الأربعاء، 26 يوليو 2023

وقفات مع عقيدة الامام النووي رحمه الله .

 

الرجال يعرفون بالحق لا الحق الذي يعرف بالرجال ، ما نحتاج الي كلام الذهبي ولا غيره بل الأحري لكل طالب حق أن يرجع لكلام النووي نفسه ليونه بميزان معتقدأهل السنة والجماعة فالرجل أشعري صوفي جلد شاء من شاء وأبا من أبى وهذا كلامه وذاك معتقده نادى به علي نفسه وما ظلمه أحد وإنما الذين يدافعون عن أهل التجهم والارجاء هم الظالمون
عقيدة النووي
قال: "قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد، ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد، وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال، ونقصانها؛ قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وهذا الذي قاله هؤلاء، وإن كان ظاهراً حسناً؛ فالأظهر والله أعلم: أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر، وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم؛ بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض؛ بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم؛ فليسوا كذلك؛ فهذا مما لا يمكن إنكاره"اهـ (المنهاج 1/148-149)
وقال: "واختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان؛ قوله: أنا مؤمن. فقالت طائفة: لا يقول أنا مؤمن مقتصراً عليه؛ بل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وحكى هذا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا المتكلمين. وذهب آخرون إلى جواز الاطلاق، وأنه لا يقول: إن شاء الله. وهذا هو المختار وقول أهل التحقيق. وذهب الأوزاعي وغيره؛ إلى جواز الأمرين. والكل صحيح باعتبارات مختلفة"اهـ (المنهاج 1/149-150)
وقال: "واعلم أن مذهب أهل الحق: أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع"اهـ (المنهاج 1/150)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد وفق هذا)؛ قال أصحابنا المتكلمون: التوفيق خلق قدرة الطاعة. والخذلان خلق قدرة المعصية"اهـ (المنهاج 1/173)
وقال: "وفي هذا الحديث أنواع من العلم تقدم كثير منها؛ ففيه التبرك بآثار الصالحين، وفيه زيارة العلماء والفضلاء والكبراء أتباعهم، وتبريكهم إياهم"اهـ (المنهاج 1/244)
وقال: "الاختلاف في حقيقة العقل وأقسامه؛ كثير معروف؛ لا حاجة هنا إلى الإطالة به، واختلفوا في محله؛ فقال أصحابنا المتكلمون: هو في القلب. وقال بعض العلماء: هو في الرأس. والله أعلم"اهـ (المنهاج 2/68)
وقال: "قوله: (إن الله يمسك السماوات على أصبع والأرضين على أصبع إلى قوله ثم يهزهن)؛ هذا من أحاديث الصفات، وقد سبق فيها المذهبان: التأويل، والإمساك عنه مع الإيمان بها مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد؛ فعلى قول المتأولين: يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار؛ أي: خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الإصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار؛ فيقول أحدهم: بأصبعي أقتل زيداً. أي: لا كلفة علي في قتله. وقيل: يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته، وهذا غير ممتنع. والمقصود: أن يد الجارحة مستحيلة. قوله: (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر تصديقاً له ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}؛ ظاهر الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الحبر في قوله: (إن الله تعالى يقبض السماوات والأرضين والمخلوقات بالأصابع)؛ ثم قرأ الآية التي فيها الإشارة إلى نحو ما يقول. قال القاضي: وقال بعض المتكلمين: ليس ضحكه صلى الله عليه وسلم وتعجبه وتلاوته للآية؛ تصديقاً للحبر؛ بل هو رد لقوله، وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده؛ فإن مذهب اليهود التجسيم؛ ففهم منه ذلك. وقوله: (تصديقاً له) إنما هو من كلام الراوي على ما فهم، والأول أظهر"اهـ (المنهاج 17/129-131)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يطوي الأرضين بشماله)، وفى رواية: أن ابن مقسم نظر إلى ابن عمر؛ كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (يأخذ الله سماواته وأرضيه بيديه ويقول أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك) حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه. قال العلماء: المراد بقوله (يقبض أصابعه ويبسطها) النبي صلى الله عليه وسلم .. وأما إطلاق اليدين لله تعالى؛ فمتأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين؛ لأن أفعالنا تقع باليدين؛ فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس. وذكر اليمين والشمال؛ حتى يتم المثال؛ لأنا نتناول باليمين ما نكرمه، وبالشمال ما دونه، ولأن اليمين في حقنا؛ يقوى لما لا يقوى له الشمال، ومعلوم أن السماوات أعظم من الأرض؛ فأضافها إلى اليمين، والأرضين إلى الشمال؛ ليظهر التقريب في الاستعارة، وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئاً أخف عليه من شيء، ولا أثقل من شيء؛ هذا مختصر كلام المازري في هذا. قال القاضي: وفي هذا الحديث ثلاثة ألفاظ (يقبض ويطوي ويأخذ) كله بمعنى الجمع؛ لأن السماوات مبسوطة والأرضين مدحوة وممدودة؛ ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة وتبديل الأرض غير الأرض والسموات؛ فعاد كله إلى ضم بعضها إلى بعض، ورفعها وتبديلها بغيرها. قال: وقبض النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها؛ تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها، وحكاية للمبسوط والمقبوض، وهو السماوات والأرضون؛ لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة القابض والباسط سبحانه وتعالى، ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة. وقوله في المنبر (يتحرك من أسفل شيء منه) أي من أسفله إلى أعلاه؛ لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى. ويحتمل: أن تحركه بحركة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الإشارة. قال القاضي: ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه كما حن الجذع. ثم قال: والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكل، ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئاً به، ولا نشبهه بشيء؛ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه؛ فهو حق وصدق؛ فما أدركنا علمه فبفضل الله تعالى، وما خفي علينا آمنا به ووكلنا علمه إليه سبحانه وتعالى وحملنا لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذي خوطبنا به، ولم نقطع على أحد معنييه بعد تنزيهه سبحانه عن ظاهره الذي لا يليق به سبحانه وتعالى، وبالله التوفيق"اهـ (المنهاج 17/131-133)

وقال: "فيه التبرك بآثار الصالحين، واستعمال فضل طهورهم، وطعامهم، وشرابهم، ولباسهم"اهـ (المنهاج 4/219)

وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة)؛ هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيها مذهبان تقدم ذكرهما مرات في كتاب الإيمان؛ أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه؛ مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وتنزيهه عن سمات المخلوقات. والثاني: تأويله بما يليق به؛ فمن قال بهذا؛ قال: كان المراد امتحانها؛ هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال؛ هو الله وحده، وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء؛ كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه منحصر في السماء؛ كما أنه ليس منحصراً في جهة الكعبة؛ بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين؛ كما أن الكعبة قبلة المصلين، أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم؟ فلما قالت: في السماء؛ علم أنها موحدة، وليست عابدة للأوثان. قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة؛ فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم؛ أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء؛ كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ{، ونحوه؛ ليست على ظاهرها؛ بل متأولة عند جميعهم؛ فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد، ولا تكييف؛ من المحدثين والفقهاء والمتكلمين؛ تأول في السماء: أي: على السماء"اهـ (المنهاج 5/24-25)
وقال: "وفيه دليل على أن من أقر بالشهادتين، واعتقد ذلك جزماً؛ كفاه ذلك في صحة إيمانه، وكونه من أهل القبلة والجنة، ولا يكلف مع هذا؛ إقامة الدليل والبرهان على ذلك، ولا يلزمه معرفة الدليل، وهذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور"اهـ (المنهاج 5/25)
وقال: "قوله: (أحب البلاد إلى الله مساجدها)؛ لأنها بيوت الطاعات، وأساسها على التقوى. قوله: (وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)؛ لأنها محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة وإخلاف الوعد والإعراض عن ذكر الله وغير ذلك مما في معناه. والحب والبغض من الله تعالى: إرادته الخير والشر، أو فعله ذلك بمن أسعده، أو أشقاه"اهـ (المنهاج 5/171)

وقال: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)؛ فقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وأن تفتيح أبواب الجنة، وتغليق أبواب جهنم، وتصفيد الشياطين؛ علامة لدخول الشهر، وتعظيم لحرمته، ويكون التصفيد ليمتنعوا من إيذاء المؤمنين، والتهويش عليهم؛ قال: ويحتمل أن يكون المراد: المجاز، ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وايذاؤهم ليصيرون كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء، ولناس دون ناس، ويؤيد هذه الرواية الثانية: (فتحت أبواب الرحمة)، وجاء في حديث آخر: (صفدت مردة الشياطين)؛ قال القاضي: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة؛ عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً؛ كالصيام والقيام، وفعل الخيرات، والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة، وأبواب لها، وكذلك تغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين؛ عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات، ومعنى صفدت: غللت، والصفد بفتح الفاء: الغل بضم الغين، وهو معنى سلسلت في الرواية الأخرى. هذا كلام القاضي، أو فيه أحرف بمعنى كلامه"اهـ (المنهاج 7/188)
وقال: "وأما معنى الحديث؛ فقال القاضي: قال المازري: هذا مجاز واستعارة؛ لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه وتنفر من شيء فتستقذره، والله تعالى متقدس عن ذلك؛ لكن جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا؛ فاستعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله تعالى. قال القاضي: وقيل: يجازيه الله تعالى به في الآخرة؛ فتكون نكهته أطيب من ريح المسك؛ كما أن دم الشهيد يكون ريحه ريح المسك. وقيل: يحصل لصاحبه من الثواب؛ أكثر ممن يحصل لصاحب المسك. وقيل: رائحته عند ملائكة الله تعالى أطيب من رائحة المسك عندنا، وإن كانت رائحة الخلوف عندنا خلافه"اهـ (المنهاج 8/30)
وقال: "واختلف العلماء في شد الرحال، وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة؛ كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة، ونحو ذلك؛ فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: هو حرام، وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره. والصحيح عند أصحابنا، وهو الذي اختاره إمام الحرمين، والمحققون: أنه لا يحرم، ولا يكره؛ قالوا: والمراد: أن الفضيلة التامة؛ إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة. والله أعلم"اهـ (المنهاج 9/106)

