلٌ مِنْ خِلاَلِ الجَاهِلِيَّةِ
د – ( عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : « خِلاَلٌ مِنْ خِلاَلِ الجَاهِلِيَّةِ
الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ » وَنَسِيَ الثَّالِثَةَ ، قَالَ
سُفْيَانُ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا الِاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ ) ([66])
.
و ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " شُعْبَتَانِ لَا تَتْرُكُهُمَا أُمَّتِي :
النِّيَاحَةُ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ " ) ([67])
.
قال النبيّ r - هنا – أنّ صفتان توجد في أمّته ، لا تتركهما ، وهما : النياحة ،
والطعن في الأنساب .
وقد حكم ترجمان القرآن ،
والحبر البحر ؛ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، بأنهما صفتان للجاهلية !
أي : هاتان الصفتان مأخوذة
من الجاهلية ؛ من أهل الضلال والكفر !
فهل الذي يقوم بهذين
المنكرين من المسلمين هم بهما كفّار ، بسبب نعت ابن عباس لهما بأنهما من خلال
الجاهلية ؟ !
وأخرج الإمام أحمد بن حنبل
، رحمه الله ، في مسنده :
[ عن أبي هريرة ، أن رسول الله -
صلي الله عليه وسلم – قال :
"
ثلاث من عمل أهل الجاهلية لا يتركهن أهل
الإِسلام : النياحة ، والاستسقاء بالأنواء " ، وكذا ، قلت لسعيد : وماهو ؟
قال : " دعوى الجاهلية : يا آل فلان ، يا آل فلان ، يا آل فلان " ] .
قال محققه : الشيخ أحمد محمد شاكر ، رحمه الله :
[ إسناده صحيح ، سعيد : هو المقبري . والحديث
رواه ابن حبان في صحيحه (2:
78 من مخطوطة التقاسيم والأنواع المصورة عندي ) ، من طريق أبي خيثمة زهير بن حرب ،
عن ربعي بن إبراهيــم - شيخ أحمد هنا - بهذا الإِسناد . ولفظه: " ثلاث .... والاستسقاء بالأنواء ، والتعاير " . ولم أجده - بعد طول البحث والتتبع
- من رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة إلا في هذا الموضع من المسند ، وذاك الموضع
من ابن حبان . ويبدو لي أن سعيدًا المقبري نسي الثالثة وشك فيها ، فقال في رواية
المسند هنا : " وكذا " ، حتى سأله عبد الرحمن بن إسحق ، فقال : " دعوى
الجاهلية " . ثم لعله استذكر أو استيقن مرة
أخرى فلم يشك ، وقال دون سؤال : " والتعاير "، يعني
التعاير في الأنساب والطعن فيها .
وهذا هو الثابت في سائر الروايات
التي رأينا ، من حديث أبي هريرة وغيره . كما سنشير إليه ، إن شاء الله .
وروى الحاكم في المستدرك 1 : 383 ، من طريق الأوزاعي ، عن إسماعيل
بن عُبيد الله ، عن كريمة بنت الحسحاس المزنية ، قالت : "سمعت أبا هريرة ،
وهو في بيت أم الدرداء ، يقول : قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - : ثلاثة من
الكفر بالله : شق الجيب ، والنياحة ، والطعن في
النسب " .
قال
الحاكم : " صحيح
الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه
الذهبي . وهو كما
قالا .
وذكر المنذري
في الترغيب 4: 176 هذا اللفظ
، وقال : " رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم ،
وقال : صحيح الإسناد ه . ثم أشار إلى رواية لابن حبان ، أولها : " ثلاثة هي
الكفر " . ثم أشار إلى الرواية التي نقلنا
آنفًا عن ابن حبان .
وقد جاء هذا المعنى مطولاً ، عن أبي هريرة ، من وجه آخر : فروى أبو الربيع المدني ، عن أبي هريرة
مرفوعًا : " أربع في أمتي من أمر الجاهلية ، لن يدعوهن : التطاعن فـي الأنسـاب ، والنيـاحة ، ومطرنا بنوء
كذا وكذا ، والعدوى : الرجل يشتري البعير الأجرب ، فيجعله في
مائة بعير ، فتجرب ، فمن أعدى الأول ؟ " . رواه أحمد
في المسند: 9873، وهذا لفظه. ورواه أيضاً
بنحوه، بأسانيد ، من حديث أبي الربيع عن أبي هريرة : 7895 ،
9354 ، 10821 ، 10883 .
وكذلك رواه
الترمذي 2: 135 ، بنحوه ، من هذا الوجه ، وقال : " هذا حديث
حسن " . ولعله من أجل هذه الرواية "
وأنه رواها الترمذي - لم يذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد .
وفي
هذا المعنى أحاديث كثيرة ،
انظرها في الترغيب 4: 716 - 177، ومجمع الزوائد 3: 12 - 14. وانظر ما مضى في مسند
علي: 1087، وفي مسند ابن مسعود : 4435 ] ([68]) .
وعن
جابر بن عبد الله ، رضي الله عنهما قال : (
غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا ،
وَكَانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ ، فَكَسَعَ
أَنْصَارِيًّا ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا ،
وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ ، وَقَالَ
المُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ،
فَخَرَجَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " مَا بَالُ دَعْوَى
أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ ؟
ثُمَّ قَالَ : مَا شَأْنُهُمْ " فَأُخْبِرَ
بِكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ ،
قَالَ : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : « دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ » ) ([69])
.
فها
هو النبيّ r
يصف هذا المنكر ، الذي فعله الأنصاري والمهاجري ، بالجاهلي
الجاهلية
لا تعني تكفير الناس
بعد
ثبوت هذه الأحاديث الشريفة ؛ والتي يصف فيها النبيّ r
، بعض الأعمال بأعمال أهل الجاهلية ؛ أهل الضلال والكفر .
وقال –
في بعضها – بأنّ أمته لا تتركها .
أي :
إنّ المسلمين ( من أمة النبيّ r
) يقترفون هذه الأعمال الجاهلية ، فهل يعني ذلك : أنّهم كفّار ، وأنّ النبيّ r
قد كفّرهم ، وأخرجهم من ملّة الإسلام ، علماً أنّه r
قال : ( من أمتي ) ؟ !
فالجاهلية ، إذن ، عبارة عن الأعمال التي فيها
إستمداد قِيَم الحياة ، ومبادئها ، والأفكار ، والتصوّرات ، بعيداً عن شريعة الله
تعالى ، وأوامره ، ونواهيه .
ونستطيع
– على ضوء هذا – أن نقول : إنّ الذين يعيشون حياتهم بتصورات ، وأفكار بشرية -
تفرضها عليهم الدول والحكومات ؛ وهي تخالف الإسلام .
نستطيع
أن نقول عنهم : إنّهم يعيشون في جاهلية ، أو : أنّ حياتهم هي حياة جاهلية ، وهذا
المجتمع هو مجتمع جاهلي .
وبهذا
نبيّن الحقّ ، حتى لا تلتبس الحقائق والمفاهيم ، فنحكم على تصرفات وأعمال الذين
منهج حياتهم مستمدة من أفكار بشر مثلهم – ولا سيما وهي تخالف الإسلام الذي ارتضاه
الله تعالى ، لنا .
فنلبّس
على الناس ، ونشوّه الإسلام ، فنقول : هؤلاء حياتهم حياة إسلامية ، وهذا المجتمع
هو مجتمع إسلامي ، بما يؤول بمعنى أنّ الناس يعيشون فيه طِبقاً لأوامر الله تعالى
، ونواهيه !
وهذا
الحكم هو تقييم للأعمال والتصرّفات ، وهو – لا شك ولا ريب – يختلف عن الحكم عليهم –
كأفراد – بالكفر ، أو الإسلام .
ولقد
عمّم الإمام البخاري ، رحمه الله – في صحيحه – فجعل المعاصي كلّها من الجاهلية ،
فقال :
[ بَابٌ :
المَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ ، وَلاَ يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا
بِارْتِكَابِهَا إِلَّا بِالشِّرْكِ ] .
وكلُّ
ذلك من أجل : ( لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) ([70])
.
ولماذا ؟
الجواب
: لأن [ سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت ، أمكن اجتنابها ، والبعد منها ، بخلاف ما
لو كانت مشتبهة ملتبسة ، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل ] ([71])
.
وَقِتَالُهُ كُفْرٌ
أ – قال رسول الله r :
[ سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ] .
فهل قتال المسلم – ولاسيما من المسلم – هو كفر ، يخرج عن
الملّة ؟ !
لقد وصف النبيّ r هذا القتال بالكفر ، فهل هو يُخرِج من ملّة
الإسلام ؟ !
[ ( كفر ) لا
بمعنى الخروج عن الملَّةِ ، أو بمعناه ، لكنه قاتل المسلم ، أو قتله مستحلًّا لذلك
،
أو المرادُ
: الكفرُ اللغويُّ ، وهو الستر ؛
لأنه
بقتاله له ستَر مالَه عليهِ من حقّ الإعانةِ وكفِّ الأذى ،
أو
عبَّر به مبالغة في التحذير عن ذلك ؛ لأنه أغلظُ منَ السبِّ ، وإنِ اشترك في الفسق
، ولهذا عبَّر فيهِ بالكفرِ وفي السبابِ بالفسوقِ .
وفي
الحديث : تعظيمُ حقِّ المسلم ، والحكمُ على من سبَّهُ بالفسقِ ] ([72])
.
[ قيل :
مقابلته بالفسوق يقتضي أن يكونَ المرادُ من الكفر ههنا ، الكفر المخرج عن الملة .
والجواب
: أنه أطلقَ الكفر على الفسوق تغليظًا ،
ولو
قال : وقتاله فسوق ، لساوى حال السِّباب ، مع أن القتال أشدُ من السِّباب ،
فلإظهار هذه الشِّدة أطلقَ عليه الكفر . وهذا
الذي يُعنونَ بقولهم : إنه محمولٌ على التغليظ .
والأصل
: أن الحديث اتَّبع القرآن في ذلك ، فإن الله تعالى أخبرَ عن جزاءِ القتل بالخلود
- بأي معنى كان - والخلود جَزَاء الكفر ، فاتبَّعه الحديث وقال : قتال المسلم كفر .
وإن لم يحكم به الفقهاء في الدنيا ، إلا أن الحديثَ يختارُ من التعبيرات ما هو
أدعى للعمل فيشددُ فيه لا محالة .
وقال
الدَّوَّاني : إنه وعيدٌ ويجوز الخُلْفُ في الوعيد . وأنت تعلم أنه إنشاءٌ لا خبر .
وقيل :
إنه محمولٌ على التَّشبُه كقوله : « لا تَرْجِعُوا بعدي كفارًا يضربُ بعضُكم رقاب بعض »
ومعلومٌ
أن المرءَ لا يصير كافرًا بضرب الرقاب ، ولكن لما كان شأنُ القتل أن يجري بين مسلم
وكافر، لا بين مسلم ومسلم فمن ضرب رقبة أخيه وقاتل ، فقد تشبه بالكفار ، وفعل ما
يفعلُهُ الكفار ، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم . وهذا هو المختار عندي في الجواب ،
والله أعلم ] ([73]) .
وقال الإمام بدر
الدين العيني ، رحمه الله :
[ لم يرد بقوله : ( وقتاله
كفر ) ، حَقِيقَة الْكفْر الَّتِي هِيَ خُرُوج عَن الْملَّة ،
بل إِنَّمَا
أطلق عَلَيْهِ : الْكفْر ، مُبَالغَة فِي التحذير ،
وَالْإِجْمَاع
من أهل السّنة مُنْعَقد على أَن الْمُؤمن لَا يكفر بِالْقِتَالِ ، وَلَا بفعل
مَعْصِيّة أُخْرَى ،
وَقَالَ
ابْن بطال : لَيْسَ المُرَاد بالْكفْر الْخُرُوج عَن الْملَّة بل كفران حُقُوق
الْمُسلمين لِأَن الله تَعَالَى جعلهم أخوة ، وَأمر بالإصلاح بَينهم ، ونهاهم
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التقاطع والمقاتلة ،
فَأخْبر أَن من فعل ذَلِك فقد كفر حق أَخِيه الْمُسلم ،
وَيُقَال
: أطلق عَلَيْهِ الْكفْر لشبهه بِهِ ، لِأَن قتال الْمُسلم من شَأْن الْكَافِر ،
وَيُقَال
: المُرَاد بِهِ الْكفْر اللّغَوِيّ ، وَهُوَ السّتْر ، لِأَن حق الْمُسلم على
الْمُسلم أَن يُعينهُ وينصره ويكف عَنهُ أَذَاهُ ، فَلَمَّا قَاتله كَأَنَّهُ كشف
عَنهُ هَذَا السّتْر،
وَقَالَ
الْكرْمَانِي : المُرَاد أَنه يؤول إِلَى الْكفْر لشؤمه ، أَو أَنه كَفعل
الْكَفَّارَ
وَقَالَ
الْخطابِيّ : المُرَاد بِهِ الْكفْر بِاللَّه تَعَالَى ، فَإِن ذَلِك فِي حق من
فعله مستحلاً بِلَا مُوجب وَلَا تَأْوِيل ،
أما
المؤول فَلَا يكفر وَلَا يفسق بذلك ، كالبغاة الخارجين على الإِمَام بالتأويل ،
وَقَالَ
بَعضهم : فِيمَا قَالَه الْكرْمَانِي بعد ، وَمَا قَالَه الْخطابِيّ أبعد مِنْهُ .
ثمَّ قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُطَابق التَّرْجَمَة ، وَلَو كَانَ مرَادا لم يحصل
التَّفْرِيق بَين السباب والقتال ، فَإِن مستحلاً لعن الْمُسلم بِغَيْر تَأْوِيل
كفر أَيْضا .
قلت :
إِذا كَانَ اللَّفْظ مُحْتملا لتأويلات كَثِيرَة ، هَل يلْزم مِنْهُ أَن يكون
جَمِيعهَا مطابقـا للتَّرْجَمَة ؟ فَمن ادّعى هَذِه الْمُلَازمَة فَعَلَيهِ
الْبَيَان ، فَإِذا وَافق أحد التأويلات للتَّرْجَمَة ، فَإِنَّهُ يَكْفِي للتطابق
.
وَقَوله
: وَلَو كَانَ مرَادا لم يحصل التَّفْرِيق ... الخ ،
غير مُسلم لِأَنَّهُ تَخْصِيص الشق الثَّانِي بالتأويل لكَونه مُشكلا بِحَسب
الظَّاهِر ، والشق الأول لَا يحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل لكَون ظَاهره غير مُشكل .
فَإِن
قلت : جَـاءَ فِي رِوَايَة مُسلم : ( لعن الْمُسلم كقتله ) ، قلت : التَّشْبِيه
لَا عُمُوم لَهُ ، وَوجه التَّشْبِيه هُوَ حُصُول الْأَذَى بِوَجْهَيْنِ :
أَحدهمَا : فِي الْعرض ، وَالْآخر : فِي النَّفس . فَإِن قلت : السباب والقتال
كِلَاهُمَا على السوَاء فِي أَن فاعلهما يفسق ولايكفر ، فلِمَ قَالَ فِي الأول
فسوق ، وَفِي الثَّانِي كفر ؟ قُلْنَا : لِأَن الثَّانِي أغْلظ، أَو لِأَنَّهُ
بأخلاق الْكفَّار أشبه ] ([74])
.
إذن
قتال المسلم من مسلم مثله ، ليس كفراً يُخرج من الملّة ! علماً أنّ النبيّ r
، قد أطلق الكفر على ذلك !
ولم
يفهم عالم ولا إمام أنّ مَن فعله أصبح كافراً ؛ خارجاً عن الإسلام !
لا
ترجعوا بعدي كفارًا
ب –
قـال رسول الله r
: ( لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا ، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ) ([75])
.
[ وليس معنى قوله : ( لا ترجعوا بعدى كفارًا )
النهى عن الكفر الذى هو ضد الإيمان بالله ورسوله ،
وإنما
المراد بالحديث النهى عن كفر حق المسلم الذى أمر به النبى ( صلى الله عليه وسلم )
من التناصر والتعاضد ،
والكفر
فى لسان العرب : التغطية ،
وكذلك
قوله : ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ) يعني : قتاله كفر بحقه وترك موالاته ،
للإجماع على أن أهل المعاصى لا يكفرون بارتكابها .
وقال
أبو سليمان الخطابى : قيل : معناه لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا أن تقاتلوا ويضرب
بعضكم رقاب بعض ] ([76])
.
وقال الحافظ
السيوطي ، رحمه الله :
[ أَي لَا تَفعلُوا
فعل الْكفَّار فتشبهوهم فِي حَال قتل بَعضهم بَعْضًا ] ([77])
.
[ أي : لا تتشبهوا
بالكفار في قتل بعضهم بعضًا ] ([78])
.
فلم يقل أحدٌ من
الأئمة والعلماء ، أنّ القتال بين المسلمين فيما بينهم ، هو كفر ، يخرج من الملّة
، على الرغم من أنّ النبيّ r
قال : قتاله كفر !
بل وكأنهم قالوا :
إنّ القتال بين المسلمين ، هو تشبّه بالكفّار ؛ حيث يقاتلون المسلمين ، لأنه لا
قيمة عندهم للإنسان ، ويتقاتلون من أجل أمور تافهة رخيصة ؛ تكبّراً وغرورا !
وكيف يقولـون
بالكفر ، وهم ( العلماء ) يقرءون في كتاب الله تعالى ، قولـه سبحانه : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ ) ([79])
.
هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ
ج - قَالَ رَسُولُ اللهِ r : ( إثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ:
الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ ) ([80])
.
قال
القاضي عياض ، رحمه الله :
[ وقوله : " إثنتان فـى الناس هما كفرٌ :
الطعن فى الأنساب ، والنياحة على الميت " :
أى من
أعمال أهل الكفر وعادتهم وأخلاق الجاهلية ([81]) ،
وهما
خصلتان مذمومتان محرمتان فى الشرع ، وقد كان النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يأخذ على النساء فى بيعتهن ألا ينحن ،
وقال :
" ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية ([82]) "
وكذلك نهى النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عن السخرية واللمز والنبز والغيبة والقذف ، وكل هذا من أعمال الجاهلية [
! ] ،
وقال
النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إن الله أذهب عنكم عُبيَّة الجاهلية
[ ! ] . . . " الحديث ،
وقوله
: { إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى . . } ، فعرَّف نعمته بالأنساب
للتعارف والتواصل ، فمن تسوَّر على قطعها والغمض فيها ، فقد كفر نعمة ربه وخالف
مراده ،
وكذلك
أمر تعالى بالصبر وأثنى على الصابرين ووعدهم رحمته وصلاته ووصفهم بهدايته ، وحَتَم
الموتَ على عباده ،
فمن
أبدى السخط والكراهة لقضاء ربه وفعل ما نهاه عنه فقد كفر نعمته فيما أعدَّ
للصابرين من ثوابه وتشبه بمن كفر من الجاهلية
] ([83]) .
وقال الإمام النووي ، رحمه الله ، في شرحه لهذا الحديث :
[ وَفِيهِ
أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّ مَعْنَاهُ هُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ
وَأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ [ ! ] . . . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَغْلِيظُ تَحْرِيمِ
الطَّعْنِ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةِ وَقَدْ جَاءَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
نُصُوصٌ مَعْرُوفَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ] ([84]) .
وقال
الإمام أبو الفرج إبن الجوزي ، رحمه الله :
[ فِي المُرَاد بالْكفْر وَجْهَان :
أَحدهمَا
: أَن يكون كفر النِّعْمَة ، فَإِن من طعن فِي نسب غَيره فقد كفر بِنِعْمَة الله
عَلَيْهِ بسلامته من ذَلِك الطعْن ، وَمن ناح على ميت فقد كفر نعْمَة الله
عَلَيْهِ إِذْ لم يكن هُوَ الْمَيِّت .
وَالثَّانِي
: أَن يكون الْمَعْنى : أَنَّهُمَا من أَفعَال الْكفَّار لَا من خلال الْمُسلمين ]
([85]) .
وقال
الأمير محمد الصنعاني ، رحمه الله :
[ والحديث إخبـار بأنَّ هاتيـن الخصلتيـن من خصـال
الكفَّـار لا أن فاعلهمـا كافـر ] ([86])
.
[ أي
خصلتان موجودتان في النَّاس هما كفر قائم بهم كفرًا شرعيًّا يخرج من الملة إن
استحلوها
وإلا
فهما من أعمال أهل الكفر وجاهلية [ ! ] واقعة منهم
فهم
عصاة بهما فلا يخرجان من الملة ،
أحدهما
: ( الطعن ) والتعيير ( في النسب ) أي في نسب النَّاس وأن يقال فلان ليس ابن فلان
لأنه لا يشبهه
( و )
ثانيهما : ( النياحة ) أي رفع الصوت بالبكاء (على الميت ) أي على من مات ] ([87])
.
فمن تركها فقد
كفر
د – قَـالَ
رَسُولُ اللَّهِ r : ( العَهْـدُ الَّذِي بَيْنَنَـا وَبَيْنَهُـمُ
الصَّـلَاةُ ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ ) ([88])
.
قال الإمام الترمذي ، رحمه الله :
[ وَفِي البَابِ عَنْ أَنَسٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ : « هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ » ] ([89])
* وأخرج الإمام البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه :
عن أبي ذر t ، أنّه سمع النبيّ r يقول :
( لَيْسَ مِنْ
رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إِلَّا كَفَرَ ، وَمَنِ
ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ) .
* وعن أبي هريرة t عن النبي r ، قال :
( لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ
أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ ) ([90])
.
* وقال النبيّ r :
( أَيُّمَا
عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ ) ([91])
.
هذه بعض الأمثلة ؛ من الآيات الكريمة ، والأحاديث
النبوية الشريفة ، عن إستخدام كلمتي ( الجاهلية ) و ( الكفر ) فـي معانـي ، لا
تخرج أصحابهما من ملّة الإسلام !
هل تارك الصلاة ، هو خارج الملّة ، لوصفه بـ( كفر ) ؟
وها هو الشيخ الألباني ، رحمه الله ، قد قال :
[ أما من تركها
كسلاً معترفاً بوجوبها ويتمنى من الله عز وجل أن يهديه وأن يوفقه للصلاة فهذا ليس
بكافر كفراً يرتد به ويخرج به من الملة . . .
فإذا
كان هذا التارك للصلاة مؤمناً في قلبه معترفاً بما فرض الله عليه من فرائض لكنه
يعرف بأن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والتجارة وإلى آخره لا شك أن هذا التعلل
مردود عليه ،
ولكن
يشفع له أن لا يُكفَّر ما دام أنه يؤمن بما شرع الله تبارك وتعالى . . .
فتارك
الصلاة هكذا لا يحكم بأنه كافر إلا إذا جحد ذلك جحداً فحينئذٍ يكفر ؛
ولذلك
كان مذهب جماهير العلماء عدم تكفير تارك الصلاة إلا مع الجحد ،
وهذه
رواية عن الإمام أحمد نفسه فهو وافق فيه جماهير الأئمة على أن الترك إن كان ليس عن
جحد فهو فسق وليس كفر . . .
ليس
هذا هو أول حديث يقال فيه من فعل كذا فقد كفر، عندكم الحديث المشهور : « من حلف
بغير الله فقد أشرك ، كفر » ألا نقول نحن من قال : « وحياة أبي » إنه ارتد عن دينه
.
وأنتم
تعلمون مثلاً حديث عمر بن الخطاب في صحيح البخاري لما سمعه الرسول عليه السلام
يحلف بأبيه فقال عليه السلام : « لا تحلفوا بآبائكم من كان منكم حالفاً فليحلف
بالله أو ليصمت »
وفـي حديث ابنه عبد الله بن عمر قال : قال رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : « من حلف بغير الله فقد أشرك » وفي رواية أخرى : فقد كفر ،
فلا
يلزم من مجيء لفظة من فعل كذا فقد كفر أي : أنه كفر كفر ردة
وإنما
له معان كثيرة ، منها مثلاً : كفر أي أشرف على الكفر . . كفر كفراً عملياً ونحو ذلك من المعاني التي
يضطر إليها أهل العلم بالتوفيق بين النصوص :
« من
ترك الصلاة فقد كفر » نقول : « من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة » . .
من قـال
: « لا إله إلا الله نفعته يوماً من دهره » كما جاء في حديث البزار وغيره ، « أيما
عبد أبق من مولاة فقد كفر »
هذه
الألفاظ كثيرة وكثيرة جداً فقد كفر فقد كفر ولا يوجد حديث يُفَسَّر هكذا على ظاهره
إذا جاء بلفظ فقد كفر .
هذا
الحديث حديث : « من ترك الصلاة فقد كفر » يعامل نفس المعاملة التي تعامل بها
الأحاديث الأخرى التي تشترك مع حديث الصلاة في لفظة « فقد كفر » ،
فهنا
تأتي تآويل كثيرة لهذا النص فكثير من الأحاديث مثلاً : « لا يدخل الجنة قتات» . .
« لا يدخل الجنة نمام »
هل
معنى ذلك أنه كفر بسبب نميمته ؟ الجواب : إن كان
يستحل ذلك بقلبه فقد حرمت عليه الجنة . . إن كان يعترف بتحريم ذلك ويعترف بأنه
مخطئ وأنه مذنب ومجرم ؛ فهو أمره إلى الله كما قال عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ( النساء :48
) .
فترك
الصلاة هو فعل يعرض صاحبه أن يموت والعياذ على غير الإيمان ، وترك الصلاة هو من
شيم الكفار الذين لا يصلون . . لا يؤتون الزكاة ولا يصلون ،
فالمسلم
إذا لم يصل فقد شابه الكفار ، فكفره هنا كفر عملي
والأحاديث
كثيرة وكثيرة جداً التي لا بد من تأويلها مثلاً : قال
عليه الصلاة والسلام فـي حجة الوداع وقد خطب فيهم أمر جرير بن عبد الله البجلي أن
يستنصت الناس ، فقال عليه السلام :
« لا
ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » . .
ومثل
قوله عليه السلام : « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر » فإذا قتل مسلم مسلماً أو
قاتله فهل هذا يرتد عن دينه ؟
الجواب
: لا ؛ لأن الله قال : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } ( الحجرات :
9 )
فاعتبر كلاًّ من الطائفتين الباغية والمبغي
عليها من المؤمنين مع أن الرسول يقول في الحديث السابق : « سباب المسلم فسوق
وقتاله كفر »
فبماذا
يفسر هنا الكفر ؟ كفر دون كفر . . كفر عملي . .
وهكذا
أيضاً أحاديث الصلاة التي فيها التصريح بأن من ترك الصلاة فقد كفر ،
إما
أن يقال أشرف على الكفر الاعتقادي .. أشرف أن يموت على غير ملة الإسلام ، أو أنه
كفر كفراً عملياً ،
هـذا
التأويـل لا بد منه حتى لا نضرب أحاديث الرسول عليه السلام بعضها ببعض ] ([92])
.
يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ
وقد أخرج الإمام إبن ماجه ، رحمه الله ، حديثاً في سننه
، وصحّحه محقّقوه ، وصحّحة الشيخ الألبانـي ، رحمه الله ، عَـنْ
حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَـانِ ، t ، قَـالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :
( "
يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا
صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ .
وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ ، فَلَا يَبقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ ،
وَتَبْقَى
طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ ، الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ ، يَقُولُونَ :
أَدْرَكْنَا
آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَنَحْنُ
نَقُولُهَا " .
فَقَالَ
لَهُ صِلَةُ ([93]) : مَا تُغْنِي عَنْهُمْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ
وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ ؟
فَأَعْرَضَ
عَنْهُ حُذَيْفَةُ ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ
عَنْهُ حُذَيْفَةُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ ، فَقَالَ : يَا
صِلَةُ ، تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ ، ثَلَاثًا ] .
فكتب الشيخ الألباني ، رحمه الله ، على هذا الحديث تعليقاً ، فقال :
[ في الحديث فائدة فقهية هامة ، وهي
أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود في النار يوم القيامة ،
ولو كان لا يقوم بشئ من أركان الإسلام الخمسة الأخرى ، كالصلاة وغيرها ،
ومن المعلوم أن العلماء اختلفوا في
حكم تارك الصلاة ، خاصة مع إيمانه بمشروعيتها ، فالجمهور على أنه لا يكفر بذلك ، بل
يفسق ،
وذهب أحمد – في رواية – إلى أنه يكفر ، وأنه يقتل ردة لا حداً ، وقد صح عن الصحابة
أنهم كانوا لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ، رواه الترمذي والحاكم ،
وأنا أرى أن الصواب رأي الجمهور ، وأن ما ورد عن الصحابة ليس نصاً على أنهم
كانوا يريدون بالكفر هنا الكفر الذي يخلد صاحبه في النار ، ولا يحتمل أن يغفره الله
له ،
كيف ذلك وهذا حذيفة بن اليمان – وهو من كبار أولئك الصحابة – يرد على صلة بن
زفر – وهو يكاد يفهم الأمر على نحو فهم أحمد له – فيقول :
( مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا
صَلَاةٌ . . . ) فيجيبه حذيفة بعد إعراضه عنه : ( يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ
ثَلَاثًا ) ،
فهذا نص من حذيفة رضي الله عنه على أن تارك الصلاة – ومثلها بقية الأركان –
ليس بكافر ،
بل مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة ، فاحفظ هذا فإنه قد لا تجده في
غير هذا المكان ، وفي الحديث المرفوع ما يشهد له ، ولعلنا نذكره فيما بعد إن شاء الله
تعالى .
ثم وقفت على ( الفتاوى الحديثية ) للحافظ السخاوي ، فرأيته يقول بعد أن ساق
بعض الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة – وهي مشهورة معروفة – :
( ولكن ، كل هذا إنما يحمل على ظاهره في حق تاركها جاحداً لوجودها مع كونه ممن
نشأ بين المسلمين ، لأنه يكون حينئذ كافر مرتداً بإجماع المسلمين . فإن رجع إلى الإسلام
، قبل منه ، وإلا قتل ،
وأما من تركها بلا عذر – بل تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها - , فالصحيح المنصوص الذي
قطع به الجمهور أنه لا يكفر ، وأنه – على الصحيح أيضاً – بعد إخراج الصلاة الواحدة
عن وقتهـا الضروري – كأن يترك الظهر مثلاً حتى تغرب الشمس ، أو المغرب حتى يطلع الفجر
– يستتاب كمـا يستتـاب المرتد ، ثـم يقتل إن لم يتب ، ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر
المسلمين ، مع إجراء سائر أحكام المسلمين عليه ،
ويؤول إطلاق الكفر عليه لكونه شارك الكافر في بعض أحكامه ، وهو وجوب العمل ،
جمعاً بين هذه النصوص وبين ما صح أيضاً عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ . . . . [ فذكر الحديث ، وفيه ] : إِنْ
شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ ) ،
وقال أيضاً : ( مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
دَخَلَ الْجَنَّةَ ) . إلى غير ذلك ،
ولهذا لم يزل المسلمون يرثون تارك الصلاة
ويورثونه ، ولو كان كافراً ، لم يغفر له ، لم يرث ولم يورث ) .
وقد ذكر نحو هذا الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله في ( حاشيته على المقنع ) ،
وختم البحث بقوله : ( ولأن ذلك إجماع
المسلمين ، فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة
عليه ، ولا منع ميراث موروثه ، مع كثرة تاركي الصلاة ، ولو كفر ، لثبتت هذه الأحكام
،
وأما الأحاديث المتقدمة ، فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على الحقيقة
، كقوله عليه الصلاة والسلام : ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ )
وقوله : ( مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ) ، وغير ذلك . قال الموفق
: وهذا أصوب القولين ) .
أقول : نقلت هذا النص من ( الحاشية ) المذكورة ، ليعلم بعض متعصبة الحنابلة
أن الذي ذهبنا إليه ليس رأياً تفردنا به دون أهل العلم بل هو مذهب جمهورهم ، والمحقيقين من علمـاء الحنـابلة
أنفسهم ، كالموفق هذا – وهو ابن قدامة المقدسي – وغيره ،
ففي ذلك حجة كافية على أولئك المتعصبة ، تحملهم إن شاء الله تعالى على ترك غلوائهم
، والاعتدال في حكمهم ] ([94]) .
لاَ
يُؤْمِنُ
قال
رسول الله r
: ( لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا
يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ) ([95])
.
وقال r : ( فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ
أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ ) ([96])
وقال r : ( « وَاللَّهِ لاَ
يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ » قِيلَ : وَمَنْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ » ) ([97])
.
فماذا
يقول خصوم سيّد قطب عن هذه الأحاديث ؟ وكيف يفهمونها ؟
هل
يعني : أن الذين لا يحبّون لأخيهم ما يحبّونه لأنفسهم ، كفّار ، خارجون من ملّة
الإسلام ؟ !
وهل
يعني : أنّ الإنسان الذي جاره يتخوف
، أو يتوقع منه أن يوصل إليه شرًّا ، فهو لا يأمن شره ، هو
إنسان كافر ، خارج عن الملة ؟ !
وماذا يقولون عن قول رسول الله r : ( لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا دِينَ
لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ) ([98]) .
هل يقولون للذين لا يحفظون الأمانات ، والذين
لا يوفون بالعهود ، هم كفار ، خارجون عن ملّة الإسلام ، لأن النبيّ r ، قال عنهم
: أنهم لا إيمان لهم ولا دين ؟ !
وقال النبيّ r : ( المُسْلِمُ
مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ) ([99])
.
فهل الإنسان ، الذي لا يسلم المسلمون منه ، فهو يؤذيهم إما
بيده ، أو بلسانه ، هو إنسان كافر ، لأنّ النبيّ r ، قال عنه : هو ليس بمسلم ؟ !
فهذه الأوصاف التي أطلقها النبيّ r ، على هؤلاء ، هي ليست تكفيراً لهم ، وإخراجهم عن الإسلام .
بل هي أوصاف لتلك الأعمال المنكرة ، ليعلموا أن هذه الأعمال هي
ليست أعمال مسلمين ومؤمنين كاملي الإيمان ، بل هي من أعمال مَن لا إيمان لهم ولا
دين !
فهي
للردع والزجر ونفي الفضيلة عن تلك الموبقات .
أنظر إلى ما قاله r ، من هذا الباب :
قال r : ( لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ،
وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ
يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ، يَرْفَعُ النَّاسُ
إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) ([100]) .
فهل الزنا وشرب الخمر والسرقة كفر ، مَن فعلها لا إيمان
له ، فيخلد في جهنم ؟
هل قال ذلك غير الخوارج ؟
[ قــال الخطـابي : الخوارج ومن يذهب مذهبهم ممن يكفر المسلمين بالذنوب
يحتجون به ، ويتأولونه على غير وجهه ،
وتأويله عند العلماء على وجهين :
أحدهما : أن معناه النهي وإن كانت صورته
صورة الخبر ،
يريد : لا يَزنِ الزاني بحذف الياء ، ولا
يسرقِ السارقِ بكسر القاف على معنى النهي . يقول : إذ هو مؤمن لا يزني ولا يسرق
ولا يشرب الخمر ، فإن هذه الأفعال لا تليق بالمؤمنين ولا تشبه أوصافهم .
والوجه الآخر : أن هذا كلام وعيد لا يراد به
الإيقاع ، وإنما يقصد به الردع والزجر ، فقوله : " المسـلم مـن ســلم المســلمون
مـن لسـانه ويده " وقوله : " لا إيمان لمن لا أمانة له " وقوله :
" ليس بالمسلم من لم يأمن جاره بوائقه "
وهذا كله على معنى الزجر والوعيد أو نفي
الفضيلة وسلب الكمال دون الحقيقة في رفع الإيمان وإبطاله . . .
وقال الإِمام النووي : الصحيح الذي قاله
المحققون : أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان ، وإنما تأولناه لحديث
أبي : " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وسرق " ] ([101])
.
إطلاق الكفر على فعلٍ
ليس معناه كفر صاحبه
عندما يطلق أحد الأئمة والعلماء على فعلٍ ما أنه كفر ،
فليس معنى ذلك أنه تكفير لصاحبه ، وإخراجه من الإسلام .
وهذا الأمر هو معلوم – نظرياً فقط ! –
عند خصوم سيّد قطب ، رحمه الله ، من الشيوخ ؛ أصحاب الفخامة والألقاب الطنّانة !
ولكن عملياً – وعند الحكم على خصومهم –
ينسون كلّ ذلك ، وكأنّهم لم يسمعوا ذلك في يوم من الأيّام !
وذلك لأنّهم حُفّاظ نصوص لا غير ؛ يحفظون
نصوص – سواء آيات من القرآن الكريـم ، أو أحاديث للنبيّ r ، أو أقوال الأئمـة والعلماء – ثم يضربون
بها وجوه خصومهم – من غير فهم عميق – عند النزاع !
وللعلم إنّ إطلاق وصف ( العلماء ) عليهم
، هو تجوّز ، ومن نكبات الزمان الذي نعيش فيه !
قال الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان ،
رحمه الله :
[
فلا يعتبر الشخص مجتهداً ولا فقيهاً إذا عرف الأحكام الشرعية بطريق الحفظ
والتلقين ، أو بتلقيها من الكتب أو من أفواه العلماء بلا بحث ولا نظر ولا استنباط
. . .
وهناك شرط ، هو في رأينا ، شرط ضروري ([102])
وإن لم ينص عليه الأصوليون صراحة ،
وهو أن يكون عند العالم إستعداد فطري للإجتهاد ، بأن
تكون له عقلية فقهية مع لطافة إدراك ، وصفاء ذهن ، ونفاذ بصيرة ، وحسن فهم ، وحدّة
ذكاء .
إذ بدون هذا الإستعداد الفطري لا يستطيع الشخص أن يكون
مجتهداً وإن تعلم آلة الإجتهاد التي ذكرناها في شروطه ،
لأنها إذا لم
تصادف إستعداداً فطرياً للإجتهاد لا تجعل الشخص مجتهداً .
وليس في قولنا هذا غرابة ، فإنّ تعلّم الإنسان اللغة
العربية وعلومها وأوزان الشعر لا تجعله شاعراً إذا لم يكن عنده إستعداد فطري للشعر
.
فكذلك الحال في الإجتهاد . . ونوابغ المجتهدين ما كانوا
أكثر من غيرهم معرفة بعلوم الإجتهاد ووسائله وآلاته ، وإنما كانوا أكثر من غيرهم
في القابلية على الإجتهاد وفي الإستعداد الفطري له ] ([103])
.
فلو أنّ مسلماً حفظ القرآن كلّه ، وحفظ أحاديث الصحيحين
، والسنن ، والمسانيد ، وحفظ الأحكام بأدلتها ، ولكن لم تكن عنده مَلَكَة ([104])
الإستنباط ، فلا يكون مجتهداً فقيهاً – في الحقيقة – إلّا تجوزاً .
فحفّاظ النصوص – الذين تُطلق عليهم ألقاب فخمة وطنّانة
رنّانة ، أمثال خصوم سيّد قطب ، رحمه الله – تستطيع أن تصنع منهم بالآلاف ؛ حيث
تجمعهم ، وتُدخلهم دورات علمية ، ومدارس فقهية ، وتُحَفّظهم القرآن الكريم ،
وأحاديث النبيّ r ، وقضايا الفقه ، وأقوال الفقهاء ، وتوفّر لهم مكتبة ؛ فيها كتب
مطلوبة .
فمن خلال أقل من عقدين من الزمان ، أو أكثر ، وإذا أصبح
عندك آلاف الشيوخ أصحاب الفضيلة ، تشجعهم على محاربة أئمة الدعاة والمجدّدين ،
باسم الإسلام وباسم القرآن والسنة ! !
ولكنّك لا تستطيع أن تصنع أمثال سيّد قطب ، رحمه الله
تعالى ، في قرن من الزمان ، إلّا إذا بعث الله تعالى أمثالهم ، ليجدّد بهم دينه
سبحانه !
وهاهو الحافظ إبن تيمية ، رحمه الله ،
يقول :
[
فَيُطْلِقُ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِ
الْقَائِلِ ؛ كَمَا قَالَ السَّلَفُ مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ
كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ
وَلَا
يَكْفُرُ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ ] ([105])
.
[ عَنْ
أَحْمَد وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ؛ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ
وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ
ذَلِكَ . . .
التَّكْفِيرَ
لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ قَدْ تَنْتَقِي فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ وَأَنَّ
تَكْفِيرَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ ]
([106])
.
وقال رحمه الله :
[ فَإِنَّ نُصُوصَ
" الْوَعِيدِ " الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنُصُوصَ
الْأَئِمَّةِ بِالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُسْتَلْزَمُ
ثُبُوتُ مُوجَبِهَا فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ
إلَّا
إذَا وُجِـدَتْ الشُّـرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِـعُ لَا فَـرْقَ فِـي ذَلِـكَ
بَيْـنَ الْأُصُـولِ وَالْفُـرُوعِ ] ([107])
.
فهاهو الحافظ إبن
تيمية ، رحمه الله ، يقول : بأنّ نصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا
يستلزم ثبوت موجبها في حق المُعَيّن !
ويقول : إنّ قول
الأئمة : مَن فعل كذا فهو كافر ، ليس معناه تكفير الشخص المعيّن الذي يفعل كذا ! !
فهو كأنه قد دافع
عن الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ، هذه الخزعبلات والهذيان الصادر عن هؤلاء الشيوخ
! !
علماً أنّ سيّد
قطب ، رحمه الله ، لم يستخدم كلمة ( الكفر ) في كتاباته .
بل إنّ الحافظ إبن
تيمية ، رحمه الله ، كأنه شجّع الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ، في إطلاقه كلمة (
الجاهلية ) على الأنظمة المزرية ،
والمجتمعات التي لا ترفع رأسها للشريعة التي بعث الله بها رسول الله r
!
فقد قال ، رحمه
الله :
[ أَنَّ التَّكْفِيرَ الْعَامَّ
- كَالْوَعِيدِ الْعَامِّ - يَجِبُ الْقَوْلُ بِإِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ .
وَأَمَّا
الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ أَوْ مَشْهُودٌ لَهُ بِالنَّارِ :
فَهَذَا يَقِفُ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَقِفُ عَلَى
ثُبُوتِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ ] ([108])
.
فقد أوجب ، رحمه
الله ، إطلاق التكفير العام ، دون تكفير شخص معيّن بدون دليل !
وقال ذلك استناداً
إلى آيات القرآن الكريم ، وأحاديث رسول الله r .
أما الآيات
القرآنية ، فكقول الله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ) ([109])
.
فويلٌ لكلّ مَن
توجد فيه هذه الصفات ! فهل إذا قرأت هذه الآيات ، وهدّدت بها أصحابها ، تكون قد
حكمت على أشخاص معيّنين بالويل ؟ !
وهل إذا رأيت
شخصاً يطعن في نسب مسلم ، تقول : هذا الشخص كافر بنص حديث رسول الله r
؟ !
سيّد قطب لا
يكفّر
إذن تبيّن لنا –
بأدلة الكتاب والسنة :
1 - أن أقوال سيّد
قطب ، رحمه الله ، واستخدامه لكلمة ( الجاهلية ) ليس بتكفير للمجتمع ، ولا
للمسلمين .
وأنّ الذين
يتّهمونه بذلك ، هم يجهلون الكتاب والسنة ، وأقوال العلماء والأئمة !
2 – أنّ إطلاق
كلمـة ( الجـاهلية ) ، هو إطلاق شرعي ؛ جاءت في القرآن الكريم ، واستخدمها النبيّ r
، واستخدمها الأئمة والعلماء .
3 – وأنّ الإطلاق
العام لكلمات التكفير والتفسيق ، ليس ممنوعاً شرعاً ، بل هو واجب ، كما قال الحافظ
ابن تيمية ، رحمه الله ! ! ( لتستبين سبيل
المجرمين ) ! !
4 – وأنّ الشهيد
سيّد قطب ، رحمه الله ، لم يرتكب محذوراً
، باستخدامه لكلمة الجاهلية ، وارتداد الناس ورجوعهم إلى الجاهلية .
أليس الإرتداد
يعني : التقهقر والتراجع إلى الوراء .
ألم يرجع المسلمون
عن الإلتزام بالشريعة ، بعد أن كان أجدادهم ملتزمون ؟ !
هل المسلمون في
هذا العصر النكد ، يساوون ويشبهون الصحابة والتابعين وتابع التابعين ، في الإلتزام
بدين الله تعالى ، أم عادوا إلى اتّباع أهوائهم ، ونبذ أوامر الله تعالى ونواهيه ،
وراء ظهورهم ، كأهل الجاهلية ؟ !
هل وصْف حال
المسلمين وما وقعوا فيه من المنكرات ، لا يجوز ، بل يجب على العالِم أن يمدحهم ،
ولا يجرح مشاعرهم ، ولا ينبّههم ؟ !
الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومسائل الجاهلية
وللشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، رسالة خاصة ألّفها ، وسمّاها ( مسائل
الجاهلية التي خالف فيها رسول الله r أهل الجاهلية ) .
وهو ألّف هذه الرسالة ،
وذكر فيها مائة وثمان وعشرين مسألة جاهلية ، للكفّار قبل الإسلام ؛ للكتابيين
والأميين .
والغاية التي تُفهم من
الرسالة : أنه يوجد مسلمون الآن في هذه الجاهلية ، يجب عليهم التخلّص منها ، وإنقاذ
أنفسهم ، والرجوع إلى الإسلام ؛ إلى الكتاب والسنة .
وأحد الذين شرحوا هذه
الرسالة هو : الشيخ ([110])
صالح بن فوزان الفوزان ، وهو أحد من أشد خصوم الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله .
وهو من أتباع الشيخ محمد بن
عبد الوهاب ، ومن المعجبين به ، والمقلدين له .
فها هو الشيخ محمد بن عبد
الوهاب يؤلف رسالة خاصة ، ويذكر فيها مائة وثمان وعشرين مسألة ، يسميها بالجاهلية
، ويُعرض فيها بالمسلمين ؛ أنّ فيهم هذه الجاهليات ، وإن لم يصرّح بذلك – حسب علمي
، وإلّا ربّما صرّح بذلك ، وأنا الآن لا يحضرني ذلك
فلماذا لم ينتقد الفوزان
الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، فيقول له : هذا تكفير للمسلمين ، ولا يجوز
ذلك ؟ !
بل الأدهى من ذلك ،
أنّ الشيخ الفوزان شرحها ، ونطق في شرحها بكلمات غلظية منكرة ، ترفّع عنها
الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى !
وأنا سأذكر هنا بعض الأمثلة
مما قاله ، وليس كلّها ([111])
.
دعاء الأولياء والصالحين
1 – ذكر الشيخ محمد بن عبد
الوهاب ، رحمه الله ، المسألة الاولى ؛ التي كانت الجاهلية عليها ، وهي : دعاء
الأولياء والصالحين .
واستدلّ بآيات القرآن الكريم ، منها : قوله تعالى :
( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ
وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) ([112])
.
وقوله تعالى :
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ([113])
.
جاء في شرحه للشيخ الفوزان ، ما نصه :
[ والعجيب أنهم
يقرؤون القرآن ويمرون على هذه الآيات ولا ينتبهون لها ، ومع هذا يستمرون على عبادة
القبور ، وهي من فعل الجاهلية ،
وهذا لأنهم لم يعرفوا ما كانت عليـه الجـاهلية ، لـم
يعرفوا أنّ هـذا مـن أمور الجـاهلية ، هذا نتيجة الجهل بأمور الجاهلية ] ([114])
.
أ – قال الفوزان في شرحه ، الذي نقلناه عنه :
[ والعجيب أنهم
يقرؤون القرآن ويمرون على هذه الآيات ] .
نسأل هنا سؤالاً وهو : مَن هم الذين يقرؤون القرآن ،
ويمرون على تلك الآيات ؟
هل هم اليهود والنصارى ، والبوذيون ، وعرب قبل الإسلام ؟
مَن يقصد بهم الشيخ الفوزان ؟
أليس يقصد بذلك
خصومه من المسلمين ؛ الذين يقرؤون القرآن ؟ !
إذن ، هذه الرسالة كُتِبَت لوصف مسلمي عصرنا – من خصوم
الشيخ الفوزان – بالجاهلية !
فلماذا هذا العمل مقبول منهم ، لا بأس عليه ، ولا غبار ؟
ولكنه مرفوض من سيّد قطب ، وهو غير جائز ، وهو منكر ؟ !
ب - وقال أيضاً
:
[ ومع هذا يستمرون على عبادة القبور ] .
ونسأل الشيخ الفوزان : ما هو حكم عبادة القبور ؟ !
إن كان الجواب : لا بأس به ، وهو جائز ، فلِم الإنكار
إذن ؟
وإن كان : شركاً وكفراً ، أليس في هذا الحكم ، تكفيراً ،
وإخراجاً من الإسلام ؟ !
فمَن الذي يرمي الناس بالكفر : سيّد قطب ، أم خصومه ؟
ج – وجاء في شرحه ، أيضاً :
[ وهي من فعل الجاهلية ، وهذا لأنهم لم يعرفوا ما كانت
عليـه الجـاهلية ، لـم يعرفوا أنّ هـذا مـن أمور الجـاهلية ، هذا نتيجة الجهل
بأمور الجاهلية ] .
كم مرة إستخدم الشيخ الفوزان ، في هذه الفقرة القليلة ،
كلمة : الجاهلية ؟ !
إستخدمها أربع مرات ! !
ويعيبون على الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ، إستخدامه
لتلك الكلمة !
إقتداؤهم بفسقة العلماء وجهّال العباد
2 – ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، المسألة
التاسعة ؛ التي كانت الجاهلية عليها ، وهي : إقتداؤهم بفسقة العلماء وجهّال العباد
.
واستدلّ بآيات القرآن الكريم ، منها : قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ([115])
.
وقوله تعالى : ( لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا
وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) ([116])
.
جاء في شرح الشيخ الفوزان لهذه المسألة :
[ والآن إذا صار للواحد رغبة في شيء . . . إلخ
هذا إنما يفعله أهل الأهواء ، والعياذ بالله ، الذين ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ ) التوبة : 31 . . .
فأخذ أقوال العلماء والعبّاد قضية مسلمةً دون عرض على
الكتاب والسنة ، هي طريقة أهل الجاهلية ، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً
من دون الله ] ([117])
.
أ - قول الشيخ
الفوزان : ( والآن ) . يعني : أنّه يتحدّث عن مسلمي عصرنا ، وليس عن أهل الكتاب
والبوذيين – ولاسيما قبل الإسلام .
يعني : أنه فهم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله
، أنه يقارن مسلمي عصرنا ، مع أهل الجاهلية ؛ قبل الإسلام .
ب – نسأل الشيخ الفوزان ، سؤالاً وهو : أهل الأهواء
هؤلاء ؛ الذين يتّخذون أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، هل هم مسلمون ؟
وسؤالاً آخر : مَن تقصد بهم ؟
هل تقصد خصومك من المسلمين ؟ وهل هذا تكفير لهم ؟
أم أنه وصفٌ
لحالهم ، لا غير ، وليس تكفيراً لهم ؟
فماذا فعل سيّد قطب غير ذلك ؟
إعتياض اليهود عن التوراة بكتب
السحر
3 – ذكر الشيخ
محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، المسألة السادسة عشرة ؛ التي كانت الجاهلية
عليها ، وهي : إعتياض اليهود عن التوراة بكتب السحر .
واستدلّ بآيات من القرآن الكريم ، وهي : قوله تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ([118])
.
قال الشيخ الفوزان في شرحه لهذه المسألة :
[ وكذلك كلّ مَن
ترك الحق ، فإنه يبتلى بالباطل ،
فالذي يترك منهم دعوة الرسل من الدعوة إلى التوحيد
وإفراد الله بالعبادة ، وبيان ذلك ،
يبتلى بأنه يروّج للشرك والخرافات ، ويستدل لها ،
ويروجها عند الناس على أنها حق ،
وهذا واقع كثير من علماء الخرافيين وعلماء القبوريين ،
بدلاً أن يدعو إلى توحيد الله وإلى كتاب الله وسنة رسول الله ، يدعون إلى الباطل
ويدعون إلى الله وإلى عبادة القبور ، والتعلق بالأموات ؛
ويلتمسون لذلـك الشبهـات التي يروجونها على الناس ،
فيشتغلون وقتهم في الباطل ، والعياذ بالله
] ([119])
.
أ – قال الشيخ الفوزان : [ يروّج للشرك والخرافات ، ويستدل لها ، ويروجها
عند الناس على أنها حق ] .
فالذي يروّج للشرك بالله تعالى ، ما هو حكمه ؟ هل هو
مسلم ؟
ب – من هم هؤلاء الذين يروّجون للشرك ، ويستدلون لها ،
ويروّجونها عند الناس ؟
يجيب الشيخ الفوزان على هذا السؤال بقوله :
[ وهذا واقع
كثير من علماء الخرافيين وعلماء القبوريين ، بدلاً أن يدعو إلى توحيد الله وإلى
كتاب الله وسنة رسول الله ، يدعون إلى الباطل ويدعون إلى الله وإلى عبادة القبور ،
والتعلق بالأموات ؛
ويلتمسون لذلـك الشبهـات التي يروجونها على الناس ،
فيشتغلون وقتهم في الباطل ] ! !
فهـل أبقـى للتكفيريين شيئاً ؟ ويتّهم الشهيد سيّد قطب ،
رحمه الله ، بأنه يكفّر الناس !
نسبتهم الباطل إلى الأنبياء
4 – ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، المسألة
السابعة عشرة ؛ التي كانت الجاهلية عليها ، وهي : نسبتهم الباطل إلى الأنبياء .
فقال ، رحمه الله :
[ نسبة باطلهم إلى الأنبياء كقوله : ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ) [ البقرة : 102 ] ، وقوله :
( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ) [ آل عمران : 67 ] .
فقال الشيخ الفوزان في شرحه :
[ من مناهج
الجاهلية : أنهم ينسبون ما هم عليه من الكفر والضلال إلى الأنبياء ، كما نسبت
اليهود السحر إلى سليمان . . .
وكذلك من هذه الأمة مَن ينتسبون إلى الأئمة وهم
يخالفونهم في العقيدة ، فينتسبون إلـى أبي حنيفة وإلى مالك وإلى الشافعي وإلى أحمد
، وهم على عقيدة المعتزلة والأشاعرة ([120])
، وينسبون هذا الإعتقاد والباطل إلى أئمة السلف
] ([121])
.
فإذا كانوا مختلفين في العقيدة ، فهل الطوائف جميعها
مسلمون ؟
وهل الإختلاف في العقيدة هو ، كالإختلاف في مسائل الفقه
؟
هل نسبة العقيدة الباطلة إلى أئمة السلف ، هي إسلامية ،
أم جاهلية ؟
إتّخاذهم الدين لهواً ولعباً
5 – ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، المسألة
الثانية والعشرين ؛ التي كانت الجاهلية عليها ، وهي : إتّخاذهم الدين لهواً ولعباً
.
فقال الشيخ الفوزان في شرحه لهذه المسألة :
[ ويشبههم الآن الذين يتّخذون الأناشيد التي يسمونها
الإسلامية ، ويجعلونها من وسائل الدعوة إلى الله ، كما يقولون ،
والدعوة إلى الله عز وجل من الدين ، ولا يدخل فيها شيء
من الأغاني ومن الأنغام والتنغيمات التي تلهي النفوس ،
وتشغل الناس عن ذكر الله وعن قراءة القرآن ، وهي من
شعارات المناهج الحزبية ، وليست من وسائل الدعوة
] ([122])
.
أ – قول الفوزان : [
ويشبههم الآن ] .
فهو تشبيه هؤلاء المسلمين بأولئك الجاهليين الكفار ! ولا
أدري ماذا يسمّيه هو ؟
ب – أما أن الأناشيد الإسلامية ، ليست من وسائل الدعوة
إلى الله ، فهذا رأيه هو وأمثاله ، وليس إجماعاً بين علماء الأمة ؛ العلماء
الحقيقيين !
والمسألة لا تدخل في الحكم فيها : المزاجية وخشونة
وقساوة البداوة ، بل الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة !
ج – قد نفهم من شرحه هذا ، وانتقاداته للجماعات
الإسلامية ، أن الشيخ الفوزان هو يذكر الله ويقرأ القرآن ليل نهار ، لا يفتر !
وأنّ المسلمين عامة يذكرون الله تعالى ، ويقرأون القرآن
ليل نهار ، فتأتي هذه الجماعات الإسلامية ، فيأخذون منهم القرآن ، ويلهونهم بالأناشيد
الإسلامية !
فهلّا ترك الشيخ النوم والسفرات السياحية والأكل والشرب
و و و إلخ ، حتى لا تلهيه عن ذكر الله وقراءة القرآن ؟ !
تأليف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله
6 - ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، المسألة
السابعة والعشرين ؛ التي كانت الجاهلية عليها ، وهي : تأليف الكتب الباطلة ونسبتها
إلى الله .
فقال ، رحمه الله :
[ تصنيف الكتب
الباطلة ونسبتها إلى الله كقوله : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) ([123])
] .
فقال الشيخ الفوزان :
[ من آفات
اليهود أنهم يؤلفون المؤلفات ويكتبونها بأيديهم ، ويضمنونها الباطل ، ويقولون :
هذا من عند الله ؛ ليحصلوا على مكافأة من الناس ،
أو يبيعوا هذه الكتب في الأسواق وتدر عليهم أموالاً .
وتصنيف الكتب الضالة وترويجها على الناس حرفة اليهود ،
ومَن تشبّه بهم من هذه الأمة . . .
وما أكثر تصنيف الكتب في هذه الأيام ، أو الرسائل ، أو
الفتاوى الضالة الباطلة باسم الإسلام ، وهذا مثل فعل اليهود ] ([124])
.
[ ومَن تشبّه
بهم من هذه الأمة ] [ باسم الإسلام ] [ وهذا
مثل فعل اليهود ] .
الأخذ بالإفتراق وترك الإجتماع
7 - ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، المسألة
الثلاثين ؛ التي كانت الجاهلية عليها ، وهي : الأخذ بالإفتراق وترك الإجتماع .
فقـال ، رحمه الله : وهـي من عجـائب آيات الله أنهم لما
تركوا وصية الله بالإجتماع ، وارتكبوا ما نهى الله عنه من الإفتراق ، صار كل حزب
بما لديهم فرحين .
فقال الشيخ الفوزان :
[ فهؤلاء الذين
يريدون توحيد المسلمين كما يقولون ، يقال لهم : إذا كنتم تريدون توحيد المسلمين ،
وحِّدوا العقيدة ؛
بأن تكونوا جميعاً على عقيدة التوحيد التي جاء بها رسول
الله r ، ولا تتركوا الناس ،
هذا قبوري ، وهذا صوفي ، وهذا شيعي ، وحدوا العقيدة
أولاً ، واعتصموا بلا إله إلا الله ،
ثم وحدوا الحكم بما أنزل الله ، فارجعوا إلى كتاب الله
وسنة رسوله ، وانبذوا القوانين والأنظمة والعادات القبلية ، وغير ذلك ] ([125])
.
إنه يحكم على الناس بأنّهم مختلفون في العقيدة ، وليسوا
على عقيدة التوحيد التي جاء بها رسول الله r ، ولم يعتصموا بلا إله إلا الله !
فهل مَن كانت هذه عقيدته ، يعتبر مسلماً ؟ !
وبماذا يختلف الشيخ الفوزان ، عن الشهيد سيّد قطب ،
عندما يصف سيّد قطب الناس بأنهم يعيشون عيشة جاهلية ، علماً أنّ الشهيد ليس قصده
تكفير المسلمين ؟ !
ولماذا المشاغبة على سيّد قطب ومحاربته إذن ؟ ولحساب مَن
؟
أنا جئت – فقط – ببعض الأمثلة من ذلك الشرح ، الذي هو
مليء بتكفير المسلمين .
ولم يكن قصدي ، أن أستوعب كل ما فيه من الخزعبلات ، فهذا
مجاله ليس هنا .
وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، رحمه الله :
[ وقوله :
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) [ التوبة : 31 ] ] .
قال حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد
الوهاب ، رحمهم الله ، في شرحه لأقوال جدّه :
[ ش : وفي الحديث الصحيح : أنّ رسول الله r تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي ، فقال : يا رسول الله ،
لسنا نعبدهم . قال : (( أليس يحلّون ما حرم الله فتحلونه ، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ )) قال : بلى . فقال النبيّ r : (( فتلك عبادتهم )) ([126])
.
فصارت طاعتُهم في المعصية عبادة لغير الله ، وبها
اتخذوهم أرباباً ، كما هو الواقع في هذه الأمة ، وهذا من الشرك الأكبر المُنافي
للتوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله .
فتبيّن بهذه الآية : أن كلمة الإخلاص نفت هذا كلَّه ،
لمنافاته لمدلول هذه الكلمة . فأثبتوا ما نفته من الشرك ، وتركوا ما أثبتته من
التوحيد ] ([127])
.
[ كما هو الواقع في هذه الأمة ، وهذا من الشرك الأكبر
المُنافي للتوحيد ] ! ! .
نسأل الشيخ الفوزان وأمثاله : هل هذا الكلام يُعتبر
تكفيراً للمسلمين ؟ !
وقال الشيخ الألباني ، رحمه الله ، وهو يردّ على أحد
منتقديه ، ما نصه :
[ " تنبيه " : إطلعنا بعد صف هذه الملزمة على
كتاب " التوصل إلى حقيقة التوسل " للشيخ محمد نسيب الرفاعي ، الذي ذيل
اسمه عليه بلقب " مؤسس الدعوة السلفية وخادمها " ،
وتقتضينا الأمانة العلمية ، والنصيحة الدينية وقول كلمة
الحق أن نبين حكم الله كما نفهمه ، وندين الله تعالى به في هذا اللقب فنقول :
إن من نافلة القول أن نبين أن الدعوة إنما هي دعوة
الإسلام الحق كما أنزله الله تعالى على خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله عليه
وسلم ،
فالله وحده سبحانه هو مؤسسها ومشرعها ، وليس لأحد من
البشر كائناً من كان أن يدعي تأسيسها وتشريعها ، وحتى النبي الأكرم محمد صلوات
الله وسلامه عليه إنما كان دوره فيها التلقي الواعي الأمين ، والتبليغ الكامل
الدقيق ،
ولم يكن مسموحاً له التصرف في شيء من شرع الله تعالى
ووحيه ،
ولهذا فادعاه إنسان مهما علا وسما تأسيس هذه الدعوة
الإلهية المباركة إنما هو في الحقيقة خطأ جسيم وجرح بليغ ، هذا إن لم يكن شركاً
أكبر ، والعياذ بالله ] ([128])
.
[ هذا إن لم يكن
شركاً أكبر ] . [ والعياذ بالله ] .
هل رمى سيّد قطب مسلمين ودعاة – لاسيما للدعوة السلفية
وخادمها – بهذا الإتّهام ؟ !
هل اتّهم أحدٌ الشيخ الألباني ، وقبله حفيد الشيخ محمد
بن عبد الوهاب ، بأنهم يكفّرون المسلمين ؟ !
وقال الشيخ الألباني ، أيضا ، في بعض مخالفيه ، والذين
هم أيضاً محدّثين :
[ وكذلك من شيوخه بعض الغماريين المشهورين بحقدهم
وعدائهم الشديد لأهل السنة والتوحيد ] ([129])
.
فما هو التوحيد ، الذي يحقد ويعادي الغماريين بشدة أهله
؟
تعريف التوحيد
[ معنى التوحيد في اللغة مأخوذ من وحَد
الشيء أي جعله واحداً ،
أمَّا المعنى الشرعي للتوحيد فهو :
إفراد الله - تعالى- بما يختص به من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات ،
ويُعرِّف الإمام ابن القيم - رحمه الله
- التوحيد بقوله :
( ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه
: لا خالق إلا الله ، وأن الله رب كل شيء ومليكه ، كما كان عبَّاد الأصنام مقرين بذلك
وهم مشركون ،
بل التوحيد يتضمن محبة الله ، والخضوع
له ، والتذلل على بابه ، وكمال الانقياد لطاعته ، وإخلاص العبادة له ، وإرادة وجهه
الأعلى بجميع الأقوال والأعمال ، والمنع والعطاء ، والحب والبغض ، مما يحول بين صاحبه
وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها ) ،
فتوحيد القلب يتضمَّن المعرفة الحقيقية
لمعنى التوحيد بما فيه من النفي والإثبات ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قال:
لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه وحسابه على الله ) ([130])
] ([131])
.
فهـل الذي يحقد ويعادي الذين يدعون إلى إفراد الله
بالعبادة ، والمحبة ، والخضوع ، والتذلل على بابه ، وكمال الإنقياد لطاعته ،
وإخلاص العبادة له ، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال ، و و و . . . إلخ
ومع كلّ هذه الموبقات فهو يعادي ويحقد على أهل سنة رسول
الله r .
وسنة رسول الله r ، هي :
أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، ومنهجه r .
فهل تظن أن مَن هذه صفته ، قد بقي له من الإسلام شيء ؟ !
أليس هذا هو تكفير للمسلمين ؟ بل لعلماء المسلمين ؟
هل فعل سيّد قطب ، رحمه الله ، عشر معشار هذا ؟
فخطاب سيّد قطب ، هو للفسقة والظلمة والمستبدين من الناس
.
بينما خطاب الشيخ الألباني ، هو لعلماء المسلمين !
ونرى أتباع الشيخ الألباني ، لا يتّهمونه بتكفير
المسلمين ، بل يتّهمون سيّد قطب بذلك ! لماذا ؟ لحاجة في نفس . . .
وقال الشيخ الألباني ، رحمه الله :
[ وقد استعان الأنصاري بأحد أعداء السنة وأهل الحديث
ودعاة التوحيد المشهورين بذلك ألا وهو الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي ] ([132])
! !
حصحص الحق
1 – أظن أنه قد حصحص الحقّ ، وظهرت الحقّيقة جليّة ، في
أنّ الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ، بريء من تكفير الناس .
وأنّ استخدامه لكلمة ( الجاهلية ) في وصف أوضاع
المجتمعات ، وتصرفات الناس ، هو إسـتخدام شرعي ؛ حيث جـاء فـي كتـاب الله تعالـى ،
وفـي أحـاديث رسول الله r ، وفي أقوال العلماء .
وهو يعتبر ذكاء وفطنة – بتوفيق من الله تعالى – من سيّد
قطب ، رحمه الله ، في اختياره لهذه الكلمة التي تطابق ما عليه الناس تمام المطابقة
.
فلا هو رمي الناس بالتكفير ، ولا هو تساهل وتغافل عنهم
في خروجهم عن طاعة الله ورسوله ، واتّباعهم للشهوات !
فهو استخدام لكلمة هي بين : المغالاة ، والتساهل !
وهو – أيضاً – مطلوب شرعاً ، لأنّ الله تعالى ، يقول :
( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ ) ([133])
.
فلا بدّ من أن توصف الأعمال ، بأوصافها الحقيقية
المطابقة ، حتى يتبيّن الحق من الباطل ، ليحيى مَن حيّ عن بيّنة ، ويهلك مَن يهلك
عن بيّنة !
تقييم
2 – مع كبير احترامنا – كأشخاص وناس – للشيوخ من أمثال
الشيخ الفوزان وجماعته ، فهُم ليسوا بعلماء ، ولا فقهاء .
بل هم حفاظ نصوص
، تخرّجوا من مدرسة ذي مذهب واحد ، وولاء واحد ، وميول واحدة ، قد مُلِئوا بقناعات
وتصوّرات – من الإبتدائيـة ، إلـى الثانوية ، إلى المعاهد ، إلى الكلّيات
والجامعات .
نفس الموضوعات المحدّدة ؛ يصحبونها إلى القبر ، ولا
يتغيّرون – إلّا مَن رحم الله ، فأراد له الخير .
وقد مُلِئوا
تكبّراً وغروراً ؛ فيحسبون أنهم هم الوحيدون على الحق من دون كلّ المسلمين ،
وأنّهـم وحدهـم يقتفون أثر الكتاب والسنة – هكذا يوحون لهم ، أو يصارحونهم .
وكأنهم معصومون
جالسون على قمة برج عالٍ ، يحكمون من هناك على المسلمين وأئمتهم ، فيوزعون عليهم
ألقاب السخط والرضا ، وقد يعطونهم صكوك الغفران – إستغلالاً لموقعهم من الحرمين
الشريفين ! ([134])
ومع كلّ ذلك ، فمستوى علمهم وفهمهم ، لا يرتقي إلى مستوى
أمثال الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ، فهم أصحاب أفق ضيّق ، ذو ميول أعرابية .
فإذا أضيف إلى كلّ ذلك اتّفاقهم وانسجامهم مع حكوماتهم ؛
بتقسيم الصلاحيات والأدوار فيما بينهم ؛ فلحكوماتهم السلطة والمال والحكم ، ولهم
التفرغ للأحكام الفقهية علـى مذهب الحنابلـة – فيما يزعمون – والعقيدة على مذهب
الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله .
فليس لهم الخروج عن المحيط الذي أُدخلوا فيه ، وليس لهم
تجاوز ما هم عليه ، وإلا فهم يعرفون مصيرهم .
فلا يعرفون – إذا أحسنّا الظن بهم – أنهم في محاربتهم
لأمثال الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ، قد يخسرون آخرتهم .
فالشهيد سيّد قطب لا يستحق تلك المحاربة والعداوة منهم .
وكان المنتظر منهم أن يحذو حذو سيّد قطب ، رحمه الله ،
في خدمة الإسلام ، ويعينوه هو وأصحابه بكلّ ما أوتوا ، ولكن تجري الرياح بما لا
تشتهيه السفن !
فإن لم يفعلوا ذلك – معاونة سيّد قطب ومناصرته – ولم
يرتقوا إلى ذلك المستوى ( كَرِهَ
اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) ، فعلى أقل تقدير كان المفروض عليهم أن يسكتوا ، ولا يتخندقوا في خنادق
أعداء الله ورسوله ، ضد أولياء الله تعالى ، ورسوله ، وهم لا يشعرون ! !
وأنا لا أقول – ما قلت – جرحاً وطعناً ، في أولئك الشيوخ
وأمثالهم ، بل بياناً وتقريراً للواقع ؛ فهو من باب التقييم ، لا غير .
لأنه – ربما – قد تختلط الأمور على بعض المسلمين ،
فيحتارون في أمرهم ، بسبب هذه الصراعات الفكرية ، والتناقضات الموجودة في المواقف
.
وربما عدم معرفة هؤلاء المسلمين بمستوى أولئك الشيوخ ،
يؤدي بهم إلى الحياد عن الطريق ، ومحاربة أمثال الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله
، اتّباعاً وتقليداً لهم !
عند ذلك سيكون موقف المعجبين بفهم وموقف أولئك الشيوخ ،
سبب في الوقوف في خندق أعداء أمثال سيّد قطب ، رحمه الله ، بدل الوقوف مع أولياء
الله تعالى ، لنصرة الإسلام !
وهناك ملاحظة جديرة بالإنتباه ! :
وهي : أن غالبية أتباع أولئك الشيوخ من الأميين ؛ الذين
لا يقرؤن ولا يكتبون !
والقلة التي حصلت على شهادات جامعية ، أفكاره وتصوراته
ونفسيته أمية !
والعلم الذي حصلوا عليه – من الكليّات والجامعات – لم
يغيّر ما هم فيه ، إلّا مَن رحم الله ، بل زادهم تعصّباً وعنجهية !
وذلك لأن العلم كالماء ؛ إذا سقيت به التمر ، زاد حلاوة
.
وإذا سقيت به شجرة الحنظل ، زادت مرارة !
والأمية ، والأعرابية ، ليستا عيباً في ذاتها ، حاشا
وكلّا ، بل العيب والنقص هو في التعصّب الأعمى ، وردّ الحق ، وغمط الناس ،
والتطاول على الأئمة والدعاة !
وهذه الصفات المذمومة موجودة بكثرة كثيرة ، في أتباع
أولئك الشيوخ ؛ الأميين
والله سبحانه
وتعالى ، قد ميّز الصالحين من الطالحين ، فلم يحكم عليهم بحكم واحد .
يقول الله تعالى
، في الطالحين :
( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا
وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ
مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ([135])
.
ويقول تعالى :
( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ
شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ([136])
.
ويقول تعالى ، في الصالحين منهم :
( وَمِنَ
الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا
يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا
قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ) ([137])
فهذه الأمية في هؤلاء ، وعدم فهمهم لكلام الشهيد سيّد
قطب ، رحمه الله ، وتقليد أولئك الشيوخ ، أصحاب الألقاب الطنّانة والرنانة ،
والتعصّب المقيت فيهم .
كل ذلك جعلهم يتخندقون في خندق أعداء الله ورسوله ، من
حيث لا يعلمون ! !
وجعلهم يحاربون سيّد قطب ، رحمه الله ، من غير أن يرتقوا
إلى مستوى الشهيد فيفهموا منه ما يقول !
وذلك لأن الإنسان عدوّ لما جهل !
( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) ([138])
.
شهادة الأقربين
وها هو أخو الشهيد ، وأقرب الناس إليه ؛ شقيقه الأستاذ
الكبير محمد قطب رحمه الله تعالى ، يقول :
[ إن كتابات سيد قطب قد تركزت حول موضوع معيّن ، هو بيان
المعنى الحقيقي لـ" لا إله إلا الله " ،
شعورًا منه بأن كثيرًا من الناس لا يدركون هذا المعنى
على حقيقته ،
وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان كما وردت في الكتاب
والسنة ،
شعورًا منه بأن كثيرًا من هذه المواصفات قد أهمل أو غفل
الناس عنه .
ولكنه مع ذلك حرص حرصًا شديدًا على أن يبين أن كلامه هذا
ليس مقصودًا به إصدار أحكام على الناس
وإنما المقصود به تعريفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة
ليتبينوا هم لأنفسهم إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي أم أنهم بعيدون عن
هذا الطريق فينبغي عليهم أن يعودوا إليه
ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول " نحن دعاة
ولسنا قضاة " ] .
ويضيف الأستاذ محمد قطب في فقرة أخرى :
[
" كما سمعته أكثر من مرة يقول : " أن الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة
قاطعة لا تقبل الشك ، وهذا أمر ليس في أيدينا
ولذلك فنحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس فضلًا عن
كوننا دعوة ولسنا دولة ،
دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم
] ([139])
.
المحكَم من كلامه هو
ولماذا نذهب بعيداً ، فها هو كلام الشهيد سيّد قطب رحمه
الله ، نفسه ؛ كلامه المحكم غير المتشابه ، يفصل في الموضوع .
وهو كلام قاله قبل استشهاده بفترة قليلة جداً ، في سؤال
وجواب ، من المحقق الظالم الذي كان يحقق معه :
[ إننا لم نكفر الناس وهذا نقل مشوه
إنما نحن نقول : إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة
العقيدة ، وعدم تصور مدلولها الصحيح ، والبعد عن الحياة الإسلامية ، إلى حال تشبه
حال المجتمعات في الجاهلية ،
وإنه من أجل هذا لا تكون نقطة البدء في الحركة هي قضية
إقامة النظام الإسلامي ، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة والتربية الأخلاقية
الإسلامية . . فالمسالة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر مما تتعلق بالحكم على
الناس ! ] ([140])
.
وجاء في التحقيق معه :
[ س : هل ترى أن هناك فرقـا بين المسلم المنتمي لجماعـة
الإخوان وغير المنتمي لتلك الجماعة ؟ .
ج : الذي
يميز الإخوان أن لهم برنامجا محددا في تحقيق الإسلام فيكونون مقدمين في نظري على
من ليس لهم برنامج محدد . . .
س- فلِمَ التميز إذن بين أفراد هذه الجماعة وبين
المسلمين قاطبة وهم جميعا أصحاب عقيدة وأهداف وبرنامج ؟
جـ - التمييز فى رأيى ليس تمييز شخص على شخص ولكن فقط
باعتبار أن الجماعة ذات برنامج وأن كل فرد فيها مرتبط بهذا البرنامج لتحقيق
الإسلام عمليا ، وهذا وجه التمييز فى رأيى . . .
س : هـل كنتم ترون أن وجود الأمة المسلمة قد انقطع منذ
مدة طويلة ولا بد من إعادتها للوجود ؟
ج : لا بد
من تفسير مدلول كلمة الأمة المسلمة التي أعنيها
فالأمة المسلمة هي التي تحكم كل جانب من جوانب حياتها
الفردية والعامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية شريعة الله ومنهجه .
وهي بهذا الوصف غير قائمة الآن في مصر ولا في أي مكان في
الأرض وإن كان هذا لا يمنع من وجود الأفراد المسلمين
لأنه فيما يتعلق بالفرد الاحتكام إلى عقيدته وخلقه وفيما
يتعلق بالأمة الاحتكام إلى نظام حياتها كله . . .
س - وما التناقضات الموجودة بين نظام الحكم القائم وبين
النظام الذى تراه وتسعى من أجله ؟
جـ- شريعة الله ليست قاعدة التشريع فى الأوضاع القائمة
والمطلوب هو أن تكون شريعة الله هى قاعدة التشريع ] ([141])
.
الفصل الثاني
سيّد قطب ووحدة الوجود !
2 – من المضحكات المبكيات : إتّهام الشهيد ([142])
سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ، بأنه يؤمن ويقول بوحدة الوجود ! !
وحدة الوجود
قبل بيان كذب تلك الفرية ، ينبغي أن نعلم ما معنى وحدة
الوجود ؟ :
مصطلح وحدة الوجود ، يعني أنه ليس هناك
موجود إلا الله ، فليس غيره في الكون ، وما هذه الظواهر التي نراها إلا مظاهر لحقيقة
واحدة ، هي الحقيقة الإلهية (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) ،
هذه الحقيقة التي تنوعت وجوداتها ،
ومظاهرها في هذا الكون المشاهد ، وليس هذا الكون - في هذه العقيدة الباطلة - إلا الله
في زعمهم ، تعالى الله عن ذلك .
يعني : ليس هناك موجودان متغايران
، بل هناك فقط وجود الله ، وأما الموجودات الأخرى غير الله تعالى ، فهي صور لله
سبحانه ، فكلّ شيء هو الله تعالى لا غير !
فهل الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ، يؤمن ، ويقول
بذلك ؟
وأوّل مَن اتّهم الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ، بالقول
بوحدة الوجود – حسب علمي – وأولّ مَن سنّ هذه السنة السيئة ، التي عليه وزرها ،
ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة ، هو : الشيخ الألباني .
فالشيخ الألباني – عفا الله عنه – قد فضح نفسه على رؤوس
الاشهاد ، بهذا الفهم الساذج له لظلال القرآن الكريم ؛ الذي كتبه الشهيد سيّد قطب
، رحمه الله تعالى ، في تفسير القرآن الكريم .
فنشر الشيخ الألباني – بهذا النقد – درجة مستوى فهمه
للكلام ، ومن ثم مستواه في فهم الإسلام !
وأنا – والله – في بداية معرفتي بالشيخ الألباني – عن
طريق الكتب والأشرطة – ما كنت أعرفه جيّداً ، وربّما كنت متأثراً به بعض الشيء .
حتـى أذكر أنـي إستمعت له في شريط ، ففي أثناء كلامه كان
يستدل بأحاديث للنبيّ r ، فكنت – في داخل نفسي ، من غير أن أظهر ذلك – أتعجّب من هذا
الكلام ، وهذا الإستدلال ، بهذا المستوى المنخفض ، وهو مشهور على مستوى العالم
الإسلامي !
كان فهمه ساذجاً ، لا يليق بشهرته ، حتى عرفته – بعد ذلك
– تمام المعرفة ؛ عن طريق كتبه وأشرطته ، وأتباعه كذلك !
فهل عوقِب بسبب اتّهامه للشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ،
بتلك الفرية ، مصداقاً لقوله تعالى ، في الحديث القدسي : ( مَن عادى لي ولياّ فقد
آذنته بالحرب ) ([143])
؟
قرأ الألباني بعضاً من كلام العملاق سيّد قطب في تفسير
سورة الحديد ، وتفسير سورة الإخلاص ، وفهمه – بفهمه الساذج ، الذي لم يرتق ، إلى
مستوى سيّد ، السامق الرفيع – ثم خرج على الناس بعد ذلك – عن طريق مقابلة له ، في
مجلة المجتمع الكويتية – فاتّهم الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ، بتلك الفرية
العظمى ! !
والله تعالى ، يأمر المؤمنين ، فيقول :
( فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) .
وجاء في قراءة سبعيّة : { فتثبتوا }
وهذه القراءة تزيد الأمر وضوحاً ، فهي تأمر عموم المؤمنين – والشيخ الألباني ؛
محدّث الديار الشامية ، خصوصاً – أن يتبيّن من قراءته وفهمه ، قبل تفوهه بتلك
العظيمة !
ولاسيما الأستاذ الكبير ، والمفكّر الجليل : الشيخ محمد
قطب ، رحمه الله تعالى ، أخو الشهيد سيّد قطب ، كان في وقته يعيش في المملكة
العربية السعودية ، وهي ليست بعيدة عن دولة الكويت ، التي فاه الألباني فيها بتلك
التهمة .
فكان في استطاعة الشيخ الألباني قبل ذلك ، أن يسافر إلى
السعودية ([144])
فيلتقي بالأستاذ الكبير محمد قطب ، فيسأله عن ذلك الموضوع ، لعلّه هو قد فهم خطأ ،
فيشرح له الأستاذ محمد قطب الموضوع ، ويوضح له خطأه في الفهم ، قبل أن يفضح الشيخ
الألباني نفسه على رؤوس الأشهاد !
قمة التوحيد
وأنا – بداية – سأنقل بعض ما قاله الشهيد سيّد قطب ،
رحمه الله تعالى ، في تفسيره لسورة الحديد ، وسورة الإخلاص – الذي لم يفهمه
الألباني – والذي – كما سيتضح – هو كلام يبيّن قمة التوحيد ، ويسكب في الروح ،
معاني وحدانية الله تعالى .
وهو كلام – لا ريب – يختلف عمّا يردّده الشيخ الألباني
والفوزان وأمثالهما ، في العقيدة ، من كلمـات هـي أشبه بعلم الكلام ؛ حيث يتحدّثون
عن مكان الله تعالى ، وأصابعه ، ورجله ، وقدمه التي يجعلها في النار ، وردائه
الحقيقي ، ونزوله بذاته ، واستقراره على العرش ، و و و إلخ ، ثم يقولون : . . .
بما يليق بجلاله ([145])
.
قال الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ، في تفسيره
لسورة الحديد :
[ الأول فليس قبله شيء . والآخر فليس بعده شيء . والظاهر فليس
فوقه شيء . والباطن فليس دونه شيء .
الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان
، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان . وهما مطلقتان .
ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة
لشيء إلا لله . وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه . حتى وجود هذا القلب ذاته
لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله .
فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي
الذي يستمد منه كل شيء وجوده . وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل
شيء حقيقته . وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود . .
وهو بكل شيء عليم .. علم الحقيقة الكاملة
. فحقيقة كل شيء مستمدة من الحقيقة الإلهية وصادرة عنها . فهي مستغرقة إذن بعلم الله
اللدني بها. العلم الذي لا يشاركه أحد في نوعه وصفته وطريقته . مهما علم المخلوقون
عن ظواهر الأشياء !
فإذا استقرت هذه الحقيقة الكبرى في
قلب ، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله سبحانه ؟
وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود - حتى
ذلك القلب ذاته - إلا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى ؟
وكل شيء وهم ذاهب ، حيث لا يكون ولا
يبقى إلا الله ، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء ؟
وإن استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله
قطعة من هذه الحقيقة .
فأما قبل أن يصل إلى هذا الاستقرار ، فإن هذه الآية
القرآنية حسبه ليعيش في تدبرها وتصور مدلولها ، ومحاولة الوصول إلى هذا المدلول الواحد
وكفى !
لقد أخذ المتصوفة بهذه الحقيقة الأساسية
الكبرى ، وهاموا بها وفيها ، وسلكوا إليها مسالك شتى ،
بعضهم قال إنه يرى الله في كل شيء في
الوجود .
وبعضهم قال : إنه رأى الله من وراء
كل شيء في الوجود .
وبعضهم قال : إنه رأى الله فلم ير شيئا
غيره في الوجود . .
وكلها أقوال تشير إلى الحقيقة إذا تجاوزنا
عن ظاهر الألفاظ القاصرة في هذا المجال ] ([146])
.
قبل أن ننقل من تفسير سورة الإخلاص ، نودّ أن نقف قليلاً
– على استحياء – أمام هذا الأدب الرفيع ، والكلمات السامقة ؛ التي سطّرها يراعة
الشهيد ، رحمه الله .
نقرأها لنرَ هل نجد ما قاله الشيخ الألباني ؟
بداية قال ،
رحمه الله :
[ ويتلفت القلب
البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله . وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه .
حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله ] .
أ – أول ما نفهم من هذا الكلام : أنه يتحدّث عن تأملات
القلب ، وتدبراته :
والقلب هو موضع التفكر والتأمل :
يقول الله تعالى : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى
الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) ([147])
.
ويقول تعالى : (
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ
كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) ([148])
.
فإنّه ، رحمه الله تعالى ، يتحدّت عن تأملات القلب ، ولا
يتحدث عن رؤية العين !
ب – وقد استخدم ، رحمه الله ، كلمة ( مقومات الكينونة )
.
والمقومات : ما يقوم به الشيء ، ويعتمد عليه ، في قيامه
ووجوده وفاعليته .
وهذه المقومات ليست إلّا لله تعالى وحده ، فهو – سبحانه –
لم يستمد وجوده من أحد ، ولا يعتمد على أحد ، لا في وجوده ، ولا في بقائه ، سبحانه
وتعالى .
وكل الوجود والمخلوقات – غيره – سبحانه ، تستمد وجودها
من الله تعالى ، حتى هذا القلب الذي يتدبر، ويتأمل في هذه الامور !
ج – قال ، رحمه الله تعالى :
[ فهذا الوجود
الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده . وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى
التي يستمد منها كل شيء حقيقته . وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا
الوجود ] .
قال ، رحمه الله تعالى : وجود الله تعالى – فقط – هو
الوجود الحقيقي ، الذي لم يلد ، ولم يستمد وجوده ، تعالى ، من غيره ، ولا يعتمد
على غيره ، ولم يخلقه أحد ، لأنه غير مخلوق أصلاً ، وليس هناك أي مخلوق في الوجود
بهذه الصفة !
فكل المخلوقات :
أصل وجودها من الله وحده ، تعالى ، فالله تعالى ، وحده هو خلقها ، وأعطاها الوجود
، ولولا ذلك لما وجدت ، ولاتوجد ، ولا تبقى !
فوجود الله تعالى وجود ذاتي ، أي : وجوده وبقاؤه من ذاته
تعالى ، وليس من غيره .
أما غيره تعالى ، فليس هناك في الوجود أحد ، أو أي شيء ،
وجوده ذاتي !
د – وقال ، رحمه الله تعالى :
[ وهو بكل شيء
عليم .. علم الحقيقة الكاملة . فحقيقة كل شيء مستمدة من الحقيقة الإلهية وصادرة عنها
. فهي مستغرقة إذن بعلم الله اللدني بها. العلم الذي لا يشاركه أحد في نوعه وصفته وطريقته
. مهما علم المخلوقون عن ظواهر الأشياء ] .
