بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله ربّ العالمين ، وصلاة الله
وسلامه على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين
.
أما بعد :
فقد قال أحد وزراء الألمان السابقين :
إكذب إكذب حتى يصدّقك الناس !
أي : ردّد القول ، حتى تحصل على قناعة
الناس بقولك ، حتى ولو لم يكن قولك صادقاً !
فكثرة ترداد القول قد يؤدي إلى إثبات ،
وتصديق ذلك ، عند مَن لا علم له في المسألة التي يدور حولها ذلك القول !
ومن هذا الباب ، في موضوع العقيدة – ولاسيما باب الأسماء
والصفات ، هناك أصول – لا
خلاف فيها – وفروع وقع فيها الخلاف بين السلف الصالح .
فهناك – من الخلف – مَن إختار ، وآمن بوجهة واحدة في هذه المسألة ،
فتراه يردّد دائما ويقول: هذا ما عليه السلف الصالح ! هذه عقيدة السلف الصالح ! هذا رأي السلف الصالح
في هذه المسألة !
أي : إن السـلف الصـالح ، من الأئمة
الأعلام ، كانوا على رأي واحد ، ويقولون بقوله الذي يتبنّاه !
ويردّد هذا الإدّعاء باستمرار ، حتى صنع
بادّعائه هذا ، قناعة - عند الكثير - بوجهة نظره !
ويخوض من أجل ذلك حرباً شعواء ، حرباً لا رحمة فيها ، ولا إنصاف ، ضد
كل مَن لا يقول بقوله ، ولا يذهب مذهبه .
وكثير من المسلمين لا يعرفون حقيقة هذه المسألة ، فتراهم ساكتين ، بل
ربّما كانوا من المعجبين !
فهل قولهم ، وآراؤهم هذه صحيحة ؟ !
وهل السلف الصالح جميعهم كانوا على رأي واحد في تلك المسألة ؟
هذا ما نحاول – بإذن الله تعالى – أن نبيّنه هنا ، ليحيى مَن حيّ على
بيّنة ، ويهلك مَن هلك على بيّنة ، ومن الله تعالى نستمدّ العون ، وعليه التكلان .
السلف
قبل الخوض في الموضوع
، علينا أن نعرف مَن هم السلف الصالح ؟ فكثير من المسلمين يردّدون كلمة ( السلف )
، ويباهون بالإنتماء إليهم ، وهم لا يعرفون مَن هم السلف !
بل ربّما يحاربونهم – بعض المرات – وباسمهم
! من باب ( ملكيّون أكثر من الملك ) !
تعريف السلف والسلفية
:
[ السلف
والسلفية : معناها زماناً القرون الثلاثة الأولى تنتهي عند
المأمون تقريباً
(( خَيْرُ
النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم . .
. )) () .
والسلفية ليس المقصود بها الزمان فقد
انتهى زمانها .
وليست المقصود بها مكاناً معيّناً ولا علماء
معيّنين
فبعض الناس يقصرون السلفية على فقه الإمام أحمد بن
حنبل ، فماذا عن غيره من الأئمة ؟ وفقهاء السلف الذين خالفوا الإمام أحمد
في أصوله ؟
والذين يظنون أنّ السلفية هي مدرسة النص
فماذا عن مدرسة الرأي وهي كمدرسة الأثر سواء بسواء ؟
أم نعتبر الإمام
أبا حنيفة ( ) ليس
سلفياً لا هو ولا تلاميذه ولا مدرسته ! . . .
ونحن نرى أنّ السلفية هي :
1 - نزعة
عقلية
2 - وعاطفية
3 - ومنهجية
أ - ترتبط بخير القرون
ب - وتعمق ولاءها لكتاب الله وسنة
رسوله r ،
ج - وتبذل الجهد لإعلاء كلمة الله على الأرض
ولذلك فهي لها
1 - منهج للعقيدة يفسر الكون ( ) والحياة ( ) والإنسان ( ) بعيداً عـن
علم الكلام ومستمداً من منهج القرآن ،
2 - ومنهج للعبادة يقوم على الشمول ( ) والعموم ( ) والكمال ( ) والسمو ( ) ينبع من
صحة الإعتقاد وصدق الإتباع
3 - ومنهج للحركة ( ) تعريفاً
( ) وتكويناً ( ) وتنفيذاً ( ) .