ونقل عن عياض قوله: "محبة الله تعالى لعبده؛ تمكينه من طاعته، وعصمته، وتوفيقه، وتيسير ألطافه، وهدايته، وإفاضة رحمته عليه"اهـ (المنهاج 15/151)
وقال: "قوله: (بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)؛ قال العلماء: محبة الله عبده هي رحمته له، ورضاه عنه، وإرادته له الخير، وأن يفعل به فعل المحب من الخير. وأصل المحبة في حق العباد: ميل القلب، والله تعالى منزه عن ذلك"اهـ (المنهاج 16/124)
وقال: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله خلق آدم على صورته)؛ فهو من أحاديث الصفات، وقد سبق في كتاب الإيمان بيان حكمها واضحاً ومبسوطاً، وأن من العلماء من يمسك عن تأويلها، ويقول: نؤمن بأنها حق، وأن ظاهرها غير مراد، ولها معنى يليق بها. وهذا مذهب جمهور السلف، وهو أحوط وأسلم. والثاني: أنها تتأول على حسب ما يليق بتنزيه الله تعالى، وأنه ليس كمثله شيء. قال المازري: هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت، ورواه بعضهم (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وليس بثابت عند أهل الحديث، وكأن من نقله رواه بالمعنى الذي وقع له، وغلط في ذلك. قال المازري: وقد غلط ابن قتيبة في هذا الحديث فأجراه على ظاهره، وقال: لله تعالى صورة لا كالصور. وهذا الذي قاله؛ ظاهر الفساد؛ لأن الصورة تفيد التركيب، وكل مركب محدث، والله تعالى ليس بمحدث؛ فليس هو مركباً وليس مصوراً. قال: وهذا كقول المجسمة: جسم لا كالأجسام؛ لما رأوا أهل السنة يقولون: الباري سبحانه وتعالى شيء لا كالأشياء؛ طردوا الاستعمال؛ فقالوا: جسم لا كالأجسام. والفرق: أن لفظ شيء لا يفيد الحدوث ولا يتضمن ما يقتضيه، وأما جسم وصورة؛ فيتضمنان التأليف والتركيب، وذلك دليل الحدوث. قال: فالعجب من ابن قتيبة في قوله: صورة لا كالصور؛ مع أن ظاهر الحديث على رأيه: يقتضي خلق آدم على صورته؛ فالصورتان على رأيه؛ سواء؛ فإذا قال: لا كالصور. تناقض قوله، ويقال له أيضاً: إن أردت بقولك: صورة لا كالصور؛ أنه ليس بمؤلف ولا مركب؛ فليس بصورة حقيقة، وليست اللفظة على ظاهرها، وحينئذ يكون موافقاً على افتقاره إلى التأويل، واختلف العلماء في تأويله؛ فقالت طائفة: الضمير في صورته عائد على الأخ المضروب. وهذا ظاهر رواية مسلم، وقالت طائفة: يعود إلى آدم. وفيه ضعف. وقالت طائفة: يعود إلى الله تعالى، ويكون المراد إضافة تشريف واختصاص؛ كقوله تعالى: ناقة الله، وكما يقال في الكعبة: بيت الله. ونظائره. والله أعلم"اهـ (المنهاج 16/165-166)
قال: "فصل في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذكارها: اعلم أنه ينبغي لكل من حج؛ أن يتوجه إلى زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سواء كان ذلك طريقه؛ أو لم يكن، فإن زيارته صلى الله عليه وسلم من أهم القربات، وأربح المساعي، وأفضل الطلبات"اهـ (الأذكار ص 204)
وقال: "روينا في كتاب ابن السني؛ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا؛ يا عباد الله احبسوا؛ فإن لله عز وجل في الأرض حاصراً سيحبسه) قلت: حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم؛ أنه افلتت له دابة؛ أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث؛ فقاله فحبسها الله عليهم في الحال، وكنت أنا مرة مع جماعة؛ فانفلتت منها بهيمة، وعجزوا عنها؛ فقلته فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام"اهـ (الأذكار ص 223-224)
وقال السبكي: "وأما من يقول الإيمان: التصديق؛ كما هو رأي أبي حنيفة والأشعري رضي الله عنهما، ويقول مع ذلك: إنه غير الإسلام؛ فالمشهور من مذهبه: أنه لا يقبل الزيادة والنقص. وحاول قوم من أئمتنا القول بمقوله للزيادة والنقص؛ مع قولهم بأنه التصديق؛ ليجمعوا بين كلام السلف، والشيخ أبي الحسن، وليجمعوا بين مدلوله في اللغة، والمشهور عن السلف؛ فقالوا: قال السلف إنه يتجزأ، وما أنكروا أن يكون تصديقاً. وقال الشيخ أبو الحسن: إنه التصديق، وما أنكر أن يصح تجزئته؛ فنحن نجمع بين الأمرين، وعلى هذا من متكلمي الأشاعرة: الآمدي؛ فإنه صرح به في الأبكار في آخر المسألة؛ بعدما قرر مذهب الشيخ أبي الحسن؛ فقال: إن جميع ما عداه باطل، وهذا نصه. ومن فسره - يعني الإيمان - بخصلة واحدة؛ فإنه يكون أيضاً قابلاً للزيادة والنقص على ما حققناه من قبل. انتهى. وعليه أيضاً من محدثي الأشاعرة، وفقهائهم: النووي رحمه الله سيد المتأخرين؛ فإنه قال في شرح مسلم؛ ما نصه: قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته، وهي الأعمال ونقصانها"اهـ (طبقات الشافعية 1/131-132)
وقال: "فبان بهذا ووضح؛ أن القائل بالتصديق لا ينكر التجزي، وأن من نسب النووي إلى أنه خرق الإجماع حيث جمع بين القول بالتصديق والتجزي؛ فقد أخطأ، وأن ما قاله النووي؛ هو قول الأشعري نفسه"اهـ (طبقات الشافعية 1/133)
وقال: "وقد وصل حال بعض المجسمة في زماننا؛ إلى أن كتب شرح صحيح مسلم للشيخ محيي الدين النووي، وحذف من كلام النووي ما تكلم به على أحاديث الصفات؛ فإن النووي أشعري العقيدة؛ فلم تحمل قوى هذا الكاتب أن يكتب الكتاب على الوضع الذي صنفه مصنفه. وهذا عندي من كبائر الذنوب؛ فإنه تحريف للشريعة، وفتح باب لا يؤمن معه بكتب الناس، وما في أيديهم من المصنفات؛ فقبح الله فاعله وأخزاه، وقد كان في غنية عن كتابة هذا الشرح، وكان الشرح في غنية عنه"اهـ (طبقات الشافعية 2/19)

وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا؛ فيقول: من يدعوني فأستجيب له)؛ هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء؛ سبق إيضاحهما في كتاب الإيمان، ومختصرهما: أن أحدهما، وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين؛ أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى، وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد، ولا يتكلم في تأويلها؛ مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق، وعن الانتقال، والحركات، وسائر سمات الخلق, والثاني: مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف، وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي؛ أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها؛ فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين؛ أحدهما: تأويل مالك بن أنس وغيره؛ معناه: تنزل رحمته وأمره وملائكته؛ كما يقال: فعل السلطان كذا؛ إذا فعله أتباعه بأمره. والثاني: أنه على الاستعارة، ومعناه الإقبال: على الداعين بالإجابة، واللطف"اهـ (المنهاج 6/36-37)
وقال في المجموع (4/47): "وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة حين يبقى من ثلث الليل الآخر؛ يقول: من يدعو فأستجيب له؛ من يسألني؛ فأعطيه من يستغفرني فأغفر له)؛ رواه البخاري ومسلم. وفي هذا الحديث وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها؛ مذهبان مشهوران؛ أحدهما: تأويله على ما يليق بصفات الله سبحانه وتعالى، وتنزيهه من الانتقال، وسائر صفات المحدث. وهذا هو الأشهر عن المتكلمين. والثاني: الإمساك عن تأويلها؛ مع اعتقاد تنزيه الله سبحانه عن صفات المحدث؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وهذا مذهب السلف، وجماعة من المتكلمين، وحاصله: أن يقال لا نعلم المراد بهذا، ولكن نؤمن به مع اعتقادنا؛ أن ظاهره غير مراد، وله معنى يليق بالله تعالى. والله أعلم"اهـ
وقال: "قوله: (ثم يبسط يديه سبحانه وتعالى)؛ هو إشارة إلى نشر رحمته، وكثرة عطائه، وإجابته، وإسباغ نعمته"اهـ (المنهاج 6/38-39)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض)؛ قال العلماء: معناه: منورهما، وخالق نورهما. وقال أبو عبيد: معناه بنورك يهتدي أهل السماوات والأرض. قال الخطابي في تفسير اسمه سبحانه وتعالى النور: ومعناه: الذي بنوره يبصر ذو العماية، وبهدايته يرشد ذو الغواية. قال: ومنه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ}؛ أي: منه نورهما. قال: ويحتمل أن يكون معناه: ذو النور، ولا يصح أن يكون النور صفة ذات الله تعالى، وإنما هو صفة فعل؛ أي هو خالقه. وقال غيره: معنى نور السماوات والأرض: مدبر شمسها وقمرها، ونجومها"اهـ (المنهاج 6/54)

قال: "وقوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت نوراً)؛ معناه: رأيت النور فحسب، ولم أر غيره. قال: وروي (نور أني أراه) بفتح الراء، وكسر النون، وتشديد الياء، ويحتمل أن يكون معناه راجعاً إلى ما قلناه؛ أي: خالق النور المانع من رؤيته؛ فيكون من صفات الأفعال. قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الرواية لم تقع الينا، ولا رأيتها في شيء من الأصول، ومن المستحيل أن تكون ذات الله تعالى نوراً؛ إذ النور من جملة الأجسام، والله سبحانه وتعالى يجل عن ذلك؛ هذا مذهب جميع أئمة المسلمين. ومعنى قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وما جاء في الأحاديث من تسميته سبحانه وتعالى بالنور: معناه: ذو نورهما، وخالقه. وقيل: هادى أهل السماوات والأرض. وقيل: منور قلوب عباده المؤمنين. وقيل معناه: ذو البهجة والضياء، والجمال. والله أعلم"اهـ (المنهاج 3/12-13)
وقال: "مذهب أهل الحق: أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي، ولا غير ذلك؛ لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضاً بوجود ذلك على جهة الاتفاق؛ لا على سبيل الاشتراط، وقد قرر أئمتنا المتكلمون ذلك بدلائله الجلية، ولا يلزم من رؤية الله تعالى: إثبات جهة؛ تعالى عن ذلك؛ بل يراه المؤمنون لا في جهة؛ كما يعلمونه لا في جهة"اهـ (المنهاج 3/15-16)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم (فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه)؛ اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين: أحدهما: وهو مذهب معظم السلف أو كلهم؛ أنه لا يتكلم في معناها؛ بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته؛ مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن التجسم والانتقال والتحيز في جهة، وعن سائر صفات المخلوق. وهذا القول؛ هو مذهب جماعة من المتكلمين، واختاره جماعة من محققيهم، وهو أسلم. والقول الثاني: وهو مذهب معظم المتكلمين؛ أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفاً بلسان العرب، وقواعد الأصول والفروع ذا رياضة في العلم؛ فعلى هذا المذهب؛ يقال في قوله صلى الله عليه وسلم (فيأتيهم الله) أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه؛ لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته الا بالإتيان؛ فعبر بالإتيان والمجيء هنا؛ عن الرؤية مجازاً. وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه إتياناً. وقيل: المراد بـ (يأتيهم الله) أي: يأتيهم بعض ملائكة الله؛ قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الوجه أشبه عندي بالحديث؛ قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها؛ من سمات الحدث الظاهرة على الملك والمخلوق؛ قال: أو يكون معناه: يأتيهم الله في صورة؛ أي يأتيهم بصورة، ويظهر لهم من صور ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم، وهذا آخر امتحان المؤمنين؛ فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة: أنا ربكم؛ رأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم، ويستعيذون بالله منه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم (فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون) فالمراد بالصورة هنا: الصفة، ومعناه: فيتجلى الله سبحانه وتعالى لهم على الصفة التي يعلمونها، ويعرفونه بها، وإنما عرفوه بصفته، وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى؛ لأنهم يرونه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، وقد علموا أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته؛ فيعلمون أنه ربهم؛ فيقولون: أنت ربنا. وإنما عبر بالصورة عن الصفة؛ لمشابهتها إياها، ولمجانسة الكلام؛ فإنه تقدم ذكر الصورة. وأما قولهم (نعوذ بالله منك)؛ فقال الخطابي: يحتمل أن تكون هذه الاستعاذة من المنافقين خاصة. وأنكر القاضي عياض هذا، وقال: لا يصح أن تكون من قول المنافقين، ولا يستقيم الكلام به. وهذا الذي قاله القاضي؛ هو الصواب، ولفظ الحديث مصرح به، أو ظاهر فيه، وإنما استعاذوا منه؛ لما قدمناه من كونهم رأوا سمات المخلوق. وأما قوله صلى الله عليه وسلم (فيتبعونه)؛ فمعناه: يتبعون أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة، أو يتبعون ملائكته الذين يذهبون بهم إلى الجنة"اهـ (المنهاج 3/19-20)


وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً؛ مائة إلا واحداً؛ من أحصاها دخل الجنة؛ إنه وتر يحب الوتر). وفي رواية: (من حفظها دخل الجنة) قال الإمام أبو القاسم القشيري: فيه دليل على أن الاسم هو المسمى؛ إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره"اهـ (المنهاج 17/5)
وقال: "أهل الشقاوة يكرهون لقاءه لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه، ويكره الله لقاءهم؛ أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته سبحانه لقاءهم"اهـ (المنهاج 17/10)
وقال: "وقوله صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية الأخرى: (الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم)؛ هو بمعنى ما سبق، وحاصله: أنه مجاز؛ كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، والمراد: تحقيق سماع الدعاء"اهـ (المنهاج 17/26)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة)؛ قال العلماء: فرح الله تعالى؛ هو رضاه. وقال المازري: الفرح ينقسم على وجوه؛ منها: السرور، والسرور يقاربه الرضا بالمسرور به؛ قال: فالمراد هنا: أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة؛ فعبر عن الرضا بالفرح تأكيداً لمعنى الرضا في نفس السامع، ومبالغة في تقريره"اهـ (المنهاج 17/60-61)
وقال: "قوله تعالى: (إن رحمتي تغلب غضبي)، وفي رواية: (سبقت رحمتي غضبي)؛ قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه؛ يرجعان إلى معنى الإرادة؛ فإرادته الإثابة للمطيع ومنفعة العبد؛ تسمى: رضاً، ورحمة. وإرادته عقاب العاصي، وخذلانه؛ تسمى: غضباً. وإرادته سبحانه وتعالى؛ صفة له قديمة؛ يريد بها جميع المرادات. قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هنا؛ كثرة الرحمة وشمولها؛ كما يقال: غلب على فلان؛ الكرم والشجاعة إذا كثرا منه"اهـ (المنهاج 17/68)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، ولا يختص قبولها بوقت، وقد سبقت المسألة؛ فبسط اليد: استعارة في قبول التوبة. قال المازري: المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ (بسط اليد)؛ لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء؛ بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه؛ فخوطبوا بأمر حسي يفهمونه، وهو مجاز؛ فإن يد الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى"اهـ (المنهاج 17/75-76)

وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن)؛ هو بكسر الذال؛ قال العلماء: معنى أذن في اللغة: الاستماع، ومنه قوله تعالى: }وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا{؛ قالوا: ولا يجوز أن تحمل هنا على الاستماع بمعنى الإصغاء؛ فإنه يستحيل على الله تعالى؛ بل هو مجاز، ومعناه: الكناية عن تقريبه القارئ، وإجزال ثوابه؛ لأن سماع الله تعالى لا يختلف؛ فوجب تأويله"اهـ (المنهاج 6/78)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم)؛ قال القاضي عياض: فيه حجة للقول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيله على سائر كتب الله تعالى؛ قال: وفيه خلاف للعلماء؛ فمنع منه أبو الحسن الأشعري، وأبو بكر الباقلاني، وجماعة من الفقهاء والعلماء؛ لأن تفضيل بعضه؛ يقتضي نقص المفضول، وليس في كلام الله نقص به. وتأول هؤلاء ما ورد من إطلاق أعظم وأفضل في بعض الآيات والسور؛ بمعنى: عظيم. وأجاز ذلك إسحاق بن راهويه، وغيره من العلماء والمتكلمين؛ قالوا: وهو راجع إلى عظم أجر قارئ ذلك، وجزيل ثوابه. والمختار: جواز قول هذه الآية أو السورة أعظم أو أفضل؛ بمعنى أن الثواب المتعلق بها أكثر"اهـ (المنهاج 6/93-94)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم في الذي قال في }قَلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ{؛ لأنها صفة الرحمن؛ فأنا أحب أن أقرأ بها: أخبروه أن الله يحبه)؛ قال المازري: محبة الله تعالى لعباده؛ إرادة ثوابهم، وتنعيمهم. وقيل: محبته لهم: نفس الإثابة والتنعيم؛ لا الإرادة. قال القاضي: وأما محبتهم له سبحانه؛ فلا يبعد فيها الميل منهم إليه سبحانه، وهو متقدس على الميل"اهـ (المنهاج 6/95-96)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة)؛ هذا عام مخصوص، والمراد: غالب البدع. قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل على غير مثال سابق. قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة"اهـ (المنهاج 6/154)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أمة محمد إن من أحد أغير من الله تعالى)؛ هو بكسر همزة إن، وإسكان النون؛ أي: ما من أحد أغير من الله. قالوا: معناه: ليس أحداً منع من المعاصي من الله تعالى، ولا أشد كراهة لها منه سبحانه"اهـ (المنهاج 6/201)
وقال: "معنى (أشعرنها إياه) اجعلنه شعاراً لها، وهو الثوب الذي يلي الجسد؛ سمي شعاراً لأنه يلي شعر الجسد، والحكمة في إشعارها به تبريكها به؛ ففيه التبرك بآثار الصالحين، ولباسهم"اهـ (المنهاج 7/3)

وقال: "قوله: (فلا يزال يدعو الله تعالى حتى يضحك الله تعالى منه) قال العلماء: ضحك الله تعالى منه؛ هو رضاه بفعل عبده، ومحبته إياه وإظهار نعمته عليه، وإيجابها عليه"اهـ (المنهاج 3/24)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (فيكشف عن ساق)؛ ضبط يكشف بفتح الياء وضمها، وهما صحيحان. وفسر ابن عباس وجمهور أهل اللغة وغريب الحديث الساق هنا؛ بالشدة؛ أي: يكشف عن شدة، وأمر مهول، وهذا مثل تضربه العرب لشدة الأمر، ولهذا يقولون: قامت الحرب على ساق. وأصله أن الإنسان إذا وقع في أمر شديد؛ شمر ساعده، وكشف عن ساقه للاهتمام به. قال القاضي عياض رحمه الله: وقيل: المراد بالساق هنا؛ نور عظيم، وورد ذلك في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن فورك: ومعنى ذلك؛ ما يتجدد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف. قال القاضي عياض: وقيل قد يكون الساق علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقة عظيمة؛ لأنه يقال: ساق من الناس؛ كما يقال: رجل من جراد. وقيل: قد يكون ساق مخلوقاً جعله الله تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة. وقيل: معناه كشف الخوف، وإزالة الرعب عنهم، وما كان غلب على قلوبهم من الأهوال؛ فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك، ويتجلى لهم فيخرون سجداً"اهـ (المنهاج 3/27-28)
وقال: "قوله: (قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين)؛ قد قدمنا معنى الضحك من الله تعالى، وهو الرضى والرحمة، وإرادة الخير لمن يشاء رحمته من عباده. والله أعلم"اهـ (المنهاج 3/43)
وقال: "وأما قوله: (فيتجلى لهم يضحك فينطلق بهم ويتبعونه)؛ فتقدم بيانهما في أوائل الكتاب، وكذلك تقدم قريباً معنى الضحك. وأما التجلي: فهو الظهور وإزالة المانع من الرؤية، ومعنى يتجلى: يضحك؛ أي: يظهر، وهو راض عنهم"اهـ (المنهاج 3/48)
وقال: "قوله: (فيقول آدم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)؛ المراد بغضب الله تعالى: ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يرونه من أليم عذابه، وما يشاهده أهل المجمع من الأهوال التي لم تكن، ولا يكون مثلها، ولا شك في أن هذا كله؛ لم يتقدم قبل ذلك اليوم مثله، ولا يكون بعده مثله؛ فهذا معنى غضب الله تعالى؛ كما أن رضاه: ظهور رحمته ولطفه بمن أراد به الخير والكرامة؛ لأن الله تعالى يستحيل في حقه التغير في الغضب والرضاء. والله أعلم"اهـ (المنهاج 3/68-69)
وقال: "فيه استحباب تحنيك المولود، وفيه التبرك بأهل الصلاح والفضل، وفيه استحباب حمل الأطفال إلى أهل الفضل للتبرك بهم"اهـ (المنهاج 3/194)
وقال: "واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث؛ لأنه إذا كان يرجى التخفيف بتسبيح الجريد؛ فتلاوة القرآن أولى. والله أعلم"اهـ (المنهاج 3/202)
وقال: "قولها: (إن الله لا يستحي من الحق)؛ قال العلماء: معناه: لا يمتنع من بيان الحق، وضرب المثل بالبعوضة، وشبهها؛ كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}؛ فكذا أنا لا أمتنع من سؤالي عما أنا محتاجة إليه. وقيل: معناه: إن الله لا يأمر بالحياء في الحق، ولا يبيحه"اهـ (المنهاج 3/223-224)

وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة؛ فيقول: ما أراد هؤلاء) .. قال القاضي عياض: قال المازري: معنى (يدنو) في هذا الحديث: أي تدنو رحمته وكرامته؛ لا دنو مسافة ومماسة. قال القاضي: يتأول فيه ما سبق في حديث النزول إلى السماء الدنيا؛ كما جاء في الحديث الآخر من غيظ الشيطان يوم عرفة؛ لما يرى من تنزل الرحمة. قال القاضي: وقد يريد دنو الملائكة إلى الأرض أو إلى السماء؛ بما ينزل معهم من الرحمة، ومباهاة الملائكة بهم عن أمره سبحانه وتعالى"اهـ (المنهاج 9/117)
وقال: "وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد الثلاثة، وفضيلة شد الرحال اليها؛ لأن معناه عند جمهور العلماء: لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها. وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: يحرم شد الرحال إلى غيرها. وهو غلط"اهـ (المنهاج 9/168)
وقال: "الغيرة: صفة كمال؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن سعداً غيور، وأنه أغير منه، وأن الله أغير منه صلى الله عليه وسلم، وأنه من أجل ذلك حرم الفواحش. فهذا تفسير لمعنى: غيرة الله تعالى؛ أي: أنها منعه سبحانه وتعالى الناس من الفواحش؛ لكن الغيرة في حق الناس؛ يقارنها تغير حال الإنسان، وانزعاجه، وهذا مستحيل في غيرة الله تعالى. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا شخص أغير من الله تعالى)؛ أي: لا أحد، وإنما قال: (لا شخص) استعارة. وقيل: معناه: لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله تعالى"اهـ (المنهاج 10/132)
وقال: "وفيه التبرك بآثار الصالحين، وفضل طعامهم، وشرابهم، ونحوهما، وفضل مؤاكلتهم، ومشاربتهم، ونحو ذلك"اهـ (المنهاج 11/55)
وقال: "وله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً؛ فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وفي الرواية الأخرى: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم ثلاثاً قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)؛ قال العلماء: الرضى والسخط والكراهة من الله تعالى؛ المراد بها: أمره، ونهيه، وثوابه، وعقابه، أو إرادته الثواب لبعض العباد، والعقاب لبعضهم"اهـ (المنهاج 12/10-11)
وقال: "أما قوله صلى الله عليه وسلم: (عن يمين الرحمن)؛ فهو من أحاديث الصفات، وقد سبق في أول هذا الشرح؛ بيان اختلاف العلماء فيها، وأن منهم من قال: نؤمن بها ولا نتكلم في تأويله، ولا نعرف معناه؛ لكن نعتقد أن ظاهرها غير مراد، وأن لها معنى يليق بالله تعالى، وهذا مذهب جماهير السلف، وطوائف من المتكلمين. والثاني: أنها تؤول على ما يليق بها، وهذا قول أكثر المتكلمين، وعلى هذا قال القاضي عياض رضي الله عنه: المراد بكونهم عن اليمين؛ الحالة الحسنة، والمنزلة الرفيعة؛ قال: قال ابن عرفة: يقال أتاه عن يمينه؛ إذا جاءه من الجهة المحمودة، والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين، وضده إلى اليسار؛ قالوا: واليمين مأخوذة من اليمن"اهـ (المنهاج 12/211-212)

وقال: "اختلفوا في آيات الصفات وأخبارها؛ هل يخاض فيها بالتأويل؛ أم لا؟ فقال قائلون: تتأول على ما يليق بها. وهذا أشهر المذهبين للمتكلمين. وقال آخرون: لا تتأول؛ بل يمسك عن الكلام في معناها، ويوكل علمها إلى الله تعالى، ويعتقد مع ذلك تنزيه الله تعالى، وانتفاء صفات الحادث عنه؛ فيقال مثلاً :نؤمن بأن الرحمن على العرش استوى، ولا نعلم حقيقة معنى ذلك، والمراد به؛ مع أنا نعتقد أن الله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وأنه منزه عن الحلول، وسمات الحدوث. وهذه طريقة السلف أو جماهيرهم، وهي أسلم؛ إذ لا يطالب الإنسان بالخوض في ذلك؛ فإذا اعتقد التنزيه؛ فلا حاجة إلى الخوض في ذلك، والمخاطرة فيما لا ضرورة بل لا حاجة إليه؛ فإن دعت الحاجة إلى التأويل لرد مبتدع ونحوه؛ تأولوا حينئذ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء في هذا. والله أعلم"اهـ (المجموع 1/25)
وقال: "الثامنة عشرة: قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: ليس له إذا استفتى في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل؛ بل يمنع مستفتيه، وسائر العامة من الخوض في ذلكن أو في شيء منه وإن قل، ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل، ويقولوا فيها وفي كل ما ورد من آيات الصفات وأخبارها المتشابهة: إن الثابت فيها في نفس الأمر ما هو اللائق فيها بجلال الله تبارك وتعالى وكماله وتقديسه المطلق؛ فيقول: ذلك معتقدنا فيها وليس علينا تفصيله وتعيينه، وليس البحث عنه من شأننا؛ بل نكل علم تفصيله إلى الله تبارك وتعالى، ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا. فهذا ونحوه هو الصواب من أئمة الفتوى في ذلك، وهو سبيل سلف الأمة وأئمة المذاهب المعتبرة وأكابر العلماء والصالحين، وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم. ومن كان منهم اعتقد اعتقاداً باطلاً؛ ففي هذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم. وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة؛ فقد تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزير صبيغ بفتح الصاد المهملة الذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك. قال: والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة، وبأنها أسلم لمن سلمت له. وكان الغزالي منهم في آخر أمره؛ شديد المبالغة في الدعاء إليها والبرهنة عليها. وذكر شيخه إمام الحرمين في كتابه الغياثي: أن الإمام يحرص ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك. واستفتي الغزالي في كلام الله تبارك وتعالى؛ فكان من جوابه: وأما الخوض في أن كلامه تعالى حرف وصوت أو ليس كذلك؛ فهو بدعة، وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا؛ فليس من أئمة الدين، وإنما هو من المضلين، ومثاله من يدعو الصبيان الذين لا يحسنون السباحة إلى خوض البحر، ومن يدعو الزمن المقعد إلى السفر في البراري من غير مركوب"اهـ (المجموع 1/52-53)
وقال: "قال أصحابنا المتكلمون: التوفيق:: خلق قدرة الطاعة. والخذلان خلق قدرة المعصية، والموفق في شيء لا يعصي في ذلك الشيء؛ إذ لا قدرة له على المعصية"اهـ (المجموع 1/74)
وقال: "وكان الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني؛ أحد الثلاثة الذين اجتمعوا فى عصر واحد على نصر مذهب الحديث والسنة فى المسائل الكلامية؛ القائمين بنصرة مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعري، وهم: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبو بكر الباقلاني، والإمام أبو بكر بن فورك"اهـ (تهذيب الأسماء واللغات 2/170)
وقال: "البدعة - بكسر الباء - في الشرع: هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى: حسنة وقبيحة. قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام رحمه الله ورضي عنه في آخر كتاب (القواعد): البدعة منقسمة إلى: واجبة، ومحرمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة"اهـ (تهذيب الأسماء واللغات 3/22)

وقال: "(باب إذا أحب الله عبداً أمر جبريل فأحبه وأحبه أهل السماء) ثم يوضع له القبول في الأرض، وذكر في البغض نحوه؛ قال العلماء: محبة الله تعالى لعبده؛ هي إرادته الخير له، وهدايته وإنعامه عليه، ورحمته. وبغضه: إرادة عقابه، أو شقاوته، ونحوه"اهـ (المنهاج 16/183)
وقال: "قوله: (اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده)؛ في اليد هنا: المذهبان السابقان في كتاب الإيمان، ومواضع في أحاديث الصفات؛ أحدهما: الإيمان بها، ولا يتعرض لتأويلها؛ مع أن ظاهرها غير مراد. والثاني: تأويلها على القدرة"اهـ (المنهاج 16/200)
وقال: "(إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)؛ هذا من أحاديث الصفات، وفيها القولان السابقان قريباً؛ أحدهما: الإيمان بها من غير تعرض لتأويل، ولا لمعرفة المعنى؛ بل يؤمن بأنها حق، وأن ظاهرها غير مراد؛ قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. والثاني: يتأول بحسب ما يليق بها؛ فعلى هذا: المراد المجاز؛ كما يقال: فلان في قبضتي، وفي كفي؛ لا يراد به: أنه حال في كفه؛ بل المراد: تحت قدرتي. ويقال: فلان بين إصبعي أقلبه كيف شئت؛ أي: أنه مني على قهره والتصرف فيه كيف شئت؛ فمعنى الحديث: أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء؛ لا يمتنع عليه منها شيء، ولا يفوته ما أراده كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه؛ فخاطب العرب بما يفهمونه، ومثله بالمعاني الحسية تأكيداً له في نفوسهم؛ فإن قيل: فقدرة الله تعالى واحدة، والإصبعان للتثنية؟ فالجواب: أنه قد سبق أن هذا مجاز واستعارة؛ فوقع التمثيل بحسب ما اعتادوه؛ غير مقصود به التثنية، والجمع. والله أعلم"اهـ (المنهاج 16/204)
ونقل عن الغزالي قوله في تعريف المتشابه: "يطلق على ما ورد في صفات الله تعالى؛ مما يوهم ظاهره الجهة، والتشبيه، ويحتاج إلى تأويل"اهـ (المنهاج 16/217-218)
وقال: "قوله تعالى: (إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) قال المازري: النفس تطلق في اللغة على معان؛ منها: الدم، ومنها: نفس الحيوان، وهما مستحيلان في حق الله تعالى، ومنها: الذات، والله تعالى له ذات حقيقة، وهو المراد بقوله تعالى (في نفسي)، ومنها: الغيب، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}؛ أي: ما في غيبي؛ فيجوز أن يكون أيضاً مراد الحديث: أي إذا ذكرني خالياً أثابه الله، وجازاه عما عمل"اهـ (المنهاج 17/2)
وقال: "قوله تعالى: (وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)؛ هذا الحديث من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهره، وقد سبق الكلام في أحاديث الصفات مرات، ومعناه: من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة، وإن زاد زدت؛ فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي؛ أتيته هرولة؛ أي: صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد: أن جزاءه يكون تضعيفه على حسب تقربه"اهـ (17/3-4)
وقال: "قوله

وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى سحاء؛ لا يغيضها شيء الليل والنهار)؛ قال القاضي: قال الإمام المازري: هذا مما يتأول؛ لأن اليمين إذا كانت بمعنى المناسبة للشمال؛ لا يوصف بها الباري سبحانه وتعالى؛ لأنها تتضمن إثبات الشمال، وهذا يتضمن التحديد، ويتقدس الله سبحانه عن التجسيم والحد، وإنما خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يفهمونه، وأراد الإخبار بأن الله تعالى لا ينقصه الإنفاق، ولا يمسك خشية الإملاق جل الله عن ذلك، وعبر صلى الله عليه وسلم عن توالي النعم بسح اليمين؛ لأن الباذل منا يفعل ذلك بيمينه؛ قال: ويحتمل أن يريد بذلك؛ أن قدرة الله سبحانه وتعالى على الأشياء على وجه واحد؛ لا يختلف ضعفاً وقوة، وأن المقدورات تقع بها على جهة واحدة، ولا تختلف قوة وضعفاً؛ كما يختلف فعلنا باليمين والشمال تعالى الله عن صفات المخلوقين، ومشابهة المحدثين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: (وبيده الأخرى القبض)؛ فمعناه: أنه وإن كانت قدرته سبحانه وتعالى واحدة؛ فإنه يفعل بها المختلفات، ولما كان ذلك فينا لا يمكن إلا بيدين؛ عبر عن قدرته على التصرف في ذلك باليدين؛ ليفهمهم المعنى المراد بما اعتادوه من الخطاب على سبيل المجاز"اهـ (المنهاج 7/79-80)
وقال: "وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تحصي فيحصي الله عليك ويوعي عليك)؛ هو من باب مقابلة اللفظ باللفظ للتجنيس؛ كما قال تعالى: {وَمَكرُوا وَمَكَرَ اللهُ}، ومعناه: يمنعك كما منعت، ويقتر عليك كما قترت، ويمسك فضله عنك كما أمسكته"اهـ (المنهاج 7/119)
وقال: "(من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها)؛ إلى آخره. فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث؛ أنه قال في أوله: (فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس) وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان، وفي هذا الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وأن المراد به: المحدثات الباطلة والبدع المذمومة، وقد سبق بيان هذا في كتاب صلاة الجمعة، وذكرنا هناك أن البدع خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة"اهـ (المنهاج 7/104-105)

وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم)؛ هو على لفظ الآية الكريمة؛ قيل: معنى (لا يكلمهم) أي: لا يكلمهم تكليم أهل الخيرات، وبإظهار الرضى؛ بل بكلام أهل السخط والغضب. وقيل: المراد: الإعراض عنهم. وقال جمهور المفسرين: لا يكلمهم كلاماً ينفعهم، ويسرهم. وقيل: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية ومعنى لا ينظر إليهم أي يعرض عنهم، ونظره سبحانه وتعالى لعباده رحمته ولطفه بهم، ومعنى لا يزكيهم: لا يطهرهم من دنس ذنوبهم. وقال الزجاج وغيره: معناه: لا يثني عليهم"اهـ (المنهاج 2/115-116)
وقال: "قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور عين اليمنى)؛ معناه: أن الله تعالى منزه عن سمات الحدث، وعن جميع النقائص، وأن الدجال مخلوق من خلق الله تعالى ناقص الصورة؛ فينبغي لكم أن تعلموا هذا، وتعلموه الناس لئلا يغتر بالدجال من يرى تخييلاته، وما معه من الفتنة"اهـ (المنهاج 2/236)
وقال: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لقي الله تعالى وهو عليه غضبان)، وفي الرواية الأخرى (وهو عنه معرض)؛ فقال العلماء: الإعراض والغضب والسخط من الله تعالى؛ هو إرادته إبعاد ذلك المغضوب عليه من رحمته وتعذيبه وانكار فعله وذمه"اهـ (المنهاج 2/262)
وقال: "وفيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم: إن الإقرار باللسان لا ينفع؛ إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب؛ خلافاً للكرامية، وغلاة المرجئة في قولهم: يكفي الإقرار. وهذا خطأ ظاهر"اهـ (المنهاج 2/181)


الاختلاط حرام، لا حلال، لا حرام….؟!

 كثر الحديث في مجال الفتوى عن حكم الاختلاط، وأصبح الحديث عن حكم الاختلاط والاختلاف فيه جزءا من ثقافة المجتمع المسلم، ويغلب على الحديث في هذا المجال صفة العمومية، وعدم التحقيق في المصطلح نفسه، الذي يجب أن يحدد بدقة، ثم بعد ذلك يتم بيان الحكم الشرعي له، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

أولا: المصطلح عَسِير على الضبط:

إن المصطلح غير منضبط، ولم تقدَّم تعريفات واضحة له قبل الخوض في حكمه، بل إن التعريفات التي طرحت أحيانا كانت تزيده غموضا وتخلطه مع حكم الخلوة المحرمة، ذلك لأن المفاهيم العامة التي لها تطبيقاتها المختلفة منها ما يجوز ومنها ما لا يجوز، لا يمكن إعطاؤها حكما واحدا، لأنها أصلا أحكامها مختلفة، والحكم الواحد عليها جميعا فيه مجازفة، وعدمُ مراعاة لمنهجية الفقه الإسلامي الذي يتعلق بتصرفات العباد وأفعالهم، لا بالعناوين الإجمالية غير المحددة، وتشتمل على صورة متعددة بعضها يجوز وبعضها لا يجوز.

ثانيا: تناول الفقهاء لموضوع الاختلاط:

بما أن طبيعة الفقه الإسلامي هي الأحكام المتعلقة بالأفعال، فإنه لا بد من توضيح الفعل أولا، ثم يأتي البيان الشافي للسائل، فيبين الفقهاء حكم شراء المرأة من الرجل، وارتياد السوق، والخلوة المحرمة بالأجنبية، ونظر للقاضي للمرأة بوصفها شاهدا أو متهما الخ، يعني أنهم يتناولون الجزئيات والأفعال كل فعل على حِدة، دون الدخول في عمومات فكرية تُشْكِل فيما بعد على المجتمع، وتضعه في تجاذبات ليست في محلها، وتتحول القضية من حكم شرعي في مسألة جزئية، إلى جدليات وإشكاليات تشوه ثقافة المجتمع المسلم.

ثالثا: تصحيح السؤال:

وبما أن هذا السؤال ليس في محله، لا بد من تصحيح السؤال من قِبــَل العالم، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله يا رسول الله ما يلبَس المُحرِم؟ فأجاب النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرجل عمّا لا يلبس المحرم وصحح السؤال، فقال: لا يلبس القمُص ولا …، لأن الأصل في اللباس الإباحة، وتعداد المباح لا ينتهي لكثرته، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: لا يلبَس، لأن الممنوع من اللباس محدود، ومثل ذلك ماذا يحل من الطعام؟ فالجواب الصحيح: يحرم من الطعام كذا وكذا …، وماذا يحل للرجل من زوجته؟ يُصحَّح: يحرم عليه منها كذا وكذا وكذا؛ لأن الأصل الحل وهو عسير على الحَدِّ والعَدِّ، ومثل ذلك يقال: ماذا يحل للطبيب من نظر المرأة للعلاج، لأن الأصل التحريم والحِلُّ استثناء، ولا يقال ماذا يحرم على الطبيب من نظر المرأة للعلاج؛ لأن التحريم هو الأصل، وهو كل شيء ما عدا ما استثناه الشارع لضرروة العلاج، فمِن واجب الفقيه تصحيح أسئلة المجتمع، والتحذير من الانجرار وراء مصطلحات هلامية لا تُدرَى حدودها ولا معانيها على وجه يرفع الغموض، وتؤدي إلى صراع لا طائل تحته في الثقافة العامة للمجتمع.

وكتبه وليد شاويش

حوار مع أخي، الحلقة - وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ

 حديثي اليوم مع أخوين عزيزين، الأخ أحمد، والأخ يوسف، أما أحمد فهو شخص قليل الكلام، يُـعِدُّ حديثه مسبقا، في أوراق يكتبها، أما يوسف فهو لا يهاب، ويحب الحقيقة أشد من حبه للحياة، وهو يرغب في الحق لا شيء غير الحق، وكلاهما له اطلاع على أقوال العلماء في موضوع الحوار، وجرى الحوار الآتي:

بعد الترحيب والمصافحة

وليد: ما حكم تطبيق قانون يبيح الخمر؟

أحمد، يوسف: طبعا كفر بالله تعالى، وهذا لا يحتاج إلى نقاش.

وليد: مرجعيتنا الكتاب والسنة، ما الدليل على ذلك من كتاب الله تعالى؟

أحمد، يوسف: بصوت متقارب، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.

وليد: هل الآية مُحْكمة على ظاهرها في كل من يحكم، أم فيها تأويل وتخصيص؟

أحمد: الآية محكمة وعلى ظاهرها، فكل من لم يحكم بغير ما أنزل الله، وحكَّم غير شريعة الإسلام، فهو كافر كفرا يخرجه من ملَّة الإسلام.

وليد: هل الآية عامة في كل من يحكم بما أنزل الله، وفي جميع ما أنزل الله.

أحمد: نعم.

وليد: نعلم أن لفظ “من” و”ما” من ألفاظ العموم، فيصبح المعنى: كل من لم يحكم بكل ما أنزل الله فهو كافر.

أحمد: نعم هذا صحيح، فالآية عامة في كل فرد ، وفي تطبيق كل ما أنزل الله تعالى.

وليد: هل حكَم إبراهيم عليه السلام بكل ما أنزل الله في القرآن والتوراة والإنجيل، وهل حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بكل ما جاء في الكتب السابقة؟

أحمد: لا.

وليد: لو أنك جريت على العموم في الآية لكان القول قبيحا، لأنه يزعم أن الأنبياء لم يحكموا بما أنزل الله، وهو معنى غير مراد قطعا، ومن ثم هذا النص عام مخصوص.

أحمد: أرجو توضيح أن الآية من العام المخصوص.

وليد: ماذا لو أن قاضيا شرعيا، تقاضى رشوة ليحكم بحكم خلاف الشرع لأحد الخصوم بعدم طلاق زوجته، وخلاف قانون الأحوال الشخصية المأخوذ من الشريعة، مع اعتقاده أن الشرع هو الطلاق، ولكنه حادَ عن الشرع، طمعا في الدنيا الزائلة، فهل يكفر ذلك القاضي المرتشـي إذا حكم بغير ما أنزل الله؟ بناء على ما زعمتما أن الآية محكمة ولا تأويل فيها؟

أحمد: المرتشي ليس كافرا.

يوسف: لا يكفر، لأنه لم يُـشرِّع، فهذا لا يعد كافرا، لأنه ليس مشـرعا ولا مقَــنِّـنا، والآية ليست في كل من يحكم بغير ما أنزل الله، بل إذا كان مشرعا تشريعا عاما للناس، كما تسنه مجالس الشعب والبرلمانات للناس.

وليد: إذن الآية ليست مُـحكَمة، ولكن فيها تأويلا؟ فلم هذا التراجع السـريع؟ ومعنى ذلك أن الرجل الذي ظلم إحدى زوجتيه بالقِسمة، والمدرس الذي نجَّح من يستحق الرسوب، ورسَّب من يستحق النجاح، وإرساء عطاء من قبل إدارةٍ مرتشِية على شركة دفعت رشوة، كل أولئك لا تنطبق عليهم الآية، لأنهم لم يشرِّعوا، وإن حكموا بغير ما أنزل الله تعالى.

أحمد، ويوسف: نعم، فهم وإن حكموا بغير ما أنزل الله تعالى فهم مسلمون عصاة، ولا يكفرون، لأن التكفير يكون باستحلالهم الحرام، وهم لم يستحِلوا الحرام، فالآية فيها تأويل، وليست مُـحْكَمة فِعلا.

وليد: وبناء على ما تقولان، القضية مرتطبة بالتشريع، يعني الأمر أصبح مقتصرا على المشـرِّعين، في مجالس الشعب والبرلمانات.

أحمد: نعم، هم الذين يُـحِلّون الحرام ويحرمون الحلال.

يوسف: الآية تنطبق عليهم فعلا؛ لأنهم يشرعون للناس شرائع بديلة عن الشريعة الإسلامية.