يعني : إنّ الله تعالى ، وحده – لا غيره – عنده العلم
الحقيقي ، لا يشاركه في هذا العلم أحد في العالمين ؛ لا في نوع العلم ، ولا في صفة
هذا العلم ، ولا في طريقة هذا العلم !
وعِلم غيره – كائناً مَن يكون – مستمد ، ومأخوذ من علم
الله ، تعالى ، فهو ، سبحانه ، قد أعطاهم ذلك العلم ، ولولا ذلك لغرقوا في الجهل
المطبق .
( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
إِلَّا بِمَا شَاءَ ) ([149])
.
هـ - [ فإذا استقرت
هذه الحقيقة الكبرى في قلب ، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله سبحانه ؟
وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود - حتى
ذلك القلب ذاته - إلا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى ؟
وكل شيء وهم ذاهب ، حيث لا يكون ولا
يبقى إلا الله ، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء ؟
وإن استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله
قطعة من هذه الحقيقة
] .
يعني : إذا استقر هذه الحقيقة ؛ أنه لا وجود حقيقية إلا
لله وحده ، تعالى ، فهو سبحانه وجوده ذاتـي ؛ من ذات نفسه ، لا يعتمد علـى أحد ،
وكلّ المخلوقات غيره ، تعالى ، يستمدون وجودهم من الله تعالى ، فكلّ ذرة من وجودهم
من الله تعالى ، وبيد الله تعالى .
إذا استقرت هذه الحقيقة في قلبٍ ، فصاحب القلب هذا ، من
أي شيء يخاف – بعد ذلك – ويرهب ويرجو مَن بعد ذلك غير الله ، تعالى ؟ !
و – قال الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله :
[ لقد أخذ المتصوفة
بهذه الحقيقة الأساسية الكبرى ، وهاموا بها وفيها ، وسلكوا إليها مسالك شتى ،
بعضهم قال إنه يرى الله في كل شيء في
الوجود .
وبعضهم قال : إنه رأى الله من وراء
كل شيء في الوجود .
وبعضهم قال : إنه رأى الله فلم ير شيئا
غيره في الوجود . .
وكلها أقوال تشير إلى الحقيقة إذا تجاوزنا
عن ظاهر الألفاظ القاصرة في هذا المجال ] .
لقد داخ بعض المتصوفين ، وتحيّر ، وتخبّط ، واضطرب في
تحمّل هذه الحقيقة .
فأحد معاني الإله ، هو : ما يحيّر العقول .
فرؤية أي شيء وتأمله وتدبّره ، يذكّر المسلم بعظيم قدرة
الله تعالى ، إذ خلق هذا الشيء بكن فيكون ، ويرزقه ويحفظه وهو عالم به .
فبعض المتصوفين عنـد رؤيتهم للأشـياء – يرون الخالق العظيم – في هذا الشيء – ويرون
إرادته وقدرته تعالى !
( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي
قَدَّرَ فَهَدَى
) ([150])
.
فإذا أراد أن يعبّر عن ما يشعر به ، وما تلهمه هذه
التأملات ، فقد يخطأ في التعبير ، فقد يكون ثقل هذه الحقيقة عليهم فوق طاقتهم ،
وإن كانوا – جميعهم – يدندنون حولها !
رؤية الله في الأشياء
لقد أسلم بعض علماء الغرب ، بمجرد رؤيتهم ، ودقة تأملاهم
، في بعض مخلوقات الله تعالى ، وبعض القوانين والسنن التي خلقها الله تعالى ،
وبثها في الكون .
وهذه بعض الأمثلة ؛ تبيّن كيفية رؤية الله تعالى ، في
مخلوقاته .
قال الدكتور مصطفى محمود ، رحمه الله :
[ إنّ القطة العجماء . .
تتبرز ثم لا تنصرف . . حتى تغطي برازها
بالتراب
هل تعرف تلك القطة . . معنى القبح والجمال
؟ !
وهي تسرق قطعة السمك من مائدة سيدها
، وعينها تبرق بإحساس الخطيئة فإذا لمحها تراجعت . . فإذا ضربها طأطأت رأسها في خجل
واعتراف بالذنب . .
هل تفهم القانون ؟ ؟ ! !
هل علمها أحد الوصايا العشر ؟ ؟ ! !
والجمل الذي لا يضاجع أنثاه إلا في
خفاء وستر . . بعيداً عن العيون . . فإذا أطلّت عين لترى ما يفعله امتنع وتوقف ! ونكّس
رأسه إلى الأرض . .
هل يعرف الحياء .. ؟!
وخلية النحل التي تحارب لآخر نحلة
. . وتموت لآخر فرد في حربها مع الزنابير . .
من علّمها الشجاعة والفداء . . ؟
ومن علّم تلك الحشرات الحكمة والعلم
والطب والأخلاق والسياسة ؟ ؟
لماذا لا نصدق حينما نقرأ في القرآن
أنّ الله هو المعلم ؟؟
ومن أين جـاءت تـلك المخلوقـات العجمـاء
بعلمهـا ودستورها إن لم يكن من خالقها ؟؟
وما هي الغريزة . . ؟
أليست هي كلمة أخرى للعلم المغروس منذ
الميلاد ؟ ؟
العلم الذي غرسه الخالق ؟ ؟
{ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من
الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون }
ولماذا ندهش حينما نقرأ أن الحيوانات أمم أمثالنا ستحشر يوم القيامة ؟ ؟
{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير
بجناحيه إلا أمم أمثالكم
ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم
يحشرون }
{ وإذا الوحوش حشرت } ] ([151])
.
إذن عندما ينظر الإنسان – صاحب القلب الواعي والحساس –
إلى أيّ شيء في الوجود ، فسيرى الله تعالى ، وعظمته وقدرته ، في خلقه لهذا الشيء !
وإن الله تعالى قد أمرنا بالتفكّر والتدبّر ، في
مخلوقاته ، لماذا ؟
حتى نعلم عظمته وقدرته ، عن طريق تلك المخلوقات العجيبة
، المحيّرة للعقول !
وهذا ما فعله البعض – المعروفين بالمتصوفة – فأدهشهم
التفكير والتدبر ، في تلك المخلوقات ، وأسكرهم !
( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ) ([152])
.
( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ . وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ
وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ
يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ([153])
.
( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ
فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ . وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ
وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ
أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ . وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَعَلَى اللَّهِ
قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ . هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ
فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ . وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَعَلَامَاتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ . أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ
) ([154])
.
فالذي يتأمل ويتدبّر هذه الآيات المباركة ، حق التأمل
والتدبّر ، سيأخذه الدهش والحيرة – حتماً – من عجايب مخلوقات الله تعالى .
وبالتالي سيتعرّف على بعض صفات الله تعالى ، من عظيم
علمه ، وقدرته ، وعظمته ، وإرادته .
فيرى قدرة الله تعالى ، وعظمته ، وعلمه سبحانه ، في هذا
المخلوق أمامه .
ليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده
وقال رحمه الله تعالى ، في تفسيره لسورة الإخلاص :
[ " قل هو الله أحد " . . وهو لفظ أدق من لفظ
" واحد ".. لأنه يضيف إلى معنى " واحد " أن لا شيء غيره معه .
وأن ليس كمثله شيء .
إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة
إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده .
وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من
ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .
وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس
سواه فاعلا لشيء ، أو فاعلا في شيء ، في هذا الوجود أصلا .
وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود
أيضا . .
فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا
التصور ، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة
المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود
- إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! –
فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي
. ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة
لوجوده ولا لفاعليته !
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة
الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . .
فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق
من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة ، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود
كثيرة .
وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد
الله ؟ ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ؟
ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى
في الوجود إلا حقيقة الله ، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها -
وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه .
ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا
في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .
كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد
كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت . .
وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية
كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور
مباشرة بمشيئة الله : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . .
وما النصر إلا من عند الله . . وما
تشاءون إلا أن يشاء الله . . وغيرها كثير . .
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد
الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ،
ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده
ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي
لا حقيقة لها ولا وجود !
وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة
، فجذبتهم إلى بعيد !
ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا
الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة
البشرية ، والخلافة الأرضية بكل مقوماتها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله . وأن
لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقا غير هذا الطريق
! ] ([155])
.
قال ، رحمه الله :
[ إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس
هناك وجود حقيقي إلا وجوده .
وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من
ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .
وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس
سواه فاعلا لشيء ، أو فاعلا في شيء ، في هذا الوجود أصلا .
وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود
أيضا ] .
أ – هذا الكلام هو نفسه ، في تفسيره لسورة الحديد :
ليس هناك وجود حقيقي ذاتي ، لم يلد ، ولم يُخلق ، ولم
يأخذ حياته من أحد ، ولا يعتمد على أحد ، في وجوده وبقائه ، غير الله تعالى .
وكل الموجودات تستمد وجودها من الله الواحد الأحد .
[ وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده
من ذلك الوجود الحقيقي ]
فهو يقول ، رحمه الله ، بموجود آخر غير الله تعالى ،
ولكن هذا الموجود يستمد وجوده من الله تعالى وحده !
والله هو وحده الفاعل لكلّ شيء ، وفي كلّ شيء ، ليست لأي
شيء آخر فاعلية حقيقية .
أليست النار تحرق ؟ هل للنار فاعلية حقيقية ، من دون
الله تعالى ؟
إذا كان كذلك ، فلماذا لم تحرق خليل الله إبراهيم ، عليه
السلام ؟ !
( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا
عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ([156])
.
وقال ، رحمه الله تعالى :
[ فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا التصور ، خلص القلب من
كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود
وحقيقة الفاعلية
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود
- إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! –
فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي
. ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة
لوجوده ولا لفاعليته !
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة
الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . .
فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق
من كل الأوهاق .
يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة
، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة .
وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد
الله ؟ ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله
؟ ] .
ب – يعني : إذا استقر هذا التصور ، وهذا الإيمان ؛ بأن
لا وجود حقيقي إلا لله ، ولا فاعلية حقيقية في الوجود إلا لله ، عندئذٍ فلا يتعلق
صاحب هذا القلب بأحد غير الله تعالى ، ولا يخاف من غير الله تعالى ، فينطلق يعمل
في الحياة ولا يتوقف .
فالذي يوقف المسلم ، ويصبح عائقاً في طريقه ، هو : إما
خوفه من الناس ، أو طمعه في الناس يفيدوه بشيء .
فإذا علم أن لا فاعلية حقيقية فـي الحياة إلا لله ، ولا
يصيبه إلا مـا كتبه الله تعالى ، له ، فعلام – إذن – يخاف من غير الله ، ويطمع !
وقال ، رحمه الله تعالى :
[ ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله
، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها - وهذه درجة يرى فيها القلب
يد الله في كل شيء يراه .
ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا
في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .
كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد
كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت . .
وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية
كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور
مباشرة بمشيئة الله : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . .
وما النصر إلا من عند الله . . وما
تشاءون إلا أن يشاء الله . . وغيرها كثير . .
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد
الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ،
ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده
ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي
لا حقيقة لها ولا وجود ! ] .
ج – فإذا استقر هذا التصور والإيمان في القلب ؛ أن
لاوجود حقيقي إلّا لله ، فسوف يرى قدرة الله وعظمته ، في كلّ مخلوق يراه .
ويستصحب معه دائماً ، أنه لا فاعلية في الوجود إلا لله .
هذا التصور لا يرى ، وليست العين لا ترى !
وهذا ما أراده الله تعالى ، منّا ؛ أن نعتقد بهذه
الحقيقة – عقيدة جازمة – من خلال آيات القرآن الكريم .
حيث أن الله تعالى ، يبعد الأسباب الظاهرة – في هذه
الآيات المباركة – ويصل الأمور مباشرة بمشيئته تعالى ، كقوله تعالى : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، وقوله
سبحانه : ( وما النصر إلا من عند الله ) ، ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) .
وبهذه الطريقة ، وبهذه العقيدة ، سوف تنسكب الطمأنينة في
القلب ، ولا يتّجه – صاحب هذا القلب – إلا
إلى الله تعالى ، ولا يخاف إلا من الله تعالى . ويسكن تجاه غير الله تعالى ، فلا
يرجوهم ، ولا يخاف منهم . [ فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها ] . كل وجود آخر ، إنبثق عن حقيقة
الله ، فالله تعالى هو الخالق الوحيد !
وقال رحمه الله تعالى :
[ وهذه هي مدارج
الطريق التي حاولها المتصوفة ، فجذبتهم إلى بعيد !
ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة
وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة البشرية ، والخلافة الأرضية
بكل مقوماتها ،
شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله
. وأن لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقا غير هذا الطريق ] .
فالله سبحانه ، قد خلق الإنسان ، وجعله خليفة في الأرض ،
وأراد منه مزاولة الخلافة ، مع هذه العقيدة السامية .
ولكن الصوفية لم يفهموا المسألة حق الفهم ، فجذبتهم إلى
بعيد ؛ في الفهم والعمل
هذا ما قاله الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ، في تفسيره
لسورة الحديد ، وسورة الإخلاص .
الخلاصة
خلاصة ما قاله الشهيد :
أنّ الله تعالى ، وحده هو الموجود الحقيقي ، فليس هناك واجب
الوجود إلا واحد وهو الله تعالى ،
والله سبحانه ، لم يستمد وجوده من أحد ، فهو لم يلد ،
ولم يُخلق ، ولا يعتمد في وجوده وبقائه على أحد ، فوجوده ذاتي .
أما غيره من المخلوقات فليس لأحد منهم وجود حقيقي ؛ الذي
لا يستمد وجوده من أحد ، ولا يعتمد على أحد .
فجميعهم استمدوا وجودهم من الله تعالى ، فهو خلقهم ،
وأتى بهم إلى الوجود ، وبقاؤهم بيده تعالى ؛ متى أراد أفناهم .
وليس لأحد فاعلية حقيقية ؛ تؤثر في الأشياء ، في الوجود
، إلا لواحد ، أحد ؛ وهو الله تعالى ، لا شريك له .
فمتى استقر هذا الإيمان ، وهذه العقيدة في قلبٍ ، فسوف
يعيش صاحبه ، حياة طيّبة مطمئنة ، لا يخشى أحداً ، ولا يرجو أحداً إلا الله تعالى
.
هذه خلاصة ما قاله الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ،
في تفسيره لسورة الحديد ، وسورة الإخلاص .
فأدعو خصومه – قبل أحبّاؤه – أن يقرأوه بتدبّر – ويعيد
النظر فيه ، ليتأكدوا بأنفسهم مدى الوهم والخطأ القاتل ؛ الذي وقع فيه الشيخ
الألباني ، في اتّهامه للشهيد والمفكّر الكبير سيّد قطب ، رحمه الله تعالى .
فما الذي أساء الشيخ الألباني من هذا التصور الراقي ،
والتوحيد ، والعقيدة الصافية ، التي بيّنها الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ،
فأثار حفيظته ، واتّهم الشهيد بتلك الموبقة ، التي فضحته على رؤوس الاشهاد ؟
وأنا أعذر الشيخ الألباني ، في عدم فهمه لأقوال الشهيد
سيّد قطب ، رحمه الله ، لأن مستوى فهمه لا يرتقي إلى مستوى هذا العملاق و الأديب ،
والمفكر الإسلامي !
ولكن لا أعذره أبداً في تسرّعه لحكمه الجائر هذا ؛ المبني على الوهم ، والخطأ
، والظنون ، ثم نشره في مجلة بين المسلمين ، وبين مَن يتربّص بالمسلمين الدوائر !
وأعاتب – كذلك – بعض أحبّاء الشهيد ؛ من الذين دافعوا عن
الشهيد تلك الفرية ، حيث كأنهم يعترفون – ضمناً – بأن أقوال الشهيد غير دقيق وقد
يوحي بذلك البهت .
وأنا لا أقول بأن سيّد قطب معصوم ، ولكن ليس معنى ذلك
أنه ، رحمه الله ، لابد وأن يأخطأ ، وليس خطأ إعتيادياً ، بل خطأ فادحاً ، وطامّة
عظيمة !
ولقد ذكر العلماء الفرق بين المعصوم والمحفوظ ؛ فقالوا :
الأنبياء معصومون ،
والأولياء محفوظون .
فنحن نعلم أن الصحابة ،
رضوان الله عليهم ، لم يكونوا معصومين ، فهل يعني ذلك : أنهم لابد أن يخطئوا ،
ويخطئوا أخطاء كبيرة ؟ !
هلّا دلّنا أحدهم على
الأخطاء الكبيرة ، التي ارتكبها أبو بكر الصدّيق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن
عفان ، وعليّ بن أبي طالب ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن مسعـود ، وعبد الله
بن عمر ، وأبيّ بن كعب ، وسعد بن أبي وقاص ، وأم سلمة ، وبلال بن رباح ، وخديجة
بنت خويلد ، وعثمان بن مظعون ، ومصعب بن عمير ، وحمزة بن عبد المطلب ، و و و إلخ ،
رضي الله عنهم .
قال حذيفة بن اليمان t :
[ وَلَقَدْ
عَلِمَ الْمَحْفُوظُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ هُوَ مِنْ أَقْرَبِهِمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى.] ([157])
.
ما معنى قوله : المحفوظون ؟ !
وكذلك فليدلوّنا على
الأخطاء الكبيرة لمحمد الباقر ، وجعفر الصادق ، وأحمد بن حنبل ، وإبراهيم بن أدهم
، وعبد الله بن المبـارك ، وجنيد البغدادي ، وعبد القادر الكيلاني ، والبخاري ،
ومسلم ، و و و إلخ ، رحمهم الله تعالى .
فقول : أن سيّد قطب غير
معصوم ، ليس معناه : أنه لابد أن يخطأ ، وليس مجرّد خطأ إعتيادي ، لا بل أخطاء
كبيرة وعظيمة ، وفي العقيدة !
ومَن يكتشف هذه الأخطاء ؟
يكتشفها عربان أميين – عقلاً ونفساً – يحاربون بها
الداعية والمفكر الإسلامي العظيم ، ويتخندقون – ضده – في خندق أعداء الله ورسوله ،
وكلّ ذلك باسم الإسلام ، وباسم الكتاب والسنة !
ولا ينسى أحد بأن خصوم الشهيد سيّد قطب ، ليسوا معصومين
، بل هم أقرب إلى الخطأ والقواصم ؛ وذلك بسبب مستواهم الثقافي المتدنّي !
فهم الشيخ الألباني لتلك الكلمات الرائعة
كيف فهم الشيخ الألباني ؛ ذلك الكلام الرائع في تفسير
سورة الحديد ، وتفسير سورة الإخلاص ، من كلام الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله تعالى ؟
وماذا قال عنه ؟ :
قال الشيخ الألباني في مجلة منشورة بين الناس :
[ ( إن قول سيد
قطب في تفسير سورة الإخلاص
وأول سورة الحديد : هو عين القائلين بوحدة الوجود . .
كل ما تراه بعينك فهو الله ، وهذه المخلوقات التي يسميها أهل الظاهر مخلوقات
ليست شيئا غير الله
. . وعلى هذا تأتي بعض الروايات التي تفصل هذه الضلالات الكبرى بما يرى من بعض الصوفيين القدماء من كان يقول
" سبحاني ما أعظم شأني " والآخر الذي يقول " ما في الجبة إلا الله " . . .
هذا الكلام كله في هذين الموطنين من
التفسير ] .
هل قال سيد قطب : كل ما تراه بعينك هو الله ؟ !
والمخلوقات ليست شيئاً غير الله ؟ !
ردّ الشيخ عبد الله عزام
وسأنقل مـا ردّ به الشيخ عبد الله عزام ، رحمه الله ، في
حينه ، على الشيخ الألباني ، عندما سنّ
هذه السنة السيئة ، نتيجة سوء ظنّه ، وتسرّعه ، وعدم فهمه للكلام !
قال الشيخ عبد الله عزام ، رحمه الله :
[ إن سيد قطب
لم يقل : إن كل ما تراه بعينك فهو الله ، وهذه المخلوقات التي يسميها أهل الظاهر
مخلوقات ليست شيئا غير
الله .
إن سيدا يقول : ( ومتى استقرهذا التصور
الذي لايرى في الوجود إلا حقيقة الله ،
فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها ، وهذه درجة يرى القلب فيها يد
الله في كل شيء يراه ،
ووراءها الدرجة التي لايرى فيها شيئا في الكون إلا الله ، لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله ) .
إذن لم يقل - كما قال الشيخ الألباني
- إن كل ما تراه بعينك فهو الله ، بل قال : ( يرى القلب فيها يد الله في كل شيء ) ،
وشتان شتان بين رؤية القلب ورؤية العين .
وقال سيد : ( ووراءها الدرجة التي لا
يرى فيها شيئا في الكون إلا
الله ) ، وفاعل " يرى " في هذه الجملة الثانية : ضمير مستتر تقديره
" هو " يعود على القلب في الجملة الأولى ، فعبارة الأستاذ سيد : تصور ، رؤية القلب ، إحساس داخلي .
وإن الإمام إبن القيم لا يعتبر هذا
ولا أكثر منه صراحة من قبيل القول بوحدة الوجود ،
يقول إبن القيم في مدارج السالكين :
[ وفرق بين إسقاط الشيء عن درجة الوجود العلمي الشهودي
، وإسقاطه عن رتبة الوجود
الخارجي العيني ، فشيخ الإسلام - يعني الهروي صاحب منازل السائرين - بل مشايخ القوم المتكلمين بلسان الفناء هذا مرادهم
] ([158])
،
هذه شهادة من إمام من أئمة السلف الذين
يتذوقون أساليب البيان
، وتذوقوا طعم الأنس بالله من خلال السير صعدا على مدارج السالكين .
يقول إبن القيم هذا الكلام السابق في
تفسير عبارات الهروي صاحب
المنازل ،
يقول الهروي صاحب منازل السائرين : ( الفناء : هو اضمحلال ما
دون الحق علما ، ثم جحداً ، ثم حقاً ، وهو على ثلاث درجات ) .
قال إبن القيم في تفسيرها : ( الفناء
اضمحلال ما دون الحق جحداً
، لا يريد به أن يعدم من الوجود بالكلية ، وإنما يريد اضمحلاله في العلم . فيعلم أن
ما دونه باطل ، وجوده
بين عدمين ، وأنه ليس له من ذاته إلا العدم فعدمه بالذات ، ووجوده بإيجاد الحق له .
فيفني في علمه ، كما كان فانيا في حال
عدمه ، فإذا فني في علمه
ارتقى إلى درجة أخرى فوق ذلك ، وهي جحد السوى وإنكاره ، وهذه أبلغ من الأولى لأنهاغيبته
عن السوى . فقد يغيب عنه وهو غير جاحد له ، وهذه الثانية جحده وإنكاره.
ومن ههنا دخل الإتحادي . وقال: المراد جحد السوى بالكلية ، وأنه
ما ثَمَّ غيرٌ بوجه ما.
وحاشا شيخ الإسلام من إلحاد أهل الإتحاد
، وإن كانت عبارته
موهمة بل مفهمة ذلك ،
وإنما أراد بالجحد في الشهود لا في الوجود ، أي
يجحده أن يكون مشهودا ، فيجحد
وجوده الشهودي العلمي ، لا وجوده العيني الخارجي ،
فهو أولاً يغيب عن وجوده الشهودي العلمي ، ثم ينكر ثانياً وجوده في علمه
. وهو اضمحلاله جحدا ، ثم يرتقي
من هذه الدرجة إلى درجة أخرى أبلغ منها . وهي اضمحلاله
في الحقيقة ، وأنه لا وجود له البتة ، وإنما وجوده قائم بوجود الحق ،
فلولا وجود الحق لم يكن هو موجودا ، ففي الحقيقة
: الموجود إنما هو الحق
وحده ، والكائنات من أثر وجوده ، وهذا معنى قولهم : إنها لا وجود لها ولا أثر لها ، وإنها معدومة وفانية ومضمحلة ) ([159])
] .
نقف هنا وقفة قصيرة جداً ، قبل أن نكمل كلام الشيخ عبد
الله عزام ، رحمه الله :
إقرأ هذا الكلام للحافظ إبن القيم ، رحمه الله ، الذي
قاله ، جيّداً ، وبتدبّر :
[ ففي الحقيقة
: الموجود إنما هو الحق
وحده ] ! ! .
[ والكائنات من أثر وجوده ] ! ! .
[ وهذا معنى قولهم : إنها لا وجود لها ولا
أثر لها ، وإنها معدومة وفانية ومضمحلة ] .
وماذا قال الشهيد سيد قطب ، رحمه الله ، غير هذا ؟ !
فهاهنا عدة إحتمالات :
1 – إما أن الشيخ الألباني ، وأمثاله ، ومريدوهم ، لم
يقرأوا كتاب الحافظ إبن القيّم ، رحمه الله ، ( مدارج السالكين بين منازل إيّاك
نعبد وإيّاك نستعين ) ، ولم يطّلعوا عليه !
2 – أو قرأوه ولكنّهم لم يفهموه !
3 – أو فهموه ، وعلموا أن الشيخ الهروي ، والحافظ إبن القيّم
، يقولان نفس كلام الشهيد سيّد قطب ، ولكنّهم سكتوا عنهما ، وأشهروا الإفتراء
والطعن على الشهيد سيّد قطب ؛ لحاجة في نفوسهم ، والله تعالى ، بها عليم !
وقال الشيخ عبد الله عزام ، رحمه الله تعالى :
[ أين عبارات سيد قطب من عبارات الهروي ؟ كل الذي قاله سيد : عدم رؤية القلب
للأشياء لأنه متعلق بالحق
، بالوجود الحق ، فهذه الأشياء والمخلوقات لا يعلق بها القلب لأنه مشغول بالله ، فهي صغيرة حقيرة لا يراها القلب ولا
يأبه لها فكأنها غير موجودة ،
فالقضية باختصار : إحساس قلبي ، ومشاعر نفسية ورؤية داخلية ببصيرته
لا ببصره .
أما عبارات الهروي : ( اضمحلال ما دون الحق علما ، ثم جحدا ، ثم حقا ) ،
( فـإذا فنـي فـي علمه ارتقى إلى درجة أخرى فوق ذلك وهي جحد السوى وإنكاره
) ، أي إنكار ما سوى
الله وجحده ،
والعبارة واضحة في وحدة الوجود ، ومع هذا فإن إبن القيم رحمه
الله ، يقول :
( وحاشا لشيخ الإسلأم – الهروي - من
إلحاد أهل الإتحاد ، وإن كانت عبارته موهمه بل مفهمة ذلك ، وإنما أراد بالجحود في الشهود لا في الوجود ، أي
يجحده أن
يكون مشهودا ، فيجحد وجوده الشهودي العلمي ، لا وجوده العيني الخارجي ) ([160])
.
ماذا نقول في سيد قطب لو قال بالدرجة
الثالثة :
( ثم يرتقي من هذه الدرجة إلى درجة
أبلغ منها وهي : اضمحلاله في الحقيقة ، وإنه لا وجود له البتة ) ، هذه عبارة
ابن القيم في تفسير عبارة الهروي : ( ثم اضمحلاله حقا )
ويزيد ابن القيم في توضيح العبارة
: ( وإنه لا وجود له البتة ، وإنما وجوده قائم بوجود الحق ، فلولا وجود الحق لم يكن
هو موجودا ، ففي الحقيقة : الموجود إنما هو الحق وحده ، والكائنات من أثإر وجوده ،
هذا معنى قولهم : إنهـا لا وجود لهـا ولا أثر لهـا ، وإنها معدومه وفانية ومضمحلة
) .
هل سمعت عبارة إبن القيم ؟ ( ففي الحقيقة
: الموجود إنما
هو الحق وحده والكائنات من أثإر وجوده ) .
ولقد دافع إبن القيم عن عبارات وأبيات
للهروي خطيرة جدا ([161])
يقول الهروي :
ما وحد الواحد من واحد إذ
كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية
أبطلها الواحد
توحيده اياه توحيده ونعت من ينعته لحد
قال إبن القيم : ( ومعنى أبياته : ما
وحد الله –عزوجل- أحد حق توحيده الخاص ، الذي تفنى فيه الرسوم . ويضمحل فيه كل حادث ، ويتلاشى فيه كل مكون
، فإنه لا يتصور منه التوحيد إلا ببقاء الرسم - وهو الموحد ، وتوحيده القائم به - فإذا وحده شهد
فعله الحادث ورسمه الحادث
، وذلك جحود لحقيقة التوحيد ، الذي تفنى فيه الرسوم ، وتتلاشى فيه الأكوان ) .
ثم يقول إبن القيم : ( فرحمة الله على
أبي إسماعيل ، فتح للزنادقة
باب الكفر والإلحاد . فدخلوا منه. وأقسموا بالله جهد أيمانهم : إنه لمنهم وما
هو منهم ، وغره سراب الفناء
. . . وحاشا شيخ الإسلام من إلحاد أهل الإتحاد ) .
هذا موقف إمام من السلف - إبن القيم
- من عبارات تكاد تكون صريحة في وحدة الوجود ، فليتنا إذ لم نقف موقف ابن القيم وهو موقف الدفاع والتوضيح
وإزالة الغبش والغموض ،
أقول : ليتنا وقفنا موقف المحايد من الأستاذ سيد قطب ، لا الموقف الذي
يحمل
العبارات التي فيها شيء من الخفاء والإجمال ([162])
على أسوأ تفسير وأخطر محمل فيقول : ( نحن لا نحابي في دين الله أحدا ، هذا الكلام كفر
) ([163])
،
ولو تركنا هذه المسألة دون إثارة مافهم أحد من الناشئة
أن هذا الكلام يشير
إلى وحدة الوجود ([164])
. . .
ويقول إبن القيم في المدارج :
( وَلَكِنْ
فِي حَالِ السُّكْرِ وَالْمَحْوِ والِاصْطِلَامُ وَالْفَنَاءُ : قَدْ يَغِيبُ عَنْ
هَذَا التَّمْيِيزِ ،
وَفِي هَذِهِ الْحَالِ قَدْ يَقُولُ صَاحِبُهَا
مَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ " سُبْحَانِي " أَوْ
" مَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ "
وَنَحْوُ
ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي لَوْ صَدَرَتْ عَنْ قَائِلِهَا وَعَقْلُهُ
مَعَهُ لَكَانَ كَافِرًا، وَلَكِنْ مَعَ سُقُوطِ التَّمْيِيزِ وَالشُّعُورِ، قَدْ
يَرْتَفِعُ عَنْهُ قَلَمُ الْمُؤَاخَذَةِ ) ([165])
.
إن سيد رأى تخاذل الناس أمام قوى الطغيان
التي تستعبد الناس
في الأرض ، فأراد أن يغرس في النفوس أن هؤلاء بقواهم وعددهم لا ينظر إليهم إذا نظرنا إلى وجود الله وقوة الله ، فكأنهم غير
موجودين ،
لأن القلب المرتبط بالله ينظر إلى القوة
الحقيقية ، ينظر إلى جبار
السموات والأرض ، إلى الذي يمسك السموات أن تزولا ،
فما هذا الغثاء وما بال هذا الزبد يطفو وينتفش ويستعلي على عباد الله
، وهو في حقيقته كأنه
غير موجود
ويصرح سيد بهذا المعنى الذي يريد إقراره
في النفوس في تفسير
سورة الإخلاص
: ( كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب ، ورد كل شيء وكل حدث ، وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثإرت . .
وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية
كبيرة بتقريرها في
التصور الإيماني ، ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله { وما رميت إذا رميت ولكن الله
رمى } ، { وما النصر إلامن
عند الله } ، { وما تشاءون إلا أن يشاء
الله }
هذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة فجذبتهم إلى بعيد ) ([166]) ] .
ثم قال الشيخ عبد الله عزام ، رحمه الله :
[ ولقد حز في النفوس أن ينسب هذا الكلام – القول بوحدة الوجود - إلى الأستاذ سيد الذي
جلى حقيقة التوحيد من
كل غبش ، بل ركز معظم كتاباته على شرح معنى " لا إله إلا الله " ،
ونقل المعنى النظري للتوحيد إلى واقع حي متمثل في سلوك
وحركات ، ودماء وتضحيات ، ولقد كانت حياته المليئة بصورالإعتزاز بالله ، والتوكل عليه
والإلتجاء إليه خير شاهد
على أن توحيد الربوبية - التوحيد العلمي
والنظري في القلب والنفس
، توحيد المعرفة والإثبات - قد جمع معه توحيد الألوهية - التوحيد العملي بالفعل – في واقع الحياة مشاعر وشعائر وكلمات ومواقف
،
حتى غدا المؤمن بهذا التوحيد كالشم الرواسي
لا يزعزعه قوى الأرض ،
ولا يهزه جبروت الطغيان .
وحسبك منه تلك الكلمات التي كانت تنبثق
من أعماقه معبرة عن استقرار
التوحيد في طياته ، تسمعه وهم يعرضون عليه الوزارة ، وهو رهين القيود يقول :
( إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية
في الصلاة لترفض أن تكتب
حرفا تقر به حكم طاغية ) .
تصغي إليه وهم يحاولونه أن يسترحم فيقول
: ( لماذا أسترحم ؟! إن
كنت محكوما بحق فأنا أرتضى حكم الحق ، وإن كنت محكوما بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل)
ولقد حدثت شقيقته حميدة أمامي فقالت
: ( يوم الأحد - 28
أغسطس 1966م جاء قرار الإعدام موقعا من رئيس الجمهورية - عبدالناصر - ولكنهم كما يبدو أوعزوا إلى مدير السجن الحربي حمزة
البسيوني أن يحاوله الإعتذار
حتى آخر لحظة ) .
قالت حميدة : ( دعاني حمزة البسيوني
وأطلعني على مصادقة عبد
الناصر على قرار الإعدام فارتعشت أوصالي ، لأني كنت أحب سيدا حبا يملك علي نفسي ، ثم قال حمزة : أمـامنـا فرصة أخيرة
لإنقـاذ هذا العلامة لإن إعدامه خسارة كبرى للعالم الإسلامي ، فإذا اعتذر فإننا نخفف حكم الإعدام إلى السجن ثم
يخرج بعفو صحي بعد ستة
أشهر ، فبادري إليه لعله يعتذر ) .
قالت حميدة : ( فدخلت عليه وقلت له
: إنهم يقولون : إن حكم الإعدام سيوقف فيما إذا اعتذرت .
قال سيد : عن أي شيء أعتذر ؟ ! عن العمل مع الله
؟
والله لو عملت مع غير الله لاعتذرت ، ولكنني
لن أعتذر عن
العمل مع الله ،
ثم قال: إطمئني يا حميدة ، إن كان العمر قد انتهى سينفذ حكم الإعدام ،
وإن لم يكن العمر قد انتهى
فلن ينفذ حكم الإعدام ولن يغني الإعتذار شيئا في تقديم الأجل أو تأخيره ) .
يا لله ! حبل المشنقة يلوح أمام ناظريه
، ولا تهتز أوصاله ، ولا
يضطرب موقفه ، ولا يتراجع عن كلمته ،
إنها القمة السامقة التي أحله فيها
التوحيد ، إنها الطمأنينة التي
سكبها الإيمان بالله في أعماقه ،
وهو كما يقول في مقدمة " في ظلال القرآن
" :
( ومن ثم عشت في ظلال القرآن هادئ النفس
، مطمئن السريرة ، قرير الضمير،
عشت أرى يد الله في كل حادث ، وفي كل
أمر ،
عشت في كنف الله وفي رعايته ،
عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها
. . . { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء }
أي طمأنينة ينشئها هذا التصور ؟ وأي سكينة يفيضها على
القلب ؟ وأي ثقة في الحق والخيروالصلاح
أو أي استعلاء على الواقع الصغير يسكبها
في الضمير؟ ) ([167])
.
نحن لا ننزه سيداً ([168])
من الخطأ ، وحاشا لله أن ندعى له العصمة ، إذ ما من إنسان إلا ويؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم
- كما كان يردد إمام المدينة
وعالمها مالك . . .
أما : أن يصل بنا الأمر أن ننسب إليه
تلك العقيدة الفاسدة الضالة
، وهي : القول بوحدة الوجود ،
هذه القولة التي تكاد تخر لها الجبال هدّاً
، سبحانك يا رب هذا بهتان عظيم
.
إن وحدة الوجود تعني أن الخالق والمخلوق
شيء واحد ، وأن الأثر
هو المؤثر ، وأن الصانع قد ظهر في المصنوع لا انفصال ولا تباين .
إن وحدة الوجود تعني أن الحجر هو الله
، وأن الصحن هو الله ، وأن
الحيوانات هي الله ، فلم يعد هنالك فرق بين من عبد الحجر والصنم والشمس وبين من يعبد الله ، لأنها كلها صور لشيء واحد هو
الذات الإلهية - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا –
هل يصدق عاقل أن سيد قطب كان يعتقد
أن عبد الناصر هو الله
، وأن حمزة البسيوني وشرطته هم صور الله ، وأن صفوت الروبي الجلاد هو الله ، وأن لافرق بين
من يعبد ابن غوريون ودايان ، وبين من يعبد الرحمن .
هل يصدق ذو لب أن سيد قطب كان يعتقد
أن السجن الحربي هو الله
.
أو يدخل في عقل عاقل أن سيد قطب كان
يظن أن الشجر والحجر
والقرد ، و الخنزيز والكلب صور لله عزوجل - سبحانك يا رب ! إنها لحدى الكبر – . . .
أحب أن أبين أن سيد قطب قد هاجم القول بوحدة الوجود بالنص .
يقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى
: { وقالوا اتخذ الله ولدا
سبحانه ، بل له مافي السموات والأرض كل له قانتون ، بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ([169])
.
يقول في تفسيرها :
( والنظرية الإسلامية أن الخلق غير الخالق ، وأن
الخالق ليس كمثله شيء
. .
ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة وحدة الوجود - على ما يفهمه غير
المسلم من هذا المصطلح-
أي بمعنى أن الوجود وخلقه وحدة واحدة ، أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالق
، أو أن الوجود هو الصورة
المرئية لموجده ، أو على أي نحو من أنحاء التصور على هذا الأساس .
والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر : وحدة صدروه عن الإراد ة الواحدة الخالقة ، ووحدة ناموسه
الذي يسير به . . . )
([170])
. . .
يقول [ سيّد قطب ] في خصائص التصور الإسلامي :
( يقوم التصور الإسلامي على أساس أن
هناك ألوهية وعبودية . . .
ألوهية يتفرد بها الله سبحانه ، وعبودية
يشترك فيها كل من عداه
. . .
وكما يتفرد الله – سبحانه - بالأولوهية ، كذلك يتفرد تبعا لهذا
بكل خصائص الألوهية ،
وكما يشترك كل حي وكل شيء بعد ذلك في العبودية ، كذلك يتجرد كل حي وكل
شيء من خصائص الألوهية
. .
فهناك إذن وجودان متميزان .
وجود الله ، ووجود ما عداه من عبيد
الله ، والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالمخلوق وإلاله بالعبيد )
([171])
.
أرأيت إذن : إن عبارة نصه تقول :
( فهناك إذن وجودان متميزان ، وجود الله ، ووجود
ما عداه من عبيد الله ، والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالمخلوق والله بالعبد ) ،
هل بقي قول لقائل أن يدعي بأن سيد قطب يخلط بين الله وبين
عبيده ، وأن
الله قد تجلى في صور مخلوقاته ، وأن الخالق والمخلوق شيء واحد لا فرق بينها ولا
تمايز ؟ ! .
ويقول سيد - رحمة الله عليه - في تفسير
آية الإسراء { سبحان الذي
أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد القصى } :
[ وتذكر صفة العبودية { أسرى بعبده
} لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ،
وذلك كي لاتنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس
مقام العبودية ، بمقام الألوهية كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام
،
بسبب مالابس مولده ووفاته ، وبسبب الآيات
التي أعطيت له فاتخذها
بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الولوهية . .
وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها
للذات الإلهية عن كل شبهة
من شرك أو مشابهة ، من قريب أو من بعيد ) ([172])
.
ويقول رحمه الله عند آية : { لن يستنكف
المسيح أن يكون عبداً
لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم
أجورهم ويزيدهم من
فضله ، وأما الذين استنكفوا واستكبروا
فيعذبهم عذابا أليما ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } ([173])
:
[
لقد عني الإسلام عناية بالغة بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه ، وحدانية لا تتلبس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة
من الصور ،
وعني بتقرير أن الله سبحانه ليس كمثله
شيء ، فلا يشترك معه شيء
في ماهية ولاصفة ولاخاصية ، كما عني بتقرير حقيقة الصلة بين الله سبحانه وكل شيء - بما في ذلك كل حي - وهي أنها صلة
ألوهية وعبودية ، ألوهية
الله ، وعبودية كل شيء لله . .
والمتتبع للقرآن كله يجد العناية ، فيه بالغة
بتقرير هذه الحقائق أو هذه الحقيقة الواحدة بجوانبها هذه- بحيث لاتدع في النفس ظلا من شك أو شبهة أو غموض
،
ولقد عني الإسلام كذلك بأن يقرر أن هذه هي
الحقيقة التي جاء بها الرسل
أجمعون ، فقررها في سيرة كل رسول ، وفي دعوة كل رسول ، وجعلها محور الرسالة من عهد نوح عليه السلام إلى عهد محمد خاتم
النبيين - عليه الصلاة والسلام- تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول : { يا قوم اعبدوا الله ما
لكم من إله غيره }
وكان من العجيب أن أتباع الديانات السماوية - وهي حاسمة وصارمة في تقرير هذه الحقيقة
– يكون منهم من يحرف
هذه الحقيقة وينسب لله - سبحانه - البنين والبنات ، أو ينسب لله سبحانه الامتزاج مع أحد من خلقه في صور الأقانيم ، اقتباسا
من الوثنيات التي عاشت في
الجاهليات !
ألوهية وعبودية . . . ولا شيء غير هذه الحقيقة ، ولا قاعدة إلا
هذه القاعدة
ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية
، وصلة العبودية بالألوهية . .
ولا تستقيم تصورات الناس - كما لا تستقيم حياتهم - إلا بتمحيض هذه الحقيقة من
كل غبش ، ومن كل شبهة ، ومن
كل ظل !
أجل لا تستقيم تصورات الناس ، ولا تستقر مشاعرهم ، إلا حين
يستيقنون حقيقة
الصلة بينهم وبين ربهم . .
هو إله لهم وهم عبيده ، هو خالق لهم وهم مخاليق . . هو مالك لهم
وهم مماليك . وهم كلهم سواء في هذه الصلة لا بنوة لأحد . ولا امتزاج بأحد . . ومن ثم
لا قربى لأحد إلا بشئ يملكه كل أحد ويوجه إرادته إليه فيبلغه : التقوى والعمل الصالح . . وهذا في مستطاع كل أحد أن يحاوله . . .
إن المسيح عيسى بن مريم لن يتعالى عن
أن يكون عبداً
لله ، لأنه - عليه السلام - وهو نبي الله ورسوله - خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبوديه ، وأنهما ماهيتان مختلفتان
لا تمتزجان . وهو خير من يعرف أنه من خلْق الله فلا يكون خلق الله كالله أو بعضا من الله ! ) ([174])
. . .
وختاما :
ما أجمل أن ننهي هذا المقال بهذه الصورة
التي تلوح لسيد في مخيلتي
وهم يسوقونه إلى خشبة المشنقة ،
يتقدم إليه شيخ من المشايخ الرسميين
الذين يمثلون عادة ، ليلقنوا
الذي سيعدم كلمة الشهادتين ، إذ أن هذا من مراسيم عملية الإعدام ،
تقدم الشيخ إلى سيد فقال له : ( يا سيد ! قل أشهد أن لا
إله إلا الله ) ،
فالتفت إليه الأستاذ سيد قائلا : (
حتى أنت جئت تتم المسرحية ،
نحن نعدم لأننا نقول لا إله إلا الله
، وأنتم تأكلون خبزا
بلا إله إلا الله ، إتق الله يا هذا ، ولا تبق سيفا للظالمين ) . . .
لقد هال الأستاذ سيد الصمت الرهيب المطبق
من قبل الجماهير المتفرجة
على قمع الحركة الإسلامية واجتثات الإسلام من الجذور على يد الطواغيت المسمين بأسماء المسلمين ،
وفكر طويلا في سر موقف الجماهير غير عابئه ولا آبهة بما
يجري للمسلمين من
إبادة بين ظهرانيهم ،
فخرج بنتيجة : أن الجماهير لم تفهم " لا إله إلا
الله " ،
ومن هنا نذر بقية حياته المباركة لتوضيح معنى لا
إله إلا الله وتعميقها في
النفوس حتى تؤتي ثمارها جنية مباركة في واقع الحياة .
الفصل الثالث
سيّد قطب ليس بعالم ، بل هو أديب !
ومن المهازل المضحكات أيضاً ، طعن الشهيد سيّد قطب رحمه
الله ، بأنه لم يكن عالماً ، بل كان أديباً !
وهذا – إبتداءً - إعتراف وإقرار من قِبَل خصوم الشهيد
بأنه كان أديباً ، وإن كانوا هم يريدون طعنه وجرحه بهذا الوصف . فمدحوه وهم أرادوا
ذمه !
والفضل ما شهدت به الأعداء !
ولقد أجمع خصومه قبل أحبّاؤه بأنّه كان رحمه الله تعالى
، أديباً .
وأقول : لم يكن أديباً فحسب ، بل كان من أئمة الأدباء في
هذا العصر !
ومن باب أنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولوا الفضل ،
قال الأديب الأستاذ عبد الباقي محمد حسين :
[ فملكة الإبداع
الأدبي عطاء من الله ، يهبه لمن يشاء من عباده ، ولهذا سميت موهبة ، وهي تكمن في
القدرة على استخدام اللغة استخداماً جميلاً قادراً على حمل الأفكار والمشاعر .
إن الأديب يرى الكون والحياة رؤية متميزة خاصة ، وتتوفر
له القدرة على التعبير عن هذه الرؤية تعبيراً دقيقاً وجذاباً . فإدراك الحياة
والقدرة على التعبير عن هذا الإدراك سمتان لازمتان للأديب .
والمواهب كثيرة ومتنوعة ، والله أعطى لكل مخلوق موهبة
خاصة به ، ولكن المواهب تتفاضل ولا تتساوى ، ويقع الإبداع الأدبي في أعلى المنازل
، والشعر ([175])
في أرقى مراتب الإبداع ؛ لأن الأصوات تتآلف فيه في إيقاع جميل تطرب له الآذان ،
وتهتز له النفس والمشاعر ، وتلك مزيته .
وهو من المواهب النادرة التي لا يُلَقّاها إلا القليل ،
فمن رُزِقَه بلغ به مقاماً عالياً ، وأصبح موضع إعجاب وإكبار ؛ ولهذا كانت نظرة
العرب للشاعر قديماً على أنه من طينة الجن ، يأتي بما لا يقدر عليه غيره ؛ فقدّموه
على كل أفراد القبيلة ، واعتبروه ضرورة من ضرورات العيش في الحياة ، حتى أن
القبيلة التي لا شاعر لها كانت تُعيّر ، وتبقى في المؤخرة حتى يخرج من بين أبنائها
من يعلي شأنها ، ويرفع ذكراها .
وموهبة الشعر عطاء تحفه الفتنة والغواية من كل جانب ،
مثل فتنة المال والصحة والولد . . . ولا يقدر عليها إلا من خشي الرحمن وجاء بقلب
منيب ، وهذا يتفق في أساسه مع حكمة الخلق : من العبادة والطاعة مع القدرة على
المعصية والغواية : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ .
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا
لَا يَفْعَلُونَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ([176])
. . .
سيد قطب أديب شاعر يملك الموهبة ، موهبة الإبداع والتذوق
، وإن هذا العطاء الإلهي هو الذي فرخ لنا سيد قطب صاحب الظلال والتصوير الفني
ومشاهد القيامة في القرآن .
إن التذوق الرفيع للغة ، والتعبير الجيد عنه هو السمة
البارزة التي تميّز بها الرجل وجعلت لفكره جاذبية وتأثيراً ، يضاف إلى ذلك إيمانه
القوي بفكره والتزامه بكل ما يصدر عنه ؛ ولهذا نسمعه يقول : (( إن الفكرة شيء جميل قيم ثمين ، لكنها لا تؤثر إلا حين
ينبض بها الشعور من الداخل حتى لينساها الفكر الواعي ، حتى لتكون جزءاً من حياة
صاحبها )) .
(( إن السر العجيب – في
قوة التعبير وحيويته – ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات ، وإنما هو كامن في
قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء الكلمات ، وأنه في ذلك التصميم الحاسم على
تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية ، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس ))
(( إن كل كلمة عاشت
قد اقتاتت قلب إنسان ، أما الكلمات التي وُلدت في الأفواه ، وقذفت بها الألسنة ،
ولم تتصل بذلك النبع الإلهي ، فقد ولدت ميتة ، ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى
الأمام ، وأن أحداً لن يتبناها ، لأنها ولدت ميتة ، والناس لا يتبنون الأموات ([177])
. . . ))
لقد فهم سيد قطب أمانة الموهبة والكلمة ، وعلم أن الصدق
فيها أمر ضروري للتأثير والتعبير ، فنجده يقول : (( إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئاً كثيراً ،
ولكن بشرط واحد أن يموتوا لتعيش أفكـارهم ، وأن يطعموا أفكـارهم من لحومهـم
ودمائهم ، وأن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق .
إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثاً هامدة ، حتى إذا متنا في
سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء )) .
ويتوجه بالنصيحة إلى أصحاب المواهب : (( فإلى الذين يجلسون إلى مكاتبهم ، يكدون قرائحهم لينتقوا
اللفظ الأنيق ، وينمقوا العبارة الرنانة ، ويلفقوا الأخيلة البراقة ، إلى هؤلاء
أتوجه بالنصيحة : وفروا عليكم كل هذا العناء ؛ فإن ومضة الروح وإشراق القلب بالنار
المقدسة ، نار الإيمان بالفكرة هو وحده سبب الحياة ، حياة الكلمات وحياة العبارات )) ] ([178])
.
و [ كتب (( علي أحمد عامر )) عام 1934 م كلمةً في مجلة (( الأسبوع )) بعنوان (( تحت المصباح : الأستاذ سيد قطب )) أشاد فيها بجهود سيد في الأدب والنقد والشعر ، وأُعجب
بنتاجه الغزير ، ومقالاته العديدة .
ومما جاء في تلك الكلمة قوله : (( ذلك هو صديقنا الشاعر الناشر الصحفي (( سيد قطب )) فقد طالما دفعتْهُ الدنيا إلى مُلابسة الرجولة ، بينما هو في بداءة مرحلة
الشباب ، وقد طالما أسرفت حقائق الحياة معه ، فأذنتْ له أن يجمع أعصابه على
موازنات في الأدب والشعر والنقد .
كان قرّاءُ الصحف ينصرفون إليها مغتبطين ، ومؤمنين أنهم
مُلاقون فيها شيخاً ، كشفتْ تجاريبُه وجوه الأشياء جميعاً ، وكشفتْ له السنونُ
الطويلة خبايا الناس ، وطوايا الفنون .
ولو أنهـم أبصروا به تلميذاً ، يقتعد أريكته في حجرة
الدراسة باحثاً عن (( خبر كان )) ، منقِّباً عن (( غزوة أُحُد )) ، كادحاً وراء (( فقه اللغة )) ، دائباً على مصاولة الشعراء العباسيين لأسلافهم من شعراء أميّة . . .
ولو أنهم بَصُروا به متحفِّزاً ، يثبُ إلى مكتبه مع
الليل ، يستذكرُ الدرس ، ثم يكتبُ رسالة الغد إلى الصحيفة التي يعمل فيها ، ثم
يُفْشي بين المرحلتيْن سرّ نفسه في قصيدة ، يطْويها إلى صدره ، حتى يُؤْذَن لها أن
تذوع . . .
لو أنهم أبصروا به في هذه المشاهد ، التي يؤلّف ما بينها
التناقض ، لأنكروا على ابن الخامسة عشرة أن يقول الشعر ، ولأنكروا على ابن المدرسة
أن يكابد التحرير . .
ولكنه (( سيّد قطب )) طرازٌ وحده في أدباء الشباب . . .
ولو أننا تناولنا نتاجه في ضوء عمره ، لدعونا الزملاء
جميعاً إلى اكتتاب عام ، يطيب لكاتب هذا الفصل أن يساهم فيه برأسه ، حتى نقيم له
تمثالاً بحجم صورته ، ونتوجّه بهذه الشهادة .
نشهد نحن الموقعين على هذا ، أنّ زميلنا سيّد قطب ، من
أولئك الذين أرْبَتْ أقدارهم على أعمارهم . . !
ولكننا في مصر . . ومصرالمحروسة بلد العقوق . . ! )) ([179])
] ([180])
.
[ وإذا كـان نتاجُ سيّد قطب الوفيرُ في فترة قصيرة من
بداية حياته الأدبية والفكرية ، قـد نال إعجاب الأدباء والقراء والباحثين ، حتى
دفع أحدهم – علي أحمد عامر – إلى تقديم هذه الشهادة العجيبة ، فكيف بسيّد قطب وقد
ملأَ سمع العربية وبَصَرَها في الأربعينيّات ؟
كيف به وقد تقدّم إلى طليعة أدباء العربية ونقّاد الأدب
العربي ؟ كيف به وقد سار في طريق الفكر الإسلامي حتى وصل إلى ريادَته ؟ وفي طريق
العمل الجهادي الإسلامي حتى وصل إلى مقدّمته ؟ كيف تكون الشهادة له وتقديرُه ؟
ولكنه نال من الإيذاء والإضطهاد ، والإبتلاء والتعذيب ،
والإساءة والإهمال والعُقوق ، ما لم ينَلْه أديب مفكر في القديم والحديث ، حيث
أُزهقت روحُه لأنها أبَتْ الخنوع والخضوع ، وعاملَهُ الظلمةُ والطغاةُ والمجرمون
أقسى من معاملة المجرمين .
ولا عجب (( فنحن في مصر . . مصر المحروسة ، بلد العقوق )) ! ] ([181])
.
ولا أظنني بحاجة إلى أن أستدل كثيراً لإثبات أديبية
الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، فقد أقرّ
بذلك واعترف خصومه وأعداؤه ، قبل أنصاره ومحبّيه .
العلاقة بين الأدب واللغة
ولا شك في أن كلّ أديب عربيّ ، ينبغي أن يكون ملماً
وحائزاً على علوم اللغة العربية [ وهي ثلاثة عشر علماً : (( الصرف ، والإعرابُ (( ويجمعهما اسمُ النحو )) ، والرسمُ ([182])
، والمعاني ، والبيان ، والبديع ، والعَروض ، والقوافي ، وَقرْضُ الشعر ، والإنشاء
، والخطابة ، وتاريخُ الأدب ، ومَتنُ اللغة )) ] ([183])
.
هـذا عـن الأديب العربـي عامة ، فكيف إذا كان من أئمة
الأدباء والنقاد المعاصرين ، كالشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، باعتراف أهل
الإختصاص ؟
[ علاقة الأدب باللغة هي علاقة الوظيفة بالمادة ،
والغاية بالوسيلة ، والثمرة بالشجرة .
فاللغة هي مادة
الأدب الأولية ، ووسيلته إلى إدراك غايته التواصلية . والأدب هو ثمرة اللغة ،
وناتج توظيفها ، وحصيلة استثمار عناصرها الأولية وقواعدها الكلية .
لذلك ما نشأت علوم
اللغة إلا لإدراك أسرار الأدبية في الأدب ، وقوانين الإبلاغية في الكلام ، ولوقاية
الغاية التواصلية ، نفعية كانت أم جمالية ، من أن يصيبها الضعف أو يدركها الاختلال
. وهي بديهية لا تحتاج إلى مزيد بيان .
لقد ظل الأدب
واللغة في تاريخ ثقافتنا العربية علمين توأمين ، وحقلين متقاطعين متكاملين ، لا
ينفصل أحدهما عن الآخر، ولا يعمل أولهما بمعزل عن الثاني ولا الثاني دون أن يستهدف
الأول ؛
فكان الأديب يحصّل
من علوم اللغة ما تحصل به ملكتُه وتستقيم لغته وتستحكم موهبته .
وكان الناقد هو العالم بفقه اللغة ، المتبحر في
علومها ، الخبير بأسرار بلاغتها ؛ زيادة على ما يتمتع به من رفعة الذوق ونباهة
الفكر .
وكان اللغوي غير
منقطع عن معرفة الآداب ، ولا عاجز عن بلاغة الأداء . وكان جميعهم يسير على هدي
كلمة ابن قتيبة :
من أراد أن يكون
إماما في العلم فعليه أن يتبحر في فرع من فروعه ، ومن أراد أن يكون أديبا فعليه أن
يأخذ من كل علم بطرف ] ([184])
.
أهمية معرفة
اللغة العربية في فهم الإسلام
[ • اللغة هي الوسيلة الأولى للتخاطب بين الناس .
• وهي أهمّ أداةٍ
من أدوات التفكير .
• وهي وعاء العلم
والمعرفة ، تحفظُها الكتابةُ من الضياع .
هذه الأمور
الثلاثة تكاد - لوضوحها - تكون من البدهيات ، ولكن الناسَ - في حياتهم العملية -
لم يعطوا هذه (البدهيات) ما تستحقُّه من الاهتمام !
ومع أنها مشتركة
بين اللغة العربية وسواها ، إلا أن العربية تتميز عن غيرها بأنها لغة الدين
الإسلامي ، فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية ؛
قال تعالى : ﴿
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [ يوسف : 2 ].
وقال: ﴿ كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ ، قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [ فصلت : 3 ].
والرسول - صلى
الله عليه وسلم - خاطب قومه العرب بلسانهم ؛
قال تعالى : ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ . .
. ﴾ [إبراهيم: 4].
وهكذا فإن
الأساسين الأَوَّلين لهذا الدين - القرآنَ والسنةَ - هما باللغة العربية ، ولا
يمكن فهمُهما ، ومعرفةُ أسرارِهما ، واستنباطُ الأحكام منهما لغير المتمكّن من هذه
اللغة المباركة .
وقد أدرك الأئمةُ
الأقدمون أهميةَ اللغة العربية في فهم كلام الله - سبحانه وتعالى - وكلامِ رسوله -
صلى الله عليه وسلم - فهذا الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول عنه زوجُ ابنته :
" أقام
الشافعي علمَ العربية وأيامَ الناس عشرين سنة ، فقلنا له في هذا ،
فقال : ما أردت
بهذا إلا استعانةً للفقه " ([185])
؛
أي: ظلّ عشرين سنة
يتبحّر في اللغة العربية وعلومها ليفقه ويفهمَ القرآن والسنة، ولا يستغرب منه هذا ،
فهو الذي يقول :
" أصحاب
ُالعربية جِنُّ الإنس ، يُبصرون ما لم يبصرْ غيرُهم " ([186])
.
وكان علماء الدين
يقولون : " من تكلّم في الفقه بغير لغةٍ تكلم بلسان قصير " ! والمقام لا
يتسع للتفصيل ، وفيما ذُكر كفاية لإثبات المراد .
واللغة العربية
بحر لا ساحل له ، بعضُ علومها : النحو ، والصرف ، وعلم المعاني ، وعلم البيان ،
وعلم البديع . . . إلخ ،
وكانت في الجيل
الأول ، جيل الصحابة - رضي الله عنهم - ملكةً وسليقة ، ثم لما انتشر الإسلام في
شتَّى البلاد ، واختلط العرب بالمسلمين الجدد بالمصاهرة والمعاملة ، والتجارة
والتعليم ، دخلت في لسانهم العجمةُ وبدأ الخطأ في الكلام ، ( فخفضوا المرفوعَ،
ورفعوا المنصوب ، وما إلى ذلك ) .
وقد بدأ هذا اللحن
في وقتٍ مبكر جدًّا ، إذ يُروى أن الخليفة الراشد عليًّا - رضي الله عنه - هو الذي
وجَّه أبا الأسود الدؤلي إلى أن يضع أصولَ علم النحو حفظًا على اللغة العربية من
الضياع ([187])
، فكيف الحـال فـي زمـاننا ، بعد مضي أكثر من أربعة عشر قرنًا ؟ ! ]
علاقة علوم
العربية بعلم أصول الفقه
[ ومن العلوم
المهمة جدًّا في فَهم كلام الله - سبحانه - وكلام رسوله - عليه الصلاة والسلام -
بعد علوم العربية : علم أصول الفقه الذي يُحدِّد قواعد استنباط الأحكام الشرعية
العمليـة مـن أدلتها التفصيلية في القرآن والسنة ([188])
،
وهو أيضًا بحر لا
ساحل له ، وقد كُتِبَ باللغة العربية ونَقْلُهُ إلى لغة أخرى يُخِلُّ بالكثير من
مقاصده ، وهو إحدى الأدوات المهمة لمن يريد الاجتهاد في الدين .
وغني عن البيان
أننا عندما نتكلم عن اللغة العربية ، فإننا نعني : اللغة الفصحى ، لا اللهجاتِ
المحلية العامية التي ابتعدتْ عن أصلها ، وتباينت فيما بينها تباينًا كبيرًا ، جعل
العربي المشرقي لا يكاد يفهم شيئًا مِن عامية العربي المغربي ، وبالعكس ! !
نخلص مما تقدم إلى
نتائجَ من أهمها :
أولًا: العربية
الفصحى هي وعاء الإسلام ، ومستودع ثقافته ، ومادة أكثر ما كُتب عنه على مدى القرون
.
ثانيًا : يجب على
المسلم الذي لا يعرف العربية أن يقفَ عند حدود علمه ، فلا يجاوز تلك الحدودَ عند
الحديث عن الإسلام .
ثالثًا : وكذلك
المسلم الذي يعرف العربية مؤهل - أيضًا - للفهم في حدود معرفته ، أما الاجتهاد ،
والحكم على أقوال الأئمة بالصواب والخطأ ، والقوة والضعف فله أهلُه ، وهو مقصورٌ
على من يملكُ أدواتِه .
رابعًا : الذي لا
يعرف قواعدَ البيان العربي ، ومقاصدَ خطاب العرب يقع في أخطاءٍ في الفهم ، ويستنبط
من القرآن والسنة معانيَ بعيدةً عن مقاصد الشرع .
خامسًا : لا بدّ
كذلك من معرفة عادات العرب أيام نزول الوحي ؛ لأن القرآن نزل مراعيًا عُرْفَهم في
الخطاب ([189])
.
سادسًا : ينبغي
بذل الجهد في نشر العربية بين المسلمين الذين لا يعرفونها ، وتقويتُها بين الذين
يعرفونها ، فهذا مِنْ خير ما يُعينهم على فهمٍ أفضلَ للقرآن والسنة والعلوم
الإسلامية ] ([190])
.
اللغة العربية
وفهم الإسلام
ففَهْم الإسلام
متوقف إلى حدٍّ بعيد على التضلع في اللغة العربية .
قال الإمام شمس
الدين الأصفهاني ، رحمه الله تعالى :
[ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ ، وَهُمَا عَرَبِيَّا الدَّلَالَةِ ، فَيَتَوَقَّفُ دَلَالَتُهُمَا
عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ
وَالْمَجَازِ ، وَالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ ، وَالْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ ،
وَالِاشْتِرَاكِ وَالتَّرَادُفِ ، وَالنَّقْلِ وَالْإِضْمَارِ وَغَيْرِهَا ] ([191])
.
وقال
الإمام الآمدي ، رحمه الله تعالى ، وهو يتحدّث عن أصول الفقه :
[ وَأَمَّا مَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ ، فَعِلْمُ الْكَلَامِ
وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ . . .
وَأَمَّا عِلْمُ الْعَرَبِيَّةِ ، فَلِتَوَقُّفِ
مَعْرِفَةِ دَلَالَاتِ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَأَقْوَالِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى مَعْرِفَةِ
مَوْضُوعَاتِهَا لُغَةً مِنْ جِهَةِ : الْحَقِيقَةِ ، وَالْمَجَازِ ، وَالْعُمُومِ
، وَالْخُصُوصِ ، وَالْإِطْلَاقِ ، وَالتَّقْيِيدِ ، وَالْحَذْفِ ، وَالْإِضْمَارِ
، وَالْمَنْطُوقِ ، وَالْمَفْهُومِ ، وَالِاقْتِضَاءِ ، وَالْإِشَارَةِ ،
وَالتَّنْبِيهِ ، وَالْإِيمَاءِ ، وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِ
عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ ] ([192])
.
وقال الإمام إبن النجار الحنبلي ، رحمه الله تعالى :
[ قَالَ أَبُو
الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ : " أَبْلَغُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إحْكَامِ
الأَحْكَامِ : إتْقَانُ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَطَرَفٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ "
.
"
وَيُسْتَمَدُّ " عِلْمُ أُصُول الْفِقْهِ مِنْ ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ : " مِنْ
أُصُولِ الدِّينِ ، وَ" مِنْ "الْعَرَبِيَّةِ ، وَ" مِنْ " تَصَوُّرِ
الأَحْكَامِ " . وَوَجْهُ الْحَصْرِ : الاسْتِقْرَاءُ .
وَأَيْضًا
: فَالتَّوَقُّفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ الأَدِلَّةِ .
فَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ مِنْ جِهَةِ
دَلالَةِ الأَلْفَاظِ عَلَى الأَحْكَامِ ، فَهُوَ الْعَرَبِيَّةُ بِأَنْوَاعِهَا
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ مِنْ جِهَةِ
تَصَوُّرِ مَا يَدُلُّ بِهِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ تَصَوُّرُ
الأَحْكَامِ . . .
أَمَّا
تَوَقُّفُهُ مِنْ جِهَةِ دَلالَةِ الأَلْفَاظِ عَلَى الأَحْكَامِ : فَلِتَوَقُّفِ
فَهْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى
الْعَرَبِيَّةِ .
فَإِنْ
كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَدْلُولُ : فَهُوَ عِلْمُ اللُّغَةِ ، أَوْ مِنْ أَحْكَامِ
تَرْكِيبِهَا : فَعِلْمُ النَّحْوِ ، أَوْ مِنْ أَحْكَامِ أَفْرَادِهَا : فَعِلْمُ
التَّصْرِيفِ ، أَوْ مِنْ جِهَةِ مُطَابِقَتِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ ، وَسَلامَتِهِ
مِنْ التَّعْقِيدِ ، وَوُجُوهِ الْحُسْنِ : فَعِلْمُ الْبَيَانِ بِأَنْوَاعِهِ
الثَّلاثَةِ ] ([193]) .
وقال الإمام الشاطبي ، رحمه الله تعالى :
[ أَنَّ
الشَّرِيعَةَ عَرَبِيَّةٌ ، وَإِذَا كَانَتْ عَرَبِيَّةً ؛ فَلَا يَفْهَمُهَا
حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ فَهِمَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةِ حَقَّ الْفَهْمِ ؛
لِأَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي النَّمَطِ مَا عَدَا وُجُوهَ الْإِعْجَازِ،
فَإِذَا
فَرَضْنَا مُبْتَدِئًا فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ مُبْتَدِئٌ فِي فَهْمِ
الشَّرِيعَةِ ، أَوْ مُتَوَسِّطًا ؛ فَهُوَ مُتَوَسِّطٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ
وَالْمُتَوَسِّطُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ النِّهَايَةِ ، فَإِنِ انْتَهَى إِلَى
دَرَجَةِ الْغَايَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ ؛
فَكَانَ فَهْمُهُ فِيهَا حُجَّةً كَمَا كَانَ فَهْمُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ
مِنَ الْفُصَحَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا الْقُرْآنَ حُجَّةً ،
فَمَنْ
لَمْ يَبْلُغْ شَأْوَهُمْ ؛ فَقَدْ نَقَصَهُ مِنْ فَهْمِ الشَّرِيعَةِ بِمِقْدَارِ
التَّقْصِيرِ عَنْهُمْ ، وَكُلُّ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ لَمْ يُعَدَّ حُجَّةً ،
وَلَا كَانَ قَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولًا .
فَلَا
بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَبْلَغَ الْأَئِمَّةِ فِيهَا ؛
كَالْخَلِيلِ ، وَسِيبَوَيْهِ ، وَالْأَخْفَشِ ، وَالْجَرْمِيِّ ، وَالْمَازِنِيِّ
وَمَنْ سِوَاهُمْ ،
وَقَدْ
قَالَ الْجَرْمِيُّ : " أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أُفْتِي الناس في
الفقه من كتاب سيبويه " .
وَفَسَّرُوا
ذَلِكَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهِ بِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ حَدِيثٍ ، وَكِتَابُ
سِيبَوَيْهِ يُتَعَلَّمُ مِنْهُ النَّظَرُ وَالتَّفْتِيشُ ،
وَالْمُرَادُ
بِذَلِكَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِي النَّحْوِ ، فَقَدْ نَبَّهَ فِي
كَلَامِهِ عَلَى مَقَاصِدِ الْعَرَبِ ، وَأَنْحَاءِ تَصَرُّفَاتِهَا فِي
أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ فِيهِ عَلَى بَيَانِ أَنَّ
الْفَاعِلَ مَرْفُوعٌ وَالْمَفْعُولَ مَنْصُوبٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ ،
بَلْ
هُوَ يُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مَا يَلِيقُ بِهِ ، حَتَّى إِنَّهُ احْتَوَى عَلَى
عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَوُجُوهِ تَصَرُّفَاتِ الْأَلْفَاظِ
وَالْمَعَانِي ، وَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ الْجَرْمِيُّ عَلَى مَا قَالَ ، وَهُوَ
كَلَامٌ يُرْوَى عَنْهُ فِي صَدْرِ " كِتَابِ سِيبَوَيْهِ " مِنْ غَيْرِ
إِنْكَارٍ .
وَلَا
يُقَالُ : إِنَّ الْأُصُولِيِّينَ قَدْ نَفَوْا هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي فَهْمِ
الْعَرَبِيَّةِ ؛ فَقَالُوا : لَيْسَ عَلَى الْأُصُولِيِّ أَنْ يَبْلُغَ فِي
الْعَرَبِيَّةِ مَبْلَغَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ
وَالْأَصْمَعِيِّ ، الْبَاحِثِينَ عَنْ دَقَائِقِ الْإِعْرَابِ وَمُشْكِلَاتِ
اللُّغَةِ ، وَإِنَّمَا يَكْفِيهِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهَا مَا تَتَيَسَّرُ بِهِ
مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
لِأَنَّا
نَقُولُ : هَذَا غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ
فِي هَذَا الشَّرْطِ : " إِنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ خِطَابُ
الْعَرَبِ وَعَادَتَهُمْ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، حَتَّى يُمَيَّزَ بَيْنَ صَرِيحِ
الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ وَمُجْمَلِهِ ، وَحَقِيقَتِهِ ومجازه ، وعامه وخاصه ، ومحكمه
ومتشابهه ، ومطلقه ، ونصه وفحواه ولحنه ومفهمومه " .
وَهَذَا
الَّذِي اشْتَرَطَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ بَلَغَ فِي اللُّغَةِ
الْعَرَبِيَّةِ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ ،
ثُمَّ
قَالَ : "وَالتَّخْفِيفُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ
مَبْلَغَ الْخَلِيلِ وَالْمُبَرِّدِ ، وَأَنْ يَعْلَمَ جَمِيعَ اللُّغَةِ
وَيَتَعَمَّقَ فِي النَّحْوِ " .
وَهَذَا
أَيْضًا صَحِيحٌ ، فَالَّذِي نُفِيَ اللُّزُومُ فِيهِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ
فِي الِاشْتِرَاطِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْرِيرُ الْفَهْمِ حَتَّى يضاهي
العربي في ذلك الْمِقْدَارِ
،
وَلَيْسَ
مِنْ شَرْطِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَعْرِفَ جَمِيعَ اللُّغَةِ وَلَا أَنْ
يَسْتَعْمِلَ الدَّقَائِقَ ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ ،
فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الشَّرِيعَةِ ،
وَرُبَّمَا
يَفْهَمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ
الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، فَيَبْنِي فِي
الْعَرَبِيَّةِ عَلَى التَّقْلِيدِ المحض ، فيأتي في الكلام على مسائل الشرعية
بِمَا السُّكُوتُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُعْقَدُ عَلَيْهِ
الْخَنَاصِرُ جَلَالَةً فِي الدِّينِ ، وَعِلْمًا فِي الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ
.
وَقَدْ
أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي " رِسَالَتِهِ " إِلَى هَذَا الْمَعْنَى ،
وَأَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْعَرَبَ بِكِتَابِهِ بِلِسَانِهَا عَلَى مَا تَعْرِفُ
مِنْ مَعَانِيهَا ،
ثُمَّ
ذَكَرَ مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِيهَا اتِّسَاعَ لِسَانِهَا وَأَنْ تَخَاطَبَ
بِالْعَامِّ مُرَادًا بِهِ ظَاهِرُهُ ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ
وَيَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا يُدْخِلُهُ
فِي الْكَلَامِ ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ ، وَيُعْرَفُ بِالسِّيَاقِ
، وَبِالْكَلَامِ يُنْبِئُ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ ، وَآخِرُهُ عَنْ أَوَّلِهِ ،
وَأَنْ تَتَكَلَّمَ بِالشَّيْءِ تُعَرِّفُهُ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَمَا
تُعَرِّفُ بِالْإِشَارَةِ وَتُسَمِّي الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالْأَسْمَاءِ الْكَثِيرَةِ
، وَالْمَعَانِي الْكَثِيرَةَ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ .
ثُمَّ
قَالَ : " فَمَنْ جَهِلَ هَذَا مِنْ لِسَانِهَا- وَبِلِسَانِهَا نَزَلَ
الْكِتَابُ وَجَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ؛ فَتَكَلَّفَ الْقَوْلَ فِي عِلْمِهَا
تَكَلُّفَ مَا يَجْهَلُ بَعْضَهُ ، وَمَنْ تَكَلَّفَ مَا جَهِلَ وَمَا لَمْ
تُثْبِتْهُ معرفته ؛ كانت موافقته للصواب وإن وافقه من حيث لا يعرف غَيْرَ
مَحْمُودَةٍ ، وَكَانَ بِخَطَئِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، إِذَا نَطَقَ فِيمَا لَا يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْفَرْقِ
بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ فِيهِ " .
هَذَا
قَوْلُهُ ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ ، وَغَالِبُ مَا صُنِّفَ
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنَ الْفُنُونِ إِنَّمَا هُوَ الْمَطَالِبِ الْعَرَبِيَّةِ
الَّتِي تَكَفَّلَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا بِالْجَوَابِ عَنْهَا ، وَمَا سِوَاهَا
مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ ؛ فَقَدْ يَكْفِي فِيهِ التَّقْلِيدُ ، كَالْكَلَامِ فِي
الْأَحْكَامِ تَصَوُّرًا وَتَصْدِيقًا ؛ كَأَحْكَامِ النَّسْخِ ، وَأَحْكَامِ
الْحَدِيثِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
فالحاصل
أَنَّهُ لَا غِنَى لِلْمُجْتَهِدِ فِي الشَّرِيعَةِ عَنْ بُلُوغِ دَرَجَةِ
الِاجْتِهَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، بِحَيْثُ يَصِيرُ فَهْمُ خِطَابِهَا لَهُ
وَصْفًا غَيْرَ مُتَكَلَّفٍ ولا متوقف فيه في الغالب إِلَّا بِمِقْدَارِ تَوَقُّفِ
الْفَطِنِ لِكَلَامِ اللَّبِيبِ .
وَأَمَّا
الثَّالِثُ مِنَ الْمَطَالِبِ :
وَهُوَ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعُلُومِ أَنْ يَكُونَ
الْمُجْتَهِدُ عَالِمًا بِهَا ؛ فَقَدْ مَرَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛
فَإِنَّ
الْمُجْتَهِدَ إِذَا بَنَى اجْتِهَادَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ فِي بَعْضِ
الْمُقَدِّمَاتِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ ؛ فَذَلِكَ في كونه مجتهدًا في عين مسألته ، كَالْمُهَنْدِسِ
إِذَا بَنَى بَعْضَ بَرَاهِينِهِ عَلَى صِحَّةِ وجود الدئراة مثلًا : فلا يضره في
صحة برهان تَقْلِيدُهُ لِصَاحِبِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ وَهُوَ الْمُبَرْهِنُ
عَلَى وُجُودِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُهَنْدِسُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ
بِالْبُرْهَانِ ،
وَكَمَا
قَالُوا فِي تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ في علم الحديث ولم يقدح ذلك من صِحَّةِ
اجْتِهَادِهِ ، بَلْ كَمَا يَبْنِي الْقَاضِي فِي تَغْرِيمِ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ
عَلَى اجْتِهَادِ الْمُقَوِّمِ لِلسِّلَعِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ هُوَ ذَلِكَ،
وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ ، وَكَمَا بَنَى مَالِكٌ
أَحْكَامَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عَلَى مَا يَعْرِفُهُ النِّسَاءُ مِنْ
عَادَاتِهِنَّ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ غَيْرَ عَارِفٍ به ، وما أشبه ذلك ] ([194])
.
وأهم ما جاء في كلام الإمام الشاطبي ، رحمه الله تعالى –
فيما نحن بصدده – وهو حقيق بأن يُكتَب بماء الذهب :
1 – (( الشريعة عربية ، فلا يفهمها حقّ الفهم إلا مَن فهم اللغة العربية حقّ
الفهم ))
وهذه الصفة قد نالها الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ،
فهو قد فهم اللغة العربية حقّ الفهم ، فهو باعتراف الجميع – الخصوم قبل غيرهم –
أديب ، بل من أئمة الأدباء والنقّاد ، ولا ينال هذه المرتبة إلا مَن حاز على علوم
اللغة العربية ، وفهمها حق الفهم !
2 – (( مَن كان مُبتدئاً في فهم العربية فهو مبتديءٌ في فهم الشريعة ، أو
مُتوسِّطاً فهو متوسط في فهم الشريعة . . . فإنِ انتهى إلى درجة الغايةِ في
العربية كان كذلك في الشريعة ؛ فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من
الفصحاء الذين فهموا القرآن حُجّة !
فمن لم يبلغ شأوَهم ؛ فقد نَقصَهُ من فهم الشريعة بمقدار
التقصير عنهم )) !
فمقام الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، في هذه المراتب
معلوم !
من الشروط الواجب توفرها في المجتهد
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى ، وهو يتحدّث عن
الشروط الواجب توفرها في المجتهد ، فقال عن شرط معرفة اللغة العربية :
[ أَنْ
يَكُونَ عَالِمًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ تَفْسِيرُ مَا وَرَدَ
فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْغَرِيبِ وَنَحْوِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ
يَكُونَ حَافِظًا لَهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ أن يكون متمكنا مِنِ
اسْتِخْرَاجِهَا مِنْ مُؤَلَّفَاتِ الْأَئِمَّةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِذَلِكَ ،
وَقَدْ قَرَّبُوهَا أَحْسَنَ تَقْرِيبٍ ، وَهَذَّبُوهَا أَبْلَغَ تَهْذِيبٍ ،
وَرَتَّبُوهَا عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ تَرْتِيبًا لَا يَصْعُبُ الْكَشْفُ
عَنْهُ ، وَلَا يَبْعُدُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ ،
وَإِنَّمَا
يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا ، وَخَوَاصِّ تَرَاكِيبِهَا ، وَمَا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ لَطَائِفِ الْمَزَايَا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِعِلْمِ
النَّحْوِ ، وَالصَّرْفِ ، وَالْمَعَانِي ، وَالْبَيَانِ ، حَتَّى يثبت لَهُ فِي
كُلِّ فَنٍّ مِنْ هَذِهِ " الْفُنُونِ " مَلَكَةٌ ، يَسْتَحْضِرُ بِهَا
كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عند وروده عليه ، فإنه ذَلِكَ يَنْظُرُ فِي
الدَّلِيلِ نَظَرًا صَحِيحًا ، وَيَسْتَخْرِجُ مِنْهُ الْأَحْكَامَ اسْتِخْرَاجًا
قَوِيًّا .
وَمَنْ
جَعَلَ الْمِقْدَارَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ هُوَ
مَعْرِفَةَ مختصر من مختصراتها ، أَوْ كِتَابٍ مُتَوَسِّطٍ مِنَ الْمُؤَلَّفَاتِ
الْمَوْضُوعَةِ فِيهَا ، فَقَدْ أَبْعَدَ ،
بَلِ
الِاسْتِكْثَارُ مِنَ الْمُمَارَسَةِ لَهَا ، وَالتَّوَسُّعُ فِي الِاطِّلَاعِ
عَلَى مُطَوَّلَاتِهَا مِمَّا يَزِيدُ الْمُجْتَهِدَ قُوَّةً فِي الْبَحْثِ ،
وَبَصَرًا فِي الِاسْتِخْرَاجِ ، وَبَصِيرَةً فِي حُصُولِ مَطْلُوبِهِ .
وَالْحَاصِلُ
: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الْمَلَكَةُ الْقَوِيَّةُ فِي هَذِهِ
الْعُلُومِ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْمَلَكَةُ بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ ،
وَكَثْرَةِ الْمُلَازَمَةِ لِشُيُوخِ هَذَا الْفَنِّ .
قَالَ
الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ
لِسَانِ الْعَرَبِ مَا يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ .
قَـالَ
الْمَـاوَرْدِيُّ : وَمَعْـرِفَةُ لِسَـانِ الْعَرَبِ فَرْضٌ عَلَـى كُلِّ مُسْـلِمٍ
مِـنْ مُجْتَهِـدٍ وَغَيْرِهِ ] ([195])
.
فـإذا
عَلِمْنـا – مما نقلنا من أقوال الأئمة والعلماء المجتهدين – أن علـم أصول الفقه ،
الذي وضعه فقهاء الشريعة الإسلامية ، لفهم الإسلام ، واستنباط الأحكام من نصوصه ،
وكما جاء في كتاب للدكتور عبدالكريم زيدان ، رحمه الله ، حيث قال :
[ فإن فقهاء الشريعة الإسلامية ، رحمهم الله
تعالى ، وضعوا لنا علماً جليل القدر عظيم الفائدة لا مثيل له عند أمم الأرض قاطبة
لا في القديم ولا في الحديث ، ذلك هو علم أصول الفقه .
وكان
الغرض من وضعه وبناء صرحه وتوضيح معالمه وجوانبه ومعانيه خدمة الإسلام عن طريق فهم
كتاب الله وسنة رسوله r
واستنباط الأحكام من نصوصهما ومن المصادر المعتبرة في ضوء قواعد ومعاني هذا العلم
علم أصول الفقه . . . ] .
ثم
قال ، رحمه الله تعالى :
[ إستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة
شرعاً ، لا يكون عن هوى وكيفما اتفق ، بل لا بد من مسالك معينة يسلكها المجتهد ،
وقواعد يسترشد بها ، وضوابط يلتزم بمقتضاها ، وبهذا يكون اجتهاده مقبولاً ، ووصوله
إلى الأحكام الصحيحة ممكناً ميسوراً .
والعلم
الذي يُعْنى ببحث مصادر الأحكام وحجِّيّتِها ومراتبها في الاستدلال بها ، وشروط
هذا الاستدلال ، ويرسم مناهج الاستنباط ، ويستخرج القواعد المعينة على ذلك ، والتي
يلتزم بها المجتهد عند تعرفه على الأحكام من أدلتها التفصيلية ، هو علم أصول الفقه
، ولهذا كان هذا العلم ، كما قال العلامة ابن خلدون : من أعظم العلوم الشرعية ،
وأجلها قدراً ، وأكثرها فائدة ] ([196])
.
وإذا
علمنا أيضاً – من أقوال الأئمة والعلماء المجتهدين – أن علم أصول الفقه يُستَمَدُّ
من ثلاثة أشياء :
1 –
أصول الدين .
2 –
اللغة العربية .
3 –
تصوُّر الأحكام .
عَلِمْنا
يقيناً أنّ الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، قد حاز على ثلث علم الشريعة عن
جدارة ، وباعتراف الجميع !
طرفة
!
وللطرفة
، ولما له علاقة قوية بموضوعنا :
أنّ
أحد الذين قالوا : إنّ سيد قطب أديب ، وليس بعالم ، هو الشيخ الألباني - عفا الله
عنه - وهو خريج المدرسة الإبتدائية ؛ أي : حاصل على الشهادة الإبتدائية ، وهو ليس
بعربي ، ولا أديب ، ولا متمكّن في اللغة العربية .
فقد
جرى حوار بينه وبين العالم الجليل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، رحمهما الله تعالى .
[ نقل الحوار الشيخ محمد منير رحمه الله قبل وفاته في شهر
شعبان عندما قدم الى المدينة المنورة قال لي بالحرف الواحد :
تناقش معه في مدينة الرياض
قال له الشيخ عبد الفتاح : هل أنت محدث وعالم بعلم الحديث ؟
فرد قائلاً : هكذا يقولون ؟ ؟ ؟
فقال له : أنت على من تلقيت الأسانيد من أي العلماء ؟
فقال : من الكتب
فقال له : هذا لا يكون محدثا مالم يأخذ من أهل الحديث من
لم يتلقاه عن أهله
فهل أنت عالم بعلم النحو والصرف وباقي العلوم لو سمحتم هاتوا
لنا صحيح البخاري
فأتوا بصحيح البخاري
ففتح الشيخ عبد الفتاح على حديث في إحدى الغزوات قال رسول
الله صل الله عليه وسلم للصحابة بما معناه إذهبوا وأِربعوا بالكسر
فأعطى الكتاب للألباني وقال له إقرأ علينا هذا الحديث
فبدأ الألباني بقراءة الحديث ووصل الى كلمة اربعوا فقال:
أَربعوا بفتح همزة الألف
ومعنى أربعوا بالفتح بأن امشوا على أربع ولكن بكسر همزة الألف
بمعنى إمشوا أربعا بالعدد
فقال له كفى أنت تمشي على أربع كفاك جهلا يامن تمشي على أربع
إذهب وتعلم اللغة وبعد ذلك اشتغل بالحديث ] ([197])
.
فمن
نكبات هذا الزمان أن يقول الشيخ الألباني وأمثاله عن سيد قطب : إنه ليس بعالم
!
جدّ
واجتهاد الشهيد سيد قطب
وإذا
أضفنا جدّ واجتهاد الشهيد رحمه الله ، فيما يخوض فيه ، علمنا سعة علمه .
فقد
كان في بداية حياته الأدبية ، قد خطّ لنفسه خطته في النقد ، فقال :
[ وكان من أوَّلِ هذه المباديء ، أن أنفيَ
الأشخاص من دائرة تفكيري ، وأن ألتفتَ إلى ما بين يديَّ من كتاب .
كما
كان منها ألّا أكتب كلمةّ واحدة ، قبل أن أدرس ما بين يديَّ ، دراسة كاملة مستوفاة
، إذ كنتُ أعلم ماذا يصنعُ نُقّاد الكتب ، من قراءةِ العنوان والمقدمة والفهرست ،
ثم إصدار الأحكام . . .
ومنذ
عاميْن لديّ كتابٌ عن (( المدارس الأدبية المعاصرة )) وما يؤخرني
عن كتابته ، إلا استيفاءُ بعضِ الدراسات الشخصية لأبطاله ، وقد استطعتُ أن أجمعَ –
عن كثب – معظم ما أريد جمعه عن (( العقاد
وتوفيق الحكيم )) ، وشيئاً
مما أريد جمعَه عن (( طه حسين
والمازني )) ، وقليلاً
جداً عن (( المنفلوطي
والزيات )) ، ومتفرقات
عن (( تيمور وحقي
ولاشين )) ، وآخرين .