فإذا جاء عالم من العلماء بهذا التصور في أي زمان وفي أي
مكان وبأي لغة يعبر بها عن هذا المنهج وبلغة عصره كان سلفياً عقيدة وعبادة
وحركة طالما أنه يقدم مفاهيم السلف الصالح ويتمسك بسنة الخلفاء الراشدين .
عَنْ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ
الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا
القُلُوبُ،
فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ
فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى
اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا
ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ
الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ »
]
.
فأئمتنا العظام المشهورين ، جميعهم كانوا في خير القرون
، فكانوا من خير الناس ، بشهادة رسول الله r لهم .
وعلى رأسهم – على سبيل المثال – علي بن الحسين ، وأبـي
حنيفة ، ومالـك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، والبخاري ، ومسلم ، والحسن البصري ،
وطاووس ، وسفيان الثوري ، وسفيان بـن عيينة ، والترمذي ، ويحيى بـن معين ، وأبـي
داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والفضيل بن عياض ، و إبراهيم بن أدهم ، وعبد الله
بن المبارك ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، و . . و . . و . . إلخ
وليس معنى ذلك أنهم كانوا معصومين لا يخطأون ، ولكنهم كانوا
على الصراط المستقيم ، والنهج القويم ، وعلى قدم رسول الله r .
ومع هذا فكانوا – في الأمور الجزئية ، وفي الفروع –
يختلفون فيما بينهم في الإجتهاد ، ووجهات النظر ، ولا يخرجهم ذلك عن دائرة السلف
الصالح .
فلقد كان الشافعي ، شيخاً وأستاذاً لأحمد بن حنبل ، وكان
مالك شيخاً وأستاذاً للشافعي ، وكان محمد بن الحسن تلميذاً لأبي حنيفة ، وهو شيخ
للشافعي وأحمد بن حنبل ، . . . وهكذا .
وكانوا يأخذون من بعض ، ويردّون على بعض ، من غير أن
يجرّ ذلك ، إلى المراء والأحقاد والضغائن ، إيماناً منهم بأن كلّ أحد يؤخذ من قوله
ويُردّ إلّا النبيّ r ، فلا يُردّ قوله r .
والذي يعتبرهم معصومين لا يخطأون أبداً ، وأنّ لهم رأي
واجتهاد واحد في جميع الأمور ، فهو واهمٌ ، وعلى خطأ عظيم وخطير !
وبعض الناس يعتبر ( فقه واجتهاد ) أحمد بن حنبل ، هو فقه
واجتهاد السلف الصالح !
أما فقه أبي حنيفة – على سبيل المثال – فليس بفقه السلف
الصالح !
وهذا الظن الخاطيء ، جاء نتيجة :
1 - للتعصب الذميم .
2 - ولتبنّي دولة غنية لهذا الظن وتغذيته ، لحيازته على
مكاسب دنيوية زائلة !
لم يكن أحدهم يتّبع النبيّ r ، والآخر يردّ أحاديث النبيّ r ، كما يتوهمون ، ويوهمون !
