وقال: "فيه التبرك بآثار الصالحين، واستعمال فضل طهورهم، وطعامهم، وشرابهم، ولباسهم"اهـ (المنهاج 4/219)
قال الله تعالى :{{ قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }} [يوسف الآية: 108].
وقال: "فيه التبرك بآثار الصالحين، واستعمال فضل طهورهم، وطعامهم، وشرابهم، ولباسهم"اهـ (المنهاج 4/219)
كثر الحديث في مجال الفتوى عن حكم الاختلاط، وأصبح الحديث عن حكم الاختلاط والاختلاف فيه جزءا من ثقافة المجتمع المسلم، ويغلب على الحديث في هذا المجال صفة العمومية، وعدم التحقيق في المصطلح نفسه، الذي يجب أن يحدد بدقة، ثم بعد ذلك يتم بيان الحكم الشرعي له، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
أولا: المصطلح عَسِير على الضبط:
إن المصطلح غير منضبط، ولم تقدَّم تعريفات واضحة له قبل الخوض في حكمه، بل إن التعريفات التي طرحت أحيانا كانت تزيده غموضا وتخلطه مع حكم الخلوة المحرمة، ذلك لأن المفاهيم العامة التي لها تطبيقاتها المختلفة منها ما يجوز ومنها ما لا يجوز، لا يمكن إعطاؤها حكما واحدا، لأنها أصلا أحكامها مختلفة، والحكم الواحد عليها جميعا فيه مجازفة، وعدمُ مراعاة لمنهجية الفقه الإسلامي الذي يتعلق بتصرفات العباد وأفعالهم، لا بالعناوين الإجمالية غير المحددة، وتشتمل على صورة متعددة بعضها يجوز وبعضها لا يجوز.
ثانيا: تناول الفقهاء لموضوع الاختلاط:
بما أن طبيعة الفقه الإسلامي هي الأحكام المتعلقة بالأفعال، فإنه لا بد من توضيح الفعل أولا، ثم يأتي البيان الشافي للسائل، فيبين الفقهاء حكم شراء المرأة من الرجل، وارتياد السوق، والخلوة المحرمة بالأجنبية، ونظر للقاضي للمرأة بوصفها شاهدا أو متهما الخ، يعني أنهم يتناولون الجزئيات والأفعال كل فعل على حِدة، دون الدخول في عمومات فكرية تُشْكِل فيما بعد على المجتمع، وتضعه في تجاذبات ليست في محلها، وتتحول القضية من حكم شرعي في مسألة جزئية، إلى جدليات وإشكاليات تشوه ثقافة المجتمع المسلم.
ثالثا: تصحيح السؤال:
وبما أن هذا السؤال ليس في محله، لا بد من تصحيح السؤال من قِبــَل العالم، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله يا رسول الله ما يلبَس المُحرِم؟ فأجاب النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرجل عمّا لا يلبس المحرم وصحح السؤال، فقال: لا يلبس القمُص ولا …، لأن الأصل في اللباس الإباحة، وتعداد المباح لا ينتهي لكثرته، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: لا يلبَس، لأن الممنوع من اللباس محدود، ومثل ذلك ماذا يحل من الطعام؟ فالجواب الصحيح: يحرم من الطعام كذا وكذا …، وماذا يحل للرجل من زوجته؟ يُصحَّح: يحرم عليه منها كذا وكذا وكذا؛ لأن الأصل الحل وهو عسير على الحَدِّ والعَدِّ، ومثل ذلك يقال: ماذا يحل للطبيب من نظر المرأة للعلاج، لأن الأصل التحريم والحِلُّ استثناء، ولا يقال ماذا يحرم على الطبيب من نظر المرأة للعلاج؛ لأن التحريم هو الأصل، وهو كل شيء ما عدا ما استثناه الشارع لضرروة العلاج، فمِن واجب الفقيه تصحيح أسئلة المجتمع، والتحذير من الانجرار وراء مصطلحات هلامية لا تُدرَى حدودها ولا معانيها على وجه يرفع الغموض، وتؤدي إلى صراع لا طائل تحته في الثقافة العامة للمجتمع.
وكتبه وليد شاويش
حديثي اليوم مع أخوين عزيزين، الأخ أحمد، والأخ يوسف، أما أحمد فهو شخص قليل الكلام، يُـعِدُّ حديثه مسبقا، في أوراق يكتبها، أما يوسف فهو لا يهاب، ويحب الحقيقة أشد من حبه للحياة، وهو يرغب في الحق لا شيء غير الحق، وكلاهما له اطلاع على أقوال العلماء في موضوع الحوار، وجرى الحوار الآتي:
بعد الترحيب والمصافحة
وليد: ما حكم تطبيق قانون يبيح الخمر؟
أحمد، يوسف: طبعا كفر بالله تعالى، وهذا لا يحتاج إلى نقاش.
وليد: مرجعيتنا الكتاب والسنة، ما الدليل على ذلك من كتاب الله تعالى؟
أحمد، يوسف: بصوت متقارب، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
وليد: هل الآية مُحْكمة على ظاهرها في كل من يحكم، أم فيها تأويل وتخصيص؟
أحمد: الآية محكمة وعلى ظاهرها، فكل من لم يحكم بغير ما أنزل الله، وحكَّم غير شريعة الإسلام، فهو كافر كفرا يخرجه من ملَّة الإسلام.