وبعدما
أستوفي هذه الدراسات – لا قبله – سآخذ في الحديث عن (( المدارس
الأدبية المعاصرة )) ، ولو صرفتُ عامين آخرين ([198])
] ([199]) .
وقال ، رحمه الله تعالى :
[ لقد قرأت القرآن وأنا طفل صغير ، لا ترقى مداركي إلى
آفاق معانيه ، ولا يحيط فهمي بجليل أغراضه . . .
تلك أيام . . . ولقد مضت بذكرياتها الحلوة ، وبخيالاتها
الساذجة .
ثم تلتها أيام ، ودخلْتُ المعاهد العلمية ؛ فقرأت تفسير
القرآن في كتب التفسير ، وسمعت تفسيره من الأساتذة . . . ] ([200])
.
وقال رحمه الله تعالى ، بعد أن كتب أن : الإسلام لا
يتسامح في أن يتلقى المسلم أصول عقيدته . ولا مقومات تصوره . ولا تفسير قرآنه
وحديثه وسيرة نبيّه . ولا منهج سياسته . ولا موجبات فنه وأدبه وتعبيره . . . إلخ .
من مصادر غير إسلامية . ولا أن يتلقى عن غير مسلم يثق في دينه وتقواه في شيء من
هذا كله :
[ إن الذي يكتب
هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة .
كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول
المعرفة الإنسانية . . ما هو من تخصصه وما هو من هواياته . . ثم عاد إلى مصادر
عقيدته وتصوره . فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلاً ضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم –
وما كان يمكن أن يكون إلا كذلك – وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره
. فإنما عرف الجاهلية على حقيقتها ، وعلى انحرافها ، وعلى ضآلتها ، وعلى قزامتها .
. . وعلى جعجعتها وانتفاشها ، وعلى غرورها وادعائها كذلك ([201])
! ! ! وعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي !
! !
ومع ذلك فليس الذي سبق في هذه الفقرة رأياً لي أبديه . .
إن الأمر أكبر من أن يفتى فيه بالرأي . . إنه أثقل في ميزان الله من أن يعتمد
المسلم فيه على رأيه ، إنما هو قول الله – سبحانه – وقول نبيّه صلى الله عليه وسلم
. . نحكِّمه في هذا الشأن ، ونرجع فيه إلى الله والرسول ، كما يرجع الذين آمنوا
إلى الله والرسول فيما يختلفون فيه ] ([202])
.
فما ظنّك بإمام من أئمة الأدب العربي ، توجّه إلى
الإسلام بكل كيانه ، وقرأ بجدّ واجتهاد ، ففسّر القرآن من أوّله إلى آخره ؛ من
بداية سورة الفاتحة ، إلى نهاية سورة الناس .
فيا هل ترى كم تفسير قرأ بتدبر عميق ، وتأمّل دقيق –
كعادته في القراءة – قبل أن ينشر كتابه (( في ظلال القرآن )) ؟
وكيف كان ، رحمه الله تعالى ، يتدبّر ويتأمّل في الآية
الكريمة ، قبل أن يكتب تفسيرها ؟
وما كان رحمه الله ، يكتب شيئاً لا يتيقّن منه ، بل يتوقّف
إلى أن يهديه الله تعالى ، ويفتح عليه فيكتب فيه ، شأنه في ذلك شأن الحافظ ابن
تيمية رحمه الله ، فإنهما يستمدّان من مشكاةٍ واحدة .
فقد قال الحافظ ابن تيمية ، رحمه الله تعالى :
[ إِنَّه ليقف
خاطري فِي الْمَسْأَلَة وَالشَّيْء أَو الْحَالة الَّتِي تشكل علي فأستغفر الله
تَعَالَى ألف مرّة أوأكثر أَو أقل حَتَّى ينشرح الصَّدْر وينحل إِشْكَال مَا أشكل
قَالَ وأكون إذ ذَاك فِي السُّوق أَو الْمَسْجِد أَو الدَّرْب أَو الْمدرسَة لَا
يَمْنعنِي ذَلِك من الذّكر وَالِاسْتِغْفَار إِلَى أَن أنال مطلوبي ] ([203])
.
وكذلك كان الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى .
فإنه [ عليه
رحمة الله كان إذا خانه الفهم والفكر في الوصول إلى حقيقة تعلق الآية أو البنية أو
العنصر بموضوع السورة توقف عنده مليا سائلا من المولى عزّ وجلّ أن يهديه للتوصل إلى
معناه المتوافق والسياق فإن لم يهتدي إليه توقف وطلب مساعدة القراء على أن يعود إلى
ذات الموضع في طبعة أخرى إن وصل فيه إلى شيء فإن بقي عاجزا على أن يقدم تفسيرا مقنعا
أعلن عجزه وامتنع عن الإدلاء فيه بشيء
فانظر مثلا إلى تفسير قوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
......ما لم تكونوا تعلمون [البقرة 238 ـ 239] يقول في طبعة
الظلال الأولى :
" أشهد أني وقفت أمام هذه النقلة طويلا ، لا يفتح عليَّ في سرّها ، ولا
أريد أنا أن أتمحل لها ، ولا أقنَع كل القناعة بما جاء في بعض التفاسير عنها :
من أنّ إدخال الحديث عن الصلاة في جو الحديث عن الأسرة إشارة إلى الاهتمام بأمرها
، والتذكير بها حتى لا تُنسى . . .
لقد بقيتُ ستة أشهر أو تزيد لا أجاوز هذه النقلة ، ولا أمضي وراءها ، لأنّ سرها
لم يكشف لي كشفا يستريح ضميري إليه ، وأشهد أنه لم يسترح بعد لما اهتديت حتى اللحظة
إليه . . . . . "
ثم بعد إيراده للتفسير الذي اهتدى إليه رغم عدم قناعته به يقول :
" . . . . ولكنني ـ كما قلت مخلصا ـ لا أستريح الراحة الكافية لما اهتديت
إليه . فإذا هُديتُ إلى شيء آخر ، فسأبينه في الطبعة التالية ، وإذا هدى الله أحدا
من القراء فليتفضل فيبلغني مشكورا بما هداه الله . . . . " ([204])
وفي الطبعة التالية بعد طول تأمل وإمعان نظر دام السنين الطوال عاود الوقوف
عند هذه الآية فذكر مراسلات القراء واستجابتهم لدعوته ثم بيّن أنه لم يطمئن لشيء ممّا
ذكروه ولا لشيء ممّا قرأه
حتى فتح الله عليه بما كتبه في الطبعة المنقحة من الظلال حين لاحظ أنّ مراد
السياق هو تبيين مجالات العبادة وأن لافرق بين الصلاة وبين أحكام الأسرة [ ولا غيرها
من أحكام السياسة والاقتصاد ] من حيث أنها كلها عبادة لله يجب فيها الإخلاص كما يجب
فيها الإتباع والله أعلم
يقول عليه رحمة الله : " . . . وتندمج عبادة الصلاة في عبادات الحياة ،
الاندماج الذي ينبثق من طبيعة الإسلام ، ومن غاية الوجود الإنساني في التصور الإسلامي
.
ويبدو السياق موحيا هذا الإيحاء اللطيف ... إنّ هذه عبادات .. وطاعة لله فيها
من جنس طاعته في الصلاة ..والحياة وِحْدة .. والطاعات فيها جملة ... والأمر كله لله
... وهو منهج الله للحياة . . . " ([205])
.
قال رحمه الله
تعالى ، في تعليقه على تفسيره ذاك :
[ كنت قد عييت
فترة عن إدراك سر هذا السياق القرآني العجيب . وقلت في الطبعة الأولى لهذا الجزء
وفي الطبعة المكملة للأولى :
أشهد أنني وقفت
أمام هذه النقلة طويلاً لا يفتح علي في سرها ، ولا أريد أنا أن أتمحل لها ، ولا
أقنع كل القناعة بما جاء في بعض التفاسير عنها ([206])
. من أن إدخال الحديث عن الصلاة في جو الحديث عن الأسرة ، إشارة إلى الاهتمام
بأمرها ، والتذكير بها حتى لا تنسى . . إلخ ص 68 وص 69 من تلك الطبعة .
وقلت : (( ولكنني – كمـا قلت
مخلصاً – لا أستريح الراحة الكـافية لمـا اهتديت إليه . فإذا هديت إلى شيء آخر
فسأبينه في الطبعة التالية . وإذا هدى الله أحداً من القراء فليتفضل فيبلغني
مشكوراً بما هداه الله )) . .
فالآن أطمئن إلى
هذا الفتح وأجد فيه الطريق . . والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن
هدانا الله . . ] ([207])
.
[ مثال آخر وشاهد آخر يبدو فيه توقف سيد أقطع وورعه أبلغ وذلك عند تعرضه لتفسير
قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا
وعملوا الصالحات . . . . . . . والله يحب المحسنين [المائدة
93]
يقول الأستاذ عبد الفتاح الخالدي :
" والذي استوقفه في الآية هو تركيبها ودلالته ، حيث كررت التقوى مع الإيمان
والعمل الصالح مرة ومع الإيمان مرة ومع الإحسان مرة .
إطّلع على تعليلات المفسرين ([208])
، فلم يجد فيها ما تستريح إليه نفسه . . وأثبت في الطبعة الأولى من الظلال تعليلا لم
يرتح إليه ، وتراجع عنه في الطبعة المنقحة
وأحسن تعليل وجده عند إمام المفسرين أبي جعفر ابن
جرير الطبري ، ولكنه ليس مقنعا ولا شافيا ، ولم يرتح له الارتياح الكامل . . .
وبعد تفكير طويل استمر ما يقارب عشر سنوات أعلن عجزه عن تفسير مقنع شافٍ مريح
، لأنّ الله لم يفتح عليه في ذلك . . فقال :
" وأنا اللحظة لا أجد في هذا القول ( قول الطبعة الأولى ) ما يرح أيضا
... ولكنه لم يفتح عليّ بشيء آخر . . والله المستعان . . " ] ([209])
.
سيد
قطب يتفرغ لما يكتب
[ سيد قطب من النوع الذي يتفرغ لما يكتب ، ويستعد
استعداداً خاصاً له ويستقصي أطراف موضوعه وآفاقه ، ويجمع له مواهبه وقدراته
وثقافاته ، ويُعمل فيه عقله وفكره وشعوره وكيانه كله ،
ومن
ثم يكون عمله ناتجاً عن معاناة شعورية بالغة ، حيث تنضجه القيم الشعورية ثم تدفعه
إلى القيم التعبيرية لتظهره في صورة بليغة موحية !
وقد
بين في كتابه (( النقد
الأدبي أصوله ومناهجه )) – أثناء حديثه عن (( القيم
الشعورية والقيم التعبيرية )) في العمل
الأدبي – المراحل التي يمر فيها العمل الأدبي منذ كان تجربة شعورية ذاتية إلى أن
صار عملاً أدبياً ([210])
. .
حيث
يقرر أن (( العمل
الأدبي وحدة مؤلفة من الشعور والتعبير ، وهي وحدة ذات مرحلتين متعابقتين في الوجود
بالقياس الشعوري ، ولكنهما بالقياس الأدبي متحدثان في ظرف الوجود . . )) ([211])
ولذلك
فإن (( الانفعال
بالتجربة الشعورية يسبق التعبير عنها . . وفي (( بعض
الحالات يكون هذا الانفعال من التوهج والحرارة والإشراق . بحيث يغمر إحساس الأديب
ويجعله في شبه نشوة ، أو في نصف غيبوبة ! )) .
(( وقد يُتم
الشاعر عمله في هذه الحالات الفذة – ثم يراجعه ، فيعجب لنفسه كيف واتته القدرة على
صوغ هذه العبارات ! وقد يقف أمام بعضها معجباً متعجباً كما لو كان يشهدها أول مرة
. لأنه لم يتنبه لها كل التنبه في أول مرة . . )) .
ولا
ينفرد الشعر المنظوم بهذه الحالة وحده ، فقد توجد في القصة ، بل في البحث حين
يرتفع إلى المستوى الشعري ([212])
. .
كذلك
كان سيد قطب علمياً ومنهجياً في بحوثه وأعماله ، النقدية والأدبية والإسلامية ([213])
. فجاءت أبحاثه متصفة بالعلمية والمنهجية والصدق والشمول .
وقد
سلك نفس الطريق وهو يكتب (( الظلال )) فجاء عملاً
متصفاً بتلك الصفات . عاشه بشعوره وإحسـاسـه قبل أن يصوغه بكلامـه ، بل قد مرت
عليه – في بعض الأحيان – حالات من الانفعال والتوهج والحرارة والإشراق ، والشاعرية
والحيوية لا توصف ، وكأنه كان (( في شبه
نشوة ، أو في نصف غيبوبة )) على حد
قوله .
وقد
أشار إلى تلك الحالات بقوله : وقد عانيت حالات من هذا النوع كثيرة ، وأنا أكتب (( التصوير
الفني في القرآن )) وكذلك وأنا أكتب (( في ظلال
القرآن )) في بعض
الأحيان . . . ([214]) .
وكأنه
كان يعود إلى عمله (( فيعجب لنفسه كيف واتته القدرة على صوغ هذه
العبارات ، وقد يقف أمام بعضها معجباً متعجباً كما لو كان يشهدها أول مرة . لأنه
لم يتنبه لها كالتنبه في أول مرة . . )) على حسب
قوله أيضاً .
طريقة
سيد قطب في تفسير القرآن
لسيد
قطب طريقة فريدة في تفسير القرآن ، لم يسلكها مفسر قبله ، ناتجة عن منهجه الذي
التزمه في الظلال ، والذي من أبرز قواعده – مما يخص هذا الفصل – (( دخول عالم
القرآن دون مقررات سابقة )) و (( المحافظة
على جو النص القرآني )) و
(( استبعاد
المطولات التي تحجب نور القرآن )) و (( الوحدة
الموضوعية للقرآن )) .
هذه
الطريقة مرحلية ، تقوم على مراحل متناسقة متتابعة . وقد أشار الدكتور عدنان زرزور
إلى مرحلتين منها ، وأشار عباس خضر إلى مرحلة أخرى . وسوف نوضح هذه المراحل –
وغيرها – في هذا المبحث إن شاء الله .
المرحلة
الأولى : وهي
استعداده الخاص للتفسير ، والتلقي عن القرآن مقرراته وحقائقه وإيحاءاته ، وهو
استعداد مادي ومعنوي ، بدني وروحي ، حيث كان قبل الشروع في التفسير يتوضأ ثم يقوم
للصلاة ، ثم يقرأ في صلاته الآيات التي ينوي تفسيرها .
المرحلة
الثانية : هي
قراءته السورة التي ينوي تفسيرها عدة مرات حتى يهتدي إلى موضوعها الرئيسي .
المرحلة
الثالثة :
العكوف على تفسير السورة أو المقطع بأقل قدر ممكن من الجلسات .
المرحلة
الرابعة :
النظر في المصادر من كتب التفسير وغيرها . للاستدراك أو التوضيح أو الاستشهاد أو
الترجيح أو التوثيق أو غير ذلك .
يقول
عباس خضر – في مجلة الثقافة – مبيناً المرحلة الأولى : (( وقد أكبرت
سيد قطب أو أكبرت ذكراه كل الإكبار لما سمعت أيضاً من صديق قال : إن سيد قطب حدثه
بأنه قبل أن يكتب شيئاً في ظلال القرآن ، يقف للصلاة بين يدي الله ، ويتلو ما سيتعرض
للكتابة عنه من آيات الكتاب ، يتلوها بتذوق وإمعان ، ويتشبع بما توحي إليه من
المعاني والخوالج . ثم يكتب . . )) ([215])
.
وهذا
الفعل من سيد يحمل عدة دلالات على صلته بالله عز جل ، ونظرته إلى كتاب الله الكريم
، وأدبه مع الله وكتابه ، واستحضاره الجو الروحي الإيماني ، واستعداده بكل كيانه
لتلقي إيحاءات القرآن . وإضفاء البعد الإيماني والشفافية الوجدانية على كلامه في
التفسير . . .
وهذا
يذكرنا بصنيع أسلافنا العلماء في دراساتهم للقرآن الكريم وأحاديث الرسول r
- كما فعل الإمام البخاري رحمه الله أثناء جمعه الحديث النبوي الصحيح .
أما
المرحلة الثانية فيقول عنها الدكتور عدنان زرزور : (( قراءته
للسورة القرآنية كاملة عدة مرات ، وربما عاود قراءتها والنظر فيها يوماً بعد يوم
حتى يهتدي – رحمه الله – إلى موضوعها الرئيسي ومحورها العام الذي تدور حوله سائر
موضوعاتها الفرعية الأخرى . . )) ([216])
.
كان
يكيِّف نفسه وما حوله ، ليعيش في جو القرآن ، ويستعلي على مصاعبه وآلامه ، ويأنس
بالقرآن ، ويُخضع الظواهر القاسية في الزنزانة والمستشفى ليتلقى من القرآن .
ففي
الزنزانة كان يصاحب كتاب الله الكريم ، ويعيش معه ، ويقرؤه باستمرار ، بهدف الوقوف
على الوحدة الموضوعية لكل سورة من سوره .
وقد
أخبرنا شريكه في الزنزانة – مصطفى العالم – بطرف من ذلك ، حيث كان سيد (( يجوب
الزنزانة كل يوم يذرعها قارئاً لسورة من كتاب الله بصوت عذب رخيم ، ومعه قلمه
يدوِّن كل ما يخطر له من خواطر وأفكار على هامش المصحف ، وهو فرح مسرور بما يجول
في خاطره من معانٍ جديدة . . )) ([217])
.
أما
المرحلة الثالثة وهي الخاصة بالصياغة ، التي تلت مرحلة الفهم والتلقي ، والانفعال
والتوهج ، وهي مهمة (( القيم الشعورية )) . فالآن
تأتي مهمة (( القيم
التعبيرية )) لتعرض على
الناس ما استوعبه في المرحلة السابقة وما تلقاه وفهمه ، في صورة موحية مؤثرة ، حتى
لا يبقى ما أحسّه خاصاً به ، وحتى يقدم للقراء أفكاره وآراءه وخواطره .
ويقول
الدكتور زرزور عن هذه المرحلة : (( حتى إذا
اهتدى إلى ذلك ( موضوع السورة الرئيسي ومحورها العام ) وفتح الله عليه به ، عكف
على تفسيرها بأقل قدر ممكن من الجلسات ، ولو أمكنه أن يفعل ذلك في مقام واحد لفعل
. . ويتبع في تفسيره – بطبيعة الحال – ما تهديه إليه ثقافته وفهمه وشفافية روحه
وحسّه اللطيف المرهف . . إلى آخر العناصر الأخرى . . . )) ([218])
.
وتأتي
المرحلة الرابعة – والأخيرة – للاستدراك أو التوثيق ، أو الترجيح أو الاستشهاد . .
. والتي يقول عنها الدكتور زرزور ([219])
: (( هي النظر
في كتب التفسير ، يستدرك بها سبباً من أسباب النزول ، أو يوضح من خلالها مسألة من
مسائل الفقه ، أو يستشهد منها بحديث أو رواية صحيحة وردت في تفسير بعض الآيات –
وربما مال إلى ترجيح رواية على أخرى مساوية أو مقاربة لها في درجة الصحة ، من خلال
آفاق النص ونظمه ، أو لارتباطه الأوثق ببعض مواقف السيرة وحياة النبيّ r
. . )) ([220])
.
ينتهي
من التفسير بعد المراحل الأربعة
[
وبانتهـاء هذه المراحـل الأربعـة يكون سيد قد انتهى من تفسير السورة أو المقطع ،
ونكون قد صحبناه منذ أن كان خاطرة في شعوره إلى أن صيغ بأسلوبه .
وهذه
المراحل تطلعنا على حالة سيد الإيمانية قبل الشروع بالتفسير ، وعلى التجائه إلى
الله يطلب منه العون والتوفيق ، ثم دخوله عالم القرآن دون مقررات سابقة ، ودون
التأثر المسبق بأي لون من ألوان التفسير ، وحرصه على بيان الوحدة الموضوعية للسورة
قبل أن يقدم على تفسيرها . وعكوفه على كتابة المعاني والخواطر والإيحاءات وهو يعيش
في ظلال الآيات ، في حالة انفعال وتوهج وإشراق . أما رجوعه إلى المصادر في المرحلة
الأخيرة فلحرصه على عدم الخروج على الروايات الصحيحة في التفسير بالمأثور ([221])
.
[ وهو
في عودته – في المرحلة الرابعة – إلى المراجع للاستدراك أو التوثيق . لم يغير أو
يعدل كثيراً من كلامه الذي كتبه قبل النظر فيها ، مما يوحي بأصالة وصحة وموضوعية
معظم أفكاره ، لاستمدادها من النص القرآني مباشرة .
ولذلك
يقول الدكتور زرزور : (( وأذكر – والله أعلم – أن هذه الإضافات
والتوضيحات قلما بنى عليها تعديله أو إلغاءه لتفسير بعض الآيات ، على النحو الذي
سبق له تدوينه وكتابته . . )) ([222])
.
ولئن
كان عباس خضر قد أخبرنا بالمصدر الذي أخذ منه روايته ، وهو صديق لعباس وسيد – لم
يشأ أن يذكر اسمه – حدثه سيد شخصياً بذلك ، فإن الدكتور عدنان زرزور لم يبخل علينا
بتعيين الشخص الموثوق الذي أخبره بذلك يقول : ( وقد سمعت هاتين النقطتين أو
المرحلتين من المفكر والداعية الإسلامي الكبير الأستاذ محمد ، الشهيد الحي ، شقيق
الشهيد الذي ذهب إلى لقاء ربه . . . ) ([223])
.
وبهذه
المراحل يتجلى لنا أن القرآن الكريم هو المرجع الرئيسي والمصدر المباشر الذي تلقى
منه سيد قطب أفكاره وآراءه ، أما المصادر والموارد فهي ثانوية وتكميلية للتوثيق
والاستدلال .
وبهذا
يظهر لنا أن لسيد طريقة فريدة في التفسير يختلف فيها عن غيره من المفسرين الذين
يجعلون المراجع مصدراً رئيسياً ، يقبلون عليها أولاً ثم يدخلون عالم القرآن ، وهم
خاضعون لفهم أصحابها ، متأثرون به ] ([224])
.
تأثر
كيانه كله بالقرآن
ولقد
عاش سيد قطب رحمه الله تعالى – في ظلال القرآن – ومعاني القرآن متغلغلة في كيـانه
كله ، مخـالطة ببشاشة قلبه ، تجري في روحه ، قبل أن تكون في عقله وفكره وحده .
عاش
رحمه الله ، والقرآن يغمر روحه وكيانه ، فكتب محاولاً ترجمة ذلك الإحساس والشعور
في ظلال القرآن .
عاش
في الجو الذي نزل فيه القرآن !
وتصور
سور القرآن أصدقاء له ، يتمتع بمصاحبته لها ، ويعتبر قراءته للسور رحلة ممتعة ،
يجد القلب عندها مختلف المؤثرات !
قال
رحمه الله :
[ إن
الشأن في سور القرآن - من هذه الوجهة - كالشأن في نماذج البشر التي جعلها اللّه متميزة
. .
كلهم إنسان ، وكلهم له خصائص الإنسانية ، وكلهم له التكوين
العضوي والوظيفي الإنساني . .
ولكنهم بعد ذلك نماذج منوعة أشد التنويع . نماذج فيها الأشباه
القريبة الملامح ، وفيها الأغيار التي لا تجمعها إلا الخصائص الإنسانية العامة !
هكذا عدت أتصور سور القرآن . وهكذا عدت أحسها ، وهكذا عدت
أتعامل معها. بعد طول الصحبة ، وطول الألفة ، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته
، وملامحه وسماته !
وأنا أجد في سور القرآن - تبعا لهذا - وفرة بسبب تنوع النماذج
، وأنسا بسبب التعامل الشخصي الوثيق ، ومتاعا بسبب اختلاف الملامح والطباع ، والاتجاهات
والمطالع !
إنها أصدقاء . . كلها صديق . . وكلها أليف . . وكلها حبيب
. . وكلها ممتع . . وكلها يجد القلب عنده ألوانا من الاهتمامات طريفة ، وألوانا من
المتاع جديدة ، وألوانا من الإيقاعات ، وألوانا من المؤثرات ، تجعل لها مذاقا خاصا
، وجوا متفردا .
ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة . . رحلة في عوالم
ومشاهد ، ورؤى وحقائق ، وتقريرات وموحيات ، وغوص في أعماق النفوس ، واستجلاء لمشاهد
الوجود . . ولكنها كذلك رحلة متميزة المعالم في كل سورة ومع كل سورة ] ([225])
.
وقد
يبوح ببعض تلك الأحاسيس والشعور التي تغمره ، في ثنايا تفسيره في الظلال .
فمنها
– على سبيل المثال – قال رحمه الله ، بعد أن فسّر قول الله تعالى :
( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ
فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ([226])
، أروع تفسير ، قال :
[ ويبقـى أن أتوجه
أنـا بالحمد لله علـى رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية . .
لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة . واجهتني
في لحظة جفاف روحي ، وشقاء نفسي ، وضيق بضائقة ، وعسر من مشقة . . واجهتني في ذات اللحظة
.
ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها . وأن تسكب حقيقتها في روحي ؛ كأنما
هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني . حقيقة أذوقها لا معنى أدركه .
فكانت رحمة بذاتها . تقدم نفسها لي تفسيراً واقعياً لحقيقة الآية التي تفتحت
لي تفتحها هذا .
وقد قرأتها من قبل كثيراً . ومررت بها من قبل كثيراً . ولكنها اللحظة تسكب رحيقها
وتحقق معناها ، وتنزل بحقيقتها المجردة ، وتقول : هأنذا . . نموذجاً من رحمة الله حين
يفتحها . فانظر كيف تكون !
إنه لم يتغير شيء مما حولي . ولكن لقد تغير كل شيء في حسي !
إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود ، كالحقيقة
الكبرى التي تتضمنها هذه الآية . نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها ؛ ولكنه قلما يقدر على
تصويرها ، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة .
وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها . وتم هذا
كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي .
وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن
كل ضيق . وأنا في مكاني !
إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته ] ([227])
.
وقال رحمه الله
تعالى ، من ضمن ما قال في تفسير الآية الكريمة :
( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ
مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ
الشَّيْطانِ ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ) ([228])
:
[ أما قصة النعاس
الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة ، لا تكون إلا بأمر اللّه
وقدره وتدبيره . .
لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا
له عدته . . فإذا النعاس يغشاهم ، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم والطمأنينة تفيض
على قلوبهم ( و هكذا كان يوم أحد . . تكرر الفزع ، وتكرر النعاس ، وتكررت الطمأنينة
) . .
ولقد كنت أمر على هذه الآيات ، وأقرأ أخبار هذا النعاس ، فأدركه كحادث وقع ،
يعلم اللّه سره ، ويحكي لنا خبره . .
ثم إذا بي أقع في شدة ، وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم ، والتوجس القلق ،
في ساعة غروب . . ثم تدركني سنة من النوم لا تتعدى بضع دقائق . . وأصحو إنسانا جديدا
غير الذي كان . . ساكن النفس . مطمئن القلب . مستغرقا في الطمأنينة الواثقة العميقة
. .
كيف تم هذا ؟ كيف وقع هذا التحول المفاجئ ؟ لست أدري !
ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأحد . أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي .
وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور .
وأرى فيها يد اللّه وهي تعمل عملها الخفي المباشر . . ويطمئن قلبي . .
لقد كانت هذه الغشية ، وهذه الطمأنينة ، مددا من أمداد اللّه للعصبة المسلمة
يوم بدر :
« إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ » . .
ولفظ « يغشيكم » ولفظ « النعاس » ولفظ « أمنة » . . كلها تشترك في إلقاء ظل
لطيف شفيف وترسم الظل العام للمشهد ، وتصور حال المؤمنين يومذاك ، وتجلي قيمة هذه اللحظة
النفسية الفاصلة بين حال للمسلمين وحال ] ([229])
.
وجاء من ضمن ما
قال رحمه الله ، في تفسير الآية الكريمة :
( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) ([230])
.
قال :
[ تعقيب تقريري وتوجيهي من تعقيبات القرآن على القصص . يكشف من جانب عن عظمة فضل
اللّه ونعمته حتى ليقل القادرون على شكرها .
ويكشف من جـانب آخر عـن تقصير البشر فـي شكر نعمة اللّه وفضله . وهـم مهما بالغوا
في الشكر قاصرون عن الوفاء . فكيف إذا قصروا وغفلوا عن الشكر من الأساس ؟ !
وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء اللّه وهي غير
محدودة ؟ . . وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها . .
وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه ، وعن أيمانه وعن شمائله ، وتكمن
فيه هو ذاته وتفيض منه . وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام !
كنا نجلس جماعة نتحدث وتتجاوب أفكارنا وتتجاذب ، وتنطلق ألسنتنا بكل ما يخطر
لنا على بال . ذلك حينما جاء قطنا الصغير « سوسو » يدور هنـا وهناك من حولنا ، يبحث
عن شيء وكأنما يريد أن يطلب إلينا شيئا ، ولكنه لا يملك أن يقول ولا نملك نحن أن ندرك
.
حتى ألهمنا اللّه أنه يطلب الماء . وكان هذا . وكان في شدة العطش . وهو لا يملك
أن يقول ولا أن يشير . .
وأدركنا في هذه اللحظة شيئا من نعمة اللّه علينا بالنطق واللسان ، والإدراك
والتدبير . وفاضت نفوسنا بالشكر لحظة . . وأين الشكر من ذلك الفيض الجزيل .
وكنا فترة طويلة محرومين من رؤية الشمس . وكان شعاع منها لا يتجاوز حجمه حجم
القرش ينفذ إلينا أحيانا . وإن أحدنا ليقف أمام هذا الشعاع يمرره على وجهه ويديه وصدره
وظهره وبطنه وقدميه ما استطاع .
ثم يخلي مكانه لأخيه ينال من هذه النعمة ما نال !
ولست أنسى أول يوم بعد ذلك وجدنا فيه الشمس . لست أنسى الفرحة الغامرة والنشوة
الظـاهرة علـى وجه أحدنا ، وفي جوارحه كلها ، وهو يقول في نغمة عميقة مديدة . .
اللّه ! هذه هي الشمس . شمس ربنا وما تزال تطلع . . الحمد للّه !
فكم نبعثر في كل يوم من هذه الأشعة المحيية ، ونحن نستحم في الضوء والدفء. ونسبح
ونغرق في نعمة اللّه ؟
وكم نشكر هذا الفيض الغامر المتاح المباح من غير ثمن ولا كد ولا معاناة ؟ !
وحين نمضي نستعرض آلاء اللّه على هذا النحو فإننا ننفق العمر كله ، ونبذل الجهد كله
، ولانبلغ من هذا شيئا .
فنكتفي إذن بهذه الإشارة الموحية ، على طريقة القرآن في الإشارة والإيماء ،
ليتدبرها كل قلب ، ويمضي على إثرها ، قدر ما يوفقه اللّه لنعمة الشكر ، وهي إحدى آلاء
اللّه ، يوفق إليها من يستحقها بالتوجه والتجرد والإخلاص .. ] ([231])
.
مقارنة
وآخر مثال نأتي به
، هو تفسير الشهيد سيد قطب رحمه الله ، للآيات المباركة :
( هَـذَا نَذِيـرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى .
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ . أَفَمِنْ
هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنْتُمْ
سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) ([232])
.
ونقارن تفسيره ، مع تفسير الإمام ابن جرير الطبري ، وتفسير ابن
كثير رحمهم الله تعالى ، لنفس الآيات .
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله :
[ وقوله : ( هَذَا
نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى )
اختلف
أهل التأويل في معنى قوله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم ( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ
النُّذُرِ الأولَى ) ووصفه إياه بأنه من النذر الأولى وهو آخرهم ، فقال بعضهم :
معنى ذلك : أنه نذير لقومه ، وكانت النذر الذين قبله نُذرا لقومهم ، كما يقال :
هذا واحد من بني آدم ، وواحد من الناس .
* ذكر
من قال ذلك :
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله (هَذَا
نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى )
قال :
أنذر محمد صلى الله عليه وسلم كما أنذرت الرسل من قبله .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ
النُّذُرِ الأولَى إنما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بما بعث الرسل قبله .
حدثنا
أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي جعفر (هَذَا
نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال
آخرون : معنى ذلك غير هذا كله ، وقالوا : معناه هذا الذي أنذرتكم به أيها القوم من
الوقائع التي ذكرت لكم أني أوقعتها بالأمم قبلكم من النذر التي أنذرتها الأمم
قبلكم في صحف إبراهيم وموسى .
* ذكر
من قال ذلك :
حدثنا
ابن حُميد . قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي مالك (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) قال : مما
أنذروا به قومهم في صحف إبراهيم وموسى .
وهذا
الذي ذكرت ، عن أبي مالك أشبه بتأويل الآية ، وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر ذلك في
سياق الآيات التي أخبر عنها أنها في صحف إبراهيم وموسى نذير من النُّذر الأولى
التي جاءت الأمم قبلكم كما جاءتكم ، فقوله ( هَذَا ) بأن تكون إشارة إلى ما تقدمها
من الكلام أولى وأشبه منه بغير ذلك .
وقوله
( أَزِفَتِ الآزِفَةُ ) يقول : دنت الدانية : وإنما يعني : دنت القيامة القريبة
منكم أيها الناس يقال منه : أزف رَحِيل فلان . إذا دنا وقَرُب ، كما قال نابغة بنى
ذُبيان :
أَزِفَ
الترَحُّلُ غَيرَ أنَّ ركابنا . . . لَمَّا
تَزَلْ بِرَحالِنا وكأنْ قَدٍ
وكما
قال كعب بن زُهَير :
بانَ
الشَّبابُ وأمْسَى الشَّيبُ قَدْ أزِفا . . . وَلا أرَى
لشَبابٍ ذَاهِبٍ خَلَفَا
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر
من قال ذلك :
حدثني
عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس
(أَزِفَتِ الآزِفَةُ ) من أسماء يوم القيامة ، عظَّمه الله ، وحذره عباده .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قالا ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله (أَزِفَتِ
الآزِفَةُ ) قال : اقتربت الساعة .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَزِفَتِ
الآزِفَةُ ) قال : الساعة . ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ) .
وقوله
: ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ) يقول تعالى ذكره : ليس للآزفة
التي قد أزفت ، وهي الساعة التي قد دنت من دون الله كاشف ، يقول : ليس تنكشف فتقوم
إلا بإقامة الله إياها ، وكشفها دون من سواه من خلقه ، لأنه لم يطلع عليها مَلَكا
مقرّبا ، ولا نبيا مرسلا .
وقيل :
كاشفة ، فأنثت ، وهي بمعنى الانكشاف ؛ كما قيل : ( فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ
بَاقِيَةٍ) بمعنى : فهل ترى لهم من بقاء ؛ وكما قيل : العاقبة وماله من ناهية ،
وكما قيل (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) بمعنى تكذيب ، ( وَلا تَزَالُ
تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ ) بمعنى خيانة .
القول
في تأويل قوله تعالى : { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ
وَلا تَبْكُونَ . وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا }
يقول
تعالى ذكره لمشركي قريش : أفمن هذا القرآن أيها الناس تعجبون ، أنْ نزلَ على محمد
صلى الله عليه وسلم ، وتضحكون منه استهزاءً به ، ولا تبكون مما فيه من الوعيد لأهل
معاصي الله ، وأنتم من أهل معاصيه ( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) يقول : وأنتم لاهون
عما فيه من العِبر والذكر، معرضون عن آياته ؛ يقال للرجل : دع عنا سُمودَك ، يراد
به: دع عنا لهوك ، يقال منه : سَمَدَ فلان يَسْمُد سُمُودا .
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنه ، فقال بعضهم : غافلون . وقال بعضهم : مغنون . وقال بعضهم
: مُبَرْطمون .
* ذكر
من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن
ابن عباس ، قوله ( سَامِدُونَ ) قال : هو الغناء ، كانوا إذا سمعوا القرآن
تَغَنَّوا ولعبوا ، وهي لغة أهل اليمن ، قال اليماني : اسْمُد .
حدثني
عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس، قوله : ( سَامِدُونَ
) يقول : لاهون .
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن
عباس ، قوله ( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) يقول : لاهون .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ،
عن ابن عباس ، قال : هي يمانية اسمد تَغَنَّ لنا .
حدثنا
أبو كُرَيب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ،
قال : هو الغناء ، وهي يمانية ، يقولون : اسمد لنا : تغَنَّ لنا .
قال :
ثنا عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن حكيم بن الديلم ، عن الضحاك ، عن ابن عباس
( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : كانوا يمرّون على النبي صلى الله عليه وسلم
شامخين ، ألم تروا إلى الفحل في الإبل عَطِنا شامخا .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبى عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : (
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : غافلون .
حدثنا
أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وَأَنْتُمْ
سَامِدُونَ ) قال : كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم غضابا مُبَرْطِمين
. وقال عكرِمة : هو
الغناء بالحِميرية .
قال :
ثنا الأشجعيّ ووكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قال : هي
الْبَرْطَمة .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ،
قوله ( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : البرطمة .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( وَأَنْتُمْ
سَامِدُونَ ) قال : البرطمة .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
عكرِمة ، عن ابن عباس قال : السامدون : المغَنُّون بالحميرية .
حدثني
الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال :
كان عكرِمة يقول : السامدون يغنون بالحميرية ، ليس فيه ابن عباس .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده قوله ( سَامِدُونَ ) : أي
غافلون .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله (سَامِدُونَ )
قال : غافلون .
حُدثت
عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله ( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) السُّمود : اللهو واللعب .
حدثنا
حميد بن مسعدة ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سفيان بن سعيد ، عن فطر ، عن
أبي خالد الوالبيّ ، عن عليّ رضي الله عنه قال : رآهم قياما ينتظرون الإمام ، فقال
: ما لكم سامدون .
حدثني
ابن سنان القزاز ، قالا ثنا أبو عاصم ، عن عمران بن زائدة بن نشيط ، عن أبيه ، عن
أبي خالد قال : خرج علينا عليّ رضي الله عنه ونحن قيام ، فقال : مالي أراكم سامدين
.
قال :
ثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا سفيان ، عن مطر ، عن زائدة ، عن أبي خالد، بمثله .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، في
قوله ( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : قيام القوم قبل أن يجيء الإمام .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن عمران الخياط ،
عن إبراهيم في القوم ينتظرون الصلاة قياما ؛ قال : كان يقال : ذاك السُّمود .
حدثنا
ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن ليث والعزرميّ ، عن مجاهد ( وَأَنْتُمْ
سَامِدُونَ ) قال : البرطَمة .
حدثنا
ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( وَأَنْتُمْ
سَامِدُونَ ) قال : الغناء باليمانية : اسْمُد لنا .
حدثنا
يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وَأَنْتُمْ
سَامِدُونَ ) قال : السامد : الغافل .
حدثنا
ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يكرهون أن
يقوموا إذا أقام المؤذن للصلاة ، وليس عندهم الإمام ، وكانوا يكرهون أن ينتظروه
قياما ، وكان يقال : ذاك السُّمود ، أو من السُّمود .
وقوله ( فَاسْجُدُوا
لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) يقول تعالى ذكره : فاسجدوا لله أيها الناس في صلاتكم دون
مَن سواه من الآلهة والأنداد ، وإياه فاعبدوا دون غيره ، فإنه لا ينبغي أن تكون
العبادة إلا له ، فأخلصوا له العبادة والسجود ، ولا تجعلوا له شريكا في عبادتكم
إياه .
آخر تفسير
سورة النجم ] ([233])
.
وقال الحافظ ابن
كثير رحمه الله ، في تفسير نفس الآيات الكريمة :
[ { هَذَا نَذِيرٌ } يَعْنِي : مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنَ النُّذُرِ الأولَى } أَيْ : مِنْ جِنْسِهِمْ ، أُرْسِلَ
كَمَا أُرْسِلُوا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل
} [ الْأَحْقَافِ
: 9 ]
{ أَزِفَتِ
الآزِفَة } أَيِ : اقْتَرَبَتِ الْقَرِيبَةُ ، وَهِيَ الْقِيَامَةُ ، { لَيْسَ
لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } أَيْ : لَا يَدْفَعُهَا إِذًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَحَدٌ ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى عِلْمِهَا سِوَاهُ .
ثُمَّ
قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ
وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَتَلَهِّيهِمْ: { تَعْجَبُونَ } مِنْ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ، { وَتَضْحَكُونَ } مِنْهُ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً ، { وَلا تَبْكُونَ
} أَيْ : كَمَا يَفْعَلُ الْمُوقِنُونَ بِهِ ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ : { وَيَخِرُّونَ
لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الْإِسْرَاءِ
: 109 ] .
وَقَوْلُهُ
: { وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : الْغِنَاءُ ، هِيَ يَمَانِيَّةٌ ، اسْمِد لَنَا : غَنّ
لَنَا . وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ .
وَفِي
رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { سَامِدُونَ } : مُعْرِضُونَ . وَكَذَا قَالَ
مُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ . وَقَالَ الْحَسَنُ : غَافِلُونَ . وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ :
تَسْتَكْبِرُونَ . وَبِهِ يَقُولُ السُّدِّيُّ .
ثُمَّ
قَالَ آمِرًا لِعِبَادِهِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَالْعِبَادَةِ الْمُتَابِعَةِ لِرَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ : { فَاسْجُدُوا
لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } أَيْ : فَاخْضَعُوا لَهُ وَأَخْلِصُوا وَوَحِّدُوا .
قَالَ
الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَر ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ،
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَجَدَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ ، وَسَجَدَ مَعَهُ
الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ . انْفَرَدَ بِهِ دُونَ
مُسْلِمٍ .
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ ، حَدَّثَنَا رَبَاحٌ
، عَنْ مَعْمَر ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعة ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَرَأَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ سُورَةَ النَّجْمِ ،
فَسَجَدَ وسَجَد مَنْ عِنْدَهُ ، فرفعتُ رَأْسِي وأبيتُ أَنْ أسجد ، ولم يكن أسلم
يومئذ المطلب ، فَكَانَ
بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْمَعُ أَحَدًا يَقْرَؤُهَا
إِلَّا سَجَدَ مَعَهُ .
وَقَدْ
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِـي الصَّلَاةِ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ
الْحَمِيدِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، بِهِ
.
ذِكْرُ
حَدِيثٍ لَهُ مُنَاسِبَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { هَذَا
نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى . أَزِفَتِ الآزِفَة } ، فَإِنَّ النَّذِيرَ هُوَ :
الْحَذَرُ لِمَا يُعَايِنُ مِنَ الشَّرِّ ، الَّذِي يُخْشَى وُقُوعُهُ فِيمَنْ
أَنْذَرَهُمْ ، كَمَا قَالَ : { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ
عَذَابٍ شَدِيد } [ سَبَأٍ : 46 ] . وَفِي
الْحَدِيثِ : " أَنَا النَّذِيرُ العُريان " أَيِ : الَّذِي أَعْجَلَهُ
شِدَّةُ مَا عَايَنَ مِنَ الشَّرِّ عَنْ أَنْ يَلْبَسَ عَلَيْهِ شَيْئًا ، بَلْ
بَادَرَ إِلَى إِنْذَارِ قَوْمِهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَجَاءَهُمْ عُريانا مُسْرِعًا
مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ : {أَزِفَتِ الآزِفَة } أَيِ : اقْتَرَبَتِ الْقَرِيبَةُ ،
يَعْنِي : يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي
بَعْدَهَا : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [ الْقَمَرِ
: 1 ] ،
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :
حَدَّثَنَا
أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ - لَا أَعْلَمُ إِلَّا عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ
الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ ،
وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتهم ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ
الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ " .
وَقَالَ
أَبُو حَازِمٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
أَبُو ضَمْرَة : لَا أَعْلَمُ إِلَّا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ – قال : " مثلي
مثل السَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ " وَفَرَّقَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى
وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ ، ثُمَّ قَالَ : "مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ
كَمَثَلِ فَرسَي رِهَان " ، ثُمَّ قَالَ : " مَثَلِي وَمَثَلُ
السَّاعَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَعَثَهُ قَوْمُهُ طَلِيعَةً ، فَلَمَّا خَشِيَ أَنْ
يُسْبَقَ أَلَاحَ بِثَوْبِهِ : أُتِيتُمْ أُتِيتُمْ ".
ثُمَّ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَا ذَلِكَ "
. وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ مِنْ صِحَاحٍ وحِسان . وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَالْعِصْمَةُ .
آخِرُ
تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ ولله الحمد والمنة ] ([234])
.
والآن لنرَ كيف
فسّرها الشهيد سيد قطب رحمه الله ، وماذا كتب عنها :
جاء في
تفسيره :
[ هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى . أَزِفَتِ الْآزِفَةُ. لَيْسَ لَها
مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ » . .
هذا الرسول الذي تتمارون في رسالته وفي نذارته . هذا نذير من النذر الأولى التي
أعقبها ما أعقبها ! وقد أزفت الآزفة . واقتربت كاسحة جارفة . وهي الطامة والقارعة التي
جاء هذا النذير يحذركم إياها أو هو هول العذاب الذي لا يعلم إلا اللّه نوعه وموعده
. ولا يملك إلا اللّه كشفه ودفعه : « لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ » .
.
وبينما الخطر الداهم قريب . والنذير الناصح يدعوكم إلى النجاة . إذا أنتم سادرون
لاهون لا تقدرون الموقف ولا تفيقون .
« أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ؟ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ؟ وَأَنْتُمْ
سامِدُونَ . . . » . .
وهذا الحديث جد عظيم يلقي على كاهل الناس واجبات ضخمة وفي الوقت ذاته يقودهم
إلى المنهج الكامل .
فمم يعجبون ؟ ومم يضحكون ؟ وهذا الجد الصارم ، وهذه التبعات الكبيرة ، وما ينتظر
النـاس مـن حساب على حياتهم في الأرض . . كله يجعل البكاء أجدر بالموقف الجد ، وما
وراءه من الهول والكرب . .
وهنا يرسلها صيحة مدوية ، ويصرخ في آذانهم وقلوبهم ، ويهتف بهم إلى ما ينبغي
أن يتداركوا به أنفسهم ، وهم على حافة الهاوية :
« فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا » .
وإنها لصيحة مزلزلة مذهلة في هذا السياق ، وفي هذه الظلال ، وبعد هذا التمهيد
الطويل ، الذي ترتعش له القلوب :
ومن ثم سجدوا . سجدوا وهم مشركون . وهم يمارون في الوحي والقرآن . وهم يجادلون
في اللّه والرسول ! سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم والرسول -
صلى اللّه عليه وسلم - يتلو هذه السورة عليهم . وفيهم المسلمون والمشركون. ويسجد فيسجد
الجميع . مسلمين ومشركين .
لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان . . ثم أفاقوا
بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون !
بهذا تواترت الروايات . ثم افترقت في
تعليل هذا الحادث الغريب . وما هو في الحقيقة بالغريب . فهو تأثير هذا القرآن العجيب
ووقعه الهائل في القلوب !
هذا الحادث الذي تواترت به الروايات . حادث سجود المشركين مع المسلمين . كان
يحتاج عندي إلى تعليل . قبل أن تقع لي تجربة شعورية خاصة عللته في نفسي ، وأوضحت لي
سببه الأصيل .
وكنت قد قرأت تلك الروايات المفتراة عما سمي بحديث الغرانيق ، الذي أورده ابن
سعد في طبقاته ، وابن جرير الطبري في تاريخه . وبعض المفسرين عند تفسيرهم لقوله تعالى
: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ، فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ
، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . . . إلخ » . .
وهي الروايات التي قال فيها ابن كثير - جزاه اللّه خيرا - « ولكنها من طرق كلها
مرسلة . ولم أرها مسندة من وجه صحيح » .
وأكثر هذه الروايات تفصيلا وأقلها إغراقا في الخرافة والافتراء على رسول اللّه
- صلى اللّه عليه وسلم - رواية ابن أبي حاتم . قال : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي
، حدثنا محمد بن إسحاق الليثي ، حدثنا محمد ابن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب
. قال : أنزلت سورة النجم ، وكان المشركون يقولون :
لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه
من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر . وكان رسول اللّه - صلى
اللّه عليه وسلم - قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنه ضلالهم
فكان يتمنى هداهم . فلما أنزل اللّه سورة النجم قال : « أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى
، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ؟ » ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر اللّه الطواغيت
فقال : وإنهن لهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى . .
وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته . . فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة
. وزلت بها ألسنتهم . وتباشروا بها . وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين
قومه . . فلما بلغ رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - آخر النجم سجد ، وسجد كل من
حضره من مسلم أو مشرك . غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا
فسجد عليه . فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول اللّه - صلى اللّه
عليه وسلم - فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين . ولم
يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين . . فاطمأنت أنفسهم - أي المشركون
- لما ألقى الشيطان في أمنية رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وحدثهم به الشيطان
أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - قد قرأها في السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم
. ففشت تلك الكلمة في الناس
وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين : عثمان بن مظعون
وأصحابه . وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، وصلوا مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه
وسلم - وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، وحدثوا أن المسلمين قـد
أمنوا بمكة ، فأقبلوا سراعـا ، وقد نسخ اللّه مـا ألقى الشيطان ، وأحكم اللّه آياته
، وحفظه من الفرية . وقال : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ
... إلخ » .. فلما بين اللّه قضاءه وبرأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالتهم
وعداوتهم على المسلمين ، واشتدوا عليهم » . . انتهى
وهناك روايات أخرى أجرأ على الافتراء تنسب قولة الغرانيق . . تلك . . إلى رسول
اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وتعلل هذا برغبته - حاشاه صلى اللّه عليه وسلم - في
مراضاة قريش ومهادنتها ! ! ! وقد رفضت منذ الوهلة الأولى تلك الروايات جميعا . . فهي
فضلا عن مجافاتها لعصمة النبوة وحفظ الذكر من العبث والتحريف ، فإن سياق السورة ذاته
ينفيها نفيا قاطعا .
إذ أنه يتصدى لتوهين عقيدة المشركين في هذه الآلهة وأساطيرهم حولها . فلا مجال
لإدخال هاتين العبارتين في سياق السورة بحال . حتى على قول من قال :
إن الشيطان ألقى بهما في أسماع المشركين دون المسلمين . فهؤلاء المشركون كانوا
عربا يتذوقون لغتهم .
وحين يسمعون هاتين العبارتين المقحمتين ويسمعون بعدهما : « أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى ؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى . إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ، ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ .. إلخ » .
ويسمعون بعد ذلك : « إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ
الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ . إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً » . . ويسمعون
قبله : « وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا
مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى » . .
حين يسمعون هذا السياق كله فإنهم لا
يسجدون مع الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - لأن الكلام لا يستقيم . والثناء على آلهتهم
وتقرير أن لها شفاعة ترتجى لا يستقيم . وهم لم يكونوا أغبياء كغباء الذين افتروا هذه
الروايات ، التي تلقفها منهم المستشرقون مغرضين أو جاهلين ! لغير هذا السبب إذن سجد
المشركون . ولغير هذا السبب عاد المهاجرون من الحبشة ثم عادوا إليها بعد حين مع آخرين
.
وليس هنـا مجال تحقيق سبب عودة المهاجرين ، ثم عودتهم إلى الحبشة مع آخرين
. .
فأما أمر السجود فهو الذي نتصدى له في هذه المناسبة . .
لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود . ويخطر لي احتمال أنه لم يقع
وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة بعد نحو شهرين أو ثلاثة. وهو
أمر يحتاج إلى التعليل .
وبينمـا أنا كذلك وقعت لي تلك التجربة الشعورية الخاصة التي أشرت إليها من قبل
. .
كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب ، يتلو سورة النجم
. فانقطع بيننا الحديث ، لنستمع وننصت للقرآن الكريم . وكان صوت القارئ مؤثرا وهو يرتل
القرآن ترتيلا حسنا .
وشيئا فشيئا عشت معه فيما يتلوه . عشت مع قلب محمد - صلى اللّه عليه وسلم -
في رحلته إلى الملأ الأعلى .
عشت معه وهو يشهد جبريل - عليه السلام - في صورته الملائكية التي خلقه اللّه
عليها . ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله ! وعشت معه وهو
في رحلته العلوية الطليقة . عند سدرة المنتهى .
وجنة المأوى . عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي ، وتحلق بي رؤاي ، وبقدر ما تطيق
مشاعري وأحاسيسي . .
وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها
. . إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة ، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى ووقفت أمام
الكائن البشري ينشأ من الأرض ، وأمام الأجنة في بطون الأمهات . وعلم اللّه يتابعها
ويحيط بها .
وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة . . الغيب
المحجوب لا يراه إلا اللّه .
والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء . والمنتهى إلى اللّه في
نهاية كل طريق يسلكه العبيد .
والحشود الضاحكة والحشود الباكية . وحشود الموتى . وحشود الأحياء . والنطفة
تهتدي في الظلمات إلى طريقها ، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى. والنشأة
الأخرى . ومصارع الغابرين . والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى !
واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة : « هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ
الْأُولى . أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ » . .
ثم جاءت الصيحة الأخيرة . واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب : « أَفَمِنْ
هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ . وَأَنْتُمْ سامِدُونَ
؟ » .
فلما سمعت : « فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا » . . كانت الرجفة قد سرت من
قلبي حقا إلى أوصالي . واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي ، لم أملك مقاومته
. فظل جسمي كله يختلج ، ولا أتمالك أن أثبته ، ولا أن أكفكف دموعا هاتنة ، لا أملك
احتباسها مع الجهد والمحاولة !
وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح ، وأن تعليله قريب . إنه كامن في
ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن ، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة . ولم
تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها . ولكنها في هذه المرة كان لها هذا
الوقع ، وكانت مني هذه الاستجابة . . وذلك سر القرآن . .
فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة
وتقع اللمسة التـي تصل القلب بمصدر القوة فيهـا والتأثير . فيكون منها ما يكون !
لحظة كهذه مسـت قلوب الحـاضرين يومهـا جميعا . ومحمد - صلى اللّه عليه وسلم
- يقرأ هذه السورة يقرؤها بكيانه كله . ويعيش في صورها التي عاشها من قبل بشخصه . وتنصب
كل هذه القوة الكامنة في السورة من خلال صوت محمد - صلى اللّه عليه وسلم - في أعصاب
السامعين . فيرتجفون ويسمعون : « فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا » ويسجد محمد والمسلمون
. . فيسجدون . .
ولقد يقال : إنك تقيس على لحظة مرت بك ، وتجربة عانيتها أنت . وأنت مسلم . تعتقد
بهذا القرآن ، وله في نفسك تأثير خاص . . وأولئك كانوا مشركين يرفضون الإيمان ويرفضون
القرآن !
ولكن هنالك اعتبارين لهما وزنهما في مواجهة هذا الذي يقال :
الاعتبـار الأول : أن الذي كـان يقرأ السـورة كـان هو محمد - صلى اللّه عليه
وسلم – النبي . الذي تلقى هذا القرآن مباشرة من مصدره . وعاشه وعاش به . وأحبه حتى
لكان يثقل خطاه إذا سمع من يرتله داخل داره ، ويقف إلى جانب الباب يسمع له حتى ينتهي
!
وفي هذه السورة بالذات كان يعيش لحظات عاشها في الملأ الأعلى . وعاشها مع الروح
الأمين وهو يراه على صورته الأولى . . فأما أنا فقد كنت أسمع السورة من قارئ.
والفارق ولا شك هائل !
والاعتبار الثاني : أن أولئك المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة
، وهم يستمعون إلى محمد - صلى اللّه عليه وسلم - إنما كان العناد المصطنع هو الذي يحول
بينهم وبين الإذعان . . والحادثان التاليان شاهد على ما كان يخالج قلوبهم من الارتعاش
.
روى ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عثمان
بن عروة ، ابن الزبير ، عن أبيه ، عن هناد بن الأسود ، قال : كان أبو لهب وابنه عتبة
قد تجهزوا إلى الشام ، فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : واللّه لأنطلقن إلى محمد ،
ولأوذينه في ربه ( سبحانه وتعالى ) . فانطلق حتى أتى النبي - صلى اللّه عليه وسلم
- فقال : يا محمد. هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى . . فقال النبي
- صلى اللّه عليه وسلم - : « اللهم سلط عليه كلبا من كلابك » . . ثم انصرف عنه ، فرجع
إلى أبيه ، فقال : يا بني ، ما قلت له ؟ فذكر له ما قاله . فقال : فما قال لك ؟ قال
: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك .
قال : يا بني واللّه ما آمن عليك دعاءه ! فسرنا حتى نزلنا أبراه - وهي في سدة
- ونزلنا إلى صومعة راهب . فقال الراهب : يا معشر العرب ، ما أنزلكم هذه البلاد ؟ فإنها
يسرح فيها الأسد كما تسرح الغنم ! فقال أبو لهب :
إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة واللّه ما آمنها
عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ، وافرشوا لابني عليها ، ثم افرشوا حولها .
ففعلنا . فجاء الأسد فشم وجوهنا ، فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فوق المتاع ،
فشم وجهه ، ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه . فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة
محمد !
هذا هو الحادث الأول صاحبه أبو لهب . أشد المخاصمين لمحمد - صلى اللّه عليه
وسلم - المناوئين له ، المؤلبين عليه هو وبيته . المدعو عليه في القرآن هو وبيته :
« تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ . سَيَصْلى
ناراً ذاتَ لَهَبٍ . وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ . فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ
مَسَدٍ » . . وذلك شعوره الحقيقي تجاه محمد وقول محمد . وتلك ارتجافة قلبه ومفاصله
أمام دعوة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - على ابنه .
والحادث الثاني : صاحبه عتبة بن أبي ربيعة . وقد أرسلته قريش إلى محمد - صلى
اللّه عليه وسلم - يفاوضه في الكف عن هذا الذي فرق قريشا وعاب آلهتهم ، على أن يكون
له منهم ما يريد من مال أو رياسة أو زواج .
فلما انتهى من عرضه قال له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - : « أفرغت يا
أبا الوليد ؟ » قال : نعم . قال :
« فاستمع مني » . قال : أفعل . قال : « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
. حم . تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً
عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ
لا يَسْمَعُونَ » . . ثم مضى حتى قوله تعالى : « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ
صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » . . عندئذ هب عتبة يمسك بفم النبي - صلى
اللّه عليه وسلم - في ذعر وهو يقول : ناشدتك الرحم أن تكف . . وعاد إلى قريش يقص عليهم
الأمر .
ويعقب عليه يقول : وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل
بكم العذاب ([235])
.
فهذا شعور رجل لم يكن قد أسلم . والارتجاف فيه ظاهر . والتأثر المكبوت أمام
العناد والمكابرة ظاهر .
ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من محمد - صلى اللّه عليه وسلم - فأقرب
ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التي لا يملكون أنفسهم إزاءها . وأن يؤخذوا
بسلطان هذا القرآن فيسجدوا مع الساجدين . .
بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين ! ] ([236])
.
شيءٌ عن التفسير
[ كان جيل
الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - هو الجيل الذي ربّاه القرآن الكريم ،
الجيل
الذي تمثل فيه الهدف العملي للقرآن ، أو الهدف العملي الواقعي القريب في هذه
الحياة الدنيا ،
وهو
إنشاء الأمة الوسط ، أو الأمة المثال والأنموذج ، وتبديل واقع الناس من الضلال إلى
الهدى ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور !
ولقد
تحقق ذلك في هذا الجيل القرآني الفريد ،
تربّى
خطوة خطوة ، ويوما بعد يوم ، وقام بناؤه الشامخ لبنة لبنة ؛ على نحو نزول القرآن
الكريم سورة بعد سورة ، ومجموعة من الآيات وراء مجموعة أخرى ، على اختلاف الأوقات
والأزمان ، والدواعي والأسباب ]
قال
[ أنس بن مالك - رضي الله عنه - : « كنا إذا نزلت علينا الآيات لم نتجاوزها حتى
نعمل بما فيها ، فتعلمنا العلم والعمل جميعا » ]
والصحابة
[ لم يعنوا بتدوين التفاسير المطولة للقرآن الكريم ، يثقلونها بتفصيل القول في
علوم القرآن ، أو علوم التفسير الواسعة ، ومدلولات الآيات البعيدة ، أو إشاراتها
العميقة ]
وذلك
[ نظراً لمعرفتهم باللغة ، ومعاصرتهم للتنزيل ، وفهمهم لجميع نصوصه في سياقها
وسباقها الصحيح ، ومناسبتها الواضحة - بناء على ذلك التدرج - ولاستلهامهم لتلك
الروح القرآنية العالية ، وعملهم بموجبها يوما بعد يوم ]
فالذي
جاءنا من التفسير عن الصحابة [ لا يصوّر لنا الغرض الأساس الذي نزل القرآن من أجله
، والذي وعاه الصحابة - رضوان الله عليهم – وطبقوه ، وعاشوه واقعا وعملا .
وإذا رجعنا إلى ما أثر من تفسيرهم للقرآن الكريم
لوجدنا أنه نوع من التفسيرات اللغوية ، أو شرح لبعض الجمل والتراكيب ، بالإضافة
إلى بيان المناسبات ونحوها مما يتصل بالأماكن والوقائع والأعلام وبعض الأحكام ]
وهذا
[ ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يؤثر عنه ، وقد دعا له النبيّ صلى الله عليه
وسلم بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل ، لم يؤثر عنه في تفسير القرآن إلا
نحو من مائة أثر أو مسألة كما قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه - . وهذا قدر قليل
جدا من ترجمان القرآن إذا ما قسناه بالمطولات وكتب التفسير التي دونت فيما بعد ]
و[ كانت كتب تفسير القرآن في مرحلة نشأتها كتبا
شارحة للغريب ، لأن من الراجح أن سبيل التفسير في ذلك العصر القريب من عصر التنزيل
كان يستوي بمثل هذا الشرح .
ومن
هنا كانت هذه الأسماء : « غريب القرآن » و « معاني القرآن » و « مجاز القرآن » أو
استعملت في عرف المتقدّمين مترادفة أو كالمترادفة ]
[ فالقرآن
الكريم النابض بالحياة ، المبدّل للنفوس والعقول ، والذي أوجد ذلك الجيل ، وأوجد
هذه الأمة - وفي العصور الأولى على وجه الخصوص –
هذا
القرآن لا يمكن تحصيل معانيه من خلال تراث الصحابة - رضوان الله عليهم - في تفسير
القرآن ،
وإنما
ينبغي تحصيله - لمن قدر على ذلك - من خلال ذلك التمثل الكامل للقرآن ، والذي تجلى
في حياة الصحابة وسلوكهم وفهمهم عن الله سبحانه ، ومن خلال روحهم العظيمة تلك التي
سرت في العالم فأحيت موات النفوس ، ونشرت دوارس العقول ، ووصلت الخلق بالخالق
بحبله المتين ، ونوره المبين
بل
ينبغي تحصيل هذا التفسير، قبل ذلك ، من خلال السيرة النبوية الشريفة وخُلق النبيّ
الكريم - صلوات الله عليه وسلامه - . .
هذا
الخُلق الذي كان الصورة العملية الكاملة للقرآن الكريم ، كما قالت السيدة عائشة أم
المؤمنين - رضي الله عنها - ، وقد سئلت عن خلقه - عليه الصلاة والسلام - فأجابت
بتلك الكلمة العبقرية الفذّة : « كان خلقه القرآن ! »
ولهذا
صح لعلمائنا السابقين - رحمة الله عليهم أجمعين- ما قالوه في تعريف التفسير بالمأثور
من أنه « ما أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة – والتابعين - تفسيرا
للقرآن الكريم » ولكن ما أثر عنهم - كما رأيت - لا ينبغي أن يكون مقصورا على
الأقوال ، بل يجب أن يتعداه أو يسبقه ، إلى السلوك والأعمال ]
وأن
ما ورد عنهم من الأقوال لا يكفي وحده للوقوف على فهمهم العميق للقرآن ، والذي لم
يدوّنوه بأقلامهم - رضي الله عنهم - ، أما الاستظهار بما ورد عنهم ، والاستفادة من
أقوالهم وتعليقاتهم فأمر لا يستغني عنه من أراد فهم القرآن وتفسيره من جديد ! ] ([237])
دور
التفاسير
إن
التفاسير التي كُتِبَت بعد الصحابة والتابعين ، لم ترسم الصورة الصحيحة أو الكاملة
[ للغرض
الأساس الذي نزل القرآن الكريم من أجله ، والذي يتمثل
في
إقامة الشخصية الإسلامية ، وإنشاء جيل على قواعد هذه التربية الربانية تجعله صورة
ناطقة عن الحق الذي نزل به القرآن ، وبناء أمة لها خصائصها ومزاياها التي تجعل
منها خير أمّة أخرجت للناس .
ولكن
علينا ، قبل أن نبحث في تحقيق هذه التفاسير لذلك الغرض ، أن نتذكر البيئة التي كان
يعيش فيها هؤلاء المفسرون الأعلام ، والجو الذي كانوا يتنسمونه وينطلقون منه؛
لأن
الجزء الذي أغفلوه من ذلك الغرض كان متحققا من حولهم في مجتمع إسلامي ، وشريعة
حاكمة ، وسلطان إن لم يأخذ نفسه بأحكام الإسلام ؛ فإنه لا يستطيع الخروج عليها ،
فضلا عن استحالة إقدامه على محاربتها ، أو تنشئة الأطفال على
خلافها ..
ولهذا
كان همّ المفسرين القدامى مصروفا إلى « تثقيف » المسلم ، وتقديم القدر الذي يتمكن
منه أحدهم ، من العلوم والمعارف اللغوية والتاريخية ، ونحوها لقارئ التفسير ،
وبخاصة الأحكام الشرعية التي يخاطب بها المكلف ،
ومن
هنا طال وقوفهم وتشعب أمام آيات الأحكام أكثر من سواها ، حتى صارت عماد بعض
التفاسير كما هو معلوم .
الشخصية
المسلمة موجودة ، والمجتمع الإسلامي قائم ، والقرآن الكريم هو الذي أوجد من الأصل
هذا المجتمع وتلك الشخصية . . ] ([238]) .
المفسرون وتغيير الظروف
بقي المفسرون – على وجه الإجمال [ على طريقتهم
السابقة في التعامل مع النص القرآني ، تثقيفا للمسلم ، وإغناء له بأنواع العلوم
والمعارف ، حتى إن وقوفهم الطويل أمام آيات الأحكام الذي كان له ما يبرره لم يشفع ،
والمجتمع
الإسلامي آخذ في التدهور ، وصورة المسلم الفاعل المؤثر آخذة في التشتت والانفعال ،
لم
يشفع بالاتجاه إلى السياق التربوي والأخلاقي والأساس العقائدي الذي وردت فيه تلك
الآيات ، والذي يشكل « الخلفية » أو القاعدة والمناخ الملائم لدى الفرد المسلم حتى
يتقبل هذه الأحكام ]
وقد أصبحت في
أسلوب التفاسير [ المحاكاة والنقل الذي ساد المجتمعات
الإسلامية في عصور الركود على وجه الخصوص . .
حتى
انتهى الأمر إلى مجموعة من الحفظيات يستعرض المفسر من خلالها عشـرات الأقـوال . .
بعيـدا عن الصورة القرآنية المحرّكة للنفوس والقلوب والعقول جميعا ]
إنّ [ حركة التفسير منذ عصر التدوين ، أو منذ أن تأصّل الخلاف
بين المتكلّمين وأصحاب الفرق ، كانت صورة عكست نقاط الخلاف ، وكانت في بعض الأحيان
استجابة لها ، أو محاولة لتأكيدها والانتصار لها ،
وفي
كتاب الرازي الذي مثّل من وجه آخر اهتمامات العصر الطبعيّة والفلسفية على منهج لا
يمكن وصفه بالأصالة والوحدة ،
وهذا
فضلا عن تفاسير المعتزلة الكثيرة التي انطلقوا فيها من مجموعة من المسلّمات التي
أسموها أصولا، وحاولوا حمل الآيات عليها بتأويل قريب مرة ، وبعيد مرات أخرى !
معظم
المفسرين على اختلاف نزعاتهم الكلامية والمذهبية دخلوا إلى النص القرآني - بصورة
عامة - بمقرر فكري أو موقف سابق ] ([239])
.
سيد
قطب والتفسير
إنطلق
الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، في تفسيره ، ولاحظ الغرض [ الأساس الذي نزل
القرآن الكريم من أجله ، والمتمثل في إنشاء أمة لها خصائصها ومميزاتها ، وتربية
جيل على قواعد من التربية الربانية تجعله صورة ناطقة عن الحق الذي نزل به القرآن .
كل
ذلك بما يتناسب - في هذا العصر - مع انفراط عقد الأمة والدولة الإسلامية ، ومع
انتقاص الإسلام من أطرافه والعدوان على شريعته وأحكامه في ظل المناخ العلماني
السائد الذي فصل في واقع حياة المجتمعات الإسلامية بين ( الدين ) ونظام الحياة .
بل
بما يذكّر بظروف نشأة الإسلام الأولى ، والمسلمون قلة ؛ وأعداء الإسلام يتربصون
بهم وبدعوتهم الدوائر ؛ وبحيث لا يكون الانطلاق من فكرة تقديم زاد ثقافي للمسلم ،
بل إعادة صياغته وفقا لمنهج كتاب الله تعالى ]
ومن
ثم [ تسجيله لمعاني القرآن التي فهمها الصحابة - رضوان الله عليهم - ، واستلهموها
وعاشوا تطبيقها العملي الذي لم يعرف تفريقا بين النظرية والتطبيق .
ثم في
ضوء الاهتمامات العملية لحركة المجتمع في مواجهة أعدائه . . لتكون كلمة الله هي
العليا ]
وحاول رحمه الله تعالى [ تجاوز عصر الخلاف ، أو عصر المذهبيّة
الفكرية في تفسير القرآن التي وقعت في خطأ المقرر الفكري المسبق كما أشرنا ؛ وذلك
خضوعا للمدلولات القرآنية المباشرة ، أو بصورة مباشرة .
على
ما يحتاج إليه هذا الأمر من ثقافة واسعة ، وحس مرهف ، وتمكّن علمي ، وتجربة عملية
أو نهوض بأعباء الدعوة يؤهل صاحبه - في ظل أوهاق المناخ السابق - لمثل هذا الفهم
المتكامل الذي يتخلّص من التجزي أو من أخذ الصورة القرآنية تفاريق !
الأمر
الـذي يعيد للتنزيل العزيز ، طبيعته في إقامة مجتمع المسلمين ودولة الإسلام ،
وفي
تحدي الكفار والمنافقين وسائر المجتمعات المناقضة الأخرى ،
فتفسير
سيد قطب رحمه الله تعالى ؛ في ظلال القرآن [ تفسير العصر الذي لا يغني عنه تفسير
آخر من تفاسير علمائنا الأوائل –
إن
معاني القرآن الكريم التي عاشت في نفوس الصحابة والجيل الأول - والتي لم يؤثر عنهم
إلا دليلها اللغوي مدونا في كتب التفسير- تمثلها سيد - رحمه الله – وفهمها ، والله
أعلم ، بحسه المرهف ، وإيمانه العميق ، وثقافته الواسعة ، وتجربته الطويلة ،
وحركته الدائبة في حقل الدعوة والأمة ، والمجتمع والناس . . . أو
على الأقل : استشعرهـا من خلال هذا كله ، واستطاع أن ينقلها بلغته وعباراته على
الورق والصحائف ! ]
[ الظلال
– إذن - دليل عمليّ مكتوب ، إن صح مثل هذا التعبير ، إلى المجتمع الإسلامي والأمة
الإسلامية ،
وليس
دليلا ثقافيا لعلوم القرآن أو علوم التفسير، أو علوم الثقافة الإسلامية من فقه
وأصول وتاريخ جدل أو خلاف !
ومن
ظن أن هذا هو تعريف « التفسير » ، أو أن تقديم ذلك الدليل الثقافي يجب أن يكون
مهمة جميع المفسرين في جميع العصور ، فليعد على معلوماته بالمراجعة والتحليـل ،
وليعـد إلـى الغرض الأسـاس أو الأول مـن نزول القرآن الكريم بالنظر والتأمل ! ]
فعند
ما كان يتحدث سيد - رحمه الله - عن « مواصفات » المجتمع الإسلامي وشروطه ؛ عقيدة
وتشريعا ؛ إيمانا وعملا وسلوكا . . . إلخ
كان يرسم بذلك - ومن خلال نصوص القرآن الكريم وواقع الأمة الإسلامية وسلوك السلف
الصالح - صورة المجتمع الذي يجب علينا العمل والتحرك لقيامه وتحقيقه . .
لم
يكن يقدم معلومات أو قضايا نظرية أو فلسفية ، بحيث يمكن التحاكم فيها إلى مصطلحات
أو مسلّمات نشأت في عصر من العصور الإسلامية من خلال حركة المجتمع الإسلامي - الذي
كان قائما في ذلك الحين - وتفاعل هذا المجتمع مع القرآن والحديث ؛ مما نطلق عليه
الآن مصطلح « التراث » ]
وليس
من شك - ولا ندخل هنا في الشرح والتفصيل كما قلنا - في أن الفرق كان بعيدا جدا بين
طريقة تلقي الصحابة - رضوان الله عليهم - لمثل قوله تعالى : وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ سورة الأنفال ، الآية 17 ]
وتفسيرهم له ، وتعاملهم معه - وهم يعلمون دورهم ودور النبيّ صلى الله عليه وسلم في
الإعداد والرمي - وبين طريقة المفسرين من أصحاب المذاهب الكلامية في تناول هذه
الآية ، أو تفسيرهم لقوله تعالى : وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [ سورة
الإنسان ، الآية 30 ] . أو لقوله : إِنَّ اللَّهَ لا
يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [ سورة
الرعد ، الآية 11 ] ]
[ الثالث
من مزايا ظلال القرآن ، وهو تجاوزه عصر الخلاف ، أو عصر المذهبية الفكرية في تفسير
القرآن الكريم ؛
بأن
سيدا- رحمه الله- استشعر معاني القرآن كما عاشت في نفوس ذلك الجيل الفريد ، ونقلها
أو عبر عنها بلغته العالية على الورق والصحائف ، والله أعلم ]
فالخطأ
الشنيع – عند خصوم سيد رحمه الله ، هو [ حين يحاكمون الظلال إلى الصورة الكلامية
التي انتهت إليهم ، أو تلقوها ونشئوا عليها وآمنوا بها . .
وحاكموا
الأمر إلى ما استقر عندهم لا ما دلت عليه الآيات القرآنية بسياقها وسباقها ،
وموضعها من سائر أجزاء الصورة القرآنية ؛ وبطريق الفهم المبتدأ أو الخضوع المباشر
للآيات القرآنية بعيدا عن التعمل والتأويل ! !
ونحن
نقول هنا بوضوح كامل : إن آراء رجال المذاهب الكلامية ليست أصلا تفسّر في ضوئه
نصوص القرآن !
وليست
مقرراتهم الفكرية المسبقة مقدّمات ضرورية لفهم القرآن ، علما بأن هذه المقررات
ليست إلا فهما مجزّأ للنص القرآني ! ]
كان
الشهيد سيد قطب رحمه الله [ يدخل إلى تفسير النص القرآني الكريم ، بتلك الثقافة
العالية ، وذلك الإحساس المرهف ، وتلك التجربة العملية الناضجة في حقل إقامة أمة
القرآن ، وإعادة صياغة المسلم وفقا لمنهج الله مرة أخرى ، . .
وكان
يفسر النص القرآني الكريم ويستلهمه لينطق بما يدل عليه - لا بما يريد المفسّر أن
ينطقه به هو بناء على مقدماته السابقة - فإن
صادف أن هذا المدلول المباشر ذهب إلى مثله مرجئ أو معتزلي – مثلا - فهذا تفسير
للقرآن ، أو مدلول من مدلولاته ، وليس اعتزالا أو إرجاء أو غير ذلك مما يظنه بعض
القراء والدارسين ! !
كأن
القوم معصومون عن الخطأ في الفهم ، أو كان رأيهم هو الأصل الذي يجب أن تؤول الآيات
لتطابقه ولا تخالفه !
من
العجيب حقا أن يستنكر بعض الناس التعامل المباشر مع القرآن لمن يقدر على ذلك ! ]
و [هذا
يتعارض مع كون القرآن الكريم كتاب جميع العصور ، وأن أبناء كل جيل واجدون مـن
المعانـي والدلائـل مـا لـم تكـن الأجيـال السـابقـة قـد تنبّهت إليه أو وقفت عليه ] ([240])
.
الوحدة
الموضوعية في السورة القرآنية
الشهيد
سيد قطب رحمه الله هو [ أول مفسّر في تاريخ القرآن الكريم أبرز الوحدة الموضوعية
في السورة القرآنية المفردة طالت أم قصرت !
أبرزه
بشكل عملي مكتوب ، أو طبقه أفضل تطبيق عرفته المكتبة القرآنية حتى الآن .
والذين
سبقوا سيدا من المفسّرين ، منهم من لم يلاحظها ولم يسلّم بوجودها ، ومنهم من ذهب
إلى القول بها ، ولكنه لم يبلغ في إخراجها أو تطبيقها حدّ التوفيق ، أو درجة
الإقناع !
ثم
جاء سيد ليؤكد على هذه الوحدة المحورية في السورة الواحدة ، وليضع أيدينا بعد ذلك
برفق وسهولة ولين على وجه الانتقال من موضوع إلى موضوع .
ولعل
سر نجاح سيد - رحمه الله - في ذلك يعود إلى ملاحظته أن بناء الإنسان في القرآن
الكريم يقوم على قاعدة الفكر والاعتقاد ، أو يعتمد على العقيدة وينطلق منها ، وأن
سلوكه وتصرفاته العملية هي الثمرة الطبيعية لإحكام هذا الجانب أو الأساس الفكري
والعقدي .
هذا الربط الواضح بين الفكرة ومقتضياتها العملية ، وبين العقيدة
ولوازمها السلوكية هو ما لاحظه سيد - رحمه الله - في القرآن ، وأكد عليه - من ثم -
في التفسير ولذلك نجد - على سبيل المثال - أن وقوفه عند الآيات المكية كان أطول من
وقوفه عند الآيات المدنية أو آيات الأحكام ، وأنه قد كثرت عنده في آيات العقيدة :
الإشراقات واللمحات ، والنتائج والأحكام والتحليلات ]
و [ شدّد
فيه النكير على من ينتزع آية من القرآن الكريم ويسلخها عن السياق الذي ذكرت فيه ،
سواء أكانت من آيات العقائد أم من آيات الأحكام ، وإن كانت الخطورة في آيات
العقيدة أشد
أما نصوص العقائد فالاختلاف في معناها مع ذلك
القطع والسلخ - وبخاصة وهي نصوص تفصيلية كثيرة ، وليست كآيات الأحكام - أشد وأخطر !
كمن
احتج ، مثلا ، على مذهبه في مسألة « خلق الأفعال » - كما دعيت - بقوله تعالى :
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ !
علما
بأن الآية الكريمة جاءت على لسان سيدنا إبراهيم في الاحتجاج على قومه حين وجدهم
يعبدون الأصنام التي نحتوها بأيديهم : قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ .
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) [ سورة
الصافات ، الآيتان 95 – 96 ] ؟ ! ولم تأت في سياق الحديث عن التكليف
وأفعال العباد - بغض النظر عن مذاهب المتكلمين في هذه المسألة - وإلا لكانت الآية
حجة لعباد الأصنام لا حجة عليهم ! ! ] ([241])
.
خلاصة
الكلام
1 –
الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، كان أديباً ، بل من أئمة أدباء العصر الحديث ونقّاده
.
وذلك
باعتراف الجميع : أهل الإختصاص ، والخصوم ، والأنصار .
والأديب
يجب أن يكون حائزاً على علوم اللغة العربية – لغة الشرع - ومحيطاً بها ، فكيف إذا
كان من أئمة الأدباء ؟
2 –
أما أنّه لم يكن عالماً : فهذا اتهام بارد غث هزيل !
وهو
اتهام من الخصوم الذين خالفهم الشهيد في بعض محفوظاتهم .
وهل
يصح في العقل والمنطق أن يفسّر القرآن الكريم – المصدر الأول للشريعة – من أوّله
إلى آخره ، مَن لم يكن عالماً ؟ !
فالقرآن
الكريم هو الذي ربّى النبيّ r
، والصحابة الكرام ، رضوان الله عليهم ، أحسن تربية ، بسوره وآياته الكريمة .
قَالَ قَتَادَةُ
( فَقُلْتُ: يَا أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ [ عائشة رضي الله عنها ] أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ : « أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ »
قُلْتُ : بَلَى ، قَالَتْ : « فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ » ) ([242])
.
ويقول
الله تعالى ، في تربية الصحابة رضي الله عنهم ، خاصة :
( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) ([243])
.
ثم إن
الذي يتصدى لتفسير القرآن الكريم ، ينبغي أن يكون عالماً :
بأسباب
النزول ، والناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والحقيقة
والمجـاز ، وعبارة النص ، وإشـارته ، ودلالتـه ،
وبالسنة ، وعام السنة وخاصها ، وناسخها
ومنسوخها ، ومطلقها ومقيّدها ، وحقيقتها ومجازها ، وعباراتها ، ودلالاتها ،
وإشاراتها ، وبعلوم اللغة العربية ، وأصول الفقه ، والسيرة النبوية ، وكتب الحديث
المعتبرة ، والإجماع ، واختلاف العلماء ، والفقه .
وقرأ
التفاسير السابقة ، بأنواعها .
إضافة
إلى الإيمان العميق ، والخبرة والتجربة الرائدة في العمل بأوامر القرآن ، واستشعار
معانيه ، والعيش في ظلاله !
وهذه
كلها يجدها قاريء ( في ظلال القرآن ) عند سيّد قطب رحمه الله .
فالذي
يقول : إن سيّد قطب ليس عالماً ، أتحدّاه إن قرأ ( في ظلال القرآن ) بنية الإستفادة
منه . هذا أصلاً إذا قرأه ، ولم يكن مقتبساً انتقاداته من خصوم سيّد رحمه الله
تعالى !
وهل
هكذا يأمرنا الإسلام ؛ أن نأخذ الأحكام على الأشخاص من خصومهم وشانئيهم ؟ !
والله
تعالى يأمرنا بالعدل والإنصاف ، حتى مع الأعداء ؟
يقول
تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ([244])
.
[ أي { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما
أُمِرُوا بالإيمان به ، قوموا بلازم إيمانكم ، بأن تكونوا { قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } بأن تنشط للقيام بالقسط حركاتكم الظاهرة والباطنة .
وأن يكون
ذلك القيام لله وحده ، لا لغرض من الأغراض الدنيوية ، وأن تكونوا قاصدين للقسط ،
الذي هو العدل ، لا الإفراط ولا التفريط ، في أقوالكم ولا أفعالكم ، وقوموا بذلك
على القريب والبعيد ، والصديق والعدو .
{ وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ } أي : لا يحملنكم بغض { قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا } كما
يفعله من لا عدل عنده ولا قسط ، بل كما تشهدون لوليكم ، فاشهدوا عليه ، وكما
تشهدون على عدوكم فاشهدوا له ، ولو كان كافرا أو مبتدعا ، فإنه يجب العدل فيه ،
وقبول ما يأتي به من الحق، لأنه حق لا لأنه قاله ، ولا يرد الحق لأجل قوله ، فإن
هذا ظلم للحق .
{ اعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } أي : كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به، كان
ذلك أقرب لتقوى قلوبكم ، فإن تم العدل كملت التقوى .
{ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } فمجازيكم بأعمالكم ، خيرها وشرها ، صغيرها
وكبيرها ، جزاء عاجلا وآجلا ] ([245])
.
فالله سبحانه وتعالى ، يأمرنا - في القرآن
الكريم - أن نعدل حتى مع الأعداء والشانئين ، وأن لا نظلمهم ، ولا نستخدم معهم ما
يؤدي إلى ظلمهم ، وهضم حقوقهم !
وهذا
الأمر جاء في القرآن ؛ أول مصدر ومرجع للمسلم ، والذي – دائماً – يتحجج به أهل :
الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ! !
فهل
من هذا العدل والإنصاف - الذي أمرنا الله تعالى به - أن نأخذ الحكم على شخص ما ،
من خصومه وأعدائه ، وأن نحيل ، ونعتمد على حكم الخصوم ؟ !
فماذا
يقول أصحاب الفضيلة ، وأصحاب الألقاب الطنّانة الرنّانة ، العلّام الفقهاء ، الذين
تربّعوا على برجٍ عالٍ ، يصدرون الأحكام على مخالفيهم ، ما رأيهم فيمن يسأل الإمام
السبكي عن الحافظ ابن تيمية ؟ !
أو
يسأل الصوفية عن السلفية والوهابية ؟ !
أو
قبل ذلك ، يسأل الشيعة عن رأيهم في أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعائشة ، وطلحة ،
والزبير ، و . . . رضي الله تعالى عنهم جميعا ؟ !
أو
يسأل الناصبة عن رأيهم في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ؟ !
هل
يعتبرون هذا الأمر عدل وإنصاف ، وأن ذلك أمر الله تعالى ؟ !
فلماذا
لا يقبلون على أنفسهم ، ما يقبلونه على مخالفيهم ؟ !
ألم
يقرأوا ويسمعوا قول الله تعالى ، في كتابه العزيز : ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . أَلَا يَظُنُّ
أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ([246])
؟
ألم
يقرأوا ويسمعوا قول النبيّ r
: ( لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ
لِنَفْسِهِ ) ؟ .
ولقد
علم القاصي والداني ، والكبير والصغير ، مدى حقد وبغض ربيع المدخلي ، وكرهه للشهيد
سيّد قطب رحمه الله ، وهو محترق – في ذلك – بكل معنى كلمة الإحتراق
وكذلك
يعرف الناس أن عبدالله الدويش من خصوم الشهيد ، وقرأ في ظلال القرآن ليتصيّد
الأخطاء ، لا ليستفيد منه .
والإثنان
لا يرتفعان إلى المستوى السامق للشهيد ، ولا يفهمان كلامه رحمه الله .
ومع
كلّ هذا إسمع إلى ما قاله الناصح الأمين :
[ سئل فضيلة
الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين : ( - أثابكم الله - أرجو إجابتي على هذا
السؤال :
إننا ([247])
نعلم الكثير من تجاوزات سيد قطب لكن الشيء الوحيد الذي لم أسمعه عنه ، وقد سمعته
من أحد طلبة العلم مؤخراً ولم أقتنع بذلك ؛ فقد قال : إن سيد قطب ممن يقولون بوحدة
الوجود ([248])
. وطبعـاً هـذا كفـر صريـح ([249])
،
فهل كان سيد قطب ممن يقولون بوحدة الوجود ؟ أرجو الإجابة
جزاكم الله خيراً .