وليد: لنفترض أنني عضو في أحد تلك المجالس التشـريعية، وعُرض قانون للتصويت، وفيه نصوص تجيز إنشاء الخمارات وبيع الخمر، وتفاوضَت حكومة ذلك البلد معي، بأن تعطيني امتيازات، ورشاوي، وفُرَص دنيوية رائعة، وقمت بالتصويت على ذلك القانون، وبناء على قولكما، أكون كافرا لأنني شرعت قانونا يجيز الخمر، فهل هذا صحيح؟

أحمد: بالتأكيد، لأنك هنا في موقف التشريع، وأنت هنا في المثال حلَّلت الخمر، وهي حرام.

يوسف: قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ)، سورة الأنعام، جزء الآية(57) ، ويلزم من تشريع القانون الذي أحلَّ الخمر، أنك تعتقد أنها حلال، ولم تصوِّت على القانون بنعم إلا لأنك تعتقد أنها حلال، فتصويتك بنعم لقانون يجيز الخمارات يلزم منه أن تعتقد أن الخمر حلال.

وليد: بعد أن أصدرتما فتوى بتكفيري على سبيل الافتراض؛ لأنني حكَّمت القوانين الوضعية، اتصلت بكما، وطلبت لقاء للاستفسار عن أمر تلك الفتوى، فقلتما لي أنت حللت ما حرم الله، فقلت لكما أنا لم أنَمْ ليلة، ولم أَسِر خطوة قبل التصويت وبعده إلا وأنا أعتقد أن الخمر عند الله حرام، وشرعه في الأرض وفي السماء أن الخمر حرام.

يوسف وأحمد: يلزم من التصويت وتشريع القانون أنك تعتقد أن الخمر حلال!!!

وليد: هل هو لزوم عقلي أم عادي، يعني يلزم بالعقل أم بالعادة، وكيف يكون اللزوم عاديا أو عقليا، وما حدث في الواقع خلاف ما تتوهمان أنه لازم، فوقوع الاعتقاد مني بتحريم الخمر، مع التصويت على القانون في الواقع دليل على أن مجرد التقنين وإن كان من الكبائر المخالفة للشرع، لا يلزم منه اعتقاد أن الخمر حلال شرعا لا باللزوم العقلي ولا العادي، وذلك لأن المباح بالقانون مختلف عن المباح بالشـرع، والشـرع أعلى وأجل من القانون إن خالف القانونُ الشرع، لأن في الشرع رضى رب العالمين، وفي غيره سخطه وعقوبته.

يوسف وأحمد: إذن نقول: إن الكفر الذي يُـخرج صاحبه من الملة، حسب الآية الكريمة، هو التقنين بشرط اعتقاد أن الحرام حلال، أو أنه أفضل من شرع الله، فهذا هو شرط الكفر المخرِج من الملة.

وليد: يعني أن الكفر المخرج من الملة مشـروط بالحكم بغير ما أنزل الله، إذا حكم القاضي أو قَــنَّــنـَّت مجالس التشريع قوانين تستبدل حكم الشريعة بحكم آخر، وتحلل الحرام وتجعله حلالا شرعا، وتحرم الحلال شرعا، وتعتقد أنه أفضل مما أنزله الله أو مساويا لشرع الله تعالى، بمعنى أن الكفر مشـروط بالحكم مع اعتقاد أن غير شرع الله أفضل.

يوسف: وأي كفر أكبر من هذا!!

أحمد: الكفر واضح كالشمس.

وليد: ماذا لو أن رجلا، ليس في موقع الحكم، وليس قاضيا، ولا عضوا في مجلس الشعب، وليست له أي صلاحية للحكم، ولكنه فيلسوف مجرد مفكِّر، وقال أنا أعتقد أن الشريعة الإسلامية شريعة غير صالحة، والقوانين الوضعية التي تحلل الحرام وتحرم الحلال، هي الأفضل من كل ما جاء به الإسلام، ماذا تقولان في هذا الفيلسوف، فهو ليس حاكما، وقد قال ما قال؟ فهل يكفر أم لا؟ لأنكما قيدتما الآية بقوله تعالى: ومن لم يحكم؟!

يوسف وأحمد: ؟! واللهِ نص الآية : ومن لم يحكم.

وليد: ألا تريان أن الأمر ليس مقتصرا على قوله تعالى: (ومن لم يحكم)، بل مدار الأمر وقرارُه، على الاعتقاد، فهذا الفيلسوف لم يختلف عن مشركي العرب، الذين حكم الإسلام بكفرهم لجحودهم الشريعة المنزلة، وتكذيبهم بها، ومن ثم أجمع العلماء على كفر هذا الفيلسوف، لأن الآية مؤولة ومدارها على الاعتقاد، وأن النصوص الشـرعية التي أثبتت الإسلام لعصاة المسلمين صالحة لصرف الآية عن ظاهرها، وتأويلها بأن الكفر هو في حال الاعتقاد، ويكون حكم الكفر المخرج من الملة مرتبطا بالاعتقاد بعدم صلاحية الشريعة، سواء حكم المعتقد بعدم الصلاحية للشـرع أم لم يحكم، هذا مع العلم بأن الحكم بالتكفير هو حكم شرعي لأهل الاختصاص، وتنفيذ آثاره من اختصاص القضاء وليس الأفراد إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع.

يوسف: تذكرت شيئا، وهو أن هناك أقوالا لكبار العلماء في تفسير هذه الآية وباقي آيات سورة المائدة، بأن قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]، في حالة الجحود، أما قوله تعالى:(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون)، فهذا فيمن لا يعتقد أن شرع غير الله أفضل من شرع الله ولا مثله، ولكنه حكم تسلطا على المظلوم وقهرا له، أما قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون) [المائدة:]، فهذا فيمن إذا حكم بغير ما أنزل الله تعالى، ويعتقد أن شرع الله تعالى أفضل وأصلح، ولكنه حكم به محاباة للمحكوم له لعرض من الدنيا.

وليد: هذا يعني أن هذه الآيات الكريمة لا تجتمع في شخص واحد، بل هي في أشخاص متعددين، فأوَلُّـهم كافر إذا استحل الحرام، والثاني ظالم إذا لَــم يعتقد أن القانون الوضعي أفضل من شرع الله، ولكن قهرا للمظلوم، والثالث فاسق: لأنه حكم بغير الشرع رغبة في الدنيا، مع اعتقاده أن شرع الله أفضل.

أحمد: وأنا أوافق يوسف على ذلك، وقد حفظت ذلك في بدايات دروسنا على الشيوخ.

وليد: إذن، أنتما متفقان على أن هذه الآيات لا تنطبق على شخص واحد، فهي بالقيود التي ذكرتم سابقا لكل آية شخص مخلتف.

يوسف وأحمد: نعم صحيح.

وليد: هل الكافر ظالم؟ بمعنى مَن حكم بغير ما أنزل الله تعالى، وهو يفضل القوانين الوضعية على دين الله تعالى، فهل هو ظالم؟ أليس هذا ظلما، أليس فسقا، يعني خرج عن الشـرع! أم هو عادل وليس فاسقا؟

أحمد: هو ظالم طبعا، لأنه لم يطبق الشرع، بل هو أظلم ممن لم يعتقد أن القانون الوضعي يماثل الشرع!

يوسف: نعم هو ظالم، وفاسق وأي فسق أشد من ذلك؟! بل هو أظلم وأفسَق من الثاني والثالث.

وليد: إذن قد تنطبق الآيات الثلاث جميعا على الأول، فيكون ظالما وفاسقا، بالإضافة إلى أنه كافر إذا كذَّب الله ورسوله وأنكر الشريعة، واعتقد أن القوانين الوضعية أحسن مما أنزل الله في كتابه.

يوسف: أنا أتراجع عن كونه في ثلاثة أشخاص، بل إن الآيات الثلاث يمكن أن تكون في الأول الجاحد، فهو كافر وفاسق وظالم.

أحمد: وكيف تفسر الفسق والظلم في الآيتين الأُخْرَيَـيْـن.

وليد: يمكن نقول إن من لم يطبق الشرع فهو إِمَّا أن يكون جاحدا مكذبا، فيكون كافرا كفرا ناقلا عن ملة الإسلام، فيكون الكفر فيه تاما، وأما أن كان مصدقا بالشـرع معتقدا أنه هو الأصلح، ولكن غلبته دنياه وشهوته، فهو كافر كفر النعمة، وهذا لا ينقل عن ملة الإسلام، بل هو مسلم عاص من أصحاب الكبائر، كقوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) سورة النحل: جزء الآية 112، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- سِباب المؤمن فسوق وقتاله كفر، فهو ليس كفر الرِّدة ما لم يستحِلّ الدم المعصوم، وقال الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) سورة الحجرات: جزء الآية: 9، فحُملت كلمة كفر في الحديث على كفر النعمة، وكذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في طِباع النساء: وتكفرن العشير، مع أن ذلك الكفر من المرأة لا ينقل عن الملة بالإجماع، وهي مسْلِمَة ثابتة الإسلام قطعا.

أحمد: وماذا عن قوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسِقُون)، فهل يمكن أن نَصِف من يكذب بالشريعة، ويعتقد أنها غير صالحة أنه فاسق، مع أن المعروف أن كلمة فاسق تستخدم مع المسلم العاصي، فيقال فلان فاسق، وفعله فسق أي ليس كفرا.

وليد: هذا الاستخدام للفسق أصبح اصطلاحا متأخرا، كقول العلماء أن منكر الإجماع فاسق وذلك مقابل للكفر، وهذا استعمال اصطلاحي متأخر عن القرآن، ومن ثَم لا يحمل القرآن عليه، ألم تسمع قوله تعالى في الشيطان: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الكهف: جزء الآية 50، وكلنا يعلم أن إبليس جحد واستكبر على الأمر الإلهي، ومع ذلك وصفه الله تعالى بأنه فَسَق عن أمر ربه، ومن ثم هو فاسق مع كفره ووصفه في بالفسق لا ينافي كفره، ومن ثم لنا أن نصف الجاحد للشريعة والمسفِّه لها بأنه فاسق، وسلَفُه في هذا أفسق الفاسقين إبليس.

يوسف: وماذا عن قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) فكيف يمكن أن يوصف الجاحد والمكذب بأنه ظالم.

وليد: أليس الشرك بالله تعالى تكذيب وجحود، ومع ذلك وصفه الله تعالى بأنه ظلم عظيم، قال تعالى:(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) سورة لقمان، الآية(13).