وليد: هل الآية عامة في كل من يحكم بما أنزل الله، وفي جميع ما أنزل الله.
أحمد: نعم.
وليد: نعلم أن لفظ “من” و”ما” من ألفاظ العموم، فيصبح المعنى: كل من لم يحكم بكل ما أنزل الله فهو كافر.
أحمد: نعم هذا صحيح، فالآية عامة في كل فرد ، وفي تطبيق كل ما أنزل الله تعالى.
وليد: هل حكَم إبراهيم عليه السلام بكل ما أنزل الله في القرآن والتوراة والإنجيل، وهل حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بكل ما جاء في الكتب السابقة؟
أحمد: لا.
وليد: لو أنك جريت على العموم في الآية لكان القول قبيحا، لأنه يزعم أن الأنبياء لم يحكموا بما أنزل الله، وهو معنى غير مراد قطعا، ومن ثم هذا النص عام مخصوص.
أحمد: أرجو توضيح أن الآية من العام المخصوص.
وليد: ماذا لو أن قاضيا شرعيا، تقاضى رشوة ليحكم بحكم خلاف الشرع لأحد الخصوم بعدم طلاق زوجته، وخلاف قانون الأحوال الشخصية المأخوذ من الشريعة، مع اعتقاده أن الشرع هو الطلاق، ولكنه حادَ عن الشرع، طمعا في الدنيا الزائلة، فهل يكفر ذلك القاضي المرتشـي إذا حكم بغير ما أنزل الله؟ بناء على ما زعمتما أن الآية محكمة ولا تأويل فيها؟
أحمد: المرتشي ليس كافرا.
يوسف: لا يكفر، لأنه لم يُـشرِّع، فهذا لا يعد كافرا، لأنه ليس مشـرعا ولا مقَــنِّـنا، والآية ليست في كل من يحكم بغير ما أنزل الله، بل إذا كان مشرعا تشريعا عاما للناس، كما تسنه مجالس الشعب والبرلمانات للناس.
وليد: إذن الآية ليست مُـحكَمة، ولكن فيها تأويلا؟ فلم هذا التراجع السـريع؟ ومعنى ذلك أن الرجل الذي ظلم إحدى زوجتيه بالقِسمة، والمدرس الذي نجَّح من يستحق الرسوب، ورسَّب من يستحق النجاح، وإرساء عطاء من قبل إدارةٍ مرتشِية على شركة دفعت رشوة، كل أولئك لا تنطبق عليهم الآية، لأنهم لم يشرِّعوا، وإن حكموا بغير ما أنزل الله تعالى.
أحمد، ويوسف: نعم، فهم وإن حكموا بغير ما أنزل الله تعالى فهم مسلمون عصاة، ولا يكفرون، لأن التكفير يكون باستحلالهم الحرام، وهم لم يستحِلوا الحرام، فالآية فيها تأويل، وليست مُـحْكَمة فِعلا.
وليد: وبناء على ما تقولان، القضية مرتطبة بالتشريع، يعني الأمر أصبح مقتصرا على المشـرِّعين، في مجالس الشعب والبرلمانات.
أحمد: نعم، هم الذين يُـحِلّون الحرام ويحرمون الحلال.
يوسف: الآية تنطبق عليهم فعلا؛ لأنهم يشرعون للناس شرائع بديلة عن الشريعة الإسلامية.
وليد: لنفترض أنني عضو في أحد تلك المجالس التشـريعية، وعُرض قانون للتصويت، وفيه نصوص تجيز إنشاء الخمارات وبيع الخمر، وتفاوضَت حكومة ذلك البلد معي، بأن تعطيني امتيازات، ورشاوي، وفُرَص دنيوية رائعة، وقمت بالتصويت على ذلك القانون، وبناء على قولكما، أكون كافرا لأنني شرعت قانونا يجيز الخمر، فهل هذا صحيح؟
أحمد: بالتأكيد، لأنك هنا في موقف التشريع، وأنت هنا في المثال حلَّلت الخمر، وهي حرام.
يوسف: قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ)، سورة الأنعام، جزء الآية(57) ، ويلزم من تشريع القانون الذي أحلَّ الخمر، أنك تعتقد أنها حلال، ولم تصوِّت على القانون بنعم إلا لأنك تعتقد أنها حلال، فتصويتك بنعم لقانون يجيز الخمارات يلزم منه أن تعتقد أن الخمر حلال.
وليد: بعد أن أصدرتما فتوى بتكفيري على سبيل الافتراض؛ لأنني حكَّمت القوانين الوضعية، اتصلت بكما، وطلبت لقاء للاستفسار عن أمر تلك الفتوى، فقلتما لي أنت حللت ما حرم الله، فقلت لكما أنا لم أنَمْ ليلة، ولم أَسِر خطوة قبل التصويت وبعده إلا وأنا أعتقد أن الخمر عند الله حرام، وشرعه في الأرض وفي السماء أن الخمر حرام.
يوسف وأحمد: يلزم من التصويت وتشريع القانون أنك تعتقد أن الخمر حلال!!!