قال الشيخ محمد : ( مطالعتي لكتب سيد قطب قليلة ولا أعلم
عن حال الرجل ،
لكن قد كتب العلماء فيما يتعلق بمؤلفه في التفسير "
ظلال القرآن " ، كتبوا ملاحظات عليه ، مثـل ما كتبـه الشيـخ عبد الله الدويش
- رحمه الله - وكتب أخونا الشيخ ربيع المدخلي ملاحظات عليه ؛ على سيد قطب في
التفسير وفي غيره . فمن أحب أن يراجعها فليراجعها ) ] ([250])
.
[ مطالعتي
لكتب سيد قطب قليلة ] . [ ولا أعلم
عن حال الرجل ] . [ لكن قد كتب العلماء فيما يتعلق بمؤلفه في التفسير " ظلال القرآن "
، كتبوا ملاحظات عليه ] . [مثـل ما كتبـه الشيـخ
عبد الله الدويش ] . [ وكتب أخونا
الشيخ ربيع المدخلي ملاحظات عليه ]
. [ فمن أحب أن يراجعها فليراجعها ] .
أهذا
جواب رجل ناصح أمين ، بله أن يكون فقيهاً علّامة
؟ !
أهذا
هو العدل الذي أمر الله تعالى ، به ؟
ولكي
تتبيّن شناعة هذا الجواب ، سأمثل سؤالاً وجواباً إفتراضيين ، على نفس هذا النمط :
سئل
الإمام الخميني ، عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، بأنه كان تكفيرياً يكفّر المسلمين
، وأنه كان يكره أهل البيت ، ويحارب أتباع أهل البيت ، فهل هذا صحيح ؟
قال
الإمام الخميني : مطالعتي لكتب محمد بن عبد الوهاب قليلة ، لكن قد كتب العلماء والأئمة عنه ، فقد كتب أخونا الإمام خامنئي ، كتباً
يبيّن فيها أصل هذا الرجل ، وكذلك كتب عنه أخونا الإمام الخوئي ، وبيّن مدى كرهه
لآل البيت ، فمن أحب أن يراجعها فليراجعها ! !
فهل يرضى خصوم سيّد قطب رحمه الله ، عن هذا السؤال
والجواب ؟ وهل يعتبرونه جواباً صحيحاً وحقّاً ؟ !
لنر عدلاً وإنصافاً آخراً :
[ قال سيد قطب - عفا الله عنه ([251])
- في " ظلال القرآن " في قوله تعالى :
{ الرحمن على العرش استوى } : ( أما الاستواء على العرش
فنملك أن نقول : إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق ) " الظلال " ( 4/2328
) ، ( 6/3408 ) ط 12، 1406، دار العلم .
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : (هذا
كله كلام فاسدٌ ، هذا معناه الهيمنة ، ما أثبت الاستواء : معناه إنكار الاستواء
المعروف ، وهو العلو على العرش ، وهذا باطلٌ يدل على أنه مسكين ضايع في التفسير ) .
ولما قال لسماحته أحد الحاضرين بأن البعض يوصي بقراءة
هذا الكتاب دائماً ،
قال سماحة الشيخ ابن باز : ( الذي يقوله غلط - لا. . غلط
- الذي يقوله غلط سوف نكتب عليه إن شاء الله )
] ([252])
.
1 – كذبَ مَن تقوّل على الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى
، بأنه قال : إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق . فلم يقل الشهيد هذه العبارة .
بل قال رحمه الله – وانظر إلى التفسير الذي لا تجده في
غيره :
[ والذي نزل
القرآن من الملأ الأعلى ، وخلق الأرض والسماوات العلى ، هو «الرَّحْمنُ » فما نزله
على عبده ليشقى .
وصفة الرحمة هي التي تبرز هنا للإلمام
بهذا المعنى .
وهو المهيمن على الكون كله . « عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى » والاستواء على العرش كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء .
فأمر الناس إذن إليه وما على الرسول
إلا التذكرة لمن يخشى .
ومع الهيمنة والاستعلاء الملك والإحاطة
:
« لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى » . .
والمشاهد الكونية تستخدم في التعبير
لإبراز معنى الملك والإحاطة في صورة يدركها التصور البشري .
والأمر أكبر من ذلك جدا . وللّه ما
في الوجود كله وهو أكبر مما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى .
وعلم اللّه يحيط بما يحيط به ملكه
:
« وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى » . .
وينسق التعبير بين الظل الذي تلقيه
الآية : « لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ
الثَّرى » .
والظل الذي تلقيه الآية بعدها : « وَإِنْ
تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى » ينسق بين الظاهر الجاهر
في الكون ، والظاهر الجاهر من القول . وبين المستور المخبوء تحت الثرى والمستور المخبوء
في الصدور :
السر وأخفى . على طريقة التنسيق في
التصوير . والسر خاف . وما هو أخفى من السر تصوير لدرجات الخفاء والاستتار ، كما هو
الحال تحت أطباق الثرى . . ] ([253])
مَن ذا الذي يقرأ هذا التفسير الرائع ، ولا يخشع لعظمة
الله تعالى وكبريائه ؟ !
ومَن هو هذا المحروم الذي يذهب تفكيره إلى علم الكلام ،
وهو يقرأ هذا التفسير الراقي ؟ !
2 – [ هذا كله كلام فاسدٌ ] . [ ما
أثبت الاستواء : معناه إنكار الاستواء ] .
[ وهذا باطلٌ يدل على أنه مسكين
ضايع في التفسير ] ! ! !
ولنر الآن ماذا قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله ،
عن معاني الإستواء :
قال رحمه الله :
[ الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه :
منها انتهاءُ
شباب الرجل وقوّته ، فيقال ، إذا صار كذلك : قد استوى الرّجُل .
ومنها استقامة
ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمرُه . إذا استقام
بعد أوَدٍ ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم :
طَالَ عَلَى رَسْمِ مَهْدَدٍ أبَدُهْ ... وَعَفَا
وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُه
يعني : استقام به .
ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما
يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه .
ومنها: الاحتياز والاستيلاء ، كقولهم : استوى فلان على
المملكة . بمعنى احتوى عليها وحازَها .
ومنها : العلوّ والارتفاع ، كقول القائل ، استوى فلان
على سريره . يعني به علوَّه عليه .
وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه : " ثم استوى
إلى السماء فسوَّاهن " ، علا عليهن وارتفع ، فدبرهنّ بقدرته ، وخلقهنّ سبع
سموات .
والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل
قول الله : " ثم استوى إلى السماء " ، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع ،
هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك - أن يكون إنما
علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر . ثم لم
يَنْجُ مما هرَب منه !
فيقال له : زعمت أن تأويل قوله " استوى "
أقبلَ ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها ؟
فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل ، ولكنه إقبال تدبير ،
قيل له : فكذلك فقُلْ : علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان ،
لا علوّ انتقال وزَوال .
ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله ] ([254])
.
أ – لم يقل الإمام الطبري : أن الإستواء له وجه واحد من
المعاني .
بل قال رحمه الله : الاستواء في كلام العرب منصرف على
وجوه ، ثم ذكر خمسة معانٍ لكلمة الإستواء :
1 - إنتهاءُ شباب الرجل وقوّته .
2 - استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب .
3 - الإقبال على الشيء .
4 - الاحتياز والاستيلاء ، كقولهم : استوى فلان على
المملكة . بمعنى احتوى عليها وحازَها ! ! !
5 - العلوّ والارتفاع ، كقول القائل ، استوى فلان على
سريره . يعني به علوَّه عليه .
ثم اختار هو رحمه الله المعنى الخامس للكلمة : العلوّ
والإرتفاع . فكان ماذا ؟
هل الطبري رسول الله r ، فلا يجوز
مخالفته ؟ !
ثم – للعلم والاطلاع – يا مساكين ، فقد فسّر الطبري
الإستواء بمعنى الهيمنة والحيازة ! !
فقال : فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل ، ولكنه إقبال
تدبير ،
قيل له : فكذلك فقُلْ : علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان ،
لا علوّ انتقال وزَوال ! !
3 – فمن هو المسكين الضايع في التفسير حقّاً ؟ !
ولا أدري ما الضير في أن يكون معنى الإستواء : كناية عن
الهيمنة ؟ !
ربما اعترضوا بقولهم : وهل كان الله تعالى ، لم يكن
مهيمناً على العرش ، ثم بعد ذلك هيمن عليه ؟ !
فيقال في الجواب : وهل كان الله تعالى ، لم يكن مرتفعاً
وعالٍ على العرش ، ثم ارتفع وعلا عليه بعد ذلك ؟ ! !
وهناك شهادات باطلة ، ونصائح خاسرة ، وكلمات نابية ،
أخرى ، صدرت عن شيوخ ؛ جميعهم من مدرسة واحدة ، أصحاب تفكير بدوي ، وأُفُق ضيقة ،
لا نريد إطالة الكلام بإيراد أقوالهم ؛ فجميعهم ينسجون على منوال واحد ، لأنهم –
كما قلنا – من مدرسة ، وميول واحدة . ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ([255])
.
( وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا
لَشَيْءٌ يُرَادُ
) ([256])
وهذا التسرع – في الجواب والحكم – والإرتجالية ، والرمي
في الظلام ، لا يليق لا بعمرهم ، ولا بمكانتهم عند أتباعهم .
وأين ذهب قول الله تعالى ؛ الذي يتحججون به دائماً :
الكتاب والسنة ؟ :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) ([257])
؟ !
وأين هم من قول رسول الله r : ( كَفَى
بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ) ([258])
وقوله r : ( بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا ) ([259])
.
[ وَفِي
اللُّمَعَاتِ يَعْنِي أَنَّ مَا زَعَمُوا بِئْسَ مَطِيَّتُهُ يَجْعَلُ الْمُتَكَلِّمَ
مُقَدِّمَةَ كَلَامِهِ
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِخَبَرٍ مَبْنَاهُ
عَلَى الشَّكِّ وَالتَّخْمِينِ دُوْنَ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ قَبِيحٌ بَلْ
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِخَبَرِهِ سَنَدٌ وَثُبُوتٌ وَيَكُونَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ
ذَلِكَ لَا مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ عَلَى ظَنٍّ وَحُسْبَانٍ
وَفِي الْمَثَلِ زَعَمُوا مَطِيَّةَ الْكَذِبِ ] ([260])
.
والشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، في وادٍ ، والزاعمون
في وادٍ آخر .
وإذا أعذرنا الزاعمين بالجهل والغباوة ، فبماذا نعذر
المفتين الناصحين ؟ !
مجمل القول
نكتفي بهذا القدر ، وإلّا فهناك أدلة دامغة – غير ما سبق
– في هذا الموضوع ، غضينا الطرف عنها ، خشية الإطالة أكثر .
أما بعد . فنقول :
1 – الشهيد سيّد
قطب رحمه الله تعالى ، عالم جليل ، وهو أعلم من جميع منتقديه ، ويكفيه علماً
وفخراً ، أنّه فسّر القرآن الكريم ، من أوّله إلى آخره ؛ من أوّل سورة الفاتحة ،
إلى آخر سورة الناس ، بأسلوبه الأدبي الرائع الراقي ، السامق الرفيع ؛ الذي وهبه
الله تعالى إيّاه .
فلقد سخّر نعمة الله تعالى ، الذي منّ بها عليه ، في
سبيل الله سبحانه !
ومن المعلوم – عند العلماء والأئمة – أن تفسير القرآن
الكريم ؛ المصدر الأول للإسلام وشرع الله تعالى ، لا يستطيع أن يفسّره ، إلّا مَن
حاز على شروط التفسير .
2 – أفضل التفاسير في هذا العصر على الإطلاق ، هو ( في
ظلال القرآن ) للشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى .
فهو أفضل من جميع التفاسير ، حتى من : تفسير الطبري ،
وابن كثير ، والقرطبي ، وأبو حيان الأندلسي ، و . . . و . . . و إلخ .
ولا نغمط أولئك الأئمة المفسرين حقّهم ، فجزاهم الله
تعالى خيراً ، لما قدّموه من خدمة للقرآن الكريم .
فهذا شيء ، وتفضيل تفسير ( في ظلال القرآن ) ، على
تفاسيرهم شيءٌ آخر .
ومن معجزة القرآن ، وصلاحيته لكل زمانٍ ومكان ، بل
إصلاحه لكل زمانٍ ومكان ، أنه أنجع علاج لجميع مشاكل البشرية قاطبة ، في جميع
العصور والدهور ، وهو نور لظلمات الدنيا ، في كلّ عصر ومصر .
ولهذا ترى أئمة وعلماء الإسلام ، يفسّرونه في كل زمانٍ
وعصر ، ويجدّدون تفسيره ، بما يحلّ مشاكل عصرهم ، ويبدّد ظلماته ، وكأن القرآن نزل
في زمانهم !
ولا يكتفون بالتفاسير السابقة ، التي قام بها الأئمة –
قبلهم – في عصورهم .
ومن هنا نفهم الحكمة ؛ في أنّ رسول الله r ، لم يفسّر القرآن تفسيراً كاملاً ، كما قام به العلماء من بعده !
فلو فعله رسول الله r ، لما كان
لأحد غيره أن يفسّره ، ولظهر وكأن القرآن نزل لعصره r ، فقط !
ومن بـاب أنّ كلّ إمام فسّر القرآن ، بما يوافق لحلّ
مشاكل عصره ، وتبديد ظلماته ، وركّز على ذلك .
نرى أنهم – رحمهم الله تعالى – قد استفادوا ذلك من قصص
الأنبياء ، التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم .
فبعد أن كان أسـاس دعوة جميع الرسل عليهم السلام ،
وأصلها ، هو توحيد الله تعالى ، فما بُعث رسولٌ إلّا به ، كما ذكر الله تعالى ،
ذلك في كتابه العزيز :
( وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) ([261])
بعد هذا الأساس ، أخذ كلّ رسول يركّز على مشكلة عصره ،
وانحراف أهله ، لحلّها ، وتقويم الناس ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .
فعلى سبيل المثال - والذي يبيّن ما ذكرناه أوضح بيان :
قول الله تعالى ، عن نبيّ الله شعيب ، على نبيّنا وعليه
أفضل الصلاة والسلام :
( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ
يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ . وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ . بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) ([262])
.
فانظر إلى قول الله تعالى ؛ حيث ذكر دعوة نبيّ الله شعيب
عليه السلام ، لقومه إلى عبادة الله تعالى ، وحده ، ونفي الشركاء عنه .
( يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) .
ثم بعد ذلك ركّز على انحراف ومشكلة عصره ، ليحلها ،
ويُبعد قومه عنها ! .
( وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ
وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ مُحِيطٍ . وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) .
( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ
يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ
صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ
وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ
وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) ([263])
.
وكذلك قول الله تعالى ، عن نبيّ الله لوط على نبيّنا
وعليه السلام :
( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ .
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ . إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ . وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَتَأْتُونَ
الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) ([264])
.
فانظر إلى قول الله تعالى ، عن نبيّ الله لوط عليه
السلام :
( قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا
تَتَّقُونَ . إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ .
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ ) .
ثم بعد ذلك ، ركّز على انحراف العصر ومشكلته ، وذلك
للقضاء عليها وحلها :
( أَتَأْتُونَ
الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) .
ونستطيع – على ضوء ذلك – أن نقول :
إن رسـالة نبيّ الله موسى علـى نبيّنا وعليه السلام -
بعد التوحيد ، وعبادة الله وحده - هي : الوقوف بوجه طغيان الطغاة ، واستبداد
المستبدّين ، وإنقاذ الناس والمستضعين منهم :
( نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى
وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي
الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ .
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) ([265])
.
( ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ . وَقَالَ
مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ . حَقِيقٌ عَلَى
أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )([266])
ولقد كان عصر وظروف المفسرين القدامى ، تختلف عن عصرنا
وظروفنا ؛ فلقد كان المجتمع إسلامياً ، وكانت الخلافة تحكم بشرع الله ، والناس
عامة منقادين لشرع الله تعالى .
والسلطان إن لم يكن يأخذ نفسه بأحكام الإسلام ؛ فإنه ما
كان يستطيع الخروج عليها ، فضلاً عن استحالة إقدامه على محاربتها ، أو تنشئة
الأطفال على خلافها !
[ ولهذا كان
همّ المفسرين القدامى مصروفا إلى « تثقيف » المسلم ، وتقديم القدر الذي يتمكن منه
أحدهم ، من العلوم والمعارف اللغوية والتاريخية ، ونحوها لقارئ التفسير ، وبخاصة
الأحكام الشرعية التي يخاطب بها المكلف ،
ومن
هنا طال وقوفهم وتشعب أمام آيات الأحكام أكثر من سواها ، حتى صارت عماد بعض
التفاسير كما هو معلوم ] .
كانت [ الشخصية المسلمة موجودة ، والمجتمع الإسلامي
قائم ، والقرآن الكريم هو الذي أوجد من الأصل هذا المجتمع وتلك الشخصية ] .
ولهذا كان كلّ مفسّر يعلم حاجة عصره وظرفه ، فيكتب بما
يلائم حاجتهم ، وهم أحوج ما يكونوا إليه ، ويستنبط ذلك من القرآن الكريم ، الذي لا
تنقضي عجائبه !
ولهذا ترى التفسير النحوي ، وإعراب القرآن ، كتفسير (
البحر المحيط ) لأبي حيان الأندلسي .
وكذلك التفسير عن المباحث الكلامية ، كتفسير الرازي .
والتفسير عن النكات البلاغية ، كتفسير ( الكشاف )
للزمخشري .
وتفسير الأحكام الفقهية ، كتفاسير : القرطبي .
والتفاسير على المذاهب الفقهية :
كتفسير يركّز على الأحكام الفقهية على المذهب المالكي ، كتفسير
آيات الأحكام لابن العربي .
وآخر على المذهب الحنفي ، كتفسير الجصاص . . . و . . .
إلخ .
وكذلك التفسير ، الذي يعني ببيان معاني الكلمات ، كتفسير
الجلالين مثلاً .
وهكذا كل مفسّر يقوم بتفسير القرآن ، ويواجه مشكلة عصره
، بما جاء في القرآن الكريم ، الذي أنزله الله تعالى لذلك – بعد اتفاقهم جميعاً
على توحيد الله تعالى ، وعبادته وحده .
ولا ننسى عصرهم وظروفهم .
فشريعة الإسلام كانت تحكمهم ، وخليفتهم يأخذ الجزية من
ملوك الروم وغيرهم ، وأحدهم – كهارون الرشيد – كان يتحدى السحاب أينما يمطر فليمطر
، لأن خراجه سوف يرجع للخلافة الإسلامية ،
المترامية الأطراف !
في هكذا ظروف ، كان المفسّرون يفسرون القرآن الكريم .
أيريدون من الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، أن يفسر لهم
القرآن كأولئك المفسرين ، الذين كانوا يعيشون في تلك الظروف ؟
إذن فليأتوا له بتلك الظروف ، حتى يفسر لهم ما يريدون !
!
3 – الذين لا يقرأون تفسير ( في ظلال القرآن ) ، لسوء
ظنهم به - بله الذين ينهون عن قراءته - أولئك محرومون من أعظم مصدر ، من مصادر
الإيمان واليقين !
وأنا أرى أن هذا الحرمان ، هو عقوبة من الله تعالى لهم ،
لتعصبهم القبيح ، وتحزبهم ، واتّباعهم أقاويل مَن لم يرتقي إلى مستوى الشهيد سيّد
قطب رحمه الله تعالى ، لا علماً ، ولا فكراً ، ولا إيماناً .
وانخداعهم – أيضاً – بمكايد ومؤامرات أعداء الله ورسوله
، فضلاً عن غباوة المسلمين المخدوعين !
و ( كَرِهَ
اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) ([267])
.
( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) ([268])
.
وكلّ مَن اتجه إلى كتاب ما ، ليتصيّد فيه الأخطاء ،
فسيزيّن له الشيطان بعض الشبهات ، ما يخدع بها نفسه !
ألا ترى إلى أعداء الله تعالى ؛ من الملحدين ، واليهود ،
والنصارى ، كيف أضلّهم الشيطان ، ببعض الشبهات عن القرآن الكريم ؟ !
فما بالك بما كتبه سيّد قطب ؟ ! وممّن ؟
وسنجتمع جميعنا عند الله تعالى – الحَكَم العدل – يوم
القيامة ، وستظهر هناك الحقائق : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) ([269])
.
وهناك لا تنفع – الغباوة – وادّعاء النيّة الحسنة : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِيـنَ الْقِسْـطَ لِيـَوْمِ
الْقِيَـامَـةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْـسٌ شَيْئًـا وَإِنْ كَـانَ مِثْقَــالَ
حَبَّةٍ مِـنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَـا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) ([270])
.
( يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي
الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ([271])
.
والله تعالى ، يعلم ما تخفي الصدور ، وهل إذا ما كانت تلك
المواقف المخزية تجاه ( في ظلال القرآن ) وصاحبه ، كانت لله تعالى ، أم تعصّباً
لحزب ، وجماعة ، وفكر معيّن ؟ !
إن البلاهة والغباوة والجهل ، قد يكون عذراً لأصحابه يوم
القيامة ، وقد تنجيهم من الحساب العسير .
ولكن بشرط : وهو أن يكون وبال تلك المخازي ، مقتصراً على
أصحابها ؛ لا يتعدّى إلى غيرهم .
أما إذا سخّر أصحاب تلك البلاوى ، مخازيهم في محاربة
أولياء الله تعالى ، والقتال في داخل خندق الأعداء ، ضدّ أولياء الله ، فهناك لا
تفيد الأعذار الخادعة .
قال رسول الله
r : ( لَتُؤَدُّنَّ
الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ
الْجَلْحَاءِ ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ
) ([272])
.
[ والمقصود
إبراز القصاص بين المكلفين في صورة التأكيد والمبالغة لأنه إذا حصل القصاص بين ما
لا تكليف عليه حصل بين المكلفين من باب أولى ] ([273])
.
[ والمراد يقـاد
ويقتص مـن القرنـاء التـي نطحت فـي الدنيـا أختهـا التي لا قرن لها ] ([274])
.
[ ولكن القصاص
فيها ليس قصاص تكليف إذ لا تكليف عليها بل قصاص مقابلة لإظهار عدله ] ([275])
.
فإذا كان يوم القيامة تُقتص فيها من العجماوات ؛ اللاتي لا تعقل عقل
الإنسان ، ولا تكليف عليها ، وهي ظلمت أختها .
فكيف
بإنسان مكلّف ، يدّعي الإسلام ، وهو يظلم الدّعاة والمفكرين الإسلاميين ، ويشارك
أعداء الله في محاربتهم له ، وتشويه سمعتهم ؟ !
ومع
ظلمهم ، وإثمهم القبيح هذا ، فإنهم – فوق هذا – يزعمون أنّ هذه السيئات هي من أجل
الله تعالى ، وفي سبيله ! ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ ) ([276])
.
فليلحقوا
أنفسهم ، ويدركوها قبل فوات الأوان ، وقبل مغادرتهم لهذه الدنيا ، ومثولهم أمام
ربّ سيّد قطب !
ألا
يكفيهم تشويه أعداء الله تعالى ، لسمعة سيّد قطب ، حتى شاركوهم ، وازدادوا الطين
بلة ؟ !
اللهم
إنّي قد بلّغت . اللهم فاشهد !
الفصل
الرابع
سيّد
قطب يطعن في الصحابة
وهذا
أيضاً كذب كبير ، بحجم الحقد ، والضغينة ، والصديد في قلب صاحبه !
والذي
يسـمع هذا الكلام – وهو غير مطّلع علـى الحقيقة ، ولا يحمل ثقافة إسلامية – يظن
بأن الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، فعلاً لا يحب الصحابة ، ولا يجلّهم ، ولا
يوقّرهم ، شأنه شأن أهل الأهواء والبِدَع !
وهذه
شهادة باطلة ، يوقَف أصحابها يوم القيامة ، ويُسألون عن افتراءاتهم ، وتشويههم
الحقائق ! ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ([277])
.
وهذا
الكذب ، مع اتهام الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى ، بأنه يكره ويبغض أهل بيت
النبيّ r
، ويطعن في عليّ بن أبي طالب t
، كلاهما يخرج من مشكاة واحدة ، وهي الهوى والتعصّب الذميم !
هل
حقّاً سيّد قطب يطعن في الصحابة – هكذا – ولا يجلّهم ، كما توحي بذلك تلك الأكاذيب
؟
إذن ،
فمَن كتب فصلاً كاملاً بعنوان ( جيلٌ قرآنيّ فريد ) في كتابه ( معالم في الطريق )
؟
وجاء
فيه :
[ لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس – جيل
الصحابة رضوان الله عليهم – جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية
جميعه .
ثم لم
تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى . . نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ
.
ولكن
لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة
الأولى من حياة هذه الدعوة ] ([278])
.
[ كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو
نبع القرآن . القرآن وحده .
فما
كان حديث رسول الله r
وهديه إلا أثراً من آثار ذلك النبع . فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها – عن خُلق
رسول الله r
قالت : (( كان خُلقه
القرآن )) ([279])
.
كـان
القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه . ويتكيفون به . ويتخرجون عليه ] ([280])
.
[ إنهم – في الجيل الأول – لم يكونوا يقرءون
القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التذوق والمتاع .
لم
يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى
حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته .
إنما
كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ،
وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما
يتلقى الجندي في الميدان (( الأمر
اليومي )) ليعمل به
فور تلقيه !
ومن
ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من
واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما
جاء في حديث ابن مسعود t ([281])
.
هذا
الشعور . . شعور التلقي للتنفيذ . . كان يفتح لهم من القرآن آفاقاً من المتاع
وآفاقاً من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة
والاطلاع ،
وكان
ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله في
نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي ، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا
في بطون الصحائف ،
إنما
تتحول آثاراً وأحداثاً تحوِّل خط سير الحياة . . .
وكان
الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقاً ، يتلو بعضه بعضاً :
(( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا )) . .
[ الإسراء : 106 ]
. . .
إن
منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول .
وما
من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسياً كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن
ذلك الجيل المميز الفريد ] ([282])
.
[ لقد
كان الرجل [ يقصد :
الصحابة ] حين يدخل
في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية .
كان
يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهداً جديداً ، منفصلاً كل
الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية ، وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته
موقف المسـتريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام !
وبهذا
الإحساس كان يتلقى هَدْي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته
عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة . . شعر في الحال بالإثم والخطيئة ،
وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن
يكون على وفق الهَدْي القرآني .
كانت
هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها
عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ،
فهو
قد انفصل نهائياً من بيئته الجاهلية واتصل نهائياً ببيئته الإسلامية . حتى ولو كان
يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ،
فالعزلة
الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .
وكـان
هنـاك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفها وتصورها ، وعاداتها وروابطها ، ينشأ
عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام
عن الحياة والوجود وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته
الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته .
وكان
هذا مفرق طريق ، وكان بدء السير في الطريق الجديد ، السير الطليق مع التخفف من كل
ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ، ومن كل التصورات والقيم السائدة
فيه .
لم
يكن هنـاك إلا مـا يلقـاه المسـلم مـن أذى وفتنة ، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم
وانتهى ، ولم يعد لضغط التصور الجاهلي ، ولا لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من
سبيل ] ([283])
؟
وقال
رحمه الله تعالى ، في تفسيره للآية الكريمة :
( لَقَدْ رَضِـيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ
، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها ، وَكانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) ([284])
:
[ وإنني لأحاول
اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن أستشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود
كله ذلك التبليغ العلوي الكريم من اللّه العلي العظيم إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين
.
أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون
وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم ، عن أولئك الرجال
القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود . .
وأحاول أن أستشعر بالذات شيئا من حال أولئك السعداء الذين
يسمعون بآذانهم ، أنهم هم ، بأشخاصهم وأعيانهم ، يقول اللّه عنهم : لقد رضي عنهم .
ويحدد المكـان الـذي كانوا فيه ، والهيئة التي كانوا عليها
حين استحقوا هذا الرضى : « إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ » . . يسمعون هذا
من نبيهم الصادق المصدوق ، على لسان ربه العظيم الجليل . .
يا للّه ! كيف تلقوا – أولئك السعداء – تلك اللحظة القدسية
وذلك التبليغ الإلهي ؟ التبليغ الـذي يشير إلـى كل أحد ، فـي ذات نفسه ، ويقول له
: أنت . أنت بذاتك . يبلغك اللّه . لقد رضي عنك . وأنت تبايع .
تحت الشجرة ! وعلم ما في نفسك . فأنزل السكينة عليك ! إن
الواحد منا ليقرأ أو يسمع : « اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا » . . فيسعد . يقول
في نفسه : ألست أطمع أن أكون داخلا في هذا العموم ؟
ويقرأ أو يسمع : « إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » .
. فيطمئن . يقول في نفسه : ألست أرجو أن أكون من هؤلاء الصابرين ؟ وأولئك الرجال يسمعون
ويبلغون . واحدا واحدا . أن اللّه يقصده بعينه وبذاته .
ويبلغه : لقد رضي عنه ! وعلم ما في نفسه . ورضي عما في نفسه
! يا للّه !
إنه أمر مهول !
« لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ » . . « فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ . فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً » . .
علم ما في قلوبهم من حمية لدينهم لا لأنفسهم . وعلم ما في
قلوبهم من الصدق في بيعتهم .
وعلم ما في قلوبهم من كظم لانفعالاتهم تجاه الاستفزاز ، وضبط
لمشاعرهم ليقفوا خلف كلمة رسول اللّه – صلى اللّه عليه وسلم – طائعين مسلمين صابرين
.
« فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ » . . بهذا التعبير
الذي يرسم السكينة نازلة في هينة وهدوء ووقار ، تضفي على تلك القلوب الحارة المتحمسة
المتأهبة المنفعلة ، بردا وسلاما وطمأنينة وارتياحا .
« وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً » . . هو هذا الصلح بظروفه
التي جعلت منه فتحا ، وجعلته بدء فتوح كثيرة . قد يكون فتح خيبر واحدا منها . وهو الفتح
الذي يذكره أغلب المفسرين على أنه هو هذا الفتح القريب الذي جعله اللّه للمسلمين .
. ] ([285])
.
وقال
رحمة الله عليه :
[
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى – في المدينة – على هاتين الركيزتين . .
على الإيمان باللّه : ذلك الإيمان المنبثق من معرفة اللّه
– سبحانه – وتمثّل صفاته في الضمائر وتقواه ومراقبته ، واليقظة والحساسية إلى حد غير
معهود إلا في الندرة من الأحوال .
وعلى الحب. الحب الفياض الرائق ، والود . الود العذب الجميل
، والتكافل .
التكافل الجاد العميق . . وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا
، لولا أنه وقع ، لعد من أحلام الحالمين !
وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة
، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة !
وهي قصة وقعت في هذه الأرض . ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد
والجنان !
وعلـى مثـل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج اللّه
في الأرض في كل زمان .. ] ([286])
.
وقال
رحمه الله تعالى :
[ لقد هاجر المهاجرون مع النبيّ r
من مكة إلى المدينة ؛ فأما الفقراء . فما كان لهم مال ينقلونه معهم ؛ وأما
الأغنياء فقد تركوا أموالهم خلفهم ، فهم فقراء كالفقراء .
ولقد
سخت نفوس الأنصـار وارتفعت على الشح الفطري الكامن في النفس البشرية ؛ فآخوا
المهاجرين في كل شيء يملكون ، حتى في أخص خصوصياتهم ، طيبة نفوسهم بذلك ، سمحة
قلوبهم :
( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا
يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) [ الحشر : 9 ] .
وبذلك
كانوا نموذجاً رائعاً لما تصنعه العقيدة بالنفوس ؛ وضربوا مثلاً جميلاً للتخلص من
ضغط الضرورات والانطلاق إلى أرفع الأشواق ] ([287])
.
إذن
إطلاق الكلام ، على أنّ سيّد قطب يطعن في الصحابة – هكذا – إنما هو كذب ، ودجل ،
وتضليل للمسلمين !
حقيقة
المسألة
فما
هي – إذن – حقيقة هذا الدجل ، الذي يطلقه هؤلاء الحاقدين ؟
الحقيقة
هي ، أن الذي هو جالس في بيته ، بعيدٌ عن ساحات الوغى ، وهيقعة السيوف ، والذي
ربمـا يجرحه النسيم الذي يمر على وجهه ، قد لا يتعرض إلى أيّ لوم ، أو انتقاد !
أما
الفارس الهمام ، الذي لا يشق له غبار ، فقد يصيبه غبار المعركة ، فيغبر ، ويشعث في
صولاته وجولاته .
وسيّد
قطب رحمه الله تعالى ، باحث مفكر ، يحترم نفسه ، ويحترم قرّاءه ، وقد تصدّى لموضوع
خطير ، وهو يبرز جمال الإسلام ، وجلاله ، ويردّ سهام أعداء الله ورسوله ؛ وهم يحمّلونه بعض أخطاء رجاله .
وهو
في دفاعه عن الإسلام – أمام هؤلاء – لم يستند إلا على ما كتبه أئمة وعلماء الإسلام
المشهورين المرموقين !
فأصاب
غبار معركته مع الأعداء ، بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
حاله
حال الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى ، عندما تصدى للرافضة ، وردّ سهامهم في
نحورهم ، وأثناء ذلك أصابه بعض غبار المعركة !
ولقد
اتّهموه بنفس تهمة سيد قطب رحمهما الله تعالى !
أما
سيد قطب فاتهموه بالطعن في الخليفة الراشد عثمان بن عفان t
.
وأما
ابن تيمية فاتهموه بالطعن في الخليفة الراشد عليّ بن أبي طالب t
.
وكلا
التهمتين باطل وافتراء !
ولقد
قال الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى :
[ ثم
تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ . . كانوا عناصر أساسية في إثارة
الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان – رضي الله عنه –
وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير . .
وكانوا
رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي – رضي الله عنه – ومعاوية . . وقادوا حملة
الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير . . وكانوا من الممهدين لحملة التتار على
بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية . . ] ([288])
.
وقال
رحمه الله :
[
وهذا عثمان – قبل الخلافة – ترد له عير له من الشام في وقت نزل فيه البرح
بالمسلمين من الجدب ، فإذا هي ألف بعير موسوقة برّاً وزيتاً وزبيباً ، فيجيئه
التجار يقولون : بعنا من هذا الذي وصل إليك ، فإنك تعلم ضرورة الناس . . فيقول :
حبّاً وكرامة . كم تربحوني على شرائي ؟ فيجيبون : الدرهم درهمين .
فيقول
: أعطيت أكثر من هذا . فيقولون : يا أبا عمرو ، ما بقي في المدينة تجار غيرنا ،
وما سبقنا إليك أحد ، فمن ذا الذي أعطاك ؟
فيجيب
: إن الله أعطاني بكل درهم عشرة ، أعندكم زيادة ؟ فيقولون : لا . فيشهد الله على
أن هذه العير وما حملت صدقة لله على المساكين والفقراء من المسلمين . . .
وهؤلاء
الأنصار في المدينة يشركون المهاجرين في أموالهم ومساكنهم ويؤاخونهم فيعقلون
معاقلهم ، ويفدون عانيهم ، يخلطونهم بأنفسهم
( وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) [ الحشر : 9
] كما
وصفهم القرآن الكريم ] ([289])
.
وقال
رحمه الله :
[ ولقد استخلف أبو بكر عمر ، ولكن هذا لم يكن
إلزاماً منه للمسلمين ؛ فلقد كانوا في حلّ من رد هذا الاستخلاف .
وعمر
لم يصبح خليفة بحكم استخلاف أبي بكر له ، بل بمبايعة الناس إياه .
وكذلك
عيّن عمر بعده ستة للشورى على أن يختاروا منهم واحداً . وما كان المسلمون بملزمين
أن يختاروا واحداً من الستة ، وإنما هم التزموا لأن الواقع كان يشهد بأن الستة هم
الأفضل ، وأن تعيين عمر لهم يتفق مع الواقع . . من هنا جاء الالتزام .
فأما
البيعة لعليّ ؛ فقد ارتضاها قوم ، وأباها آخرون ، فكانت الحرب للمرة الأولى بين
المسلمين . وأعقبتها الكوارث التي حاقت بروح الإسلام ومبادئه في الحكم والمال ،
وفي غير الحكم والمال ] ([290])
وقال
رحمه الله تعالى :
[ ولم يستنقذهم
من هذا الذل إلا الإسلام ، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية
لرب البشر . .
فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص – فاتح مصر وحاكمها المسلم
– ظهر ابن قبطي من أهل مصر – لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال – غضب
القبطي لسوط واحد يصيب ابنه – من ابن فاتح مصر وحاكمها –
وسافر شهرا على ظهر ناقة ، ليشكو إلى عمر بن الخطاب – الخليفة
المسلم – هذا السوط الواحد الذي نال ابنه ! – وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل
في عهد الرومان – وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس
الأقباط في مصر ، وللنفوس في كل مكان – حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام –
كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام
آلاف السنين من الذل القديم ، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في
أرواحهم وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح ] ([291])
.
العدالة
الإجتماعية في الإسلام
ولقد
أخذ خصوم سيّد قطب رحمه الله تعالى ، من كتابه : ( العدالة الإجتماعية في الإسلام
) ، مرتعاً وخيماً ؛ إنطلقوا منه في طعنه وبهته ، والإفتراء عليه .
فقالوا
: إنه يطعن في الصحابة ، وينتقصهم .
علماً
أنه رحمه الله تعالى ، كتب كتابه هذا ، في بداية توجهه إلى الإسلام وفي الدفاع عنه
والدعوة إليه ، قبل الإلتزام الكامل بالإسلام ؛ فنقد مواقف بعض الصحابة في الأحداث
التي جرت ، في انحرافهم بالحكم في الإسلام ، من الخلافة الراشدة إلى الملك
العضوض ، كما أخبر بذلك النبيّ r
.
[ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
سَفِينَةُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
« الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ، ثُمَّ
مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ »
ثُمَّ قَالَ لِي سَفِينَةُ : أَمْسِكْ خِلَافَةَ أَبِي
بَكْرٍ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ، وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ ، ثُمَّ قَالَ لِي : أَمْسِكْ
خِلَافَةَ عَلِيٍّ
قَالَ : فَوَجَدْنَاهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً ، قَالَ
سَعِيدٌ : فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الخِلَافَةَ
فِيهِمْ ؟ قَالَ : كَذَبُوا بَنُو الزَّرْقَاءِ بَلْ هُمْ مُلُوكٌ مِنْ شَرِّ
المُلُوكِ ، :
وَفِي البَابِ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ قَالَا : لَمْ
يَعْهَدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الخِلَافَةِ شَيْئًا
وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ وَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ ] ([292])
.
ونترك قول سفينة ، ونأخذ بقول النبيّ r : حيث تنتهي الخلافة الراشدة بعده r ، بثلاثين
سنة ، فلا تشمل بني أمية – باستثناء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز – رحمهم
الله ، بل حكمهم ملك ، وهم كانوا من أفضل الملوك ، وليس شرّ الملوك .
أليس
هناك فرق واختلاف ، بين الخلافة الراشدة والملك ؟
فلقد
انتقد الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، مواقف البعض بشدة ، ثم لما التزم
بالإسلام إلتزاما كاملاً ، حذف تلك الإنتقادات في الطبعات اللاحقة ، إحتراماً
لأولئك .
ولكن
ظل بعض الموتورين ، يتّهمه إعتماداً على تلك المحذوفات !
قال الشيخ المباركفوري :
[ قَوْلُهُ : ( مَنْ عَيَّرَ ) مِنْ التَّعْيِيرِ أَيْ عَابَ
( أَخَاهُ ) أَيْ فِي الدِّينِ ( بِذَنْبٍ ) أَيْ قَدْ تَابَ مِنْهُ عَلَى مَا فَسَّرَ
بِهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ ( لَمْ يَمُتْ ) الضَّمِيرُ لِمَنْ ( حَتَّى يَعْمَلَهُ )
أَيْ الذَّنْبَ الَّذِي عَيَّرَ بِهِ أَخَاهُ ،
وَكَأَنَّ مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ أَيْ عَابَهُ مِنْ الْعَارِ
، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ لَزِمَ بِهِ عَيْبٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ يُجَازَى بِسَلْبِ
التَّوْفِيقِ حَتَّى يَرْتَكِبَ مَا عَيَّرَ أَخَاهُ بِهِ وَذَاكَ إِذَا صَحِبَهُ إِعْجَابُهُ
بِنَفْسِهِ لِسَلامَتِهِ مِمَّا عَيَّرَ بِهِ أَخَاهُ .
" تحفة الأحوذي " ( 7 / 173 ) .
هذا ، ولا يعني ضعْف الحديث جواز التعيير لمن وقع في الذنب
، والذي يقع منه الذنب أقسام :
منهم من يتوب ويرجع إلى ربه تعالى أو يقام عليه الحد ، فهذا
لا يحل تعييره لأنه طهَّر نفسه بالتوبة أو بالحد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
" التائب من الذنب كمن لا ذنب له " رواه ابن ماجه ( 4240 ) وصححه البوصيري
كما في " الزوائد / حاشية سنن ابن ماجه " .
وقد حمل الإمام أحمد العقوبة التي في الحديث على من عيَّر
من تاب من ذنبه كما نقل عنه الترمذي بعد تخريجه الحديث قال : قال أحمد : مِن ذنب قد
تاب منه . . .
ومنهم من يجهر بذنبه ، فهذا ينصح كذلك ، ويحذَّر منه حسب
المقام الذي يقتضي التحذير .
قال ابن القيم رحمه الله :
ويحتمل أن يريد : أن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه
وأشد من معصيته لما فيه من صولة الطاعة وتزكية النفس وشكرها والمناداة عليها بالبراءة
من الذنب ، وأن أخاك باء به ،
ولعل كسرته بذنبه وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء
على نفسه والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس خاشع
الطرف منكسر القلب : أنفع له وخير من صولة طاعتك وتكثرك بها والاعتداد بها والمنة على
الله وخلقه بها .
فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله ، وما أقرب هذا المُدِّل
من مقت الله ، فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تُدِلُّ بها عليه ، وإنك أن تبيت
نائما وتصبح نادما خير من أن تبيت قائما وتصبح معجبا ؛
فإن المعجب لا يصعد له عمل ، وإنك أن تضحك وأنت معترف خير
من أن تبكي وأنت مدل ، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المُدِلِّين ،
ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلا هو
فيك ولا تشعر ، فللّه في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو ولا يطالعها إلا
أهل البصائر فيعرفون منها بقدر ما تناله معارف البشر ووراء ذلك مالا يطلع عليه الكرام
الكاتبون ،
وقد قال النبي : " إذا زنت أمة أحدكم فليُقم عليها الحد
ولا يُثرَّب " أي : لا يعير ، كقول يوسف عليه السـلام لإخوته لا تثريب عليكـم اليوم فإن المـيزان بيد الله ، والحكم لله ، فالسوط الذي
ضُرب به هذا العاصي بيد مقلب القلوب ، والقصد إقامة الحد لا التعيير والتثريب ،
ولا يأمن كرات القدر وسطوته إلا أهل الجهل بالله ، وقد قال
الله تعالى لأعلم الخلق به وأقربهم إليه وسيلة
ولولا أن ثبَّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
وقال يوسف الصديق
وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين وكانت عامة يمين رسول الله " لا ، ومقلِّب
القلوب " ،
وقال : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن
عز وجل إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه "
ثم قال : " اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم
مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك " .
" مدارج السالكين ( 1 / 177 ، 178 ) ] ([293])
.
ولقد
حذف الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، انتقاداته اللاذعة لمعاوية ، وعمرو بن العاص ،
وأبي سفيان ، وغيرهم .
وكذلك
عدّل بعض تعابيره .
وكلّ
ذلك في الطبعات اللاحقة لكتابه : ( العدالة الإجتماعية في الإسلام ) .
ولكن
بعض أهل الأهواء والحاقدين والحزبيين ، لا زالوا يعيّرونه بتلك الكلمات التي تاب
منها ، وحذفها ، عندما التزم بالإسلام إلتزاماً كاملاً !
ولم
يكن سيّد رحمه الله ، في تلك الإنتقادات ينتصر لنفسه ، أو لعشيرته ، أو لهوى في
نفسه .
بل
كان ينتصر للإسلام ؛ لئلا يتخذ أعداء الله ورسوله تلك المواقف غرضاً ؛ يعيبون
ويرمون بها الإسلام ، فأنكر سيّد رحمه الله تعالى ، أن تكون تلك المواقف من روح
الإسلام !
قال
الشهيد سيّد قطب رحمه الله :
[ إنه
لا (( معاوية )) ولا (( يزيد )) ولا أحد من
ملوك بني أمية قد اغتصب مال أبي أو جدي ، أو قدّم إلى شخصي مساءة ، ولا لأحد من
عشيرتي الأقربين أو الأبعدين .
فإذا
أنا سلكت في بيان خطة (( معاوية )) في سياسة
الحكم وسياسة المال ، وخطة الملوك من بعده – فيما عدا الخليفة الراشد : عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه – مسلكاً غير الذي سلكته في بيان خطة (( أبي بكر )) و (( عمر )) و (( علي )) رضوان الله
عليهم جميعاً ، فليس أول ما يتبادر إلى الذهن المستقيم والنية السليمة أن ما بي هو
سب صحابة الرسول r ] ([294])
.
قال
سيّد قطب رحمه الله تعالى ، هذا الكلام سنة 1952 م ، وقد استشهد عام 1966 م .
وقد
نقل الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، كلاماً عن معاوية رضي الله عنه ، فقال :
[ فهو
أن أقام صاحب حرس معاوية رجلين على رأس كل وجيه من وجهاء الحجاز المعارضين ، وقد
قال له معاوية : (( إن ذهب رجل منهم يرد عليّ كلمة بتصديق أو
تكذيب فليضرباه بسيفهما )) .
ثـم
رقي المنبر فقال : (( هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ،
لايبرم أمر دونهم ولا يقضى إلا علـى مشورتهم . وإنهم قد رضوا وبايعوا يزيد ،
فبايعوه على اسم الله )) ] ([295])
.
ثم
قال سيّد قطب رحمه الله ، تعقيباً على هذا الكلام ، في هامش كتابه ذاك :
[ ابن
الأثير في حوادث سنة 56 هـ ونحن لا نحب أن نجزم بصدق مثل هذه الرواية ولكن تبرئة
للإسلام في ذاته نقول :
إنها
إن صحت كان هذا مخالفة أساسية لطبيعة المنهج الإسلامي في الحكم لا تبررها حجة ،
ولا يقوم لها عذر ! ] ([296])
.
فسيّد
قطب رحمه الله ، يدافع عن الإسلام ، ولا يحب أن يجزم بصدق مثل هذه الروايات ، ولكن
لو فُرض أنها صحيحة ، فماذا يكون موقف الموتورين ؟ !
هل
يطعنوا في الإسلام ، مخافة خدش بعض الصحابة ؟
أم
يدافعوا عن الإسلام ، ويخطئون تلك الممارسات ؟
وهذا
الثاني اختاره الشهيد سيّد قطب رحمه الله !
وهل
سيّد قطب رحمه الله ، عاش وعاصر عصر الصحابة ومَن بعدهم ، فكتب عنهم ما كتب ؟
أم
أنه اعتمد على أئمة وعلماء ثقات ، فيما كتبوا عن ذلك العصر ؟ !
عتاب
شديد لمؤرخينا
وقد
انتقد الحاقدون سيّداً رحمه الله ، وهو يدافع عن الإسلام ، ويدفع عنه كل ما يشم
منه رائحة النقص والعيب ، وأصاب غباره – أثناء ذلك الدفاع – بعض المرموقين
المحترمين ، استناداً إلى ما كتبه مؤرخينا العظام !
ينتقدون
سيّداً – وهو ضحية – ويتركون أساس ذلك الغبار ، وهم المؤرخون الأعلام !
وعتابنا
شديد للأئمتنا الكرام رحمهم الله تعالى ، لِما فتحوا باباً واسعاً ، ولج منه أهل
الأهواء والبِدَع ، للطعن في ديننا ، وطعن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم !
ولا
يقولنّ أحد : أنهم ذكروا الإسناد ، وأدّوا الأمانة ، وأبعدوا التهمة والشبهات عن
أنفسهم ! :
1 –
ليس كل الناس يعرفون الرجال والأسانيد والكذّابين ، حتى يأخذوا بأقوال الصادقين
الأثبات ، ويتركوا أقوال الضعفاء والكذّابين !
2 –
لماذا نقلوا تلك الأكاذيب في كتبهم أصلاً ؟ لولا أنهم جعلوا لها إحتمال الصدق ،
ولو واحداً في المائة ؟ !
وإلا
فليخبرونا : لماذا نقلوها ؟
فليوجه
الحاقدون سهامهم ، إلى أولئك الأئمة الأعلام ، وليس إلى الضحية سيّد قطب رحمه الله
!
3 –
ولقد تساهل أئمتنا رحمهم الله تعالى ، في هذا الباب ، تساهلاً عظيماً ، وظنوا أن
الدّين هو فقط في الحلال والحرام !
ولقد
كتب الخطيب البغدادي رحمه الله ، في كتابه ( الكفاية في علم الرواية ) ، فصلاً ،
تحت عنوان :
[ بَابُ التَّشَدُّدِ فِي أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ ،
وَالتَّجَوُّزِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ
قَدْ وَرَدَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ
إِلَّا عَمَّنْ كَانَ بَرِيئًا مِنَ التُّهْمَةِ ، بَعِيدًا مِنَ الظِّنَّةِ ،
وَأَمَّـا أَحَـادِيثُ التَّرْغِيبِ وَالْمَوَاعِظِ
وَنَحْـوُ ذَلِـكَ فَإِنَّـهُ يَجُـوزُ كَتْبُهَا عَنْ سَائِرِ الْمَشَايِخِ ] ([297]) .
ونقل عن الإمام
سفيان الثوري رحمه الله ، أنه قال :
[ لَا
تَأْخُذُوا هَذَا الْعِلْمَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إِلَّا مِنَ الرُّؤَسَاءِ
الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ
، وَلَا بَأْسَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَشَايِخِ ] ([298])
.
ونقل عن الإمام سفيان بن عُيَيْنَةَ رحمه الله :
[ لَا
تَسْمَعُوا مِنْ بَقِيَّةَ مَـا كَـانَ فِـي سُـنَّةٍ ، وَاسْمَعُوا مِنْـهُ مَـا
كَـانَ فِـي ثَوَابٍ وَغَيْرِهِ ] ([299])
.
ونقل عن الإمام
أبي زكريا العنبري رحمه الله ، أنه قال :
[ الْخَبَرُ
إِذَا وَرَدَ لَـمْ يُحَـرِّمْ حَلَالًا ، وَلَمْ يُحِلَّ حَرَامًـا ، وَلَمْ
يُوجِبْ حُكْمًا ، وَكَانَ فِي تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ ، أَوْ تَشْدِيدٍ أَوْ
تَرْخِيصٍ ، وَجَبَ الْإِغْمَاضُ عَنْهُ ، وَالتَّسَاهُلُ فِي رُوَاتِهِ ] ([300])
.
يقول : وجب الإغماض عنه ، والتساهل في رواته ! وجب ! !
ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، قوله :
[ إِذَا
رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ فِي
الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ تَشَدَّدْنَا فِي
الْأَسَانِيدِ ،
وَإِذَا رَوَيْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمَا لَا يَضَعُ حُكْمًا وَلَا
يَرْفَعُهُ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ
] ([301])
.
والأدهى من ذلك والأمَرّ ، أن الأئمة رحمهم الله ، كانوا
يعلمون ضعف وكذب الراوي ، ومع هذا كانوا يروون عنهم ، وينقلون أقوالهم في الفتن ،
التي حدثت في عصر الصحابة والتابعين !
قال الإمام إبن كثير رحمه الله تعالى :
[ وَلَوْلَا
أن ابن جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذَكَرُوهُ مَا سُقْتُهُ ،
وَأَكْثَرُهُ
مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى ، وَقَدْ كَانَ شِيعِيًّا ،
وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَارِيٌّ
حَافِظٌ ، عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ ،
وَلِهَذَا
يَتَرَامَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ المصنفين في هذا الشأن مِمَّنْ بَعْدَهُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ ] ([302])
!
ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذكروه ما
سُقْتُهُ ! !
يعني
أن الحافظ ابن كثير رحمه الله ، غير راضٍ عن تلك الروايات ، ولكنه ساقها لأن ابن
جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذكروها ! !
ويعترف
أن أكثرها من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى ، وقد كان شيعيّاً ، وهو ضعيف الحديث عند
الأئمة !
ويعترف
الحافظ ابن كثير رحمه الله ، أن لوط بن يحيى شيعيّ ، ضعيف الحديث عند الأئمة !
ولننظر
الآن ، ماذا تقول الشيعة ، عن لوط بن يحيى ، الذي ينقل عنه ابن جرير ، وابن كثير ،
والحفاظ ، والأئمة ، أخبار مقتل عثمان بن عفان ، والحسين ، و . . . رضي الله عنهم
؟ !
[ لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزدي
الغامدي أبو مخنف صاحب المقتل رحمه الله . . .
قال
العلامة المتتبع آية الله العظمى الشيخ عبد الله المامقاني رضوان الله عليه في
تنقيح المقال ما هذا لفظه :
عده
الشيخ في رجاله تارة من رجال وأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام تبعا للكشي فقال :
لوط بن يحيى الأزدي يكنى أبا مخنف : هذا ذكره الكشي من أصحاب أمير المؤمنين عليه
السلام ، وعندي أن هذا غلط ، لأن لوط بن يحيى لم يلق أمير المؤمنين عليه السلام
وكان أبوه يحيى من أصحابه عليه السلام انتهى .
وأخرى
من أصحاب الحسن عليه السلام قائلاً : لوط بن يحيى يكنى أبا مخنف ، وثالثة من أصحاب
الحسين عليه السلام بالعنوان المذكور في الحسن ، ورابعة من أصحاب الصادق عليه
السلام بقوله :
لوط
بن يحيى أبو مخنف الأزدي الكوفي صاحب المغازي انتهى .
وقال
في الفهرست : لوط بن يحيى الأزدي يكنى أبا مخنف من أصحاب أمير المؤمنين عليه
السلام على ما زعم الكشي ،
والصحيح
أن أباه كان من أصحابه عليه السلام وهو لم يلقه ، له كتب كثيرة في السير ، منها :
أخبار
مقتل الحسين عليه السلام وكتاب المختار بن أبي عبيدة الثقفي وكتاب مقتل محمد بن
أبي بكر ، وله كتاب مقتل عثمان ، وكتاب الجمل وكتاب صفين ، وغير ذلك من الكتب وهي
كثيرة . . . وله كتاب الزهراء عليها السلام . . .
وقال
النجاشي : لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سالم الأزدي الغامدي أبو مخنف شيخ أصحاب
الأخبار بالكوفة ووجههم وكان يسكن إلى ما يرويه ، وروى عن جعفر بن محمد ، وقيل أنه
روى عن أبي جعفر عليه السلام ولم يصح وصنف كتباً كثيرة
منها
كتاب المغازي ، كتاب السقيفة ، كتاب الردة ، كتاب فتوح الإسلام ، كتاب فتوح العراق
، كتاب فتوح خراسان ، كتاب الشورى ، كتاب قتل عثمان ، كتاب الجمل ، كتاب صفين ،
كتاب النهروان ، كتاب الحكمين ، كتاب الغارات ، كتاب مقتل أمير المؤمنين عليه
السلام ، كتاب مقتل الحسين عليه السلام ، كتاب قتل الحسن عليه السلام ، كتاب مقتل
الحجر بن عدي ، كتاب أخبار زياد ، كتاب أخبار المختار ، كتاب أخبار الحجاج ، كتاب
أخبار محمد بن أبي بكر ، كتاب مقتل محمد ، كتاب أخبار ابن الحنفية ، كتاب أخبار
يوسف بن عمير ، أخبار شبيب الخارجي ، كتاب أخبار مطرف ابن المغيرة ابن شعبة ، كتاب
أخبار آل مخنف بن سليم ، كتاب أخبار الحريث الأسدي الناجي وخروجه . . . ] ([303])
.
فتحقق
أن لوط بن يحيى ، أبو مخنف ، شيعي ، باتفاق الشيعة والسنة .
وأن
ابن كثير رحمه الله ، يقول عنه : ضعيف الحديث عند الأئمة ! !
فإذا
كـان كذلـك ، فلمـاذا رووا عنه في مواضيع حساسة جدا ، كانت سبباً كبيراً في تفرقة
الأمة الإسلامية ؛ عن الصراع بين الصحابة ، وآل بيت النبيّ r
، ومقتل الطائفتين ؟ !
ولاسيما
أن أئمتنا يعلمون ، أنه شيعيّ ، ضعيف الحديث ؟ !
هذا
ما يجيبنا عليه الحافظ ابن كثير ، فيثلج صدورنا ! !
قال
الحافظ ابن كثير رحمه الله ، في سبب الرواية عنه – بعد اعترافهم بتشيّعه وضعف
أحاديثه :
[ وَلَكِنَّهُ أَخْبَارِيٌّ حَافِظٌ ، عِنْدَهُ
مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ ] ! ! .
فبما
أنه عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره ، فلا بأس أن يؤخذ بكلامه في أشد
المواضيع حساسية ؛ بين السنة والشيعة ، ولو كان شيعيّاً ، ضعيف الحديث ! !
وانظر
إلى حسين الغفاري ، محقق كتاب ( مقتل الحسين ) ، لأبي مخنف لوط بن يحيى ، ماذا
يقول :
[ إنني منذ ما كنت مشتغلاً بجمع الأحاديث
والروايات الواردة في مقتل مولانا الشهيد أبي عبدالله الحسين روحي له الفداء بحيث
كان كل مَن نظر فيه وتأمل في مضامينه أغناه عن الرجوع إلى سائر المقاتل ،
وبينا
أنا كنت مشغولاً بذلك بان لي أن من جملة المقاتل التي استندوا إليها ونقلوا عنها
مقتل أبي مخنف المشهور بين الخواص والعوام ، ونقل مهرة الفن عنه في زبرهم القديمة
كمحمد بن جرير الطبري في كتابه ( تاريخ الأمم والملوك ) وابن أثير الجزري في كتابه
( الكامل ) وغيرهما .
وكيفية
النقل لا سيما في تاريخ الأمم والملوك يشعر بأن هذا الكتاب كان بين يدي محمد بن
جرير وهوينقل عنه بلا واسطة وأحياناً بوساطة هشام بن محمد بن السائب الكلبي ([304])
،
وحيثما
قابلت النسخة المطبوعة التي بأيدينا المسمى بمقتل أبي مخنف مع ما أورده الطبري
وغيره في كتبهم رأيت ما بينه وبينها اختلافاً كثيراً وتهافتاً بيناً بحيث يشعر
الظن بل الاطمينان بأن هذا المطبوع ليس المقتل المزبور بتمامه وإن كان فيه بعض ما
فيه ،
وهذا
الذي دعاني إلى التقاط ما أورده الطبري في تاريخه وجمعه وتبويبه .
مع ما
أعلق عليه من توثيق الرواة الموجودة في طريق النقل عن كتب العامة والخاصة ([305])
وصار
بحمد الله والمنة كتاباً جامعاً وسفراً شريفاً يزيل الشبه ويورث الاطمينان
والاعتقاد بأن ما ذكر في هذا الكتاب هو ما ذكره أبو مخنف وإن لم يكن جميع ما ذكره
المؤلف في كتابه
فللناظر
البصير والنقاد الخبير أن يغتنم هذه الفرصة وأن يجتني من أزهار ربيعه فإن للنقل في
الأخبار والروايات شرائط يلزم لكل ناقل رعايتها ، ويستجمعها صحة استنادها وصدورها
عن راويها
وهذا
المعنى بعون الله تعالى موجود فيما نقلنا وجمعنا ، وسميناه بمقتل أبي مخنف الصحيح
المنقول من تاريخ الأمم والملوك
ورجائي
من مولائي وسيدي أن يقبله بعين اللطف والرحمة وأن يجعله ذخراً لي ليوم لا ينفع فيه
مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ] ([306])
.
يعني
: أن المحقق الشيعي ، رأى في كتاب مقتل الحسين ، المطبوع عندهم ،
نقصاً ، وليس هو المقتل بتمامه ، وهذا ما دعاه أن يلتقط ما أورده الطبري في تاريخه
، عن أبي مخنف ، عن هذا الموضوع ، فجمعه
وبوّبه !
فعلى الناظر
البصير ، والنقاد الخبير ، أن يغتنم هذه الفرصة ، وأن يجتني من أزهار ربيعه .
وقد سمّاه : مقتل
أبي مخنف الصحيح المنقول من تاريخ الأمم والملوك !
4 – والآن لنتعرّف
على ( هشام بن محمد السائب الكلبي ) ، الذي يروي عن أبي مخنف ، واللذين اعتمد
عليهما ابن جرير الطبري ، وابن كثير ، وغيرهما ، في رواية تاريخنا ، عن الصراع بين
الصحابة ، وعن ما فعله بنو أميّة ! !
[ ابْنُ الكَلْبِيِّ أَبُو المُنْذِرِ هِشَامُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ السَّائِبِ
العَلاَّمَةُ ، الأَخْبَارِيُّ ، النَّسَّابَةُ الأَوْحَدُ ، أَبُو
المُنْذِرِ هِشَامُ ابْنُ الأَخْبَارِيِّ البَاهِرِ مُحَمَّدِ بنِ السَّائِبِ بنِ
بِشْرٍ الكَلْبِيُّ ، الكُوْفِيُّ ، الشِّيْعِيُّ ، أَحَدُ المَتْرُوْكِيْنَ كَأَبِيْهِ
.
رَوَى عَنْ أَبِيْهِ كَثِيْراً .
وَعَنْ: مُجَالِدٍ ، وَأَبِي مِخْنَفٍ لُوْطٍ ،
وَطَائِفَةٍ .
حَدَّثَ عَنْهُ : ابْنُهُ ؛ العَبَّاسُ ، وَمُحَمَّدُ
بنُ سَعْدٍ ، وَخَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطٍ ، وَابْنُ أَبِي السَّرِيِّ
العَسْقَلاَنِيُّ ، وَأَحْمَدُ بنُ المِقْدَامِ العِجْلِيُّ .
قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ : إِنَّمَا كَانَ صَاحِبَ
سَمَرٍ وَنَسَبٍ ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَداً يُحَدِّثُ عَنْهُ
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَغَيْرُهُ : مَتْرُوْكُ
الحَدِيْثِ .
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ : رَافِضِيٌّ ، لَيْسَ بِثِقَةٍ
.
وَقَدِ اتُّهِمَ فِي قَوْلِهِ : حَفِظْتُ القُرْآنَ فِي
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ .
وَكَذَا قَوْلِهُ : نَسِيْتُ مَا لَمْ يَنْسَ أَحَدٌ :
قَبَضْتُ عَلَى لِحْيَتِي ، وَالمِرْآةُ بِيَدِي ، لأَقُصَّ مَا فَضَلَ عَنِ القَبْضَةِ
، فَنَسِيْتُ ، وَقَصَّيْتُ مِنْ فَوقِ
القَبْضَةِ .
وَلَهُ : كِتَابُ ( الجَمْهَرَةِ ) فِي النَّسَبِ ،
وَكِتَابُ ( حِلْفِ الفُضُوْلِ ) وَكِتَابُ
(المُنَافَرَاتِ) ، وَكِتَابُ ( الكُنَى ) ، وَكِتَابُ (
مُلُوْكِ الطَّوائِفِ ) ، وَكِتَابُ ( مُلُوْكِ كِنْدَةَ ) .
وَتَصَانِيْفُهُ جَمَّةٌ ، يُقَالُ : بَلَغَتْ مائَةً
وَخَمْسِيْنَ مُصَنَّفاً .
وَكَانَ أَبُوْهُ
مُفَسِّراً ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُوثَقُ بِهِ أَيْضاً ، وَفِيْهِ رَفْضٌ
كَابْنِهِ ] ([307])
.
وانظر إلى الحافظ
ابن كثير رحمه الله ، وهو يقول :
[ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى
- وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ - أن قتال على للخوارج يَوْمَ
النَّهْرَوَانِ . . . ] ([308])
.
ثم انظر كرة أخرى ، فانظر ماذا نقل ، وعن مَن ؟ ! :
[ ثم
إن ابن زياد قتل معهما أناسا آخرين ، ثُمَّ بُعِثَ بِرُءُوسِهِمَا إِلَى يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ إلى الشام ،
وكتب
له كتابا صورة مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِمَا وَقَدْ كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَبْلَ
أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْبَصْرَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ أَهْلَهَا خُطْبَةً بَلِيغَةً وَوَعَظَهُمْ
فِيهَا وَحَذَّرَهُمْ وأنذرهم من الاختلاف والفتنة والتفرق ،
وذلك
لما رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ وَأَبُو مِخْنَفٍ عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ
زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ . قال :
بعث
الحسين مع مولى له يقال له سلمان كِتَابًا إِلَى أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
فِيهِ :
أَمَّا
بعد فان الله اصطفى محمدا عَلَى خَلْقِهِ وَأَكْرَمَهُ بِنُبُوَّتِهِ ،
وَاخْتَارَهُ لِرِسَالَتِهِ ، ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَيْهِ وَقَدْ نَصَحَ لِعِبَادِهِ
وَبَلَّغَ مَا أرسل به ،
وكنا
أهله وأولياءه وورثته وأحق الناس به وبمقامه فِي
النَّاسِ ،
فَاسْتَأْثَرَ
عَلَيْنَا قَوْمُنَا بِذَلِكَ ، فَرَضِينَا وَكَرِهْنَا الْفُرْقَةَ ،
وَأَحْبَبْنَا الْعَافِيَةَ ،
وَنَحْنُ
نَعْلَمُ أَنَّا أَحَقُّ بِذَلِكَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْنَا مِمَّنْ
تَوَلَّاهُ ،
وَقَدْ
أَحْسَنُوا وَأَصْلَحُوا ، وَتَحَرَّوُا الْحَقَّ فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَغَفَرَ
لَنَا وَلَهُمْ ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ،
فَإِنَّ
السُّنَّةَ قَدْ أُمِيتَتْ ، وَإِنَّ الْبِدْعَةَ قد أحييت ، فتسمعوا قولي وتطيعوا
أمرى ، فان فعلتم أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَمْ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ .
وَعِنْدِي
فِي صِحَّةِ هَذَا عَنِ الْحُسَيْنِ نَظَرٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطَرَّزٌ
بِكَلَامٍ مَزِيدٍ مِنْ بَعْضِ رواة الشيعة ([309])
.
قال :
فكل من قرأ ذلك مِنَ الْأَشْرَافِ كَتَمَهُ إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الْجَارُودِ
فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ دَسِيسَةٌ مِنِ ابْنِ زِيَادٍ فَجَاءَ بِهِ إِلَيْهِ ،
فَبَعَثَ خَلْفَ الرَّسُولِ الَّذِي جاء به من حسين فضرب عنقه ،
وصعد
عبيد الله ابن زياد الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ :
أَمَّا
بعد فو الله مَا بِي تُقْرَنُ الصَّعْبَةُ ، وَمَا يُقَعْقَعُ لِي بالشنان ، وإني
لنكال لمن عاداني ، وسهام لمن حاربني ، أنصف « القارة » من رماها ،
يَا
أَهْلَ الْبَصْرَةِ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّانِي الْكُوفَةَ وَأَنَا
غَادٍ إِلَيْهَا الْغَدَاةَ ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكَمْ عُثْمَانَ بْنَ
زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ،
وإياكم
والخلاف والإرجاف ، فو الّذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَئِنْ بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ
مِنْكُمْ خِلَافٌ لَأَقْتُلَنَّهُ وَعَرِيفَهُ وَوَلِيَّهُ ،
وَلَآخُذَنَّ
الْأَدْنَى بالأقصى ، حتى يستقيم لي الأمر ، ولا يكن فيكم مخالف ولا مشاقق ، أَنَا
ابْنُ زِيَادٍ أَشْبَهْتُهُ مِنْ بَيْنِ مَنْ وطئ الحصى ، ولم يتنزعنى شَبَهُ
خَالٍ وَلَا عَمٍّ .
ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البصرة ومعه مسلم ابن عَمْرٍو
الْبَاهِلِيُّ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ .
قَالَ
أَبُو مِخْنَفٍ عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ عن عون بن جُحَيْفَةَ قَالَ :
كَانَ مَخْرَجُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ . . . ] ([310])
.
إن هشام بن الكلبي ، ولوط بن يحيى أبو مخنف ، الرافضيين
الشيعيّين ، ليصولان ويجولان ، في كتب تاريخنا ، ويمليان مذهبهما على أئمتنا
الثقات ؛ كابن جرير الطبري ، وابن كثير ، وغيرهما !
إنّ الحافظ ابن كثير رحمه الله ، ينقل الكلام عن هِشَامُ
بْنُ الْكَلْبِيِّ وَأَبُو مِخْنَفٍ حول ما
قاله الحسين t : [ وكنا أهله
وأولياءه وورثته وأحق الناس به وبمقامه فِي
النَّاسِ ،
فَاسْتَأْثَرَ
عَلَيْنَا قَوْمُنَا بِذَلِكَ ، فَرَضِينَا وَكَرِهْنَا الْفُرْقَةَ ،
وَأَحْبَبْنَا الْعَافِيَةَ ،
وَنَحْنُ
نَعْلَمُ أَنَّا أَحَقُّ بِذَلِكَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْنَا مِمَّنْ
تَوَلَّاهُ ] ! ! !
وماذا تقول الشيعة أكثر من هذا ؟ !
ولكن الحافظ ابن كثير قد طمأننا فقال ، بعد نقله لذاك
الكلام عن الحسين t :
[ وَعِنْدِي
فِي صِحَّةِ هَذَا عَنِ الْحُسَيْنِ نَظَرٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطَرَّزٌ
بِكَلَامٍ مَزِيدٍ مِنْ بَعْضِ رواة الشيعة ] .
هكذا قال ، ثم
استمر في نقله ، وكأن شيئاً لم يكن !
وقال ابن كثير ، أيضاً :
[ وَأَقْبَلَ
ابْنُ زِيَادٍ يَشْتُمُهُ وَيَشْتُمُ حُسَيْنًا وعليا، ومسلم ساكت لا يكلمه رواه
ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رُوَاةِ الشِّيعَةِ . ثُمَّ
قَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ : إِنِّي قَاتِلُكَ . قَالَ : كَذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ
. . . ] ([311])
.
وقال أيضاً :
[ وَقَالَ
أَبُو مِخْنَفٍ : قَالَ أَبُو جَنَابٍ يَحْيَى بْنُ أبى خيثمة عَنْ عَدِيِّ بْنِ
حَرْمَلَةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ عَبْدِ الله ابن سليم والمنذر بْنِ الْمُشْمَعِلِّ
الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا :
خَرَجْنَا
حَاجَّيْنَ مِنَ الكوفة فقدمنا مَكَّةَ فَدَخَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَإِذَا
نَحْنُ بِالْحُسَيْنِ وابن الزُّبَيْرِ قَائِمَيْنِ . . .
وَقَالَ
أَبُو مِخْنَفٍ : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ الْوَالِبِيُّ عَنْ عُقْبَةَ
بْنِ سَمْعَانَ .
قَالَ
: لَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ اعْتَرَضَهُ رُسُلُ عَمْرِو بن سعيد-
يَعْنِي نَائِبَ مَكَّةَ- عَلَيْهِمْ . . .
قَالَ
أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَاهِلِيِّ . قَالَ : لَمَّا صَبَّحَتِ
الْخَيْلُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ :
اللَّهمّ
أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ ، وَرَجَائِي في كل شدة ، وأنت لي من كل أمر نزل
ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ ، فَكَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ ، وَتَقِلُّ
فِيهِ الْحِيلَةُ ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ ، ويشمت فيه العدو ، فأنزلته بك .
. .] ([312])
.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله ، كلاماً أثلج صدورنا ،
جزاه الله خيراً ، قال :
[ وَهَذِهِ
صِفَةُ مَقْتَلِهِ [ يقصد : الحسين ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَأْخُوذَةً مِنْ كَلَامِ
أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ لَا كَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ التَّشَيُّعِ مِنَ
الْكَذِبِ الصَّرِيحِ وَالْبُهْتَان ] .
فاستبشرنا
بكلامه هذا خيراً ، يا الله مَن هو من أئمة هذا الشأن ، وليس من أهل التشيّع ، وهو
يذكر مقتل الحسين رضي الله عنه ، بعيداً عن الكذب الصريح والبهتان ؟ !
فلقد
أتحفنا رحمه الله ، وما جعلنا ننتظر كثيراً ، فقال بعد كلامه ووعده ذاك ، مباشرة :
[ قَالَ
أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي جَنَابٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ عَبْدِ الله
بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ بْنِ
الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا :
أَقْبَلَ
الْحُسَيْنُ فلما نزل شرف قَالَ لِغِلْمَانِهِ وَقْتَ السَّحَرِ :
اسْتَقَوْا
مِنَ الْمَاءِ فَأَكْثَرُوا ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى . . . ] .
إي والله هكذا قال !
وأنا سأنقل كلامه كله مع بعض ، من غير قطع بينه ، حتى
تتضح الصورة بكامله
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى :
[ وَهَذِهِ
صِفَةُ مَقْتَلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَأْخُوذَةً مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ
هَذَا الشَّأْنِ لَا كَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ التَّشَيُّعِ مِنَ الْكَذِبِ
الصَّرِيحِ وَالْبُهْتَانِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي جَنَابٍ عَنْ عَدِيِّ
بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا : أَقْبَلَ
الْحُسَيْنُ فلما نزل شرف قَالَ لِغِلْمَانِهِ وَقْتَ السَّحَرِ :
اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ فَأَكْثَرُوا ، ثُمَّ سَارُوا
إِلَى . . . ] ([313])
.
فالسباب ، والشتائم ، ويا ابن فلانة ، ومصيرك إلى النار ، و . . . وكل هذه المخازي
التي تروى – بزعمهم – بين الصحابة ، وفي مقتل الحسين ، من بني أمية ، و . . . و .
. . إلخ .
كل هذه البلايا ، مصدرها هنا ؛ من هشام الكلبي ، وأبي
مخنف لوط بن يحيى ، من كتب تاريخنا ، ومن أئمتنا الذين وثقنا بهم !
ولا ينتهي عجبي من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله ، وهو
يزعم أنه يذكر مقتل الحسين t ، من أئمة هذا الشأن ، ومـن مصادر موثوقة ؛ بعيداً عن كذب الشيعة
الصريح ، وبهتانهم .
وإذا به يبدأ بأبي مخنف لوط بن يحيى الشيعي ! !
والكذب عند الشيعة بفلس أحمر ! وفي أي موضوع ؟ في موضوع
مقتل الحسين بأيدي بني أمية ! !
فلا أعلم تفسيراً لموقف الحافظ ابن كثير ، هذا ؟ !
هل هو ذهول منه عن حال أبي مخنف ، أم ماذا ؟ وهو الذي
أقرّ بأن أبا مخنف شيعي ، ضعيف الحديث عن الأئمة ! ! وما رأي الشيعة في بني أمية ؟
وقال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله :
[ فما يكن في
كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه ، أو يستشنعه سامعه ،
من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ، ولا معنى في الحقيقة ، فليعلم انه لم يؤت
في ذلك من قبلنا ، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا ، وإنا إنما أدينا ذلك على
نحو ما أدي إلينا ] ([314])
.
ولماذا لم يستنكره هو ، ولم يسنشنعه ، بل رواه وأثبته في
كتابه ؟
أليس من أجل أنه جعل له احتمال الصدق والحقيقة ؟
ولقد قال رحمه الله تعالى :
[ وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ
فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي سَبَبِ مَسِيرِ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى عُثْمَانَ
وَنُزُولِهِمْ ذَا خَشَبٍ أُمُورًا كَثِيرَةً ، مِنْهَا مَا قَدْ تقدم ذكريه ،
وَمِنْهَا
مَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ كَرَاهَةً مِنِّي لِبَشَاعَتِهِ ] ([315])
.
فكره هنا ، رحمه الله ، ما لم يذكره . فهل يعني ذلك : أن
ما ذكره في كتابه عن الصحابة ، وعن بني أمية ، وعن مقتل الحسين ، لم يكرهه ، ولم
يكن بشعاً عنده رحمه الله ؟
5 – سأنقل مجموعة من الروايات ، التي رواها أئمتنا
الثقات ، في كتبهم التاريخية ، ثم نعلق عليها ، إن شاء الله .
ولكن قبل نقلي لتلك الروايات ، أودّ أن أقول :
أ – لا يقولنّ أحـد : أن هـذا الخبر غير صحيح ، بل هـو
كذب ؛ فإن في سنده فلان ، وقد قال عنه فلان كذا وكذا .
لا يقولنّ أحد ذلك ، فأنا أعلم أنه كذب ، وليس قصدي من
نقله إقراره ، والإعتراف به .
بل الغاية من نقله هي ، أن أقول :
لماذا نقل أئمتنا العظام الثقات ، هذه الروايات التافهة
في كتبهم ؟ !
وأنا بظني : لولا أنهم جعلوا لها إحتمال الصدق والحقيقة
، ولو إحتمالاً ضعيفاً ، لما نقلوها !
ب – ليعلم أهل السنة ، من أين أوتوا ؟
إن الطعن في الصحابة ، جاء من هذه الروايات ، التي تركها
لنا أئمتنا الثقات !
إن الشيعة يحتجّون لباطلهم ، على أهل السنة ، بهذه
الروايات الموجودة في كتب الثقات عندنا !
والأئمة الثقات – عندنا – أصحاب هذه النقولات ، ظنوا
أنهم قد خرجوا من العهدة ، وأدَّوا الأمانة ، ولا شيء عليهم ، ماداموا :
1 – ذكروا السند .
وإن كنا نحن لا نعتمد على أبي مخنف ، ولا نحترمه ، ولا
كرامة ، ولا نأخذ برواياته .
ولكن للإمام ابن جرير الطبري ، وابن كثير ، وغيرهما من
الأئمة الثقات ، رأي آخر .
بل إنهم جلّ اعتمـادهم فـي فتنة مقتل عثمان بن عفان ،
والحسين ، رضي الله عنهم ، وكذلك أخبار بني أمية ، واستيلائهم على الحكم ، هو على
الكلبي وأبي مخنف !
وهل يعلم الناس كلّهم ، مَن هو الكلبي ، ومَن هو أبو
مخنف ؟ !
وعذرهم : ( وَلَكِنَّهُ
أَخْبَارِيٌّ حَافِظٌ ، عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ
غَيْرِهِ ،
وَلِهَذَا
يَتَرَامَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ المصنفين في هذا الشأن مِمَّنْ بَعْدَهُ ) ! ! !
2 – أن هذه الروايات لاتحلّ ولا تحرّم !
وأي حرام هو أعظم ، من اتّهام حملة القرآن والسنة ،
والظن السيء بهم ، وروايات أخبار عنهم ؛ لا تليق بمقاماتهم الفارعة ، ولا تدانيها
؟ !
والآن لننظر في هذه الروايات ، التي نقلها أئمتنا الثقات
، في كتبهم ، وتركونا نواجه بها أعداء الصحابة ؛ وهم يحتجون بها علينا في معركتنا
معهم :
1 - [ عن محمد بن
شهاب الزهري قال قلت لسعيد بن المسيب هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان ما كان شأن
الناس وشأنه ولم خذله أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم )
فقال
قتل عثمان مظلوما ومن قتله كان ظالما ومن خذله كان معذورا قلت وكيف كان ذلك
قال
إن عثمان لما ولي كره ولايته نفر من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن عثمان
كان يحب قومه فولي الناس اثنتي عشرة سنة وكان كثيرا ممن يولي بني أمية ممن لم يكن له مع
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صحبة
فكان
يجيئ من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكان عثمان يستعتب
فيهم فلا يعزلهم
فلما
كان في الست حجج الأواخر استأثر بني عمه فولاهم وما أشرك معهم
وأمرهم بتقوى الله
ولى
عبد الله بن أبي سرح مصر فمكث عليها سنين
فجاء
أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه
وقد
كان قبل ذلك من عثمان هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر
فكانت
بنو هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لحال ابن مسعود وكانت بنو غفار وأحلافها ومن
عصب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها وكانت بنو مخزوم قد خنقت على عثمان لحال عمار بن
ياسر
وجاء
أهل مصر يشكون ابن أبي سرح فكتب إليه كتابا يتهدده فيه فأبى ابن أبي سرح أن يقبل
ما نهاه عنه عثمان وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان من أهل مصر ممن كان أتى عثمان
فقتله
فخرج
من أهل مصر سبعمائة رجل فنزلوا المسجد وشكوا إلى أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)
في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم
فقام
طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان بن عفان بكلام شديد
وأرسلت
عائشة إليه فقالت تقدم إليك أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسألوك عزل هذا
الرجل فأبيت إلا واحدة فهذا قد قتل منهم رجلا فأنصفهم من عاملك
ودخل
عليه علي بن أبي طالب وكان متكلم القوم فقال إنما يسائلونك رجلا مكان رجل وقد ادعوا قبله دما فاعزله عنهم
واقض بينهم فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه
فقال
لهم اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر فقال
استعمل عليه محمد بن أبي بكر فكتب عهده وولاه
وخرج
معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح فخرج محمد ومن
معه
فلما
كان على مسيرة ثلاث من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطا كأنه
رجل يطلب أو يطلب
فقال
له أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما قصتك وما شأنك هارب أو طالب فقال لهم أنا
غلام أمير المؤمنين وجهني
إلى عامل مصر
فقال
له رجل هذا عامل مصر قال ليس هذا أريد وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر
فبعث
في طلبه رجلا فأخذه فجئ به فقال غلام من أنت فأقبل مرة يقول أنا غلام أمير
المؤمنين ومرة يقول أنا غلام مروان
حتى
عرفه رجل أنه لعثمان فقال له محمد إلى من أرسلت قال إلى عامل مصر قال بماذا قال
برسالة قال معك كتاب قال لا ففتشوه فلم يجدوا معه كتابا وكانت معه إداوة قد يبست
فيها شئ يتقلقل فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا الإداوة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى
ابن أبي سرح
فجمع
محمد من كان عنده من المهاجرين والأنصار وغيرهم ثم فك الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه
إذا أتاك فلان ومحمد وفلان فاحتل قتلهم وأبطل كتابه وقر على عملك حتى يأتيك رأيي
واحبس من يجئ إلي يتظلم منك ليأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله
فلما
قرءوا الكتاب فزعوا وأزمعوا فرجعوا إلى المدينة وختم محمد الكتاب بخواتيم نفر
كانوا معه ودفع الكتاب إلى رجل منهم وقدموا المدينة فجمعوا طلحة والزبير وعليا
وسعدا ومن كان من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم فضوا الكتاب بمحضر منهم
وأخبروهم بقصة الغلام وأقرؤهم الكتاب
فلم
يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وأبي ذر
وعمار حنقا وغيظا
وقام
أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد إلا وهو مغتم لما
قرأوا الكتاب
وحاصر
الناس عثمان وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم فلما رأى ذلك علي بعث إلى
طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كلهم بدري
ثم
دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير فقال له علي هذا الغلام غلامك قال نعم
قال والبعير بعيرك قال نعم قال فأنت كتبت هذا الكتاب قال لا وحلف بالله ما كتبت
هذا الكتاب ولا أمر به ولا علم به
قال
له علي فالخاتم خاتمك قال نعم قال فكيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك لا
تعلم به فحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر
قط
وأما
الخط فعرفوا أنه خط مروان وشكوا في أمر عثمان وسألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى
وكان مروان عنده في الدار
فخرج
أصحاب محمد من عنده غضابا وشكوا في أمره وعلموا أن عثمان لا يحلف بباطل
إلا
أن قوما قالوا لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحثه ونعرف
حال الكتاب وكيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب محمد بغير حق فإن
يكن عثمان كتبه عزلناه وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في
أمر مروان
ولزموا
بيوتهم وأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان وخشي عليه القتل وحاصر الناس عثمان ومنعوه
الماء . . . فبلغ عليا
أن عثمان يراد قتله فقال إنما أردنا منه مروان فأما قتل عثمان فلا . . . ] ([316])
.
وهل تقول الشيعة أكثر من هذا ؟ !
2 – [ حَدَّثَنَا
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبِي قَالَ : سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ :
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُذَيْنَةَ الْعَبْدِيَّ
لَمَّا بَلَغَهُ قُدُومُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ رَكِبَ فَرَسَهُ فَتَلَقَّاهُمَا
قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَا الْبَصْرَةَ ، فَإِذَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ السَّاجِدُ مِنْ عِبَادَتِهِ. . .
فَقَـالَ لَهُ :
مَنْ أَنْتَ ؟ قَـالَ: أَنَـا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ. قَالَ : وَاللَّهِ إِنْ
كُنْتُ لَأُحِبُّ أَنْ أَلْقَاكَ ، قَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ :
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُذَيْنَةَ ،
فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ .
قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنَّ دَمَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَثْلَاثٍ ،
ثُلُثٌ عَلَى صَاحِبَةِ الْخِدْرِ - يَعْنِي عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - فَلَمَّا سَمِعَتْهُ يَقُولُ ذَلِكَ شَتَمَتْهُ وَأَسَاءَتْ
لَهُ الْقَوْلَ ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّتَاهُ ،
وَثُلُثٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ،
وَثُلُثٌ عَلَى صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ
مَيْمَنَةَ الْقَوْمِ - يَعْنِي أَبَاهُ طَلْحَةَ - فَلَمَّا سَمِعَهُ أَبُوهُ
أَقْبَلَ إِلَيْهِ سَرِيعًا وَقَالَ : وَيْحَكَ هَلْ ثَابَ رَجُلٌ بِأَفْضَلَ مِنْ
نَفْسِهِ
قَالَ ابْنُ دَأْبٍ ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ خُلَيْفٍ :
سَأَلْتُ سَعْدًا عَنْ قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَقَالَ :
قُتِلَ بِسَيْفٍ سَلَّتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ،
وَشَحَذَهُ طَلْحَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَسَمَّهُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قُلْتُ : فَالزُّبَيْرُ ؟ قَالَ : فَسَكَتَ وَأَشَارَ
بِيَدِهِ وَأَمْسَكْنَا ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَا
وَلَكِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَغَيَّرَ
وَتَغَيَّرَ، وَأَسَاءَ وَأَحْسَنَ ، وَلَمْ يَجِدْ مُتَقَدِّمًا
فَإِنْ كُنَّا أَحْسَنَّا فَقَدْ أَحْسَنَّا وَإِنْ
كُنَّا أَسَأْنَا فَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ . . .
] ([317])
.
3 – [ حَدَّثَنَـا
سُلَيْمَانُ بْنُ رَجَاءٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَيْسَرَةَ ، عَنْ غِيَاثٍ الْبَكْرِيِّ ،
قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَتْلِ عُثْمَانَ هَلْ شَهِدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
قَالَ : « نَعَمْ ، لَقَدْ شَهِدَهُ ثَمَانِمِائَةٍ »
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، قَالَ :
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاقَفَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالسُّوقِ
فَقَالَ الْمِسْوَرُ : وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ .
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : « إِنَّمَا تُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوهَا هِرَقْلِيَّةً ، كُلَّمَا غَضِبْتُمْ عَلَى مَلِكٍ قَتَلْتُمُوهُ
يُرِيدُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ »
] ([318])
.
4 – [ حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ
، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ ، قَالَ :
أَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا يَدْعُوهُ ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ –
قَالَ : وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَسَعْدٌ وَالزُّبَيْرُ وَمُعَاوِيَةُ
- فَحَمِدَ اللَّهَ مُعَاوِيَةُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ :
أَنْتُمْ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِيرَةُ الْأَرْضِ ،
وَوُلَاةُ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَلَا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ
غَيْرُكُمْ ،
اخْتَرْتُمْ صَاحِبَكُمْ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ وَلَا
طَمَعٍ ، وَقَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ وَوَلَّى عُمْرُهُ ، وَلَوِ انْتَظَرْتُمْ بِهِ
الْهَرَمَ ، وَكَـانَ قَرِيبًا - مَعَ أَنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ عَلَى
اللَّهِ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ ذَلِكَ ،
وَلَقَدْ فَشَتْ قَالَةٌ خِفْتُهَا عَلَيْكُمْ ، فَمَا
عَتَبْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهَذِهِ يَدِي بِهِ لَكُمْ ،
وَلَا تُطْمِعُوا النَّاسَ فِي أَمْرِكُمْ ، فَوَاللَّهِ
لَئِنْ طَمِعُوا فِي ذَلِكَ لَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا أَبَدًا إِلَّا إِدْبَارًا .
فَقَالَ عَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَالَكَ
وَلِذَاكَ لَا أُمَّ لَكَ .
فَقَالَ : دَعْ أُمِّي فَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرِّ
أُمَّهَاتِكُمْ ، قَدْ أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَجِبْنِي فِيمَا أَقُولُ لَكَ .
فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : « صَدَقَ
ابْنُ أَخِي ، إِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنِّي وَعَمَّا وُلِّيتُ ،
إِنَّ
صَاحِبَيَّ اللذَيْنِ كَانَا قَبْلِي طَلَّقَا أَنْفُسَهُمَا ، وَكَانَ ذَلِكَ
مِنْهُمَا احْتِسَابًا ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُعْطِي قَرَابَتَهُ ،
وَأَتَانِي رَهْطٌ أَهْلُ عَيْلَةٍ وَقِلَّةِ مَعَاشٍ ،
فَبَسَطْتُ يَدِي فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَكَانِي مِمَّا أَقُومُ بِهِ ،
وَرَأَيْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِي ،
فَإِنْ رَأَيْتُمْ ذَلِكَ خَطَأً فَرُدُّوهُ وَأَمْرِي
لِأَمْرِكُمْ تَبٌّ » .
قَالُوا : أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ .
قَالَ : « أَعْطَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ
أُسَيْدٍ ، وَمَرْوَانَ »
- وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَعْطَى مَرْوَانَ
خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَابْنَ أُسَيْدٍ خَمْسِينَ أَلْفًا –
قَالَ : « فَرُدُّوا مَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ .
فَرَضُوا وَقَنَعُوا وَخَرَجُوا رَاضِينَ »
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
نُعَيْمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ
الْأَعْمَشِ ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، قَالَ :
قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
لَوْ تَنَحَّيْتَ ، فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنْ أُصِيبَ اتَّهَمُوكَ .
فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا قَاصُّ
كَذَا وَكَذَا ، مَا لَكَ وَمَا هُنَاكَ ؟ .
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : « لَا
تَشْتُمْ أُمِّي فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِدُونِ أُمَّهَاتِكُمْ »
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ ،
قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ يَزِيدَ ، عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ :
إِنِّي لَمَعَ أَبِي فِي الْمَنْزِلِ حِينَ أَتَاهُ
رَسُولُ عُثْمَانَ يَدْعُوهُ ، فَقَامَ يَلْبَسُ ثَوْبَهُ ثُمَّ أَتَاهُ رَسُولٌ
ثَانٍ ، ثُمَّ أَتَاهُ رَسُولٌ ثَالِثٌ ،
فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَإِذَا عُثْمَانُ
جَالِسٌ وَعِنْدَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَعُيُونُ الْأَنْصَارِ فِي قَدْمَةٍ
قَدِمَهَا مُعَاوِيَةُ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ مَجْلِسِي ،
فَتَنَحَّيْتُ نَاحِيَةً ،
فَتَكَلَّمَ عُثْمَانُ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ كَانَ
يَنْتَظِرُ أَبِي ،
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : « إِنَّكُمْ
نَقِمْتُمْ عَلَيَّ رِجَالًا اسْتَعْمَلْتُهُمْ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ ، فَوَلُّوهَا
مَنْ أَحْبَبْتُمْ .
وَنَقِمْتُمْ عَلَيَّ هَذَا الْحِمَى ، وَإِنِّي
نَظَرْتُ فَرَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْ إِبِلٍ مُعَدَّةٍ
لَهُمْ لِلنَّائِبَةِ تَنُوبُ ، وَلِلْأَمْرِ يَحْدُثُ ، فَحَمَيْتُ لَهَا حِمًى ،
وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَبَحْتُهَا ،
وَنَقِمْتُمْ
عَلَيَّ إِيوَائِي الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْكَافِرِ ،
وَإِنَّ الْحَكَمَ تَابَ فَقَبِلْتُ تَوْبَتَهُ ،
وَلَعَمْرِي لَوْ كَانَتْ ثَمَّتَ بِأَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلُ رَحِمِهِ بِي لَآوَيَاهُ ،
وَنَقِمْتُمْ
عَلَيَّ أَنِّي وَصَلْتُهُ بِمَالِي ، وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا مَالِي ،
أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا طَلْحَةُ هَلْ أَخَذْتُ لَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِكُمْ
دِرْهَمًا ؟ » قَالَ : اللَّهُمَّ لَا .
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّكُمْ
مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ إِلَّا قَدْ
كَانَ فِي عَشِيرَتِهِ مَنْ هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ ، بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ
فَأَسْرَعْتُمْ إِلَى اللَّهِ ، وَأَبْطَأُوا عَنْهُ ، فَسُدْتُمْ عَشَائِرَكُمْ
حَتَّى إِنَّهُ لَيُقَالُ بَنُو فُلَانٍ ، رَهْطُ فُلَانٍ ، وَإِنَّ هَذَا
الْأَمْرَ ثَابِتٌ لَكُمْ مَا اسْتَقَمْتُمْ ، فَإِنِّي قَدْ أَرَاكُمْ وَمَا
تَصْنَعُونَ
وَإِنِّي وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَتْرُكُوا شَيْخَنَا
هَذَا يَمُوتُ عَلَى فِرَاشِهِ لَيَدْخُلَنَّ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِنْكُمْ .
فَقَالَ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَمَا أَنْتَ وَهَذَا يَا ابْنَ اللَّخْنَاءِ ([319])
؟
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَهْلًا
أَبَا حَسَنٍ ، فَوَاللَّهِ مَا هِيَ بِأَخَسِّ نِسَائِكُمْ ، وَلَقَدْ أَسْلَمَتْ
وَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعَتْهُ
وَصَافَحَتْهُ ، وَمَا رَأَيْتُهُ صَافَحَ امْرَأَةً قَطُّ غَيْرَهَا
قَالَ : فَنَهَضَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
مُغْضَبًا ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : «اجْلِسْ» ، قَالَ :
لَا أَجْلِسُ ، قَالَ : « عَزَمْتُ عَلَيْكَ » ، فَأَبَى ، فَأَخَذَ عُثْمَانُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ ، فَتَرَكَهُ مِنْ يَدِهِ ، وَخَرَجَ ] ([320])
.
وإني لا أكتم سرّاً ، لقد رأيت من هذه الروايات : أن
معاوية t ، أكثر حكمة واتّزاناً ، من الخليفة الراشد عليّ بن أبي طالب t ، فمعاوية يتكلّم بحكمة ورويّة لحل تلك المشكلة ، وعليّ بن أبي
طالب ، يغضب ويشتم أمّه ، وهو لا يغضب !
وأنا لا أساوي التراب ، الذي مشى عليه عليّ بن أبي طالب t ، ولكن هكذا شعرتُ !
5 – [ فإن كان
شبل ابن معبد فهو بجلي من بجيلة ، وهو الذي عزل على يده عثمان أبا موسى فيما ذكر
مصعب وخليفة ، وولاها عبد الله بن عامر ،
وذلك أنه دخل على عثمان حين لم يكن عنده غير أموي ،
فَقَالَ : ما لكم معشر قريش ، أما فيكم صغير تريدون أن ينبل ، أو فقير تريدون غناه
، أو خامل تريدون التنويه باسمه ،
علام أقطعتم هذا الأشعري العراق يأكلها خضما !
فَقَالَ عثمان : ومن لها ؟
فأشاروا بعبد الله بن عامر، وهو ابن ست عشرة سنة فولاه
حينئذ .
وإن كان شبل بن حامد فإنما يروي عن عبد الله ابن مالك
الأوسي ، وقد بيناه في « التمهيد » ، وليست لشبل بن حامد صحبة ] ([321])
.
6 – [ كَانَ
سَبَبُ اجْتِمَاعِهِمْ بِمَكَّةَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ خَرَجَتْ إِلَيْهَا ، وَعُثْمَانُ
مَحْصُورٌ ، ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ تُرِيدُ الْمَدِينَةَ .
فَلَمَّا
كَانَتْ بِسَرِفَ لَقِيَهَا رَجُلٌ مِنْ أَخْوَالِهَا مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ
لَهُ عَبِيدُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، وَهُوَ ابْنُ أُمِّ كِلَابٍ ، فَقَالَتْ لَهُ :
مَهْيَمْ ؟
قَالَ
: قُتِلَ عُثْمَانُ وَبَقَوْا ثَمَانِيًا .
قَالَتْ
: ثُمَّ صَنَعُوا مَاذَا ؟
قَالَ
: اجْتَمَعُوا عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ .
فَقَالَتْ
: لَيْتَ هَذِهِ انْطَبَقَتْ عَلَى هَذِهِ إِنْ تَمَّ الْأَمْرُ لِصَاحِبِكَ !
رُدُّونِي رُدُّونِي ! فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ تَقُولُ : قُتِلَ
وَاللَّهِ عُثْمَانُ مَظْلُومًا ، وَاللَّهِ لَأَطْلُبَنَّ بِدَمِهِ !
فَقَالَ
لَهَا : وَلِمَ ؟ وَاللَّهِ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَالَ حَرْفَهُ لَأَنْتِ ،
وَلَقَدْ كُنْتِ تَقُولِينَ : اقْتُلُوا نَعْثَلًا فَقَدْ كَفَرَ ] ([322])
.
7 – [ ونَعْثَل
: رَجُلٌ مِنْ أَهل مِصْر كَانَ طَوِيلَ اللِّحْية ، قِيلَ : إِنه كَانَ يُشْبِه
عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛
هَذَا قَوْلُ أَبي عُبَيْدٍ ، وشاتِمُو عُثْمَانَ ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يُسَمُّونَهُ نَعْثَلًا .
وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ : أَنه كَانَ يَخْطُبُ ذَاتَ
يَوْمٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَنَالَ مِنْهُ ، فَوَذَأَهُ ابنُ سَلام فاتَّذَأَ ،
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : لَا يَمْنَعَنَّك مَكَانُ ابْنِ
سَلَامٍ أَن تَسُبَّ نَعْثَلًا فإِنه مِنْ شِيعته ،
وَكَانَ أَعداءُ عُثْمَانَ يُسَمُّونَهُ نَعْثَلًا
تَشْبِيهًا بِالرَّجُلِ المِصْريّ الْمَذْكُورِ آنِفًا .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : اقْتُلُوا نَعْثَلًا قَتَل
اللهُ نَعْثَلًا تَعْنِي عُثْمَانَ ،
وَكَانَ هَذَا مِنْهَا لَمَّا غاضَبَتْه وذهبتْ إِلى
مَكَّةَ ،
وكان عثمان إِذا نِيلَ مِنْهُ وَعِيبَ شبِّه بِهَذَا
الرَّجُلِ المِصْريّ لِطُولِ لِحْيَتِهِ ] ([323])
.
8 – [ ( النَّعْثَل
، كَجَعْفَرٍ ) الذِّيْخُ ، وَهُوَ ( الذَّكَرُ من الضِّباعِ ) .
وقَالَ اللَّيْثُ : النَّعْثَلُ : ( الشَّيْخُ
الأَحْمَقُ ) .
ونَعْثَلٌ : ( يَهُودِيٌّ كَانَ بِالمَدِينَة ) ، قِيلَ :
بِهِ شُبِّهَ عُثْمانُ ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ، كَمَا فِي التَّبْصِير .
وقيل : نَعْثَلٌ ( رَجُلٌ لِحْيانِيٌّ ) ، أَي : طَوِيلُ
اللِّحْيَةِ مِن أَهْلِ مِصر ، ( كانَ يُشَبَّهُ بِه عُثْمانُ ، رَضِي اللهُ
تَعَالى عَنْهُ ، إِذا نِيْلَ مِنْهُ ) ، لِطُولِ لِحْيَتِهِ ، وَلَم يَكُونُوا
يَجِدُون فِيهِ عَيْبًا غيرَ هَذَا ؛ هَذَا قولُ أَبي عُبَيْدٍ .
وَفِي حَدِيث عَائِشَة
: " اقْتُلُوا نَعْثَلاً ، قَتَلَ اللهُ نَعْثَلاً " يَعْنِي
عُثْمانَ ،
وَكانَ هَذَا مِنْها لَمَّا غاضَبَتْه وَذَهَبَتْ إِلى
مَكَّةَ ] ([324])
.
9 – [ إِنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا انْتَهَتْ إِلَى سَرِفَ رَاجِعَةً فِي
طَرِيقِهَا الى مكة ، لقيها عبد بن أُمِّ كِلابٍ - وَهُوَ عَبْدُ بْنُ أَبِي
سَلَمَةَ ، يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ –
فَقَالَتْ لَهُ : مَهْيَمْ ؟
قَالَ : قَتَلُوا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ،
فَمَكَثُوا ثَمَانِيًا ،
قَالَتْ : ثُمَّ صَنَعُوا مَاذَا ؟
قَالَ : أَخَذَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالاجْتِمَاعِ ،
فَجَازَتْ بِهِمُ الأُمُورُ إِلَى خَيْرِ مُجَازٍ ، اجْتَمَعُوا عَلَى عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ
فَقَالَتْ : وَاللَّهِ لَيْتَ أَنَّ هَذِهِ انْطَبَقَتْ
عَلَى هَذِهِ إِنْ تَمَّ الأَمْرُ لِصَاحِبِكَ ! رُدُّونِي رُدُّونِي،
فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ تَقُولُ : قُتِلَ
وَاللَّهِ عُثْمَانُ مَظْلُومًا ، وَاللَّهِ لأَطْلُبَنَّ بِدَمِهِ ،
فَقَالَ لَهَا
ابْنُ أُمِّ كِلابٍ : ولم ؟ فو الله إِنَّ أَوَّلُ مَنْ أَمَالَ حَرْفَهُ لأَنْتِ !
وَلَقَدْ كُنْتِ تَقُولِينَ : اقْتُلُوا نَعْثَلا فَقَدْ كَفَرَ ] ([325])
.
10 – [ كتب [ عليّ بن أبي طالب ] لعائشة رضي الله عنها :
أما بعد ، فإنك قد خرجت من بيتك تزعمين أنك تريدين
الإصلاح بين المسلمين ، وطلبت بزعمك دم عثمان وأنت بالأمس تؤلبين عليه فتقولين في
ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوا نعثلا فقد كفر ، قتله الله ،
واليوم تطلبين بثأره ، فاتقي الله وارجعي إلى بيتك
وأسبلي عليك سترك قبل أن يفضحك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فلما قرؤوا الكتابين عرفوا أنه على الحق وعند ذلك خرج
طلحة والزبير رضي الله عنهما على فرسين وخرج إليهما علي كرم الله وجهه ، ودنا كل
واحد من الآخر .
فقال لهما عليّ : لعمري لقد أعددتما خيلا ورجالا وسلاحا ،
فاتقيا الله ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً
[ النحل : الآية 92 ]
ألم تكونا : أخويّ في الله تحرمان دمي وأحرم دمكما ؟
فقال له طلحة رضي الله عنه : ألبت الناس على عثمان ،
فقال له علي كرم الله وجهه : أنتما خذلتما ، حتى قتل ،
فسلط الله اليوم على أشرنا على عثمان ما يكره ، ثم
توافقوا على الصلح ، وقتل من كان له دخل في قتل عثمان رضي الله عنه ] ([326])
.
11 – [ فَخَرَجَ
ابْنُ عَبَّاسٍ ، فمر بعائشة في الصلصل ،
فقالت : يا بن عَبَّاسٍ ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ -
فَإِنَّكَ قَدْ أُعْطِيتَ لِسَانًا إِزْعِيلا - أَنْ تُخَذِّلَ عَنْ هَذَا
الرَّجُلِ ، وَأَنْ تُشَكِّكَ فِيهِ النَّاسَ ، فَقَدْ بَانَتْ لَهُـمْ بَصَـائِرُهُمْ
وَأَنْهَجَتْ ، وَرَفَعَتْ لَهُمُ الْمَنَارَ ، وَتَحَلَّبُوا مِنَ الْبِلْدَانِ
لامر قد حم ] ([327])
.
12 – [ قالوا :
ولما اشتد الأمر على عثمان أمر مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فأتيا
عائشة وهي تريد الحج فقالا لها :
لو أقمت فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل ،
فقالت : قد قربت ركابي وأوجبت الحج على نفسي ووالله لا
أفعل ،
فنهض مروان وصاحبه ومروان يقول :
وحرق قيس علي البلاد . . . حتى إذا اضطرمت أجذما
فقالت عائشة : يا مروان وددت والله أنه في غرارة من
غرائري هذه وأني طوقت حمله حتى ألقيه في البحر .
ومر عبد الله بن عباس بعائشة وقد ولاه عثمان الموسم وهي
بمنزل من منازل طريقها
فقالت : يا ابن عباس إن الله قد آتاك عقلا وفهما وبيانا
فإياك أن ترد الناس عن هذا الطاغية ] ([328])
.
13 – [ وخرجت
عائشة رضي الله تعالى عنها باكية تقول : قتل عثمان رحمه الله ،
فقال لها عمار بن ياسر : أنت بالأمس تحرضين عليه ثم أنت
اليوم تبكينه ] ([329])
.
14 – [ وقال له
طلحة : إنك قد أحدثت أحداثا لم يكن الناس يعهدونها ،
فقال عثمان : ما أحدثت حدثا ولكنكم أظناء تفسدون علي
الناس وتؤلبونهم ] ([330])
.
15 – [ قال عبد
الملك بن مروان : لولا أن أمير المؤمنين مروان أخبرني أنه هو قتل طلحة ما تركت من
ولد طلحة أحدا إلا قتلته بعثمان ،
فهو كان أشد الناس عليه حتى قتل ] ([331])
.
16 – [ وكان
الزبير وطلحة قد استوليا على الأمر ،
ومنع طلحة عثمان من أن يدخل عليه الماء العذب ،
فأرسل علي إلى طلحة وهو في أرض له على ميل من المدينة أن
دع هذا الرجل فليشرب من مائه ومن بئره - يعني بئر رومة - ولا تقتلوه من العطش ،
فأبى ،
فقال علي : لولا أني قد آليت يوم ذي خشب أنه إن لم يطعني
لا أرد عنه أحدا لأدخلت عليه الماء ] ([332])
.
17 – [ وكانت
عائشة تؤلب على عثمان ] ([333])
.
18 – [ لما
رَأَى الناس مَا صنع عُثْمَان كتب من بِالْمَدِينَةِ من أصحاب النبيّ r إِلَى من بالآفاق مِنْهُمْ - وكانوا قَدْ تفرقوا فِي الثغور :
إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا فِي سبيل اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ ، تطلبون دين محمد r ، فإن دين مُحَمَّد قَدْ أفسد من خلفكم وترك ،
فهلموا فأقيموا
دين مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فأقبلوا من كل أفق حَتَّى قتلوه
وكتب عُثْمَان إِلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي
سرح عامله عَلَى مصر- حين تراجع الناس عنه ، وزعم أنه تائب - بكتاب فِي الَّذِينَ
شخصوا من مصر ، وكانوا أشد أهل الأمصار عَلَيْهِ :
أَمَّا بَعْدُ ، فانظر فلانا وفلانا فاضرب أعناقهم إذا
قدموا عَلَيْك ،
فانظر فلانا وفلانا فعاقبهم بكذا وكذا - مِنْهُمْ نَفَرٌ
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ومنهم قوم من
التابعين ] ([334])
.
19 – [ لَمَّا
كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاثِينَ كَتَبَ أَصْحَابُ رسول الله r بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ : أَنْ أَقْدِمُوا ، فَإِنْ كُنْتُمْ
تُرِيدُونَ الْجِهَادَ فَعِنْدَنَا الْجِهَادُ .
وَكَثُرَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ ، وَنَالُوا مِنْهُ
أَقْبَحَ مَا نِيلَ مِنْ أحد ، وأصحاب رسول الله r يَرَوْنَ
وَيَسْمَعُونَ ، لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ يَنْهَى وَلا يَذُبُّ إِلا نُفَيْرٌ ،
مِنْهُمْ ، زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَأَبُو أُسَيْدٍ
السَّاعِدِيُّ ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَاجْتَمَعَ
النَّاسُ ،
وَكَلَّمُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ .
فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ ، فَقَالَ : النَّاسُ وَرَائِي
، وَقَدْ كَلَّمُونِي فِيكَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ . . . ] ([335])
.
20 – [ دخل أبو
الطفيل عامر بن واثلة الكناني على معاوية فقال له معاوية أبا الطفيل
قال نعم
قال ألست من قتلة عثمان ؟
قال لا ولكني ممن حضره فلم ينصره
قال وما منعك من نصره ؟
قال لم ينصره المهاجرون والأنصار ] ([336])
.
21 – [ أَشْرَفَ
عُثْمَانُ عَلَى الَّذِينَ حَاصَرُوهُ فَقَالَ : يَا قَوْمِ لا تَقْتُلُونِي . . .
فَلَمَّا أَبَوْا قَالَ : اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا
وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا وَلا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا .
قَالَ مُجَاهِدٌ فَقَتَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ
فِي الْفِتْنَةِ .
وَبَعَثَ يَزِيدُ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِشْرِينَ
أَلْفًا فَأَبَاحُوا الْمَدِينَةَ ثَلاثًا يَصْنَعُونَ مَا شَاءُوا
لِمُدَاهَنَتِهِمْ ] ([337])
. [ لِمُدَاهَنَتِهِمْ ] . يعني : أهل
المدينة !
22 – [ أن عثمان ابن
عَفَّانَ لَمَّا حُصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُوَّةٍ فِي الطَّمَارِ فَقَالَ :
أَفِيكُمْ طَلْحَةُ ؟
قَالُوا
: نَعَمْ .
قَالَ
: أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا آخَى رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ آخَى بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهِ ؟
فَقَالَ
طَلْحَةُ : اللَّهُمَّ نَعَمْ .
فَقِيلَ
لِطَلْحَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : نَشَدَنِي . وَأَمْرٌ رَأَيْتُهُ أَلا أَشْهَدُ
بِهِ ؟ ] ([338])
.
23 –
[ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ كَمْ كَانَ الْقَتْلَى يَوْمَ الْحَرَّةِ ؟
قَالَ : سَبْعُمِائَةٌ مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ،
وَوُجُوهِ الْمَوَالِي وَمِمَّنْ لَا أعرف مِنْ حُرٍّ
وَعَبْدٍ وَغَيْرِهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ ] ([339])
.
24 – [ فَلَمَّا
رَأَى عُثْمَانُ مَا قَدْ نَزَلَ بِهِ ، وَمَا قَدِ انْبَعَثَ عَلَيْهِ مِنَ
النَّاسِ ، كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ بِالشَّامِ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، أَمَّا بَعْدُ ،
فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ قَدْ كَفَرُوا وَأَخْلَفُوا الطَّاعَةَ ، وَنَكَثُوا الْبَيْعَةَ
،
فَابْعَثْ إِلَيَّ مِنْ قِبَلِكَ مِنْ مُقَاتِلَةِ
أَهْلِ الشَّامِ عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ .
فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابُ تَرَبَّصَ بِهِ ،
وَكَرِهَ إِظْهَارَ مُخَالَفَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ r ، وَقَدْ عَلِمَ اجْتِمَاعَهُمْ ] ([340])
.
25 – [ عبد
الرحمن بن عديس :
بمهملتين مصغرا ، ابن عمرو بن كلاب بن دهمان ، أبو محمد
البلوي .
قـال ابن سـعد : صحب النبيّ صلـى اللَّه عليه وسلّم ،
وسمع منه ، وشهد فتح مصر ، وكان فيمن سار إلى عثمان .
وقال ابن البرقيّ والبغوي وغيرهما : كان ممن بايع تحت
الشجرة .
وقال ابن حاتم عن أبيه : له صحبة . وكذا قال عبد الغني
بن سعيد ، وأبو علي بن السكن ، وابن حبان .
وقال ابن يونس : بايع تحت الشجرة ، وشهد فتح مصر، واختطّ
بها ، وكان من الفرسان ، ثم كان رئيس الخيل التي سارت من مصر إلى عثمان في الفتنة
] ([341])
.
26 – [ عَمْرُو
بْنُ الْحَمِقِ
بْنِ الْكَاهِنِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْقَيْنِ بن رزاح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو من خزاعة .
صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونزل الكوفة
وشهد مع علي . رضي الله عنه. مشاهده .
وكان فيمن سار إلى عثمان وأعان على قتله .
ثم قتله عبد الرحمن ابن أم الحكم بالجزيرة ] ([342])
.
27 – [ عمرو بن
الحمق بن كاهل ، أو كاهن ، الخزاعي الكعبي :
صحابي ، من قتلة عثمان .
سكن الشام ، وانتقل إلى الكوفة ثم كان أحد الرؤوس الذين
اشتركوا في قتل عثمان
وشهد مع علي
حروبه . وكان على خزاعة يوم صفين ] ([343])
.
28 – [ قال
المسعوديّ في أيّام عثمان اقتنى الصّحابة الضّياع والمال
فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف
ألف درهم
وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائتا ألف دينار
وخلّف إبلا وخيلا كثيرة
وبلغ الثّمن الواحد من متروك الزّبير بعد وفاته خمسين
ألف دينار وخلّف ألف فرس وألف أمة
وكانت غلّة طلحة من العراق ألف دينار كلّ يوم ومن ناحية
السّراة أكثر من ذلك
وكان على مربط عبد الرّحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير
وعشرة آلاف من الغنم وبلغ الرّبع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا
وخلّف زيد بن ثابت من الفضّة والذّهب ما كان يكسر
بالفئوس غير ما خلّف من الأموال والضّياع بمائة ألف دينار
وبنى الزّبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة
والإسكندريّة
وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيّد داره بالمدينة وبناها
بالجصّ والآجر والسّاج
وبنى سعد بن أبي وقّاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع
فضاءها وجعل على أعلاها شرفات
وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصّصة الظّاهر
والباطن
وخلّف يعلى بن منبّه خمسين ألف دينار وعقارا وغير ذلك ما
قيمته ثلاثمائة ألف درهم
إنتهى كلام المسعوديّ .
فكانت مكاسب القوم كما تراه ولم يكن ذلك منعيّا عليهم في
دينهم إذ هي أموال حلال لأنّها غنائم وفيوء ولم يكن تصرّفهم فيها بإسراف إنّما
كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم
وإن كان الاستكثار من الدّنيا مذموما فإنّما يرجع إلى ما
أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد
وإذا كان حالهم قصدا ونفقاتهم في سبل الحقّ ومذاهبه كان
ذلك الاستكثار عونا لهم على طرق الحقّ واكتساب الدّار الآخرة
فلمّا تدرّجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة
الملك الّتي هي مقتضى العصبيّة كما قلناه وحصل التّغلّب والقهر كان حكم ذلك الملك
عندهم حكم ذلك الرّفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التّغلّب في باطل ولا
خرجوا به عن مقاصد الدّيانة ومذاهب الحقّ
] ([344])
.
تعليقات
1 – أنا لم أستقص الروايـات ، ولم أستوعبهـا ، بل أتيتُ
ببعض النمـاذج منها فقط ، والذي يريد أن يجمع أسفاراً ، من مثل تلك الروايات ، من
مصادرنا ، وكتب أئمتنا الثقات فسوف يفعل ،
وتكل يداه من كثرة نقلها !
2 – أنا لم أنقل من كتب ومصادر الشيعة ، بل كلّ تلك
الروايات ، نقلتها ، وهي موجودة ، في كتب أئمتنا التقات الأثبات !
3 – من خلال هذه المصادر ، التي نقلت عنها ، ولجت الشيعة
، واحتجّت علينا في الطعن في الصحابة ، وشتمهم وتنقيصهم ، واتّهامهم بالكذب ، وحبّ
الدنيا ، و . . . و . . . و إلخ !
4 – أنا غير مهتمٍّ – هنا – بالحكم علـى تلك الروايات
والأخبار ، بالكذب والبهتان ، بقدر ما مركّز على موضوع آخر ، وهو : لماذا نقل
أئمتنا تلك الروايات في كتبهم ؟ !
ماذا استفادوا ؟ وماذا نستفيد – نحن – من تلك الروايات ؟
هل يؤمنون بها فعلاً ، ويصدّقونها ، ووضعوا لها احتمال
الصدق والحقيقة ، ولهذا أثبتوها ؟ ؟ ! !
هل أرادوا أن يغوصوا بالشيعة ، ويهووا بهم أكثر في
الهاوية ؟
هل أرادوا إدخال الشك في قلوب أهل السنّة ، حول الصحابة
؟ أم ماذا أرادوا ؟ !
ثم ماذا تركوا للشيعة ؟ !
5 – ألم يكن في وسع أئمتنا وعلمائنا الثقات أولئك رحمهم
الله تعالى ، أن يقفوا ، عند بعض القواعد الثابتة الراسخة ، فلا يتعدّوها ؟ وهي :
أ – قول الله تعالى : (
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ([345])
.
نحن لا نحاسب يوم القيامة ، عن علمنا أو جهلنا ، بما حدث
بين الصحابة من القتال والمشاكل ، ولا تدخل أعمالهم تلك في صحائفنا ، ولا دور لها
في ميزان حسناتنا أو سيئاتنا . ولا نصيب لها في تحمّل أعبائنا وتكاليف حياتنا في
هذه الدنيا !
ب – الإعتماد على الآيات البيّنات ، وأحاديث صحيحي
البخاري ومسلم ، في فضائلهـم وخيريتهـم ، وأنهـم أفضل الناس وخيرهم ، من آدم عليه
السلام ، إلى يوم القيامة ، باستناء الأنبياء والمرسلين .
والذين جاءوا من بعدهم ، لو أنفق أحدهم مثل جبل أُحد
ذهباً ، ما بلغ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصيفَه ([346])
، لأنهم جاهدوا في سبيل الله تعالى ، مع رسول الله r ، أحوج ما
كان الإسلام إلى تأييدهم ونُصرتهم !
لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ
علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ([347])
.
( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ
مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) ([348])
.
( لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ
مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ([349])
.
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ ) ([350])
.
ج – أن الصحابة رضوان الله عليهم ، غير معصومين ، ولكن
ليس معنى ذلك أنهم يكذبون على الله ورسوله أبداً ، كما زعم أعداؤهم !
قال الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى :
[ وَالْقَاعِدَةُ
الْكُلِّيَّةُ فِي هَذَا أَنْ لَا نَعْتَقِدَ أَنَّ أَحَدًا مَعْصُومٌ بَعْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
بَلِ
الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُ الْخُلَفَاءِ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ ،
وَالذُّنُوبُ
الَّتِي تَقَعُ مِنْهُمْ ، قَدْ يَتُوبُونَ مِنْهَا ،
وَقَدْ
تُكَفَّرُ عَنْهُمْ بِحَسَنَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ ،
وَقَدْ
يُبْتَلَوْنَ أَيْضًا بِمَصَائِبَ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِهَا ،
وَقَدْ
يُكَفَّرُ عَنْهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَكُلُّ
مَا يُنْقَلُ عَنْ عُثْمَانَ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ ذَنْبًا أَوْ خَطَأً .
وَعُثْمَانُ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ حَصَلَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْمَغْفِرَةِ مِنْ
وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ،
مِنْهَا
سَابِقَتُهُ وَإِيمَانُهُ وَجِهَادُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ طَاعَاتِهِ .
وَقَدْ
ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهِدَ لَهُ ،
بَلْ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ .
وَمِنْهَا
أَنَّهُ تَابَ مِنْ عَامَّةِ مَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ ،
وَأَنَّهُ
ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ عَظِيمٍ ، فَكَفَّرَ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ ، وَصَبَرَ
حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا مَظْلُومًا .
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُكَفِّرُ اللَّهُ
بِهِ الْخَطَايَا .
وَكَذَلِكَ
عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : مَا تُنْكِرُهُ الْخَوَارِجُ وَغَيْرُهُمْ
عَلَيْهِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ ذَنْبًا أَوْ خَطَأً ،
وَكَانَ
قَدْ حَصَلَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْمَغْفِرَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ .
مِنْهَا
سَابِقَتُهُ وَإِيمَانُهُ وَجِهَادُهُ ،
وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ طَاعَتِهِ ،
وَشَهَادَةِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْجَنَّةِ .
وَمِنْهَا
أَنَّهُ تَابَ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ وَنَدِمَ عَلَيْهَا ،
وَمِنْهَا
أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا شَهِيدًا ] ([351])
.
د – حسن الظن بالصحابة رضوان الله عليهم ، وأنّهم أفضل
منّا بلا أدنى شكّ ، ومواقفهم في الفتنة التي حدثت بينهم ، أفضل بما لا يُقاس ، من
مواقفنا نحن ، لو حدثت بيننا تلك الفتنة .
( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ
مُبِينٌ ) ([352])
.
[ وفيه تنبيه
على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه ، أن يبنى الأمر فيها على الظنّ لا على
الشك .
وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن الخير :
هذا إِفْكٌ مُبِينٌ هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته . كما
يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال .
وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له ،
وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بأخوات ] ([353])
.
فأي كلام سيء نسمعه عن مسلم – فضلاً عن خير الناس ؛
الصحابة – أو فعل سيء ، يُنسب إليهم ، وجب قياس ذلك على أنفسنا .
فإن كنّا لا نقبله على أنفسنا ، فهُم أولى بذلك وأحقّ ؛
لأنهم – الصحابة رضوان الله تعالى عليهم – خيرُ منّا وأفضل ، وبالتالي فهُم أبعد
من ذلك السوء وأطهر .
6 – تلك الروايات السيئة ؛ التي نقلها أئمتنا الثقات ،
عن صحابة رسول الله r ، هي من مرويات الروافض ؛ الذين هم أكذب أهل الأهواء ، وأشدّ
الناس عداوة للصحابة وزوجات النبيّ r ، ولا سيما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم ، جميعاً .
فكيف نقلوا عنهم تاريخ الصحابة ، وكيف قبلوا بذلك ؟
هذا ما لا ينتهي منه العجب !
7 – فهل ترى – في تلك الروايات ، التي نقلها أئمتنا
الأعلام – أيّ ذكرٍ لعبد الله بن سبأ ؟
وهذا ما قاله أحد خصوم الصحابة !
فكان الواجب – على أئمتنا الثقات – أن يقفوا عند تلك
القواعد الثابتة الراسخة !
فالشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، هو من ضحايا تلك
الروايات ؛ التي رواها أئمتنا وعلماؤنا الثقات الأثبات !
ومع كل تلك الروايات السيئة ، لم يفقد الشهيد سيّد قطب
رحمه الله ، توازنه ، بل ظنّ الخير بالصحابة الكرام ، وعلم فضلهم وقدرهم العظيم ،
فأطلق على جيلهم ؛ ( جيلٌ قرآنيٌّ فريد ) ؛ واعتقد أن هذا الجيل ، لم يتكرر عبر
العصور والدهور ، وهو كذلك !
ومع هذا فإذا أُطلِق سهمين : أحدهما : لقلب الإسلام
وروحه .
وثانيهما : للصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
فسيّد قطب غير مخيّر – في هذه الحالة – أن يفتدي بروحه
وسمعته ، لردّ السهم الموجّه للإسلام !
ولا يقولنّ أحد : أن الإثنين سواء – ولا سيما في الحالة
التي تحدث عنها سيّد قطب رحمه الله ، في كتابه ( العدالة الإجتماعية في الإسلام )
!
ولقد قال أحد الموتورين : إن الملائكة إستحت من عثمان بن
عفان ، ولكن سيّد قطب لا يستحي منه !
هلّا وجّه هذا الجاهل ، طعنه للأئمة الأعلام الثقات ،
الذين نقلوا تلك الفظائع ، التـي لا تعيب الخليفة الراشد ؛ عثمان بن عفان وحده ،
بل تعيب معه : علي بن أبي طالب ، وطلحة ، والزبير ، وعائشة ، وكثير من المهاجرين
والأنصار ، و . . . و إلخ ، رضي الله
تعالى عنهم ؟
ولقد استند الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، في كلامه المتّزن
، عن الخليفة عثمان بن عفان ، إلى الروايات التي نقلها : ابن جرير الطبري ، وابن
كثير ، وابن أثير ، وابن عساكر ، والبلاذري ، وابن خلدون ، وابن شبة ، وابن حجر
العسقلاني ، وابن عبد البر ، و . . . إلخ .
وسيّد قطب يدافع عن الإسلام – في كتابه ( العدالة
الإجتماعية في الإسلام ) – أمام أعداء الله ورسوله ، وهو يردّ المطاعن عنه .
تلك المطاعن التي تقول : إنّ الحكم في الإسلام وراثي ،
والحكّام فيه يؤثرون أقاربهم على الناس ، ويتصرفون في أموال الدولة بغير عدالة ،
والحكام متنعّمون ؛ يتمتعون بملذّات الدنيا ، و . . . إلخ ذلك الهراء .
والجميع يعلمون أنّ الخلفاء الثلاثة ؛ أبي بكر ، وعمر ،
وعليّ ، يتشابهون في حياتهم ، ومعيشتهم ، وزهدهم .
وأنّ الخليفة عثمان بن عفان ، لا يشبههم – بحكم غناه
الحلال الطيّب – في حياته ومعيشته ، رضوان الله عليهم أجمعين .
أو قل : هكذا نقلوا لنا الأئمة الأعلام ؛ الطبري وابن
كثير و . . . إلخ .
وإن كـان الخليفة الراشـد عثمـان بن عفان t ، – في الحقيقة – زاهداً ، ورعاً ، يطعم الناس طعام الأمراء ، وفي
بيته يأكل الخلّ والزيت .
ولسنا – هنا – في معرض الردّ على الشبهات ، حول الخليفة
الراشد عثمان بن عفان t ، حيث إن الأئمة الاعلام الأثبات ، أرهقونا بتلك المرويات الرديئة
الضخمة !
مَن حفر حفرة لأخيه وقع هو فيها
إن هذا الموضوع ، الذي نحن بصدده ، يتحمّل الكثير من
الكلام ، ولا نريد أن نطيل أكثر من هذا ، فكلّ ذلك الذي قلناه ، إنما هو إشارات ،
وومضات ، لا غير .
ولكن من باب : رمتني بدائها وانسلّت . نقول :
إنّ الذي يتباكى على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ،
ويتّهم سيّد قطب رحمه الله ، بأنه : يطعن قي الصحابة – هكذا – فقد قُبِض عليه
متلبّساً ، بالفعل الذي اتّهم الشهيد سيّد قطب به ! :
نقل أحد خصوم ربيع المدخلي ، أقوالاً مذمومة عنه ، فقال
:
1 - قال ربيع المدخلي في شريط ( الشباب ومشكلاته ) في
محاولة منه لتأصيل علمانية سلفية على طريقة تدعو لفصل السلفية عن السياسة : (( والله كان صحابة فقهاء ، لكن في أمور
السياسة ما ينجحون ، ما يستطيعون في الإذاعة ، والإشاعة ، يقعون في فتنـة ، قضية
الإفـك طاح فيها كثير من الصحابة ، فتنة ، ليش ؟ ! ! ! ما هم مثل أبي بكر ، مثل عمر ، مثل
علي هؤلاء وقعوا ! ! ! )) .اهـ كلام المدخلي .
فقال في ردّه على المدخلي ([354])
:
[ قلتُ:
في هذا الكلام من هذا الجاهل طعونات خبيثة
في صحابة رسول الله تتمثل في التالي :
1/ قول ربيع " أن الصحابة لا ينجحون
في السياسة .."
الرد :
ومن ينجح في السياسة - أيها الطعان - إن لم
ينجح فيها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين قادوا الفتوحات وبنوا الدولة
الإسلامية التي ملكت مشارق الأرض ومغاربها .
من ينجح في السياسة إن لم ينجح فيها
الصحابة ؟ أترى لا ينجح الصحابة في السياسة وينجح فيها ولاة أمرك الذين أفسدوا
شباب الأمة بقنوات العهر والعلمانية التي يقومون بتمويلها كالأم بي سي - روتانا -
والعربية - ! !
2/ قول ربيع عن الصحابة الكرام " . . يقعون
في فتنة . . . قضية الإفك طاح فيها كثير من الصحابة فتنة . . . " أنتهى كلامه
الخبيث .
الرد:
أولا تعبيره بكلمة " طاح فيها الصحابة
" فيه سوء أدب مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانيا: كذبه في قوله " وقع فيها كثير
من الصحابة " وهذا القول ليس بصحيح ، فمن خاض فيها هم عدد قليل جدا من
الصحابة رضي الله عنهم وهم على عدد الأصابع ، إذاً لا يجوز التعبير بكثرة وقوع
الصحابة في قصة الإفك . . ] .
وأنا أقول :
أنظر إلى قوله : [ ما هم مثل أبي بكر ، مثل عمر ، مثل علي هؤلاء
وقعوا ] .
فأين هو عثمان بن عفان t ، بين عمر ، وبين عليّ ؟
سبحان الله نفس التهمة ، التي رمى بها الشهيد
سيّد قطب رحمه الله !
وقال أيضاً :
[ * قال ربيع المدخلي في شريط ( العلم والدفاع
عن الشيخ جميل الرحمن )
قال :
(( كان عبد الله ، وأُبيّ بن كعب ، وزيد بن
ثابت ، وابن مسعود ، وغيرهم ، وغيرهم من فقهاء الصحابة وعلمائهم ما يصلحون للسياسة
! ! ! ، معاوية ما هو عالم ، ويصلح أن يحكم الدنيا كلها ، )) . اهـ كلام المدخلي ] .
ثم ردّ عليه بقوله :
[ واشتمل كلام هذا الطّعان في صحابة رسول
الله على عدة أمور :
1/ قوله عن الصحابة المذكورين بأنهم
" لا يصلحون للسياسة ! "
ومن يصلح لها إن لم يصلح لها الصحابة ،
وهل تظن الصحابة متكالبين على كراسيهم كحال حكامك الذي تتعاون مع مخابراتها كما شهد
عليك بذلك يحيى الحجوري في أنك حاولت أن تربطه بالمخابرات السعودية وكما تفعل اليوم
مع أتباعك في البلدان العربية من تعيين أمراء عليهم !
2/ طعن ربيع المدخلي في الصحابي الجليل
معاوية بن أبي سفيان على طريقة الروافض :
قال ربيع عنه " معاوية ما هو عالم
! ! ! "
قلتُ:
ويُكذّب كلام هذا الجاهل شهادة ترجمان القرآن
ابن عبّاس رضي الله عنه في معاوية بأنه ( فقيه ) .
فقد قيـل لابن عباس هل لـك فـي أمير المؤمنين
فإنـه مـا أوتر إلا بواحدة ؟ قـال : ( إنه فقيه ) .
انظر فتح الباري لابن حجر (7 /103 ) فهذا
ابن عباس ( رضي الله عنه ) يصرح بأن معاوية ( رضي الله عنه ) فقيه ]
.
وقال أيضاً :
[ * ربيع المدخلي يصف المهاجرين والأنصار
بالعنصرية وبأن لهم أغراضا دنيئة ! ! :
قال المُتعصب الجاهل ربيع المدخلي في كتاب
" التعصب الذميم وآثاره " ص(31) ط/دار السلف ، وهو عبارة عن شريط مفرّغ
فهو فاشل لا يصلح للتأليف وجل كتاباته أشرطة مفرغة أو مقالات على الانترنت تجمع
وتطبع ليتكثّر بها أمام أتباعه ،
قال المدخلي وهو يصف ما جرى بين الغلام
المهاجري ، والغلام الأنصاري -رضي الله عنهما- وقد استنجد كل منهما بقومه ، فقال
أحدهما : يا للمهاجرين ، وقال الآخر : يا للأنصار ،
فقال المدخلي: (( ( يا للمهاجرين، يا للأنصار ) ولكن ما هو
الحافز الدافع إليها ؟ التعصب والعنصرية ، فالرسول سماها جاهلية ، ووصفها بأنها
منتنة ، ودعا إلى الألفة والمحبة والتناصر على الحق ))
( فاللفظ الشريف النبيل إذا استُغل لغرض
دنيء يكون ذماً لقائله . . ) .اﻫ كلام المدخلي .
* وقال ربيع المدخلي – وهو يذكر أن فرقة
عليّ ( رضي الله عنه ) أقرب الطائفتين إلى الحق ، وأن طائفة معاوية فيها مجتهدون
مخطئون ، ثم قال :
(( انطلقت ألسنة الفريقين باللعن والتكفير ،
وقد تخلل الطائفتين أهل أغراض وأهواء ، مما زادت الفتنة والمواقف إذكاءً )) .اهـ ] .
ثم ردّ عليه ، فقال :
[ فنريد
منـك أولاً إثبات لعن وتكفير الصحابة الكرام ، وثقات التابعين بَعْضهم بعضاً ! ! !
أيها الكاذب هات صحابياً واحداً كفّر
الفريق الآخر ، ألم تسمع قول علي رضي الله عنه عن مجموعة معاوية رضي الله عنه (
إخواننا بغوا علينا ) ! ] .
وقال أيضاً :
[ * ربيع المدخلي يرمي كعب بن مالك وصاحبيه
بتهمة النفاق !
قال ربيع المدخلي عن كعب بن مالك وصاحبيه
( رضي الله عنهم ) :
(( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما أحسنَ
الظنّ بهم لأنهم متهمون في هذه الحالة ، وقد يكونون متهمين بالنفاق )) اهـ كلام المدخلي ] .
ثم قال :
[ الرد :
لم يكتفِ المدخلي باتهامهم بالنفاق حتى
افترى المدخلي على النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يحسن الظنّ بهم .
والجواب على هذا الجاهل أن النبي (صلى الله
عليه وسلم) أحسن الظنّ بهم بقوله عن كعب بن مالك (رضي الله عنه) كما أخرج البخاري في
صحيحه: ( أما هذا فقد صدق) ] ([355])
.
سبحان الله تعالى :
كَمَا تَدِينُ تُدَانُ ، وَكَمَا تَزرَعُ
تَحصُدُ ! !
ثم [ ولماذا نذهب بعيداً ،
فهذا الإمام النسائي – رحمه الله تعالى – بعدما ألف كتابه " خصائص عليّ
" طلب منه أهل الشام – وهم من أولياء معاوية وأنصاره ومحبيه خلافا للكوفيين
فمعظمهم ينال منه – فقالوا له : " ألا تخرج فضائل معاوية t ؟
فقال : أي شيء أخرج ؟ حديث : (( اللهم لا تشبع بطنه )) ، فهجموا عليه
ورفسوه بحوافرهم في بطنه ، وكان ذلك سبب موته – رحمه الله تعالى - .
فإذا كان هذا حال الأئمة الكبار ، فما بالك بأمثال سيّد قطب ؟ !
وفي نحو هذا قال الذهبي : " ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب
عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهنات ، والله يعفو عنه " ( 3 / 159 ) ، السير ،
وقال : " ليته لم يتعهد بالأمر إلى ابنه يزيد ، وترك الأمة من
اختياره لهم " ( 3 / 158 ) السير ،
وقال : " وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه ،
إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء ، وإما قد ولدوا في الشام على حبه ، وتربى
أولادهم على ذلك وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة ، وعدد كثير من التابعين والفضلاء ،
وحاربوا معه أهل العراق ، ونشأوا على النصب نعوذ بالله من الهوى ،
كما قد نشأ جيش عليّ t ، ورعيته – إلا الخوارج – على حبه والقيام
معه ، وبغض من بغى عليه والتبري منهم وغلا خلق منهم في التشيع ،
فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم ، لا يكاد يشاهد فيه إلا غاليا
في الحب ، مفرطا في البغض ، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال ؟ ( 3 / 128 ) ، السير .
ثانياً : ثم إن سيد قطب كان حريصاً على عرض الإسلام العرض المناسب
الذي يكمم أفواه المتقولين عليه الذين ينسبون إليه أخطاء حصلت في التاريخ ، سواء
صحت أم لم تصح ، فمن أين له ولهم أن يعرف السليم من السقيم ؟ !
عندئذ حاول سيد قطب أن يبريء الإسلام من تلك الأخطاء ، ويبين أن
مرتكبيها ارتكبوهـا لضعفهم البشري أو بانحرافهم عن الإسلام ، وليس بوحي منه أو
اتبـاعا لأوامره ،
ولقد صرح سيد قطب بهذا بوضوح في الرد الذي رد به على الأستاذ محمود
شاكر – رحمه الله تعالى – حين قال :
وأحسب لقد كان بنفسي وأنا أعرض النظام الاجتماعي في الإسلام أن أقول
شيئاً كالذي قاله مولى([356])
رسول الله r . لا عداء شخصياً لبني أمية ، ولكن تبرئة
للإسلام من أن تحسب عليه سياسة لا يعرفها : لا في الحكم ولا في المال ، والإسلام
منها بريء ، فيجب أن يعرف الناس براءته ([357])
. .
فهذا الدافع الطيب أوقع سيد قطب عندما نظر إلى أحداث التاريخ
المتضاربة فيما وقع فيه من نيل من معاوية وذويه ] ([358])
.
وأخيراً لننظر ماذا كتب الآلوسي في تفسيره :
[ واستدل بها أيضا على جواز لعن يزيد عليه من الله تعالى ما يستحق نقل
البرزنجي في الإشاعة والهيثمي في الصواعق أن الإمام أحمد لما سأله ولده عبد الله
عن لعن يزيد قال كيف لا يلعن من لعنه الله تعالى في كتابه ؟
فقال عبد الله قد قرأت كتاب الله عز وجل فلم أجد فيه لعن
يزيد فقال الإمام إن الله تعالى يقول : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ الآية وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد ؟ انتهى .
وهو مبني على جواز لعن العاصي المعين من جماعة لعنوا
بالوصف ، وفي ذلك خلاف فالجمهور ، على أنه لا يجوز لعن المعين فاسقا كان أو ذميا
حيا كان أو ميتا ولم يعلم موته على الكفر لاحتمال أن يختم له أو ختم له بالإسلام
بخلاف من علم موته على الكفر كأبي جهل .
وذهب شيخ الإسلام السراج البلقيني إلى جواز لعن العاصي
المعين لحديث الصحيحين « إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان
لعنتها الملائكة حتى تصبح »
وفي رواية « إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها
الملائكة حتى تصبح » واحتمـال أن يكون لعن الملائكة عليهم السلام إياها ليس
بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا : لعن الله من باتت مهاجرة فراش زوجها بعيد وإن بحث
به معه ولده الجلال البلقيني .
وفي الزواجر لو استدل لذلك بخبر مسلم « أنه صلّى الله
عليه وسلّم مر بحمار وسم في وجهه فقال : لعن الله من فعل هذا » لكان أظهر إذ
الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد الجنس وفيه ما فيه انتهى .
وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد لكثرة أوصافه
الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل
المدينة ومكة
فقد روى الطبراني بسند حسن « اللهم من ظلم أهل المدينة
وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل »
والطامة الكبرى ما فعله بأهل البيت ورضاه بقتل الحسين
على جده وعليه الصلاة والسلام واستبشاره بذلك وإهانته لأهل بيته مما تواتر معناه
وإن كانت تفاصيله آحادا ،
وفي الحديث « ستة لعنتهم وفي رواية : لعنهم الله وكل نبي
مجاب الدعوة المحرف لكتاب الله - وفي رواية - : الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر
الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل من عترتي
والتارك لسنتي »
وقد جزم بكفره وصرح بلعنه جماعة من العلماء منهم الحافظ
ناصر السنة ابن الجوزي وسبقه القاضي أبو يعلى ،
وقال العلامة التفتازاني : لا نتوقف في شأنه بل في
إيمانه لعنة الله تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه ،
وممن صرح بلعنه
الجلال السيوطي عليه الرحمة
وفي تاريخ ابن الوردي . وكتاب الوافي بالوفيات أن السبي
لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرية علي . والحسين رضي
الله تعالى عنهما والرؤوس على أطراف الرماح وقد أشرفوا على ثنية جيرون فلما رآهم
نعب غراب فأنشأ يقول :
لما بدت تلك الحمول وأشرفت . . . تلك الرؤوس على شفا
جيرون
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل . . . فقد اقتضيت من
الرسول ديوني
يعني أنه قتل بمن قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
يوم بدر كجده عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما وهذا كفر صريح فإذا صح عنه فقد كفر به
ومثله تمثله بقول عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه :
ليت أشياخي الأبيات ،
وأفتى الغزالي عفا الله عنه بحرمة لعنه وتعقب السفاريني
من الحنابلة نقل البرزنجي والهيثمي السابق عن أحمد رحمه الله تعالى فقال :
المحفوظ عن الإمام أحمد خلاف ما نقلا ، ففي الفروع ما
نصه ومن أصحابنا من أخرج الحجاج عن الإسلام فيتوجه عليه يزيد ونحوه
ونص أحمد خلاف ذلك وعليه الأصحاب ، ولا يجوز التخصيص
باللعنة خلافا لأبي الحسين وابن الجوزي وغيرهما ،
وقال شيخ الإسلام : يعني والله تعالى أعلم ابن تيمية
ظاهر كلام أحمد الكراهة ،
قلت : والمختار ما ذهب إليه ابن الجوزي . وأبو حسين
القاضي . ومن وافقهما انتهى كلام السفاريني .
وأبو بكر بن العربي المالكي عليه من الله تعالى ما يستحق
أعظم الفرية فزعم أن الحسين قتل بسيف جده صلّى الله عليه وسلّم وله من الجهلة
موافقون على ذلك كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ
إِلَّا كَذِباً [ الكهف : 5 ] .
قال ابن الجوزي عليه الرحمة في كتابه السر المصون : من
الاعتقادات العامة التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنة أن يقولوا : إن يزيد كان
على الصواب وإن الحسين رضي الله تعالى عنه أخطأ في الخروج عليه
ولو نظروا في السير لعلموا كيف عقدت له البيعة وألزم
الناس بها
ولقد فعل في ذلك كل قبيح
ثم لو قدرنا صحة عقد البيعة فقد بدت منه بواد كلها توجب
فسخ العقد ولا يميل إلى ذلك إلا كل جاهل عامي المذهب يظن أنه يغيظ بذلك الرافضة .
هذا ويعلم من جميع ما ذكره اختلاف الناس في أمره فمنهم
من يقول : هو مسلم عاص بما صدر منه مع العترة الطاهرة لكن لا يجوز لعنه ،
ومنهم من يقول : هو كذلك ويجوز لعنه مع الكراهة أو
بدونها
ومنهم من يقول : هو كافر ملعون ،
ومنهم من يقول : إنه لم يعص بذلك ولا يجوز لعنه وقائل
هذا ينبغي أن ينظم في سلسلة أنصار يزيد
وأنا أقول : الذي يغلب على ظني أن الخبيث لم يكن مصدقا
برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم
وأن مجموع ما فعل مع أهل حرم الله تعالى وأهل حرم نبيه
عليه الصلاة والسلام وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات وما صدر منه
من المخازي ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر
،
ولا أظن أن أمره كان خافيا على أجلة المسلمين إذا ذاك
ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلا الصبر ليقضي الله أمرا كان مفعولا ،
ولو سلّم أن الخبيث كان مسلما فهو مسلم جمع من الكبائر
ما لا يحيط به نطاق البيان ،
وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين ولو لم يتصور
أن يكون له مثل من الفاسقين ، والظاهر أنه لم يتب ، واحتمال توبته أضعف من إيمانه ،
ويلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة فلعنة الله عز وجل
عليهم أجمعين ، وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم ومن مال إليهم إلى يوم الدين ما
دمعت عين على أبي عبد الله الحسين ،
ويعجبني قول شاعر العصر ذو الفضل الجلي عبد الباقي أفندي
العمري الموصل وقد سئل عن لعن يزيد اللعين :
يزيد على لعني عريض جنابه . . . فأغدو به طول المدى ألعن
اللعنا
ومن كان يخشى القال والقيل من التصريح بلعن ذلك الضليل
فليقل : لعن الله عز وجل من رضي بقتل الحسين ومن آذى عترة النبي صلّى الله عليه
وسلّم بغير حق ومن غصبهم حقهم
فإنه يكون لاعنا له لدخوله تحت العموم دخولا أوليا في
نفس الأمر ،
ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها سوى
ابن العربي المار ذكره وموافقيه فإنهم على ظاهر ما نقل عنهم لا يجوزون لعن من رضي
بقتل الحسين رضي الله تعالى عنه ، وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على
ضلال يزيد ] ([359])
.
فأين الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، من هذا الكلام ، ومن تلك
الروايات التي سوّد بها أئمتنا الأعلام الثقات ، الصحائف ؟ !
فتبيّن – مما سبق – أنّ اتّهام الشهيد سيّد قطب رحمة الله تعالى عليه
، بالطعن في الصحابة رضوان الله عليهم ( دون أولئك الأئمة ، الذين نقلنا عنهم تلك
العظائم ) ، ما هو إلا كذب وبهتان ودجل ، يُراد منه محاربة أفكاره ، والتنقيص من
شأنه عند المسلمين ! !
الفصل الخامس
سخرية سيّد قطب بمقام النبوة وبموسى
(عليهم السلام ) !
هذه – طبعاً – ليست آخر تهمة ، توجّه
للشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، ولن تكون آخرها .
بل هناك سلسلة من التّهم ، أُعِدّت ،
ونُسِجَت خيوطها ، كلّما هوت تهمة ، قامت أختها تؤدّي دورها المرسوم ، طالما أنّ
المتّهم هو سيّد قطب !
وهذه التُّهم الموجهة ، ليست نقداً لإظهار
الحقّ ؛ من باب الفقه والشرع ، والسنة والبدعة ، وما إلى ذلك ، كما يُراد أن تظهر
بذلك المنظر ، وإن ظنّ البعض ذلك .
بل هـي عمل مخـابراتـي ، تقوم بها جهات
معيّنة ، يتوارَون خلف أدعيـاء ؛ يتباكون على الإسلام وعقيدته وشريعته !
وإن أحسنّا الظنّ بهؤلاء الأدعياء فنقول :
هم أغبياء ([360])
، ( الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) ([361])
.
قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى :
[
ليس من الضروري أن تكون عميلاً لتخدم عدوّك ، يكفي أن تكون غبيّاً ] .
وذلك لأنّ كلمات الشهيد سيّد قطب رحمه الله
، تهزّ عروش الطغاة ، وتزلزل الأرض من تحت أقدام المستبدّين ، وتفتح عيون العباد ،
وتبيّن الكرامة التي أكرمهم الله تعالى بها !
وأنا لا أستغرب كره الطغاة والمتجبرين ،
وآكلي السحت ، للشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى .
ولكن لا ينتهي عجبي واستغرابي ، من كره بعض
الشعوب المستضعفة ، من كره ذلك العملاق ، الذي يضيء لهم طريق الحرية والخلاص !
فبعد حسن الظنّ بتلك الشعوب ، بأنهم لا
يحاربون أولياء الله تعالى ، فهم إذن أغبياء ، يحاربون – نيابة عن الظلمة – في
معركة ، لا ناقة لهم فيها ولا جمل !
ليس غريباً ولا عجيباً أن يحارب الحكّام
الظلمة ، سيّداً ، فهو الذي يقول :
[ « قالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ : إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ . يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ
مِنْ أَرْضِكُمْ . فَما ذا تَأْمُرُونَ ؟ » . .
إنهم يصرحون بالنتيجة
الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة .
إنها الخروج من
الأرض . . إنها ذهاب السلطان . . إنها إبطال شرعية الحكم . . أو . . محاولة قلب نظام
الحكم ! . . بالتعبير العصري الحديث !
إن الأرض للّه .
والعباد للّه . فإذا ردت الحاكمية في أرض للّه ، فقد خرج منها الطغاة ، الحاكمون بغير
شرع اللّه !
أو خرج منها الأرباب
المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم .
وخرج منها الملأ
الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى ، فيعبدون الناس لهذه الأرباب !
هكذا أدرك فرعون
وملؤه خطورة هذه الدعوة . .
وكذلك يدركها الطواغيت
في كل مرة . .
لقد قال الرجل العربي
- بفطرته وسليقته - حين سمع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يدعو الناس إلى شهادة
أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه : «هذا أمر تكرهه الملوك ! » .
وقال له رجل آخر
من العرب بفطرته وسليقته : « إذن تحاربك العرب والعجم » . .
لقد كان هذا العربي
وذاك يفهم مدلولات لغته . كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا اللّه ثورة على الحاكمين
بغير شرع اللّه عربا كانوا أم عجما !
كانت لشهادة أن
لا إله إلا اللّه جديتها في حس هؤلاء العرب ، لأنهم كانوا يفهمون مدلول لغتهم جيدا
.
فما كان أحد منهم
يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد ، ولا في أرض واحدة ، شهادة أن لا إله إلا اللّه
، مع الحكم بغير شرع اللّه ! فيكون هناك آلهة مع اللّه !
ما كان أحد منهم
يفهم شهادة أن لا إله إلا اللّه كما يفهمها اليوم من يدعون أنفسهم « مسلمين » . .
ذلك الفهم الباهت
التافه الهزيل ! وهكذا قال الملأ من قوم فرعون ، يتشاورون مع فرعون :
« إِنَّ هذالَساحِرٌ
عَلِيمٌ . يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ . فَما ذا تَأْمُرُونَ ؟ » ]
([362])
وهو رحمه الله ، الذي يقول أيضاً :
[ ليس
الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي .. إلى يد طاغوت عربي . .
فالطاغوت كله طاغوت ! . . إن الأرض للّه ،
ويجب أن تخلص للّه . ولا تخلص للّه إلّا أن ترتفع عليها راية : «لا إله إلا اللّه»
. .
وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض
من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاغوت !
إن الناس عبيد للّه وحده ، ولا يكونون
عبيدا للّه وحده إلا أن ترتفع راية : « لا إله إلا اللّه » . .
« لا إله إلا اللّه » كما كان يدركها
العربي العارف بمدلولات لغته : لا حاكمية إلا للّه ، ولا شريعة إلا من اللّه ، ولا
سلطان لأحد على أحد ، لأن السلطان كله للّه ..
ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي
جنسية العقيدة ، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس
والألوان تحت راية اللّه .
وهذا هو الطريق . . ] ([363])
.
فلا يُستغرب – إذن – أن يقوم السلاطين
بمحاربة سيّد قطب ، وتشويه سمعته ، ولكنّ الغريب أن تقوم الشعوب المستضعفة بذلك !
!
وهذه الشعوب المستضعفة ، التي تكره سيّد
قطب وتحاربه ، فهي في أحسن أحوالها غبيّة ، وإلا بماذا نفسّر موقفها الغريب هذا ؟
!
ويُراد إسقاط سيّد قطب رحمه الله تعالى –
بهذه التهم – في عيون المسلمين ، وإبعادهم عنه ، لينفضّوا حوله ، لأنه رحمه الله
، قد أيقظ المسلمين ، ونبّههم ووضع أيديهم على مكمن الداء ! !
وفي هذا التسقيط ،
تُستخدم أصحاب العمائم الأغبياء – إذا أحسنّا الظنّ بهم – ليظهر الأمر ، وكأنه هو
مسألة الفقه والشرع ، والسنة والبدعة ، وليس هو مخطط مخابراتي دولي !
تنبيه سيّد
قطب ، والإخوان ، لمؤامرات الأعداء
وكيف يتركون سيّد
قطب وإخوانه رحمهم الله ، ينعمون بالسمعة الطيّبة ، وهو يقول :
[ والحقيقة أن هناك شكا كثيرا فيما إذا كان هؤلاء
الملحدون يصدقون أنفسهم !
فأغلب الظن أنها بدأت مناورة في وجه الكنيسة ثم
استغلها اليهود لرغبتهم في تدمير قاعدة الحياة البشرية الأساسية ، كي لا يبقى على
وجه الأرض من يقوم على هذه القاعدة غيرهم - كما يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون
- ومن ثم تنهار البشرية وتقع تحت سيطرتهم ، بما أنهم هم وحدهم الذين سيحافظون على
مصدر القوة الحقيقية الذي توفره العقيدة !
واليهود - مهما بلغ من كيدهم ومكرهم - لا
يملكون أن يغلبوا الفطرة البشرية ، التي تجد في قرارتها الإيمان بوجود إله - وإن
كانت تضل فقط في معرفة الإله الحق بصفاته الحقة كما أنها تنحرف بعدم توحيد سلطانه
في حياتها ، فتوصم بالشرك والكفر على هذا الأساس –
ولكن بعض النفوس تفسد فطرتها ، وتتعطل فيها
أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية .
وهذه النفوس وحدها هي التي يمكن أن يفلح
معها كيد اليهود الذي يستهدف نفي وجود اللّه فيها . ولكن هذه النفوس المعطلة
الفطرة ستظل قليلة وشاذة في مجموع البشر في كل زمان . .
والملحدون الحقيقيون على ظهر الأرض اليوم
لا يتجاوزون بضعة ملايين في روسيا والصين من بين مئات الملايين الذين يحكمهم
الملحدون بالحديد والنار على الرغم من
الجهد الناصب خلال أربعين عاما في نزع الإيمان بكل وسائل التعليم والإعلام !
إنما يفلح اليهود في حقل آخر . وهو تحويل
الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر . وطرده من واقع الحياة .
وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا
مؤمنين باللّه مع أن هناك أربابا أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون اللّه ! ويصلون
بذلك إلى تدمير البشرية فعلا ، حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن باللّه .
وهم يستهدفون الإسلام - قبل كل دين آخر -
لأنهم يعرفون من تاريخهم كله ، أنهم لم
يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة .
وأنهم غالبو أهله طالما أهله لا يحكمونه في
حياتهم مع توهمهم أنهم ما يزالون مسلمين مؤمنين باللّه !
فهذا التخدير بوجود الدين - وهو غير موجود
في حياة الناس - ضروري لتنجح المؤامرة . .
أو يأذن اللّه فيصحو الناس !
وأحسب - واللّه أعلم - أن اليهود
الصهيونيين ، والنصارى الصليبيين ، كليهما ، قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة
الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا كذلك . . يئسوا من أن يحولوا الناس
فيها إلى الإلحاد - عن طريق المذاهب المادية - كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى
ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار . .
ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من
الإلحاد وترفضه حتى بين الوثنيين - فضلا على
المسلمين - وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام ، أو حتى ورث
الإسلام !
وأحسب - واللّه أعلم - أنه كان من ثمرة
اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون
والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير
فعدلوا إلى طرائق أخبث ، وإلى حبائل أمكر . .
لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة
كلها تتزيا بزي الإسلام وتتمسح في العقيدة ولا تنكر الدين جملة . . ثم هي تحت هذا
الستار الخادع ، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات
صهيون ، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل !
إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام
- أو على الأقل تعلن احترامها للدين - بينما هي تحكم بغير ما أنزل اللّه وتقصي
شريعة اللّه عن الحياة وتحل ما حرم اللّه وتنشر تصورات وقيما مادية عن الحياة
والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام
لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية ، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية
وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين
وبروتوكولات الصهيونيين ، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع ، وجعلها فتنة
للمجتمع ، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج بينما ملايين الأيدي العاملة
في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف !
وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها
دفعا بالعمل والتوجيه . . كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة !
والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم
، وأنهم هم كذلك مسلمون ! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون ؟
أما أن تكون الحاكمية للّه وحده أو تكون
للأرباب المتفرقة ، فهذا ما قد خدعتهم عنه
الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة
وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين .
وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين وفي
دين اللّه بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا
الدين !
وإمعانا في الخداع والتضليل وإمعانا من
الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي ، فإنها تثير حروبا مصطنعة -
باردة أو ساخنة - وعداوات مصطنعة في شتى الصور ، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع
التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية ، وتحرسها بالقوى الظاهرة
والخفية ، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة !
تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات
المصطنعة ، لتزيد من عمق الخدعة ولتبعد الشبهة عن العملاء ، الذين يقومون لها بما
عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد من تدمير القيم والأخلاق وسحق
العقائد والتصورات وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول . .
وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم . .
وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها
بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين في غفلة من الرقباء والعيون !
فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها
الخدعة ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف وباسم الأجهزة الدينية المسخرة
لتحريف الكلم عن مواضعه ولوصف الكفر بأنه الإسلام والفسق والفجور والانحلال ، بأنه
تطور وتقدم وتجدد ..
إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب
الساحقة الماحقة وصبت عليها التهم الكاذبة
الفاجرة وسحقت سحقا ، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية
خرساء صماء عمياء ! ! !
ذلك بينمـا الطيبون السـذج مـن المسلمين
يحسبون أنها معركة شخصية ، أو طائفية ، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا
الدين ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء - من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق -
بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة ، وإلى منكرات صغيرة ، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملا
بهذه الصيحات الخافتة . .
بينما الدين كله يسحق سحقا ، ويدمر من
أساسه وبينما سلطان اللّه يغتصبه المغتصبون
، وبينما الطاغوت - الذي أمروا أن يكفروا به - هو الذي يحكم حياة الناس جملة
وتفصيلا !
إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين
يفركون أيديهم فرحا بنجاح الخطة وجواز الخدعة بعد ما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا
عليه مواجهة باسم الإلحاد ، أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير ، فترة طويلة من
الزمان . .
إلا أن الأمل في اللّه أكبر والثقة في هذا
الدين أعمق ، وهم يمكرون واللّه خير المـاكريـن . وهو الذي يقـول : « وَقَـدْ
مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كـانَ مَكْرُهُـمْ
لِتَزُولَ مِنْـهُ الْجِبـالُ . فَلا تَحْسَـبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْـدِهِ
رُسُـلَهُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقـامٍ » . . ] ([364])
.
وكيف يتركونه ،
وقد قال رحمه الله تعالى :
[ غير أن هذا كله
كان يزيد نفسي شعوراً من ناحية أخرى بأن السياسة المخططة من جانب الصهيونية
والصليبية لتدمير حركة الإخوان المسلمين في المنطقة تحقيقاً لمصالح ومخططات تلك
الجهات قد تحققت بنجاح . .
وأنه فـي الوقت
ذاته لابد من محاولة الرد على تلك المخططات بإعادة حياة ونشاط الحركة الإسلامية
حتى ولو كانت الدولة لسبب أو أكثر لا تريد . فالدولة تخطيء وتصيب !
كما أنها كانت
تملأ نفسي شعوراً بالظلم الذي أصاب آلاف الأفراد وآلاف الأسر والبيوت . بناء على
حادث واضح جداً تدبيره – حتى ولو لم يعلم بالضبط في ذلك الوقت من دبره – وبناء على
الرغبة من حماية النظام القائم من خطر ضخمته أجهزة غريبة الأهداف واضحة كذلك من
كتبهم وجرائدهم وتقريراتهم وفي مقدمتها تقرير جونسون عن نهر الأردن .
ثم تضخم هذا
الشعور وأنا أرى النتائج الواقعية في حياة المجتمع المصري من انتشار هائل للأفكار
الإلحادية وللانحلال الأخلاقي نتيجة لتدمير حركة الإخوان المسلمين ووقف نشاطها
التربوي .
وكأنما كان وجود
هذه الجماعة سداً قد انهار وانطلق بعده التيار .
وكنت أسمع عن ذلك
كله في السجن ، ولما خرجت وجدت أن كل ما سمعت كان دون الحقيقة بكثير لقد تحول
المجتمع إلى مستنقع كبير !
إن المسألة أكبر
بكثير ممـا يبسطهـا الذين ينظرون لمـا حدث على أنه مجرد تطور ،
أنها تتعلق
بالمخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية في تدمير المقاومة الأساسية للعناصر
البشرية في المنطقة بحيث تصبح هذه الملايين حطاماً منهاراً لا يملك المقاومة حتى
لو وضعت في يده أقوى الأسلحة .
فالرجال هم الذين
يحركون الأسلحة وليس الأسلحة هي التي تحرك الرجال .
والمجتمعات حين
تنهار عقيدياً وخُلقياً تصبح الملايين فيها غثاء لا يقف في وجه التيار .
ويستطيع الإنسان
أن يلحظ بسهولة علاقة هذا الإنحدار بتدمير حركة الإخوان المسلمين ومنع نشاطها ،
كما يستطيع أن
يربط بين هذا التدمير وبين الخطط الصهيونية والصليبية الإستعمارية بخصوص هذه
الجماعة وبخصوص المنطقة بجملتها .
هذه هي رؤيتي
للموقف التي انطلق منها التصميم على ضرورة العمل لحركة إسلامية امتداداً لحركة
الإخوان المسلمين المصادرة الموقوفة . مع الانتفاع بالتجربة وبالتجارب التي سبقتها
.
وفيمـا بيـن عـام
1955 وعـام 1962 كـان التفكيـر فـي منهـج وطريقـة البدء بهـا . . ] ([365])
.
أذيال موسكو يتآمرون
[ وكان عبد الناصر
قد أفرج فى منتصف عام 1964 عن مجموعة من رجال الإخوان المسلمين الذين حاكمهم فى عام
1954 ولم تصدر ضدهم أحكام بالإعدام كغيرهم من الشهداء . . . وكان من بين الذين أفرج
عنهم المرحوم الشهيد سيد قطب أحد أئمة الفكر الإسلامى فى مصر . . .
وكان خروج الإخوان
المسلمين من السجون يسبب ذعراً للشيوعيين فى مصر . . فهم دائما الصخرة التى تحطم فوقها
كل محاولاتهم فى التأثير بالمبادىء الشيوعية على عقول الفلاحين والعمال والشباب . .
.
كانوا يرون الإخوان
المسلمين دائما يقفون فى مواجهتهم ويتصدون لمحاولاتهم فى القرية أو المصنع أو الجامعة
. .
وبدأ التخطيط للتخلص
من جماعة الإخوان المسلمين . . . تخطيط وضع فى موسكو وبدأ تنفيذه فى القاهرة . . .
وكان التخطيط على خطوات . .
وبدأت الخطوة الأولى
. . .
وكانت بعد انتخاب
عبد الناصر رئيسا للجمهورية فى مارس 1965 بنسبة 99,9% وهى النسبة التى كان لا يرضى
بأقل منها . . .
وأصبح عبد الناصر
رئيسا . . . وعلي صبري رئيسا للوزراء . . . واتجهت البلاد تسير نحو إرضاء السوفيت بكل
الإمكانيات . . . والمجال أمامهم مفتوح . .
وحتى الذين كانوا
يخشون معارضتهم أو الوقوف ضدهم أصبحوا بعيدين عن السلطة مثل كمال الدين حسين وعبد اللطيف
البغدادى . .
أما الباقون أمثال
زكريا محيى الدين وحسين الشافعي وحسن إبراهيم فقد أصبحوا نوابا لرئيس الجمهورية بلا
سلطات . . .
وفى يوم 25 أبريل
عام 1965 نشرت جميع الصحف المصرية بيانا كان مفاجأة لكل المصريين . . . البيان من الحزب
الشيوعي المصري ويتضمن أنه ينهي وجوده المستقل وأنه أصدر قرارا بإنهاء الشكل المستقل
له . . .
وجاء فى البيان
تقييما مفصلا للتحولات الاجتماعية التى جرت فى مصر تحت قيادة عبد الناصر . . . وانتهى
إلى أنه بالتطلع للإتحاد الإشتراكي فإنه يرى أن الأهداف واحدة ولذلك قرر أن ينصهر داخل
هذا التنظيم . . .
كان البيان مفاجأة
للمواطنين ، إذ علموا لأول مرة أن فى مصر حزبا شيوعيا تعلم عنه الدولة رسميا وهي التي
حلت جميع الأحزاب منذ عام 1953 . .
وأن الشيوعيين قد
انخرطوا داخل الاتحاد الإشتراكي .
وبطبيعة الحال توجس
المتمسكون بالدين الريبة من هذا الإعلان . . . أن معنى ذلك أنهم سيعملون على الإطاحة
بأي جماعة مسلمة تحاول أن تنشر تعاليم الدين الإسلامي والمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية
. . .
وفعلا . . تحقق
ما كان يتوقعه أفراد جماعة الإخوان المسلمين . فقد بدأ ـ المؤامرات الشيوعية ضدهم تشير
إلى وجود تنظيم منشورات داخل نقابة الصحفيين تهاجم نظام الحكم عليها إتجاه الإخوان
المسلمين للإساءة إليهم . .
وتأكد الإخوان المسلمون
أن الشيوعيين وراء تلك المنشورات ورفعت المباحث العامة تقريرا إلى المسئولين تؤكد أن
المنشورات ليست من صنع الإخوان المسلمين وتلاحقت مؤامرات الشيوعيين والدس للإخوان لدى
أجهزة الأمن . .
أشاعوا أن الإخوان
المسلمين أعادوا تنظيم أنفسهم وأنهم يحاولون انتخاب رئيس جديد وأنهم يرشحون للرئاسة
ثلاثة: هم منير الدلة وسيد قطب وشخص وهمي اسمه مصطفى الملا وهو غير موجود طبعا .
كما قاموا بدفع
الناس فى أسيوط إلى إرسال شكاوى وتلغرافات إلى رئاسة الجمهورية والمباحث العامة بأن
الإخوان المسلمين مسيطرون على مؤسسة هناك اسمها المؤسسة الإسلامية يتبعها مستوصف خيري
وتقوم بنشاط إسلامي إجتماعي .
وكانت أخطر المؤامرات
ما وصل إلى علم الإخوان المسلمين من أن الشيوعيين فى مصر وعلى رأسهم كمال رفعت يحرضون
الحكومة على الإخوان .
وأنهم وضعوا فى
طريق الرئيس مع شواين لاي أثناء عودته من الإسكندرية مواد ناسفة ثم أبلغوا الجهات المسئولة
عنها قبل أن تأتى سيارة الرئيس وضيفه ونسبوها إلى الإخوان
وكان شواين لاي
قد حضر لزيارة القاهرة فى يوم 28 يونيو سنة 1965 وعقد اجتماع قمة ضم الريس السابق عبد
الناصر وشواين لاي وأيوب خان رئيس باكستان سابقا وأحمد سوكارنو رئيس اندونيسيا سابقا
.
وفعلا أتت كل تلك
المؤامرات ثمرتها . . واستشعر عبد الناصر الخطر من الإخوان المسلمين وأعطى الضوء الأخضر
لرجال المباحث الجنائية العسكرية للقبض عليهم وكشف تآمرهم عليه . . .
وكان السبب القوي
لذلك ما قدمه له معاونوه من تفسيرات لكتاب " معالم في الطريق " لسيد قطب
وكانت الحكومة قد أباحت طبعه وتوزيعه ولكن بعد التفسيرات التى قدموها له أمر بجمع الكتاب
. . .
وكانت التفسيرات
التي قدموها إليه للإستناد إلى أن الإخوان المسلمين يتآمرون عليه كثيرة . .
معالم في الطريق
إن الذى يؤكد للمباحث
أن تفسيرات كتاب " معالم في الطريق" التى قدمها معاونو عبد الناصر إليه للإطاحة
بالإخوان المسلمين . . . وكان أغلبهم من عملاء السوفييت وعلى رأسهم علي صبري وسامي
شرف . . . ] ([366])
.
يدٌ واحدة على
الإسلام !
ولا يظننّ أحد أن
الإتحاد السوفيتي ، كان عدواً للصهيونية والصليبية . فهكذا يظهرون أمام الغافلين .
أما في الحقيقة ،
فهُم جميعاً يدٌ واحدة على الإسلام .
خطب [ غروميكو وزير خارجية الإتحاد السوفييتي ([367])
أمام الأمم المتحدة وهو يتحدث عن « الحقوق المشروعة للشعب اليهودي في فلسطين »
وعن تأييد بلاده لقرار التقسيم ، وعن
حق اليهود المشروع في إقامة دولتهم الصهيونية على أرض فلسطين العربية بحجة « تأمين
المأوى والوطن لمئات الآلاف من اليهود المشردين الذين يعيشون في المعسكرات والملاجئ
الأوروبية » ] ([368])
.
[ ومما يثير الدهشة . . . هو « هذا التعاون الفريد من نوعه
بين السوفييت والاميركيين في المجالات العسكرية المتعلقة بتدريب الكوادر الصهيونية
المقاتلة وتوفير طائرات الشحن الأميركية التي كان يقودها طيارون أميركيون محترفون لنقل
السلاح وتهريب المتطوعين من الكتلة السوفييتية إلى داخل فلسطين » ] ([369])
.
[ والعجيب أيضاً أن دول الكتلة السوفييتية
بادرت إلى الإعتراف بدولة إسرائيل بمجرد قيامها عام 1948م .
[ تعتبر روسيا من أولى الدول التي دعمت
إنشاء دولة لليهود ، إذ اعترف الإتحاد السوفيتي بـ « دولة إسرائيل » ثلاثة أيام فقط
بعد الإعلان عن قيامها .
بعد ذلك قامت تشيكوسلوفاكيا بتدعيم
إسرائيل بالسلاح من أجل مساعدتها في خوضها للحرب الإسرائيلية العربية الأولى عام
1948 ،
كما تم تعيين غولدا مائير مبعوثة لدى
الاتحاد السوفيتي يوم 2 سبتمبر من نفس السنة ] ([370])
.
[ وقد بدأت عمليات الإطاحة بالإخوان المسلمين فى أواخر شهر
يوليو سنة 1965 وأعلن عنها عبد الناصر فى موسكو لأول مرة . . وموسكو بالذات . . يوم
29 أغسطس سنة 1965 . .
ونشرت عنها الصحف التحقيقات التى أملاها
عليها رجال السلطة عن اعترافات منسوبة للمقبوض عليهم طوال شهر سبتمبر . . ] ([371])
.
[ ومن الغريب أن نفس يوم انتهاء المحاكمات كان هو
نفس يوم مغادرة اليكسي كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى لمصر والتى بدأها يوم
9 مايو . .
ويا للمصادفة . . . فإن الإعلان عن القضية
لأول مرة كان فى موسكو وأعلنه الرئيس السابق عبد الناصر يوم 29 أغسطس سنة 1965. . .
وانتهاء محاكمة أعضاء التنظيم كان فى نفس يوم مغادرة كوسيجين من القاهرة... وكأنه
غادرها بعد أن اطمأن أن المؤامرة السوفيتية على الإسلام قد نجحت ] ([372])
.
نماذج من التعذيب
ولقد نقلنا آنفاً قول الشهيد سيّد قطب رحمه
الله : [ كما أنها كانت
تملأ نفسي شعوراً بالظلم الذي أصاب آلاف الأفراد وآلاف الأسر والبيوت ]
.
فهو يتحدّث عن التعذيب الوحشي ، الذي تعرّض
له جماعة الإخوان المسلمين عام 1954 م ، وما أصاب أُسَرِهم من الحرمان .
ولا بأس أن ننقل بعضاً من أنواع التعذيب ،
التي صُبّت عليهم ، لمعرفة ضخامة المؤامرة :
[ ويروي العقيد نصر الدين
محمد الإمام تفاصيل القبض عليه . .
قال أنه فوجيء برجال المباحث الجنائية العسكرية يقتحمون مسكنه برئاسة
تلميذ له هو الرائد حسن كفافي . .
كان الوقت بعد منتصف الليل . . أيقظوا أطفاله وزوجته وأمه المريضة
التى لقيت ربها بعد ذلك بأسبوعين . . حبسوا الجميع فى غرفة . . وبدأوا يفتشون مسكنه
. .
وعثر حسن كفافي على مبلغ ألف وخمسمائة جنيه كان نصر أدخرها لشراء تاكسي
يعاونه إيراده في مجابهة تكاليف المعيشة . . وأخذ حسن لنفسه المبلغ مدعيا أنه
سيعيده عندما يتأكد من مصدره . . وطبعا اختفى المبلغ للأبد . . .
وبعد أن مزقوا المراتب بالمطاوى بحثا عن أدلة ولم يجدوا شيئا اصطحبوه
إلى السجن الحربي . . .
ويقول العقيد متقاعد نصر الدين محمد الإمام :
ولم أكن أعلم لماذا قبضوا علي . . حاولت أن أسأل حسن كفافي عن السر
وراء ذلك . . لم يجبيني بشيء إلا أنه تلقى الأوامر بذلك وأن زملاؤه تلقوا أوامر
مماثلة للقبض على آخرين من الضباط . .
حاولت أن أعرف منه أسماء زملائي الذين قبضوا عليهم . . ولكنه لم يكن
يعرف شيئا . . . .
ودخلت السجن الحربي . . . كنت أرتدي ملابسي المدنية . . . وقبل أن
يغلق باب السجن . . . جدت مايستروا التعذيب فى السجن الحربى صفوت الروبى وكان
برتبة رقيب أول
ثم رقى فى خلال عام 1966 ترقية استثنائية إلى رتبة مساعد . . وفى عام
1967 رقى ترقية استثنائية إلى رتبة الملازم لمهارته فى تعذيب من يوقعه سوء حظه
ويدخل السجن الحربى . .
كان صفوت يقف ممسكا بكرباج وحوله ثلاثة أشبه بعمالقة القرون الوسطى . .
ولكل اسم مستعار . . أحدهم يطلقون عليه الديزل والثانى سامبو والثالث الأسود . .
وانهال الأربعة علي بالكرابيج
. . . وكنت كلما جريت ناحية واجهني أحدهم بكرباجه بعد أن تلقيت ما يزيد عن المائتي
كرباج .
وأسعفوني . . وكان الذي يقوم بعمليات الإسعاف العقيد طبيب حاليا ماجد
حمادة وكان برتبة الرائد . .
ثم حملوني إلى زنزانة مظلمة تماما . . . ليس بها أي منفذ ضوء . . .
وألقونى داخلها . . . وارتميت على الأرض ورفعت عيني إلى سقف الزنزانة وصرخت "
يا رب". .
وفتح باب الزنزانة بعنف ودخل " الديزل : " وانهال على جسدى
المكوم فى ركن الزنزانة بالكرباج وهو يردد " مستنكرا " أنت بتقول يارب .
