الجمعة، 25 مايو 2018

حكم القراءة في المصحف في الصلاة

حكم القراءة في المصحف في الصلاة 

السؤال: شيخنا مسجدنا ليس فيه امام راتب، وفي الصلوات يؤمنا رجل متقن لكنه يقرأ في المصحف، فحدث بسببه خلاف بين المصَّلين ، فما حكم القراءة في المصحف في الصلاة ؟ افتونا ماجورين.
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد اختلف الفقهاء في حكم القراءة في المصحف في الصلاة على أربعة اقوال :
القول الاول: لا يكره أن يقرأ من المصحف في صلاة النافلة وكذا المكتوبة، ولا فرق في ذلك بين حافظ وغيره، وامام ومنفرد، وهذا هو مذهب الشافعية والقول المعتمد في مذهب الحنابلة، وهو مذهب الزيدية والامامية.
واحتجوا: بما روى البخاري تعليقا وابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في السنن الكبرى عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها كان يؤمها عبدها ذكوان ويقرأ من المصحف.
وكما أن قراءة القرآن عبادة فإن النظر في المصحف عبادة أيضًا، وانضمام العبادة إلى العبادة لا يوجب المنع، بل يوجب زيادة الأجر؛ إذ فيه زيادة في العمل من النظر في المصحف. والقاعدة الشرعية، أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، والمقصود هو حصول القراءة، فإذا حصل هذا المقصود عن طريق النظر في مكتوب كالمصحف كان جائزًا.
قال الإمام النووي في المجموع: (لو قرأ القرآن من المصحف لم تبطل صلاته، سواء كان يحفظه أم لا، بل يجب عليه ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة، ولو قلب أوراقه أحيانًا في صلاته لم تبطل).
وقال العلامة منصور البهوتي الحنبلي في كشاف القناع: (وله -أي المصلي- القراءةُ في المصحف ولو حافظًا... والفرض والنفل سواء، قاله ابن حامد).
ونقل الامام ابن قدامة المقدسي في المغني عن الإمام الزهريُّ أنه سُئل عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف فقال: (كان خيارنا يقرؤون في المصاحف، وروي ذلك عن عطاء ويحيى الأنصاري وعن الحسن ومحمد في التطوع).
وقد سُئل الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- في مجموع فتاويه : هل يجوز للإمام في أثناء الصلوات الخمس أن يقرأ من المصحف، وخاصة صلاة الفجر لأن تطويل القراءة فيها مطلوب وذلك مخافة الغلط أو النسيان ؟
فأجاب : (يجوز ذلك إذا دعت إليه الحاجة، كما تجوز القراءة من المصحف في التراويح لمن لا يحفظ القرآن، ..... وتطويل القراءة في صلاة الفجر سّنة، فإذا كان الإمام لا يحفظ المفصل ولا غيره من بقية القرآن الكريم جاز له أن يقرأ من المصحف ، ويشرع له أن يشتغل بحفظ القرآن، وأن يجتهد في ذلك، أو يحفظ المفصل على الأقل حتى لا يحتاج إلى القراءة من المصحف ، وأول المفصل سورة ق إلى آخر القرآن ، ومن اجتهد في الحفظ يسر الله أمره ، لقوله سبحانه : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } وقوله عز وجل : {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . والله ولي التوفيق).
القول الثاني: كراهة القراءة في المصحف في صلاة الفرض مطلقا، ولا يكره ذلك في النافلة لأنه يغتفر فيها ما لا يغتفر في الفرض، وهو مذهب المالكية وقول للإمام أحمد بن حنبل واختاره بعض الحنابلة، لأنه في العادة لا يحتاج إلى ذلك في الفرض، ولأنه يشتغل بذلك عن الخشوع في الصلاة، والنظر إلى موضع السجود لغير حاجة.
جاء في المدونة : (قال ابن القاسم : قلت لمالك في الرجل يصلي النافلة يشك في الحرف وهو يقرأ وبين يديه مصحف منشور أينظر في المصحف ليعرف ذلك الحرف ؟ فقال : لا ينظر في ذلك الحرف ولكن يتم صلاته ثم ينظر في ذلك الحرف، وقال بجواز قيام الإمام بالناس في رمضان وفى النافلة في المصحف ، وكره ذلك في الفريضة... وكذلك قال الليث) .
قال الامام ابن قدامة المقدسي في المغني: (قال أحمد: لا بأس أن يصلي بالناس القيام وهو ينظر في المصحف قيل له: في الفريضة؟ قال: لا، لم أسمع فيه شيئا، وقال القاضي: يكره في الفرض، ولا بأس به في التطوع إذا لم يحفظ، فإن كان حافظا كره أيضا، قال وقد سئل أحمد عن الإمامة في المصحف في رمضان؟ فقال: إذا اضطر إلى ذلك. نقله علي بن سعيد، وصالح، وابن منصور. وحكي عن ابن حامد أن النفل والفرض في الجواز سواء). 