وليد: هل هو لزوم عقلي أم عادي، يعني يلزم بالعقل أم بالعادة، وكيف يكون اللزوم عاديا أو عقليا، وما حدث في الواقع خلاف ما تتوهمان أنه لازم، فوقوع الاعتقاد مني بتحريم الخمر، مع التصويت على القانون في الواقع دليل على أن مجرد التقنين وإن كان من الكبائر المخالفة للشرع، لا يلزم منه اعتقاد أن الخمر حلال شرعا لا باللزوم العقلي ولا العادي، وذلك لأن المباح بالقانون مختلف عن المباح بالشـرع، والشـرع أعلى وأجل من القانون إن خالف القانونُ الشرع، لأن في الشرع رضى رب العالمين، وفي غيره سخطه وعقوبته.
يوسف وأحمد: إذن نقول: إن الكفر الذي يُـخرج صاحبه من الملة، حسب الآية الكريمة، هو التقنين بشرط اعتقاد أن الحرام حلال، أو أنه أفضل من شرع الله، فهذا هو شرط الكفر المخرِج من الملة.
وليد: يعني أن الكفر المخرج من الملة مشـروط بالحكم بغير ما أنزل الله، إذا حكم القاضي أو قَــنَّــنـَّت مجالس التشريع قوانين تستبدل حكم الشريعة بحكم آخر، وتحلل الحرام وتجعله حلالا شرعا، وتحرم الحلال شرعا، وتعتقد أنه أفضل مما أنزله الله أو مساويا لشرع الله تعالى، بمعنى أن الكفر مشـروط بالحكم مع اعتقاد أن غير شرع الله أفضل.
يوسف: وأي كفر أكبر من هذا!!
أحمد: الكفر واضح كالشمس.
وليد: ماذا لو أن رجلا، ليس في موقع الحكم، وليس قاضيا، ولا عضوا في مجلس الشعب، وليست له أي صلاحية للحكم، ولكنه فيلسوف مجرد مفكِّر، وقال أنا أعتقد أن الشريعة الإسلامية شريعة غير صالحة، والقوانين الوضعية التي تحلل الحرام وتحرم الحلال، هي الأفضل من كل ما جاء به الإسلام، ماذا تقولان في هذا الفيلسوف، فهو ليس حاكما، وقد قال ما قال؟ فهل يكفر أم لا؟ لأنكما قيدتما الآية بقوله تعالى: ومن لم يحكم؟!
يوسف وأحمد: ؟! واللهِ نص الآية : ومن لم يحكم.
وليد: ألا تريان أن الأمر ليس مقتصرا على قوله تعالى: (ومن لم يحكم)، بل مدار الأمر وقرارُه، على الاعتقاد، فهذا الفيلسوف لم يختلف عن مشركي العرب، الذين حكم الإسلام بكفرهم لجحودهم الشريعة المنزلة، وتكذيبهم بها، ومن ثم أجمع العلماء على كفر هذا الفيلسوف، لأن الآية مؤولة ومدارها على الاعتقاد، وأن النصوص الشـرعية التي أثبتت الإسلام لعصاة المسلمين صالحة لصرف الآية عن ظاهرها، وتأويلها بأن الكفر هو في حال الاعتقاد، ويكون حكم الكفر المخرج من الملة مرتبطا بالاعتقاد بعدم صلاحية الشريعة، سواء حكم المعتقد بعدم الصلاحية للشـرع أم لم يحكم، هذا مع العلم بأن الحكم بالتكفير هو حكم شرعي لأهل الاختصاص، وتنفيذ آثاره من اختصاص القضاء وليس الأفراد إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع.
يوسف: تذكرت شيئا، وهو أن هناك أقوالا لكبار العلماء في تفسير هذه الآية وباقي آيات سورة المائدة، بأن قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]، في حالة الجحود، أما قوله تعالى:(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون)، فهذا فيمن لا يعتقد أن شرع غير الله أفضل من شرع الله ولا مثله، ولكنه حكم تسلطا على المظلوم وقهرا له، أما قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون) [المائدة:]، فهذا فيمن إذا حكم بغير ما أنزل الله تعالى، ويعتقد أن شرع الله تعالى أفضل وأصلح، ولكنه حكم به محاباة للمحكوم له لعرض من الدنيا.
وليد: هذا يعني أن هذه الآيات الكريمة لا تجتمع في شخص واحد، بل هي في أشخاص متعددين، فأوَلُّـهم كافر إذا استحل الحرام، والثاني ظالم إذا لَــم يعتقد أن القانون الوضعي أفضل من شرع الله، ولكن قهرا للمظلوم، والثالث فاسق: لأنه حكم بغير الشرع رغبة في الدنيا، مع اعتقاده أن شرع الله أفضل.
أحمد: وأنا أوافق يوسف على ذلك، وقد حفظت ذلك في بدايات دروسنا على الشيوخ.
وليد: إذن، أنتما متفقان على أن هذه الآيات لا تنطبق على شخص واحد، فهي بالقيود التي ذكرتم سابقا لكل آية شخص مخلتف.
يوسف وأحمد: نعم صحيح.
وليد: هل الكافر ظالم؟ بمعنى مَن حكم بغير ما أنزل الله تعالى، وهو يفضل القوانين الوضعية على دين الله تعالى، فهل هو ظالم؟ أليس هذا ظلما، أليس فسقا، يعني خرج عن الشـرع! أم هو عادل وليس فاسقا؟
أحمد: هو ظالم طبعا، لأنه لم يطبق الشرع، بل هو أظلم ممن لم يعتقد أن القانون الوضعي يماثل الشرع!