يوسف وأحمد: واضح أن الآيات الكريمة وصفت من كفر بالله تعالى بأنه: كافر، وظالم، وفاسق، وأنّ هذه الأوصاف يمكن أن يوصف بها من حكم بغير ما أنزل الله تعالى جاحدا ومعاندا، ويكون وصف الكفر فيه تاما، أما غير المعاند وأقر بأن شرع الله هو الحق فيكون كافرا كفر نعمة، لا كفرا يخرجه من الملة، بل ويبقى على إسلامه، وأن مدار الكفر المخرِج من الملة يكون على معاندة القلب للشرع ولو لم يحكم فعلا بما أنزل الله، وأما إن أقرَّ بالشـرع المنزل من عند الله أنه هو الأحسن، وحكم بغير ما أنزل الله تعالى لشهوة أو دنيا، فيكون كافرا بنعمة الله تعالى عليه، وتنطبق عليه الآيات الثلاث، ولكن أوصاف الكفر والظلم والفسق لا تكون فيه أوصافا تامة، ويكون عاصيا لله تعالى، ومرتكبا لكبيرة من الكبائر في حال الاختيار، وعدم الإكراه والخوف.

يوسف: نتداول أحيانا أن هناك فرقا بين أن يترك الحاكم حكما واحدا من أحكام الشـرع، أو أن يترك كثيرا من الأحكام، فهل لهذا التفريق أثر في الحكم الشرعي فيمن يطبق القانون الوضعي على التفصيل الذي مرَّ سابقا.

وليد: في الحقيقة إذا اعتبرنا الأمر معصية على التفصيل السابق، وهو عدم الاستحلال الشـرعي، فإنه مهما كثرت المعاصي والكبائر، فهي لا تخرج صاحبها من الدين، وأما إذا كان التطبيق جحودا للشرع، وعنادا واعتقاد أن شرع غير الله خير من شرع الله أو يساويه، فهو وإن كان في حكم واحد، فإنه أتى بما يضاد الإيمان، وهو تكذيب الله ورسوله في ذلك الحكم، وهذا يعني أن موافقته في كل الأحكام كانت بناء على مرجعية الإنسان وقناعته، فهو وافق الشـرع لموافقة الشـرع هواه، وليس اتباعا، ولو كان اتباعا لاتبع في الإيمان كل الأحكام، ولكنه جعل نفسه مرجعا للحكم على الله ورسوله، وربما يوافق الدين في بعض الأحيان هوى الإنسان، وعليه فإن المعيار موضوعي لا كمِّي.

أحمد: وبناء على أن التحليل الذي يخرج من الملة هو تحليل الحرام شرعا، فهذا يعني أن من أفتى بجواز الربا، يكون كافرا لأن تحليله هذا أمر شرعي وليس قانونيا، فقد حرم الحلال شرعا!

وليد: للأمانة العلمية لم يقل واحد من علماء المسلمين أن الربا حلال، بل هو مُسلِّم بأن الربا حرام بنص الكتاب، ولكن كان قوله مؤسسا على سؤال: هل الفائدة البنكية اليوم هي من الربا المحرم أم لا؟، فهو يعتقد بأن الربا محرم، ولكن هذا الحكم لا يتنزَّل على الفائدة البنكية في العصر الحاضر، لأن بعضهم اعتبرها من باب المضاربة، يعني أنه أخطأ في تنزيل حكم المضاربة على الفائدة، وكان الحق أن ينزل حكم الربا، فهو خطأ في تنزيل الحكم وتأويله في الواقع لا جحودا للحكم الشرعي بأن الربا حرام، يعني أنه أخطأ في تحقيق مناط الحكم، وليس جاحدا للحكم الشـرعي الأصلي، وهذا كله يدعونا للتأنـِّي وعدم الاستعجال، في الحكم، ولا بد من تركِ الحكم بالتكفير للجهات المختصة والقضائية، وليس للأفراد غير المؤهلين، ولاحِظا أخَوَيَّ العزيزين حجم المراجعات التي تمت في هذه المحاورة التي سعدت بها معكما، وكانت هذه التراجعات بسبب الحوار العلمي الفقهي والأصولي، وحدث الخطأ بسبب الاقتصار على مشرب واحد في الأخذ والتعلم ، دون الإطلال من شرفة عالية على الفقه الإسلامي وأصوله في دلالات النصوص، وآليات تنزيلها على الواقع المعاصر.

أحمد ويوسف: حقا علم الدلالة في علم أصول الفقه، من أروع العلوم، وفيه منهجية علمية دقيقة، قادرة على قطع النزاع، وردم فجوة الخلاف بين المسلمين، ولو أننا فعَّلنا علم الدلالة في فهم النصوص الشرعية لزال الخلاف الذي يَـضُرُّ بوحدة المسلمين وجماعتهم، وهذا يؤكد على أن النظر في النصوص الشرعية هو من اختصاص المجتهدين، وليس من شؤون العامة.

وليد: بعد أن انتهينا من من عرض قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)، أتدرون من هم الذين قالوا إن الآية على ظاهرها كما زعمتم في بداية الحوار؟

يوسف وأحمد: من هم الذين قالوا بأن الآية على ظاهرها؟

وليد: الذين قالوا بأن الآية على ظاهرها هم الخوارج!، كفَّروا المسلمين بظاهر الآية، واستباحوا دماءهم، أما منهج أهل السنة فهو ما عرضناه في الحوار، وهو منهج يجمع الأدلة ويضع كل دليل في موضعه.

يوسف وأحمد: بصراحة، لم نكن نعلم أن التفسير الذي قدمناه هو تفسير الخوارج، وأنه قد يؤدي إلى النتائج التي أوصلت الخوراج إلى ما هم عليه من الضلال واستباحة الدماء، ولكن ما ذنبنا نحن إذا لم يكن هناك تعليم لمثل هذه القضايا الحيوية في مساجد المسلمين، هل نحن الوحيدون المسؤولون عن الوقوع في مثل هذا الأخطاء بل الخطايا؟! أين دور العلماء؟!

وليد: ما أوقعكما في الخطأ أنكما تأخذان الشرع من اتجاه واحد، اقتنعتم بأنه هو الصواب، ولم تُـوَسِّعا أفُقَكما بالنظر في المدراس الفقهية والأصولية المعتبرة، ولم تَذْكُرا شيئا مما قاله أهل السنة والجماعة في المذاهب الأربعة المعتبرة في أمر الكفر والردة، حتى وقعتما -مع الأسف- ومن حيث لا تدرون في فهم الخوراج لآية من كتاب الله تعالى، لأنكما بعيدان عن المنهج الأصولي عند أهل السنة والجماعة في الفهم.

يوسف وأحمد: وهل يعني ذلك أن الكفر يكون مقتصرا فقط على الاعتقاد فقط، فلا يوجد عمل كفر أبدا.

وليد: يوجد هناك أعمال تكون كفرا، وذلك كشتم الله ورسوله والسجود للصنم، وإلقاء المصحف في النجاسة، اختيارا من غير إكراه، ولكن نلاحظ أن هذه الأعمال دالة دلالة قطعية على اعتقاد الفاعل الكفر، يعني ذلك أن هناك أعمال تكون كفرا لمضادتها الإيمان، ولا تجتمع مع الإيمان بتاتا، وفي النهاية نجد أن مردها جميعا إلى تكذيب الله ورسوله.

توضيحات:

1-اللزوم العقلي: وهو ما يثبت بدلالة العقل، مثل: س+1= 2، هذا يلزم منه أن س=1، وكلزوم أن الكل أكبر من الجزء، وأن الأب أكبر من ابنه، فهذه دلالات عقلية يستفاد لزومها من العقل.

2-اللزوم العادي: وهو ما يعرف بالعادة، حيث حكمَت بأن الغراب دائما أسود، ولم نجد غرابا أبيض، مع أن العقل يمكن أن يتصور غرابا أبيض، فكل غراب أسود صحيح تحكم به العادة، ولكن العقل يجيز أن يكون الغراب أبيض، وأن يتخيل غرابا أبيض.

3-تحقيق المناط: هو تعيين محل الحكم، فالحكم الشرعي بحرمة الربا ثابت وقطعي، وتحقيق المناط هو تنزيل الحكم على الواقع، فتحقيق المناط لا يبحث في الحكم وأدلته، ولكنه يتأكد من أن الوصف في الواقع يصلح لتنزيل الحكم الشرعي، فالزكاة للفقير حكم شرعي، ولكن هل خالد فقير فيعطى، أو غني فلا يعطى؟ فهذا مثال على تحقق المناط.

ويمكن أن يُشبه تحقيق المناط بقيادة الطائرة التي هي الحكم الشرعي، والطيار هو الفقيه، والواقع هو مدرج الطائرة، وبرج المراقبة هو جهة الخبرة التي تساعد الطيار على الهبوط الآمن والصحيح بالحكم الشرعي على محلِّه المناسب، فلا يلتبس الطريق السريع بمَدرَج الطائرة، ويتضح من ذلك أهمية الخبرة الاقتصادية والطبية والهندسية اليوم وغيرها من فروع العلوم، التي تساعد في تنزيل الحكم الشرعي في محله الصحيح على أرض الواقع.

وكتبه الفقير إلى عفو ربه

د. وليد مصطفى شاويش (غفر الله له ولوالديه)

حوار مع أخي الحلقة (طعام العزاء) الغلو في البدعة وإقحامها على العادات

 بالرغم من جهود الفقهاء والأصوليين في تحديد البدعة في الدين، وبيان ملامحها وسماتها، إلا أن الحكم بالبدعة في بعض الأحيان يكون في غير محله من قبل بعض الدعاة والمصلحين، وحدث أن توفي شخص عزيز عَليّ في يوم ثلج أغلقت فيه الشوارع، وتم نقل المتوفى -رحمه الله- للصلاة عليه في المسجد بواسطة عربة الدفاع المدني، وتعذر على بعض المحبين له حضور الدفن والصلاة بسبب الطرق المغلقة بالثلج، ولكن تيسر لي اقتحام الثلوج في اليوم التالي والذهاب إلى بيت العزاء، وكالعادة تثار مسائل بيت العزاء وإطعام المعزين من الناحية الشرعية، لاسيما وأن هناك من أهل العلم والصلاح من يقول بأن هذا بدعة في الدين، وفي هذا الموضوع جرى الحوار الآتي بيني وبين الأخ جميل وهو أحد طلابي الذين أكن لهم الاحترام والتقدير:

وليد: ما حكم صنع أهل الميت الطعام للمعزين؟

جميل: حرام، وهو بدعة في دين الله تعالى، والمفروض أن الناس هم الذين يعملون الطعام، لحديث عبد الله بن جعفر – رضي الله عنه – قال: «لمَّا جاء نعيُ جعفر قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم-: اصنعوا لأهل جعفر طعاماً، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم» . أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

وليد: نعم الحديث حسن صحيح، ويحتج به شرعا، ولكن ماذا لو أن الناس لم يصعنوا طعاما لعذر الثلج السابق ذِكْره أو لغير عذر، وقد حضر عدد من الناس مقتحمين الثلوج والظروف القاهرة، لإكرام المتوفى بالصلاة عليه ودفنه، ثم عادوا من المقبرة، وقت الظهر وهم في بيتك، وحان وقت الغداء، هل تكرم الذين ضحوا من أجل المشاركة في الجنازة؟

جميل: صنع الطعام مخالف للسنة.