. . يا ابن . . هنا مفيش ربنا. . . وأن جه حنحطه جنبك فى الزنزانة . . .
ثم أمرني بالجلوس القرفصاء ووجهي إلى الحائط وأن أرفع ذراعي إلى أعلى .
.. وامتثلت لأوامره . . . ولا أعرف كم من الوقت مضى علي وأنا فى ذلك الوضع . . .
ولكنني أفقت على الكرابيج تلهب جسدي ويبدو أني من شدة الإرهاق غلبني النعاس
فارتميت على جانبي . . .
وأمرني صفوت الروبي بخلع ملابسي . . . توقفت عند ملابسي الداخلية
فانهالوا علي بالكرابيج . . . وأصبحت عاريا تماما . . . وألقوا لي بافرول أزرق
ممزق به آثار دماء ممن سبقوني فى ارتدائه . . . واقتادوني إلى خارج الزنزانة . . .
إلى الفناء . . . وعلى باب غرفة مدير السجن قال لي صفوت :
حتقابل دلوقت شخصية كبيرة . . . عايزك تجيب قدامه كل اللي في بطنك . .
. ماتخبيش حاجة .
ووجدتني وأنا العقيد أقول للرقيب أول :
- حاضر يا بك . .
ودخلت الغرفة . . . وكان شمس بدران يتصدر الغرفة جالسا وراء مكتب . .
وعن يمينه مختار صالح رئيس المخابرات الحربية وعن يساره وإلى جواره جلال الديب
نائب الأحكام . . .
وبادرني شمس قائلا :
-
إتكلم يا نصر عن كل حاجة . . زملاءك
اعترفوا وما تحاولش تنكر .
وتساءلت بصدق :
-
عن إيه يافندم أتكلم . . أنا ما أعرفش حاجة
. . أنا مخلص لبلدي وجيشي . . أنا . . .
ولم أكمل جملتي فقد شعرت بثقل جبل يسقط فوق رأسي فارتميت على الأرض وفي
ثوان كنت معلقا من يدي وقدمي . . رأسي إلى أسفل وقدمي إلى أعلى . . أشبه بالذبيحة
في محل الجزار . . وصوت شمس بدران يأمر قائلا :
ألف . .
وانهالت الكرابيج على قدمي . . وصوت يعد واحد . . اثنين . . وأغمى علي
ولم أسمع شيئا بعد رقم 297 . . وعندما أفقت وجدت نفسي ملقى في نفس الزنزانة وأمامي
الدكتور ماجد حمادة يضمد جروحي . .
وبقيت في الزنزانة ثاني يوم . . بدون طعام أو شراب حتى الليل . . عندما
فتح باب الزنزانة مرة أخرى كنت في حالة من الإنهاك والإنهيار التام . . وسحبوني
إلى خارجها . . إلى فناء السجن حيث يوجد تمثال كبير لجندي ممسكا ببندقيته . .
وحول التمثال على شكل دائرة 6 جنود . . ثلاثة منهم ممسكين بالكرابيج
وثلاثة ممسكين بسلاسل مقيد بها ثلاثة من كلاب الحرب . . . والكلب منهم في حجم
الحمار الصغير . . . وفي منتهى الشراسة . .
وأمرني صفوت أن أجري حول التمثال . . وحاولت أن أنفذ الأمر . . ولكن
قدمي لم تستجيبا للأمر . . كانت متورمتين . . وبدأت أمشي بخطوة سريعة . . وعندما
أصل في دورتي إلى أحد الجنود الممسكين بالكرابيج يلهب ظهري أو وجهي أو صدري
بكرباجه . . .
وعندما أصل إلى أحد الممسكين بالكلاب . . يطلق كلبه لينهش في جسدي بعد
أن مزق ما بقي من الأفرول الأزرق . . .
وبعد عدة جولات حول التمثال سقطت من شدة الإعياء فأطلقوا الكلاب لتنهش
في جسدي . . ولم أشعر بشيء . . .
وعندما فتحت عينى . . ولا أعرف كم من الأيام أو الساعات . . وجدت أنني
لست بمفردي في الزنزانة . . وضعوا معي كلباً شرساً . .
ولكن قدرة الله سبحانه وتعالى حولت ذلك الكلب الشرس . . كلبا وديعا
جدا معي . . . بل كان أشد رحمة بي من الإنسان في السجن الحربي . . .
ويصمت العقيد نصر الإمام للحظة وقد اختنق صوته بالبكاء . . . وهو يتذكر
تلك الأيام الحالكة السواد ليست في حياته فحسب بل وفي حياة الأمة بأكملها ويقول :
شعر الكلب بما أقاسيه . . . وكان يأتي يتمسح في جسدي . . . يلعق
بلسانه جراحي . . . وعندما كان يفتح باب الزنزانة لتقديم وجبات الطعام له . .
وكانت في الصباح آنية بها لبن . . . وفى الظهر أنية بها شوربة بجوارها لحم نيىء . .
. وفي المساء . . . وكان يشرب من الآنية بعض اللبن ثم يدفعها بأرجله ناحيتي . .
وكنت أشرب ما تبقى منه من لبن . .
ومرت أيام وأنا على تلك الحال . . . ثم اصطحبوني إلى التحقيق مرة أخرى
. . وقبل أن أدخل غرفة التحقيق سألني صفوت الروبى .
- تعرف عفت ؟
وقلت له : إن هذا اسم زوجتي
فقال لي ناصحا : أنهم أحضروها وسيهتكون عرضها إن لم ترح شمس بدران بك
وتوافقه وتحكى له كل شىء . .
ولم أصدق أن النذالة تبلغ بهم تلك الدرجة . . ودخلت غرفة التحقيق وقد
قررت أن أستغل بطولتي السابقة في المصارعة فى إحداث عاهة لأي شخص يقترب مني محاولا
تعذيبي .. وكنت قد استرددت بعض قواي في الأيام السابقة التي تركوني فيها داخل
الزنزانة مع الكلب عنتر . . .
وبدأ شمس بدران يسألني عن صلتي بالعقيد إبراهيم طه . . . وقلت له أنني
لم أره منذ عام وكان من تلاميذي في مدرسة المشاة . . ولم تعجب إجابتي شمس . . .
فانهال بالشتائم . . . وفي لحظات وجدت نفسي ملقى فوق الأرض . . . وفي لحظات معلقا
كالذبيحة والكرابيج تنهال علي حتى فقدت الوعي . .
وأفقت بعد يوم أو أيام . . لأجد نفسي في نفس الزنزانة . . . والكلب
عنتر يلعق بلسانه جراحي . . ثم أخذوني إلى الخارج . . . ووقف خلفي العسكري سعد
درويش وهو حاليا عسكري مطافىء بشركة الغزل والنسيج في كفر الدوار ومحبوس على ذمة
قضايا التعذيب . .
وكان سعد يقوم بنفس دور العسكري الأسود الذي استخدمه إبراهيم عبد
الهادى أحد رؤساء وزراء مصر في عهد الملك النقراشي السابق فاروق لتعذيب الإخوان
المسلمين بعد حادث اغتيال زميله النقراشى . . ووقف صفوت الروبي أمامي . . وسأل سعد
:
- هل اعتديت عليه يا سعد ؟ . .
وأجاب سعد :
- لسة يا افندم
- ورد صفوت : طيب خده . .
- ودفعني سعد أمامه . . فارتميت على يد صفوت
الروبى أقبلها معلنا استعدادي أن أقول أى شىء . . . وأمره صفوت أن يتركني . .
وأخذني إلى غرفة التحقيق . . وسألني شمس :
- إيه الإتفاق اللي تم بينك وبين محمد نجيب ؟
- وأجبته صادقا : محمد نجيب لم أره منذ عام
1959 . . . رأيته مصادفة آخر مرة وكانت معه حراسة فى محل يشتري أطباقا . . .
- ورد شمس : أنت كداب . . أنتم كنتم حتجيبوه
رئيس الجمهورية لما تنجح حركتكم مع الإخوان المسلمين . .
- وأجبته صادقا :
- أنا ماليش دعوة بالإخوان أو بمحمد نجيب
- ووقف شمس بدران ثائرا وتقدم منه صفوت سائلا
: اعمل له مولد يا افندم . .
- وأجاب شمس باقتضاب : طيب .
- وفى ثوان كنت معلقا كالذبيحة . . ثم وضعوا
بين أصابع قدمى ورق كرتون وأعتقدت أن الرحمة نزلت في قلوبهم وأرادوا إبعاد أصابعي
عن بعضها حتى لا تحتك الجروح بها . . . وفوجئت بهم يشعلون النار في الكرتون وتحترق
أصابعي بالنار وهم ينهالون علي ضربا بالكرابيج . . . حتى فقدت الوعي . . .
- وعندما أفقت . . بعد يوم أو أيام لا أدري .
. . وجدت نفسي في الزنزانة وشعر الحراس بأنني أتحرك . . . وجاء لي صفوت الروبى
واقتادوني إلى الخارج وأعلنني أنه صدر الحكم بإعدامي رميا بالرصاص . .
ولكن شمس بدران بك قرر أن أدفن حيا . . وفعلا اقتادوني إلى حفرة كبيرة
وألقوا بي بداخلها ثم بدأوا يهيلون الرمال فوقي حتى غطتني تماما ما عدا رأسي . .
وأغمضت عيني بعد أن رددت الشهادتين . . . وفجأة دوى صوت أعتقد أنه صوت شمس بدران
أو حمزة البسيونى يأمر بإخراجي . . . وأزاحوا الرمال وأخرجوني . . .
- ووقفت أمام حمزة البسيوني . . . و شمس
بدران . . وقال حمزة .
- إزاي نبعته لربنا وفيه في جسمه حتة سليمة .
.
- وقاموا بخلع ملابسي . . . ووقفت عاريا
تماما . . . وكانت آثار السياط والجروح تغطي كل صدري وظهري وذراعي وقدمي . . .
ونظر حمزة البسيوني إلى عضوي التناسلي وأشار ضاحكا :
- ده لسة سليم ليه ؟ احرقوه . .
وعلى الفور أحضروا سيجارة مشتعلة وبدأوا يحرقون العضو التناسلي في عدة
مواضع ثم قيدوني وبدأ حمزة البسيوني بنفسه بواسطة آلة فى يده ينزع أظافر أصابعي
العشرين . . أصابع يدي وقدمي . . .
ونقلوني في هذه المرة إلى المستشفى . . . مستشفى السجن وعندما أفقت
وجدت ذراعي وفيها إبرة الجلوكوز " . .
وجاءني جلال الديب نائب الأحكام الذي استطاع الهرب هو الآخر حاليا إلى
الخارج . . . ونصحني أن أعترف بكل شيء . . . وطلبت منه أن يكتب أي شيء وأنا مستعد
للتوقيع عليه . .
وتحسنت معاملتي . . وأحضروا لي طعاما فاخرا . . . ولكنني لم أكن
أستطيع أن أمضغ أي طعام ، لتورم شفتي وتهشم أسناني . . وكانوا يساعدونني في وضع
كوب العصير في ناحية من فمي لأرتشف نقطة أو اثنين وأتوقف من شدة الآلام عندما أحرك
شفتي . .
ثم جاءني جلال الديب بإقرار يتضمن قصة خيالية عن مؤامرة كنا ندبرها
للقيام بانقلاب عسكرى للإطاحة بالرئيس
السابق . . . ووقعت على القرار . . ودخلنا السجن ... حتى جاءت النكسة وصدر قرار
جمهورى بالعفو عنا وشطب القضية وكأنها لم تكن . . . وأفرج عنا . . . ولكننا عدنا
للسجن مرة أخرى بعد 43 يوما لنبقى به حتى أفرج عنا الرئيس السادات بعد أن أطاح
بمراكز القوى وأعوان السوفيت من المحيطين بالرئيس السابق جمال عبد الناصر .
وتلوح شبح ابتسامة على ملامح العقيد نصر الدين الإمام وهو يقول :
إنهم كانوا يتفننون فى ألوان التعذيب . . . كانوا لا يتركون وسيلة
سمعوا عنها أو قرأوا تفاصيلها من وسائل التعذيب إلا واستخدموها ، التعذيب النفسى .
. يجعلونك تعيش ساعات وكأنك أصبحت مطلق السراح وأنهم أصدقاء لك ثم فجأة ينقلبون
إلى وحوش كاسرة تنهال عليك بالضرب والركل بالأقدام . . .
لقد اتبعوا تلك الوسيلة مع زميل العقيد بهى الدين مرتضى رئيس مجلس
مدينة راس سدر حاليا وواحد من الذين شاء
سوء حظهم أن يقع في أيديهم لشدة إيمانه بالله . .
إنهم استخدموا معه كل وسائل التعذيب التي استخدموها معي . . . ولم
يخضع لرغباتهم في الاعتراف بأشياء لم تحدث . . .
وفي إحدى الليالي اقتادوه من زنزانته إلى غرفة التحقيق . . . ووجد شمس
بدران في انتظاره . . . وما كاد يراه حتى احتضنه شمس بدران معلنا أسفه الشديد لما
حدث له وأنه كان نتيجة خطأ سيعاقب بسببه المسئول عنه . . . ثم دعاه إلى عشاء فاخر .
. .
وأثناء جلوسهما طلب منه شمس أن
يروي له أحدث ما سمعه من نكت سياسية... وأطمأن بهى إليه وإلى الجو الودي المحيط به
. . . وكان بهى معروفا بأنه راوية نكت ممتازة وروى له النكتة الأولى . . .
وضحك شمس بدران . . . وطلب نكتة أخرى . . . ورواها بهى . .
وضحك شمس بدران . . . ثم وقف ثائرا وقلب المائدة قائلا : إضربوه حتى
يموت. . أنه مصدر كل النكت عن السوفيت . .
وهكذا كان التعذيب داخل السجن الحربى . . . وكانت تلك ألوانه . . وهي
نفس الألوان التى تعرض له أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ليدلوا باعترافات تؤكد
قيامهم بعزمهم على قلب نظام الحكم . .
وتحمل الكثير منهم كل أصناف العذاب . . وسقط البعض شهداء وتم دفنه في
رمال الصحراء الممتدة خارج مبنى السجن الحربي . .
واستمر تعذيب أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فرادى وجماعات وكانت ترسل التقارير إلى الرئيس السابق عبد الناصر
باعترافاتهم قبل أن يدلوا بها . .
كان شمس بدران ينسج بخياله الواقعة التي يريد المتهم أن يعترف بها
ويسارع بإخطار عبد الناصر بأن الاعتراف تم وذلك قبل أن يحدث يتعرض المتهم لكل ألوان
التعذيب حتى يوقع على إقرار يتضمن اعترافه بتلك الواقعة . .
وكان شمس بدران يستغله السوفيت في إقحام اسم الملك فيصل ملك السعودية
في المؤامرة والإدعاء أن بعض المتهمين
اعترفوا أنه كان وراء تمويل حركتهم . .
وكان هدف السوفيت إبعاد التقارب الذى كان بدأ قبل رحلة عبد الناصر
إليهم مباشرة في 27 أغسطس سنة 1965 . . . وفعلا قدم شمس بدران اعترافات كاذبة بذلك
للرئيس السابق عبد الناصر . .
الحملة الإعلامية والصحفي الأوحد
وعندما تجمعت لدى عبد الناصر الصورة الكاملة أعلن عن ما أسماه مؤامرة الإخوان أثناء وجوده في موسكو وبعد أن وصل إلى
القاهرة يوم 6 سبتمبر كلف صحفيه الأوحد محمد حسين هيكل رئيس تحرير الأهرام أن يبدأ
الحملة لبث الكراهية . . كراهية الشعب للإخوان المسلمين . .
وفى 7 سبتمبر انفرد الأهرام بنشر أول معلومات عن المؤامرة المزعومة
وصدر الأهرام في ذلك اليوم وكانت عناوينه الرئيسية كالآتي :
أول التفاصيل عن مؤامرة الإخوان المسلمين الأخيرة .
كشف تنظيم سري إرهابي والقبض على كل خلاياه وضبط كميات ضخمة من
الأسلحة والمفرقعات .
عمليات اغتيال واسعة النطاق كان يجري تدبيرها إلى جانب خطط لنسف بعض
المصانع والقناطر ومحطات الكهرباء ومطار القاهرة ومحطة الإذاعة .
خطة لالقاء قنابل حارقة في عدد من دور السينما والمسارح وفى بعض
الشوارع.
مقاومة مسلحة للبوليس حينما ذهبت قوة منه لضبط مخزن أسلحة في قرية كرداسة
في محافظة الجيزة .
الوثائق تؤكد أنه هناك تمويل خارجي وراء التنظيم الإرهابي الجديد يصرف
عليه من سعة ويؤمن وصول السلاح له ] ([373])
.
قضية
مخابراتية !
فقضية الشهيد سيّد قطب ورفاقه رحمهم الله تعالى ، ليست قضية الإنحراف
عن العقيدة والسنة ، كما تحرّكها وتُظهرها أجهزة المخابرات الدولية ، والتي وقع في
مصيدتهـا بعض أصحـاب العمـائم المغفلة – طبعاً بعد حسن الظن بأصحاب العمائم هؤلاء –
بل هي محاربة الإسلام بذاته ، ومحاولة تشويه صورته الناصعة !
وهذه المكيدة معروفة من قديم ؛ حيث إذا سقط أصحاب الفكر ، فسوف تسقط
فكرتهم معهم !
جاء في بروتوكولات حكماء صهيون :
[ لقد عنينا عنـاية
عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأمميين [ غير اليهود ] في أعين الناس
، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كئودًا في طريقنا .
إن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يومًا فيومًا ]
([374])
.
فليعلم خصوم سيّد قطب رحمه الله ، في أيّ خندق يقاتلون ، ومع مَن ؟ !
فمن كثّر سواد قوم فهو منهم !
مقام
الأنبياء ، وسيّد قطب
هل إنّ الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، كان يسخر بمقام النبوّة ،
كما زعم أحد الموتورين ؟ !
وخوفاً من أن ينطلي هذا الكذب والدجل ، على بعض المسلمين المخلصين ؛
الذين لا يملكون علماً عن هذا الموضوع ، ننقل بعض الفقرات ؛ التي يتبيّن فيها نظرة
التعظيم من سيّد قطب لرسل الله تعالى ، عليهم السلام .
وثقيل هو علينا إثبات البديهيات !
رجلٌ فسّر القرآن ، يسخر بمقام النبوة ؟ !
قال الشهيد سيّد قطب رحمه الله :
[ أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل - عليه السلام - فهو حامل الوحي
إلى الرسل .
وهذا أعظم تأييد
وأكبره .
وهو الذي ينقل
الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم ،
وهو الذي يثبتهم على
المضي في الطريق الشاق الطويل
وهو الذي يتنزل عليهم
بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق . . ]
([375])
.
وقال رحمه الله :
[ وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبيا رسولا - غير نوح
وإبراهيم - وإشارة إلى آخرين « مِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ »
. .
والتعقيبات
على هذا الموكب : « وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » . . « وَكلًّا فَضَّلْنا
عَلَى الْعالَمِينَ » . .
« وَاجْتَبَيْناهُمْ
وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » . .
وكلها
تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من اللّه ، وهدايته إلى الطريق
المستقيم .
وذكر
هذا الرهط على هذا النحو ، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة ، كله تمهيد
للتقريرات التي تليه :
« ذلِكَ
هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَلَوْ أَشْرَكُوا
لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » . .
وهذا
تقرير لينابيع الهدى في هذه الأرض . فهدى اللّه للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل .
وينحصر
المستيقن منه ، والذي يجب اتباعه ، في هذا المصدر الواحد ، الذي يقرر اللّه -
سبحانه - أنه هو هدى اللّه وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده . .
ولو
أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد اللّه وتوحيد المصدر الذي يستمدون منه
هداه ، وأشركوا باللّه في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي ، فإن مصيرهم أن يحبط
عنهم عملهم :
أي
أن يذهب ضياعا ، ويهلك كما تهلك الدابة التي ترعى نبتا مسموما فتنتفخ ثم تموت . .
وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط !
« أُولئِكَ
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ . فَإِنْ يَكْفُرْ
بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» . .
وهذا
هو التقرير الثاني . . فقرر في الأول مصدر الهدى ، وقصره على هدى اللّه الذي جاءت
به الرسل .
وقرر
في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم ، هم الذين آتاهم اللّه الكتاب
والحكمة والسلطان والنبوة –
«والحكم»
يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك - وكلا المعنيين محتمل في الآية .
فهؤلاء
الرسل أنزل اللّه على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى ، والزبور مع داود ، والإنجيل
مع عيسى .
وبعضهم
آتاه اللّه الحكم كداود وسليمان - وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين
هو حكم اللّه ، وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان اللّه على النفوس وعلى الأمور .
فما
أرسل اللّه الرسل إلا ليطاعوا ، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط ، كما
جاء في الآيات الأخرى . وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة . .
وأولئك
هم الذين وكلهم اللّه بدينه ، يحملونه إلى الناس ، ويقومون عليه ، ويومنون به
ويحفظونه . .
فإذا
كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو العرب : « هؤلاء » فإن دين اللّه غني عنهم وهؤلاء
الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين ! . .
إنها
حقيقة قديمة امتدت شجرتها ، وموكب موصول تماسكت حلقاته ودعوة واحدة حملها رسول بعد
رسول وآمن بها ويؤمن من يقسم اللّه له الهداية بما يعلمه من استحقاقه للهداية ! . .
وهو
تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن ، وفي قلوب العصبة المسلمة - أيا كان عددها -
إن هذه العصبة ليست وحدها .
ليست
مقطوعة من شجرة ! إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وحلقة في
موكب جليل موصول ، موصولة أسبابه باللّه وهداه . .
إن
المؤمن الفرد ، في أي أرض وفي أي جيل ، قوي قوي ، وكبير كبير ، إنه من تلك الشجرة
المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ
الإنساني ،
وعضو
من ذلك الموكب الكريم الموصول باللّه وهداه منذ أقدم العصور .
« أُولئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ . قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً . إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ » . .
وهو
التقرير الثالث . . فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان ، هم الذين
هداهم اللّه .
وهداهم
الذي جاءهم من اللّه فيه القدوة لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ومن آمن به .
فهذا
الهدى وحده هو الذي يسير عليه. وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه ، وهذا الهدى
وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به ] ([376]) .
وقال
رحمة الله عليه :
[ إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب
واحد موصول ، يقوده رسل اللّه الكرام ، داعين بحقيقة واحدة ، جاهرين بدعوة واحدة ،
سائرين على منهج واحد
. .
كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة ، وربوبية واحدة وكلهم لا يدعو مع اللّه أحدا ، ولا
يتوكل على أحد غيره ، ولا يلجأ إلى ملجأ سواه ، ولا يعرف له سندا إلا إياه . . .
هذا
الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة - إذن - بدعوة واحدة ، وعقيدة واحدة ،
وكذلك
واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم ، وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة ،
مواجهة واحدة - كما يعرضها السياق القرآني مغضيا عن الزمان والمكان ، مبرزا
للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان –
وكما
أن دعوة الرسل لم تتبدل ، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل ! إنها حقيقة تستوقف
النظر حقا ! . . .
نقف
أمام الجمال الباهر الذي يعرض فيه القرآن الكريم موكب الإيمان ، وهو يواجه
الجاهلية الضالة على مدار الزمان . .
جمال
الحق الفطري البسيط الواضح العميق ، الواثق المطمئن ، الرصين المكين :
« قالَتْ رُسُلُهُمْ : أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،
يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى؟ » . .
. . .
« قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ : إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلكِنَّ
اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَما كانَ لَنا أَنْ
نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ
وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ، وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ » . .
وهذا
الجمال الباهر إنما ينشأ من هذا العرض الذي يجعل الرسل موكبا موحدا في مواجهة
الجاهلية الموحدة
ويصور
الحقيقة الباقية من وراء الملابسات المتغيرة
ويبرز
المعالم المميزة للدعوة التي يحملها الرسل وللجاهلية التي تواجههم ، من وراء
الزمان والمكان ، ومن وراء الأجناس والأقوام !
ثم
يتجلى هذا الجمال في كشف الصلة بين الحق الذي تحمله دعوة الرسل الكرام ، والحق
الكامن في كيان هذا الوجود :
« قالَتْ
رُسُلُهُمْ : أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؟ » . .
« وَما
لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ؟ » . .
« أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمـاواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» . .
وهكذا
تتجلى العلاقة العميقة بين الحق في هذه الدعوة ، والحق الكامن في الوجود كله .
ويبدو
أنه حق واحد موصول باللّه الحق ، ثابت وطيد عميق الجذور : « كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ » . .
وأن
ما عداه هو الباطل الزائل « كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ
الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ » . .
كذلك
يتمثل ذلك الجمال في شعور الرسل بحقيقة اللّه ربهم وفي حقيقة الألوهية كما تتجلى
في قلوب تلك العصبة المختارة من عباده :
« وَما
لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ، وَلَنَصْبِرَنَّ
عَلى ما آذَيْتُمُونا ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ » . .
وكلها
لمحات من ذلك الجمال الباهر لا يملك التعبير البشري إلا أن يشير إليها كما يشار
إلى النجم البعيد ، لا تبلغ الإشارة مداه ، ولكنها فقط تلفت العين إلى سناه . . .
] ([377])
هذه
كانت بعض النماذج ، من أقوال الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، التي تكشف غباء
أولئك الموتورين ، إن لم تكشف عمالتهم !
فهُم
بين أمرين – أحلاهما مُرّ ؛ مُرّ العلقم :
أ –
إما أنهم كانوا يجهلون أن لسيّد قطب رحمه الله ، هذه النظرة التعظيمية للرسل
الكرام عليهم السلام .
إذن
فهُم جهلاء ، أغبياء ، مخدوعون ، تتلاعب بهم المخابرات الدولية !
وإلا
فكيف يتّهمون مفسّراً للقرآن الكريم ، بتهمة يجهلون حقيقتها ؟ !
ب –
أو كانوا يعلمون ، ولكنّهم يتّهمون سيّد قطب بتلك التهمة ، عن عمد وقصد .
إذن
فهُم حاقدون ، عملاء !
فليختاروا
ما يشاءون !
نبيّ
الله موسى عليه السلام ، وسيّد قطب
هل كـان الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، يسخر من نبيّ الله موسى
عليه السلام ، ولا يعرف مقامه ، كما ادّعى ذلك الدّجّالون المغفلون ؟ !
لننظر الآن إلى نظرة سيّد قطب ، للنبيّ موسى عليه السلام :
قال رحمه الله تعالى :
[ وفي حنق وعنف أمر أن يهوى على عجل الذهب
، فيحرق وينسف ويلقى في الماء .
والعنف إحدى سمات موسى - عليه السلام - وهو
هنا غضبة للّه ولدين اللّه ، حيث يستحب العنف وتحسن الشدة ] ([378])
.
وقال رحمه الله :
[ ولكن موسى الذي
تلقى الوحي من ربه ، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه ، واليقين بعونه ، والتأكد
من النجاة ، وإن كان لا يدري كيف تكون . فهي لا بد كائنة واللّه هو الذي يوجهه
ويرعاه .
« قالَ : كَلَّا
إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ » . .
كلا . في شدة
وتوكيد . كلا لن نكون مدركين . كلا لن نكون هالكين . كلا لن نكون مفتونين . كلا لن
نكون ضائعين « كلا إن معي ربي سيهدين » بهذا الجزم والتأكيد واليقين ]
([379])
.
وقال رحمه الله
تعالى :
[ ومضى موسى - عليه السّلام - إلى النار التي آنسها ، ينشد خبرا ، فإذا
هو يتلقى النداء الأسمى :
« فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ
حَوْلَها . وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا
اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » . .
إنه النداء الذي يتجاوب به الكون كله ، وتتصل به العوالم والأفلاك
ويخشع له الوجود كله وترتعش له الضمائر
والأرواح .
النداء الذي تتصل فيه السماء بالأرض وتتلقى الذرة الصغيرة دعوة خالقها
الكبير ويرتفع فيه الإنسان الفاني الضعيف إلى مقام المناجاة بفضل من اللّه .
« فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ » . . بهذا البناء للمجهول - وهو معلوم -
ولكنه التوقير والإجلال والتعظيم للمنادي العظيم .
« نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها » . .
فمن ذا كان في النار ؟ ومن ذا كان حولها ؟ إنها على الأرجح لم تكن
نارا من هذه النار التي نوقدها .
إنما كانت نارا مصدرها الملأ الأعلى . نارا أوقدتها الأرواح الطاهرة
من ملائكة اللّه للهداية الكبرى .
وتراءت كالنار وهذه الأرواح الطاهرة فيها . ومن ثم كان النداء : « أن
بورك من في النار » إيذانا بفيض من البركة العلوية على من في النار من الملائكة
ومن حولها . .
وفيمن حولها موسى . . وسجل الوجود كله هذه المنحة العليا . ومضت هذه
البقعة في سجل الوجود مباركة مقدسة بتجلي ذي الجلال عليها ، وإذنه لها بالبركة
الكبرى .
وسجل الوجود كله بقية النداء والنجاء : « وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ . يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » . .
نزه اللّه ذاته وأعلن ربوبيته للعالمين ، وكشف لعبده أن الذي يناديه
هو اللّه العزيز الحكيم .
وارتفعت البشرية كلها في شخص موسى - عليه السّلام - إلى ذلك الأفق
الوضيء الكريم .
ووجد موسى الخبر عند النار التي آنسها ، ولكنه كان الخبر الهائل
العظيم ووجد القبس الدافئ ، ولكنه كان القبس الذي يهدي إلى الصراط المستقيم ] ([380])
.
[ وارتفعت البشرية كلها في شخص موسى - عليه السّلام - إلى ذلك الأفق
الوضيء الكريم ] ! ! ! .
إنّ البشرية جميعهم ، ارتفعوا إلى أفقٍ وضيءٍ كريم !
وقد كان نبيّ الله موسى عليه السلام ، يمثّلهم جميعاً في ذلك الإرتفاع
!
وقال أيضاً :
[ ورحمة اللّه لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال . وجدها
إبراهيم - عليه السّلام - في النار .
ووجدها يوسف - عليه السّلام - في الجب كما وجدها في السجن .
ووجدها يونس - عليه السّلام - في بطن الحوت في ظلمات ثلاث .
ووجدها موسى - عليه السّلام - في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل
حراسة ، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه ]
([381])
.
وقال رحمه الله :
[ لقد انتهى به
السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين . وصل إليه وهو مجهود مكدود .
وإذا
هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة ، السليمة الفطرة ، كنفس موسى
- عليه السّلام –
وجد
الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن
ورود الماء .
والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة ، أن
تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا ، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما .
ولم
يقعد موسى الهارب المطارد ، المسافر المكدود ، ليستريح ، وهو يشهد هذا المنظر
المنكر المخالف للمعروف .
بل
تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب :
« قالَ
: ما خَطْبُكُما ؟ » .
« قالَتا
: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ » . .
فأطلعتاه
على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود . إنه الضعف ، فهما امرأتان
وهؤلاء الرعاة رجال . وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال !
وثارت
نخوة موسى - عليه السّلام - وفطرته السليمة . فتقدم لإقرار الأمر في نصابه .
تقدم
ليسقي للمرأتين أولا ، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة .
وهو
غريب في أرض لا يعرفها ، ولا سند له فيها ولا ظهير . وهو مكدود قادم من سفر طويل
بلا زاد ولا استعداد . وهو مطارد ، من خلفه أعداء لا يرحمون .
ولكن
هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف ، وإقرار الحق
الطبيعي الذي تعرفه النفوس :
« فَسَقى
لَهُما » . .
مما
يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين اللّه .
كما
يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل .
ولعلها
قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه .
فإنما
يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب ] ([382])
.
وقال
رحمه الله :
[ لقد قيل لموسى عليه السلام : « وَأَنَا
اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى » . .
وقيل
له : « وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي » . .
وقيل
له : « وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي » . .
وكلها
تعبيرات تدل على مقامات رفيعة ] ([383])
.
وجاء
في تفسيره الفذ رحمه الله :
[ « فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ : يا مُوسى إِنِّي
أَنَا رَبُّكَ . فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ . إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً .
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى . إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا أَنَا ، فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي . إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى . فَلا يَصُدَّنَّكَ
عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى » . .
إن
القلب ليجف ، وإن الكيان ليرتجف . وهو يتصور - مجرد تصور - ذلك المشهد . .
موسى
فريد في تلك الفلاة . والليل دامس ، والظلام شامل ، والصمت مخيم . وهو ذاهب يلتمس
النار التي آنسها من جانب الطور .
ثم
إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء : « إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ
نَعْلَيْكَ . إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ . . . » .
إن
تلك الذرة الصغيرة الضعيفة المحدودة تواجه الجلال الذي لا تدركه
الأبصار ، الجلال الذي تتضاءل في ظله الأرض والسماوات . ويتلقى . يتلقى ذلك النداء
العلوي بالكيان البشري . . فكيف ؟ كيف لولا لطف الله ؟
إنها
لحظة ترتفع فيها البشرية كلها وتكبر ممثلة في موسى – عليه السلام
فبحسب
الكيان البشري أن يطيق التلقي من ذلك الفيض لحظة .
وبحسب
البشرية أن يكون فيها الاستعداد لمثل هذا الاتصال على نحو من الأنحاء . . كيف ؟ لا
ندري كيف ؟ فالعقل البشري ليس هنا ليدرك ويحكم ، إنما قصاراه أن يقف مبهوتاً يشهد
ويؤمن !
(( فلما أتاها نودي يا موسى : إني أنا ربك . . )) نودي بهذا
البناء للمجهول . فما يمكن تحديد مصدر النداء ولا اتجاهه. ولا تعيين صورته ولا
كيفيته. ولا كيف سمعه موسى أو تلقاه . .
نودي
بطريقة ما فتلقى بطريقة ما. فذلك من أمر اللّه الذي نؤمن بوقوعه ، ولا نسأل عن
كيفيته ، لأن كيفيته وراء مدارك البشر وتصورات الإنسان « يا مُوسى إِنِّي أَنَا
رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً » . .
إنك
في الحضرة العلوية . فتجرد بقدميك . وفي الوادي الذي تتجلى عليه الطلعة المقدسة ،
فلا تطأه بنعليك .
« وَأَنَا
اخْتَرْتُكَ » . . فيا للتكريم ! يا للتكريم أن يكون اللّه بذاته هو الذي يختار .
يختار
عبدا من العبيد هو فرد من جموع الجموع . . تعيش على كوكب من الكواكب هو ذرة في
مجموعة .
المجموعة
هي ذرة في الكون الكبير الذي قال له اللّه : كن .. فكان !
ولكنها
رعاية الرحمن لهذا الإنسان ! ] ([384])
.
وزيادة
في بيان كذب ذلك الدجال ، ننقل فقرة أخرى عن ما قاله الشهيد سيّد قطب رحمه الله
تعالى ، عن نبيّ الله موسى عليه السلام .
جاء
في تفسيره رحمه الله تعالى :
[ « وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي »
! ! !
يا
للقدرة القادرة التي تجعل من المحبة الهينة اللينة درعا تتكسر عليها الضربات
وتتحطم عليه الأمواج .
وتعجز
قوى الشر والطغيان كلها أن تمس حاملها بسوء ولو كان طفلا رضيعا لا يصول ولا يجول
بل لا يملك أن يقول . . .
إنها
مقابلة عجيبة في تصوير المشهد . مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص
بالطفل الصغير ، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف . .
والرحمة
اللينة اللطيفة تحرسـه من المخاوف ، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة ، ممثلة في
المحبة لا في صيال أو نزال : «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» . .
وما
من شرح يمكن أن يضيف شيئا إلى ذلك الظل الرفيق اللطيف العميق الذي يلقيه التعبير
القرآني العجيب : « وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي »
وكيف
يصف لسان بشري ، خلقا يصنع على عين اللّه ؟ إن قصارى أي بشري أن يتأمله ويتملاه . .
إنها
منزلة وإنها كرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية . فكيف بمن يصنع صنعا على عين
اللّه ؟
إنه
بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه .
ولتصنع
على عيني . تحت عين فرعون - عدوك وعدوي - وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا
مدافع .
ولكن
عينه لا تمتد إليك بالشر لأني ألقيت عليك محبة مني . ويده لا تنالك بالضر وأنت
تصنع على عيني .
ولم
أحطك في قصر فرعون ، بالرعاية والحماية وأدع أمك في بيتها للقلق والخوف . بل جمعتك
بها وجمعتها بك :
« إِذْ
تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ ؟
فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ » . .
وكان
ذلك من تدبير اللّه . إذ جعل الطفل لا يقبل ثدي المرضعات . وفرعون وزوجه وقد تبنيا
الطفل الذي ألقاه اليم بالساحل - مما لا يفصله السياق كما يفصله في موضع آخر -
يبحثان له عن مرضع . فيتسامع الناس وتروح أخت موسى بإيحاء من أمها تقول لهم : هل
أدلكم على من يكفله ؟ وتجيء لهم بأمه فيلقم ثديها .
وهكذا
يتم تدبير اللّه للطفل وأمه التي سمعت الإلهـام فقذفت بفلذة كبدهـا في التابوت ،
وقذفت بالتابوت في اليم ، فألقاه اليم بالساحل . ليأخذه عدو للّه وله ، فيكون
الأمن بإلقائه بين هذه المخاوف ، وتكون النجاة من فرعون الذي كان يذبح أطفال بني
إسرائيل . بإلقائه بين يدي فرعون بلا حارس ولا معين !
ومنة
أخرى : « وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً
فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى .
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي » . .
ذلك
حين كبر وشب في قصر فرعون ، ثم نزل المدينة يوما فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما
إسرائيلي والآخر مصري ، فاستعانه الإسرائيلي فوكز المصري بيده فخر صريعا .
ولم
يكن ينوي قتله إنما كان ينوي دفعه .
فامتلأت
نفسه بالغم على هذه الفعلة - وهو المصنوع على عين اللّه منذ نشأته وتحرج ضميره
وتأثم من اندفاعه . .
فربه
يذكره هنا بنعمته عليه ، إذ هداه إلى الاستغفار فشرح صدره بهذا ونجاه من الغم .
ولم
يتركه مع هذا بلا ابتلاء ليربيه ويعده لما أراد فامتحنه بالخوف والهرب من القصاص ؟
وامتحنه
بالغربة ومفارقة الأهل والوطن وامتحنه بالخدمة ورعي الغنم ، وهو الذي تربى في قصر
أعظم ملوك الأرض ، وأكثرهم نزفا ومتاعا وزينة . .
وفي
الوقت المقدر . عند ما نضج واستعد ، وابتلي فثبت وصبر وامتحن فجاز الامتحان .
وتهيأت الظروف كذلك والأحوال في مصر ، وبلغ العذاب ببني إسرائيل مداه . .
في
ذلك الوقت المقدر في علم اللّه جيء بموسى من أرض مدين ، وهو يظن أنه هو جاء : « فَلَبِثْتَ
سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى » .
جئت
في الوقت الذي قدرته لمجيئك .. « وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي » خالصا مستخلصا ممحضا
لي ولرسالتي ودعوتي . .
ليس
بك شيء من هذه الدنيا ولا لهذه الدنيا . إنما أنت للمهمة التي صنعتك على عيني لها
واصطنعتك لتؤديها .
فما
لك في نفسك شيء. وما لأهلك منك شي ء ، وما لأحد فيك شيء . فامض لما اصطنعتك له ] ([385])
.
هل
تلك أقوال مَن يسخر بمقام نبيّ الله موسى عليه السلام ؟ !
بين
العمالة والجهالة
إنّ
الذي تولى كِبْر اتهام الشهيد سيّد قطب رحمه الله ؛ بأنه يسخر من مقام النبوّة ،
ويسخر من مقام نبيّ الله موسى عليه السلام .
إن
الذي تولى كِبْرَه ، يتأرجح موقفه بين أن يكون عميلاً للمخابرات ، يفعل ذلك عن
عمدٍ وقصد ، فهو له حظٌّ من المغضوب عليهم ؛ حيث تواتر أنّ اليهود أُطلق عليهم ذلك
اللقب المهين ؛ لأنهم يعصون ويتمرّدون عن علم وقصد .
وإمّا
أنه يفعل ذلك عن جهل وضلال ، فهو له حظّ من الضالّين ؛ حيث تواتر أن النصارى هم
الذين قيل عنهم ذلك ؛ لأنهم يعصون عن جهل وضلال .
فليختر
حظّه من أي الجهتين شاء !
وذلك
لأنه تبيّن بوضوح – لا يقبل أدنى شك – أنّ ذلك الإتهام كذب صريح ، لا يمتّ للصدق
بأدنى صلة !
فما
هي – إذن – حقيقة هذا الموقف الغريب المريب ؟
حقيقة
الأمر – إذا أحسنّا الظنّ بصاحبه – هي أنّ ذلك الجاهل تطاول ، وأراد أن يرفع نفسه
إلى مقام سيّد قطب رحمه الله ، وولج في موضوع ، هو غريب عن موطنه ، مغلوق عليه .
فجاء
بما يضحك الثكلى !
فحينما
قال الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى :
[ إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب
الجميل [ القرآن ] . القاعدة الأساسية المتبعة في جميع الأغراض –
فيما عدا غرض التشريع بطبيعة الحال –
فليس
البحث إذن عن صور تُجمَع وتُرَتَّب . ولكن عن قاعدة تكشف وتبرز .
ذلك
توفيق . لم أكن أتطلع إليه ، حتى التقيت به !
وعلى
هذا الأساس قام البحث ؛ وكل ما فيه إنما هو عرض لهذه القاعدة ، وتشريح لظواهرها ،
وكشف عن هذه الخاصية التي لم يتعرض من قبل لها
] ([386])
.
ثم
يشرح الشهيد رحمه الله ، ويبيّن قوله ذلك بقليل من التفصيل ، في فصل ، تحت عنوان :
( التصوير الفنيّ ) فيقول :
[ التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن .
فهو
يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني ، والحالة النفسية ؛
وعن
الحادث المحسوس ، والمشهد المنظور ؛
وعن
النموذج الإنساني والطبيعة البشرية .
ثم
يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة ، أو الحركة المتجددة . فإذا
المعنى الذهني هيئة أو حركة ؛
وإذا
الحالة النفسية لوحة أو مشهد ؛ وإذا النموذج الإنساني شاخص حيّ ، وإذا الطبيعة
البشرية مجسَّمة مرئية .
فأما
الحوادث والمشاهد ، والقصص والمناظر ، فيردها شاخصة حاضرة ؛ فيها الحياة ، وفيها
الحركة ؛
فإذا
أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل .
فما
يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة ؛ وحتى ينقلهم نقلاً إلى مسرح الحوادث
الأول ، الذي وقعت فيه أو ستقع ؛
حيث
تتوالى المناظر ، وتتجدد الحركات ؛ وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى ، ومثل يضرب ؛
ويتخيَّل أنه منظر يعرض ، وحادث يقع .
فهذه
شخوص تروح على المسرح وتغدو ؛ وهذه سمـات الانفعـال بشتى الوجدانات ، المنبعثة من
الموقف ، المتساوقة مع الحوادث ؛ وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة ، فتنم عن الأحاسيس
المضمرة .
إنها
الحياةُ هنا ، وليست حكاية الحياة .
فإذا
ما ذكرنا أن الأداة التي تصوّر المعنى الذهني والحالة النفسية ؛ وتشخص النموذج
الإنساني أو الحادث المرويّ ، إنما هي ألفاظ جامدة ، لا ألوان تصوِّر ، ولا شخوص
تعبِّر ، أدركنا بعض أسرار الإعجاز في هذا اللون من تعبير القرآن .
والأمثلة
على هذا الذي نقول هي القرآن كله ؛
حيثما
تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرناها ؛ حيثما شاء أن يعبّر عن معنى مجرَّد ، أو حالة
نفسية ، أو صفة معنوية ، أو نموذج إنساني ، أو حادثة واقعة ، أو قصة ماضية ، أو
مشهد من مشاهد القيامة ، أو حالة من حالات النعيم والعذاب ، أو حيثما أراد أن يضرب
مثلاً في جدل أو محاجَّة ، بل حيثما أراد هذا الجدل إطلاقاً ، واعتمد فيه على
الواقع المحسوس ، والمتخيل المنظور .
وهذا
هو الذي عنيناه حينما قلنا : (( إن التصوير هو
الأداة المفضَّلة في أسلوب القرآن )) .
فليس
هو حلية أسلوب ، ولا فلتة تقع حيثما اتفق .
إنما
هو مذهب مقرر ، وخطة موحدة ، وخصيصة شاملة ، وطريقة معيّنة ، يَفتنُّ في استخدامها
بطرائق شتَّى ، وفي أوضاع مختلفة ؛
ولكنها
ترجع في النهاية إلى هذه القاعدة الكبيرة : قاعدة التصوير ] ([387])
.
إن
الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، قد وفّقه الله تعالى ، فمنحه اكتشاف قاعدة عظيمة في القرآن
الكريم ، لم يسبقه به غيره من الأئمة والعلماء ، وهي قاعدة :
التصوير !
وهي
تعني : أن القرآن الكريم ، يعبّر عن المعاني الذهنية ، والحالات النفسية ،
والحوادث المحسوسة ، والمشاهد النظورة ، وعن النماذج الإنسانية ، والطبائع البشرية
، و . . . و . . . إلخ .
يعبّر
القرآن الكريم عن كل تلك الأمور ، بالصورة المحسة المتخيلة .
وكأن
كل تلك الأمور يراها المستمع للقرآن الكريم ، رأي العين أمامه ، وكأنه يشاهد
الأحدات – وهي فعلاً تحدث أمامه – مشاهدة
، وليس يسمعها !
وهي
الحياة – كما قال الشهيد – وليست حكاية الحياة !
قال
الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى :
[ ذهبتُ مرَّةً أزور أستاذنا الزيات في دار الرسالة
، وكانت زيارته أحبَّ شيء إليَّ وأنا في مصر ، وكانت دار الرسالة أقربَ الأمكنة في
القاهرة إلى قلبي ، فلذلك كنت أؤمُّها كلَّ يوم ، ولولا خوفي من ملل الأستاذ ما كنت
لأفارقها .
أقول : إني ذهبت أزوره مرة فوجدت عنده
شابًّا أسمر اللون لطيفًا هادئًا ، تبدو عليه سيما المسالمة والموادعة والإيناس ،
فقال لي : إني أعرِّفك بالأستاذ سيد قطب
،
وأحلف أني شُدِهت ، وكنت أرتقب أن يكون
هذا الشابُّ أيَّ إنسان في الدنيا إلا سيد قطب ،
وكنت أستطيع أن أتخيَّل سيد قطب على ألف
صورة إلا هذه الصورة ، وازددت يقينًا بأن من الخطأ البيِّن أن تحكم على شخص الكاتب
بكتابته ، أو تعرف الشاعر من شعره ،
وفوجئت مرة أخرى بما لا أرتقب حين تفضَّل
فأهدى إليَّ كتابه " التصوير الفني في القرآن" ؛
لأني لم أتخيَّل سيد قطب إلا مقارعًا
محاربًا ، ولم أعرفه إلا كاتبًا مجادلًا مناضلًا، يهاجم مهاجمًا ومدافعًا ومحايدًا
،
وذهبت فقرأت الكتاب فوجدت فتحًا – واللهِ
– جديدًا ، ووجدته قد وقع على كنز كأن الله ادَّخره له ، فلم يُعط مفتاحه لأحد من قبله
حتى جاء هو ففتحه ،
وشعرت عند قراءته بمثل ما شعرت به عند
قراءة ( دفاع عن البلاغة ) للسيد الزيات ، وجربت أن أكتب عنهما فما استطعت ، إكباراً
لهما وإعظاماً لشأنهما ] ([388])
.
ثم
بعد ذلك ، ضرب الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، بعض الأمثلة عن تلك القاعدة ، فقال :
[ ونبدأ بالمعاني الذهنية التي تخرج في صورة حسية
:
1 –
يريد أن يبين أن الذين كفروا لن ينالوا القبول عند الله ، ولن يدخلوا الجنة
إطلاقاً ، وأن القبول أو الدخول أمر مستحيل .
هذه
هي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة . ولكن أسلوب التصوير يعرضها
في الصورة الآتية :
( إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ
السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ
الْخِيَاطِ ) .
ويدعك
ترسم بخيالك صورة لتفتح أبواب السماء ، وصورة أخرى لولوج الحبل الغليظ في سم
الخياط ؛
ويختار
من أسماء الحبل الغليظ اسم (( الجمل )) خاصة في هذا
المقام ؛ ويدع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين ما شاء له التأثر ،
ليستقر
في النهاية معنى القبول ومعنى الاستحالة ، في أعماق النفس ، وقد وردا إليها من
طريق العين والحس – تخييلاً – وعبرا إليها من منافذ شتى ، في هينة وتؤدة ، لا من
منفذ الذهن وحده ، في سرعة الذهن التجريدية .
2 –
ويريد أن يبين أن الله سيضيع أعمال الذين كفروا كأن لم تكن قبل شيئاً ، وستضيع إلى
غير عودة فلا يملكون لها رداً ، فيقدم هذا المعنى مصوّراً في قوله :
( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) .
ويدعك
تتخيّل صورة الهباء المنثور ، فتعطيك معنى أوضح وآكد ، للضياع المؤكد .
3 –
أو يرسم هذه الصورة المطوّلة بعض الشيء لهذا المعنى نفسه :
( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ
لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ) .
فتزيد
الصورة حركة وحياة ، بحركة الريح في يوم عاصف ، تذرو الرماد وتذهب به بدداً ، إلى
حيث لا يتجمع أبداً . . .
6 –
ويريد أن يُبرز معنى : أن الله وحده يستجيب لمن يدعوه ، وينيله ما يرجوه ؛ وأن
الآلهة التـي يدعونها مع الله لا تملك لهم شيئاً ، ولا تنيلهم خيراً ، ولو كان
الخير قريباً ؛ فيرسم لهذا المعنى هذه الصورة العجيبة :
( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ
الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ) .
وهي
صورة تُلح على الحس والوجدان ، وتجتذب إليها الالتفات ، فلا يستطيع أن يتحول عنها
إلا بجهد ومشقة ؛
وهي
من أعجب الصور التي تستطيع أن ترسمها الألفاظ : شخص حيّ شاخص ، باسط كفَّيه إلى
الماء ، والماء منه قريب ، يريد أن يُبلغه فاه ، ولكنه لا يستطيع ، ولو مَدَّ
مَدَّةً فربما استطاع ! ] ([389])
.
وقال
رحمه الله تعالى :
[ وكما يصوّر المعاني المجردة يصوّر الحالات
النفسية والمعنوية :
1 –
يريد أن يُبرز الحيرة التي تنتاب مَن يشرك بعد التوحيد ، ومَن يتوزع قلبه بين
الإله الواحد والآلهة المتعددين ، ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال ، فيرسم هذه
الصورة المحسَّة المتخيّلة :
( قُلْ :
أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا ، وَنُرَدُّ
عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ ، كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ
الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ ، حَيْرَانَ ، لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى
الْهُدَى . . ائْتِنَا . . ) .
فتبرز
صورة هذا المخلوق التعيس الذي استهوَته الشياطين في الأرض ( ولفظ الاستهواء مصوّر
لمدلوله )
ويا
ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه ، فتكون له راحةُ ذي القصد الموحد – ولو كان في
طريق الضلال –
ولكن
هناك من الجانب الآخر ، إخوان له يدعونه إلى الهدى ، وينادونه : (( ائتنا ))
وهو
بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء (( حيران )) موزع القلب ،
لا يدري أي الفريقين يجيب ، ولا أي الطريقين يسلك ، فهو قائم هناك شاخص متلفت ! .
. .
3 –
ويريد أن يوضح حالة تزعزع العقيدة ، حيث لا يستقر الإنسان على يقين ؛ ولا يحتمل ما
يصادفه من الشدائد بقلب راسخ ؛ ولا يجعل عقيدته في معزل عن ملابسات حياته ، بعيدة
عن ميزان الربح والخسارة .
فيرسم
لهذا التزعزع صورة تهتز وتترنح ، وتوشك على الانهيار :
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ
اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ
أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ) .
إن
الخيال ليكاد يجسم هذا (( الحرف )) الذي يعبد الله
عليه هذا البعض ، وإنه ليكاد يتخيَّل الاضطراب الحسي في وقفتهم ، وهم يتأرجحون بين
الثبات والانقلاب ؛
وإن
هذه الصورة لترسم حالة التزعزع بأوضح مما يؤديه وصف التزعزع ، لأنها تنطبع في الحس
، وتتصل منه بالنفس .
وإني
لأذكر الآن تلك الصورة التي ارتسمت في خيالي وأنا طفل أقرأ القرآن في المدرسة
الأولية ، حين وصلت إلى هذه الآية . .
ترى
يبعد تصوري الآن كثيراً عن هذه الصورة الساذجة ؟ لا أظن !
فالاختلاف
الذي طرأ هو مجرد إدراكي اليوم أن هذا مثل يُضرب ، لا حقيقة تشهد
وذلك
إعجاز التعبير الذي تتقارب في إدراكه شتى المدارك ، وتصل في كل حالة إلى صورة حية
، مع اختلاف الأفهام . . .
ومن
بين الحالات النفسية التي يصوّرها القرآن ، ما يرسم (( نموذجاً )) إنسانياً
واضحاً للعيان :
مثال
ذلك (( من يعبد الله على حرف )) وقد تحدثنا
عنها هناك ، فنزيد عليها هذه الأمثال :
1 –
يريد أن يُشخِّص حالة العناد السخيف ، والمكابرة العمياء ، التي لا يجدي معها حجة
ولا برهان ، فيبرز (( نموذجاً إنسانياً )) في هذه الكلمات
:
( وَلَوْ
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ،
لَقَالُوا : إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ! ) .
أو
يقول :
( وَلَوْ
نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ،
لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ! ) . . .
فلنأخذ
الآن فـي ضرب الأمثلة على التصوير المشخص ، لمشاهد الحوادث الواقعة ، والأمثال
المضروبة ، والقصص المروية ، فالطريقة فيها واحدة ، والشبه بينها قريب :
1 –
ها هو ذا يتحدث عن (( الهزيمة )) فيرسم لها
مشهداً كاملاً تبرز فيه الحركات الظاهرة والانفعالات المضمرة ، وتلتقي فيه الصورة
الحسية بالصورة النفسية ، وكأنما الحادث معروض من جديد ، دون أن يُغفل منه قليل أو
كثير :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ ،
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ، وَكَانَ اللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ،
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا .
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ
فَارْجِعُوا . وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ . يَقُولُونَ : إِنَّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ، وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ) .
فأية
حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة ، وأية سمة ظاهرة أو مضمرة من سمات الموقف ،
لم يبرزها هذا الشريط الدقيق المتحرك ، المساوق في حركته لحركة الموقف كله ؟
هؤلاء
هم الأعداء يأتون المؤمنين من كل مكان ، وهذه هي الأبصار زائغة والنفوس ضائقة .
وهؤلاء
هم المؤمنون يُزلزَلون زلزالاً شديداً . وهؤلاء هم المنافقون ينبعثون بالفتنة
والتخذيل . يقولون : (( مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
إِلَّا غُرُورًا )) ، ويقولون لأهل المدينة : لا بقاء لكم هنا . ارجعوا إلى بيوتكم فهي
في خطر .
وهؤلاء
هم جماعة من ضعاف القلوب يقولون : إن بيوتنا مكشوفة ، وليست في حقيقتها مكشوفة : (( إِنْ
يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا )) .
وهكذا
لا تُفلتُ في الموقف حركة ولا سمة ، إلا وهي مسجَّلة ظاهرة ، كأنها شاخصة حاضرة .
.
تلك
حادثة وقعت بالفعل . ولكن صورتهـا ترسم (( الهزيمة )) مطلقة من كل
ملابسة ، وما يزيد عليها أو ينقص منها إلا جزئيات في الواقع !
أما
الصورة النفسية فخالدة تتكرر في كل زمان ، حيثما التقى جمعان ، وتعرض أحدهما
للخذلان . . .
ثم
نأخذ في عرض نماذج من الأمثال القصصية التي تضرب في القرآن :
1 –
ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة – جنة الدنيا لا جنة الآخرة – وها هم أولاء
يُبَيِّتون في شأنها أمراً .
لقد
كان للفقراء حظ من ثمر هذه الجنة ، ولكن الورثة لا يشاءون . إنهم ليريدون أن
يستأثروا بها وحدهم ، وأن يحرموا أولئك المساكين حظهم . فلننظر كيف يصنعون :
( إِنَّا
بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ، إِذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ ) .
لقد
قرَّ رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر ، دون أن يستثنوا منه شيئاً
للمساكين .
فلندعهم
على قرارهم ، ولننظر ماذا يقع الآن في بهمة الليل ؛ حيث يختفون هم ، ويخلو منهم
المسرح .
فماذا
يرى النظارة ؟ هناك مفاجأة تتم خلسة ، وحركة خفية كحركة الأشباح في الظلام ! (( فَطَافَ
عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ )) . وهم لا
يشعرون .
والآن
ها هم أولاء يتصايحون مبكرين ! وهم لا يدرون ماذا أصاب جنتهم في الظلام : (( فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ . أَنِ
اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ . فَانْطَلَقُوا وَهُمْ
يَتَخَافَتُونَ . أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ )) !
ليمسك
النظارة ألسنتهم فلا ينبهوا أصحاب الجنة إلى ما أصاب جنتهم ؛ وليكتموا ضحكات
السخرية التي تكاد تنبعث منهم ، وهم يشاهدون أصحاب الجنة المخدوعين ، يتنادون
متخافتين ، خشية أن يدخلها عليهم مسكين !
ليكتموا
ضحكات السخرية ! بل ليطلقوها ! فها هي ذي السخرية العظمى : (( وَغَدَوْا
عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ )) أجل ! إنهم
لقادرون الآن ، على المنع والحرمان ، حرمان أنفسهم على الأقل !
وها
هم أولاء يفاجأون ، فليضحك النظارة كما يشاءون : (( فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا : إِنَّا
لَضَالُّونَ )) ما هذه جنتنا
الموقَرَة بالثمار ، فقد ضللنا إليها الطريق ! . . فلتتأكدوا يا جماعة ! . . (( بَلْ
نَحْنُ مَحْرُومُونَ )) . . وهذا هو الخبر اليقين !
والآن
قد سُقط في أيديهم : (( قَالَ أَوْسَطُهُمْ : أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ : لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ! )) اي والله !
هلَّا سبَّحتم الله واتقيتموه ؟ (( قَالُوا : سُبْحَانَ رَبِّنَا ،
إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ )) . الآن وبعد
فوات الأوان !
وكما
يتنصل كل شريك من التبعة عندما تسوء العاقبة ، ويتوجه باللوم إلى الآخرين ، ها هم
أولاء يصنعون : (( فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ! )) .
ثم
ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعاً بالخطيئة ، عسى أن يفيدهم الاعترافُ
الغفران ، ويعوضهم من الجنة الضائعة جنة أخرى : (( قَالُوا : يَاوَيْلَنَا ! إِنَّا
كُنَّا طَاغِينَ . عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا ، إِنَّا
إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ )) ! . . .
والآن
فلنعرض شطراً من قصص حقيقية ، بعدما عرضنا قصص الأمثال .
1 –
لنعرض مشهداً من قصة إبراهيم ، وهو يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل ، وكأنما نحن
نشهدهما يبنيان ويدعوان الآن ، لا قبل اليوم بأجيال وأزمان .
( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ . رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ،
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَـا وَاجْعَلْنَـا مُسْلِمَيْنِ
لَكَ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ،
وَتُبْ عَلَيْنَا ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ، وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَيُزَكِّيهِمْ . إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ) .
لقد
انتهى الدعاء ، وانتهى المشهد ، وأسدل الستار .
هنا
حركة عجيبة في الانتقال من الخبر إلى الدعاء ، هي التي أحيت المشهد وردته حاضراً .
فالخبر
: (( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ
مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ )) كان كأنما هو
الإشارة برفع الستار ليظهر المشهد : البيت ، وإبراهيم وإسماعيل ، يدعوان هذا
الدعاء الطويل .
وكم
في الانتقال هنا من الحكاية إلى الدعاء من إعجاز فني بارز ،
يزيدُ
وضوحاً لو فرضت استمرار الحكاية ، ورأيت كم كانت الصورة تنقص لو قيل : وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان : ربنا . . . إلخ .
إنها
في هذه الصورة حكاية ، وفي الصورة القرآنية حياة .
وهذا
هو الفارق الكبير . إن الحياة في النص لتثب متحركة حاضرة . وسر الحركة كله في حذف
لفظة واحدة . . وذلك هو المجاز . . .
ثم
لننتقل إلى مشاهد القيامة ، وإلى صور النعيم والعذاب ، فقد كان لها من التصوير
الفني أوفى نصيب :
1 –
( يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ، خُشَّعًا
أَبْصَارُهُمْ ، يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ،
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ، يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ) .
فهذا
مشهد من مشاهد الحشر ، مختصر سريع ؛ ولكنه شاخص متحرك ، مكتمل السمات والحركات .
هذه
جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة ، كأنها جراد منتشر ( ومشهد الجراد المعهود
يساعد على تصور هذا المنظر العجيب )
وهذه
الجموع تسرع في سيرها نحو الداعي ، دون أن تعرف لِمَ يدعوها ، فهو يدعوها (( إِلَى
شَيْءٍ نُكُرٍ )) لا تدريه .
((خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ )) وهذا يكمل
الصورة ؛ ويمنحها السمة الأخيرة .
وفي
أثناء هذا التجمع والإسراع والخشوع (( يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ
عَسِرٌ )) . فماذا بقي من المشهد لم يشخص بعد هذه الفقرات القصار ؟
وإن
السامعين ليتخيلون اليوم النكر ، فإذا هو حشد من الصور . صورهم هم – وإنهم لمن
المبعوثين – يتجلى فيها الهول الحي ، الذي يؤثر في نفس كل حيّ ! ] ([390])
.
وهكذا
ألّف الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، كتاباً خاصّاً عن هذا الموضوع ؛ وهو الذي نقلنا
عنه تلك النقولات .
وكتاباً
آخر في بيان تطبيق تلك القاعدة في القرآن الكريم ، على اليوم الآخر ؛ وهو كتاب : (
مشاهد القيامة في القرآن ) .
فعندما
ألف الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، كتابه : ( التصوير الفني في القرآن ) ، وأعلن
اكتشافه لقاعدة التصوير في القرآن ، والذي نقلنا منه تلك الفقرات السابقة .
جاء
ذلك الحاقد على الشهيد ، فانتقد كتاب ( التصوير الفني ) بزعمه ، فأبعد النجعة ،
فقال بما يذهل الحليم ، ويجعله يضرب كفّاً بكفّ تعجباً ، حيث قال : إن التصوير حرام ، وذهب يستدل
بالآيات والأحاديث ، على حرمة التصوير ! !
سَـارَتْ مُشَـرِّقَةً وسِـرْتُ مُغَـرِّباً شَـتَّانَ بَيْـنَ مُشَــرِّقٍ ومُغَـرِّبِ
ونقده هذا يذكرنا بذاك الأبله البليد ، حيث حكوا : أن
شيخاً خطب في مسجد بإحدى القرى حتـى وصل إلـى حديث : ( حتى لو دخلوا جحر ضبّ
لدخلتموه . . ) ثم قال : أخرجه الطبراني .
فقام أحد المصلين وسأله : الطبراني أخرج الضبّ ؟
قال الشيخ : لا .. أخرج الحديث
فقال : من جحر الضب ؟ ؟
قال الشيخ : لا يا ابن الحلال … أخرجه
… يعني .. رواه
فقال : والضب حصله إيه ؟ ؟
قال الشيخ : الضب إستعارة فقط .
فقال : يعني الضب بتاع الطبراني ؟ ؟
قال الشيخ : لا يا أخي الطبراني ما عندوش
ضب
فقال : طيب الطبراني إستعار الضب من مين
؟ ؟
قال الشيخ : الله ياخدني أنا لن أخطب
مرة ثانية ..
فقال : ليه عاوز تخطب ؟ أنت قلتلنا أنك
متجوز يا شيخ
قام الشيخ ترك الجامع وحلق لحيته وترك
البلد وراح يشتغل في محل فول وطعمية
بعد فترة مرّ على الشيخ وقال له : عارف
يا بلدينا لو تربي لحيتك تبقى شبه واحد كان خطيب في المسجد عندنا ؟
قام الشيخ سأله : إسمه إيه ؟
قال له : بصراحة
أنا مش متذكر إسمه ، بس متذكر إنه كان مربي عنده ضب وعطاه للطبراني ! ! ] .
فلا يجوز ، وهو حرام ، أن يحشر – أمثال هؤلاء – أنفسهم بين العلماء ،
ويشغبوا على أولياء الله تعالى ، فيصدوا عن سبيل الله ، وهم في أحسن أحوالهم ، لا
يدرون ما يقومون به من دور بئيس !
( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ
الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ) ([391])
.
حقيقة
السخرية بنبيّ الله موسى عليه السلام !
[ موضوع التصوير القرآني من المواضيع التي
اكتشفها سيد بعقل أريب ، وتذوق حلاوتها تذوق أستاذ أديب ،
وكانت
في اكتشافها قصة ذكرها أول الكتاب ، رأى من حق القاريء عليه أن يسردها عليه ،
ويبثها إليه ! !
وخلاصة
ما في الأمر ، أن القرآن يعرض المشاهد المعنوية والمعاني النفسية عرض المحسوسات من
الأجسام ،
ويصورها
ببراعة لا تلحق شأوها ريشة خير رسام ،
حتى
أنه ليصور لك مثلاً : نفسية الغضبان بدقة فائقة ، وعبارة رائقة ، تجعلك ترى الغضب
وكأنه جسم مـاثل بين يديك تتعرف عليه كمـا تتعرف علـى الأشياء الملموسة ! !
وهذا
الذي أشرنا إليه في القرآن ، ليس أمراً طارئاً ولا حالا مستثنى ، بل " هو
قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل القاعدة الأساسية المتبعة في جميع الأغراض –
فيما عدا غرض التشريع بطبيعة الحال - ([392])
وهكذا
حفل سيد أن التوفيق حالفه بذوقه الأدبي ، ولسانه العربي أن يكون شاهداً على "
قاعدة تكشف وتبرز " ([393])
إنها
قاعدة التصوير الذي يجعل التعبير القرآني يتناول القصة بريشة التصوير المبدعة التي
يتناول بها جميع المشاهد والمناظر التي يعرضها فتستحيل القصة حادثا يقع ومشهدا
يجري ، لا قصة تروى ولا حادثا قد مضى " ([394])
.
من
هنا انطلق سيد قطب يعرض النماذج والصور التي تؤكد أننا أمام قاعدة متكاملة ،
وظاهرة شاملة ، يبوح بها التعبير القرآني في نواحي متعددة ،
ومن
ذلك ما جعله تحت عنوان " رسم الشخصيات في القصة " ليدلل على الأسلوب
الذي يتجلى في التعبير القرآني حين يعرض لأصناف من الشخصيات " ويرسم بضع
" نماذج إنسانية " من هذه الشخصيات " ([395])
رسما يعجز عنه كل مخلوق ! ولا يقدر عليه سوى علّام الغيوب !
وعندما
أراد أن يضرب مثلا لشخصية حادة ، ونموذجا لرجل عصبي المزاج اختار موسى نموذجا
" للزعيم المندفع العصبي المزاج " ([396])
كما
اختار نموذج الخليل إبراهيم مثلا " للتسامح والهدوء والحلم " ([397])
وساق
في كلتا الحالتين الآيات القرآنية وهي ترسم في إبداع منقطع النظير معاني كل شخصية
بما لا يوصف من الجمال والبيان والجلال ! ! ] ([398])
.
فجاء
ذلك المتطفل ، ودخل في مواضيع لا يحسنها ، ولا هو من أهلها ، فقال : سيد قطب يسخر
من موسى عليه السلام ([399])
! !
ولا
ينبغي ، ولا يجوز أن تتدخل نفسية وعقلية البدوي ، في مواضيع كهذه ، وإلا فسيفضح
نفسه ، كما فعل هنا خصم الشهيد سيّد قطب رحمه الله !
وليس
في كلامنا ما يخدش البدوي المتأدب ؛ الذي يعرف قدر نفسه ، فيتوقف عنده !
فالبداوة
– كما ذكرنا سابقاً – ليست مذمومة في حد ذاتها .
ولكن
هذا البدويّ – عقلاً وتفكيراً ونفساً – قد جاوز قدره ، وتخطى حدّه ، فأورد نفسه
مورداً لا يُحسد عليه !
إن
الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، لم يفعل أكثر من تفسير الآيات القرآنية ، وبيان
معانيها .
وإلا
فليتفضّل هذا البدوي – الذي يُقال عنه ظلماً وعدواناً : العلّامة . إي والله .
فليفسّر
لنا قوله تعالى ، عن نبيّ الله موسى عليه السلام : ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ
شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ
هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) ([400])
.
( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) . ما
هو الشيء الذي وصفه نبيّ الله موسى عليه السلام ، هنا ، بأنه : هو من عمل الشيطان
، الذي هو عدوّ مضلّ مبين ؟ ! وما الذي دفعه لذلك العمل ؟ !
قال
الإمام إبن جرير الطبري رحمه الله :
[ وقوله : ( قَالَ
هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )
يقول تعالى ذكره : قال موسى حين قتل القتيل :
هذا القتل من تسبب الشيطان لي بأن هيَّج
غضبي حتى ضربت هذا فهلك من ضربتي ،
( إِنَّهُ عَدُوٌّ ) يقول : إن الشيطان عدو
لابن آدم
( مُضِلٌّ ) له عن سبيل الرشاد بتزيينه له
القبيح من الأعمال ، وتحسينه ذلك له
(مُبِينٌ) يعني أنه يبين عداوته لهم قديما،
وإضلاله إياهم ] ([401])
.
وقال
الشيخ السعدي رحمه الله :
[ و { قَالَ
هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي : من تزيينه ووسوسته ،
{ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } فلذلك
أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة ، وحرصه على الإضلال ] ([402])
.
وكذلك قوله تعالى : ( وَأَلْقَى
الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ ) ([403])
.
قال
الشيخ أبو بكر الجزائري :
[ من هداية
الآيات :
1- الغضب من طباع البشر فلا يلام عليه المرء ومهما بلغ من
الكمال كالأنبياء ،
ولكن أهل الكمال لا يخرج بهم الغضب
إلى حد أن يقولوا أو يعملوا ما ليس بخير وصلاح ] ([404])
.
[ وَأَلْقَى
الْأَلْواحَ وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدّة الضجر عند استماعه حديث العجل ،
غضبا لله وحمية لدينه ،
وكان
في نفسه حديداً شديد الغضب ، وكان هارون ألين منه جانبا ولذلك كان أحب إلى بنى
إسرائيل من موسى
] ([405])
.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله :
[ كَانَ مُوسَى مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ غَضَبًا ؛ لَكِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ
الْفَيْئَةِ ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ :
كَانَ مُوسَى إذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ ، وَرَفَعَ
شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ ؛
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ فِي
الْقَلْبِ ، وَلِأَجْلِهِ « أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مَنْ غَضِبَ أَنْ يَضْطَجِعَ ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ غَضَبُهُ
فَلْيَغْتَسِلْ ؟ » فَيُخْمِدُهَا اضْطِجَاعُهُ ، وَيُطْفِئُهَا اغْتِسَالُهُ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ
طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
« أُرْسِلَ
مَلَكُ الْمَوْتِ إلَى مُوسَى ، فَلَمَّا جَاءَ صَكَّهُ صَكَّةً فَفَقَأَ فِيهَا
عَيْنَهُ ، فَرَجَعَ إلَى رَبِّهِ ، فَقَالَ :
أَرْسَلْتنِي إلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ .
فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِ ، فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ
عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ . قَالَ : أَيْ رَبِّ ، ثُمَّ
مَاذَا ؟ قَالَ : الْمَوْتُ . قَالَ : فَالْآنَ » الْحَدِيثَ .
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ غَضَبِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِذَلِكَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ عِنْدَ رُؤْيَةِ عِبَادَةِ
الْعِجْلِ ، وَمَا أَوْقَعَ الْغَضَبَ هَاهُنَا ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ
يَجُرُّهُ إلَيْهِ ] ([406])
.
[ ثم إن قول الدكتور ([407])
: " إن ما نسبه إلى نبيّ الله وكليمه موسى عليه السلام ينافي ما يستحقه . .
الخ " كلامه فجوابه كما يلي :
أولاً : عرفنا
أن سيدا كان بصدد إيضاح الصورة التي ترسمها آيات القرآن للمزاج العصبي في الشخصية
، ويتأملها وهي توقع ملامح العصبية في مواقف مختلفة في حدوثها ، لكنها متفقة في
مضمونها وفحواها ،
فموسى – عيه السلام – حين أشار سيد قطب إلى أنه مثال
المزاج الذي يخف إليه الغضب بسرعة ، وتنفعل أعصابه بعجلة ، وأن هذا الوصف ملازم له
فـي مختلف أطواره ،
فهو لم يزد على أن تذوق الآيات التي رسمت ذلك بدقة يهتز
لها الإحساس لا سيما إن كان إحساس أديب ،
وليس في ذلك ما يخدش في موسى – عليه السلام – أن يكون
مزاجه على هذا النحو ولا ما يخدش في احترام سيد له إذا وصفه بما وصفه ،
لأنه وهو في إطار بيان التصوير الفني ما زاد على أن ترجم
بلغة الأديب ما رسمه القرآن المجيد ،
تماما لو أن أحد المتخصصين ترجم لمن ينظر لوحة رسام ،
فقال له : إن المعنى الذي تنطق به اللوحة يصف شخصية رجل أسود وضعه كيت وكيت ،
فهل نوبخ الشارح على ترجمته ؟ ! كلا ! وكذلك سيد قطب
يترجم بسليقته الأدبية ما نطقت به الآيات القرآنية .
فإن الآيات المختلفة هي التي كشفت عن مزاج موسى – عليه
السلام – من خلال مختلف الصور التي عرضت له ([408])
.
ثانيا : إن سيد
قطب حين وصف موسى – عليه السلام – بكونه مندفعا وعصبيا إثر التصوير الذي كشفته
الآيات ، لم يكن بوصفه ذاك منتقصا ولا مؤذيا له – حاشاه رحمه الله تعالى –
بل إنه حين أشار إلى غضبه في تفسيره كان يعتذر له بل يرى
غضبه واجبا، وما حيلة المرء المجبول على سرعة الغضب وقوة الاندفاع ؟ حسبه أن يؤوب
ويعود كما فعل موسى نفسه – عليه السلام – حين استفزه ما رأى من قومه بعد غيابه ،
فصاح مغضبا لدرجة أن رمى بكلام الله ! على الأرض ، إلا أنه سرعان ما أخذه من جديد
! لكن متى كان ذلك ؟ !
" لما سكت عنه الغضب " ! !
وعلى كل حال فإن سيدا موقر للأنبياء ومحترم لهم ، وكذلك
فهو يجل موسى ويمجد أخلاقـه وتصرفاتـه ، كمـا فعل فـي تعليقه علـى سقي موسى بنتي
شـيخ مدين عليهـم السـلام حيث قـال " فسـقى لهمـا " ممـا يشهد بنبل
النفس التي صنعت على عين الله . . . " ([409])
مـا أجرأ النفوس التـي يهون عليهـا تلفيق العيوب ، ولا
تخشى مراقبة علام الغيوب !
إسمع يا دكتور ([410])
أو لا تسمع كيف يطري سيد موسى – عليه السلام – ويغبط موقفه بين يدي رب الانام :
" وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي ؛ وبوركت
البقعة التي تجلى عليها ذو الجلال : وتميز الوادي الذي كرم بهذا التجلي ، ووقف
موسى في أكرم موقف يلقاه إنسان
" ترى هل سيد يعتقد فيمن تشرف بأكرم موقف ما يحط من
قدره ، أو يغض من مرتبته ؟ !
ثالثا : وأما عن
قول الدكتور [ ! ! ] : " إنه – سيد قطب – قد أسرف واشتط وحلق بعيـدا في
خيـاله المجنح وأسلوبـه القصصـي فـي التهويـل والتمثيـل " ([411])
لمـاذا كـل هذه الأوصاف ، وماذا جنى سيد في رأي الدكتور
؟ ! يجيب : " مما ألصقه من صفات الاندفـاع والعصبيـة والحدة والفزع والتوتر
بكليـم الله موسـى عليـه الصلاة والسـلام . . . " ([412])
.
والجواب أن هذا الذي ربما رأيت فيه أنت ما رأيت ، وألفيت
فيه ما يخل بالأدب والتبجيل مع الأنبياء ، فهلا دعمت قولك بكلام العلماء ؟ !
ولا تحسبن أنهم ما قرأوا " كتاب الأنبياء " من
" صحيح البخاري " فهذا الحافظ ابن حجر أحسن من شرح الكتاب يقول في حديث
محاجة آدم لموسى – عليهما السلام - :
" وفيه أنه يغتفر للشخص في بعض الأحوال ما لا يغتفر
في بعض ، كحالة الغضب والأسف وخصوصا ممن طبع على حدة الخلق وشدة الغضب ، فإن
موسى عليه السلام لما غلبت عليه حالة الإنكار في المناظرة خاطب والده باسمه مجردا
وخاطبه بأشياء لم يكن ليخاطبه بها في غير تلك الحالة " . ([413])
ولا تظنن يا دكتور ظن السوء بالحافظ أيضا لوصفه سيدنا
موسى عليه السلام بحدة الطبع وشدة الغضب واعتبره خاطب والده بطريقة " لم يكن
ليخاطبه بها " أي لا يليق ذلك " في غير تلك الحالة "
فلا تظنن ذلك قلة احترام ، أو طعنا في الرسل الكرام !
زد على ذلك أن الحافظ قرر هذا في كتاب القدر ، أي وهو
بصدد الكلام في مسائل العقيدة خلافا لسيد قطب الذي ذكر ما ذكر وهو بصدد السياحة في
الأذواق الأدبية التي استعذبها وانتعش حسه بها ! ! ] ([414])
.
الموسيقى
عندمـا استخدم الشهيد سيّد قطب رحمـه الله تعالـى ،
كلمـة ، أو مصطلـح ( الموسيقى ) ،
في تعابيره الأدبية ، تخيّل ذلك الجلف – بخياله البدويّ – الرقص والمجـون وآلات
المعازف ! ثـم ذهب يسـتدل علـى حرمـة الموسيقى ، على طريقة الضبّ والطبراني !
ولقد ظلم نفسه ذلك الحاقد ، وفضحها ، بتدخله لأمور لا
يحسنها ، بل لا يعلمها ، فتطاول بجهله على مقام عملاق الأدب العربي في العصر
الحديث ؛ الذي سخّر أسلوبه الأدبي الرفيع ، في خدمة القرآن الكريم !
فساهم من حيث لا يريد – إذا أحسنّا الظن به – في الصدّ
عن سبيل الله !
إنّ لكل حرف من حروف اللغة العربية مخرج خاص ، يختلف عن
مخرج باقي الحروف ، وهـذا الموضوع مكانه علم الأصوات ، وعلم التجويد ، الذي هو من
المفروض أن درسه الدكتور ! !
وأن لكل حرف جَرْسٌ خاص .
[ جَرْسُ
الحروف : صوتها المنغم ، وهي تختلف في صفاتها على حسب مخارجها ، وجَرْسُها نغمة
صوتها عندما ينطق بها ،
ولذلك قيل : حروف الهمس ، وحروف الاستفال ، وحروف
الذلاقة ، وحروف الصفير ، وحروف التفخيم . . . وهكذا . .
وجرس الكلمات : هو نغمتها وصوتها وإيقاعها ، الذي يحصل
نتيجة التلاؤم بين حروفها ، وائتلاف هذه الحروف ، وتوافق أصواتها ، وحلاوة جرسها .
وجرس العبارات ، هو : الإيقاع الصوتي الحاصل من التلاؤم
بين كلماتها ، وتوافق أصواتها ، وحلاوة جرسها كذلك ؛
فالجرس يكون في الحروف والكلمات والعبارات ، وهو نوع من
أنواع الإيقاع الموسيقي للعبارات ] ([415])
.
[ الإيقاع في اللغة :
ورَدَ في لسان العرب عن معاني الإيقاع قوله :
التوقيع : رمْيٌ
قريب لا تباعده . كأنك تريد أن توقعه على شيء .
والتوقيع : الإصابة . والتوقيع : إصابة المطر بعضَ الأرض
وإخطاؤه بعضاً . وقيل : هو إنبات بعضها دون بعض .
والتوقيع فـي الكتاب : إلحاق شيء فيه بعد الفراغ منه .
وقيل هو مشتق من التوقيع ، الذي هو مخالفة الثاني للأول ([416])
.
والإيقاع من إيقاع اللحن والغناء . وهو أن يوقعَ
الألحانَ ويبينها . وسمَّى الخليلُ رحمه الله كتاباً في ذلك المعنى ( الإيقاع ) ([417])
.
من هذه المعاني التي أوردها للتوقيع ندرك أن أصلها هو :
أن يوقِعَ على الشيء المتعدد الأجزاء ، فيصيب قسماً منها ويترك الباقي ، يتجلَّى
ذلك في التوقيع في الرمي ، وتوقيع المطر ، وتوقيع الكتاب ، وإيقاع الألحان .
الإيقاع الفني :
وهذا المعنى وارد في الإيقاع الموسيقي للآلات الموسيقية
، والإيقاع الموسيقي للألفاظ .
فالعازف على الآلة الموسيقية يوَقِّعُ بأصبعه على بعض
أوتار تلك الآلة دون بعضها ، وينبعث من هذه الأوتار نغمة خاصة هي الإيقاع الموسيقي
.
والمتحدث عندما ينطق لفظاً ، فكأنه – نظراً لاختلاف
مخارج حروف اللفظ – يوقع على بعض أوتاره الصوتية دون الآخر ، فتنبعث في الفم نغمة
خاصة هي الإيقاع الموسيقي للفظ .
وجهازنا الصوتي أشبهُ بمجموعة من الآلات الموسيقية ،
تخرج منها الألفاظُ بنغمات مختلفة ، ودرجات متباينة ، من الشدة والضعف ، والسرعة
والبطء ، وغير ذلك من الصفات التي شرحها علماء الأصوات ، وعلماء التجويد والقراءات
. . .
وهناك نوعان من الكتابة الأدبية : كتابة أدبية عادية ،
وهي : الكتابة التي تدوَّن فيها الألفاظ ، ولا تدل إلا على دلالتها الذهنية فقط !
.
وكتابة أدبية فنية موسيقية ، وهي : التي يُهيء فيها
الأديب الشاعر للألفاظ ( نظاماً ونسقاً وجواً ، يسمح لها بأن تَشع أكبر شحنتها من
الصور والظلال والإيقاع ،
وأن تتناسق ظلالها وإيقاعاتها مع الجو الشعوري الذي تريد
أن ترسمه ، وألا يقف بها عند الدلالة المعنوية الذهنية ) ([418])
؛
( إن للألفاظ أرواحاً ، ووظيفة التعبير الجيد أن يطلق
هذه الأرواح في جوها الملائم لطبيعتها ، فتستطيع الايحاء الكامل والتعبير المثير )
([419])
.
مظاهر الموسيقى في اللغة العربية :
إن اللغة العربية – الشاعرة – لغة فنية موسيقية ، وإن
عناصر الموسيقى الشاعرية تتجلى فيها أكثر من غيرها من اللغات ، ويرجع ذلك إلى
سببين ، هما : الغناء ، وبناء اللغة نفسها على الأوزان ([420])
.
وتبدو موسيقية اللغة في اختلاف مخارج الحروف ، واختلاف
صفاتها ، واختلاف حركاتها وسكناتها . كما تبدو في اختلاف الكلمات من حيث جرسها
ونغماتها ، وفي اختلاف العبارات من حيث إيقاعها .
الموسيقى في الحروف :
( ولاختلاف المخارج والصفات في الحروف التي تتكون منها
الكلمات ، تكون الكلمات تبعاً لذلك مختلفةً في الوضوح والشدة والسرعة ، وفي رنينها
ونغماتها الموسيقية وغير ذلك ،
فبعض الكلمات تبدو خافتة ، وبعضها يظهر مجلجلاً ، وبعضها
خفيف التموجات يجري كالماء ، وبعضها تسمع له ما يشبه الحفيف أو الخرير أو التدفق ،
وبعضها تلمح فيه الرخاوة واللين ، وبعضها له رنين سابح أو أبتر ، وبعضها هواء يسمح
بالتموج الصوتي والطوعية الموسيقية ، كحروف المد ) ([421])
.
الموسيقى في الكلمات :
هذا عن مخارج الحروف وصفاتها ، كذلك لحركات الحروف
وسكناتها ونوع هذه الحركات أثرٌ في موسيقية الكلمة :
( فالحركات الثلاث – الضمة والفتحة والكسرة – وتتابُعُها
في الكلمة أو الكلمات ، أو الانتقال من حركة إلى أخرى ، كالانتقال من الكسرة إلى
الضمة أو العكس ، أو جريان هذه الحركات دون أن يعترضها السكون ، أو تكرار السكون
على فترات منتظمة أو مختلفة ، كل ذلك له أثر في جرس الكلمات والعبارات وإيقاعها ) ([422])
.
فكل هذه العوامل الصوتية من مخارج الحروف وصفاتها
وحركاتها ، وتتابع هذه الحركات أو تفرقها ، تجعل للكلمة قوةٌ موسيقيةٌ خاصةٌ ،
ورنيناً يطبعها بطابع خاص ([423])
الموسيقى في العبارات :
أما موسيقية العبارات فإنها : ( حين تتجمع الكلمات في
الجمل وفي العبارات ، تكتسب جرساً موسيقياً آخر ، زيادة على ما كان لها من موسيقى
فردية ،
وذلك مثْل تشابه بعض الكلمات في الوزن وفي المكان من
الجملة ، أو تعاقب كلمتين متشابهتين فـي الوزن والرنين ، أو فـي تجانس فقرتين أو
جملتين فـي عدد الكلمات ، وفي وزن كل منهما ،
أو في التجانس في الكلمتين الأخيرتين في جملتين ، أو في
التشابه الذي يبرز في فترات متكافئة ، أو في التدرج المتعادل ، أو في التتابع
المقرون بسرعة الجرس ) ([424])
.
اللغة العربية إذن ليست مجرد ألفاظ أو عبارات أو معان ،
إنها بالإضافة إلى هذا تحوي الكثير من النواحي الموسيقية والوجدانية والخيالية ،
وتتضمن ألواناً من الإيحاء والإيماء والإيقاع والرمز ] ([425])
.
هذه المصطلحات ، والكلمات في وصف إعجاز القرآن ،
وتراكيبه ، معروفة عند الأدباء والعلماء ؛ الذين ذاقوا طعمه ، وأُشرِبَ في قلوبهم
حبّه ، والدّهش به ! ففطنوا إلى بعض روعته ، فقاموا يصفونه بمصطلحاتهم المعروفة
الشائعة عندهم ، ولا مشاحة في الإصطلاح .