يوسف: نعم هو ظالم، وفاسق وأي فسق أشد من ذلك؟! بل هو أظلم وأفسَق من الثاني والثالث.
وليد: إذن قد تنطبق الآيات الثلاث جميعا على الأول، فيكون ظالما وفاسقا، بالإضافة إلى أنه كافر إذا كذَّب الله ورسوله وأنكر الشريعة، واعتقد أن القوانين الوضعية أحسن مما أنزل الله في كتابه.
يوسف: أنا أتراجع عن كونه في ثلاثة أشخاص، بل إن الآيات الثلاث يمكن أن تكون في الأول الجاحد، فهو كافر وفاسق وظالم.
أحمد: وكيف تفسر الفسق والظلم في الآيتين الأُخْرَيَـيْـن.
وليد: يمكن نقول إن من لم يطبق الشرع فهو إِمَّا أن يكون جاحدا مكذبا، فيكون كافرا كفرا ناقلا عن ملة الإسلام، فيكون الكفر فيه تاما، وأما أن كان مصدقا بالشـرع معتقدا أنه هو الأصلح، ولكن غلبته دنياه وشهوته، فهو كافر كفر النعمة، وهذا لا ينقل عن ملة الإسلام، بل هو مسلم عاص من أصحاب الكبائر، كقوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) سورة النحل: جزء الآية 112، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- سِباب المؤمن فسوق وقتاله كفر، فهو ليس كفر الرِّدة ما لم يستحِلّ الدم المعصوم، وقال الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) سورة الحجرات: جزء الآية: 9، فحُملت كلمة كفر في الحديث على كفر النعمة، وكذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في طِباع النساء: وتكفرن العشير، مع أن ذلك الكفر من المرأة لا ينقل عن الملة بالإجماع، وهي مسْلِمَة ثابتة الإسلام قطعا.
أحمد: وماذا عن قوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسِقُون)، فهل يمكن أن نَصِف من يكذب بالشريعة، ويعتقد أنها غير صالحة أنه فاسق، مع أن المعروف أن كلمة فاسق تستخدم مع المسلم العاصي، فيقال فلان فاسق، وفعله فسق أي ليس كفرا.
وليد: هذا الاستخدام للفسق أصبح اصطلاحا متأخرا، كقول العلماء أن منكر الإجماع فاسق وذلك مقابل للكفر، وهذا استعمال اصطلاحي متأخر عن القرآن، ومن ثَم لا يحمل القرآن عليه، ألم تسمع قوله تعالى في الشيطان: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الكهف: جزء الآية 50، وكلنا يعلم أن إبليس جحد واستكبر على الأمر الإلهي، ومع ذلك وصفه الله تعالى بأنه فَسَق عن أمر ربه، ومن ثم هو فاسق مع كفره ووصفه في بالفسق لا ينافي كفره، ومن ثم لنا أن نصف الجاحد للشريعة والمسفِّه لها بأنه فاسق، وسلَفُه في هذا أفسق الفاسقين إبليس.
يوسف: وماذا عن قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) فكيف يمكن أن يوصف الجاحد والمكذب بأنه ظالم.
وليد: أليس الشرك بالله تعالى تكذيب وجحود، ومع ذلك وصفه الله تعالى بأنه ظلم عظيم، قال تعالى:(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) سورة لقمان، الآية(13).
يوسف وأحمد: واضح أن الآيات الكريمة وصفت من كفر بالله تعالى بأنه: كافر، وظالم، وفاسق، وأنّ هذه الأوصاف يمكن أن يوصف بها من حكم بغير ما أنزل الله تعالى جاحدا ومعاندا، ويكون وصف الكفر فيه تاما، أما غير المعاند وأقر بأن شرع الله هو الحق فيكون كافرا كفر نعمة، لا كفرا يخرجه من الملة، بل ويبقى على إسلامه، وأن مدار الكفر المخرِج من الملة يكون على معاندة القلب للشرع ولو لم يحكم فعلا بما أنزل الله، وأما إن أقرَّ بالشـرع المنزل من عند الله أنه هو الأحسن، وحكم بغير ما أنزل الله تعالى لشهوة أو دنيا، فيكون كافرا بنعمة الله تعالى عليه، وتنطبق عليه الآيات الثلاث، ولكن أوصاف الكفر والظلم والفسق لا تكون فيه أوصافا تامة، ويكون عاصيا لله تعالى، ومرتكبا لكبيرة من الكبائر في حال الاختيار، وعدم الإكراه والخوف.
يوسف: نتداول أحيانا أن هناك فرقا بين أن يترك الحاكم حكما واحدا من أحكام الشـرع، أو أن يترك كثيرا من الأحكام، فهل لهذا التفريق أثر في الحكم الشرعي فيمن يطبق القانون الوضعي على التفصيل الذي مرَّ سابقا.