وليد: نتفق جميعا أن السّنة أن يصنع الناس الطعام لأهل الميت، فإن ترك الناس السنة لعذر أو لغير عذر، فهل السنة أن يترك الضيوف بلا طعام وهم عندك في بيتك من الصباح إلى الليل! ونقول هذه هي السنة النبوية!!! وتذكر أن محل البحث هو حيث لم يقم الناس بإعداد طعام لأهل الميت، ولم يعد أهل الميت الطعام للمفاخرة بل لإكرام الضيف، فهل يمكن تقديم الطعام لهم على أنهم ضيوف، بناء على أصل إكرام الضيف شرعا.

جميل: بصراحة حديث جرير رضي الله عنه واضح في أن صنع أهل الميت الطعام من النياحة المحرمة، عن جرير بن عبد الله البَجَلي، قال: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعة الطعام من النياحة»، وهذا نص شرعي، ولا اجتهاد في مورد النص.

وليد: ليس الاجتهاد والحوار في النص، بل في تنزيله على الواقعة التي نبحثها، وسآتي لك بحديث آخر بصيغة قريبة، ونرى كيف ستتعامل معه، وهو حديث في صحيح مسلم، عن عبد الله : قال: «من سرَّه أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن … ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف»، وأنت تعلم يا أخ جميل أن المنافق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فكما طبقت حديث جرير في طعام الميت: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعة الطعام من النياحة»، طـبّـِق هذا الحديث تماما بالطريقة نفسها، كيف يكون الأمر؟

جميل: يعني ذلك أن كل من يتخلف عن صلاة الجماعة اليوم هو منافق معلوم النفاق، والنفاق في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، هو إبطان الكفر، وهذا لا يمكن أن يكون في حال من يترك الجماعة اليوم، لأنه مسلم باتفاق وقد يكون عاصيا، وقد كان التخلف عن صلاة الجماعة هو نفاق عقيدة في عرف الصحابة رضي الله عنهم.

وليد: لم لا تَعُدّ يا أخ جميل أن صنع الطعام في حديث جرير كان من النياحة في عرف الصحابة رضي الله عنهم كما فعلتَ في عرفهم في النفاق، لاسيما وأن هذا كان يُعمل تقليدا لأعراف الجاهلية القريبة العهد من الصحابة، فأنكروها لهذا السبب، وهي أن العرف يَعُدُّها من النياحة، كما أن عرف الصحابة -رضي الله عنهم- يَعُد التخلف عن الجماعة من النفاق، وكما أنك لم تطبق عرف الصحابة في التخلف عن صلاة الجماعة، فلا تطبِّـقْه أيضا على صُنع الطعام في العزاء!.

جميل: إذن حديث جرير يكون في وصف الطعام للميت على أنه تقليد جاهلي، ومن فعله على أنه كذلك يكون من النياحة من هذا الباب، وليس صنع الطعام مطلقا في العزاء من النياحة، بل بقيد أنه تقليد جاهلي.

وليد: لاحظ أخي جميل أن وصف جرير -رضي الله عنه: «كُـنـّـا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعة الطعام من النياحة»، هل قَـيَّد صَنْعة الطعام من أهل الميت أو غيرهم؟

جميل: لا.

وليد: يعني حتى لو صنعه غيرهم يكون أيضا من الجاهلية بناء على عموم رواية جرير، هذا يعني أنه لم يفصل بين أن يصنعه أهل الميت أو غيرهم، وهذا يؤكد على أن جرير رضي الله عنه يتحدث عن عرف جاهلي في وقتهم، لا ينطبق بحال على واقعنا اليوم، وهو أن يعمل الطعام لمن جاءك من بعيد ليعزيك ويقوم بواجب الشرع، فهل يعقل أن يجلس عندك وقت الغداء ولا تقدم له شيئا بحجة أن إطعام المعزين عرف جاهلي!!! مع أن عُرْفنا اليوم لا علاقة له بالعرف الجاهلي، وما يحدث في الواقع أن أهل الميت يقدمون الطعام بنية إكرام الضيف التي هي من الإيمان، فهل نترك إكرام الضيف وهو أصل شرعي كُلِّفنا به، بحجة تقليدٍ جاهليّ بائد، أليس ترك إطعام الضيف إلغاء لأصل شرعي؟! وأن ضيافته بالطعام هي أصل شرعي وليست بدعة.

جميل: تقييد حديث جرير -رضي الله عنه- بالعرف الجاهلي قويّ، وهذا العرف ليس موجودا الآن، لاسيما أن حديث جرير عام في صنع الطعام، سواء من أهل الميت أم من غيرهم، ويبقى عامًّا في كل ما هو تقليد جاهلي صنَعه أهل الميت أم غيرهم، ويكون الحديث الذي حثّ على صُنع الطعام لآل جعفر -رضي الله عنهم، في غير ما هو تقليد للجاهلية، وبناء عليه يكون صنع أهل الميت الطعام مسكوت عنه في هذه النصوص، ولم يتكلم فيه بخصوصه.

وليد: هذا صحيح والله أعلم، فيبقى على الأصل.

جميل: هل هناك أدلة أخرى يمكن أن تؤيد به أصل الضيافة في الطعام الذي يصنع في العزاء؟

وليد: نعم، يمكن تأكيد ذلك بفعل السلف، في جواز صنع أهل الميت الطعام للحاضرين في العزاء، وأنه باق على أصل سنة الضيافة الشـرعية، وليس كل طعام بدعة، وأن الضيافة لا تتعارض مع حديث جرير رضي الله عنه على فرض ثبوته، وذلك فيما جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النساء، ثم تفرَّقْن إلا أهلُها وخاصتُها، أمرَت بِـبُـرْمة من تَلْبينة فطُبِخت، ثم صُنع ثريد فصبَّت التلبينة عليها، ثم قالت: كُلْنَ منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التَّلْبينة مَـجَمَّة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن)، فهذا يقيد حديث جرير الذي يفيد بمنع صنع الطعام مطلقا، وأنه من النياحة، فإذا جاز صنع الطعام من أهل الميت لأقاربهم وخاصتهم، فهل هناك ما يمنع صناعة الطعام للحاضرين من الضيوف إن كانوا من غير الأقارب، يعني أن يأكل الأقارب والأهل، ولا يأكل غيرهم لأنه عندئذ يكون بدعة وضلالة!!! ويلغى أصل إطعام الضيف الذي هو سنة، وبما أن من علامات البدعة أنه تحل محل السنة، يكون منع الضيافة واعتبار ذلك قربة، بدعة مذمومة تخالف النص وفعل السلف ممثلا في فعل عائشة رضي الله عنها، وأن إطلاق البدعة على فعل من أفعال السلف هو تشكيك في مرجعية السلف الصالح لهذه الأمة.

جميل: ولكن يمكن أن نقول أنه يجوز الإطعام للضرورة، في هذه الحالة.

وليد: حيث قلتَ يجوز للضرورة، فهذا يعني أنه حرام أصلا، وجاز للضـرورة لظرف طاريء، فهل إكرام الضيف جائز للضرورة خوفا من هلاكه، أم أن إكرام الضيف باقٍ على أصل شرعي وهو أنه سنة.

جميل: بل هو باق على أصل شرعي، وهو أنه سنة، ولكن لم لا نقول: إن صنع الطعام بدعة، وجاز للضرورة!

وليد: وهل تجوز البدعة للضروة يا أخ جميل؟!، أليست البدعة إدخالاً على الدين ما ليس منه، فهل لدينا نقص في الدين حتى نجيز إكماله للضرورة، والله تعالى يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) سورة المائدة، جزء الآية 3، فمن يضيف بدعة فإنه يتهم الشـريعة بالنقص، ولا تنسَ أن حَدَّ الضرورة له معيار شرعي، وهو خوف تلف النفس أو المال، والضيوف في العزاء لا يهلكون لو منعتهم حقهم الشرعي من الضيافة، بل يخرجون ويأكلون في بيوتهم أو في المطعم، وأين الضرورة في ذلك؟!.

جميل: أظن أن الإشكال هو في عدم توجيه الأدلة إلى محالِّـهـا الصحيحة، فحديث جرير صحيح، وكذلك أحاديث إكرام الضيف، وحديث صنع الطعام لآل جعفر، فربما تحشد أدلة كثيرة ولكن لا يتم تنزيل كل دليل في محله الصحيح شرعا.

وليد: علينا أن نحدد طبيعة المسألة أولا، فالعادات لا تدخلها البِدَع أصلا، لأن أعراف الناس وعاداتهم في صناعتهم وزواجهم، وعزائهم مُـحكَّمة، بشرط أن لا تخالف الشرع، فعلينا أن نبحث في الأصل، فإذا كان الأصل في العادات أنها مقبولة إلا ما حرمه الشرع، فتبقى عادة العزاء وطريقته مشروعة حتى يثبت من الشرع ما يحرم، فهناك الكثير من العادات اليوم في طريقة الزواج والضيافة لم تكن موجودة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فهي باقية على أصل الإباحة، وإكرام الضيف في العزاء على أصل سنة الإكرام، وعليه؛ فإن إطعام الضيف في العزاء له شاهدان من الشرع، شاهد من جهة أن إكرام الضيف سُنة، وشاهد من جهة أن الأصل في العادات الإباحة، وحديث جرير لا يصح تطبيقه على إطعام الضيوف في العزاء لأنه عرف جاهلي في زمن مضى، ولا يجوز أن يلغي سنة إكرام الضيف غير المحددة بزمان ومكان، ولا يلغي أصلا من أصول الشريعة، وهو أن الأصل في عادات الناس الإباحة ما لم تخالف الشرع.

جميل: بقي أن يقال شيء وهو أن أهل الميت مشغولون بمصابهم، وليس من الحكمة أن يصنعوا الطعام، وقد يكون صنع الطعام من أموال القاصرين.

وليد: هذا الأمر حق أهل الميت، وكان الأولى أن يقوم به غيرهم بالواجب العرفي وهو صنع الطعام، وعدم صنع الطعام من غير أهل المصاب مكروه شرعا لأنه مخالف للسنة، أما إذا كان من أموال القاصرين، فهو أكل لأموالهم بالباطل، ويغرم الأعمام على فرض أنهم أنفقوا على طعام أخيهم المتوفى من تركة أطفاله، أو كانت عليه ديون، فهو إكرام من جيوب الغير، وليس كرما، ولكنه اعتداء على أموال اليتامى والدائنين، وليس من الحكمة أن يحمِّل أهل الميت أنفسهم ما لا يطيقون من تكاليف العزاء، فالأمر راجع إلى الرشد المالي وحسن التصرف وليس إلى البدعة.

ملاحظة: اقتصرت في هذه المقالة على الحديث عن طعام العزاء من جهة البدعة فقط، أما التبذير أو المفاخرة في طعام العزاء، أو أن يكون من أموال اليتامى، فهذا يكون محرما لسبب خارج عن البدعة، وأوصي أهل العزاء أن لا يتحملوا ما يرهقهم ماليا في نققات ليست لها هذه الأولوية، ولا يكون الطعام الذي يصنعه أهل الميت إلى حياء من الناس، لذلك لا بد من تغيير بعض الأعراف المرهقة لأهل المتوفى، والله أعلم.