وهذا هو العلامة محمد عبدالله دراز رحمه الله تعالى ،
يقول :
[ نظرتان في القشرة السطحية للفظ القرآن:
أول ما يفجؤك :
أول ما يلاقيك ويستدعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم
خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره .
1-
الجمال التوقيعي في توزيع حركاته وسكناته، ومداته وغُنَّاته :
دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلًا
بنفسه على هوى القرآن ، وليس نازلًا بالقرآن على هوى نفسه .
ثم انتبذ منه مكانًا قصيًّا لا تسمع فيه جرس حروفه ،
ولكن تسمع حركاتها وسكناتها ، ومداتها وغناتها ، واتصالاتها وسكتاتها ،
ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية ، وقد جردت
تجريدًا وأرسلت ساذجة في الهواء .
فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام
آخر لو جرد هذا التجريد ، وجود هذا التجويد .
ستجد اتساقًا وائتلافًا يسترعي من سمعك ما تسترعيه
الموسيقى والشعر ،
على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر ، وستجد
شيئًا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر .
ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان
فيها بيتًا بيتًا ، وشطرًا شطرًا ،
وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب
مذهبًا متقاربًا . فلا يلبث سمعك أن يمجها ، وطبعك أن يملها ، إذا أعيدت وكررت
عليك بتوقيع واحد .
بينما أنت من القرآن أبدًا في لحن متنوع متجدد ، تنتقل
فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل ([426])
على أوضاع مختلفة ، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء ، فلا يعروك منه
على كثرة ترداده ملالة ولا سأم . بل لا تفتأ تطلب منه المزيد .
هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن
يسمع القرآن ، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب . فكيف يخفى على العرب أنفسهم ؟
وترى الناس قد يتساءلون : لماذا كانت العرب إذا اختصمت
في القرآن قارنت بينه وبين الشعر نفيًا وإثباتًا ، ولم تعرض لسائر كلامها من
الخطابة وغيرها ؟
وأنت ، فهل تبينت ها هنا الجواب ، وهديت إلى السر الذي
فطنت له العرب ، ولم يفطن له المستعربون ؟
إن أول شيء أحسته تلك الأذن العربية في نظم القرآن هو
ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة والسكون تقسيمًا منوعًا يجدد نشاط
السامع لسماعه ،
ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعًا بالقسط الذي يساعد على ترجيع
الصوت به وتهادي النفس به آنًا بعد آن ، إلى أن يصل إلى الفاصلة الأخرى فيجد عندها
راحته العظمى ،
وهذا النحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى
شيء منه في أشعارها فذهبت فيها إلى حد الإسراف في الاستهواء ، ثم إلى حد الإملال
في التكرير . فإنها ما كانت تعهده قط ولا كان يتهيأ لها بتلك السهولة في منثور
كلامها سواء منه المرسل والمسجوع ؛ بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغض من
سلاسة تركيبه ، ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلا بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه .
لا عجب إذًا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال
العرب أنه شعر ؛ لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئًا منها إلا في الشعر .
ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها ، فتقول : ما هو بشعر ؛ لأنه
- كما قال الوليد - ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده . ثم لا عجب أن
تجعل مرد هذه الحيرة أخيرًا إلى أنه ضرب من السحر ؛ لأنه جمع بين طرفي الإطلاق
والتقييد في حد وسط ، فكان له من النثر جلاله وروعته ، ومن الشعر جماله ومتعته .
2 – الجمـال التنـسيقي في رصف حروفه وتأليفها من مجموعات
مؤتلفة مختلفة :
فإذا ما اقتربت بأذنك قليلًا قليلًا ، فطرقت سمعك جواهر
حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة ، فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها
وترتيب أوضاعها فيما بينها ؛
هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يخمس ورابع يجهر، وآخر ينزلق
عليه النفَس ، وآخر يحتبس عنده النفس . وهلم جرا ، فترى الجمال اللغوي ماثلًا
أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة ([427])
لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة ، ولا تناكر ولا تنافر .
وهكذا ترى كلامًا ليس بالحضري الفاتر ، ولا بالبدوي
الخشن ، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها ،
وقدر فيها الأمر تقديرًا لا يبغي بعضهما على بعض .
فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلالتهما ، أو
كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل ، عندها تلتقي أذواقهم ، وعليها تأتلف قلوبهم .
ومن هذه الخصوصية والتي قبلها تتألف القشرة السطحية
للجمال القرآني . وليس الشأن في هذا الغلاف إلا كشأن الأصداف مما تحويه من اللآلئ
النفيسة ، فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشي جلائل أسراره
بأستار لا تخلو من متعة وجمال ، ليكون ذلك من عوامل حفظها وبقائها بتنافس
المتنافسين فيها وحرصهم عليها .
أنظر كيف جعل باعثة الغذاء ورابطة المحبة قوامًا لبقاء
الإنسان فردًا وجماعة . فكذلك لما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي
أودعها هذا الكتاب الكريم قضت حكمته أن يختار لها صوانًا يحببها إلى الناس بعذوبته
، ويغريهم عليها بطلاوته ، ويكون بمنزلة " الحداء " يستحث النفوس على
السير إليها . ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها .
لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك
القالب العذب الجميل . ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدًا في أفواه الناس وآذانهم
ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع ، وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة
سره ، وينفذون بها إلى بعيد غوره { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ } ([428])
.
هل عرفت أن نظم القرآن الكريم يجمع إلى الجمال عزة
وغرابة ؟ وهل عرفت أن هذا الجمال كان قوة إلهية حفظ بها القرآن من الفقد والضياع ؟
فاعرف الآن أن هذه الغرابة كانت قوة أخرى قامت بها حجة
القرآن في التحدي والإعجاز ، واعتصم بها من أيدي المعارضين والمبدلين ، وأن ذلك
الجمال ما كان ليكفي وحده في كف أيديهم عنه ، بل كان أجدر أن يغريهم به .
ذلك أن الناس - كما يقول الباقلاني ([429])
: إذا استحسنوا شيئًا اتبعوه ، وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلة .
وكذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضًا فيما
يستجيدونه من الأساليب ، وربما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربى عليه ، كما
صنع ابن العميد بأسلوب الجاحظ ، وكما يصنع الكتاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم
ببعض .
وما أساليب الناس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر
إلا مناهل مورودة ، ومسالك معبدة ، تؤخذ بالتعلم ، وتراض الألسنة والأقلام عليها
بالمرانة ، كسائر الصناعات .
فما الذي منع الناس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتهم وأقلامهم
وهو شرع في استحسان طريقته ، وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته ؟
ما ذاك إلا أن فيه منعة طبيعية كفت ولا تزال تكف أيديهم
عنه ، ولا ريب أن أول ما تلاقيك هذه المناعة فيما صورناه لك من غريب تأليفه في
نيته ، وما اتخذه في رصف حروفه وكلماته ، وجمله وآياته ،
من نظام له سمت وحده ، وطابع خاص به ، خرج فيه عن هيئة
كل نظم تعاطاه الناس أو يتعاطونه .
فلا جرم لم يجدوا له مثالًا يحاذونه به ، ولا سبيلًا
يسلكونه إلى تذليل منهجه ، وآية ذلك أن أحدًا لو حاول أن يدخل عليه شيئًا من كلام
الناس السابقين منهم أو اللاحقين، من الحكماء أو البلغاء أو النبيين والمرسلين ،
لأفسد بذلك مزاجه في فهم كل قارئ ولجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع ، وإذًا لنادى
الداخل على نفسه بأنه واغلٌ دخيلٌ ، ولنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث
الحديد { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ([430])
] ([431])
.
وهذا هو الإمام عبد القاهر الجرجاني رحمه الله ، المتوفى
: 471 للهجرة ، يتحدّث عن أجراس الحروف ، فقال :
[ فإذا رأيت
البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا أو يستجيد نثرا ، ثم يجعل الثناء عليه من حيث
اللّفظ فيقول :
حلو
رشيق ، وحسن أنيق ، وعذب سائغ ، وخلوب رائع ،
فاعلم
أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف ، وإلى ظاهر الوضع اللغويّ ،
بل
إلى أمر يقع من المرء في فؤاده ، وفضل يقتدحه العقل من زناده ] ([432])
.
فليراجع – ذلك الأعرابي – أقوال العلماء والأدباء ، في
أبحاثهم عن إعجاز القرآن ، واستخدامهم مصطلحات خاصة بهم ، سواء كانت مصطلحات :
موسيقى ، أو أجراس ، أو إيقاع ، أو . . . إلخ .
وما ذنب الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، إذا لم يفهم
ذاك ، الذي حشر نفسه في موضوع ، داخ فيه ؟ !
قال الشاعرالبحتري :
أهُزُّ بالشعر أقواماً ذوي سِنَةٍ لو أنهم ضُرِبوا بالسيف ما شعروا
عليَّ نحتُ القوافي مِن مقاطِعِها وما عليَّ لهم أن تَفْهَمَ البَقَرُ
طاح موسى !
ولقد قُبِض على الأعرابي المتباكي على مقام الأنبياء ،
ومقام موسى .
قُبِض عليه متلبّساً بالجريمة النكراء ؛ التي إتّهم بها
الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، ظلماً وزورا !
فها هو أحد خصومه يقول :
[ الشيخ ربيع يطلق الألفاظ التي يفهم منها الاستهزاء بموسى
عليه السلام ، والصحابة الكرام والقرآن الكريم والعقيدة :
قال ربيع المدخلي وهو يرد على سيد قطب:
(( فأُعْطِيَ – يعني سيد قطب – هذه المنـزلة العظيمة ، التي
فاقت منازل الأنبياء والصحابة ،
وكل شيء موسى وسيد قطب ، [ طاح موسى
] ! ! ! ،
سيد قطب والصحابة ، [ طاح الصحابة ]
! ! ! ،
سيد قطب والقرآن ، [ طاح القرآن ] !
! ! ،
سيد قطب والعقيدة ، [ طاحت العقيدة
] ! ! ! ، ليس إلا سيد قطب ...) اهـ ، شريط مسجل له بعنوان ( لمحة عن التوحيد ) رقم
(2) وجه (ب) .
فقوله : ( طاح موسى . . . طاح الصحابة
. . . طاح القرآن . . . طاحت العقيدة ) فهو بألفاظه هذه قد أهان موسى عليه السلام ،
وأهان الصحابة الكرام ، وأهان القرآن الكريم ، وأهان العقيدة السلفية
وفي ذلك إساءة الأدب البين الواضح مع
نبي الله موسى ومع القرآن والصحابة والعقيدة وإن لم يقصد التعمد في ذلك ] .
وهل يتلفظ بهذه الكلمات القبيحة ، تجاه نبيّ الله موسى
عليه السلام ، وتجاه الصحابة ، وتجاه القرآن الكريم ، . . . مَن كان في قلبه تقوى الله تعالى وخشيته ؟ !
( ذَلِكَ
وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ([433])
.
وفضيحته هذه عقوبة له من الله تعالى ، في الدنيا ، على
نفاقه ، وإظهاره التعظيم لمقام موسى عليه السلام ، ضد الشهيد سيّد قطب رحمه الله
تعالى .
وهو – في الحقيقة – قلبه خاويٍ من تعظيم شعائر الله ،
وإنما يحركه التعصب الذميم ، والبداوة الخشنة . هذا بعد إحسان الظن به !
ولقد ثبت تعظيم سيّد قطب رحمه الله ، للأنبياء ، ولموسى
عليهم السلام .
وفي المقابل ثبت استهزاء الحاقد ، بموسى عليه السلام ؛ (
طاح موسى ) ! !
رمتني بدائها وانسلت !
الفصل
السادس
سيد
قطب وخلق القرآن !
وهذه
مهزلة أخرى ، أو بالأحرى رمحٌ آخر ، يصوّب نحو الشهيد سيّد قطب رحمه الله ،
لإسقاطه أمام المسلمين !
يزعم
شانئيه أنه يقول بخلق القرآن .
وقضية
خلق القرآن قد قالت به فرقة من فِرَق المبتدعة ، في غابر القرون ؛ قبل قرابة ألف
سنة !
ولم
يبقَ حتى ربّما رفاتهم !
ولأنّ
هؤلاء ( خصوم سيّد ) لا يعيشون واقعهم ، بل يعيشون في التاريخ ، قبل أكثر من ألف
سـنة ، فيتّهمون خصومهم ، بما هذيت به المبتدعة ، قبل قرابـة عشرة قرون !
والإسلام
مبتلى بتشويهه بين فريقين : فريق خبيث ، وفريق غبيّ !
1 –
فريق يجعل الدّين تاريخاً !
وهؤلاء
هم العَلمانيين ومَن هم على شاكلتهم ، يقولون : إنّ الإسلام جاء – قبل ألف
وأربعمئة سنة – لجزيرة العرب ؛ حيث كانوا يعبدون الأصنام ، ويشربون الخمر ، ويئدون
البنـات ، و . . . فنهاهم عن ذلك ، وقضى عليه ، واستنفد أغراضه ، وانتهى أمره ،
ونحن الآن نعيش في القرن الواحد والعشرين !
([434]) .
2 –
وفريق آخر ، يجعل التاريخ ديناً !
وهؤلاء
يجعلون اجتهادات العلماء والأئمة ، فـي نصوص القرآن والسنة ، وأقوالهم ، قبل أكثر
من الف سنة ، يجعلونها ديناً !
فخلطوا
نصوص القرآن وسنة رسول الله r ، باجتهادات الأئمة والعلمـاء وأقولهم ، التي
قالوها – إجتهاداً في أمور تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان – جعلوها واحدة ؛ لا فرق
بينها !
وهم
لا يستطيعون الخروج من هذه القوقعة !
وهذا
ما جعلهم يتّهمون الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، بقضيةٍ أكل الدهر عليها وشرب !
محنة
خلق القرآن
[ خلق القرآن وعرفها البعض بـمحنة خلق القرآن وهو فكر انتشر
في عهد الخليفة العباسي المأمون من قبل فرقة المعتزلة
والتي تعدّ أن القرآن مخلوق وكلام الله مخلوق وهو ما ابتدع
القول به الجهم بن صفوان ،
واقتنع بهذا الرأي الخليفة المأمون وطالب بنشر هذا الفكر
وعزل كلِّ قاضٍ لا يؤمن بهِ .
وهو ما لقي معارضة واستهجان كثير من الائمة مثل الإمام أحمد بن حنبل والذي تحمل من أجل ذلك الكثير
من التعذيب حتى قام الخليفة المتوكل بإنهاء هذه المحنة وأفرج عنه .
وأصل هذهِ المسألة شبهة قديمة أراد أن يثيرها يوحنا الدمشقي
الذي قال إذا كان القرآن غير مخلوق فهو أزلى
وبالمثل فإن النبي عيسى أزلي لأنهُ كلمة الله وإن كان مخلوق
فهو منفصل عن قدسية الله مثل باقى المخلوقات .
والرد أن القرآن علم من علوم الله غير مخلوق أزلي علمه وحادث
نزوله وخلق عيسى وسائر المخلوقات أزلي علم الله بهم وحادث خلقهم ] ([435]) .
فأساس هذه القضية ، كان مكيدة من القسيس يوحنّا الدمشقي
النصراني ، الذي لم يسلم بعد الفتح الإسلامي ، وبقي على ضلاله .
ولم يكتفِ بذلـك ، بل وجّه بعض الشباب النصارى ، لمجادلة المسلمين ، وسؤالهم : هل كلام الله
أزليّ أم حادث ؟
وذلك لأن الله تعالى ، يقول عن عيسى – عليه السلام :
( يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا
خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ
وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا ) ([436]) .
ففهم من ( كَلِمَتُهُ ) أن عيسى – عليه السلام – كلام الله تعالى !
ولم يفهم الغبيّ أنّ عيسى – عليه السلام – خلقه الله
بكلامه وأمره تعالى ، كما يقول الله سبحانه : (
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) ([437]) .
فوجّه يوحنا صبيانه أن يسألوا المسلمين ، عن عيسى – عليه
السلام – كيف ذُكِر في القرآن ؟
فإذا قالوا : إنه ذُكِر في القرآن : هو كلمة الله ،
فاسألوهم : هل كلام الله مخلوق ، أم غير مخلوق ؟
فإن قالوا : هو غير مخلوق ، فيعني أن عيسى أيضاً غير
مخلوق ! ([438])
.
ويبدو أن الخدعة قد انطلت على المعتزلة ، فقالوا : كلام
الله مخلوق ، هرباً من أن يُقال بأن عيسى غير مخلوق !
ولكن أهل السنة قالوا : إن عيسى – عليه السلام – هو ليس
كلام الله تعالى ، بل خلقه الله تعالى – كما ذكرنا – بكلامه وأمره ؛ كن فكان !
هذه حقيقة المسألة بصورة سهلة ، بعيدة عن التعقيد
والتقعر .
فضْح
البدوي لنفسه !
جاء الحاقد على الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، فاتّهمه
بأنه يقول بخلق القرآن .
ولِنَر الآن أدلته على ذلك :
[ قول سيّد بخلق القرآن وأن كلام الله عبارة عن
الإرادة
مسألة إنكار كلام الله والقول بأن القرآن مخلوق من البدع
الكبرى التي كفر بها السلف ،
وهي مشهورة جداً بين فرق المسلمين ، ومن يجهل من طلبة
العلم ما جرى للإمام أحمد وأهل السنة على أيدي الجهمية والمعتزلة في خلافة المأمون
والمعتصم والواثق ؟ وسيّد قطب لا يجهل هذا الحدث الكبير .
يقول في " الظلال " في تفسير قوله تعالى
( وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ ) .
" هنا نصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن اللّه
سبحانه ، وعن نوع العلاقة بين الخالق وخلقه ، وعن طريقة صدور الخلق عن الخالق ،
وهي أرفع وأوضح تصور عن هذه الحقائق جميعا .. لقد صدر الكون
عن خالقه ، عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة : ( كُنْ ) ، ..
فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن
، على الصورة المقدرة له ، بدون وسيط من قوة أو مادة ..
أما كيف تتصل هذه الإرادة التي لا نعرف كنهها ، بذلك الكائن
المراد صدوره عنها ، فذلك هو السر الذي لم يكشف للإدراك البشري عنه ، لأن الطاقة البشرية
غير مهيأة لإدراكه " ] .
ملاحظات
قبل إكمال نقل كلام الحاقد ، هناك بعض الملاحظات ، أود
أن أطرحها ، وسأجعل كلامه على فقرات :
1 –
أما عن قوله [ مسألة
إنكار كلام الله والقول بأن القرآن مخلوق من البدع الكبرى التي كفر بها السلف ] .
فقد
قال الحافظ ابن تيمية رحمه الله :
[ ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا
لِلْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ . مِمَّنْ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ
وحللهم مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي
هُوَ كُفْرٌ
وَلَوْ
كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ ؛
فَإِنَّ
الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَفَّارِ لَا يَجُوزُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ
وَهَذِهِ
الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحَةٌ
فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوا الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ
كَانُوا يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي
الْآخِرَةِ
وَقَدْ
نُقِلَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بِهِ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ
فَأَمَّا أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَفِيهِ نَظَرٌ
أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّفْصِيلِ .
فَيُقَالُ:
مَنْ كَفَّرَهُ بِعَيْنِهِ ؛ فَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَتْ فِيهِ
شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ
وَمَنْ
لَمْ يُكَفِّرْهُ بِعَيْنِهِ ؛ فَلِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ هَذِهِ مَعَ
إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِالتَّكْفِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُوم ] ([439])
.
فهذا
البدوي لم يقبل من سيّد قطب أن يصف المجتمعات والأنظمة ، التي تستمدّ أفكارها
وتصوراتهـا وقِيَمها وأخلاقها من غير شريعة الله تعالى ، ومن غير الكتاب والسنة ،
لم يرضى أن يصفهم بالجاهلية ، واعتبر ذلك بأنه تكفير للمسلمين !
بينما
هو يقرر – هنا – أنّ مَن قال : إنّ القرآن مخلوق فهو كافر ، وهذا حكم السلف !
في
حين أنّ صاحب القضية ، والذي عُذِّبَ بسبب هذه المسألة ( الإمام أحمد ) ، وعذّبوه
حتى يقول إنّ القرآن مخلوق ، وهم جميعهم كانوا يؤمنون بذلك .
ومع
هذا [ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا
لِلْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ . مِمَّنْ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ
وحللهم مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي
هُوَ كُفْرٌ
وَلَوْ
كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ ؛
فَإِنَّ
الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَفَّارِ لَا يَجُوزُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ ] كما قال الحافظ ابن
تيمية رحمه الله .
ونحن
لا نقول أن القرآن مخلوق ، ولكن نريد – بقولنا هذا – أن نبيّن تضليل هذا المفتري ،
وكيف يجني على أتباعه المساكين ، ويخلط عليهم الأمور ، وإن كانوا يستحقون أن يقعوا
في الحيرة جزاء اتّباعهم لهذا الجاهل !
2 – راودني الشك وأنا أنقل كلامه ونقوله ، عن الشهيد
سيّد قطب رحمه الله ، وذلك لأن هؤلاء المبتدعة ليسوا موثوقين ، لا في فهمهم ، ولا
في نقلهم لنصوص العلماء والأئمة ، ولذلك رجعت إلى المصدر الأصلي الذي نقل عنه ،
فرأيت في المقطع الأول الذي نقلته عنه ، الآتي :
نقل عن الشهيد سيد أنه قال : [ لقد صدر الكون عن خالقه ،
عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة : ( كُنْ ) ، ] .
بينما نص قول الشهيد ، هو : [ لقد صدر الكون عن خالقه ، عن طريق توجه الإرادة
المطلقة القادرة : «كُنْ ، فَيَكُونُ» ] ([440]) .
فلماذا حذف كلمة [ فيكون ] ؟ هل يتغير المعنى بهذا الحذف
؟
لا شك أنّ كل حرفٍ في اللغة العربية ، تؤدّي دورها من
المعاني ، بله الكلمة .
ولذلك قالوا : الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في
المعنى ! !
هذا في حرف في الكلمة ، فكيف بكلمة كلها ؟ !
فبالحروف تتغيّر المعاني ، سواء بالزيادة أو النقصان .
وهذا ما فعله المستشرق اليهودي ، الحاقد على الإسلام : ( جولد تسيهر ) .
فهو قد افترى على الإمام الزهري الثقة رحمه الله ، بأنه
كان يضع الأحاديث ، وينسبها إلى النبيّ r .
وإنّ الزهري اعترف بنفسه بذلك ، حيث قال : إنّ الملوك
أكرهونا على كتابة أحاديث !
وأصل المسألة – باختصار – أنّ الإمام الزهري كان يحبّ
الإعتماد – في سماع الأحاديث النبوية – على الحفظ ، وليس على الكتابة ، وما كان
يسمح لأحد ، ولا كان يكتب الحديث لأحد .
ولكن أحد الخلفاء أجبره على أن يكتب الأحاديث النبوية
لابنه ، فكتب له مائتا حديث ، ثم خرج على الناس – وما أراد أن يكون ذلك خاصّاً
للخليفة – فقال : تعالوا أكتب لكم أيضاً ، فإنّ الملوك أكرهونا على كتابة (
الأحاديث ) .
فحرّف ( جولد تسيهر ) كلامه ، ليثبت أن الزهري كان
وضّاعاً ؛ يضع الحديث ، ويعترف بذلك !
ولم يفعل أكثر من أن حذف ( ال ) من كلام الإمام الزهري
رحمه الله ، ليكون كلامه الآتي :
[ فإنّ الملوك
أكرهونا على كتابة ( أحاديث ) ] ! ! ([441])
ثم قال البدوي :
[ ويقول في كتابه " السلام العالمي والإسلام "
:
" عن إرادة هذا الإله الواحد يصدر الكون بطريق واحد
، ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) ؛ فلا واسطة بين الإرادة الموجدة والكون
المخلوق ، ولا تعدد في الطريقة التي يصدر بها هذا الكون كله عن الخالق الواحد ،
إنها مجرد الإرادة التـي يعبر عنهــا القرآن بكلمـة ( كن ) ، وتوجـه الإرادة كـافٍ
وحـده لصدور الكون عنهـا " ] :
وهنا نقل عن الشهيد سيّد رحمه الله أنه قال : [ فلا واسطة بين الإرادة الموجدة والكون
المخلوق ] .
بينما الشهيد يقول : [
فلا وساطة بين الإرادة الموحدة والكون المخلوق ] ([442]) :
فقد حرّف في موضعين :
أ – جعل ( وساطة ) ،
إلى ( واسطة ) .
ونحن نعلم أنّ هناك فرق – في المعنى – بين الكلمتين .
فالمسألة تتعلق بعلم الصرف ، ولكلّ كلمة وزنها الخاص ،
فمثلاً :
كلمة : ( قَتَلَ ) لها أوزان ، كلّ وزن له معنىً خاص ،
وهي – على سبيل المثال :
قاتَلَ ، مقاتِل ، قتال ، قاتِل ، مقتول ، قتْل ، . . .
فهناك فرقٌ واضحٌ بين معاني تلك الأوزان .
[ وَساطة / وِساطة
مصدر وسَطَ / وسَطَ في
الوَسَاطَةُ : واسطة ، شفاعة
الوَسَاطَةُ : محاولة فضّ نزاع قائم بين فريقين أو أكثر عن
طريق التّفاوض والحوار عرض وساطته بين متخاصمين ،
الوَسَاطَةُ ( في القانون الدولي العام ) : محاولةُ دولة
أَو أَكثَرَ فضِّ نزاع قائم بين دولتين أَو أَكثر ، عن طريق التفاوض الذي تشترك هي
أَيضًا فيه
قدَّم وساطتَه : عرض مساعيَه الحميدة
وَسَاطة : ( اسم )
وَسَاطة : مصدر وسَطَ
قدَّم وساطتَه :
عرض مساعيَه الحميدة . . .
وَاسِطَةُ العِقْدِ : الْجَوْهَرَةُ الكَبِيرَةُ وَسَطَ العِقْدِ
هُوَ وَاسِطَةُ قَوْمِهِ : مِنْ أَفَاضِلِهِمْ ، أَخْيَارِهِمْ
الغَايَةُ تُبَرِّرُ الوَاسِطَةَ : تُبَرِّرُ الوَسِيلةَ،
العِلَّةَ
حَصَلَ عَلَى مَنْصِبٍ بِوَاسِطَةِ أَحَدِ أَقْرِبَائِهِ
: أَيْ بِمُسَاعَدَةِ تَدَخُّلِهِ ] ([443]) .
ب – نقل عن الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، أنه قال :
[ فلا واسطة بين الإرادة الموجدة والكون
المخلوق ] .
بينما يقول الشهيد : [
فلا وساطة بين الإرادة الموحدة والكون المخلوق ] .
الشهيد يقول : ( الإرادة الموحدة ) .
فحرّف البدوي قوله إلى : ( الإرادة الموجدة ) !
ولا أدري هل هذه التحريفات عن قصد وعمد ، أم بدر منه
سهواً وخطأ ؟ !
ج – ولا أدري هل رأى أروع مـن كلام الشهيد سيّد قطب
رحمـه الله ، الذي انتقده ؟
وهل هو ( الحاقد ) يرى أنّ الله إذا توجه إرادته ، وأراد
أن يخلق شيئاً أو أمراً ، فلا يتحقق ذلك إلّا بعد أن يقول : كُنْ ؟ فبدون ( كُنْ )
لا يحدث شيء ولو أراد ذلك سبحانه ؟ !
ثم قال :
[ ويقول في الظلال :
" فقوله تعالى إرادة ، وتوجه الإرادة ينشيء الخلق
المراد " ] .
لقد
بحثتُ في الظلال ، فلم أجد هذا الكلام ، المنسوب إلى الشهيد !
فهل
هو إحدى كذباته وافتراءاته على الشهيد ، تضاف إلى صحائف أعماله ، وتجابهه يوم
القيامة ، أمام أحكم الحاكمين ، أم ماذا ؟ !
وكتب
في الهامش – مشيراً إلى مصدر كلام الشهيد – : ( 14 / 22 ) .
والطبعات
المعروفة للظلال إما ( 6 ) مجلدات ؛ وهي ما نقل عنها ، وإما ( 8 ) مجلدات .
فماذا
يعني بـ ( 14 / 22 ) ؟
وعلى
صحة التنسيب ، جدلاً ، هل في عقيدة البدوي : أن الله تعالى إذا توجه إرادته لأمرٍ
ما ، لا يتحقق هذا الأمر ، إلّا إذا قال له تعالى : كلمة ( كُنْ ) ؟ !
ثم
قال :
[ ويقول عن القرآن في كتابه " الظلال " :
" والشأن في
هذا الإعجاز هو الشأن في خلق اللّه جميعا .
وهو مثل صنع اللّه في كل شيء وصنع الناس . . إن هذه التربة
الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات .
فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو
آجرة . أو آنية أو أسطوانة ، أو هيكل أو جهاز . كائنا في دقته ما يكون . .
ولكن اللّه المبدع يجعل من تلك الذرات حياة . حياة نابضة
خافقة . تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز . . سر الحياة . .
ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر ، ولا يعرف سره بشر "
] .
هنا قطع النقل ، ولم يكمل كلام الشهيد ، وأنا سأكمله .
قال الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، بعد ذلك الكلام ، الذي
وقف عليه الحاقد :
[ وهكذا القرآن
. . حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ، ويجعل منها اللّه قرآنا وفرقانا ،
والفرق بين صنع البشر وصنع اللّه من هذه الحروف والكلمات
، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض .. هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة
الحياة ! ] ([444])
.
ثم قال الحاقد :
[ ويقول بعد أن تكلم عن الحروف المقطعة :
" ولكنهم لا يملكون أن يؤلفوا منها مثل هذا الكتاب
؛ لأنه من صنع الله ، لا من صنع الإنسان " ] .
في
هذا النقل ، بتر الكلام بعضه عن بعضه ، ليعطي معنى ما يريده !
وأنا
أنقل الكلام كلّه – كما قاله الشهيد سيّد قطب رحمه الله – حتى يظهر جمال ، ودقّة ،
وصحة ما قاله ، بدون بتر وقطع بعضه عن بعض :
قال
الشهيد رحمه الله :
[ « ألف . لام
. ميم » . .
الحروف المقطعة التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى
أنها مادة الكتاب الذي أنزله اللّه على رسوله - صلّى اللّه عليه وسلّم - مؤلفا من مثل
هذه الحروف ، المألوفة للقوم ، الميسرة لهم ليؤلفوا منها ما يشاؤون من القول
ولكنهم لا يملكون أن يؤلفوا منها مثل هذا الكتاب . لأنه من
صنع اللّه لا من صنع إنسان ] ([445])
.
ثم
قال :
[ ويقول في تقرير أن القرآن مصنوع ( أي : مخلوق ) :
" وكما أن الروح من الأسرار التي اختص اللّه بها فالقرآن
من صنع اللّه الذي لا يملك الخلق محاكاته ، ولا يملك الإنس والجن - وهما يمثلان الخلق
الظاهر والخفي - أن يأتوا بمثله ، ولو تظاهروا وتعاونوا في هذه المحاولة :
«قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيراً» ..
فهذا القرآن ليس ألفاظا وعبارات يحاول الإنس والجن أن يحاكوها
.
إنما هو كسائر ما يبدعه اللّه يعجزالمخلوقون أن يصفوه . هو
كالروح من أمر اللّه لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل ، وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه
وآثاره " ] .
وهنا
نقل عن الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، أنه قال : [
يعجزالمخلوقون أن يصفوه ] .
بينما
يقول الشهيد : [ يعجزالمخلوقون أن يصنعوه ] ([446])
.
فجعل
( يصنعوه ) ، إلى ( يصفوه ) .
فهل
هناك فرق بين الكلمتين ؟ !
ثم
قال :
[ ويقول في تفسير سورة ( ص ) :
" هذا الحرف ... «صاد» ... يقسم به اللّه سبحانه كما
يقسم بالقرآن ذي الذكر. وهذا الحرف من صنعة اللّه تعالى .
فهو موجده صوتا في حناجر البشر وموجده حرفا من حروف الهجاء
التي يتألف من جنسها التعبير القرآني .
وهي في متناول البشر ولكن القرآن ليس في متناولهم لأنه من
عند اللّه .
وهو متضمن صنعة اللّه التي لا يملك البشر الإتيان بمثلها
لا في القرآن ولا في غير القرآن .
وهذا الصوت ... «صاد» ... الذي تخرجه حنجرة الإنسان ، إنما يخرج
هكذا من هذه الحنجرة بقدرة الخالق المبدع ، الذي صنع الحنجرة وما تخرجه من أصوات .
وما يملك البشر أن يصنعوا مثل هذه الحنجرة الحية التي تخرج
هذه الأصوات ! وإنها لمعجزة خارقة لو كان الناس يتدبرون الخوارق المعجزة في كل جزئية
من جزئيات كيانهم القريب "
فصرح بأن هذا الحرف من صنعة الله ، فالله موجده صوتاً
موجده حرفاً ، مع أن التحدي ليس بخلق الحروف ولا بصناعتها ، وصرح بأن القرآن صنعة
الله المعجزة ، وشبهه بالمخلوقـات كلهـا ، إذ هـي تشـارك القرآن فـي كونه وإيـاها جميعـاً
خوارق معجزة ! ! ] .
قال البدوي : [
مع أن التحدي ليس بخلق الحروف ولا بصناعتها ] .
يتحدّى الله تعالى ، أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وهو
مؤلف من نفس الحروف والكلمات التي ينطقونها !
فإذا كان التحدّي ليس بخلق الحروف ، ولا بصناعتها ،
فبماذا كان إذن ؟ !
ثم لا
ينتهي العجب من قوله : [ وصرح
بأن القرآن صنعة الله المعجزة ، وشبهه بالمخلوقـات كلهـا ، إذ هـي تشـارك القرآن
فـي كونه وإيـاها جميعـاً خوارق معجزة ] ! !
أليست
مخلوقات الله تعالى ، من المعجزات الخوارق ؟ !
يبدو
أنه يستطيع أن يخلق حنجرة ؛ تخرج الأصوات ! !
ثم قال :
[ ويؤكد ما سبق إنكاره أن الله يتكلم ([447]) ، حيث قال في تفسير قول
الله تعالى : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) .
" نودي بهذا البناء للمجهول . فما يمكن تحديد مصدر النداء
، ولا اتجاهه ، ولا تعيين صورته ، ولا كيفيته ، ولا كيف سمعه موسى أو تلقاه ؛ نودي
بطريقة ما ، فتلقى بطريقة ما ، فذلك من أمر اللّه ، نؤمن بوقوعه ، ولا نسأل عن كيفيته
؛ لأن كيفيته وراء مدارك البشر "
هكذا يقول : " بالبناء للمجهول ، فما يمكن تحديد
مصدر النداء " ! !
وهذا قول من لا يؤمن ولا يتصور أن الله كلم موسى تكليماً
، لأنه لا يؤمن بأن هذا النداء من الله ] .
نقل
هنا عن الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، أنه قال : [
فذلك من أمر اللّه ، نؤمن بوقوعه ] .
علماً
أن الشهيد يقول : [ فذلك
من أمر اللّه الذي نؤمن بوقوعه ] ([448])
.
فحذف
كلمة ( الذي ) ، لحاجة في نفسه قضاها !
ولم
ينقل الكلام كلّه ، الذي يُظهر جمال وقوة كلام الشهيد رحمه الله ، بل نقل فقط ما
يريده هو !
وأنا
سأنقل الكلام كلّه ، حتى لا يكون المقام كـ ( فويلٌ للمصلّين ) ! :
[ فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ : يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ . فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ . إِنَّكَ بِالْوادِ
الْمُقَدَّسِ طُوىً . وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى . إِنَّنِي أَنَا
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ، فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي . إِنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى . فَلا يَصُدَّنَّكَ
عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى » . .
إن القلب ليجف ، وإن الكيان ليرتجف . وهو يتصور - مجرد تصور
- ذلك المشهد . .
موسى فريد في تلك الفلاة . والليل دامس ، والظلام شامل ،
والصمت مخيم . وهو ذاهب يلتمس النار التي آنسها من جانب الطور .
ثم إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء : « إِنِّي
أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ . إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا
اخْتَرْتُكَ . . . » .
إن تلك الذرة الصغيرة الضعيفة المحدودة تواجه الجلال الذي
لا تدركه الأبصار ، الجلال الذي تتضاءل في ظله الأرض والسماوات . ويتلقى . يتلقى ذلك
النداء العلوي بالكيان البشري . . فكيف ؟ كيف لولا لطف الله ؟
إنها لحظة ترتفع فيها البشرية كلها وتكبر ممثلة في موسى
– عليه السلام – فبحسب الكيان البشري أن يطيق التلقي من ذلك الفيض لحظة .
وبحسب البشرية أن يكون فيهـا الاسـتعداد لمثل هذا الاتصال
على نحو من الأنحاء . .
كيف ؟ لا ندري كيف ؟ فالعقل البشري ليس هنا ليدرك ويحكم ،
إنما قصاراه أن يقف مبهوتاً يشهد ويؤمن !
(( فلما أتاها نودي يا موسى : إني أنا
ربك . . )) نودي بهذا البناء للمجهول . فما
يمكن تحديد مصدر النداء ولا اتجاهه . ولا تعيين صورته
ولا كيفيته .
ولا كيف سمعه موسى أو تلقاه . . نودي بطريقة ما فتلقى بطريقة
ما . فذلك من أمر اللّه الذي نؤمن بوقوعه ، ولا نسأل عن كيفيته ، لأن كيفيته وراء مدارك
البشر وتصورات الإنسان ] ([449])
.
الشهيد
يقول : فما يمكن ( تحديد ) مصدر النداء ولا اتجاهه .
والحاقد
يقول : لا يؤمن بأن هذا النداء من الله !
وقال أيضاً :
[ ويقول
إنكاراً لتكليم الله موسى عليه السلام ، وإنكاراً لسماع موسى لكلام الله حقيقة :
" ولا ندري نحن كيف . . . ولا ندري كيف كان كلام
الله سبحانه لعبده موسى . . . ولا ندري بأي حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات
الله . . . فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر " .
وهذا تشكك وتشكيك بالغ النهاية ، وفيه تأييد لمذاهب أهل
الضلال من الجهمية والمعتزلة والخوارج ، وخذلان لمذهب أهل الحق ، أهل السنة
والجماعة .
ثم ما فائدة تمويهه بقوله : " فذلك من أمر الله
نؤمن بوقوعه " ، وهو لا يؤمن بأن مصدره هو الله ، ولا يؤمن بسماع موسى لكلام
الله . . .
وهكذا أوقع نفسه ومن يتأثر بكلامه في هوة البدعة والجحود
لكلام الله تعالى .
وعلى كل حال ؛ فالرجل مغرق في إنكار أن الله يتكلم ،
مغرق في القول بخلق القرآن .
وهل قالت الجهمية والمعتزلة أكثر من هذا ؟ ! ] ([450]) .
وكنت أودّ أن أنقل جميع انتقاداته ، ليتّضح ضحالة فهمه ،
ومستواه الدّنيّ ، ويفتضح أمام الجميع ، ولكنّني أطَلتُ في ذلك ، ولم أرد أن أزعج
القاريء أكثر !
هل هناك أرقى من هذا المستوى الرفيع ، والإيمان المتين ،
الذي كتبه الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، والذي لم يُعجب الحاقد ؟ !
صفات
الله
1 - من المعلوم عند العلماء والأئمة ، أنّ هناك صفات لله
تعالى : تسمى ( صفات الذات ) ، وهي التي لا تنفك عن ذات الله تعالى ، أي : لا يكون
الله تعالى ، بدون هذه الصفات ، ولا يتصور ذلك !
وتسمى أيضاً ( صفات المعاني ) .
ومعنى كونها صفات معانٍ : أن كل صفة منها معنى قائم بذات الله تعالى .
وذلك مثل :
القدرة ، والإدارة ، والسمع ، والبصر ، والعلم ، والكلام ، والحياة .
فهذه
الصفات السبعة ، هي الصفات الذاتية لله تعالى ؛ فلا يكون الله سبحانه ، بدون قدرة
، ولا يكون بلا إرادة ، ولا بدون سمع ، ولا بدون بصر ، ولا بدون علم ، ولا يكون
بُكمٌ سبحانه ، ولا يكون بلا حياة .
فلا
يكون الله تعالى بدون هذه الصفات ، ولا طرفة عين ، بل أقل من ذلك بكثير كثير .
وهي
صفات واجبة لله تعالى .
وهناك
صفات لله سبحانه ، تسمى ( صفات الفعل ) .
وهي
ليست من الصفات الواجبة لله تعالى ، بل هي صفات ما يجوز في حقه تعالى .
حيث
يجوز في حقه تعالى فعل كل ممكن ، أو تركه ، كالخلق ، والرحمة ، والعذاب ،
والإماتة ، والإحياء . . .
فلا يجب عليه شيء ، فهو الفاعل ،
المُخْتَار ، المتصرف في ملكه ، كيف يشاء ، لا يشاركه في التصرف ، ولا يحول دون
تصرفه أحد .
وأفعاله جَميعاً جارية وفقَ الحكمة ،
والعَدل ، والصواب ، سواء علمت تلك الحكمة ، أو جهلت ( ([451])
) .
فيُتصور الله سبحانه ، ويكون موجوداً
بدون خلق ، أو بدون أن يرحم ؛ يعني الله تعالى موجود حتى لو لم يرحم أحداً ، أو
يخلق أحداً ، أو يغضب ، أو يعذب ، أو يُميت ، أو يُحيي ، أو . . .
فهذه الصفات ليست مثل صفات الذات ؛ التي
لا تنفك عن ذات الله تعالى ، أو صفات
المعاني ، القائم بذات الله تعالى .
2 – يقول الله تعالى :
( مَا يَأْتِيهِمْ مِـنْ ذِكْرٍ مِـنْ رَبِّهِـمْ
مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُـوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون ) ([452])
.
[ { مَا
يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ } قرآن { مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } جديد في سماعه ،
وفي نطقه ، وفي كتابته ، وفي حفظه .
أما
القرآن - بصفته كلام الرحمن - فهو صفة قائمة بذات منزله وقائله تعالى ، قال
البوصيري رحمه الله تعالى في بردته :
آيات
حق من الرحمن محدثة
قديمة
صفة الموصوف بالقدم ] ([453])
.
[ وقوله تعالى :
مُحْدَثٍ
يراد به الصوت المسموع فهو حادث بلا شك ،
وأما
أصل القرآن الذي هو كلام الله فهو قديم بقدم الله تعالى ] ([454])
.
فالشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، يتحدّث عن
روعة صفات الفعل لله تعالى ، وليس عن صفات الذات لله سبحانه !
أما
الحاقد – بما أنه لا يرتقي إلى مقام والمستوى الرفيع العالي ، للشهيد سيّد قطب
رحمه الله – فقد اختلط عليه الأمر .
فسيّد
قطب يشرّق ، والبدوي يغرّب .
سَـارَتْ مُشَـرِّقَةً وسِـرْتُ
مُغَـرِّباً شَـتَّانَ بَيْـنَ مُشَــرِّقٍ ومُغَـرِّبِ
فالشهيد – في روعة كلامه –
يتحدّث عن المعجزات ، وقدرة الله تعالى ، والتي لا يستطيع أحد من العالمين أن
يحاكيها .
فالناس – مثلاً – يصنعون من
الطين : لبنة أو آجرة . أو آنية أو أسطوانة ، أو هيكل أو جهاز . كائناً في دقته ما
يكون .
ولكنّ الله تعالى يصنع من
الطين ذاته ، حياة نابضة خافقة !
[ وهو مثل صنع اللّه في كل شيء وصنع الناس . . إن هذه التربة
الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات .
فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو
آجرة . أو آنية أو أسطوانة ، أو هيكل أو جهاز . كائنا في دقته ما يكون . .
ولكن اللّه المبدع يجعل من تلك الذرات حياة . حياة نابضة
خافقة . تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز . . سر الحياة . .
ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر ، ولا يعرف سره بشر ] ([455])
.
وكذلك نحن
نتحدّث فيما بيننا ، ونتفاهم عن طريق حروف وكلمات ، هي نفس الحروف التي صنع الله
تعالى ، منها معجزة ؛ لا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثلها ، ولو كان بعضهم
لبعضٍ ظهيرا ، وهي القرآن ! !
[ وهكذا القرآن . . حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا
، ويجعل منها اللّه قرآنا وفرقانا ،
والفرق بين صنع البشر وصنع اللّه من هذه الحروف والكلمات
، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض . . هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة
الحياة ! ] ([456])
.
فهل للحاقد البدوي اعتقاد آخر ، يغاير ما قاله الشهيد
سيّد قطب رحمه الله ؟ !
فإذا كان كذلك ، فليراجع إيمانه قبل أن يموت !
ملخص
الكلام
1 – الشهيد سيّد قطب ، أرفع من أن يشغل نفسه بمشاكل ،
حدثت قبل قرابة ألف سنة ، وأكل عليها الدّهر وشرب ، وذهبت مع أدراج الرياح !
فهو رحمه الله ، أذكى ، وأعقل ، وأعلى من ذلك الظنّ
السيء ، الذي يجعله يترك المشاكل التي غرق الناس فيها في عصره ، ويذهب يحارب في
غابر القرون ! !
2 – إنّه يتحدّث عن قدرة الله تعالى وعظمته ، في معجزة
القرآن ، والذي هو مؤلّف من نفس الحروف ، التي نستخدمها – نحن – ونتكلم بها ، فهي
في متناول أيدينا ، ومع هذا لا يستطيع الإنس والجنّ ان يأتوا بمثله ، إلى يوم
القيامة ، ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا ! !
فهو يدور في فلك صفات الأفعال .
والحاقد البدوي ، يخلط ذلك مع صفات الذات ! !
[ « ألف . لام
. ميم » . .
الحروف المقطعة التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى
أنها مادة الكتاب الذي أنزله اللّه على رسوله - صلّى اللّه عليه وسلّم - مؤلفا من مثل
هذه الحروف ، المألوفة للقوم ، الميسرة لهم ليؤلفوا منها ما يشاؤون من القول
ولكنهم لا يملكون أن يؤلفوا منها مثل هذا الكتاب . لأنه من
صنع اللّه لا من صنع إنسان ] ([457])
.
فالقرآن
ظاهرة كونية
وكذلك شغبوا على الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، في
تفسيره للآية الكريمة ، من سورة طه : ( تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ
الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ) ([458])
.
حيث قالوا : إنه يقول بأن القرآن مخلوق مثل السموات
والأرض .
فكما أن السموات والأرض مخلوقة ، فكذلك القرآن مخلوق !
فاتهامهم هذا يدل على مبلغ علمهم وفهمهم للكلام !
والحمد لله الذي فضحهم في هذه الدنيا قبل الآخرة !
قال الشهيد سيّد قطب رحمه الله :
[ { تنزيلاً ممن
خلق الأرض والسماوات العلى . الرحمن على العرش استوى . له ما في السماوات وما في الأرض
وما بينهما وما تحت الثرى } . .
فالذي نزل هذا القرآن هو الذي خلق الأرض والسماوات . . السماوات
العلى . . فالقرآن ظاهرة كونية كالأرض والسماوات . تنزلت من الملأ الأعلى .
ويربط السياق بين النواميس التي تحكم الكون والتي ينزل بها
القرآن ؛
كما ينسق ظل السماوات العلى مع الأرض ، وظل القرآن الذي ينزل
من الملأ الأعلى إلى الأرض . . ] ([459]) .
كلام واضح ، وقمة في الروعة ، ولكن ماذا تفعل مع الأعراب
والبدو ، الذين لا يفهمون الكلام ؟ !
فالشهيد يقول : كما أن السموات والأرض ظاهرة للعيان ، هل
يستطيع أحد أن ينكر ذلك ، والمشركون يعترفون بقدرة الله تعالى ، في خلقها ، كما
يقول تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه ) ([460]) .
فلماذا – أيهـا المشركون – تؤمنون بقدرة الله تعالـى ،
في خلق الأرض والسموات ، ولا تؤمنون بقدرة الله تعالى ، في إنزاله القرآن ؟
والقرآن كالأرض والسموات في الظهور ؟ !
فهـل إذا شبّه الشهيد سيّد قطب القرآن الكريم – فـي
الظهور – بالأرض والسموات ، يعني ذلك أن القرآن الكريم يشبه الأرض والسموات في كلّ
شيء ؟ فالأرض والسموات مخلوقة ، فيعني ذلك أن القرآن أيضاً مخلوق ؟ !
أيّ عقل هذا ؟ !
يعني إذا قلنا : زيدٌ كالأسد . يعني ذلك : أن زيداً
حيوان مفترس ، يمشي على أربع ، ويأكل اللحم نيّئاً ، و . . . ؟ !
أم نقصد أنه يشبهه في صفة واحدة ، وهي : الشجاعة ؟ !
ولماذا ربط الله تعالى ، خلق الأرض والسموات ، بنزول
القرآن أصلاً فقال : ( تنزيلاً ) (ممّن
خلق . . . ) ؟
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله ، في تفسيره :
[ أَيْ : هذا
القرآن الذي جاءك يا محمد هُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّكَ رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ
وَمَلِيكِهِ، الْقَادِرِ عَلَى مَا يَشَاءُ ،
الَّذِي
خَلَقَ الأرض بانخفاضها وكثافتها ، وخلق السموات العلى فِي ارْتِفَاعِهَا
وَلَطَافَتِهَا ] ([461]) .
وقال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله :
[ يقول تعالى
ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هذا القرآن تنزيل من الربّ الذي خلق الأرض
والسموات العلى ] ([462]) .
نفس المعنى ، ولكن أسلوب الشهيد أعلى وأرقى ، وبيّن وجه
الربط والعلاقة بين ( تنزيلاً ) و ( خلق ) مفصلاً .
[ ويربط السياق بين النواميس التي تحكم الكون والتي ينزل
بها القرآن ؛
كما ينسق ظل السماوات العلى مع الأرض ، وظل القرآن الذي ينزل
من الملأ الأعلى إلى الأرض . . ] ([463]) ! !
الفصل
السابع
الألوهية
والربوبية
إتّهم الحاقد على الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، بأنه
اختلط عليه الأمر ، وأنه لا يفرّق بين الألوهية والربوبية ، بل جعل الألوهية :
ربوبية ، وجعل الربوبية : ألوهية .
وكأن الأعرابي يحتكم – في ذلك – إلى الكتاب والسنة ،
والسلف الصالح !
ولا يدري – ربما كثير من الناس – أنه يحتكم إلى إجتهاد
الحافظ ابن تيمية رحمه الله ، الذي عاش في قرن السابع للهجرة !
أي بعد قرن النبيّ r ، بأكثر من
سبعمائة سنة !
بمعنى : أنه لم تكن هذه المصطلحات ، وهذا التقسيم موجوداً
، لا في زمن النبيّ r ، ولا في زمن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، ولا في زمن
التابعين ، ولا تابع التابعين ، رحمهم الله ، ولا في زمن الأئمة الأربعة رحمهم
الله تعالى ، إلى القرن السابع ، الذي اجتهد فيه الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى
، فقسّم التوحيد – حسب فهمه للقرآن – إلى ثلاثة أقسام : توحيد الألوهية ، وتوحيد
الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وأعطى تعريفاً معيّناً لكلّ قسم !
ونحن لا نعترض على هذا الإجتهاد ، ولكن نعترض على أن
يُجعل حَكَماً يُرجع إليه عند التنازع ، حاله حال الكتاب والسنة ! !
مناقشة
هذا التقسيم
ولقد ناقش بعض العلماء هذا التقسيم ، وردّوه ولم يُسلموا
بصحته .
ونحن – فقط – من باب إخراج هذا التقسيم ، وهذا الإجتهاد
من العصمة ، نورد عليه بعض الإشكالات التي تعترضه .
وقبل ذلك نورد تعاريف الحافظ ابن تيمية رحمه الله ، لتلك
المصطلحات ، ثم نأتي بالإشكالات عليها :
قال الحافظ ابن تيمية رحمه الله :
[ فَالشِّرْكُ
إنْ كَانَ شِرْكًا يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ . وَهُوَ نَوْعَانِ : -
شِرْكٌ
فِي الْإِلَهِيَّةِ وَشِرْكٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ .
فَأَمَّا
الشِّرْكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَهُوَ : أَنْ يَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا – أَيْ :
مِثْلًا فِي عِبَادَتِهِ أَوْ مَحَبَّتِهِ أَوْ خَوْفِهِ أَوْ رَجَائِهِ أَوْ
إنَابَتِهِ فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا
بِالتَّوْبَةِ مِنْه . . .
وَأَمَّا
النَّوْعُ الثَّانِي : فَالشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّ الرَّبَّ
سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ الْمُدَبِّرُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ الضَّارُّ
النَّافِعُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ فَمَنْ شَهِدَ أَنَّ
الْمُعْطِيَ أَوْ الْمَانِعَ أَوْ الضَّارَّ أَوْ النَّافِعَ أَوْ الْمُعِزَّ أَوْ
الْمُذِلَّ غَيْرُهُ فَقَدْ أَشْرَكَ بِرُبُوبِيَّتِه ] ([464]) .
[ وبيّن الإمام
ابن تيمية الصلة بين الألوهية والربوبية ((
فإثبات الإلهية يوجب إثبات الربوبية ونفي الربوبية يوجب نفي الإلهية ، إذ الإلهية
هي الغاية ، وهي مستلزمة للبداية ))
([465])
.
ويقرر بأن إنكـار المشركين كـان لتوحيد الألوهية ،
وإقرارهم كان بتوحيد الربوبية ،
وأن الثانـي ([466]) كـان أسـاس الخلاف
بينهـم وبين رسـول الله r : ((
وهـذا هـو ( توحيد الألوهية ) الذي
قاتل عليه رسول الله r مشركي العرب ، لأنهم أشركوا في الإلهية . . . ))
.
(( أما الربوبية فكانوا مقرين بها
. قال الله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) ([467]) وقال : ( قُلْ
لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ؟ ) ([468]) .
(( ومـا اعتقد أحـد منهـم أن
الأصنـام هـي التـي تنـزل الغيث وترزق العـالـم وتدبره . . . )) ] ([469]) .
بعض
الإشكالات
هناك بعض الإشكالات على التفريق بين الربوبية والألوهية
.
قيل : أنه لا فرق بينهما ، بدليل ما قاله فرعون ، حيث
يذكر الله تعالى ، ما قاله لشعب مصر في حينه :
( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى
) ([470]) . ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) ([471]) . ( قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي
لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ
) ([472])
.
فمرة يذكر تعالى ، عنه أنه قال : أنا ( ربكم ) الأعلى .
ومرة ، قال : ما علمت لكم من ( إله ) غيري .
فهل كان فرعون يدّعي – حسب تعريف الحافظ ابن تيمية ،
للربوبية – أنه خلق السماوات والارض ؟
وهل كان الناس – حسب تعريف الحافظ ابن تيمية للألوهية –
يصلّون له ، وله يسجدون ، وينذرون له القرابين ؟
ويقول تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ )
([473])
.
فالنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم ،
أرباباً ( جمع : ربّ ) ، بينما هم لم يُؤمروا إلّا بعبادة الله تعالى ، وحده !
فلم يقل الله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح
ابن مريم ، آلهة ( جمع : إله ) ، حيث العبادة تتعلق بالألوهية ، وليست بالربوبية !
فهنا
الأرباب = الآلهة !
وهل
هؤلاء النصارى موحدون في الربوبية ؟ وشركهم فقط في الألوهية ؟
ويقول الله تعالى ، أيضاً : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل ) ([474]) .
فهل هذه الآية الكريمة ، من قسم الألوهية ، أم الربوبية
؟ وهل تشعر بأي فرق فيها ، بين المصطلحين ؟ !
ويقول تعالى : ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُون .أَئِفْكًا آلِهَةً
دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ . فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين
) ([475]) .
وهنا قال تعالى : فما ظنكم ( برب ) العالمين ، ولم يقل :
فما ظنكم ( بإله ) العالمين ، والموقف موقف عبادة وألوهية !
ويقول تعالى : (
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ
. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ
لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ
كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ
مِنَ الْمَسْجُونِين ) ([476])
يبدو أن فرعون لم يفرّق بين الربوبية والألوهية !
إن نبيّ الله موسى عليه السلام ، يتحدّث له عن ربّ
العالمين ، وهو يهدّده بألّا يتّخذ ( إله ) غيره ! !
يبدو أنّ الإعتراف بربوبية الله تعالى ، يعني : اتّخاذه
إلهاً !
ويقول تعالى : (
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) ([477]) .
( ربّ ) السماوات والأرض فاعبده . ولم يقل ( إله )
السماوات والأرض فاعبده !
ويقول تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ([478]) .
وأنا ( ربّكم ) فاعبدون . بدل : وأنا ( إلهكم ) فاعبدون
!
فهل العبادة تتعلق بالربوبية ، أم بالألوهية ؟
ويقول تعالى : (
قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ([479]) .
ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً ، وليس : ولا يتّخذ بعضنا
بعضاً آلهة ، والدعوة –هنا – إلى العبادة !
فهل هذه الآية تتعلق بالربوبية ، أم بالألوهية ؟
ويقول تعالى : (
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى
إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) ([480]) .
ولا يُشرك ( بعبادة ) ( ربِّه ) أحداً .
ويقول تعالى : (
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ) ([481]) .
وأدعو ( ربّي ) . بدعاء ( ربّي ) ! وليس ( إلهي ) ،
والمقام مقام دعاء وعبادة وألوهية !
ويقول تعالى : (
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ
رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ([482]) .
هل هذه الآية تتعلق بالربوبية ، أم بالألوهية ؟
وقال أصحاب التقسيم : إنّ مشركي مكة كانوا يقرّون بتوحيد
الربوبية ، وكانت مشكلتهم هي عدم الإيمان بالألوهية ، بدليل قوله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ ) ([483]) وقال : ( قُلْ
لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ؟ ) ([484]) .
ورُدَّ عليهم بأن مشركي [ مكة أنكروا البعث الذي هو من أفعال الرب ، بل من
أخص أفعال الربّ لأن الإيمان به ( أي : بالبعث ) هو قوام ومدار الشرائع جميعا ، فكيف
يقال أنهم آمنوا بالربوبية ؟
فضلا عن توحيد الله فيها ! فماذا إذن عن قولهم : ( أتزعمُ
يامحمد أنّ ربّك يستطيع أن يحيي هذه بعد أن صارت جيفة ؟ )
ليس هذا فحسب ، ولكنهم زعموا أيضاً أن أصنامهم تنصر وتنتصر
( من أفعال الرب ) ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ
) يس : 74 ،
وتعز وتذل ( من أفعال الرب ) ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) مريم: 81 ،
وتنفع وتضر ( من أفعال الرب ) ( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ
بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) هود : 54 ،
وأنها شريكة لله في التصرف والتدبير ( من أفعال الرب ) (
قال الإمام القرطبي في تفسيره ( 16/71 ) : ( وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ
بَنَاتِ اللَّهِ فَقَدْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ شِبْهًا لِلَّهِ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ
مِنْ جِنْسِ الْوَالِدِ وَشِبْهَهُ ) انتهى كلام القرطبي
فكيف يقال بعد كل هذا وغيره إنهم كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية
؟
وأنا أضعك الآن أمام إلزام لا أظنك تحيد عنه ، فإن قلتَ نعم
وحدوا الله في الربوبية . . فليزمك عندها أن تزعم أنَّ البعث ليس من أفعال الرب ! فتكون
بهذا القول ناقضاً لإجماع المسلمين في كل عصر وفي كل مصر ] ([485]) .
وقال أصحاب التقسيم أيضاً :
[ ((
توحيد الربوبية والملك . وهو الإقرار بأن الله تعالى ربّ كلّ شيء ومالكه وخالقه
ورازقه ، وأنه المحيي والمميت النافع الضار ، المنفرد بإجابة الدعاء عند الإضطرار
، الذي له الأمر كلّه ، وبيده الخير كله ، القادر على ما يشاء ليس له في ذلك شريك )) ([486]) ] ([487]) .
فإذا كان المشركين – حسب هذا التقسيم – يؤمنون بتوحيد
الربوبية ، إستناداً إلى الآيات الكريمة : (
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) ، ( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
) .
وكانوا يؤمنون أنه سبحانه ، المحيي والمميت والنافع
الضار ، فما معنى هذه الآيات الكريمة :
( أَإِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَآبَاؤُنَا
الْأَوَّلُون ) ([488]) .
هنا ينكر المشركون أن يكون الله تعالى ، محيي الموتى !
( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ
بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّون ) ([489]) .
وهنا ينكرون أن يكون الله تعالى ، هو المحيي والمميت ،
ولا يؤمنون بالله أصلاً !
( ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
خَلْقًا جَدِيدًا . أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا
رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ) ([490]) .
وهنا أيضاً أنكروا قدرة الله تعالى ، على إحياء الموتى ،
فكيف يُقال : إن المشركين كانون يؤمنون بالربوبية ، وبأن الله تعالى ، هو المُحيي
والمُميت ؟ !
( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ
قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم
) ([491]) .
وهنا ينكرون أيضاً ، أن يكون الله تعالى ، مُحيي الموتى
!
( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ
إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم ) ([492]) .
( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ
إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) ([493]) .
( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ
وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ([494]) .
وهنا –
في الآيات الثلاث السابقة – لا يؤمن المشركون بأن الله تعالى ، هو الرزّاق !
( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ
عِنْدِي ) ([495]) .
( ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ) ([496]) .
فالكفار يؤمنون بأن تلك النِعَم والأرزاق من عندهم ،
وليس من عند الله تعالى !
( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ([497]) .
فالكفار لا يؤمنون بأن الله تعالى هو المُحيي المُميت ،
ويناقشون الأنبياء في ذلك !
( قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ
أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا
نَشَاء ) ([498]) .
فالأموال أموالهم ، ولم يرزقهم الله إيّاها ، ويتعجّبون
أن يتدخّل الشرع في كيفية التصرف فيها !
وغيرها من الآيات الكريمة كثيرة .
فكيف يُقال : إن المشركين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية
؛ وهو أن الله تعالى وحده المحيي ، والمميت ، والرزاق ، والخالق ، ومالك الملك ،
والضار ، والنافع . . . إلخ ؟ !
هذه كانت بعض الإعتراضات ، على توحيد الربوبية عند
المشركين .
ومع هذا نقول : إنّ للحافظ ابن تيمية رحمه الله ، وغيره
، أن يجتهدوا في فهمهم للقرآن ، ولا بأس به ، ولا غبار عليه ، في ذلك أبداً .
أما أن يُجعل اجتهادهم وفهمهم ميزاناً وحَكَماً ، يُحاكم
به الناس ، فهذا هو الشرك الذي وقع فيه ذاك الأعرابي !
الألوهية
والربوبية عند سيّد قطب
[ كلمة الألوهية
عند سيّد واسعة وشاملة ، لها خصائص ولها مظاهر ولها مجالات . وهي الأساس . ويندرج
ضمنها : الربوبية والحاكمية والقوامة والسلطة والتشريع وغير ذلك .
(( بعدئذٍ يلقن رسول الله - r - وكل مؤمن ، أن يتجه إلى الله ، مقرراً حقيقة الألوهية الواحدة ،
وحقيقة القوامة الواحدة في حياة البشر ، وفي تدبير الكون ، فهذه وتلك كلتاهما مظهر
للألوهية وللحاكمية التي لا شريك فيها ولا شبيه . . ))
([499])
.
للألوهية إذن مظهران : مظهر في حياة البشر . ومظهر في
تدبير الكون .
(( ترد القلب إلـى الحقيقة الكبـرى
. حقيقة الألوهيـة الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة .
وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة ، وحقيقة العطاء الواحد ، ثم
حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي
المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال . . ))
([500])
.
وما سماه البعض ((
ربوبية )) وجعلها تشمله ، هو في النص
السابق ضمن الألوهية .
ومن خصائص الألوهية عند سيد التشريع للعباد : ((
فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد . . ))
([501])
] .
أي : بما أن الله تعالى ، هو وحده خالق الأكوان ، وخالق
الناس ، وهو الرزاق ، وهو النافع والضار ، وهو مالك الملك ، وهو الواحد الأحد ، لا
شريك له ، فهو – إذن – وحده المستحق أن يعبده الناس ، وهو وحده صاحب الحق أن يشرّع
لعباده ، وأن يأمرهم وينهاهم ، لا غيره من العبيد ، والكهنة ، والرهبان ، والأحبار
، والطواغيت ، والحكام !
[
وأشرك المشركون بالله في هذا الجانب ، بل قام شركهم على هذا الأساس :
(( والمشركون يشركون مع الله آلهة
أخرى – في صور شتى – ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله – سبحانه – شيئاً ما
من خصائص الألوهية ومظاهرها . وفي مقدمة هذه الحقائق : حق التشريع للعباد في شؤون
حياتهم كلها . . ([502]) .
وليس هذا هو المظهر الوحيد للشرك فإن ((
الشرك ألوان . والشركاء ألوان . والمشركين ألوان . . ))
وأبرز ألوان الشرك ثلاثة : الشرك في الاعتقاد والشرك في الشعائر والشرك في الشرائع
:
(( إن الشرك في صميمه هو الاعتراف
لغير الله – سبحانه – بإحدى خصائص الألوهية . . سواء كانت هي الاعتقاد بتسيير
إرادته للأحداث ومقادير الكائنات . . أو كانت هي التقدم لغير الله بالشعائر
التعبدية والنذور وما إليها . أو كانت هي تلقي الشرائع من غير الله لتنظيم أوضاع
الحياة . . )) ([503]) .
وقف سيد وقفة أمام ادعاء فرعون الألوهية ، والمظهر الذي
ادعاه فرعون من مظاهر الألوهية :
(( إن فرعون لم يكن يدعي الألوهية
بمعنى أنه خالق هذا الكون ومدبره ، وأن له سلطاناً في عالم الأسباب الكونية .
إنما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل ! بمعنى أنه هو
حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه ، وأنه بإرادته وأمره تمضي الشؤون وتقضى بإرادته
وأمره – وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي –
كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم
الشعائر التعبدية له – فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك ،
كما هو ظاهر من قول الملأ له : ((
ويذرك وآلهتك )) ([504]) وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية .
إنما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم
، لا يعصون له أمراً ، ولا ينقضون له شرعاً ))
([505])
.
ويتابع تحليله لموقف فرعون ، ويوفق بين كونه قد ادعى
الربوبية والحاكمية على شعبه ، وبين حكاية القرآن قوله : ((
ما علمت لكم من إله غيري ))
([506])
حيث إنه نص على أنه ادعى الألوهية . فيقول :
(( أما قول فرعون لقومه ((
وما علمت لكم من إله غيري ))
فيفسره قوله الذي حكاه القرآن عنه ((
أليس لي ملك مصر ، وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ؟ أم أنا خير من هذا
الذي هو مهين ولا يكاد يبين ؟ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة
مقترنين ؟ )) ([507]) . . .
وظاهر أنه كان يوازن بين ما هو فيه من ملك ومن أسورة
الذهب التي يحلى بها الملوك ، وبين ما فيه موسى من تجرد من السلطان والزينة !
وما قصد بقوله : ((
ما علمت لكم من إله غيري ))
إلا أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء ، والذي يتبعون كلمته بلا معارض !
والحاكمية على هذا النحو ألوهية كما يفيد المدلول اللغوي
، وهي في الواقع ألوهية . فالإله هو الذي يشرع للناس وينفذ حكمه فيهم ))
([508])
.
وواضح من كلام سيد هنا أن فرعون ادعى الربوبية والحاكمية
والقوامة والسلطان على قومه ، ونتيجة لذلك فقد ادعى الألوهية لأن هذه الأمور كلها
من مظاهر الألوهية ، وفرعون لم يدَّع سيطرته ولا سلطانه على الكون ونواميسه وسننه
، ولم يدَّع خلقه لهذا الكون وما فيه . فألوهيته وربوبيته حاكميته على قومه فقط !
! .
الألوهية تعني – في جملة ما تعني – الاعتراف ((
بأن الله – سبحانه – هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف القادر على كل
شيء )) ([509]) .
كما أنها تعني الحاكمية والتشريع والقوامة والسلطان . أي
الربوبية على الناس ، كما سبق أن أوردنا كلاماً لسيد في ذلك .
فالربوبية مظهر من مظاهر الألوهية وتابعة لها . لأنها
خاصة – عند سيد – في التشريع للبشر وتربيتهم وحكمهم وإخضاعهم ودينونتهم لها .
إن الألوهية – عند سيد – أعم من الربوبية ، والربوبية
مظهر من مظاهر الألوهية . الألوهية لها مجالان :
المجال الأول هو :
الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتقدير والتدبير وتسيير أمور الكون والتحكم
بنواميسه وسننه وهذه الألوهية .
والمجال الثاني :
هو الحاكمية والقوامة والسلطان والتشريع في حياة الناس ، وتوجيه حياتهم ، وإخضاعهم
ودينونتهم وتعبدهم لله . فهذه هي الربوبية .
فـي هذا يقول سيد : ((
إن الأمر في دين الله كله هو : لمن الألوهية في هذه الأرض ؟ ولمن الربوبية على
هؤلاء الناس ؟ )) .
وعلى الإجابة على هذا السؤال في صيغتيه هاتين ، يترتب كل
شيء في أمر الناس أجمعين ! لمن الألوهية ؟ ولمن الربوبية ؟ ))
([510])
.
نلاحظ كيف خص سيد الألوهية بإخضاع وتدبير الكون أي
النواميس الكونية ، وخص الربوبية بإخضاع وتدبير حياة الناس .
الربوبية تعني الحاكمية . فلا حكم ولا تشريع إلا لله : ((
إن ربوبية الله للعالمين تعني – أول ما تعني – إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان
على الناس بغير شريعة الله وأمره ، وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له . . ))
([511])
.
والربوبية هي القضية الدائمة التي تدور عليها معركة
الإسلام مع الجاهلية وهي ((
قضية الدينونة والحاكمية ، قضية الاتباع والطاعة . . ))
([512])
.
إن قول يوسف – عليه الصلاة والسلام – لصاحبه في السجن :
( اذكرني عند ربك ) ([513]) يوضح معنى الربوبية
ويبين سيد هذا بقوله :
(( عند سيدك وحاكمك الذي تدين
بشرعه ، وتخضع لحكمه ، فهو بهذا ربك . فالرب هو السيد والحاكم والقاهر والمشرع . .
وفي هذا توكيد لمعنى الربوبية في المصطلح الإسلامي .
ومما يلاحظ أن ملوك الرعاة لم يكونوا يدعون الربوبية قولاً كالفراعنة ولم يكونوا
ينتسبون إلى الإله أو الآلهة كالفراعنة . ولـم يكن لهـم من مظاهر الربوبية إلا
الحاكمية . وهي نص في معنى الربوبية . . ))
([514])
.
والصلة بين الألوهية والربوبية عند سيد ، هي صلة الأصل
بالفرع ، والكل بالجزء
(( فالربوبية إحدى خصائص الألوهية
الحقة ، وبيان خصائصها من الربوبية والقوامة والحاكمية . . ))
([515])
.
والربوبية أيضاً من مقتضيات الألوهية : ((
ثم تعريفه ( الإنسان ) بمقتضيات الألوهية في حياته – وهي الربوبية والقوامة
والحاكمية )) ([516]) .
وبعد هذا البيان لمعنى الألوهية ومعنى الربوبية ،
والتحديد للصلة بينهما ، يقرر سيد أن المشركين المعاصرين لنزول القرآن كانوا
يعترفون بالألوهية ، ويقرون بها ، فلم تكن هي موضع الإنكار منهم ، ولا موضوع
الجدال مع رسول الله - r - والألوهية التي كانوا يسلمون بها هي تدبير الله لأمور الكون
ونواميسه ، وتفرد الله بالخلق والرزق في حياة الناس .
أما الأمر الذي كانوا ينكرونه فهو ((
الربوبية )) ربوبية الله للناس ، بمعنى أن
يكون وحده هو الحاكم المشرع المطاع ، وأن يفردوه بالحاكمية والقوامة والسلطان
فكانوا يرفضون هذا ، ويمنحون هذه الصلاحيات لرؤسائهم وكبرائهم وزعمائهم ، أو
أعرافهم وتقاليدهم ومورثاتهم . . ]
فكُهّانُهم وسدنة أصناهم ، هم الذين كانوا يشرعون لهم
العبادات ؛ من عبادة الأوثان ، والتقرّب إليهم بالسجود ، وتقديم النذور ، والطواف
حول الكعبة عراة ، وصلاتهم التي كانت مكاءً وتصدية ، والتحريم ، والتحليل . وكانوا
هم يطيعونهم ويتّبعونهم – في ذلك – دون الله تعالى .
[ يورد سيد آيات من سورة يونس ، ويعتبر موضوعها بيان
مجالات الألوهية وهي قوله تعالى :
( إِنَّ
رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا
مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ . ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ ؟ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ، إِنَّهُ
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ
وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ . هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ . مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . إِنَّ
فِــي اخْتِـلَافِ اللَّيْـلِ وَالنَّهَـارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُون)
([517])
.
فهذه الآيات تتحدث عن الخلق والتقدير والتدبير لهذه
الكون وما فيه ، وتحكم في نواميسه وسننه . فهذه يعتبرها سيد من مجالات الألوهية
وليس الربوبية . يقول :
(( وهذه هي القضية الأساسية الكبرى
في العقيدة . قضية الربوبية .
فقضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين . فهم
كانوا يعتقدون بوجود الله – لأن الفطرة البشرية لا تستطيع التخلي عن الإعتقاد
بوجود إله لهذا الكون ، إلا في حالات نادرة منحرفة شديدة الانحراف –
ولكنهم كانوا يشركون مع الله أرباباً يتوجهون إليهم
بالعبادة . ليقربوهم إلى الله زلفى ، ويكونوا لهم شفعاء عنده . كما كانوا يزاولون
خصائص الربوبية فيشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به الله . . ))
([518])
.
ويقف أمام قوله تعالى : ( ذلكم الله ربكم فاعبدوه )
ليقول :
(( وقد قلنا : إن قضية الألوهية لم
تكن محل إنكار جدي من المشركين . فقد كانوا يعترفون بأن الله – سبحانه – هو الخالق
الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء . .
ولكن هذا الإعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته . فلقد كان
مقتضى هذا الاعتراف بألوهية الله على هذا المستوى ، أن تكون الربوبية له وحده في
حياتهم ، والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده . . ))
([519])
.
الخلاف بين أهل الحق وأهل الباطل على طول التاريخ
الإنساني ليس على ألوهية الله للكون ، ولكن على ربوبية الله للناس .
يحدد ذلك سيد بعبارات واضحة : ((
وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهليين والإسلام ، ولا كانت المعركة بين
الحق والطاغوت ، على ألوهية الله – سبحانه – للكون ، وتصريف أموره في عالم الأسباب
والنواميس الكونية :
إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس
، الذي يحكمهم بشرعه ، ويصرفهم بأمره ، ويدينهم بطاعته ؟ ))
([520])
] ([521])
.
الفرق
بين اجتهاد ابن تيمية وسيد قطب
[ فابن تيمية ومن معه يجعلون الألوهية خاصة بالتعبد
والتنسك والتوجه والاستسلام إلى الله ،
ولهذا كان المشركون ينكرون افراد الله وحده بذلك .
ويجعلون الربوبية خاصة بتدبير الله للكون وما فيه ومن فيه وتصريف أمورهم من خلق
ورزق وإماتة وإحياء وضر ونفع وغير ذلك ، وكانوا يعترفون بهذا لله ويفردونه بذلك .
أما عند المودودي وسيد فإن الألوهية تشمل مجالين : مجال
تدبير الله للكون وما فيه ومن فيه وتصريف الحياة فيه ، وضبط النواميس والسنن التي
تسيره ، وهذا الأمر كان يسلم به المشركون ويقرون به ، ويقصرونه على الله .
ومجال الحكم والتشريع للناس وتدبير أمورهم وإخضاعهم
وتعبيدهم لله ، وهذا هو الربوبية ، وهـذا معنى أن الله رب الناس ، وهذا الذي كان
ينكره المشركون وينازعون فيه ، ويجعلونه لرؤسائهم وكبرائهم . .
إن الربوبية عند سيد والمودودي هي من خصائص الألوهية
ولوازمها ، وإن الألوهية أعم من الربوبية لأنها تشمل حياة الناس وحياة الكون .
وأنه لا بدّ من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ،
وإن توحيد الألوهية هو الأساس والغاية والنتيجة والثمرة
، الذي لا يقبل الله إيمان أحد ولا عمله إلا أن يُقرَّ به ويقصره على الله وحده لا
شريك له ] ([522])
.
الرب والإله
لغة
[ أل هـ : ( أَلَهَ ) يَأْلَهُ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا ( إِلَاهَةً ) أَيْ
عَبَدَ .
وَمِنْهُ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا « وَيَذَرَكَ وَ ( إِلَاهَتَكَ ) » بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ
وَعِبَادَتَكَ وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يُعْبَدُ .
وَمِنْهُ قَوْلُنَا اللَّهُ وَأَصْلُهُ ( إِلَاهٌ ) عَلَى فِعَالٍ
بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ مَأْلُوهٌ أَيْ مَعْبُودٌ . . .
مِنْ ذَلِكَ نَسْرٌ وَالنَّسْرُ اسْمُ صَنَمٍ ،
وَكَأَنَّهُمْ سَمَّوْهَا إِلَاهَةَ لِتَعْظِيمِهِمْ لَهَا وَعِبَادَتِهِمْ
إِيَّاهَا وَ ( الْآلِهَةُ ) الْأَصْنَامُ
سُمُّوا بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَحِقُّ لَهَا
وَأَسْمَاؤُهُمْ تَتْبَعُ اعْتِقَادَاتِهِمْ لَا مَا عَلَيْهِ الشَّيْءُ فِي
نَفْسِهِ .
وَ ( التَّأْلِيهُ ) التَّعْبِيدُ وَ ( التَّأَلُّهُ )
التَّنَسُّكُ وَالتَّعَبُّدُ وَتَقُولُ : ( أَلِهَ ) أَيْ تَحَيَّرَ وَبَابُهُ
طَرِبَ وَأَصْلُهُ وَلِهَ يَوْلَهُ وَلَهًا ] ([523])
.
[ ( أَله ) فلَان إلاهة وألوهة وألوهية عبد وألها تحير
وَإِلَيْهِ لَجأ وَعَلِيهِ اشْتَدَّ جزعه وبالمكان أَقَامَ
( ألهه ) اتَّخذهُ إِلَهًا وعده إِلَهًا
( تأله ) تنسك وَتعبد وَادّعى الألوهية
( الْإِلَه ) كل مَا اتخذ معبودا ( ج ) آلِهَة . . .
( التأليه ) القَوْل بِوُجُود إِلَه مُدبر للكون (مج) ] ([524])
.
[ قَالَ : وَلَا يَكُونُ إلَهاً حَتَّى يَكُونَ
مَعْبُوداً ، وَحَتَّى يكونَ لِعَابِدِهِ خَالِقًا وَرَازِقًا ومُدبِّراً ،
وَعَلَيْهِ مُقْتَدِرًا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِإِلَهٍ ، وإِن
عُبِدَ ظُلْماً ، بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ ومُتَعَبَّد ] ([525])
.
[ رب :
الرِّبِّيُّون : الّذين صبروا مع الأنبياء ، نسبوا إلى العبادة والتّألّه في معرفة
الرُّبوبيّة للَّه ،
الواحد : رِبِّيٌّ .
ومن ملك شيئاً فهو رَبُّه ، لا يُقال بغير الإضافة إلاّ
للَّهِ عزّ وجل ] ([526])
.
[ ربب : الرَّبُّ : هُوَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ ، هُوَ رَبُّ كلِّ شيءٍ أَي مالكُه ، وَلَهُ الرُّبوبيَّة عَلَى
جَمِيعِ الخَلْق ، لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَهُوَ رَبُّ الأَرْبابِ ، ومالِكُ المُلوكِ
والأَمْلاكِ .
وَلَا
يُقَالُ الربُّ فِي غَيرِ اللهِ ، إِلّا بالإِضافةِ ،
قَالَ
: وَيُقَالُ الرَّبُّ ، بالأَلِف وَاللَّامِ ، لغيرِ اللهِ ؛ وَقَدْ قَالُوهُ فِي
الجاهلية للمَلِكِ ؛ قَالَ الْحَرِثُ بْنُ حِلِّزة :
وَهُوَ
الرَّبُّ ، والشَّهِيدُ عَلى يَوْمِ ...
الحِيارَيْنِ ، والبَلاءُ بَلاءُ. . .
وربُّ
كلِّ شيءٍ : مالِكُه ومُسْتَحِقُّه ؛ وَقِيلَ : صاحبُه .
وَيُقَالُ
: فلانٌ رَبُّ هَذَا الشيءِ أَي مِلْكُه لَهُ . وكُلُّ مَنْ مَلَك شَيْئًا ،
فَهُوَ رَبُّه . يُقَالُ : هُوَ رَبُّ الدابةِ ، وربُّ الدارِ ، وفلانٌ رَبُّ
البيتِ ، وهُنَّ رَبَّاتُ الحِجالِ ؛ . . .
قَالَ
: الرَّبُّ يُطْلَق فِي اللُّغَةِ عَلَى المالكِ ، والسَّيِّدِ ، والمُدَبِّر ،
والمُرَبِّي ، والقَيِّمِ ، والمُنْعِمِ ؛
قَالَ
: وَلَا يُطلَق غيرَ مُضافٍ إِلّا عَلَى اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، وإِذا أُطْلِق
عَلَى غيرِه أُضِيفَ . . .
ورَبَبْتُ
القومَ : سُسْتُهم أَي كنتُ فَوْقَهم .
وَقَالَ
أَبو نَصْرٍ : هُوَ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : لأَنْ
يَرُبَّنِي فُلَانٌ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي فُلَانٌ ؛ يَعْنِي أَن
يكونَ رَبّاً فَوْقِي ، وسَيِّداً يَمْلِكُنِي ؛
وَرُوِيَ
هَذَا عَنْ صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ ، أَنه قَالَ يومَ حُنَيْنٍ ، عِنْدَ الجَوْلةِ
الَّتِي كَانَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ أَبو سفيانَ : غَلَبَتْ واللهِ
هَوازِنُ ؛ فأَجابه صفوانُ وَقَالَ : بِفِيكَ الكِثْكِثُ ، لأَنْ يَرُبَّنِي رجلٌ
مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَن يَرُبَّني رجلٌ مِنْ هَوازِنَ .
ابْنُ
الأَنباري : الرَّبُّ يَنْقَسِم عَلَى ثَلَاثَةِ أَقسام :
يَكُونُ
الرَّبُّ المالِكَ ،
وَيَكُونُ
الرَّبُّ السّيدَ المطاع ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ، أَي سَيِّدَه ؛
وَيَكُونُ
الرَّبُّ المُصْلِحَ . رَبَّ الشيءَ إِذا أَصْلَحَه ؛ وأَنشد :
يَرُبُّ
الَّذِي يأْتِي منَ العُرْفِ أَنه ، ... إِذا
سُئِلَ المَعْرُوفَ ، زادَ وتَمَّما
وَفِي
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : لأَن
يَرُبَّنِي بَنُو عَمِّي ، أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَن يَرُبَّنِي غيرُهم ، أَي
يَكُونُونَ عليَّ أُمَراءَ وَسَادَةً مُتَقَدِّمين ، يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ،
فإِنهم إِلى ابنِ عباسٍ فِي النَّسَبِ أَقْرَبُ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ .
يُقَالُ
: رَبَّهُ يَرُبُّه أَي كَانَ لَهُ رَبّاً ] ([527])
.
[ فَالرَّبُّ : الْمَالِكُ ،
وَالْخَالِقُ ، وَالصَّاحِبُ .
وَالرَّبُّ
: الْمُصْلِحُ لِلشَّيْءِ . يُقَالُ رَبَّ فُلَانٌ ضَيْعَتَهُ ، إِذَا قَامَ عَلَى
إِصْلَاحِهَا. . . .
وَالرَّبُّ
: الْمُصْلِحُ لِلشَّيْءِ . وَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الرَّبُّ ؛ لِأَنَّهُ
مُصْلِحُ أَحْوَالِ خَلْقِهِ ] ([528])
.
[ وَأخرج
ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ قَالَ :
قَالَ
مُوسَى : يَا فِرْعَوْن هَل لَك فِي أَن أُعْطِيك شبابك لَا تهرم وملكك لَا ينْزع
مِنْك وَترد إِلَيْك لَذَّة المناكح والمشارب وَالرُّكُوب وَإِذا مت دخلت الْجنَّة
وتؤمن بِي فَوَقَعت فِي نَفسه هَذِه الْكَلِمَات وَهِي اللينات
قَـالَ
: كَمَـا أَنْت حَتَّـى يَأْتِي هامان فَلَمَّا جَاءَ هامان أخبرهُ فعجزه هامان
وَقَالَ تصير تعبد إِذا كنت رَبًّا تُعْبَدُ فَذَلِك حِين خرج عَلَيْهِم فَقَالَ
لِقَوْمِهِ وجمعهم { أَنا ربكُم الْأَعْلَى } ] ([529])
.
والمقصود من إيراد
هذه الرواية ، هو قول هامان : ( تصير تعبد إِذا كنت رَبًّا تُعْبَدُ ) . وقول فرعون : ( أَنا ربكُم
الْأَعْلَى ) .
فلم يقل : تصير
تعبد إذا كنت إلهاً تُعْبَد ! ولا قال فرعون – هنا – أنا إلهكم الأعلى ، والموضوع
هو العبادة !
[ وَقَالَ عَطَاءٌ : كَانَ صَنَعَ لَهُمْ أَصْنَامًا
صِغَارًا وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهَا ، فَقَالَ أَنَا رَبُّ أَصْنَامِكُمْ .
وَقِيلَ : أَرَادَ الْقَادَةَ وَالسَّادَةَ ، هُوَ
رَبُّهُمْ ، وَأُولَئِكَ هُمْ أَرْبَابُ السَّفَلَة ] ([530])
.
فهل الأصنام التي تُعبد هي أرباب ، أم هي آلهة ؟
والعبادة تتعلق بالربوبية ، أم بالألوهية ؟
[ { فقال أنا ربّكم الأعلى } لا رب فوقي وكانت لهم أصنام
يعبدونها ] ([531])
.
[ فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ، فَلَا رَبَّ فَوْقِي . وَقِيلَ : أَرَادَ
أَنَّ الْأَصْنَامَ أَرْبَابٌ وَأَنَا رَبُّكُمْ وَرَبُّهَا ] ([532])
.
[ يقول
تعالى ذكره : وقال فرعون لأشراف قومه وسادتهم : ( يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا
عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) فتعبدوه ، وتصدّقوا قول موسى فيما جاءكم به
من أن لكم وله ربا غيري ومعبودا سواي ] ([533])
.
( إِلَهٍ غَيْرِي ) =
( ربّاً غيري ) = (
معبوداً سواي ) !