وليد: في الحقيقة إذا اعتبرنا الأمر معصية على التفصيل السابق، وهو عدم الاستحلال الشـرعي، فإنه مهما كثرت المعاصي والكبائر، فهي لا تخرج صاحبها من الدين، وأما إذا كان التطبيق جحودا للشرع، وعنادا واعتقاد أن شرع غير الله خير من شرع الله أو يساويه، فهو وإن كان في حكم واحد، فإنه أتى بما يضاد الإيمان، وهو تكذيب الله ورسوله في ذلك الحكم، وهذا يعني أن موافقته في كل الأحكام كانت بناء على مرجعية الإنسان وقناعته، فهو وافق الشـرع لموافقة الشـرع هواه، وليس اتباعا، ولو كان اتباعا لاتبع في الإيمان كل الأحكام، ولكنه جعل نفسه مرجعا للحكم على الله ورسوله، وربما يوافق الدين في بعض الأحيان هوى الإنسان، وعليه فإن المعيار موضوعي لا كمِّي.
أحمد: وبناء على أن التحليل الذي يخرج من الملة هو تحليل الحرام شرعا، فهذا يعني أن من أفتى بجواز الربا، يكون كافرا لأن تحليله هذا أمر شرعي وليس قانونيا، فقد حرم الحلال شرعا!
وليد: للأمانة العلمية لم يقل واحد من علماء المسلمين أن الربا حلال، بل هو مُسلِّم بأن الربا حرام بنص الكتاب، ولكن كان قوله مؤسسا على سؤال: هل الفائدة البنكية اليوم هي من الربا المحرم أم لا؟، فهو يعتقد بأن الربا محرم، ولكن هذا الحكم لا يتنزَّل على الفائدة البنكية في العصر الحاضر، لأن بعضهم اعتبرها من باب المضاربة، يعني أنه أخطأ في تنزيل حكم المضاربة على الفائدة، وكان الحق أن ينزل حكم الربا، فهو خطأ في تنزيل الحكم وتأويله في الواقع لا جحودا للحكم الشرعي بأن الربا حرام، يعني أنه أخطأ في تحقيق مناط الحكم، وليس جاحدا للحكم الشـرعي الأصلي، وهذا كله يدعونا للتأنـِّي وعدم الاستعجال، في الحكم، ولا بد من تركِ الحكم بالتكفير للجهات المختصة والقضائية، وليس للأفراد غير المؤهلين، ولاحِظا أخَوَيَّ العزيزين حجم المراجعات التي تمت في هذه المحاورة التي سعدت بها معكما، وكانت هذه التراجعات بسبب الحوار العلمي الفقهي والأصولي، وحدث الخطأ بسبب الاقتصار على مشرب واحد في الأخذ والتعلم ، دون الإطلال من شرفة عالية على الفقه الإسلامي وأصوله في دلالات النصوص، وآليات تنزيلها على الواقع المعاصر.
أحمد ويوسف: حقا علم الدلالة في علم أصول الفقه، من أروع العلوم، وفيه منهجية علمية دقيقة، قادرة على قطع النزاع، وردم فجوة الخلاف بين المسلمين، ولو أننا فعَّلنا علم الدلالة في فهم النصوص الشرعية لزال الخلاف الذي يَـضُرُّ بوحدة المسلمين وجماعتهم، وهذا يؤكد على أن النظر في النصوص الشرعية هو من اختصاص المجتهدين، وليس من شؤون العامة.
وليد: بعد أن انتهينا من من عرض قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)، أتدرون من هم الذين قالوا إن الآية على ظاهرها كما زعمتم في بداية الحوار؟
يوسف وأحمد: من هم الذين قالوا بأن الآية على ظاهرها؟
وليد: الذين قالوا بأن الآية على ظاهرها هم الخوارج!، كفَّروا المسلمين بظاهر الآية، واستباحوا دماءهم، أما منهج أهل السنة فهو ما عرضناه في الحوار، وهو منهج يجمع الأدلة ويضع كل دليل في موضعه.
يوسف وأحمد: بصراحة، لم نكن نعلم أن التفسير الذي قدمناه هو تفسير الخوارج، وأنه قد يؤدي إلى النتائج التي أوصلت الخوراج إلى ما هم عليه من الضلال واستباحة الدماء، ولكن ما ذنبنا نحن إذا لم يكن هناك تعليم لمثل هذه القضايا الحيوية في مساجد المسلمين، هل نحن الوحيدون المسؤولون عن الوقوع في مثل هذا الأخطاء بل الخطايا؟! أين دور العلماء؟!
وليد: ما أوقعكما في الخطأ أنكما تأخذان الشرع من اتجاه واحد، اقتنعتم بأنه هو الصواب، ولم تُـوَسِّعا أفُقَكما بالنظر في المدراس الفقهية والأصولية المعتبرة، ولم تَذْكُرا شيئا مما قاله أهل السنة والجماعة في المذاهب الأربعة المعتبرة في أمر الكفر والردة، حتى وقعتما -مع الأسف- ومن حيث لا تدرون في فهم الخوراج لآية من كتاب الله تعالى، لأنكما بعيدان عن المنهج الأصولي عند أهل السنة والجماعة في الفهم.
يوسف وأحمد: وهل يعني ذلك أن الكفر يكون مقتصرا فقط على الاعتقاد فقط، فلا يوجد عمل كفر أبدا.