القول الثالث: أن القراءة من المصحف في الصلاة مكروهة مطلقًا سواء في ذلك الفرض والنفل، ولكنها لا تُفْسِد الصلاة؛ لأنها عبادة انضافت إلى عبادة، ووجه الكراهة أنها تَشَبُّهٌ بصنيع أهل الكتاب، وكذلك النظر في المصحف يعد تعليما وعملا كثيرا، وهو قول الصاحبين من الحنفية أبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني، وبعض المالكية، وممن كرّه ذلك ايضا ابن المسيب والحسن البصري، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وسفيان، والشعبي ، وسليمان بن حنظلة البكري، والربيع بن سليمان. 
القول الرابع: لا يجوز ذلك مطلقا وانها تفسد الصلاة إذا لم يكن حافظا، ولا فرق بين الإمام والمنفرد ، وهو مذهب الحنفية وابن حزم الظاهري.
وذلك لسببين :إحداهما : أن حمل المصحف وتقليب الأوراق والنظر فيه أعمال كثيرة ليست من أعمال الصلاة ولا حاجة إلى تحملها في الصلاة ، فتفسد الصلاة - وعليه فلو كان المصحف موضوعا بين يديه ويقرأ منه من غير حمل وتقليب الأوراق لا تفسد - .
والثاني : أن هذا يلقن من المصحف فيكون تعلماً منه ألا ترى أن من يأخذ من المصحف يسمى متعلما فصار كما لو تعلم من معلم وذا يفسد الصلاة، وهنا تفسد الصلاة حتى لو كان لا يحمل المصحف ، أو إذا كان موضوعا بين يديه ولا يقلب الأوراق. فالحاصل أن تجنب ذلك في الصلاة مطلوب طلباً مؤكداً، وهو في صلاة الفرض أشد تأكيداً، إذ لا يطلب فيها تطويل أصلاً، فتكفي فيها أم الكتاب، وما تيسر معها.
جاء في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح: ( "وقراءة ما لا يحفظه من مصحف" وإن لم يحمله للتلقي من غيره، وأما إذا كان حافظا له ولم يحمله فلا تفسد لانتفاء العمل والتلقي).
قال الامام ابن قدامة في المغني: (وقال أبو حنيفة تبطل الصلاة به إذا لم يكن حافظا؛ لأنه عمل طويل، وقد روى أبو بكر بن أبي داود، في كتاب المصاحف بإسناده عن ابن عباس قال: "نهانا أمير المؤمنين أن نؤم الناس في المصاحف"، وأن يؤمنا إلا محتلم. وروي عن ابن المسيب والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، وسليمان بن حنظلة، والربيع، كراهة ذلك وعن سعيد، والحسن قالا: تردد ما معك من القرآن ولا تقرأ في المصحف).
المفتى به:
هو ما ذهب اليه أصحاب القول الثاني من كراهة القراءة في المصحف في صلاة الفرض مطلقا دون النافلة، وذلك لعدم الحاجة إليه غالبا، لان القراءة تتحصل بالفاتحة وما تيسر من الحفظ ولو من قصار السّور، ويكرر تلك السّور ولا حرج عليه في ذلك، وينبغي عليه أن يجتهد في حفظ قدر أكبر من السّور خاصة المفصل ليتمكن من أداء الفريضة من غير نظر إلى المصحف، ولأن السّنة المحفوظة عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه القراءة عن ظهر قلب ولم ينقل عن أحد منهم القراءة من المصحف، ولأن معيار التفضيل في الإمامة الحفظ والاتقان للقرآن لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ((وليؤمكم أكثركم قرآنا)) رواه البخاري. وعليه يجب أن لا يُسّهل ويرّخص في الفريضة؛ لأن ذلك يفضي إلى تفريط الناس بالحفظ وعدم الاهتمام بشروط الإمامة المعتبرة. 
وعدم كراهة ذلك في النافلة لأنه يغتفر فيها ما لا يغتفر في الفرض ، ولأن المقصود في النفل الإطالة وكثرة القيام ، والقراءة من المصحف يحقق ذلك لمن لم يكن حافظا ، ولما في ذلك من التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم لأنه قد يصعب وجود حفاظ للمصحف في بعض الاماكن والمصلون يتشوقون لسماع القرآن وختمه في مواسم الخير .
والتفريق بين الفريضة والنافلة في الجواز هو القول الموافق للأدلة والمقاصد الشرعية ، ولكن ينبغي للحافظ ان يقرأ من حفظه لتحصيل السّنة والفضيلة، ولا يعتمد على القراءة من المصحف، لأنه مع الأسف هناك من الحفاظ مَن نسي حفظه لاعتماده الكلي على المصحف في النافلة. 
وعلى العموم فالمسألة خلافية والأمر فيها واسع؛ وقد تقرر في القواعد الفقهية انه لا إنكار في مسائل الخلاف السائغ، ولا يجوز أن تكون هذه سبب للفتنة ونزاع بين المسلمين. والله تعالى أعلم.
د. ضياء الدين الصالح