[ وأما
تأويل قوله ( رَبِّ ) ، فإن الرّب في كلام العرب منصرفٌ على معان : فالسيد المطاع
فيها يدعَى ربًّا ، ومن ذلك قول لَبِيد بن ربيعة :
وأَهْلكْنَ
يومًا ربَّ كِنْدَة وابنَه ... ورَبَّ
مَعدٍّ ، بين خَبْتٍ وعَرْعَرِ
يعني
بربِّ كندة : سيِّد كندة . ومنه قول نابغة بني ذُبيان :
تَخُبُّ
إلى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنالَهُ ... فِدًى لكَ
من رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي
والرجل
المصلح للشيء يُدعى ربًّا ، ومنه قول الفرزدق بن غالب :
كانُوا
كَسَالِئَةٍ حَمْقَاءَ إذْ حَقَنتْ ... سِلاءَها
فِي أدِيم غَيْرِ مَرْبُوبِ
يعني
بذلك : في أديم غير مُصلَحٍ . ومن ذلك قيل : إن فلانًا يَرُبُّ صنيعته عند فلان ؛
إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها ، ومن ذلك قول علقمة بن عَبَدة :
فكُنْتَ
امرَأً أَفْضَتْ إليك رِبَابَتي ... وَقَبْلَكَ
رَبَّتْني ، فَضِعْتُ رُبُوبُ
يعنى
بقوله : " أفضتْ إليك " أي وصلتْ إليك رِبَابتي ، فصرتَ أنت الذي ترُبُّ
أمري فتصلحه ، لمّا خرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ ، فضيَّعوا أمري وتركوا تفقُّده - وهم الرُّبوب
: واحدهم ربٌّ .
والمالك
للشيء يدعى رَبَّه .
وقد
يتصرف أيضًا معنى " الربّ " في وجوه غير ذلك ، غير أنها تعود إلى بعض
هذه الوجوه الثلاثة .
فربّنا
جلّ ثناؤه : السيد الذي لا شِبْه لهُ ، ولا مثل في سُؤدده ، والمصلح أمر خلقه بما
أسبغ عليهم من نعمه ، والمالك الذي له الخلق والأمر ] ([534])
.
بين ابن تيمية
وسيد قطب
[ إن
ابن تيمية ومن وافقه يجعلون الربوبية خاصة في تدبير وتسيير الكون وما فيه ، وتدبير
وتسيير أمور الخلق في مجالات الخلق والرزق والضر والنفع وغير ذلك .
ويجعلون
الألوهية خاصة في العبادة والتوجه إلى الله ، وإفراده بذلك .
وكأن
هذا الفريق جعلوا لكل مصطلح من المصطلحين معاني خاصة محددة يشملها ، وأمكنهم ضبطها
وتحديدها واحتواؤها ضمن هذا المصطلح .
أما
موضوع الحاكمية والقوامة ، والتشريع والتربية ، فلم أجد لهم ذكراً له ولا كلاماً
فيه ، ولا إدراجاً له ضمن الألوهية أو ضمن الربوبية .
أما
سيد والمودودي فهما يعكسان الأمر بالنسبة لتدبير وتسيير أمور الكون ، وتدبير
وتسيير أمور الناس في مجالات الخلق والرزق والإماتة والإحياء وغير ذلك .
فيعتبر
هذا من مضامين الألوهية وليس من مضامين الربوبية .
وبما
أن العرب المشركين – والمشركين من الأقوام السابقين واللاحقين – يقرون ويسلمون
بهذا لله وحده ، فقد كانوا يعترفون ويسلمون بالألوهية .
وقد
بينّا أن اللغة واستعمالاتها تشهد لهما بذلك ، وآيات القرآن تشهد لهما أيضاً .
أما
الربوبية عندهما فإن من جملة ما تعنيه هو إفراد الله وحده بالحاكمية والقوامة
والتشريع والتوجيه والدينونة والسلطان .
والعرب
المشركون وغيرهم كانوا يجعلون هذه الأمور من صلاحيات زعمائهم ورؤسائهم ، وكانوا
ينكرون ويرفضون إفراد الله وحده بها .
وقد
بينا أن اللغة واستعمالاتها تشهد لهما بذلك أيضاً كما تشهد لهما آيات القرآن
الكريم .
وإذا
نظرنا في حقيقة الأمر فإننا نجد المشركين يرفضون إفراد الله بالحاكمية والقوامة
والتشريع والسلطان والأمر والنهي .
فهل
نسمي هذا ألوهية أو نسميه ربوبية ؟
إن
اللغة العربية وآيات القرآن وعلماء اللغة وفقهاءها اعتبروه من مضامين الربوبية .
ولهذا كانت هي محل الإنكار ! !
ولم
يفصل العالمان – المودودي وسيد – بين الألوهية والربوبية ، بل بينهما ارتباط وصلة
، فالربوبية من خصائص ومستلزمات ومضامين الألوهية . والألوهية هي الأساس ، والغاية
والمطلوب .
وللحق
نقول أيضاً أن المشركين كانوا يرفضون إفراد الله وحده بالعبادة ، والعبادة من
مضامين الألوهية وليس من مضامين الربوبية .
وبهذا
نستطيع أن نوفق بين آراء الفريقين ، ونصوب فهمهما ، و (( ننزل )) كلام كل
منهما على حالة .
صحيح
أن المشركين كانوا يرفضون إفراد الله بالعبادة والخضوع ، أي يرفضون إفراده
بالألوهية أو ببعض مجالاتها ومضامينها .
وصحيح
أيضاً أن المشركين كانوا يرفضون إفراد الله بالحاكمية والقوامة والتشريع أي إفراده
بالربوبية أو ببعض مجالاتها ومضامينها .
وكانوا
يسلمون لله بالتدبير والتيسيير لأمور الكون وحياة الناس في مجال الخلق والرزق
والضر والنفع . وهذا يطلق عليه الفريق الأول ربوبية – وهو صحيح إذ أنه من بعض
معاني الرب –
ويطلق
عليه الفريق الثاني ألوهية – وهو صحيح أيضاً إذ أنه من بعض معاني كلمة (( إله )) .
فلا
خلاف بين الفريقين في الحقيقة إلا في المصطلحات فما يعتبره الفريق الأول ألوهية
يعتبره الفريق الثاني ربوبية .
واللغة
تشهد للفريقين في ذلك وطالما أن الفريقين متفقان على المضمون – فيما كان يقرُّ به
المشركون ويعترفون به – فلا يضر اختلافهم في الاصطلاح . إذ قرر – قديماً – علماء
الأمة (( أنه لا
مشاحة في الاصطلاح )) ! ! .
لكننا
– والحق يقال – نرى أن الفريق الثاني – المودودي وسيد – كانت نظرته أعمق وأنفـذ ،
ورأيه أعـم وأشمل ، وشهادة اللغة له – في مجال الربوبية – أوضح وأقوى .
فهو
قد تحدث عن أمر هام وأساسي سكت عنه الفريق الأول ، وهو الحاكمية والقوامة والتشريع
([535]) ، وأدخله ضمن الربوبية ،
ضمن خصائص الألوهية ومضامينها ومستلزماتها ، وليس قسيماً مقابلاً لها . وجعل صلتها
بالألوهية كصلة الجزء بالكل والفرع بالأصل ] ([536])
.
الفصل
الثامن
الحاكمية
وهـذا
مصطلح آخر استخدمه الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، بكثرة في كتاباته ، لأنه رأى
مشكلة العصر تكمن في هذا الموضوع .
فأخذ
العلمانيين يستخدمونه – خبثاً – ضد الشهيد ، وينعقون بأنّ هذا قول الخوارج ، وهم
لا علاقة لهم بالخوارج ولا بالدواخل ، ولا يهمّهم أمرهم ، بل هو مجرد تشويه لصورة
الشهيد ، ومخادعة السذج من المسلمين !
وتلقف
بعض المسلمين الأغبياء ، هذه التهمة ، وطعنوا في المصطلح ذاته ، ورموا به الشهيد ،
ظنّاً منهم أن هذا المصطلح صنعه الخوارج ، حيث طعنوا به بعض الخلفاء الراشدين –
وخاصة عليّ بن أبي طالب t
، والحكام عامّة ! !
ونحن
لايهمّنا – هنا – أمر العلمانيين ، لأنهم يعلمون علم اليقين ، كذبهم وافتراءاتهم
على الشهيد سيّد ، فاستخدامهم لهذا المصطلح واسم الخوارج ، هو مجردّ محاربة
للإسلام الحقيقي ، الذي يرفع رايته الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، وكذلك خدعة لبعض
المسلمين .
بل
يهمّنا أمر المسلمين ، الذين ليس لديهم علم وتصور
، في هذا الموضوع ، فإذا تُرِكوا من غير بيان واضح ، في هذه المسألة ،
فربّما قد يشوش عليهم البدويّ وأتباعه المتعصبين !
وينبغي
أن نعلم – إبتداءً – أنّ كلمة ( الحاكمية ) ، أو التي نادى بها الخوارج ، في
مواجهة الخليفة الراشد عليّ بن أبي طالب t
، كانت كلمة حقّ في ذاتها ، لا غبار عليها ، إنّما كانت تلفها الغباوة والخبث !
فعندما
قال الخوارج : ( لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ
أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ) ([537])
.
[ معناه أن الكلمة أصلها صدق قال تعالى إن
الحكم إلا لله لكنهم أرادوا بها الإنكار على علي رضي الله عنه في تحكيمه ] ([538])
.
فهي
كلمة ( حقّ ) ، فليعلم الخبثاء والأغبياء معاً ، هذه الحقيقة !
وكيف
لا تكون حقّاً وقد نصّ الله تعالى ، عليها ، في كتابه العزيز ؟ !
يقول
الله تعالى : ( إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون ) ([539])
.
قال
الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، في تفسيره لهذه الآية الكريمة :
[ إن الحكم لا يكون إلا للّه . فهو مقصور عليه
سبحانه بحكم ألوهيته . إذ الحاكمية من خصائص الألوهية .
من
ادعى الحق فيها فقد نازع اللّه سبحانه أولى خصائص ألوهيته سواء ادعى هذا الحق فرد
، أو طبقة ، أو حزب . أو هيئة ، أو أمة ، أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية .
ومن
نازع اللّه سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر باللّه كفرا بواحا ، يصبح
به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة ، حتى بحكم هذا النص وحده ! ([540])
وادعاء
هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم ، وتجعله
منازعا للّه في أولى خصائص ألوهيته - سبحانه - فليس من الضروري أن يقول : ما علمت
لكم من إله غيري أو يقول : أنا ربكم الأعلى ، كما قالها فرعون جهرة .
ولكنه
يدعي هذا الحق وينازع اللّه فيه بمجرد أن ينحي شريعة اللّه عن الحاكمية ويستمد
القوانين من مصدر آخر . ([541])
وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية ، أي التي تكون هي مصدر
السلطات ، جهة أخرى غير اللّه سبحانه . . ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية.
والأمة
في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة اللّه
ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته .
إنما
مصدر الحاكمية هو اللّه . وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة
السلطة وبين مصدر السلطة . ([542])
فالناس
بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه اللّه وحده .
والناس
إنما يزاولون تطبيق ما شرعه اللّه بسلطانه ، أما ما لم يشرعه اللّه فلا سلطان له
ولا شرعية ، وما أنزل اللّه به من سلطان . .
ويوسف - عليه السلام - يعلل القول بأن الحكم للّه وحده . فيقول :
« أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ » .
ولا
نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى «العبادة» التي
يخص بها اللّه وحده . .
إن
معنى عبد في اللغة : دان ، وخضع ، وذل . . ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في
أول الأمر أداء الشعائر . . إنما كان هو معناه اللغوي نفسه . .
فعند
ما نزل هذا النص أول مرة لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ إليه .
إنما
كان المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي .
كان
المقصود به هو الدينونة للّه وحده ، والخضوع له وحده ، واتباع أمره وحده . سواء
تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية ، أو تعلق بتوجيه أخلاقي ، أو تعلق بشريعة قانونية.
فالدينونة
للّه وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص اللّه - سبحانه - بها نفسه ولم يجعلها لأحد من خلقه . .
وحين
نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف - عليه السلام - اختصاص
اللّه بالعبادة تعليلا لاختصاصه بالحكم .
فالعبادة
- أي الدينونة - لا تقوم إذا كان الحكم لغيره . . وسواء في هذا حكمه القدري القهري
في حياة الناس وفي نظام الوجود ، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة . فكله
حكم تتحقق به الدينونة .
ومرة
أخرى نجد أن منازعة اللّه الحكم تخرج المنازع من دين اللّه - حكما معلوما من الدين
بالضرورة - لأنها تخرجه من عبادة اللّه وحده . . وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه
من دين اللّه قطعا .
وكذلك
الذين يقرون المنازع على ادعائه ، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه
سلطان اللّه وخصائصه . . فكلهم سواء في ميزان اللّه . ([543])
ويقرر
يوسف - عليه السلام - أن اختصاص اللّه - سبحانه - بالحكم - تحقيقا لاختصاصه بالعبادة
- هو وحده الدين القيم :
« ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » . .
وهو
تعبير يفيد القصر . فلا دين قيما سوى هذا الدين ، الذي يتحقق فيه اختصاص اللّه
بالحكم ، تحقيقا لاختصاصه بالعبادة . .
« وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » . .
وكونهم
« لا يعلمون » لا يجعلهم على دين اللّه القيم . فالذي لا يعلم شيئا لا يملك
الاعتقاد فيه ولا تحقيقه . .
فإذا
وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين ، لم يعد من الممكن عقلا وواقعا وصفهم بأنهم على
هذا الدين ! ولم يقم جهلهم عذرا لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام .
ذلك
أن الجهل مانع للصفة ابتداء . فاعتقاد شيء فرع عن العلم به . . وهذا منطق العقل
والواقع . . بل منطق البداهة الواضح .
لقد
رسم يوسف - عليه السلام - بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم
هذا الدين ، وكل مقومات هذه العقيدة كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية
هزا شديدا . .
إن
الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعيا أخص خصائص الألوهية ، وهو الربوبية . أي حق
تعبيد الناس لأمره وشرعه ، ودينونتهم لفكره وقانونه . ([544])
وهو
إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه - ولو لم يقله بلسانه - فالعمل دليل أقوى من
القول .
وإن
الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس .
فما
يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلا أن الحكم للّه وحده ، لأن العبادة لا
تكون إلا للّه وحده ، والخضوع للحكم عبادة . بل هي أصلا مدلول العبادة ] ([545]) .
وقال
رحمه الله :
[ فليس
لأحد من بني آدم أن ينصب نفسه ملكا على الناس ومسيطرا عليهم ، يأمرهم بما يشاء
وينهاهم عما يريد . ([546])
ولا
جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من
الملك الأعلى ، هو تكبر في الأرض على اللّه بغير الحق ، وعتو عن أمره ، وطموح إلى
مقام الألوهية.
والذين
يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكا وأمراء إنما يشركون باللّه ، وذلك مبعث
الفساد في الأرض ، ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان .
«إن
دعوة الإسلام إلى التوحيد ، وعبادة اللّه الواحد ، لم تكن قضية كلامية . أو عقيدة
لا هوتية فحسب .
شأن
غيره من النحل والملل بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي
أرادت
في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية واستعبدوا الناس بحيلهم
ومكايدهم المختلفة .
فمنهم
من تبوأ مناصب السدنة والكهان ومنهم من استأثر بالملك والإمرة ، وتحكم في رقاب
الناس ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض وجعل الناس عالة عليهم يتكففون
ولا يجدون ما يتبلغون به . .
فأرادت
دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعا وتستأصل شأفتهم استئصالا . .
وهؤلاء
تارة تسنموا قمة الألوهية جهرا وعلانية وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على
أن يذعنوا لأمرهم وينقادوا لجبروتهم مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آبائهم أو
استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها فقالوا :
« ما
علمت لكم من إله غيري » . . و« أنا ربكم الأعلى » . . و« أنا أحيي وأميت » . . و« من
أشد منا قوة ؟ » . .
إلى
غيرها من كلمات الاستكبار ودعاوى الألوهية التي تفوهوا بها وتجاسروا عليها بغيا
وعدوانا .
وطورا
استغلوا جهل الدهماء وسفههم ، فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة ، يدعون
الناس ويريدونهم على أداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل متوارين
بأنفسهم من ورائها ، يلعبون بعقول الناس ، ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا
يشعرون !
فيتبين
من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة للّه الواحد الأحد ، وتنديده
بالكفر والشرك باللّه ، واجتناب الأوثان والطواغيت . . كل ذلك يتنافى ويتعارض مع
الحكومة والعاملين عليها المتصرفين في أمورها ، والذين يجدون فيها سندا لهم ،
وعونا على قضاء حاجاتهم وأغراضهم . .
ومن
ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة ، وخاطبهم قائلا : « يا
قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره » . . قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في
عصره ، وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلما وعدوانا ..
خرجت تقاومه ، وتضع في سبيل الدعوة العقبات . ([547])
وذلك
أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية ، أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات
وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي ، ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين
بمناصب العز والجاه ، المستبدين بمنابع الثراء ، ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي
قبل حدوثه بأعوام !
« إن
الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية ، وجملة من المناسك والشعائر ، كما
يفهم من معنى الدين في هذه الأيام .
بل
الحق أنه نظام شامل ، يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في
العالم ، ويقطع دابرها ، ويستبدل بها نظاما صالحا ، ومنهاجا معتدلا ، يرى أنه خير
للإنسانية من النظم الأخرى ، وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان ،
وسعادة له وفلاحا في العاجلة والآجلة معا .([548])
« ودعوته
في هذه السبيل ، سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء ، عامة للجنس البشري كافة ،
لا تختص بأمة دون أمة ، أو طائفة دون طائفة . فهو يدعو بني آدم جميعا إلى كلمته
حتى إنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود اللّه في أرضه ، واستأثروا
بخيرات الأرض دون سائر الناس . . يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلا :
لا تطغوا في الأرض ، وادخلوا في كنف حدود اللّه التي حدها لكم ، وكفوا أيديكم عما
نهاكم اللّه عنه وحذركم إياه .
فإن
أسلمتم لأمر اللّه ، ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرا وبركة ، فلكم
الأمن والدعة والسلامة فإن الحق لا يعادي أحدا وإنما يعادي الحق الجور ، والفساد
والفحشاء ، وأن يتعدى الرجل حدوده الفطرية ، ويبتغي ما وراء ذلك ، مما لا حظ له
فيه حسب سنن الكون ، وفطرة اللّه التي فطر الناس عليها .
« فكل
من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن ، يصير عضوا في « الجماعة الإسلامية » أو « الحزب
الإسلامي » لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود ، أو بين الغني منهم والفقير .
كلهم
سواسية كأسنان المشط . لا فضل لأمة على أمة . أو لطبقة على أخرى . وبذلك يتكون ذلـك
الحزب العـالمي أو الأممي ، الـذي سمـي « حزب اللّه » بلسـان الوحي ] ([549])
.
معنى
الحاكمية
يظن
البدوي وأتباعه ، أنّ الحاكمية تعني : رئاسة الجمهورية ، أو إمارة البلدان ، كما
ظنّ ذلك الخوارج ، حذو القذة بالقذة !
[ عن عاصم بن ضمرة قال : " لما حكمت الحرورية
قال علي : ما يقولون ؟
قيل : يقولون : لا حكم إلا لله .
قال : الحكم لله ، وفي الأرض حكام ، ولكنهم يقولون : لا إمارة
،
ولا بد للناس من إمارة يعمل فيها المؤمن ، ويستمتع فيها الفاجر
والكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل ] ([550]) .
إن
حاكمية الله تعالى ، لا تعني الإمارة وما شابه ! ولم يستخدم الشهيد سيّد قطب رحمه
الله ، الحاكمية بهذا المعنى الضيق !
إن
حاكمية الله تعالى ، والتي لا تجوز لغيره سبحانه ، هي : حكمه تعالى ، على الكون
والكائنات جميعاً ، ونفاذ أمره تعالى ، وحقه في الأمر والنهي وحده بلا شريك .
( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ([551]).
قال
الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله ، في تفسيره :
[ يقول تعالى
ذكره : إن سيدكم ومصلح أموركم ، أيها الناس ، هو المعبود الذي له العبادة من كل شيء
" الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام . . .
إن
ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم ، كلّ ذلك بأمره ، أمرهن
الله فأطعن أمرَه ،
ألا
لله الخلق كله ،
والأمرُ الذي لا يخالف ولا يردّ أمره ، دون ما سواه من الأشياء كلها ، ودون ما
عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضر ولا تنفع ، ولا تخلق ولا تأمر ،
تبارك الله معبودُنا الذي له عبادة كل شيء ، رب العالمين
حدثني
المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن قال ، حدثنا بقية بن
الوليد قال ، حدثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري ، عن عبد العزيز الشامي ،
عن أبيه ، وكانت له صحبة ، قال :
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد
نفسه ، قلَّ شكره ، وحَبِط عمله .
ومَنْ
زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئًا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ، لقوله
: " ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " ] ([552])
.
[ مَنْ
زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئًا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ] !
وهذا
ما قاله الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، بالضبط ، ودندن حوله .
فالحكم
هو أرفع وأعلى ، مما يتخيّله الأعراب وغيرهم .
[ والحكم عند الأصوليين هو : خطاب الله المتعلق
بأفعال المكلفين بالاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع ([553]) .
والمقصود
بخطاب الله : كلامه مباشرة وهو القرآن ، أو بالواسطة : وهو ما يرجع إلـى كلامه من
سُنّة ، أو إجماع ، وسائر الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع لمعرفة حكمه .
فالسُنّة
: وهي ما يصدر عن الرسول r
على وجه التشريع ، راجعة إلى كلامه لأنها مبيّنة له ، وهي وحي الله إليه ، قال
تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
يُوحَى ) [ النجم : 3 ] .
والإجماع
لا بد له من دليل من الكتاب والسنة ، فكان راجعاً إلى كلام الله بهذا الاعتبار .
وهكذا
سائر الأدلة الشرعية ، كلها كاشفة لخطاب الله ، ومظهرة للحكم الشرعي لا مثبتة له .
والمقصود
(( بالاقتضاء )) : الطلب ،
سواء أكان طلب فعل أم تركه ، وسواء أكان هذا الطلب بنوعيه على سبيل الإلزام ، أم
كان على سبيل الترجيح ]
فإذا طلب الشارع فعلاً ، على وجه الحتم والإلزام
، بحيث : يذم تاركه ومع الذم العقاب ، ويمدح فاعله ومع المدح الثواب ، فهو :
الواجب ([554])
.
وإذا طلب الشارع الكف عن فعلٍ ما على وجه الحتم
والإلزام ، بحيث يكون تاركه مأجوراً مطيعاً ، وفاعله آثماً عاصياً ([555])
، فهو : الحرام ، أو المحرم .
وإذا طلب الشارع فعلاً ، من غير إلزام ،
بحيث يمدح فاعله ويثاب ، ولا يذم تاركه ولا يعاقب ، فهو المندوب ([556])
. وقد يلحقه اللوم والعتاب على ترك بعض أنواع المندوب .
وإذا طلب الشارع من المكلف ترك
فعلٍ ما ، لا على وجه الحتم والإلزام ، بحيث يكون تركه أولى من فعله ([557])
، فهو المكروه .
[
والمراد (( بالتخيير )) : التسوية
بين فعل الشيء وتركه ، بدون ترجيح أحدهما على الآخر ، وإباحة كل منهما للمكلف ]
وإذا
خيّر الشـارعُ المكلَّفَ بين فعلٍ مـا وتركه ، ولا مدح ولا ذم على الفعل والترك ،
فهو المباح ، ويقال له : الحلال ([558])
.
[
والمراد (( بالوضع )) : جعل شيء
سبباً لآخر ، أو شرطاً له ، أو مانعاً منه ([559])
فقوله
تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُود ) [ المائدة : 1 ] ، حكم شرعي
: لأنه خطاب من الله تعالى تعلق بفعل من أفعال المكلفين ([560])
، وهو الإيفاء بالعقود على جهة الطلب له ([561])
. ([562])
وقوله
تعالى : ( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) [ الإسراء :
32 ] ،
حكم شرعي : لأنه خطاب من الشارع ، طلب به الكف عن فعل ([563])
، وهو الزنى .
وقوله
تعالى : ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) [ المائدة :
2 ] ،
حكم شرعي : لأنه خطاب من الشارع بإباحة الاصطياد بعد التحلل من الإحرام ([564])
.
وقوله
تعالى : ( فإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ) [ الجمعة :
10 ] ،
حكم شرعي : لأنه خطاب من الشارع بإباحة الانتشار في الأرض بعد الفراغ من الصلاة
وقوله
تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) [ آل عمران
: 97 ] ،
حكم شرعي : لأنه خطاب من الشارع بوجوب
الحج على المكلفين ([565])
.
وقوله
تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ) [ المائدة :
38 ] ،
حكم شرعي : لانه خطاب من الشارع بجعل السرقة سبباً لوجوب قطع يد السارق أو السارقة
.
وقوله
تعالى : ( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْس ) [ الإسراء :
78 ] ،
حكم شرعي : لأنه خطاب من الشارع بجعل دلوك الشمس سبباً لوجوب الصلاة ([566])
.
وقول
النبيّ r
: (( رفع القلم
عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق )) خطاب من
الشارع بجعل النوم والصغر والجنون أموراً مانعةً من التكليف ] ([567])
.
[ من
خصائص الشريعة الإسلامية : أنها تشريعٌ سماويٌّ ، يصدر الحكم فيها عن الله سبحانه
،
فالحاكم
ومصدرُ الحكم حقيقةً هو الله تعالى ، أما ما يقرِّره علماء أصول الفقه من أنَّ
أصولاً وأدلةً أخرى للحكم ، فإنهم يعنون بها : تلكَ المسالكَ التي يكتشف يها حكم
الله تعالى ، فهي أصول بالمعنى المجازيِّ لا الحقيقيِّ .
وقد
أجمع على هذا المسلمون ، فاتّفقوا على أنَّ الحاكم هو اللهُ سبحانَه ، وأنه لا شرع
إلَّا منه ، وقد استندَ هذا الإجماع إلى نصوص من الكتاب : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه ) [ يوسف : 40 ] ، ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّه ) [ المائدة :
49 ] ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ المائدة : 47 ] ] ([568])
.
وقال
الدكتور مصطفى إبراهيم الزلمي رحمه الله تعالى :
[
أجمعت الأمة الإسلامية من الفقهاء والأصوليين والفلاسفة على أن الحاكم ( الشارع ) للأحكام الشرعية من وجوب وندب
وحرمة وكراهة وإباحة وسببية وشرطية ومانعية هو الله سبحانه وتعالى كما قال في
القرآن الكريم ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه ) ([569])
،
كما
اتفق الجمهور ([570]) على أن لكل مسألة تواجه
الفرد أو المجتمع أو الأمة في جميع مجالات الحياة حكماً شرعياً إلهياً واحداً إن
أصابه المجتهد فهو مصيب ، وإن وصل اجتهاده إلى غيره فهو خاطيء ] ([571])
.
فالشهيد
سيّد قطب رحمه الله ، ينطلق ويسير على ضوء الآيات الكريمة ، من القرآن الكريم ،
والتي هي أوامر الله تعالى ، ونهيهه .
وكذلك
على ضوء إجماع علماء الأمة الإسلامية ؛ في أنه لا حاكم إلّا الله ، ولا يجوز لغيره
سبحانه ، أن يشرّع ، وأن يأمر وينهى ، من دونه تعالى .
ولنعلم
: أنه ليس هناك فعل أو قول ، أو سكون ، أو حركة للإنسان ، إلّا ولله في ذلك حكم ؛
سواء : الوجوب ، أو الحرمة ، أو الندب ، أو الكراهة ، أو الإباحة ، أو الصحة ، أو
البطلان أوالفساد !
يقول
تعالى : ( أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ) ([572])
.
[ قَالَ السُّدِّيُّ : يَعْنِي : لَا يُبْعَثُ .
وَقَالَ
مُجَاهِدٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ :
يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى .
وَالظَّاهِرُ
أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الْحَالَيْنِ ،
أَيْ :
لَيْسَ يُتْرَكُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى ،
وَلَا
يُتْرَكُ فِي قَبْرِهِ سُدًى لَا يُبْعَثُ ، بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ فِي
الدُّنْيَا ، مَحْشُورٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَة ] ([573])
.
الفصل
التاسع
رسالة
الشيخ بكر أبو زيد للمدخلي
هناك شبهات أخرى ، تافهة كأخواتها ، لا نريد إطالة
الكلام في الردّ عليها أكثر مما سبق .
وكلها
سواسية ؛ شبهات رديئة .
وفيما مضى كان الرد على أكثر الشبهات رواجاً ، عند
الأعراب البدو .
وفيما يلي نص الرسالة الجوابية ، التي بعثها الشيخ بكر
أبو زيد للمدخلي ، بعد أن سأل الأخير رأي الشيخ
، في كتابه البائس ( أضواء إسلامية على عقيدة سيّد قطب وفكره ) :
[ فضيلة الأخ الشيخ
/ ربيع بن هادي المدخلي .. الموقر
السلام عيكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد
فأشير إلى رغبتكم قراءة الكتاب المرفق " أضواء إسلامية
على عقيدة سيد قطب وفكره " . .
هل من ملاحظات عليه ثم هذه الملاحظات هل تقضي على هذا المشروع
فيطوى ولا يروى ،
أم هي مما يمكن تعديلها فيترشح الكتاب بعد الطبع والنشر ويكون
ذخيرة لكم في الأخرى ، بصيرة لمن شاء الله من عباده في الدنيا ،
لهذا أبدي ما يلي . .
1 - نظرت في أول صفحة من فهرس الموضوعات فوجدتها عناوين قد
جمعت في سيد قطب رحمه الله ، أصول الكفر والإلحاد والزندقة ،
القول بوحدة الوجود ،
القول بخلق القرآن ،
يجوز لغير الله أن يشرع ،
غلوه في تعظيم صفات الله تعالى ،
لا يقبل الأحاديث المتواترة ،
يشكك في أمور العقيدة التي يجب الجزم بها ،
يكفر المجتمعات . .
إلى أخر تلك العناوين التي تقشعر منها جلود المؤمنين . .
وأسفت على أحوال علماء المسلمين في الأقطار الذين لم ينبهوا
على هذه الموبقات. .
وكيف الجمع بين هذا وبين انتشار كتبه في الآفاق انتشار الشمس
،
وعامتهم يستفيدون منها ، حتى أنت في بعض ما كتبت ،
عند هذا أخذت بالمطابقة بين العنوان والموضوع ،
فوجدت الخبر يكذبه الخبر ،
ونهايتها بالجملة عناوين استفزازية تجذب القارئ العادي ،
إلى الوقيعة في سيد رحمه الله ،
وإني أكره لي ولكم ولكل مسلم مواطن الإثم والجناح ، وإن من
الغبن الفاحش إهداء الإنسان حسناته إلى من يعتقد بغضه وعداوته .
2 - نظرت فوجدت هذا الكتاب يـفـتـقـد :
أصـول البحث العلمي ،
الحيـدة العلمية ،
منهـج النقد ،
أمانـة النقل والعلم ،
عـدم هضم الحق.
أما أدب الحوار وسمو الأسلوب ورصانة العرض فلا تمت إلى الكتاب
بهاجس . . وإليك الدليل …
أولاً: رأيت الاعتماد في النقل من كتب سيد رحمه الله تعالى
من طبعات سابقة مثل الظلال والعدالة الاجتماعية مع علمكم كما في حاشية ص 29 وغيرها
، أن لها طبعات معدلة لاحقة ،
والواجب حسب أصول النقد والأمانة العلمية ، تسليط النقد إن
كان على النص من الطبعة الأخيرة لكل كتاب ، لأن ما فيها من تعديل ينسخ ما في سابقتها
وهذا غير خاف إن شاء الله تعالى على معلوماتكم الأولية ،
لكن لعلها غلطة طالب حضر لكم المعلومات ولما يعرف هذا ؟ ؟
،
وغير خاف لما لهذا من نظائر لدى أهل العلم ، فمثلاً كتاب
الروح لابن القيم لما رأى بعضهم فيما رأى قال : لعله في أول حياته وهكذا في مواطن لغيره
، وكتاب العدالة الاجتماعية هو أول ما ألفه في الإسلاميات والله المستعان .
ثانيًا : لقد اقشعر جلدي حينما قرأت في فهرس هذا الكتاب قولكم
( سيد قطب يجوز لغير الله أن يشرع ) ، فهرعت إليها قبل كل شيء فرأيت الكلام بمجموعه
نقلاً واحدًا لسطور عديدة من كتابه العدالة الاجتماعية ) وكلامه لا يفيد هذا العنوان
الاستفزازي ،
ولنفرض أن فيه عبارة موهمة أو مطلقة ، فكيف نحولها إلى مؤاخذة
مكفرة ، تنسف ما بنى عليه سيد رحمه الله حياته ووظف له قلمه من الدعوة إلى توحيد الله
تعالى (في الحكم والتشريع ) ورفض سن القوانين الوضعية والوقوف في وجوه الفعلة لذلك
،
إن الله يحب العدل والإنصاف في كل شيء ولا أراك إن شاء الله
تعالى إلا في أوبة إلى العدل والإنصاف .
ثالثًا : ومن العناوين الاستـفـزازيـــة قولكم ( قول سيد
قطب بوحدة الوجود ) .
إن سيدًا رحمه الله قال كلامًا متشابهًا حلق فيه بالأسلوب
في تفسير سورتي الحديد والإخلاص وقد اعتمد عليه بنسبة القول بوحدة الوجود إليه ، وأحسنتم
حينما نقلتم قوله في تفسير سورة البقرة من رده الواضح الصريح لفكرة وحدة الوجود ،
ومنه قوله : ((
ومن هنا تنتفي من التفكير الإسلامي الصحيح فكرة وحدة الوجود))
وأزيدكم أن في كتابه ( مقومات التصور الإسلامي ) ردًا شافيًا على القائلين بوحدة الوجود
،
لهذا فنحن نقول غفر الله لسيد كلامه المتشابه ([574]) الذي جنح فيه بأسلوب وسع
فيه العبارة . . والمتشابه لا يقاوم النص الصريح القاطع من كلامه ،
لهذا أرجو المبادرة إلى شطب هذا التكفير الضمني لسيد رحمه
الله تعالى وإني مشفق عليكم .
رابعًا : وهنا أقول لجنابكم الكريم بكل وضوح إنك تحت هذه
العناوين (مخالفته في تفسير لا إله إلا الله للعلماء وأهل اللغة وعدم وضوح الربوبية
والألوهية عند سيد ) .
أقول أيها المحب الحبيب ، لقد نسفت بلا تثبت جميع ما قرره
سيد رحمه الله تعالى من معالم التوحيد ومقتضياته ، ولوازمه التي تحتل السمة البارزة
في حياته الطويلة فجميع ما ذكرته يلغيه كلمة واحدة ،
وهي أن توحيد الله في الحكم والتشريع من مقتضيات كلمة التوحيد
، وسيد رحمه الله تعالى ركز على هذا كثيرًا لما رأى من هذه الجرأة الفاجرة على إلغاء
تحكيم شرع الله من القضاء وغيره وحلال القوانين الوضعية بدلاً عنها
ولا شك أن هذه جرأة عظيمة ما عاهدتها الأمة الإسلامية في
مشوارها الطويل قبل عام (1342هـ ).
خامسًا : ومن عناوين الفهرس ( قول سيد بخلق القرآن وأن كلام
الله عبارة عن الإرادة ) . .
لما رجعت إلى الصفحات المذكورة لم أجد حرفًا واحدًا يصرح
فيه سيد رحمه الله تعالى بهذا اللفظ ( القرآن مخلوق ) كيف يكون هذا الاستسهال للرمي
بهذه المكفرات ،
إن نهاية ما رأيت له تمدد في الأسلوب كقوله ( ولكنهم لا يملكون
أن يؤلفوا منها ـ أي الحروف المقطعة ـ مثل هذا الكتاب لأنه من صنع الله لا من صنع الناس)
. . وهي عبارة لا شك في خطأها ([575]) ولكن هل نحكم من خلالها أن
سيدًا يقول بهذه المقولة الكفرية ( خلق القرآن ) اللهم إني لا أستطيع تحمل عهدة ذلك
. .
لقد ذكرني هذا بقول نحوه للشيخ محمد عبد الخالق عظيمة رحمه
الله في مقدمة كتابه دراسات في أسلوب القرآن الكريم والذي طبعته مشكورة جامعة الإمام
محمد بن سعود الإسلامية ، فهل نرمي الجميع بالقول بخلق القرآن اللهم لا ، واكتفي بهذا
من الناحية الموضوعية وهي المهمة .
ومن جهات أخرى أبدي ما يلي :
1 - مسودة هذا الكتاب تقع في 161 صفحة بقلم اليد ، وهي خطوط
مختلفة ، ولا أعرف منه صفحة واحدة بقلمكم حسب المعتاد ، إلا أن يكون اختلف خطكم ، أو
اختلط علي ،
أم أنه عُهد بكتب سيد قطب رحمه الله لعدد من الطلاب فاستخرج
كل طالب ما بدا له تحت إشرافكم ، أو بإملائكم .
لهذا فلا أتحقق من نسبته إليكم إلا ما كتبته على طرته أنه
من تأليفكم ، وهذا عندي كاف في التوثيق بالنسبة لشخصكم الكريم .
2 - مع اختلاف الخطوط إلا أن الكتاب من أوله إلى أخره يجري
على وتيرة واحدة وهي : أنه بنفس متوترة وتهيج مستمر ، ووثبة تضغط على النص حتى يتولد
منه الأخطاء الكبار ، وتجعل محل الاحتمال ومشتبه الكلام محل قطع لا يقبل الجدال … وهذا
نكث لمنهج النقد : الحيدة العلمية .
3 - من حيث الصيغة إذا قارنا بينه وبين أسلوب سيد رحمه الله
، فهو في نزول ، سيد قد سَمَا ،
وإن اعتبرناه من جانبكم الكريم فهو أسلوب " إعدادي "
لا يناسب إبرازه من طالب علم حاز على العالمية العالية ،
لا بد من تكافؤ القدرات في الذوق الأدبي ، والقدرة على البلاغة
والبيان ، وحسن العرض ، وإلا فليكسر القلم .
4 - لقد طغى أسلوب التهيج والفزع على المنهج العلمي النقدي
… . ولهذا افتقد الرد أدب الحوار .
5 - في الكتاب من أوله إلى آخره تهجم وضيق عطن وتشنج في العبارات
فلماذا هذا … ؟
6 - هذا الكتاب ينشط الحزبية الجديدة التي أنشئت في نفوس
الشبيبة جنوح الفكر بالتحريم تارة ،
والنقض تارة وأن هذا بدعة وذاك مبتدع ، وهذا ضلال وذاك ضال
. . ولا بينة كافية للإثبات ،
وولدت غرور التدين والاستعلاء حتى كأنما الواحد عند فعلته
هذه يلقي حملاً عن ظهره قد استراح من عناء حمله ، وأنه يأخذ بحجز الأمة عن الهاوية
، وأنه في اعتبار الآخرين قد حلق في الورع والغيرة على حرمات الشرع المطهر ،
وهذا من غير تحقيق هو في الحقيقة هدم ، وإن اعتبر بناء عالي
الشرفات ، فهو إلى التساقط ، ثم التبرد في أدراج الرياح العاتية .
هذه سمات ست تمتع بها هذا الكتاب فآل غـيـر مـمـتـع ،
هذا ما بدا إلي حسب رغبتكم ، وأعتذر عن تأخر الجواب ، لأنني
من قبل ليس لي عناية بقراءة كتب هذا الرجل وإن تداولها الناس ،
لكن هول ما ذكرتم دفعني إلى قراءات متعددة في عامة كتبه ،
فوجدت في كتبه خيرًا كثيرًا وإيمانًا مشرفًا وحقًا أبلج ، وتشريحًا فاضحًا لمخططات
العداء للإسلام ([576]) ،
على عثرات في سياقاته واسترسال بعبرات ليته لم يفه بها ([577]) ، وكثير منها ينقضها قوله
الحق في مكان أخر والكمال عزيز ،
والرجل كان أديبًا نقادة ، ثم اتجه إلى خدمة الإسلام من خلال
القرآن العظيم والسنة المشرفة ، والسيرة النبوية العطرة ، فكان ما كان من مواقف في
قضايا عصره ، وأصر على موقفه في سبيل الله تعالى ، وكشف عن سالفته ،
وطلب منه أن يسطر بقلمه كلمات اعتذار وقال كلمته الإيمانية
المشهورة ، إن أصبعًا أرفعه للشهادة لن أكتب به كلمة تضارها . . . أو كلمة نحو ذلك
،
فالواجب على الجميع … الدعاء له بالمغفرة … والاستفادة من
علمه ، وبيان ما تحققنا خطأه فيه ، وأن خطأه لا يوجب حرماننا من علمه ولا هجر كتبه
. .
اعتبر رعاك الله حاله بحال أسلاف مضوا أمثال أبي إسماعيل
الهروي والجيلاني كيف دافع عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية مع ما لديهما من الطوا م لأن
الأصل في مسلكهما نصرة الإسلام والسنة ،
وانظر منازل السائرين للهروي رحمه الله تعالى ، ترى عجائب
لا يمكن قبولها ومع ذلك فابن القيم رحمه الله يعتذر عنه أشد الاعتذار ولا يجرمه فيها
، وذلك في شرحه مدارج السالكين ،
وقد بسطت في كتاب " تصنيف الناس بين الظن واليقين "
ما تيسر لي من قواعد ضابطة في ذلك .
وفي الختام فأني أنصح فضيلة الأخ في الله بالعدول عن طبع
هذا الكتاب " أضواء إسلامية " وأنه لا يجوز نشره ولا طبعه لما فيه من التحامل
الشديد والتدريب القوي لشباب الأمة على الوقيعة في العلماء ، وتشذيبهم ، والحط من أقدارهم
والانصراف عن فضائلهم . .
واسمح لي بارك الله فيك إن كنت قسوت في العبارة ، فإنه بسبب
ما رأيته من تحاملكم الشديد وشفقتي عليكم ورغبتكم الملحة بمعرفة ما لدي نحوه … جرى
القلم بما تقدم سدد الله خطى الجميع . .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ] .
فبدل أن يرعوي المدخلي ، ويأخذ بنصيحة الشيخ بكر – وهو
طلب منه رأيه بكتابه – جعل الشيخ بكر من أعدائه ، ويعاديه الآن باسم الكتاب والسنة
والسلف الصالح ، والحقيقة هي : أنه لم يوافقه في رأيه ، في الشهيد سيّد قطب رحمه الله !
( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُه
. . . ) ([578])
خاتمة
نقول في ختام كلّ ما مضى :
1 - أنّ الطعونات في الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ،
جميعها – بلا استثناء – شبهات ([579]) ، مبنية على جرفٍ هار ؛
وهي عن قصد وخبث من جهة العلمانيين والحكومات الظالمة المستبدّة ، و عن جهل وغباء
من جهة الأعرابيّ البدويّ وأتباعه .
فالجهتان تتّحدان في محاولة لتشويه سمعة وصورة الشهيد
سيّد قطب رحمه الله ، لكي ينفضّ المسلمون من حوله ، ولا يتأثروا بأقواله وكتاباته
.
فأما العلمانيّون والحكومات الجائرة ، فتفعل ذلك لتضليل
المسلمين ، وإبعادهم عن الإسلام وحقيقته ؛ التي يبيّنها الشهيد سيّد قطب رحمه الله
، في كتاباته ، من أجل أن يتفرّدوا بالرياسة ، وحكم الناس ، وأكل أموال الناس
ظلماً وسحتاً ، في غيابٍ وبُعدٍ تام للمسلمين الأذكياء ؛ الذين يوقظهم الشهيد –
بكتاباته – من غفلتهم وسُباتهم !
وأما الأغبياء فيحاربون الشهيد تعصّباً وتحزّباً ، وإن
كنّا نشكُّ في كبيرهم ، على وجه الترجيح ، بأنّه يفعل ذلك مخابراتياً ، أو خدمة
للمخابرات !
2 – أنا لم أكتب ما كتبته ، طمعاً في أن يرجع البدويّ
وأتباعه ، عن غيّهم ، ويُراجعوا مواقفهم المخزية ، ويتوبوا إلـى الله ، ويخرجوا من
خندق الأعداء ، ويدخلوا في خندق الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، ليصارعوا أعداء الله
ورسوله ، ويقفوا لهم بالمرصاد !
فهذا صعبٌ وعزيزٌ جدّا على نفوسهم – إلّا مَن رحم الله –
فتلك الأوبة ، والرجوع إلى الحق ، يحتاج إلى نفس عظيمة ، مستسلمة لله تعالى حقّاً
، كنفوس سلفنا الصالح .
فهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب t ، يعترف بخطئه على المنبر ، فيقول : أصابت إمرأة ، وأخطأ عمر !
قال شيخ الإسلام
ابن تيمية – رحمه الله – :
[ هذه القصة دليل
على كمال فضل عمر ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له ، وأنه يقبل الحق حتى من
امرأة ، ويتواضع له ، وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة ،
وليس من شرطِ الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمرٍ من الأمور
، فقد قال الهدهد لسليمان { أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقينٍ } [
سورة النمل / 22 ] ،
وقد قال موسى للخضر { هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً
} [ سورة الكهف / 66 ]
،
والفرق بين موسى والخضر أعظم مـن الفرق بيـن عمر وبين أشباهه
من الصحابة ، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريباً من موسى فضلاً عن أن يكون
مثله ،
بل الأنبياء المتِّبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان
وغيرهم أفضل من الخضر . وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل ] ([580]) .
و [ حكى الحافظ ابن حجر في ( تهذيب التهذيب ) ( 7 /7 ) في
ترجمة عبيد الله بن الحسن العنبري ، أحد سادات أهل البصرة ، وفقهائها ، وعلمائها ،
وكان قاضيها ،
قال : قال عبد الرحمن بن مهدي – تلميذه - : كنا في جنازة
فسألته عن مسألة فغلط بها ، فقلت له : أصلحك الله ، القول فيها كذا وكذا ، فأطرق ساعة
ثـم رفع رأسه فقال : « إذًا أرجع وأنا صاغر ، لأن أكون ذنبًا في الحق ، أحب إلي من
أن أكون رأسًا في الباطل » ] ([581]) .
فأمثال هذه النفوس العظيمة ، عزيزة جدّاً ، ومفقودة عند
الأعرابيّ وأتباعة ، ووجودها فيهم كوجود الغراب الأبيض !
إنّما كتبتُ - ما كتبت - للإخوة المسلمين ، الذين لم
تُفسَد فطرتهم ، ولا يعرفون الشهيد سيّد قطب رحمه الله .
فحفاظاً عليهم ، حتى لا تؤثر عليهم شبهات الخصوم ، ولا
يُحرموا من تلك النفحات ، التي تهبُّ عند قراءة كتابات الشهيد سيّد قطب رحمه الله
، كتبتُ ما مضى .
3 – إنّ الذين حُرِّموا من الإستقاء والإرتواء ، من
النبع الذي فجّرته كتابات الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، قد حُرِّموا خيراً كثيراً .
وقد فاتهم فقه كثير ، وفهم سديد عن الإسلام ، وأبعدوا
أنفسهم عن الأجواء الإيمانية والروحانية ، التي يجدها قاريء كتابات الشهيد سيّد
قطب رحمه الله ، وذلك بظلمهم لأنفسهم - تعصّباً وتحزّباً !
والشهيد ما زاد – في كتاباته – على أن أسفر عن وجه
الإسلام المشرق النيّر ، وبيّن حقيقته كما أنزله الله تعالى ، على رسول الله r .
وأخشى أن يصدق – في الأعرابيّ وأتباعه – قول الله تعالى
، حينما قال سبحانه عن المشركين ، في كتابه العزيز : ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ
عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
) ([582])
. ( وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ )
! !
فسيّد قطب رحمه الله تعالى ، قد نال الشهادة التي كان
يتمنّاها إن شاء الله تعالى ، فلا يضرّه إبتعاد حفنة من الأعراب والبدو ، عن النهل
من ذلك النبع الصافي ، الذي فجّره بكتاباته ، طالما الملايين من المثقّفين
والعلماء ينهلون منه !
وهـذا إذا علمنـا أن يـوم القيامـة يأتـي النبـيّ وليـس
معـه أحـد ، كما قال رسول الله r
([583])
[ فهذا النبي لا
ينقصه إخلاص ، ولا ينقصه علم ، ولا ينقصه تأييد من الله -تبارك وتعالى ، ولا ينقصه
معرفة بوسائل الدعوة ، وطرق التأثير في الناس ،
فهذه الأمور ، الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام ، هم أكمل
الناس فيها ، ومع ذلك يأتي ومعه الرهيط ،
ومن هذا نأخذ فائدة مهمة ، وهي :
أن الهداية بيد الله U ، وأن القلوب بيده ، فالأنبياء يأتون إلى أقوامهم فما تفتح تلك القلوب ،
ليس نقصاً في ذلك النبي ، ولا في أسلوبه ، وإنما هؤلاء أعماهم الله U
وأذلهم وأخزاهم ، فحجبهم عن هذا النور ، وعن هذا الهدى .
والأمر الآخر وهو أن الدعاة إلى الله U
هم ورثة الأنبياء ، فينبغي أن يكون لهم في ذلك أسوة برسل الله U
وأنبيائه الذين ذكرهم النبي ﷺ ،
حيث يأتي النبي وليس معه أحد ، أو معه الرهيط ، أو معه الرجل
، أو الرجلان ، فالداعية إلى الله U
يبذل ما عليه ، ويقدم للناس ما استطاع ، ولا يكل ولا يمل ،
ولا يقول : الناس ما استفادوا ، وما استجابوا ، وما آمنوا
، ونحن منذ سنين طويلة ندعوهم إلى الله U وما رأينا أثراً ؛ لأن أجرك على الله U ] ([584]) .
4 – ومَن مِن علمائنا وأئمتنا ، لم يُطعن مِن قِبَل
خصومهم ؟
وأسأل البدويّ : ألم يُكفَّر الحافظ ابن تيمية رحمه الله
، مِن قِبَل بعض علماء عصره ؟ !
ألم يُضْرَب تلميذه : الحافظ ابن القيّم رحمه الله ، بالدرة
وشُهِّر به على حمار ؟
ألا يُكَفِّر بعض العلماءُ الشيخَ محمد بن عبد الوهاب
رحمه الله ؟
ألا يُضلِّلُ بعض العلماءُ ، علماء السعودية عامّة
؟
وأنا – هنا – لا أذكر علماء وأئمة سلفنا الصالح ، الذين
طُعِنوا من قِبَل بعضهم البعض .
فلئِن طَعنَت – جماعة معيّنة معروفة ، تعصّباً وتحزّباً –
في الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، فهذا لا يقلّل من شأنه عند الله تعالى ، بل يثقل
ميزان سيئات الطاعنين يوم القيامة ، ويُحرمون أنفسهم – في هذه الدنيا – من اللحوق
بقافلة الأنبياء ، والدعاة ، وأتباعهم ، الذين صارعوا الباطل ، عبر القرون والعصور
، ولا زالوا !
5 – والطاعنون – من المسلمين – في الشهيد سيّد قطب رحمه
الله تعالى ، يعرفون الحقّ بالرجال ، ولا يعرفون الرجال بالحق !
وذلك لأنهم يعلمون جيّداً ، أن سيّد قطب رحمه الله من
الإخوان المسلمين ، فهُم يحاربون الإخوان من خلال الشهيد سيّد قطب رحمه الله .
وإلّا فلو قارنّا – بدقة – أقوال سيّد قطب رحمه الله ،
مع أقوال أئمتهم ، الذين يعترفون بهم ، ويتّبعونهم كما زعموا ، لرأينا أقوال أولئك
، كأقوال الشهيد سيّد قطب رحمه الله تعالى ، إن لم تكن أشدّ ! .
ولكن لا يُصوَّب – من قِبَلهم – أي سهم من سهام الطعن
والجرح لأولئك !
فعلى سبيل المثال ، وليس الحصر :
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :
[ (القاعدة
الرابعة )
أن مُشْركي زَمانِنا أغلظ شِركاً من الأوّلين ؛ لأن
الأوّلين يُشركون في الرّخاء ويُخلصون في الشِّدَّة ، ومُشركُو زماننا شِركهم دائم
في الرَّخاء والشدة .
والدليلُ قولُهُ تعالى : ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) ] ([585]) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
[ وقد زاد هؤلاء المتأخرون من هذه الأمة على ما وقع من
أهل الجاهلية من هذا الشرك بأمور :
منها أنهم يخلصون عند الاضطرار لغير الله وينسون الله
ومنها : أنهم يعتقدون أن آلهتهم من الأموات يتصرفون في
الكون دون الله .
وجمعوا بين نوعي الشرك في الإلهية والربوبية ، وقد سمعنا
ذلك منهم مشافهة ،
ومن ذلك قول : ابن كمال من أهل عمان وأمثاله : إن عبد
القادر الجيلاني يسمع من دعاه ، ومع سماعه ينفع ، فزعم أنه يعلم الغيب وهو ميت
فلقد ذهب عقل هذا وضل فكفر بما أنزله الله في كتابه كقوله : ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير ) [
فاطر : 14 ]
فما صدقوا الخبير فيما أخبر به عن آلهتهم التي كانوا
يعبدونها من دون الله ، ولا آمنوا بما أنزله الله في كتابه بل بالغوا وعاندوا في
رده وكذبوا وألحدوا وكابروا المعقول والمنقول فالله المستعان ] ([586]) .
وقال الشيخ ابن باز ، أيضاً :
[ في قرة العيون : وقد استحكمت الفتنة بعبادة الأوثان
حتى إنه لا يعرف أحد في هذه القرون المتأخرة أنكر ما وقع من ذلك حتى أقام الله شيخ
الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى الذي أنكره ونهى عنه .
ودعا الناس إلى تركه وإلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك
له في ألوهيته وأسمائه وصفاته ، فرماه الملوك وأتباعهم عن قوس العداوة ، فأظهره
الله بالحجة ، وأعز أنصاره على من ناوأهم .
وبلغت دعوته مشارق الأرض ومغاربها ؛ ولكن من الناس منهم
من عرف ومنهم من أنكر .
وانتفع بدعوته الكثير من أهل نجد والحجاز وعمان وغيرها .
فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة جعلنا الله لها شاكرين .
قال أبو طاهر – غفر الله لهما – وإنما أظهره الله بتوفيق
آل سعود تحت راية التوحيد الذي دعا إليه الشيخ ابن عبد الوهاب .
فكان لحديدهم مع بينات الشيخ هذا الأثر في ظهور كلمة
التوحيد وقيام دولة مرهوبة الجانب لأهل التوحيد تصديقاً لقول الله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) [ الحديد :
25 ]
والله نسأل أن يديم توفيقهم ويوفق ملوك المسلمين لمثل ما
وفقهم له ] ([587])
.
وقال الشيخ صالح الفوزان :
[ الطواغيت الخمسة
. . .
والطواغيت كثيرون ، وكل طاغوت فهو كافر بلا شك . . .
والخامس : من حكم بغير ما أنزل الله – عزَّ وجل - ؛ لأن
الله سبحانه وتعالى يقول : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا
بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا
) [ النساء : 60 ]
،
فالـذي يحكـم بغير ما أنزل الله ، وهو يرى أن حكمه بغير
ما أنزل الله أصلح للناس ، وأنفع للناس ، وأنه مساوٍ لما أنزل الله ، وأنه مخيَّر
بين أن يحكم بما أنزل الله ، أو يحكم بغيره ، أو أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله
جائز ، فهذا يُعتبر طاغوتاً ([588]) وهو كافرٌ بالله عزَّ
وجلَّ ] ([589])
.
وقال الشيخ محمد بن أحمد باشميل رحمه الله :
[ ومن المؤسف المبكي أن عـامة المسلمين مـن الجهـال لا
يعرفون المعنى الحقيقي للعبادة فيتوجهون بها إلى غير الله تعالى ( جهلا ) فيقعون
في الشرك . المخرج من الملة .
وذلك حين يتوجهون في خشية وخضوع إلى المقبورين من
الأنبياء والأولياء والصالحين بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذور ويطوفون بالقبور
والتوابيت ( تعظيما ) كما يطوفون بالكعبة المشرفة . وهذه هي العبادة وإن أسموه
تبركا وتوسلا .
وإذا كان الجهلة من العامة يرتكبون هذا الشرك عن جهل
وعدم إدراك وفهم لمفهوم العبادة . إن هؤلاء قد يكون لهم بعض العذر لجهلهم .
ولكن ما عذر العلماء الكبار الذين يعرفون المعنى الحقيقي
للعبادة . ويعلمون في قرارة أنفسهم أن ما انغمس فيه العامة هو شرك أكبر مخرج من
الملة .
ويصدرون الفتاوى بأن ما يرتكبون من الشرك القولي والفعلي
والاعتقادي هو توسل مطلوب وتعبير عن محبة الأنبياء والصالحين .
ثم انهم لتعميق الشرك في قلوب العامة الذين يتخذونهم
قدوة يأتون الأعمال الشركية في الموالد والحوليات المبتدعة وغيرها .
ألا يتقي الله هؤلاء العلماء الذين يكتمون الحق ويشجعون
على الكفر .
أمن أجل دريهمات بخسة أو جاه زائل يرتكبون هذه الجرائر
في حق أنفسهم وفي حق العامة .
إن هذا النوع من العلماء هم الضالون المضلون .
وبعد أيها القاريء الكريم :
فإنني لما كنت ممن يعلم هذه الحقائق المروعة المتمثلة في
تفشي الشرك الأكبر بشكل مخيف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي . . . ] ([590]) .
وها هو البدوي ربيع المدخلي نفسه ، يقول :
[ فلا بد من تطبيق
شريعة الله ، وإلاّ { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }
والكفر حينئذ على ما فصله علماء الإسلام من الصحابة وغيرهم
قد يكون كفراً أكبر إذا كان يحتقر شرع الله ويستحل الحكم بغيره
وقد يكون كفراً أصغر إذا كان يعظم شريعة الله ولا يستحل الحكم
بغيرها لكن غلبه هواه فحكم بغير ما أنزل الله ] ([591]) .
إذن تبيّن وظهر واضحاً ، أن تلك الطعونات والسباب
والشتائم ، الموجّهة إلى الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، ليس المراد منه بيان الحق
والدفاع عنه ، بل هي مجرّد تعصّب وتحزّب ، ملفوف بلباس الإسلام والنصيحة لله
ولكتابه ولعامة المسلمين ! !
( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ
الْأَبْصَار ) ([592]) . ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون
) ([593])
.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العامين .
وصلّى الله على سيّدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
الفهرست
الموضوع
الصفحة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة ..................................................................... 1
تمهيد
مَن
عادى لي ولياً .......................................................... 3
فلنكن
صرحاء ..........................................................
4
الدعوة
والتعامل
........................................................... 6
وضع
النقاط على الحروف ................................................ 8
إختلاط
الحابل بالنابل
.................................................. 10
حديث
افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ................................ 11
التقييم
والتعامل
............................................................. 15
مثال
للتقييم وعدم بناء التعامل عليه
......................................... 15
التقييم
والتعامل مع اليهود والنصارى
.....................................
17
فَهْمٌ
سديد في القمة !
......................................................... 20
الفصل
الأول
سيد
قطب وتكفير الناس .................................................... 25
المجتمع
الإسلامي والشعب المسلم ......................................... 25
شريعة
الله حاكمة ليس بالحدود وحدها ................................. 27
تعريف
الشريعة
............................................................. 28
الفرق
بين الشريعة والفقه .................................................. 28
كصرح
من عدة طوابق
.................................................. 29
أصل
الأخطاء والشبهات
................................................... 31
البشرية
ارتدت وعادت إلى الجاهلية .......................................... 32
الجاهلية ................................................................... 33
تبرّج
الجاهلية الأولى
.......................................................... 34
إنّك
امرؤٌ فيك جاهلية ........................................................ 36
خلال
من خلال الجاهلية
....................................................... 38
الجاهلية
لا تعني تكفير الناس
............................................. 40
وقتاله
كفر .................................................................. 41
لا
ترجعوا بعدي كفارا
......................................................... 43
هما
بهم كفر
.................................................................. 44
فمن
تركها فقد كفر
.............................................................. 46
هل
تارك الصلاة هو خارج الملة ، لوصفه بـ ( كفر ) ؟
...................... 47
يدرس
الإسلام
................................................................ 48
لا
يؤمن
..................................................................... 51
إطلاق
الكفر على فعلٍ ليس معناه تكفير صاحبه
.............................. 53
سيد
قطب لا يُكَفِّر
........................................................... 56
الشيخ
محمد بن عبد الوهاب ومسائل الجاهلية
.............................. 57
دعاء
الأولياء والصالحين
.................................................. 57
إقتداؤهم
بفسقة العلماء وجهال العباد
.....................................
59
إعتياض
اليهود عن التوراة بكتب السحر
....................................
60
نسبتهم
الباطل إلى الأنبياء
................................................. 61
إتخاذهم
الدين لهواً ولعباً
.................................................... 61
تأليف
الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله
.....................................
62
الأخذ
بالإفتراق وترك الإجتماع
......................................... 63
تعريف
التوحيد
.............................................................. 65
حصحص
الحق
.............................................................. 66
تقييم
...................................................................... 66
شهادة
الأقربين
.............................................................. 69
المحكم
من كلامه هو
.................................................... 69
الفصل
الثاني
سيد
قطب ووحدة الوجود
............................................... 71
قمة
التوحيد
......................................................... 72
رؤية
الله في الأشياء
...................................................... 76
ليس
هناك وجود حقيقي إلا وجوده
......................................
78
الخلاصة
............................................................... 82
فهم
الشيخ الألباني لتلك الكلمات الرائعة
...............................
84
ردّ
الشيخ عبد الله عزام
................................................ 84
الفصل
الثالث
سيد
قطب ليس بعالم بل هو أديب
.......................................
94
العلاقة
بين الأدب واللغة ........................................... 97
أهمية
معرفة اللغة العربية في فهم الإسلام
.................................
98
علاقة
علوم العربية بعلم أصول الفقه
..................................
99
اللغة
العربية وفهم الإسلام
............................................... 100
من
الشروط الواجب توفرها في المجتهد
................................. 103
طرفة
................................................................. 105
جدّ
واجتهاد الشهيد سيد قطب
.......................................... 106
سيد
قطب يتفرغ لما يكتب
........................................
109
طريقة
سيد قطب في تفسير القرآن
........................................
110
ينتهي
من التفسير بعد المراحل الأربعة
................................
112
تأثر
كيانه كله بالقرآن
........................................... 113
مقارنة
.................................................................. 117
شيء
عن التفسير
........................................................ 129
دور
التفاسير
......................................................... 130
المفسرون
وتغيير الظروف
............................................. 131
سيد
قطب والتفسير
............................................... 132
الوحدة
الموضوعية في السورة القرآنية
...............................
134
خلاصة
الكلام .................................................... 135
مجمل
القول
.................................................... 142
الفصل
الرابع
سيد
قطب يطعن في الصحابة
....................................... 149
حقيقة
المسألة
......................................................... 153
العدالة
الإجتماعية في الإسلام
...................................
155
عتاب
شديد لمؤرخينا
............................................ 159
تعليقات
...................................................... 180
مَن
حفر حفرة لأخيه وقع هو فيها
....................................
184
سخرية
سيد قطب بمقام النبوّة وبموسى ( عليهم السلام )
............... 192
تنبيه
سيد قطب والإخوان لمؤامرات الأعداء
............................ 195
أذيال
موسكو يتآمرون
................................................ 199
يدٌ
واحدة على الإسلام
.............................................. 202
نماذج
من التعذيب .................................................. 203
قضية
مخابراتية !
.................................................. 211
مقام
الأنبياء وسيد قطب
............................................. 212
نبيّ
الله موسى عليه السلام ، وسيد قطب
........................... 217
بين
العمالة والجهالة
............................................... 225
حقيقة
السخرية بنبيّ الله موسى عليه السلام !
....................... 237
الموسيقى ..................................................... 243
طاح
موسى
..................................................... 250
الفصل
الخامس
سيد
قطب وخلق القرآن !
.......................................... 251
محنة
خلق القرآن
............................................. 251
فضح
البدوي لنفسه !
............................................ 253
ملاحظات
.............................................. 254
صفات
الله ...................................................... 262
ملخص
الكلام
........................................................ 264
فالقرآن
ظاهرة كونية
............................................. 265
الفصل
السادس
الألوهية
والربوبية
............................................. 267
مناقشة
هذا التقسيم
............................................... 267
بعض
الإشكالات
................................................. 268
الألوهية
والربوبية عند سيد قطب
....................................
274
الفرق
بين اجتهاد ابن تيمية وسيد قطب
...............................
279
الرب
والإله لغة
............................................... 280
بين
ابن تيمية وسيد قطب
............................................. 284
الفصل
السابع
الحاكمية
.............................................................. 286
معنى
الحاكمية
...................................................... 292
الفصل
الثامن
رسالة
الشيخ بكر أبو زيد للمدخلي
...................................
297
خاتمة
.................................................................. 302
الفهرست
........................................................ 307
( [1] ) كان أبو ذؤيب الهُذليّ أحد الشعراء المُخضرَمين ، الذين
عاشوا في الجاهليّة ، وأدركوا الإسلام . أسلم هذا الشاعر وحسُن إسلامُه ، وجاهدَ
في سبيل الله وشارك في الغزوة التي فُتحِت من خلالها أفريقيا ، في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفّان ، رضي
الله عنه .
( [8] ) وهذا غير الخشونة والقسوة والشدّة ؛ إشفاء
لغليل النفس . وإنّما – في بعض المرّات – تستخدم الشدّة المخلصة ؛ لهز الشارد
وإيقاظه من غفلته !
([36]) كيف يوفّق – خصوم سيّد قطب – بين هذه المودّة
بين الرجل المسلم وامرأته النصرانية أو اليهودية ، وبين وجوب كره وبغض اليههود
والنصارى ، وعدم التعامل معهم ، ولا تهنئتهم بأعيادهم ، ولا السلام عليهم ، كما
يفهمون هم ويرون ؟ !
([38]) فالفتوى تتغيّر بتغيّر الزمان ، والمكان ،
والأشخاص ، والعرف والعوائد ، كما قرّر ذلك تلميذه إبن القيّم في كتابه ( إعلام
الموقعين عن رب العالمين ) ، رحمهما الله .
([41]) رواه أحمد ( 6496 ) وقال
مخرجوه : إسناده صحيح على شرط مسلم ، وأبو داود في الأدب ( 5152 ) ، والترمذي في
البر والصلة ( 1943 ) وقال : حسن غريب . وقد روي هذا الحديث الوصية بالجار من طرق
كثيرة ، وعن عدد من الصحابة ، وفي الشيخين وغيرهما .
([44]) إسحاق
بن عبد الله السعدي (2013)، دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه
(الطبعة الأولى)، قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، صفحة 304، جزء 1.
بتصرّف
([48]) ربّما اقتصر فهم خصوم الشهيد ، عن السنة بأنها : صلوات
غير مفروضة ، وصيام تطوّع ، واستخدام السواك ، والدخول إلى المساجد بالرِجل اليمنى
، وما شابه ذلك ! ونحن مع تعظيمنا لهذه الأمور ، إلّا أنّنا فهمنا من السنة ،
إضافة إلى هذه التعاريف الفقهية : أنها منهج رسول الله r
في الحياة ، وكيفية تطبيقه لشرع الله في الدنيا !
([53]) كلمة ( الجاهلية ) – إذن
– إستخدامها هو إستخدام شرعي ، جاء ذكرها في القرآن الكريم ؛ وصفاً لبعض الأعمال
المنكرة !
([58]) وهذا هو رسول الله r
، يستخدم كلمة ( الجاهلية ) ؛ وصفاً لبعض الأعمال والتصرفات المنكرة ، اقتداءً
بالقرآن الكريم . فليحذر الذين ينتقدون استخدام هذه الكلمة ؛ وهم يريدون الطعن في
الشهيد سيّد قطب .
([65]) وللطرفة : ذكروا أنّ أحد
الدعاة في بلد من البلدان الغربية كان يلقي محاضرة ، وهو لابس بانطلون وجاكيت وربطة
عنق ، فسأله أحد من هؤلاء – وهو يريد إحراج الداعية – وقال : ما كان زيّ النبيّ ،
الذي كان r يلبسه ؟ فقال الداعية : كان كملابس أبي جهل .
([72]) منحة الباري
بشرح صحيح البخاري المسمى «تحفة الباري» -
زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، زين الدين أبو يحيى السنيكي المصري
الشافعي ( 1 / 221 ) .
([73]) فيض الباري
على صحيح البخاري : ( أمالي ) محمد أنور شاه بن معظم شاه
الكشميري الهندي ثم الديوبندي ( 1 / 222 ) .
([78]) منحة الباري بشرح صحيح البخاري المسمى « تحفة
الباري » : زكريا بن
محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري ، زين الدين أبو يحيى السنيكي المصري الشافعي ( 1 / 365 ) .
([81]) وهـا هـو القاضي عياض أيضاً – كغيره من الأئمة والعلماء
، الذين ما أشرت إليهم – يستخدم كلمة الجاهلية !
([87]) الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم ( المسمَّى :الكوكب الوهَّاج والرَّوض
البَهَّاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ) - جمع وتأليف: محمد الأمين بن عبد الله
الأُرَمي العَلَوي الهَرَري الشافعي ( 2 / 534 ) .
([88]) ورواه الإمام
أحمد في مسنده ، والنسائي في سننه الكبرى
، وابن حبان في صحيحه ، والبيهقي في السنن الكبرى ، والحاكم في المستدرك ،
وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ لَا تُعْرَفُ لَهُ عِلَّةٌ بِوَجْهٍ
مِنَ الْوُجُوهِ . . . وَلِهَذَا الْحَدِيثِ
شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا» ووافقه الذهبي وقال : صحيح ولا تعرف له علة .
وقال الشيخ الألباني : صحيح ، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده جيد . وفي مكان
آخر : إسناده قوي
([89]) ورواه الإمام
أحمد في مسنده ، والنسائي في سننه ، والبيهقي في السنن الكبرى ، والجامع الصحيح
للسنن والمسانيد . وقال الشيخ الألباني ، رحمه الله : صحيح .
([104]) الملكة صفة في النفس ، تطلق على مقابلة العدم . وهي تعين
الشخص على سرعة البديهة في فهم الموضوع وإعطاء الحكم الخاص به ، والتمييز بين
المتشابهات بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر وغير
ذلك .
([110]) عندما أطلق على أمثال هؤلاء كلمة : ( الشيخ ) ، فأقصد به
من ناحية العمر ، وليس بمعنى لقب ديني ، وليس بمعنى أنهم علماء ، لأنهم ليسوا
بعلماء ، بل هم حفاظ نصوص ، فليعلم ذلك .
([142]) لا يستغربن أحد في إطلاقي كلمة ( الشهيد ) على الأستاذ
الكبير سيّد قطب ، رحمه الله. وإذا دقّقنا
قليلاً رأينا : أنّ هذا الإستغراب قد يكون من وحي خصوم الشهيد الأميين ! فهو ليس
فقط شهيد ، بل – إن شاء الله تعالى – سيّد الشهداء !
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم -: " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ,
وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ , فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ , فَقَتَلَهُ "
[ قال الشيخ الألباني بعد مناقشته لطرق الحديث :
اطمأن القلب لثبوت الحديث، فاقتضى ذلك إيراده في
هذه السلسلة، والحمد لله على توفيقه وفضله ( سلسلة
الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها ( 1 / 718 ) ] .
([144]) بل لعل الشيخ الألباني في وقته كان هو أيضاً يعيش في
المملكة العربية السعودية ، ولعلهم التقوا مراراً . والله أعلم .
([160]) هكذا يكون موقف العلماء الربّانييّن ، من أخطأ العلماء ،
وكيفية تفسير أقوالهم الخاظئة بأحسن تفسير ، لا مثل موقف مَن يطعن ويفتري على
الدعاة والمفكرين والشهداء ؛ بما هم منه براء !
([163]) كلام سيّد قطب – الذي يقول عنه إنه كفر – هو قمّة
التوحيد والإيمان !
واتهام
كلام سيّد – في التوحيد والإيمان – بالكفر ، لا يُعتبر تكفيراً . ولكن سيّد قطب
إذا وصف الأنظمة والمجتمعات التي مرجعيتها في المباديء ، والقيم ، والموازين ، غير
الكتاب والسنة ، إذا وصفها وصفاً شرعياً ، فقال : هي جاهلية . قالوا : هذا تكفيرٌ
للمسلمين !
([164]) وكيف يتركونهـا وهم يبحثون – تحت الأرض – عن – عسى – زلة
، سقطة ، خطأ ، من الشهيد سيّد قطب ، رحمه الله ! فيطيروا بها ، ولكن لا ننسى أن
هذا البحث هو من أجل الله تعالى ، ولوجه الله خالصاً مخلصاً !
([168]) وهل سيّد قطب وحده ، هو غير منزّه ؟ والشيخ الألباني
والفوزان وأمثالهما ، منزّهون عن الخطأ ؟ !
([189]) انظر : ضوابط في فهم النص ؛ د . عبدالكريم حامدي : 118 ،
وفيه نقل عن كتاب : الموافقات في أصول الشريعة ؛ للإمام الشاطبي .
([198]) الرسالة . السنة الثانية عشرة . المجلد الثاني .
عدد : 597 . تاريخ 11 / 12 / 1944 . صفحة : 1088
([201]) قَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى
الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً ، إِذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا
يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ .
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله : [ وَهَذَا
لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْجَاهِلِيَّةَ وَالشِّرْكَ ، وَمَا عَابَهُ
الْقُرْآنُ وَذَمَّهُ وَقَعَ فِيهِ وَأَقَرَّهُ ، وَدَعَا إِلَيْهِ وَصَوَّبَهُ
وَحَسَّنَهُ ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ
الْجَاهِلِيَّةِ ، أَوْ نَظِيرُهُ ، أَوْ شَرٌّ
مِنْهُ ، أَوْ دُونَهُ ، فَيَنْقُضُ بِذَلِكَ عُرَى الْإِسْلَامِ عَنْ قَلْبِهِ ،
وَيَعُودُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا ، وَالْبِدْعَةُ
سُنَّةً، وَالسُّنَّةُ بِدْعَةً ، وَيَكْفُرُ الرَّجُلُ بِمَحْضِ الْإِيمَانِ
وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ ، وَيُبَدَّعُ بِتَجْرِيدِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُفَارَقَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ ،
وَمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ وَقَلْبٌ حَيٌّ يَرَى ذَلِكَ عِيَانًا ، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ ] مدارج السالكين ( 1 / 351 – 352 ) .
وعن حذيفة
: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر
مخافة أن يدركني . . . الحديث . متفق عليه .
([203]) العقود
الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية : شمس الدين
محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن يوسف الدمشقي الحنبلي (المتوفى: 744هـ) . ص 21 – 22 .
([206]) من البديهيات أنه كان رحمه الله تعالى ، قد اطلع على
التفاسير ، قبل كلامه النهائي ونشره لتفسيره .
([210]) أنظر فصل (( القيم الشعورية والقيم التعبيرية في العمل
الأدبي )) في كتاب النقد أصوله
ومناهجه .
([219]) قسمهما الدكتور عدنان زرزور إلى مرحلتين .
وتابعناه على تقسيمه عند الحديث عن (( مصادر الظلال )) في كتابنا (( مدخل إلى ظلال القرآن )) فهما من جهة المصادر مرحلتان : كتابته أولاً ، ثم توثيقه ثانياً .
أما من جهة الطريقة في التفسير ، فإنهما تتفرعان إلى أربع مراحل : وقوفه بين يدي
القرآن . ثم حياته في ظلال الآيات . ثم صياغة خواطره وأفكاره . ثم التوثيق العلمي
لها .
([223]) مقالة الدكتور عدنان زرزور (( مدخل إلى ظلال القرآن )) في مجلة حضارة الإسلام
. السنة العشرون ، العدد الأول ربيع الأول 1399 – شباط 1979 صفحة : 34 .
([250]) من شريط " اللقاء
المفتوح الثاني بين الشيخين العثيمين والمدخلي بجده " ، ثم وَقَّعَ عليها
الشيخ محمد بتاريخ 24/2/1421
([260]) عون المعبود شرح سنن أبي داود،
ومعه حاشية ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته – العظيم الآبادي
( 13 / 215 ) .
([275]) الكوكب الوهَّاج والرَّوض
البَهَّاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ) : محمد الأمين بن عبد الله الأُرَمي
العَلَوي الهَرَري الشافعي ( 24 / 354 ) .
([287]) العدالة الإجتماعية في
الإسلام . ص 113 . وهذا هو الكتاب ، الذي جعله بعض الموتورين ، تكأة في الطعن في
سيّد قطب رحمه الله ، واتهامه بالطعن في الصحابة !
([292]) حسّن الإمام الترمذي هذا الحديث ، ولم يمنحه درجة ( صحيح
) ، ولكنّ الشيخ الألباني لم يتوقف عند هذا الحد ، بل قد صحّحه ، فقال : صحيح !
([294]) مطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم –
للموتور : ربيع بن هادي عمير المدخلي . ص 20 .
([303]) كتاب : مقتل الحسين ( ع ) – المؤلف : أبو مخنف الأزدي –
تحقيق : تعليق : حسين الغفاري . ترجمة المؤلف 1 – 3 .
([316]) تاريخ دمشق : أبو القاسم
علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر ( 39 / 415 – 418 ) .
و تاريخ الخلفاء للسيوطي . ص 124 –
125 ، فقد نقل نفس الكلام عن ابن عساكر بالضبط !
([317]) تاريخ المدينة لابن
شبة : عمر بن شبة ( واسمه زيد ) بن عبيدة بن ريطة النميري البصري ، أبو زيد ( 4 / 1173 – 1174 ) .
([319]) اللخن : النتن ،
يقال : سقاء لخن وأمَةٌ لخناء أي منتنة . . . ويقال في السَّبِّ : يابنَ اللَّخناء
.( المعجم الوسيط ) و ( شمس العلوم ) .
([321]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب : أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد
البر بن عاصم النمري القرطبي (2 / 693 ) .
([322]) الكامل في التاريخ : أبو الحسن
علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري ، عز
الدين ابن الأثير ( 2 / 569 – 570 ) .
([323]) لسان العرب : محمد بن مكرم بن على ، أبو الفضل ، جمال الدين ابن
منظورالأنصاري الرويفعى الإفريقى ( 11 / 670 ) .
([324]) تاج العروس من جواهر القاموس : محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو
الفيض ، الملقّب بمرتضى ، الزَّبيدي ( 31 / 14 ) .
([325]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك ، وصلة تاريخ الطبري : محمد بن جرير بن
يزيد بن كثير بن غالب الآملي ، أبو جعفر الطبري ( 4 / 458 – 459 ) .
([326]) السيرة الحلبية = إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون : علي بن إبراهيم بن
أحمد الحلبي، أبو الفرج ، نور الدين ابن برهان الدين ( 3 / 402 – 403 ) .
([336]) تاريخ دمشق : أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة
الله المعروف بابن عساكر ( 26 / 116 ) .و تاريخ الخلفاء
للسيوطي . ص 152 .
([337]) الطبقات الكبرى : أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء،
البصري، البغدادي المعروف بابن سعد ( 3 /
49 – 50 ) .
([344]) ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن
الأكبر : عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي
الإشبيلي . ص 256 – 257 .
([353]) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل : أبو القاسم
محمود بن عمرو بن أحمد ، الزمخشري جار الله ( 3 / 218 ) .
([358]) الكشف الجلي عن ظلمات
ربيع المدخلي – أبو بلال عبد القادر منير المزدغي العزَّابي ص 111 – 114 .
([359]) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع
المثاني : شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى : 1270هـ) ( 13
/ 227 – 229 ) .
([360]) علم الله تعالى ، أنّنا لا نقول ذلك طعناً وشتماً وسبّاً
، بل نقول ذلك من باب تقرير الوضع ، ووصفهم بالوصف الملائم ، بعد حسن الظن بهم !
([374]) الخطر اليهودي –
بروتوكولات حكماء صهيون – محمد خليفة التونسي – البروتوكول السابع عشر . ص : 187 .
([407]) حرامات يُطلق على هكذا
أشخاص لقب : الدكتور . أو العلامة . أو .
. . إلخ . والله أعلم كيف مُنٍح هذا اللقب ، وممن ؟ !
([412]) " نفسه
" . إن القرآن الكريم هو الذي ألصق بنبيّ الله موسى عليه السلام ، تلك الصفات
، فسيّد قطب رحمه الله ، يفسر تلك الكلمات فقط ! فأنت – يا مسكين – تنتقد القرآن
! مدّعياً الدفاع عن نبيّ الله موسى عليه
السلام ، وأنت كاذب !
([426]) هل أنت بحاجة إلى معرفة مسميات هذه الألقاب ؟ الحرف المتحرك يتلوه حرف ساكن
يقال لهما : "سبب خفيف " . والحرفان المتحركان يتلوهما ساكن " وتد
مجموع " والحرفان المتحركان لا يتلوهما ساكن " سبب ثقيل " والحرفان
المتحركان يتوسطهما ساكن " وتد مفروق " وثلاثة أحرف متحركة يعقبها ساكن
" فاصل صغير " وأربعة أحرف متحركة يعقبها ساكن " فاصل كبير ".
( الدراز ) .
([427]) من وقف على صفات الحروف ومخارجها ازداد بهذا المعنى علمًا . وإن شئت فارجع
إلى ما كتبه الأديب الرافعي عن هذه الناحية في كتابه الموسوم " إعجاز القرآن
" فقد أطال نفسه فيها وأجاد . ( الدراز ) .
([438]) أنظر : العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم ومناهج
المتكلمين - الدكتور محمد عياش الكبيسي .
ص 17 – 18 .
([441]) أنظر في
ذلك الكتاب القيّم : السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي – الدكتور مصطفى السباعي
. ص 39 وغيرها .
([447]) أنا
أنقل كلام وانتقادات هذا الاعرابي هنا ، حتى ينفضح أكثر وأكثر ، وليتعرف المسلمون
على فهمه ، وحقده ، وتحريفه للكلام عن مواضعه !
([450]) أنظر : أضواء
إسلامية على عقيدة سيد قطب وفكره – ربيع المدخلي . ص 143 – 148 . وكان الأحرى أن
يسمى : ظلمات بدوية غبية . . .
([504]) الاعراف
: 127 . وهذه قراءة حفص (( آلهتك )) بمعنى آلهة فرعون ، التي كان يعبدها كذلك . والتي يجعل لها أمر الخلق
والتدبير للكون . وهي التي رجحها ابن جرير في تفسيره . وهناك قراءة اخرى و (( إلاهتك )) بمعنى عبادتك . وهي مروية عن ابن عباس – رضي
الله عنهما – حيث قال : كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد . والصحيح أنه كان يُعْبَد
ويَعْبُد آلهة أخرى . انظر تفصيل ذلك في تفسير الطبري 13 : 36 – 41 .
([523]) مختار الصحاح : زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر
الحنفي الرازي (المتوفى : 666هـ ) . ص 20 – 21
.
([524]) المعجم الوسيط : مجمع اللغة العربية بالقاهرة
( إبراهيم مصطفى / أحمد الزيات / حامد عبد القادر / محمد النجار ) ( 1 / 25
) .
([525]) لسان العرب : محمد بن مكرم بن على ، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور
الأنصاري الرويفعى الإفريقى ( المتوفى : 711هـ ) ( 13 / 468 ) .
([528]) معجم
مقاييس اللغة : أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي ، أبو الحسين ( المتوفى :
395هـ ) ( 2 / 381 – 382 ) .
([529]) الدر
المنثور : عبد
الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) ( 8 / 410 ) . و تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم : أبو
محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي ، الحنظلي ، الرازي ابن أبي
حاتم ( المتوفى: 327هـ ) ( 10 / 3398 ) .
([530]) الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي
بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي ( المتوفى: 671هـ ) ( 19 / 202 ) . و التَّفْسِيرُ البَسِيْط : أبو الحسن علي
بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري ، الشافعي ( المتوفى: 468هـ ) ( 23 /
189 ) .
([531]) تفسير النسفي ( مدارك التنزيل وحقائق التأويل ) : أبو البركات عبد الله بن
أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي ( المتوفى: 710هـ ) ( 3 / 598 ) .
([532]) معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي : محيي السنة ، أبو محمد
الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي ( المتوفى : 510هـ ) ( 5 / 207
) .
([533]) جامع
البيان في تأويل القرآن : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي ، أبو جعفر
الطبري (المتوفى: 310هـ ) ( 19 / 580 ) .
([535]) ربما هـذا
يكون أحـد الأسبـاب ، في أن مَن يتحدثون باسم ابن تيمية رحمه الله ، لا يحومون حول
ذلك الحمى !
([540]) فمن
ادّعـى أن لـه الحق في أن يشرع ويأمر وينهى ( أي : يحلل ويحرّم ، حسبما يريد ) ،
كمثل الله تعالى ، وأن هذا الحق ليس لله وحده ، فكيف لا يُعتبر هذا العمل شركاً ،
وكفراُ بواحاً ؟ !
([541]) بمبرر :
أن أحكام الله تعالى ، هذه لا تصلح لهذا الزمان ، وهذا يعني : أن الله - تعالى عما
يقولون علواً كبيرا – كان لا يعلم ما يجود به الزمان في المستقبل ، وأن أحكام
البشر أصلح لنا في هذا العصر ! أليس هذا كفر بواح ؟ !
([542]) وهذا
الفهم والتفريق بين الأمرين مهم ! فكثير من المسلمين – فعلاً – لا يفرّقون بينهما
، ولهذا تراهم يحرّمون الدخول في البرلمانات ، ويحسبون أن البرلماني يشرع ويحلل
ويحرّم من دون الله تعالى !
([543]) وكيف لا
يكونون سواء في ميزان الله ، وهم يعترفون بأن له حق التشريع والتحليل والتحريم ،
من دون الله تعالى ؟ ! وأنه لا فرق بينه وبين الله تعالى في ذلك ؟ !
([544]) وهذا يختلف عن
الذي لا يطبق شرع الله تعالى ، معصية ، أي : يعلم أن هذا الأمر ليس له فيه الحق ،
ولكنه يعصي الله فيه ضعفاً أو شهوة ، أو غير ذلك ، بدون ادّعاء حق ، أو جعل نفسه
شريكاً لله تعالى !
([547]) فكيف لا تأمر
الحكومات وتقوم بقتله وتشويه صورته ، وهو يفتح أعين المسلمين ، ويوقفهم على هذه
الحقائق ، رحمة الله تعالى ، عليه ؟ !
([553]) (( فواتح الرحموت بشرح مُسلّم الثبوت )) ج 1 ص 54 ، ومؤلف (( مُسلّم الثبوت )) محب الله بن عبد الشكور ، والشارح هو عبد العلي محمد بن نظام الدين
الأنصاري ، و (( إرشاد الفحول )) للشوكاني ص 5 .
([570]) وقال
فئة لا يعتد برأيهم أن حكم الله هو ما يصل إليه المجتهد في اجتهاده ، وبناء على
ذلك يجوز أن يكون لمسألة واحدة عدة أحكام في ضوء اختلافات المجتهدين ، هذا مرفوض .
. .