وليد: يوجد هناك أعمال تكون كفرا، وذلك كشتم الله ورسوله والسجود للصنم، وإلقاء المصحف في النجاسة، اختيارا من غير إكراه، ولكن نلاحظ أن هذه الأعمال دالة دلالة قطعية على اعتقاد الفاعل الكفر، يعني ذلك أن هناك أعمال تكون كفرا لمضادتها الإيمان، ولا تجتمع مع الإيمان بتاتا، وفي النهاية نجد أن مردها جميعا إلى تكذيب الله ورسوله.
توضيحات:
1-اللزوم العقلي: وهو ما يثبت بدلالة العقل، مثل: س+1= 2، هذا يلزم منه أن س=1، وكلزوم أن الكل أكبر من الجزء، وأن الأب أكبر من ابنه، فهذه دلالات عقلية يستفاد لزومها من العقل.
2-اللزوم العادي: وهو ما يعرف بالعادة، حيث حكمَت بأن الغراب دائما أسود، ولم نجد غرابا أبيض، مع أن العقل يمكن أن يتصور غرابا أبيض، فكل غراب أسود صحيح تحكم به العادة، ولكن العقل يجيز أن يكون الغراب أبيض، وأن يتخيل غرابا أبيض.
3-تحقيق المناط: هو تعيين محل الحكم، فالحكم الشرعي بحرمة الربا ثابت وقطعي، وتحقيق المناط هو تنزيل الحكم على الواقع، فتحقيق المناط لا يبحث في الحكم وأدلته، ولكنه يتأكد من أن الوصف في الواقع يصلح لتنزيل الحكم الشرعي، فالزكاة للفقير حكم شرعي، ولكن هل خالد فقير فيعطى، أو غني فلا يعطى؟ فهذا مثال على تحقق المناط.
ويمكن أن يُشبه تحقيق المناط بقيادة الطائرة التي هي الحكم الشرعي، والطيار هو الفقيه، والواقع هو مدرج الطائرة، وبرج المراقبة هو جهة الخبرة التي تساعد الطيار على الهبوط الآمن والصحيح بالحكم الشرعي على محلِّه المناسب، فلا يلتبس الطريق السريع بمَدرَج الطائرة، ويتضح من ذلك أهمية الخبرة الاقتصادية والطبية والهندسية اليوم وغيرها من فروع العلوم، التي تساعد في تنزيل الحكم الشرعي في محله الصحيح على أرض الواقع.
وكتبه الفقير إلى عفو ربه
د. وليد مصطفى شاويش (غفر الله له ولوالديه)
بالرغم من جهود الفقهاء والأصوليين في تحديد البدعة في الدين، وبيان ملامحها وسماتها، إلا أن الحكم بالبدعة في بعض الأحيان يكون في غير محله من قبل بعض الدعاة والمصلحين، وحدث أن توفي شخص عزيز عَليّ في يوم ثلج أغلقت فيه الشوارع، وتم نقل المتوفى -رحمه الله- للصلاة عليه في المسجد بواسطة عربة الدفاع المدني، وتعذر على بعض المحبين له حضور الدفن والصلاة بسبب الطرق المغلقة بالثلج، ولكن تيسر لي اقتحام الثلوج في اليوم التالي والذهاب إلى بيت العزاء، وكالعادة تثار مسائل بيت العزاء وإطعام المعزين من الناحية الشرعية، لاسيما وأن هناك من أهل العلم والصلاح من يقول بأن هذا بدعة في الدين، وفي هذا الموضوع جرى الحوار الآتي بيني وبين الأخ جميل وهو أحد طلابي الذين أكن لهم الاحترام والتقدير:
وليد: ما حكم صنع أهل الميت الطعام للمعزين؟
جميل: حرام، وهو بدعة في دين الله تعالى، والمفروض أن الناس هم الذين يعملون الطعام، لحديث عبد الله بن جعفر – رضي الله عنه – قال: «لمَّا جاء نعيُ جعفر قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم-: اصنعوا لأهل جعفر طعاماً، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم» . أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
وليد: نعم الحديث حسن صحيح، ويحتج به شرعا، ولكن ماذا لو أن الناس لم يصعنوا طعاما لعذر الثلج السابق ذِكْره أو لغير عذر، وقد حضر عدد من الناس مقتحمين الثلوج والظروف القاهرة، لإكرام المتوفى بالصلاة عليه ودفنه، ثم عادوا من المقبرة، وقت الظهر وهم في بيتك، وحان وقت الغداء، هل تكرم الذين ضحوا من أجل المشاركة في الجنازة؟
جميل: صنع الطعام مخالف للسنة.
وليد: نتفق جميعا أن السّنة أن يصنع الناس الطعام لأهل الميت، فإن ترك الناس السنة لعذر أو لغير عذر، فهل السنة أن يترك الضيوف بلا طعام وهم عندك في بيتك من الصباح إلى الليل! ونقول هذه هي السنة النبوية!!! وتذكر أن محل البحث هو حيث لم يقم الناس بإعداد طعام لأهل الميت، ولم يعد أهل الميت الطعام للمفاخرة بل لإكرام الضيف، فهل يمكن تقديم الطعام لهم على أنهم ضيوف، بناء على أصل إكرام الضيف شرعا.
جميل: بصراحة حديث جرير رضي الله عنه واضح في أن صنع أهل الميت الطعام من النياحة المحرمة، عن جرير بن عبد الله البَجَلي، قال: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعة الطعام من النياحة»، وهذا نص شرعي، ولا اجتهاد في مورد النص.