وسنذكر مثالاً على ذلك : [ إجتمع أبو حنيفة بالأوزاعي في
دار الخياطين وتباحثا في العلم ، فقال الأوزاعي : لماذا لا ترفعون
أيديكم عند الركوع وعند الرفع منه ؟
فقال أبو حنيفة : لأنه ( ) لم يصح
فيه شيء عن النبيّ r ،
قال الأوزاعي : كيف وقد حدثني الزهري عن سالم عن
أبيه أنّ رسول الله r كان يرفع يديه إذا افتتح
الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه ؟
فقال أبو حنيفة
: حدثني حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد الله بن مسعود (( أنّ رسول
الله r كان لا يرفع يديه إلّا عند افتتاح الصلاة )) ، ولا يعود إلى شيء من ذلك ،
فقال الأوزاعي : أحدثك عن الزهري عن سالم ، عن ابن عمر ،
وتقول : حدثنا حماد عن إبراهيم ؟
فقال أبو حنيفة : كان حماد أفقه من الزهري
، وكان إبراهيم أفقه من سالم ، وعلقمة ليس بدون ابن عمر
، وإن كان لابن عمر صحبة ، فالأسود له فضل كبير ، وفي رواية أخرى ، إبراهيم
أفقه من سالم ، ولـولا فضـل الصحبة لقلت : إنّ علقمـة أفقـه مـن عبـد
الله بن عمر ، وعبد الله هو عبد الله ( ) ، فسكت
الأوزاعي ] ( ) .
ومثال آخر ، لإختلاف الأئمة حسب الأدلة ، وليس قصد
مخالفة النبيّ r وهو :
جلسة الإستراحة :
[ وَاخْتَلَفَتْ
الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ : هَلْ يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ
؟ فَرُوِيَ عَنْهُ: لَا يَجْلِسُ .
وَهُوَ
اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ
، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ ، وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ
، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ
أَحْمَدُ : أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى هَذَا . وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ ،
وَعَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ .
وَقَالَ
النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ : أَدْرَكْتُ غَيْرَ
وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَفْعَلُ ذَلِكَ. أَيْ لَا يَجْلِسُ.
قَالَ
التِّرْمِذِيُّ : وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ
الْعِلْمِ .
وَقَالَ
أَبُو الزِّنَادِ : تِلْكَ السُّنَّةُ .
وَالرِّوَايَةُ
الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ يَجْلِسُ .
اخْتَارَهَا
الْخَلَّالُ.
وَهُوَ
أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ
الْخَلَّالُ: رَجَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى هَذَا.
يَعْنِي
تَرَكَ قَوْلَهُ بِتَرْكِ الْجُلُوسِ؛ لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ
الْحُوَيْرِثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كَانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ» .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ
صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهِ، وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ.
وَقِيلَ:
إنْ كَانَ الْمُصَلِّي ضَعِيفًا جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ؛ لِحَاجَتِهِ إلَى
الْجُلُوسِ ،
وَإِنْ
كَانَ قَوِيًّا لَمْ يَجْلِسْ؛ لِغِنَاهُ عَنْهُ ،
وَحُمِلَ
جُلُوسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُ كَانَ
فِي آخِرِ عُمْرِهِ، عِنْدَ كِبَرِهِ وَضَعْفِهِ ،
وَهَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ
، وَتَوَسُّطٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْن ] ( ) .
)) هـذا لفظ البخـاري فـــي صحيحه . ولفـظ مسـلم فـــي صحيحه : (( خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ يَلُونِي، ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ))
[
وكان
إبراهيم النخعي شديد الاتباع لأستاذه علقمة، يتبنى الكثير من آرائه، حتى أن الذي يتبع
آراء إبراهيم ويقارنها بآراء أستاذه علقمة يجد أن إبراهيم النخعي لا يخالف علقمة إلا
في مواقع يسيرة ، ومن المعروف أن علقمة هو التلميذ الملازم لعبد الله بن مسعود-رضي
الله عنه- وقد كان شديد التأثر به، فظهر أثر ذلك في فقهه، ففقه إبراهيم النخعي كان
وثيق الصلة بفقه عبد ابن مسعود –رضي الله عنه- وهو الصاحب البار برسول الله (صلى الله
عليه وسلم) المقتفي أثره، الناهل من معين النبوة العذب الفياض، وكان النخعي لا يعدل
بقول عمر وعبد الله بن مسعود إذا اجتمعا، فإذا اختلفا كان قول عبد الله أعجب إليه؛
لأنه كان ألطف ] أنظر : أعلام الموقعين عن رب العالمين – إبن
القيّم ( 3 / 14 ) . عن ( لمحة
من حياة التابعي الكبير - إبـراهيـم النخعـي رحمـه الله : أبو رفيدة عارف محمود )
.