وليد: ليس الاجتهاد والحوار في النص، بل في تنزيله على الواقعة التي نبحثها، وسآتي لك بحديث آخر بصيغة قريبة، ونرى كيف ستتعامل معه، وهو حديث في صحيح مسلم، عن عبد الله : قال: «من سرَّه أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن … ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف»، وأنت تعلم يا أخ جميل أن المنافق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فكما طبقت حديث جرير في طعام الميت: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعة الطعام من النياحة»، طـبّـِق هذا الحديث تماما بالطريقة نفسها، كيف يكون الأمر؟
جميل: يعني ذلك أن كل من يتخلف عن صلاة الجماعة اليوم هو منافق معلوم النفاق، والنفاق في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، هو إبطان الكفر، وهذا لا يمكن أن يكون في حال من يترك الجماعة اليوم، لأنه مسلم باتفاق وقد يكون عاصيا، وقد كان التخلف عن صلاة الجماعة هو نفاق عقيدة في عرف الصحابة رضي الله عنهم.
وليد: لم لا تَعُدّ يا أخ جميل أن صنع الطعام في حديث جرير كان من النياحة في عرف الصحابة رضي الله عنهم كما فعلتَ في عرفهم في النفاق، لاسيما وأن هذا كان يُعمل تقليدا لأعراف الجاهلية القريبة العهد من الصحابة، فأنكروها لهذا السبب، وهي أن العرف يَعُدُّها من النياحة، كما أن عرف الصحابة -رضي الله عنهم- يَعُد التخلف عن الجماعة من النفاق، وكما أنك لم تطبق عرف الصحابة في التخلف عن صلاة الجماعة، فلا تطبِّـقْه أيضا على صُنع الطعام في العزاء!.
جميل: إذن حديث جرير يكون في وصف الطعام للميت على أنه تقليد جاهلي، ومن فعله على أنه كذلك يكون من النياحة من هذا الباب، وليس صنع الطعام مطلقا في العزاء من النياحة، بل بقيد أنه تقليد جاهلي.
وليد: لاحظ أخي جميل أن وصف جرير -رضي الله عنه: «كُـنـّـا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعة الطعام من النياحة»، هل قَـيَّد صَنْعة الطعام من أهل الميت أو غيرهم؟
جميل: لا.
وليد: يعني حتى لو صنعه غيرهم يكون أيضا من الجاهلية بناء على عموم رواية جرير، هذا يعني أنه لم يفصل بين أن يصنعه أهل الميت أو غيرهم، وهذا يؤكد على أن جرير رضي الله عنه يتحدث عن عرف جاهلي في وقتهم، لا ينطبق بحال على واقعنا اليوم، وهو أن يعمل الطعام لمن جاءك من بعيد ليعزيك ويقوم بواجب الشرع، فهل يعقل أن يجلس عندك وقت الغداء ولا تقدم له شيئا بحجة أن إطعام المعزين عرف جاهلي!!! مع أن عُرْفنا اليوم لا علاقة له بالعرف الجاهلي، وما يحدث في الواقع أن أهل الميت يقدمون الطعام بنية إكرام الضيف التي هي من الإيمان، فهل نترك إكرام الضيف وهو أصل شرعي كُلِّفنا به، بحجة تقليدٍ جاهليّ بائد، أليس ترك إطعام الضيف إلغاء لأصل شرعي؟! وأن ضيافته بالطعام هي أصل شرعي وليست بدعة.
جميل: تقييد حديث جرير -رضي الله عنه- بالعرف الجاهلي قويّ، وهذا العرف ليس موجودا الآن، لاسيما أن حديث جرير عام في صنع الطعام، سواء من أهل الميت أم من غيرهم، ويبقى عامًّا في كل ما هو تقليد جاهلي صنَعه أهل الميت أم غيرهم، ويكون الحديث الذي حثّ على صُنع الطعام لآل جعفر -رضي الله عنهم، في غير ما هو تقليد للجاهلية، وبناء عليه يكون صنع أهل الميت الطعام مسكوت عنه في هذه النصوص، ولم يتكلم فيه بخصوصه.
وليد: هذا صحيح والله أعلم، فيبقى على الأصل.
جميل: هل هناك أدلة أخرى يمكن أن تؤيد به أصل الضيافة في الطعام الذي يصنع في العزاء؟
وليد: نعم، يمكن تأكيد ذلك بفعل السلف، في جواز صنع أهل الميت الطعام للحاضرين في العزاء، وأنه باق على أصل سنة الضيافة الشـرعية، وليس كل طعام بدعة، وأن الضيافة لا تتعارض مع حديث جرير رضي الله عنه على فرض ثبوته، وذلك فيما جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النساء، ثم تفرَّقْن إلا أهلُها وخاصتُها، أمرَت بِـبُـرْمة من تَلْبينة فطُبِخت، ثم صُنع ثريد فصبَّت التلبينة عليها، ثم قالت: كُلْنَ منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التَّلْبينة مَـجَمَّة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن)، فهذا يقيد حديث جرير الذي يفيد بمنع صنع الطعام مطلقا، وأنه من النياحة، فإذا جاز صنع الطعام من أهل الميت لأقاربهم وخاصتهم، فهل هناك ما يمنع صناعة الطعام للحاضرين من الضيوف إن كانوا من غير الأقارب، يعني أن يأكل الأقارب والأهل، ولا يأكل غيرهم لأنه عندئذ يكون بدعة وضلالة!!! ويلغى أصل إطعام الضيف الذي هو سنة، وبما أن من علامات البدعة أنه تحل محل السنة، يكون منع الضيافة واعتبار ذلك قربة، بدعة مذمومة تخالف النص وفعل السلف ممثلا في فعل عائشة رضي الله عنها، وأن إطلاق البدعة على فعل من أفعال السلف هو تشكيك في مرجعية السلف الصالح لهذه الأمة.
جميل: ولكن يمكن أن نقول أنه يجوز الإطعام للضرورة، في هذه الحالة.
وليد: حيث قلتَ يجوز للضرورة، فهذا يعني أنه حرام أصلا، وجاز للضـرورة لظرف طاريء، فهل إكرام الضيف جائز للضرورة خوفا من هلاكه، أم أن إكرام الضيف باقٍ على أصل شرعي وهو أنه سنة.
جميل: بل هو باق على أصل شرعي، وهو أنه سنة، ولكن لم لا نقول: إن صنع الطعام بدعة، وجاز للضرورة!
وليد: وهل تجوز البدعة للضروة يا أخ جميل؟!، أليست البدعة إدخالاً على الدين ما ليس منه، فهل لدينا نقص في الدين حتى نجيز إكماله للضرورة، والله تعالى يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) سورة المائدة، جزء الآية 3، فمن يضيف بدعة فإنه يتهم الشـريعة بالنقص، ولا تنسَ أن حَدَّ الضرورة له معيار شرعي، وهو خوف تلف النفس أو المال، والضيوف في العزاء لا يهلكون لو منعتهم حقهم الشرعي من الضيافة، بل يخرجون ويأكلون في بيوتهم أو في المطعم، وأين الضرورة في ذلك؟!.
جميل: أظن أن الإشكال هو في عدم توجيه الأدلة إلى محالِّـهـا الصحيحة، فحديث جرير صحيح، وكذلك أحاديث إكرام الضيف، وحديث صنع الطعام لآل جعفر، فربما تحشد أدلة كثيرة ولكن لا يتم تنزيل كل دليل في محله الصحيح شرعا.
وليد: علينا أن نحدد طبيعة المسألة أولا، فالعادات لا تدخلها البِدَع أصلا، لأن أعراف الناس وعاداتهم في صناعتهم وزواجهم، وعزائهم مُـحكَّمة، بشرط أن لا تخالف الشرع، فعلينا أن نبحث في الأصل، فإذا كان الأصل في العادات أنها مقبولة إلا ما حرمه الشرع، فتبقى عادة العزاء وطريقته مشروعة حتى يثبت من الشرع ما يحرم، فهناك الكثير من العادات اليوم في طريقة الزواج والضيافة لم تكن موجودة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فهي باقية على أصل الإباحة، وإكرام الضيف في العزاء على أصل سنة الإكرام، وعليه؛ فإن إطعام الضيف في العزاء له شاهدان من الشرع، شاهد من جهة أن إكرام الضيف سُنة، وشاهد من جهة أن الأصل في العادات الإباحة، وحديث جرير لا يصح تطبيقه على إطعام الضيوف في العزاء لأنه عرف جاهلي في زمن مضى، ولا يجوز أن يلغي سنة إكرام الضيف غير المحددة بزمان ومكان، ولا يلغي أصلا من أصول الشريعة، وهو أن الأصل في عادات الناس الإباحة ما لم تخالف الشرع.
جميل: بقي أن يقال شيء وهو أن أهل الميت مشغولون بمصابهم، وليس من الحكمة أن يصنعوا الطعام، وقد يكون صنع الطعام من أموال القاصرين.
وليد: هذا الأمر حق أهل الميت، وكان الأولى أن يقوم به غيرهم بالواجب العرفي وهو صنع الطعام، وعدم صنع الطعام من غير أهل المصاب مكروه شرعا لأنه مخالف للسنة، أما إذا كان من أموال القاصرين، فهو أكل لأموالهم بالباطل، ويغرم الأعمام على فرض أنهم أنفقوا على طعام أخيهم المتوفى من تركة أطفاله، أو كانت عليه ديون، فهو إكرام من جيوب الغير، وليس كرما، ولكنه اعتداء على أموال اليتامى والدائنين، وليس من الحكمة أن يحمِّل أهل الميت أنفسهم ما لا يطيقون من تكاليف العزاء، فالأمر راجع إلى الرشد المالي وحسن التصرف وليس إلى البدعة.
ملاحظة: اقتصرت في هذه المقالة على الحديث عن طعام العزاء من جهة البدعة فقط، أما التبذير أو المفاخرة في طعام العزاء، أو أن يكون من أموال اليتامى، فهذا يكون محرما لسبب خارج عن البدعة، وأوصي أهل العزاء أن لا يتحملوا ما يرهقهم ماليا في نققات ليست لها هذه الأولوية، ولا يكون الطعام الذي يصنعه أهل الميت إلى حياء من الناس، لذلك لا بد من تغيير بعض الأعراف المرهقة لأهل المتوفى، والله أعلم.